Albert Camus
ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي
Genres
إن هؤلاء القتلة الرقيقي المشاعر باعترافهم بالطبيعة الإنسانية يضعون للا المطلقة والنعم المطلقة حدا تقفان عنده. إنهم يتمسكون بتلك القيمة التي نقابلها في فعل التمرد الأصيل، ونعني بها روح التضامن التي يؤدي إليها التمرد. إن كل واحد منهم يستطيع أن يقول: «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون.» ولو سألناهم من أنتم لأجابوا قائلين: نحن موجودات قادرة على الوعي بالحد، محققة للتكاتف والتواصل فيما بيننا وبين بعضنا والبعض. إن تضامننا ليس في حقيقة أمره سوى الوعي بما نشترك فيه مع جميع الناس؛ أعني بطبيعة يشترك فيها كل بني الإنسان.
كان شعراء التمرد هؤلاء يرون سعادتهم الوحيدة في التضامن. لقد جمع بينهم احترام الحياة الإنسانية بما هي كذلك مع احتقار حياتهم الذاتية إلى الحد الذي جعلهم لا يترددون لحظة عن بذل أغلى التضحيات. إن جريمة القتل التي أقدموا عليها تبدو لهم جريمة ضرورية وغير مغتفرة في آن واحد. إنها تصبح بالنسبة لهم هي والانتحار شيئا واحدا.
81
لم يكن التاريخ في نظر هؤلاء القتلة النادرين شيئا مطلقا ولا كانت العدالة كذلك. إنهم يقتلون من أجل الفكرة، ولكنهم لا يضعون هذه الفكرة مع ذلك فوق الحياة. وتبريرهم الوحيد لها هو أنهم يأخذونها معهم إلى قبورهم. وهم حين يموتون لا يضحون بأنفسهم في سبيل عدالة إلهية، بل يضعون كل أملهم في عدالة إنسانية يوقنون أنها ستتحقق ذات يوم على يد أجيال لم تولد بعد. وهنا نصل إلى النقطة الوحيدة التي جعلتهم يحيدون عن التمرد الحق. إنهم، على حد تعبيرنا السابق، ما زالوا يؤمنون بمتعال (ترانسندنس) أفقي؛ أعني بقيمة لم توجد بعد. وكل قيمة نقول عنها إنها آتية فيما بعد، هي في الحقيقة قيمة تناقض نفسها بنفسها؛ ذلك لأنها لا تستطيع أن توضح طبيعة فعل من الأفعال، ولا أن تعطينا مبدأ نختار على أساسه في موقف معين، طالما بقيت مجردة لم تتجسد بعد.
82
ربما كان تبريرهم الوحيد أنهم لم يشرعوا الرعب والقتل، لا بالحجج الفلسفية ولا بالبراهين العلمية. لقد حملوا الذنب المحدود على أكتافهم، ودفعوا حياة بحياة. كانت الثورة بالنسبة إليهم وسيلة ضرورية، ولكنها لم تكن هدفا في ذاته. وبذلك رفضوا أن يصلوا إلى الوحدة عن طريق الشمول، واحتفظوا بذواتهم الوحيدة وتناقضاتهم الممزقة فلم يشاءوا أن يلقوا بها في فوهة تنين «أيديولوجي» يبتلع كل المتناقضات ويسوي كل الفروق. هؤلاء «القتلة الأبرياء» في ثورة عام 1905م الاشتراكية قد بذلوا حياتهم لكي يبعثوا الحياة في قيمة استطاعوا في زنزاناتهم المعتمة وعلى أعواد المشانق أن يؤكدوها ويثبتوا وجودها؛ قيمة «نحن نكون»، عنوان تضامن الإنسان المتمرد مع كل إنسان. •••
نستطيع الآن أن نلخص ما انتهينا إليه في هذه الملاحظات:
أولا:
تردي التمرد الميتافيزيقي كما تردت الثورة التاريخية (وهي النتيجة المنطقية المترتبة عليه) خلال تاريخهما الطويل من صاد وشتيرنر إلى إيفان كرامازوف، ومن الرومانتيكيين ونيتشه إلى الفاشية والشيوعية في هاوية الجنون والانتحار، أو القتل والدمار. لقد كانت في كل مرة تخضع فيها للتأكيد المطلق لكل ما هو موجود تلطخ يديها بالدماء. وفي كلا الحالين كانت تتعدى الحد الذي بينه التمرد، وتفقد الحق في أن تسمي نفسها باسم التمرد.
83
Unknown page