وكذلك أصبح بول ڤاليري حامل لواء الأدب والشعر في فرنسا وعلما من أعلام الثقافة العليا في أقطار الأرض كلها، واتصل بكل شيء وشارك في كل شيء، حتى كان يقول إنه أصبح رئيسا لهيئات ومؤسسات لا يكاد يحصيها، وإنه كثيرا ما يدعو نفسه بكتاب منه إليه ليشهد هذا الاجتماع أو ذاك لهذه الهيئة أو تلك.
فإذا امتازت الحياة الأدبية لبول ڤاليري بشيء من ظاهر الأمر فإنما تمتاز بامتناع صاحبها على الأدب أشد الامتناع وإيثاره للعزلة حتى جاوز الأربعين، ثم استجابته بعد ذلك للأدب كارها، واندفاعه في هذه الاستجابة حتى عوض ما فات واسترد ما كان خليقا أن يكسبه من المجد والشهرة في عزلته الطويلة، وكسب في وقت قليل ما ينفق فيه غيره الأعوام الطوال، والأعوام الطوال ليكسب بعضه، فقد ظهر بول ڤاليري فجاءة في السابعة أو الثامنة والأربعين من عمره، ولم يبلغ الستين حتى كان قد ملأ الدنيا وشغل الناس - كما كان يقال في المتنبي منذ ألف عام، فلما توفي وقد نيف على السبعين كانت الفاجعة بموته خطبا شاملا للعالم المثقف كله لا محنة مقصورة على فرنسا وطنه.
وما زالت هناك مسألة غامضة سيكشفها التاريخ الأدبي في وقت قريب أو بعيد، وهي مسألة عظيمة الخطر ، فهل كان بول ڤاليري أثناء عزلته الطويلة يتهيأ عن عمد لهذا المجد الأدبي الذي فاجأ به الناس، أم هل كان صادقا كل الصدق مخلصا كل الإخلاص في إعراضه عن الأدب وامتناعه عليه حتى فاجأه المجد كما فاجأ الناس؟ ومهما يكن من شيء فإن الحقيقة الواقعة التي نستطيع أن نسجلها مطمئنين هي أن بول ڤاليري قد آثر الأناة والاحتياط والحذر، وأبغض الشهرة والمجد والمتهالكين عليها، وقدر الفن على أنه غاية لا وسيلة، بل على أنه الغاية العليا التي يطمح إليها الإنسان حين يبلغ أقصى ما يستطيع أن يبلغ من الامتياز من الثقافة والمعرفة، فهو لم يبغض شيئا كما أبغض السهولة، ولم يزدر شيئا كما ازدرى الإسراع إلى الإنتاج، والإسراع في الإنتاج والاستجابة لهذه الدواعي الكثيرة التي تدعو إلى الإنتاج وتدفع إليه دفعا في كثير من الأحيان، وليس بالشيء القليل أن يمتنع الفرد على عصره، ويلتزم عزلته، ويزدري هذه المغريات الهائلة التي كان الناس يستجيبون لها من حوله، بل يسعون إليها سعيا ويلحون في التماسها إلحاحا، ويبتغون إليها من الوسائل ما يعقل وما لا يعقل، وهنا تظهر الخصلة التي يمتاز بها بول ڤاليري في حياته الخلقية، وهي خصلة الكرامة التي تمنح صاحبها مزاجا من التواضع والكبرياء، وتمنحه التواضع بالقياس إلى المثل العليا وما يحتاج إليه من تكلف الجهد العنيف واحتمال العناء الشاق والإلحاح في السعي المتصل وتمنحه الكبرياء التي ترفعه عن الصغائر وتنزهه عن الدنيات وترغبه عن الأشياء التي يقرب تناولها، وتنحرف به عن الغايات التي يسهل الوصول إليها، ثم تؤلف له في هاتين الخصلتين هذا المزاج المعتدل الرفيع الذي يجعله من هذه الأرستقراطية العقلية، وإذا هو يسعى إلى مثله العليا - على بعدها - ملحا في السعي، غير راض بما يبلغ منها مهما يكن ما يبلغه، متخذا في سعيه إليها أبعد الطرق وأشدها عسرا وأكثرها عقابا، واجدا لذته في إساغة هذا العسر وقهر هذه العقاب والتغلب على هذه المصاعب، مبتكرا هذه العقاب والمصاعب إن أحس أن الطريق قد سهلت له واستقامت أمامه وأصبحت خليقة أن تبلغ به غايته في جهد معتدل وسعي يسير.
وهذه الخصلة لم تؤثر في حياته الأدبية وحدها، وإنما أثرت في حياته المادية أيضا؛ فهو لم يلتمس قط ثروة ولم يسع قط ليبلغ هذا المأرب أو ذاك من مآرب الحياة، ولما أدركته الشهرة لم يستغلها ولم يستثمرها ولم يتخذ أدبه وسيلة إلى فتنة القراء ورضا الجمهور وتحقيق الثراء العريض، وإنما ظل مزدريا للشهرة معرضا عن المجد، يشتهر عن رغمه ويرقى على كره منه ولا يبلغ من ذلك ثراء ولا رخاء، وقد كان عضوا في المجمع اللغوي منذ عشر سنين حين أنشئ له كرسيه في الكوليج دي فرانس، فهو لم يسع إلى الكوليج دي فرانس وإنما هي التي سعت إليه، ولم يطلب المجمع اللغوي وإنما هو الذي طلبه، ولقد شهدته في بعض المجامع الأدبية وقد نهض بعض الحاضرين يذكر الأدباء الذين بلغوا من المجد ما بلغوا ويسرت لهم الحياة فاطمأنوا إلى شيء من الدعة، ولاءموا بين ذلك وبين حرصهم على إرضاء الفن والنهوض بحقه، وكأن بول ڤاليري أحس في حديث هذا المتحدث تلميحا إليه أو تعريضا به، فقال هذه الجملة التي لن أنساها، في ذلك الصوت الذي لن أنساه: «نعم؛ بعد أن كادوا يموتون جوعا.»
وقد عرفت بول ڤاليري من بعيد حين فجأ الناس بأدبه الرفيع في أعقاب الحرب الماضية، فأعجبت به كما كان يعجب به الناس إعجابا يقوم على التقليد أكثر مما يقوم على الدراية الصحيحة، ثم أقبلت على آثاره أقرؤها المرة والمرة والمرات وإذا أنا أحبه عن فهم له، ولكن أي فهم! فهم ليس بالقريب ولا بالمقارب ولا باليسير، وإنما هو نتيجة الجهد المكرر والقراءة المرددة والتفكير المتصل، ثم هو بعد ذلك ليس راضيا عن نفسه ولا مطمئنا إلى ما وصل إليه، والذين يقرءون آثار بول ڤاليري سواء أكانت شعرا أم نثرا يتفقون على أن اللذة التي يحصلونها من هذه القراءة لا تأتي من فهمه واستيعابه، وإنما تأتي من محاولة فهمه سواء أنجحت المحاولة أم أخفقت، ثم تأتي مع ذلك من هذه اللغة الصافية العذبة السائغة التي تجمع بين الرقة والرصانة وبين النعومة والجزالة، والتي تخيل إليك أنها واضحة كل الوضوح، وهي كذلك واضحة كل الوضوح ولكنها على ذلك مليئة بالأسرار. لا تقرؤها مرة إلا حصلت من قراءتها علما ولذة لعقلك وذوقك وشعورك جميعا، وقد أتيحت لبول ڤاليري أشياء لم تتح لكثير غيره من الكتاب والشعراء، فقد كان كشاعرنا القديم المتنبي يستطيع أن ينشد:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وقد تحدثت في غير هذا الموضع عن اختلاف العلماء والأدباء من الفرنسيين في فهم شعره وتأويله وتفسيره، وعن قصيدة المقبرة السحرية التي خصص أستاذ من أساتذة السوربون بعض دروسه لتفسيرها للطلاب، وقد شهد بول ڤاليري بعض هذه الدروس، وجمع الأستاذ بعد ذلك دروسه في كتاب قدمه له بول ڤاليري بمقدمة فيها ظرف وثناء كثير، ولكن الذين يقرءون هذه المقدمة يخرجون من قراءتها غير واثقين بأن الشاعر قد رضي عن شارحه الأستاذ كل الرضا.
وليس نثر بول ڤاليري أقل حاجة إلى التدبر والروية ومراجعة القراءة من شعره، وليس هو أقل إمتاعا للنفس وإرضاء للعقل والقلب من شعره أيضا، ومع ذلك فقد كان بول ڤاليري نفسه يرى أن النثر أقصر حياة من الشعر؛ لأن النثر أيسر على الأفهام من الشعر، وإذا فهمت نصا فقد قتلته، ولست أدري أصحيح هذا أم غير صحيح، ولكني واثق بأن الجيل المعاصر لبول ڤاليري لم يقبل نثره كما أنه لم يقبل شعره، ولكني أشارك النقاد المعاصرين من أهل فرنسا في أن الأجيال المقبلة لن تستطيع أن تتقبل شعره أو نثره، ولكني مطمئن كما اطمأن النقاد المعاصرون في فرنسا إلى أن بول ڤاليري لم يمت وإنما ذهب شخصه المادي، فأما شخصه المعنوي فخالد فيما ترك من شعر ونثر.
وقد تحدث بول ڤاليري نفسه عن «ديكارت» فأنبأ الذين كانوا يسمعون له في السوربون أن عظماء الرجال من أهل الثقافة خاصة إنما تنمو شخصياتهم وتقوى بعد أن يموتوا وبعد أن يمضي على موتهم وقت طويل أو قصير، وكأنما كان يتحدث عن نفسه؛ فشعره ونثره وأدبه كله سيقدم إلى الأجيال هذا الغذاء الرفيع وسيحيا في هذه الأجيال حياة متصلة، وستكون هذه الحياة مؤتلفة ومختلفة معا، مؤتلفة في هذه الكتب والدواوين التي تركها للإنسانية تراثا، ومختلفة في نفوس الذين سيقرءونها ويسيغونها ويتمثلونها ويكونون لأنفسهم صورة ما لصاحبها تلائم ما يستطيعون من التصور والتصوير جميعا.
Unknown page