فالناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل
مهما يكن من شيء فقد كره عبد الله بن محمد ما رأى في بغداد، وكره ما كان يحمل إلى بغداد من أخبار الأقطار الإسلامية، فقد كان عرش الخلافة يضطرب أشد الاضطراب، يعبث الأتراك به في الحضرة ويستبدون من دون الخلافة بالأمر ويسومون الخلفاء من الذل والهون ما يريدون، وكان الأمراء والعمال والناجمون في الأطراف يستبدون بما في أيديهم وينشئون الدول المستقلة في الشرق والغرب، يصانعون السلطة المركزية حينا ويبادونها بالعدوان والحرب في أكثر الأحيان، وكان لكل قوي ضعفاء يستذلهم، ولكل غني فقراء يستغلهم، فأي غرابة في أن ينكر عبد الله بن محمد هذا كله، وفي أن يتحدث بهذا كله أو ببعضه إلى نفر من أصحابه، وفي أن يؤامرهم على أن يغامروا كما غامر الناس ويحاولوا تغيير هذا الشر كما حاول الناس من قبل، وكما كانوا يحاولون في أيامه تغيير هذا كله ؛ وقد ارتحل بنيته هذه من بغداد إلى هجر فحاول أن يحدث فيها حدثا، وكاد ينجح لولا أن أثيرت حوله العصبية وكثر القتل بين أصحابه وخصومه، فكرهه الناس وضاقت به هجر، فانتقل منها إلى الأحساء، ثم ضاقت به الأحساء، فانتقل منها إلى البادية، وجعل يطوف بأحياء العرب يدعوهم إلى مذهبه، والعرب يستجيبون له حينا، ويمتنعون عليه حينا آخر حتى ضاقت به البادية أيضا، وجعل يفكر في وجه يقصد إليه ليبدأ مغامرته ولينتهي بها إلى غايتها.
وهنا يتحدث المؤرخون عنه بالأعاجيب فيزعمون أنه أطال التفكير ذات يوم فإذا سحاب يظهر في السماء ثم يبرق ويرعد، وإذا هو يسمع في صوت الرعد، أو ينبئ أصحابه أنه سمع في صوت الرعد أن وجهته يجب أن تكون البصرة، وقد زعم المؤرخون أنه كان يتحدث إلى أصحابه ألوانا من الحديث يزعم أنها من ألوان الغيب، فقد ظهرت له آيات فيما يقول على إمامته، فحفظ سورا من القرآن ألقيت في روعه فجاءة ولم يكن يحفظها من قبل، وكتب له على الحائط كتاب كان يقرأ فيه، يراه هو ولا يراه أحد من أصحابه، وعرضت عليه النبوة فيما قال - أو فيما زعم المؤرخون أنه قال - فأباها، واكتفى بالإمامة؛ لأن أعباء النبوة أثقل من أن يستطيع النهوض بها.
ومن الجائز أن يكون عبد الله بن محمد قد زعم هذا كله أو بعضه لأصحابه؛ فقد كان هذا النحو مذهبا من مذاهب نشر الدعوة ووسيلة إلى إثارة الجماهير، ومن الجائز كذلك أنه لم يقل من ذلك شيئا، وإنما تكلف المؤرخون ذلك غضا منه وتشهيرا به وزراية عليه؛ لأن النجاح لم يكتب له، والشيء الذي ليس فيه شك هو أنه قصد إلى البصرة، وهم أن يثير فيها الفتنة، فنذر به السلطان، وأخذ بعض أصحابه وهرب هو، فعاد إلى بغداد وأقام فيها مع جماعة من رفاقه يحكمون أمرهم، حتى إذا عزل عامل البصرة قصد قصدها، وهناك بدأ مغامرته الخطيرة سنة خمس وخمسين ومائتين بعد أن أنفق في التدبير والتمهيد والتجربة ست سنين.
بدأ مغامرته الخطيرة في رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين؛ اتصل بالرقيق الذين كانوا يعملون حول البصرة في كسح السباخ وفي إصلاح الأرض، وفي استخراج الملح وفي غير ذلك من هذه الأعمال التي سخر أهل البصرة لها عشرات الألوف من الرقيق السود، والظاهر أن أصحاب رءوس الأموال كانوا قساة على هؤلاء العبيد، يسومونهم الخسف ويعنفون عليهم في السيرة ويقترون عليهم في الرزق ويكلفونهم من العمل أكثر مما يطيقون، وآية ذلك أن عبد الله بن محمد لم يكد يتصل بهم حتى استجابوا له مسرعين وحتى تكاثروا حوله، وإذا هو يعدهم ويمنيهم، ويمنحهم الحرية، ويحلف لهم جهد أيمانه أنه سيملكهم الأرض وسيجعلهم سادة يملكون الرقيق، بعد أن كانوا رقيقا يملكهم السادة، وسيملكهم سادتهم، والرقيق يسمعون له ويحفون به، ويفنون في طاعته، وهو يبر لهم بما وعد، ويعطيهم ما مناهم، أليس قد حكمهم ذات يوم في بعض وكلائهم ومواليهم، فأباح لهم أن يطرحوا هؤلاء الوكلاء والموالي وأن يضربوهم بالسياط؟ ثم هو يتخذ من هؤلاء السود قادة ويؤمرهم على الجند ويسوي بينهم وبين البيض الأحرار، يغير بهم على القرى ويغير بهم على السفن، فإذا أحرزوا ما في القرى والسفن، قسمه بينهم لم يفرق بين عبد وحر، فقد أصبحوا جميعا أحرارا، ولم يفرق بين أسود وأبيض، فليس لإنسان على إنسان فضل إلا بالطاعة وحسن البلاء.
وكذلك انتشرت الدعوة بين الرقيق، فتكاثفوا وضخم عددهم، وقلق السادة فأرسلوا إليه يفاوضونه ويخوفونه غدر هؤلاء السود وفرارهم، ويعرضون عليه خمسة دنانير عن كل واحد منهم، فلا يحفل بشيء من ذلك ولا يلتفت إليه، وإنما يمضي في نشر دعوته وتحرير الرقيق من السود، وتأليب الأحرار من الفقراء والبائسين، وإذا هو صاحب جيش ضخم يهتم له السلطان فيرسل إليه الحملة إثر الحملة، وهو ينتصر على ما يرسل إليه من الجيوش، وهو يقهر القائد إثر القائد ويهزم الوالي إثر الوالي، ويزعج أهل البصرة إزعاجا شديدا بعد أن ألقى في روعهم أنهم أصبحوا في متناول يده، ليس عليه إلا أن يبسطها ليأخذهم متى شاء وكيف شاء ، والسلطان المركزي في بغداد يرسل الوالي إثر الوالي والجيش بعد الجيش فلا يظفر بشيء أو لا يكاد يظفر بشيء، حتى أخاف صاحب الزنج هذا القسم من العراق، فأفزع البصرة والأبلة والأهواز، ونشر الرعب حتى اضطر الناس إلى الهجرة والهرب، وهو متنقل بجيشه من مكان إلى مكان، مغير بهذا الجيش على مدينة بعد مدينة، يغير بنفسه حينا، ويرسل أصحابه إلى الغارة حينا آخر، حتى إذا استيقن القدرة على اقتحام البصرة دفع إليها أصحابه دفعا فخربها تخريبا وقتل أهلها تقتيلا منكرا، واستصفى ما كان عندهم من المال، واضطر من بقي منهم إلى الفرار، وأخذ الأسرى من أحرار العرب والعجم من خيار الرجال وكرائم النساء، فوزعهم على أصحابه رقيقا بعد أن كانوا سادة، وعرضهم في الأسواق للبيع والشراء كما كانوا يعرضون الزنج في الأسواق للبيع والشراء، وقد جزع الخليفة المعتمد لهذا الأمر جزعا شديدا، فكلف أخاه الموفق إدارة هذه الحرب، وأعد له جيشا لم تر بغداد مثله منذ عهد بعيد، وذهب الموفق فلقيت جيوشه صاحب الزنج مرة ومرة ومرة دون أن تبلغ منها شيئا، وإنما كانت الهزيمة تدركها في أكثر الأحيان، واضطر الموفق إلى اعتزال هذه الحرب إما يأسا من الفوز وإما لأن الخلافة كانت في حاجة إليه لحرب أخرى في الشرق لم تكن أهون من حرب الزنج شأنا ولا أقل منها خطرا، والمهم أن صاحب الزنج استأثر بالأمر كله في هذا القطر من أقطار الدولة الإسلامية، وملأ العراق رعبا وفرقا ونغص الحياة على أهل بغداد، وسلمت له كور وأقاليم جعل يجبي خراجها وينفق منه على تدبير أمره وتقوية جيشه، وكان هذا القطر من أقطار العراق قد نظم الري فيه أحسن تنظيم وأكمله، فجرت فيه الأقنية والأنهار من كل وجه واتخذت فيه هذه الأقنية والأنهار وسائل للري ووسائل للمواصلات، ثم اتخذت وسائل للحرب أيضا فكانت هذه الأقنية والأنهار دروعا يتقى بها العدو حين تتحارب الجيوش على الأرض، كما كانت هذه الأنهار والأقنية ميادين للقتال حين تتحارب الجيوش على ظهر الماء، وقد اتخذت الأساطيل النهرية من صغار السفن وكبارها، وكانت جيوش السلطان وجيوش صاحب الزنج تلتقي وتقتتل، على ظهر الأرض وعلى وجه الماء.
ولما عظم أمر صاحب الزنج وأصبح خطرا لا على ما يليه من الكور والأقاليم فحسب، بل على عاصمة الخلافة وسلطان الدولة كله، أعاد المعتمد إلى أخيه تدبير أمر الحرب وأطلق يده في أموال الدولة يدبرها كما يشاء وينفق منها كما يشاء، وأطلق يده في جيوش الدولة أيضا يوجهها حيث يشاء ويكلفها من الأمر ما يشاء، ونهض الموفق لهذه الحرب مصمما هذه المرة على ألا يعود حتى يمحق الفتنة محقا، وقد أتيح له ما أراد، ولكن بعد أن بذل أي جهد، وبعد أن احتمل أي عناء، وبعد أن أنفق أي مال، وبعد أن ضحى بعشرات الألوف من الجند وبعد أن عرض نفسه وابنه وقواده لأي مخاطرة، يكفي أن تعلم أنه أنفق في هذه الحملة الأخيرة أعواما متصلة غير قليلة لم يرح فيها ولم يسترح، ولم ينفذ فيها أحكامه وأوامره حسب العرف المألوف، وإنما فرضها دكتاتورية عنيفة شملت أكثر أقطار الخلافة واستغرقت أكثر مرافقها، وينظر الموفق ذات يوم وإذا أخوه أمير المؤمنين قد ضاق بهذه الدكتاتورية ولم يطق صبرا على ما تفرض عليه وعلى جنده من الضيق، وإذا هو يخرج ذات يوم من بغداد قاصدا إلى الغرب، يريد أن يأوي إلى مصر ليعيش في ظل ابن طولون مغاضبا لأخيه، ولكن الموفق كان أحزم من ذلك وأمضى رأيا وأوسع حيلة، فيأمر بعض قواده في الأقاليم أن يتلقى الخليفة ووزراءه وقادته، وأن يقبض عليهم ويردهم إلى بغداد كارهين إن لم يعودوا إليها راضين، والقائد يطيع أمر مولاه، ويرد أمير المؤمنين وأصحابه إلى العاصمة، وقد ضبط الموفق الأمر وأحكمه في الأقاليم التي كانت خاضعة لسلطان الخلافة، ومضى في الحرب لا يعرف هوادة ولا رفقا ولا لينا، يقدم ابنه أبا العباس بين يديه وينتظر منه أن يخاطر بنفسه ليخاطر القواد بأنفسهم وليخاطر الجنود بأنفسهم أيضا، أليس هو يخاطر بنفسه كلما سنحت الفرصة؟!
وكان أمر صاحب الزنج قد بلغ من العلو والارتفاع أن اتخذ لنفسه ولقواده المدن الجديدة، ينشئها إنشاء، ويحصنها تحصينا هائلا؛ فهو يقيم في المدينة المختارة، وقائد آخر يقيم في المدينة المنيعة، وقائد ثالث يقيم في المدينة المنصورة، وقد ملئت الأرض من حول هذه المدن بالجند وأداة الحرب، وملئت الأنهار والأقنية بالسفن، فينشئ الموفق لنفسه مدينة يتخذها قاعدة للحرب يسميها الموفقية، ويجمع فيها كل ما يجتمع في العواصم الكبيرة من المرافق والصناعات التي يحتاج الناس إليها في السلم والحرب، ولا يزال بجيوش صاحب الزنج الأشهر والأشهر، ثم العام بعد العام، حتى يضطرها إلى أن تترك خطة الهجوم وتلتزم خطة الدفاع في مدنها وحصونها، ثم لا يزال بهذه المدن والحصون حتى يستخلصها مدينة مدينة وحصنا حصنا، وحتى يضطر الفلول المنهزمة إلى المدينة المختارة حيث يقيم صاحب الزنج، وإذا الناس يكثرون في هذه المدينة حتى تضيق بهم، وحتى تقصر مرافقها عن إرضاء حاجاتهم، ولكن الموفق يتقدم حتى يضرب حولها الحصار، ويقطع عنها الميرة، وهنا يظهر الموفق من النبوغ والامتياز ما لم يمكن أن يظهره كراسوس في حرب سبارتاكوس، فقوة الموفق هائلة لا تقهر، وهو قادر على أن يأخذ المدينة بالحصار، يضيق عليها حتى يلقي أهلها بأيديهم، وهو قادر على أن يقتحم المدينة وإن كلفه ذلك خسائر هائلة، ولكنه يبدأ فيعرض الأمان على صاحب الزنج، فإذا رفض التسليم مضى في حرب غريبة حقا، فحارب بالرهبة التي لا تعدلها رهبة، وبالرغبة التي لا تشبهها رغبة؛ فهو يبذل الأمان والعفو والخلع السنية لمن شاء من قواد صاحب الزنج وجنوده لا يبخل من ذلك بشيء، فإذا استأمن إليه بعض الناس تلقاه فعفا عنه وأحسن إليه وخلع عليه وكرمه أجمل تكريم، ثم عرضه في سفينة من السفن في هيئته الجديدة ليراه المشرفون من السور فيطمعوا في مثل ما أتيح له من النعيم، وما أكثر ما كان هذا المنظر يطمع ويغري! وما أكثر ما كان قواد صاحب الزنج يتأثرون بهذا الإطماع والإغراء، ويستأمنون للموفق ويصبحون له على قائدهم ورئيسهم ظهيرا!
وإذا أخذ أصحاب الموفق بعض الأسرى وأبوا أن يستأمنوا ضرب أعناقهم، ثم يجمع رءوسهم إلى رءوس الذين يقتلون في الموقعة، ثم ينصب هذه الرءوس على السفن ليراها المشرفون من السور فتمتلئ قلوبهم فزعا وروعا، وقد يقتل القائد الوجيه فيحتز رأسه ثم يرمى به من وراء السور، ومع المنشور من منشورات الموفق قد ملأه الترغيب والترهيب، وكذلك أخاف الموفق كثيرا من الناس، وأطمع كثيرا من الناس، واجتذب إلى نفسه كثيرا من الناس، حتى إذا آن له وقت الهجوم أمر بهدم الأسوار واقتحام المدينة وتهديم الحصون حصنا حصنا، والدور دارا دارا، وجد في ذلك حتى بلغ منه ما أراد بعد مشقة شاقة وجهد عنيف.
Unknown page