والخلق لا يفيد معنى الإنشاء من العدم في مذهب الفيلسوف، بل هو لازم لزوم الأعراض أو المظاهر للجوهر الإلهي القائم بغير ابتداء. «وكل ما جرى فهو يجري بقوانين سرمدية في الجوهر الإلهي مستمدة من ضرورة وجوده على الوجوب؛ إذ ليس في الكون ممكن على الإطلاق، ولكن الأشياء محتومة الوجود والعمل على نحو تستلزمه ضرورة الطبيعة الإلهية، ولا سبيل إلى نشوء هذه الأشياء على أي نحو أو أي نظام يخالف ما وقع، ولهذا لزم أنها وجدت على أكمل الأنحاء والنظم إذ هي نشأت ضرورة من طبيعة على أتم كمال.»
وواضح من هذا أنه لا محل للحرية الإنسانية ولا للثواب والعقاب في هذا المذهب، ولكن الإنسان يترقى فيتحد بالجوهر الإلهي بقدر مقدور أو بالمعرفة و«الحب العقلي» كما سماه، أي حب العارفين الذين استحقوا أن يتجاوزوا مرتبة الأعراض إلى الجوهر الأبدي المطلق الذي يتجردون فيه من التجزؤ والانفراد.
وقد نفى سبنوزا في بعض رسائله أنه يقول بوحدة الله والطبيعة، وفسر كلامه بأن الله «حاضر» في الطبيعة لا ينفصل عنها ولا تنفصل عنه؛ لأنه لا انفصال عن اللانهاية، وهي الله.
وعقدة الإشكال كلها - على ما رأينا - هي أن سبنوزا لم يرد أن يفرق بين وجود الأبد ووجود المكان والزمان، فالمكان يأخذ من المكان، والزمان يلحق بما له حركة تبتدئ وتنتهي في أمد محدود، وليس للانهاية حيز يجوز عليه مكان ولا زمان، فلا تناقض بين كمال الله ووجود الكائنات التي تتحيز في قضاء محدود أو تجري إلى أمد محدود. •••
ويعد جوتفريد ويلهم ليبنتز 1646-1726 أكبر الكارتيين بحق بين فلاسفة الألمان وفلاسفة القارة الأوروبية على التعميم.
وشعار ليبنتز في مسألة الخلق «أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان» وأن هذا العالم ليس بالعالم الوحيد الممكن في قدرة الله، فإن قدرة الله لا تنحصر في ممكن واحد بل تتناول جميع الممكنات، ولكن هذا العالم أحسن العوالم الممكنة التي تقبل الوجود، وكان في قدرة الله أن يخلقه بغير شر ولا قبح فيه، ولكنه يكون إذن بغير خير ولا جمال؛ إذ الخير مرتبط بالشر والجمال مرتبط بأضداده، ومن تمثيله لذلك أن الظمآن إذا نقع غليله بالماء البارد القراح شعر بلذة جديرة باحتمال الظمأ في سبيلها ويطيب له تكرارها وتكرار ألم الظمأ الذي يشوقه إليها.
وفي الوجود على مذهب ليبنتز جواهر لا عداد لها يسميها الوحدات أو الأحاديات وهي باليونانية موناد
Monads : كل منها بمثابة مرآة للوجود كله يختلف نصيبها من تمثيله باختلاف نصيبها من الصفاء والجلاء، وهي لا تتطلب أن يؤثر بعضها في بعض لأنها تعمل جميعا بقانون واحد مذ كانت كلها منطوية على مثال الوجود كله، وهي كالساعات التي تدق دقاتها معا بغير تأثير من إحداها على الأخرى؛ لأنها متفقة التركيب والحركات.
وإذا اجتمعت هذه الوحدات في بنية واحدة كانت لتلك البنية «أميرة» ممتازة من تلك الوحدات، وهذه الأميرة لا تحركها ولا تؤثر فيها، ولكنها إذا تحركت كانت أصدق الوحدات تمثيلا لنظام الوجود، كما تكون الساعة المجلوة المتقنة أوضح في رصد الوقت وضبط الحركات من سائر الساعات.
وكل هذه الوحدات جواهر بسيطة لا امتداد لها ولا مقياس لها إلا مقياس الحركة المجردة، والله أعلى هذه الوحدات جميعا، ومنه تصدر القدرة التي تنتقل إليها على سبيل المحاكاة، وهي قدرة لا تنقطع عن الخلق ولا يزال صدور الوحدات منها في اطراد.
Unknown page