بل هو عنده فوق الوجود.
وليس معنى ذلك أنه غير موجود أو أنه عدم؛ لأن العدم دون الوجود وليس فوق الوجود، وإنما معناه أن حقيقة وجوده لا تقاس إلى الجواهر الموجودة ولا تدخل معها في جنس واحد ولا تعريف واحد، فهو «أحد» بغير نظير في وجوده ولا في صفاته ولا في كل منسوب إليه.
ويغلو أفلوطين أحيانا فيقول إن الله لا يشعر بذاته؛ لأنه لا يميز ذاته من ذاته فيعرفها، ولكنه لصفاء وجوده يتنزه عن ذلك التمييز ويتنزه عن ذلك الشعور.
وبديه أن هذا المذهب يقتضي وسائط متعددة لربط الصلة بين هذا الإله «الأحد» الملطق الصفاء، وبين المخلوقات العلوية وهذه المخلوقات السفلية - ولا سيما خلائق الحيوان المركب في الأجساد.
وهكذا لزم أفلوطين أن يقول: إن الواحد خلق العقل، وإن العقل خلق الروح، وإن الروح خلقت ما دونها من الموجودات على الترتيب الذي ينحدر طورا دون طور إلى عالم الهيولى أو عالم المادة والفساد.
وليست مسألة الخلق مسألة مشيئة في مذهب أفلوطين، بل هي مسألة ضرورة لازمة من طبيعة الخير الذي هو الله، فالخير يعطي ضرورة وينشأ من عطائه ضرورة شيء من الأشياء، ولن يكون هذا الشيء إلا أقرب الأشياء إليه، وإن لم يبلغ مبلغه من الكمال، وهذا ما يسميه بضرورة الفيض أو الصدور.
غير أن الإعطاء لا ينقص المعطي في عالم التجريد والصفاء؛ لأن الفكرة لا تنقص بالإعطاء، بل تزيد من أخذ ولا تنقص شيئا ممن أعطاه، وأقرب مثال للفيض والصدور في المحسوسات صدور النور من الشمس، أو صدور الطيف في المرآة من صاحب الطيف، فلا نقص على الإطلاق في مثل هذا الصدور.
ولا تزال الروح تخلق ما دونها ثم يصدر عنه ما دونه حتى تتلبس الروح الإنسانية بالجسد أو الهيولى، ويتناقض أفلوطين في وصف الشر فيحسبه تارة من الروح التي تخلق الهيولى ويحسبه تارة من الهيولى التي تهبط بالروح إلى دركها الأسفل؛ لأنها سلب محض يهبط بالروح فتجاهده وتبلغ الخلاص بهذا الجهاد.
ومن ها هنا لزم أفلوطين أيضا أن يقول بتناسخ الأرواح وبالثواب والعقاب في أدوار التجسيم، فزعم أن الولد إذا قتل أمه عاد امرأة ليقتلها ابنها فتكفر بذلك عن ذنبها، وأن الظالم يعود ليظلمه غيره، وأن الضارب في عمر من الأعمار يقتص منه ضارب في عمر جديد.
ولا تذكر الروح ما مر بها في أعمارها الأولى؛ لأن الذاكرة عرض من عوارض التلبس بالأجسام الفانية وما يجري منها أو عليها، أما الروح المجردة فهي أبدية لا تتغير باختلاف الأعمار عليها، فلا تستبقي بعد مفارقة الجسد أثرا مما طرأ عليها فيه.
Unknown page