194

لكن العلم براء من هذا التعطيل الذي يشل العقول ويفقدها شجاعة الاعتقاد، فإذا جاز له أن ينكر فإنما يجوز له ذلك بحجة واحدة: وهي أنه يجهل وليس أنه يعلم، ومن الجهل لا من العلم أن نجعل الجهل مرجعا للوجود من أعلاه إلى أدناه، فليقل «العالم» إنه يجهل لأن الأمر أكبر من أن يعرفه ويحيط بحدوده، ولكن الأمر الذي لا يعرفه ولا يحيط بحدوده موجود لا شك فيه.

خاتمة المطاف

مهما يكن من تشعب الرحلة التي قضيناها على صفحات هذا الكتاب، فهي نقلة يسيرة بالقياس إلى الرحلة الإنسانية الكبرى في هذا السبيل، ولعل ما بقي منها أضعاف ما سلف؛ لأن السعي إلى الحقيقة الأبدية لن يزال سعيا موصولا في كل جيل.

وقد أوجزنا وكان لا بد لنا من أن نوجز، ولكننا توخينا في الإيجاز ألا يتخطى حد الضرورة، وحد الضرورة هو أن يكون البيان كافيا للإشارة إلى الوجهة العامة وأن يكون كافيا لتقرير النتائج التي يرتضيها العقل ويتطلبها الضمير، سواء من جانب العقائد الدينية أو من جانب المباحث الفكرية.

وخاتمة المطاف قد تنتهي بنا إلى النتائج الآتية، وهي «أولا»: أن التوحيد هو أشرف العقائد الإلهية وأجدرها بالإنسان في أرفع حالاته العقلية والخلقية، ولكن الإنسان لم يصل إلى التوحيد دفعة واحدة، ولم يفهمه على وجهه الأقوم عندما وصل إليه، بل تعثر في سعيه، وأخطأ في وعيه، ولم يزل مقيدا بأطوار الاجتماع وحدود المعرفة عصرا بعد عصر وحالا بعد حال، فلم يلهم من هذه العقيدة إلا بمقدار ما يفهم، ولم يهتد إلى خطوة جديدة فيها إلا بعد تمهيد أسبابها وتثبيت مقدماتها، فكان الإيمان مساوقا للخلق والعرفان.

وليس في ذلك كله ما يقدح في الغاية البعيدة التي يؤمها من وراء هذه الخطوات، وليس في جميع هذه الأخطاء ما يقدح في الحقيقة الكبرى؛ لأن معرفة الإنسان بالحقيقة الكبرى دفعة واحدة هي المحال الذي لا يجوز، وترقيه إليها خطوة بعد خطوة هو السنة التي اتبعها في كل مطلب بعينه.

فلم يكن من الجائز أن يتعرف الصناعات والعلوم جزءا جزءا في هذه الآماد الطوال، وأن يتلقى حقيقة الوجود الكبرى كاملة مستوفاة منذ نشأته على هذه الأرض أول نشأة، ولقد مضى عليه عشرات الألوف من السنين وهو يخلط في طهو غذائه، وحاجته إلى الطعام لا شك فيها، ومادة الطعام بين يديه، وعلم الطعام ليس بالعلم المغيب وراء الحجب والأستار، فإذا فاته أن يدرك الوجود المطلق قبل أن يتقن غذاءه فليس من الجائز أن نعجب لذلك، أو أن نستفتح به أبواب التشكك في كنه العقيدة أو في لباب الحقيقة، وإنما العجب ألا يكون الأمر كما كان.

والنتيجة الثانية التي يرتضيها العقل ويتطلبها الضمير في خاتمة المطاف أن الإله الأحد «ذات» ولا يسوغ في العقل أن يراه غير ذلك.

فقد مرت بنا أقوال تضاربت فيها الآراء، وأحكام تنوعت فيها المقاييس، ولكننا وجدنا بينها إجماعا على شيء واحد مع صعوبة الإجماع في هذه الأمور، وهو أن «الذاتية» أعلى ما نتصوره من مراتب الكائنات على الإطلاق.

فالأقدمون الذين قالوا بالعقل والهيولى، والمحدثون الذين قالوا بالنشوء والارتقاء، والنشوئيون الذين قالوا ببقاء الأنسب أو قالوا بالانبثاق، وغير هؤلاء وهؤلاء مجمعون على قول واحد، وهو أن الترقي إنما هو الانتقال من وجود بغير ذات إلى وجود له ذات: إلى وجود يعلم ذاته ويشعر بوجوده.

Unknown page