193

والعلامة ألبرت أينشتين صاحب النسبية حجة في الرياضيات وفي الطبيعيات وله مشاركة في فن الموسيقى ومقاصد الفلسفة، وهو قوي الإيمان بوجود الله، ويقول: «إن أصحاب العبقريات الدينية من جميع العصور قد عرفوا بهذا النوع من الشعور الديني الذي لا ينتمي إلى نحلة ولا يتمثل الله في أمثلة بشرية، فكيف يتأتى أن ينتقل هذا الشعور الديني الكوني من إنسان إلى إنسان إذا لم يبرز في صورة معينة أو مراسم معلومة؟ إنني لأرى أن أهم وظيفة من وظائف الفن والعلم هي أن يوقظا هذا الشعور وأن يستبقياه حيا في الذين تهيئوا له ...»

ومن طبقة هؤلاء العلماء الكبار من يتدين ويقرر فائدة الصلاة ولا يكتفي بإيمان العقل أو الضمير بوجود الله، فالسير أوليفر لودج الرياضي الطبيعي المشهور يؤمن بالله وبالروح وبفائدة الصلاة، ويرد على الذين يزعمون التناقض بينها وبين القوانين الأبدية بأنهم يخطئون التصور إذ «يتصورون أنفسهم كأنهم شيء منعزل عن الكون وخارج منه يعمل فيه من ظاهره ويحاول أن يبدل مظاهره بالابتهال إلى نظام في القوى المسيرة» ... و«لكننا إذا استطعنا أن نتفطن إلى أنفسنا وأننا نحن جزء صميم من النظام بأسره، وأن رغباتنا ومطالبنا هي نفحة من الإرادة المسيطرة الهادية لم يمتنع على حركات عقولنا أن يكون لها أثر فاعل إذا سرنا بها وفاقا لأصدق ما في الكون من القوانين وأعلاها.»

ويضرب السير أوليفر مثلا لذلك بالدولة العادلة التي تكون خلجات الآحاد فيها جزءا من التشريع والإدارة إذا هي سلكت سبيلها الحق إلى التعبير السليم والتوفيق بينها وبين أصول النظام.

ولا تزال كتب العلماء المؤمنين تطالع القراء في الغرب بآرائهم في وجود الله وأسبابهم التي تبعث فيهم الإيمان به والثقة بتدبيره، ومن أحدثها كتيب الأستاذ كريسي موريسون

Cressy Morrisson

الذي كان رئيسا لمجمع العلوم في نيويورك، وقد سماه: «ليس الإنسان بوحيد»، ولخص فيه سبعة أسباب للإيمان بالحقيقة الإلهية يعرفها الطبيعيون والرياضيون وتأبى عليهم أن يردوها إلى المصادفة؛ لأنها لا تختل أبدا مع أن التوافق بينها بالمصادفة لا يتجاوز نسبة الواحد إلى ألوف الملايين، ومن أقوى هذه الأسباب السبعة قوله عن الناسلات

Genes

وفحواه «أنها تبلغ من الدقة أن جميع الناسلات التي يتولد منها سكان الكرة الأرضية جميعا لو وضعت في حيز واحد لما زادت على قمع الخياطة، ولكنها كانت في كل خلية حية وفي طواياها أسرار الخصائص التي يتصف بها جميع الآدميين.» قال: «وإن قمع خياطة لحيز صغير إذ يحتوي فيه جميع خصائص الأفراد الموزعة بين ألفي مليون من البشر، ولكنه واقع لا ترقى إليه الشكوك، فكيف إذن تنطوي في هذه الناسلات جميع عوامل الوراثة المتخلقة من حشود الأسلاف وتستبقي لكل فرد مقوماته النفسية في مثل هذا الحيز الذي بلغ الغاية من الدقة والصغر.»

ونحن نرى من هذا المثال ما يستطيعه العالم من تفصيل الأدلة التي يتناقلها من لا يدرسون العلوم الطبيعية، فإن خلق الذكر والأنثى معجزة كافية لإثبات القصد والتدبير في خلق الحياة واستدامة أسباب البقاء للأحياء، وإن الغرائز النوعية التي تؤدي هذه المعجزة لأبرز من أن تخفى على عالم أو غير عالم، ولكن العالم الطبيعي وحده هو الذي يستطيع أن يضاعف هذه الدلالة أضعافا فوق أضعاف؛ لأنه يرينا بمثل الدليل المتقدم أعجب أعاجيب هذه الغريزة التي تخفى على سواه، ويبين لنا أن الحياة قوة من عالم المكان والزمان؛ لأن الحيز الذي يحتوي الناسلة هو الحيز الذي يحتوي كل ذرة في حجمها من الذرات المادية، ولكنه يتسع لآفاق من القوى لا أثر لها في ذرات الأجساد، وقد قيل على سبيل التعجيب والإغراب أن «لو» تضع باريس في علبة صغيرة، وظن القائل أنه بالغ أقصى المبالغة في تصوير الاستحالة والإعجاز الذي تستطيعه الفروض أو الأماني المشتهاة. ولسنا هنا بصدد فرض باطل أو أمنية خيالية، ولكننا في صدد حقيقة أعجب من جميع الفروض والأخيلة؛ لأنها لا تضع باريس وحدها في علبة صغيرة، بل تضع النوع الإنساني كله في أقل من العلبة الصغيرة: في قمع لا يتسع لأكثر من أنملة، وهو يتسع مع ذلك لكل ما في النفوس من الأحاسيس والحوافز والأسرار، ولكل ما في العقول من الأفكار والفلسفات والمبتكرات، ولكل ما في الضمائر من العقائد والأخلاق والأشواق، ولكل ما في الأجسام من الوظائف والمحاسن والأشباه، ولكل ما بين هؤلاء من الأواصر والوشائج والعلاقات.

فإن كان العلم هو الذي يعوق هذه الآية عن الوصول إلى العقول فما هو بواصل إلى شيء وما من شيء هو واصل إليه.

Unknown page