باديتهم، وهو في موضوعاته ومعانيه وأساليبه مشبه كل الشبه للأدب العربي القديم الذي كان ينشأ في العصر الجاهلي وفي القرون الأولى للتاريخ الإسلامي؛ ذلك لأن حياة العرب في البادية لم تتغير بحال من الأحوال، فحياة القبيلة الاجتماعية والسياسية والمادية الآن كما كانت منذ ثلاثة عشر قرنا، فطبيعي إذن أن يكون الشعر المصور لهذه الحياة كالشعر الذي يصور الحياة القديمة وأن يكون موضوعه ما يقع بين القبائل من حروب ومخاصمات تدعو إلى الفخر والمدح والهجاء والرثاء، وما يثور في نفس الأفراد من أنواع الآلام واللذات التي تدعو إلى الغناء بالشكوى حينا والحب حينا آخر والعتاب مرة ثالثة. والقصيدة العربية الشعبية الآن كالقصيدة العربية القديمة تبدأ بالغزل القليل البسيط المؤثر، ثم تنتقل إلى وصف الإبل والصحراء فتطيل في ذلك ثم تصل إلى غرضها من مدح أو فخر أو غيرهما من فنون الشعر، ومثل ذلك يقال في الخطابة، فالبدوي الآن فصيح كالبدوي القديم، حلو الحديث محب للسمر والقصص إذا اطمأن واستراح، خطيب بليغ إذا كان بينه وبين غيره خصومة أو جدال، وهذا الأدب العربي الشعبي يرويه في البادية جماعة من الرواة يتوارثونه عن آبائهم ويورثونه لأبنائهم ويكسبون بروايته حياتهم المادية ومكانتهم الممتازة أحيانا، ولسوء الحظ لا يعنى العلماء في الشرق العربي بهذا الأدب الشعبي عناية ما؛ لأن لغته بعيدة عن لغة القرآن، وأدباء المسلمين لم يستطيعوا بعد أن ينظروا إلى الأدب على أنه غاية تطلب لنفسها وإنما الأدب عندهم وسيلة إلى الدين.
أما الأدب الآخر فهو أدب تقليدي لا يكاد يوجد في البادية وإنما مركزه الحواضر عادة ، وهو أدب قد اتخذ لغة القرآن أداة للتعبير، وإذا كان الأدب الشعبي مصورا للحياة العربية البدوية تصويرا صادقا ممتازا فإن الأدب التقليدي بعيد كل البعد عن هذا التصوير؛ ذلك لأنه متكلف مصنوع لا صلة بينه وبين الطبيعة الحرة، فهو لا يعكس ما يحسه الشعراء والكتاب، وإنما يمثل ما يريد الشعراء والكتاب أن يضعوه فيه. حظ النفاق فيه أكثر من حظ الصراحة، ثم هو تقليدي لا يصدر فيه أصحابه عن أنفسهم وإنما يقلدون فيه أهل الحواضر من المصريين والسوريين والعراقيين، كذلك كان أدباء المدن في جزيرة العرب طول القرون الوسطى وكذلك هم الآن، ونستطيع أن نؤكد أن أهل الحجاز يستمدون أدبهم التقليدي من مصر والشام بنوع خاص، وقد يتأثرون بغير المصريين والسوريين من الذين يفدون عليهم للحج ولكن كتبهم التي يدرسونها في مكة والمدينة من الكتب التي يدرسها المصريون في الأزهر، وشعرهم الذي يقرءونه أو يحفظونه هو الشعر الذي يقرأ ويدرس في مصر والشام، فهم إن أرادوا أن يكتبوا في العلوم الدينية قلدوا المصريين كما أنهم يقلدونهم في الدرس، وهم إن أرادوا أن ينظموا الشعر قلدوا المصريين والسوريين. •••
أما أهل اليمن فليس تأثرهم بمصر أقل من تأثر الحجازيين، وإن كان لهم مذهبهم الديني الخاص، فهم على كل حال يذهبون مذهب المصريين في درس العلوم الدينية واللغوية. هم تلاميذ الأزهر يفدون عليه فيتعلمون ثم يعودون إلى بلادهم فيعلمون، والغريب أنهم لا يزالون يدرسون العلوم الرياضية والطبيعية على نحو ما كانت تدرس في الأزهر قبل أن يمسه التجديد في أوائل هذا القرن، فالفلك والحساب والمساحة والهندسة والطبيعة؛ كل ذلك يدرس في الأزهر وغيره من المعاهد الإسلامية قبل أن تتأثر بالحضارة الأوروبية الحديثة، ولليمن شعر ولكنه تقليدي كشعر الحجاز يذهب فيه أصحابه مذهب المصريين قبل أن يرتقي الشعر المصري، وأنت تكلف نفسك مشقة شديدة إن أردت أن تلتمس في اليمن أو الحجاز الآن شعرا له قيمة فنية حقيقية، إنما هي ألفاظ مرصوفة يكثر فيها البديع وتدور حول معان تافهة، وما رأيك في أربعة أو خمسة من الشعراء يضيعون وقتهم في صنعاء في نظم القصائد الطويلة الركيكة حول هذا المعنى وهو: «أي الأمرين خير: قرب الروح من الروح أم قرب الجسم من الجسم؟»
وقل مثل هذا في مدح الحجازيين واليمانيين ورثائهم وهجائهم وغزلهم؛ كلام لا طائل تحته ولا غناء فيه، صورة صحيحة لما كان يقال في مصر والشام قبل خمسين سنة.
أما شرقي البلاد العربية فتأثره بالعراق أشد من تأثره بمصر والشام، ففي بعض القرى في أطراف الجزيرة مما يلي العراق شعراء، وفيها أيضا علماء في اللغة والدين، وهم تلاميذ العلماء والشعراء الذين يظهرون في بغداد والبصرة، ولم يكن أهل العراق أحسن حالا من السوريين والمصريين أيام السلطان التركي فليس غريبا أن يكون تلاميذهم في أطراف الجزيرة العربية وفي نجد مقلدين متكلفين، وإنه لمما يضحك أن تقرأ طائفة من الشعر رواها الألوسي لجماعة من شعراء نجد يصفون بها عينا ينبع منها الماء الحار هناك ويختلف الناس إليها للاستشفاء. لا تجد في ذلك الكلام المنظوم فنا ولا شعورا بالجمال ولا تصويرا له ولا شيئا يبعث في نفسك اللذة الفنية وإنما هي ألفاظ سقيمة ثقيلة قد زادها النظم السيئ فسادا ورداءة.
هذه كانت حال الأدب في بلاد العرب إلى وقت قريب جدا إلى ما بعد الحرب الكبرى؛ تقليد شديد عقيم للمصريين والسوريين والعراقيين في علوم الدين واللغة وفي الأدب.
ولكن حركة التجديد العلمي والأدبي ظهرت في مصر والشام والعراق منذ القرن الماضي واشتدت جدا في هذا القرن ولا سيما بعد الحرب بفضل هذا الاختلاط العنيف الذي يزداد كل يوم بين الشرق والغرب، فتأثر كل شيء بحركة التجديد هذه في الشرق حتى الأزهر نفسه، ولم يكن بد من أن يصل أثر هذه الحركة إلى بلاد العرب لأن الحرب الكبرى هزتها كما هزت غيرها من البلاد، ولأنها اتصلت بالأوروبيين اتصالا مباشرا شديدا بعد الحرب ولأن العلاقات كثرت جدا بينها وبين الشرق العربي، وكما أنها كانت تقلد هذه البلاد فيما كان عندها من أدب القرون الوسطى فلا بد لها من تقليدها في أدبها الحديث. •••
على أن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثارا خطيرة هان شأنها بعض الشيء، ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها بل في علاقاتها بالأمم الأوروبية أيضا؛ هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب، شيخ من شيوخ نجد.
نشأ محمد بن عبد الوهاب في بيت علم وفقه وقضاء، تثقف على أبيه ثم رحل إلى العراق فسمع من علماء البصرة وفقهائها وأظهر فيها آراءه الجديدة القديمة معا، فسخط عليه الناس وأخرج من البصرة، وكان يريد أن يذهب إلى الشام فحال الفقر بينه وبين ذلك؛ فعاد إلى نجد وأقام مع أبيه حينا يناظر ويدعو إلى آرائه حتى ظهر أمره وانتشر مذهبه.
وانقسم الناس فيه قسمين: فكان له الأنصار وكان له الخصوم، وتعرضت حياته آخر الأمر للخطر، فأخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر ليجيروه ويحموا دعوته حتى انتهى به الأمر إلى قرية الدرعية، وهناك عرض نفسه على أميرها محمد بن سعود فأجاره وبايعه على المعونة والنصرة، ومن ذلك اليوم أصبح المذهب الجديد مذهبا رسميا يعتمد على قوة سياسية تؤيده وتحميه، بل تنشره في أقطار نجد بالدعوة اللينة حينا وبالسيف والحرب في أكثر الأحيان، وعن هذا التحالف بين الدين والسياسة نشأت في الجزيرة العربية دولة سياسية عظم أمرها واشتد خطرها حتى أشفق منها الترك أشد الإشفاق، فقاوموها ما وسعتهم المقاومة، فلما لم يفلحوا استعانوا بالمصريين وكان أمرهم إذ ذاك إلى محمد علي الكبير، فنجح المصريون في إضعاف هذه الحركة وإزالة هذه الدولة الجديدة ورد أمرائها إلى ما كانوا عليه قبل ذلك من التواضع، فلا بد من وقفة قصيرة عند هذا المذهب الجديد لتعرف ما هو، وما مبلغ تأثيره في الحياة العقلية العربية في هذا العصر الحديث.
Unknown page