Albert Camus
ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي
Genres
تمهيد
حياة كامي
المحال
1 - المحال
2 - الانتقال إلى التمرد
3 - التمرد
4 - التضامن
خاتمة
قائمة المصادر والمراجع
تمهيد
Unknown page
حياة كامي
المحال
1 - المحال
2 - الانتقال إلى التمرد
3 - التمرد
4 - التضامن
خاتمة
قائمة المصادر والمراجع
ألبير كامي
ألبير كامي
Unknown page
محاولة لدراسة فكره الفلسفي
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
«لا يظهر الإنسان عظمته حين يلمس طرفا واحدا، بل حين يلمس الطرفين معا في آن واحد، ويشغل كل ما يقع بينهما من فراغ.»
باسكال (أعمال بليز باسكال، طبعة ليون برونشفيج، القسم السادس، ص267، 13، الفكرة الثانية، 353)
بينما كنا نعمل في هذا الكتاب جاءنا النبأ الفاجع بوفاة ألبير كامي في حادث مؤلم.
1
قدر للعمل الواعد، الذي قال عنه الكاتب الفيلسوف ذات مرة بعد عشرين عاما من الجهد والخلق المتصل إنه لم يكد يبدأ بعد،
2
Unknown page
أن يسدل عليه الستار، كما قدر على الباحث أن يكتفي بما وجده أمامه، وإن كان أبعد الأشياء عن أن يمثل كلمته الأخيرة.
إن أعمال كامي وشخصيته - وهو في هذا يزيد عن أي كاتب معاصر - يمثلان وحدة متكاملة، لا يمكن الفصل فيها بين الكاتب الروائي والمسرحي، وبين المفكر الفيلسوف، بين رجل السياسة، وبين رجل المجتمع والأخلاق؛ فلا يستطيع المرء أن يفصل بين كامي الإنسان الذي ساهم في خلال الحرب الأخيرة في المقاومة السرية للاحتلال الألماني مساهمة فعالة، ووقف في عديد من القضايا الاجتماعية موقف المكافح الباسل، ووضع نفسه، كما يقول، في صفوف الضحايا والمعذبين والمحتقرين، وحلل الداء الروحي الذي انتشر في كيان عصره وحاول أن يجد له الدواء، وعاش في ألوان الصراع التي كابدها جيله إلى حد التوتر والتمزق، أقول لا يمكن للمرء أن يفصل هذا الإنسان عن شخصيات مثل سيزيف وميرسو وريو، ممن ساروا في طريق الأمانة والعذاب إلى أقصى مداه؛ فمن الخطأ، إن لم يكن من الخطر أيضا، أن ننظر إلى الكاتب والمفكر بمعزل عن الإنسان الذي يقف على أرض الواقع أو الصحفي الذي ينبض قلبه بمأساة الجيل.
إن المهمة التي حددها كاتب السطور لنفسه في هذا الكتاب تخرج عن حدود الدراسة الأدبية والفنية، وتقتصر على استخراج اللحظات الفلسفية في فكر كامي وعرضها من خلال التيار الديالكتيكي الذي يدفعها ويبث فيها الحياة. وقد كان من الواجب في سبيل ذلك أن يدرس العمل ككل؛ فلا «الغريب» يناقض «الوباء»، ولا «أسطورة سيزيف» تتعارض مع «المتمرد». لا فلسفة المحال تكون فلسفة مستقلة مقفلة على نفسها، ولا فلسفة التمرد تنفيها أو تبطلها، وإنما الكل وحدة ديالكتيكية متشابكة، تجمع بين الطرفين المتقابلين وتؤلف بينهما في وحدة عضوية حية ستحاول الصفحات القادمة أن تكشف عن جوهرها فيما سوف نسميه بالتوتر والتمزق، وليس معنى هذا أننا سننكر التطور المستمر في فكر ألبير كامي، وهو ما لا سبيل في الواقع إلى إنكاره، بل معناه أننا سنعتبر هذا التطور لونا من اتساع الأفق أو امتداد المجال، تسير فيه حركة الفكر من «المحال» إلى «التمرد» ثم من هذا إلى «التضامن»، دون أن تلغي مرحلة منها المرحلة التي تليها، أو تحاول «رفعها»، كما يقول أصحاب المنطق.
3
في هذه الصورة الكلية يصبح المحال ضروريا ضرورة التمرد، كما يصبح التضامن بغير التمرد على المحال في أشكاله الميتافيزيقية والتاريخية المختلفة أمرا يصعب تصوره أو التفكير فيه. بهذا نحاول أن نفسر الفكر من خلال الفكر نفسه، أعني بغير حاجة إلى أن نضيف إليه أفكارا أو ألفاظا أخرى غريبة عليه، وسوف يرى القارئ، دون حاجة إلى التأكيد من جانبنا، أننا لم نحاول أن «نمذهب» هذا الفكر - فما أبعده عن أن يكون مذهبا مغلقا مكتفيا بنفسه! - ولا أن نحشره في زمرة الفلسفات الوجودية أو فلسفات الوجود، وهو الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون في هذه الأيام، والذي طالما أبعده كامي عن نفسه في أحاديثه وكتاباته.
لقد حمل كامي آلام العصر على كتفيه، وبين أن التاريخ حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، لها من الواقعية والأهمية ما لعناصر الطبيعة نفسها. هي حقيقة قاسية، مريرة، حاسمة، هي السعي المستميت الذي يبذله الناس كل يوم لكي يخلعوا على أحلامهم الشفافة شكلا وصورة،
4
ولا بد للإنسان الموهوب من الاختيار؛ فإما أن يكون شاعرا أو مكافحا. وإذا كانت حياة كامي قد علمتنا شيئا، فقد علمتنا أن من الممكن أن يجتمع الشاعر والمكافح في شخص واحد. لقد أثبتت أن في كل إنسان جزءا من الأبدية الخالدة وجزءا من التاريخ المتغير. ولا بد للإنسان من أن يغوص في التاريخ بكليته. إنه لا يستطيع أن يهرب منه؛ لأنه غارق فيه إلى أذنيه، شاء ذلك أم لم يشأ. وعليه أن يكافح فيه، لكي يحافظ على ذلك الجزء الخالد من طبيعته الذي لا يمت للتاريخ بصلة؛ فهناك التاريخ، وهناك أيضا شيء آخر، هو السعادة البسيطة، والجمال الطبيعي، والمشاركة بالقلب والعاطفة في كل ما ينبض بالحياة، وكلها جذور عميقة في كيان الإنسان لا يعرف التاريخ عنها شيئا.
5
بقيت ملاحظة صغيرة أحب أن أسوقها بين يدي هذا الكتاب؛ فلما كان المقصود منه أن يكون بحثا في الفكر الفلسفي عند كامي لا دراسة في أدبه وفنه، فقد رأينا ألا نتعرض للأعمال الأدبية إلا بمقدار ما تبين الموقف الفلسفي أو تلقي عليه مزيدا من النور. ولا شك أن محبي أدب كامي وفنه سيأسفون لهذا الشر الذي كان لا بد منه، حتى لا يتجاوز الكتاب حدوده المرسومة، ولكن لا شك أيضا أنهم سيجدون في الترجمات الأمينة التي تتوالى في السنوات الأخيرة على نحو جدير بالحمد والثناء عوضا عن هذا القصور، كما سيجدون في غير هذه الدراسة ما يشبع شوقهم إلى البحث والتفكير.
Unknown page
فلتكن هذه المحاولة خطوة متواضعة لفهم واحد من أكثر المفكرين في عصرنا الحديث نبلا وشجاعة وأمانة، واحد من أولئك الذين يفتخر الإنسان بأنه كان له الشرف أن ينبض قلبه وإياهم في زمن واحد.
حياة كامي
«إن مملكتي كلها من هذا العالم.» (الظهر والوجه، ص66) «منعني البؤس من أن أعتقد بأن كل ما تحت الشمس وكل ما في التاريخ حسن؛ الشمس علمتني أن التاريخ ليس هو كل شيء.» (مقدمة «الظهر والوجه») «لم أستطع أن أنكر النور الذي ولدت فيه، ولكنني لم أرد في الوقت نفسه أن أهرب من التزامات عصرنا.» (الصيف: عودة إلى تيباسا)
ولد ألبير كامي في اليوم السابع من نوفمبر عام 1913م، في مدينة موندوفي التابعة لمديرية قسطنطينة بالجزائر. كانت أمه تنحدر من أصل إسباني، وكان أبوه لوسيان عاملا زراعيا، قتل بعد ولادة ابنه الثاني ألبير بأقل من عام واحد في معركة المارن في الحرب العالمية الثانية: «مارن؛ جمجمة مفتوحة. أعمى. أسبوع طويل في صراع مع الموت؛ ... كان قد سقط في ميدان الشرف، كما اعتادوا أن يقولوا لها ... وفضلا عن ذلك فقد أرسل المستشفى العسكري إلى الأرملة شظية صغيرة عثر عليها في جسده الممزق.»
1
ورقد الأب في مقبرة سانت-بريوك في مقاطعة بريتاني، بعيدا عن زوجته التي انتقلت من موندوفي إلى مدينة الجزائر. لم تكن تملك ما تعول به طفليها سوى معاش زوجها الصغير وجهد يديها. وراحت تعمل في بيوت الأغنياء، تغسل وتنظف، ثم تعود إلى مسكنها الضيق في حي بلكور المزدحم بسكانه من العرب والأوروبيين. وفتح الصغير عينيه على شمس الجزائر الباهرة، وتعرف على عادات أهلها وطبائعهم، وشعر بعاطفة الحب التي لم تتخل عنه يوما من أيام حياته القصيرة نحو طبيعتها الشابة وأهلها الذين لم تفسد المدنية فطرتهم الأصيلة.
ودخل المدرسة الأولية في بلكور عام 1919م، ليبقى فيها حتى عام 1924م، وكان من عادة الأطفال في سنه وطبقته الاجتماعية بعد فراغهم من هذه المدرسة أن يلتحقوا بعمل يدوي يكسبون منه قوت يومهم، لولا أن موهبة الصغير لفتت نظر أستاذه لوي جرمان الذي اقترح له منحة تعينه على دخول المدرسة المتوسطة. ويظل كامي يتردد على هذه المدرسة حتى يحصل على شهادة البكالوريا في عام 1930م. ويشترك في فريق كرة القدم، ويهتم بالمسرح، ويطمح إلى دراسة الفلسفة، ويصاب للمرة الأولى في حياته بالتهاب في الرئة يؤدي إلى إصابته بمرض السل الذي أثر على شخصيته وأعماله فيما بعد. إنه يصف ذلك بنفسه في مقدمة كتابه الأول «الظهر والوجه» (نور وظل، طبعة 1958م): «أضاف هذا المرض بالطبع أغلالا جديدة شاقة إلى الأغلال التي كانت تقيدني بالفعل، ولكنه في نهاية الأمر قد زاد من تلك الحرية التي يتمتع بها القلب، وذلك الزهد في اهتمامات الناس الذي حفظني من كل إحساس بالمرارة.» ودخل الجامعة، وتعرف على أستاذه جان جرنييه - وقد قام بتدريس الفلسفة في جامعة القاهرة في عامي 1949م و1950م - الذي ظل يعترف بفضله عليه مدى حياته. ويتقدم للامتحان النهائي في الفلسفة في جامعة الجزائر، ولكن الفحص الطبي يعفيه منه مرتين، وبذلك يحفظه من احتراف التدريس، كما يدفعه إلى حياة الفن والاشتغال فترة من الوقت بالصحافة.
ويعد رسالة «الليسانس» في الفلسفة عن العلاقات بين الهيلينية والمسيحية في أعمال أفلوطين وأوغسطين، ويقبل على قراءة أبيكتيت، وباسكال، وكيركجارد، ومالرو، وجيد، وبروست، ودستويفسكي، ويشترك في جولة مسرحية مع فرقة الإذاعة في الجزائر، ويشارك في تمثيل المسرحيات الكلاسيكية. ويؤسس فرقة مسرحية من الهواة سماها فرقة ليكيب
L’equipe
كان يقوم فيها بدور الممثل والمؤلف والمخرج والملقن، ويكتشف صوت الفنان في ضميره يحدد له حياته ورسالته، ويعرف أن مصيره قد ارتبط حتى النهاية بالجزائر، أرض الشباب والبحر والشمس التي لا يجد الحزن فيها مكانا يختبئ فيه، وأن واجبه يحتم عليه أن يساهم في بزوغ حضارة جديدة، ذات شخصية فريدة، يشترك في خلقها العرب والمستوطنون الفرنسيون. لقد استطاع على هذه الأرض نفسها أن يكتشف الحقيقة المزدوجة، أن يساهم في أعياد الجمال، وأن يحترق بلهب المأساة، أن يملأ قلبه وعينيه من دفء الشمس، ويرى مع ذلك ظل الموت يخيم على كل لحظة يعيشها، ويتحدى هذه «المغامرة المفزعة القذرة» التي ظلت تتربص به حتى قضت عليه في النهاية.
Unknown page
ويتزوج في العشرين من عمره زواجا لا يلبث أن يفشل بعد وقت قصير، ويدخل الحزب الشيوعي ولكنه يستقيل منه بعد صدور الأوامر إلى أعضائه بتغيير موقفهم من مسلمي الجزائر والكف عن تأييدهم، على أثر زيارة لافال رئيس الوزارة الفرنسية آنذاك لستالين.
كانت سنوات شاقة، مارس فيها مختلف الحرف الممكنة، واضطر أن يتخلى عن وظيفة صغيرة في بلدية المدينة، بعد أن كتب تقريرا عن سكان منطقة القبائل فضح فيه البؤس والتخلف والجوع الذي يعاني منه أهل هذه المنطقة من العرب. لقد رأى ذات صباح في «تيزي أوزو» كيف يتضارع أطفال عرب مع الكلاب على محتويات صندوق من القمامة، وتبين له الفارق الهائل بين أجور العمال العرب والأوروبيين، وراح يعلن أن من المخجل الزعم بأن شعب القبيلة يعرف كيف يتكيف مع البؤس، ومن الخزي الزعم بأنه لا يحس بنفس الاحتياجات التي يحس بها الأوروبيون.
2
وتردد صدى هذا النداء الإنساني في الأسماع، وأتيح للناس أن يقرءوا لرجل يطالب بالعدل والمساواة بين العرب وبين الفرنسيين، ويرفض أن يعيش أولئك على الصدقات التي ينعم بها عليهم هؤلاء، ويستنكر الظلم من بلد تعلن أنها تحارب الظلم في غيرها من البلاد. ونشر التقرير في سلسلة مقالات في صحيفة «ألجيررببليكان» التي اشترك مع باسكال بيا في تأسيسها في عام 1938م، والتي وقفت في شجاعة في وجه السياسة الفرنسية الرسمية في الجزائر، وطالبت بالمساواة العادلة بين العرب والمستوطنين. لم يكن الأمر في هذا التقرير وفي غيره من المقالات التي نشرها في هذه الجريدة أمر رثاء أو تعاطف مع المغلوبين، ولا مجرد دفاع عن المظلومين والمهانين، بل شيئا مختلفا كل الاختلاف؛ فليس في الوجود شيء أهدر للكرامة من رؤية إنسان يعامل معاملة منحطة خالية من الإنسانية، ولكن المستوطنين الذين أعماهم التعصب لم يستطيعوا أن يفهموا رسالته، أو يدركوا الأخطار التي يندفعون فيها بوحشيتهم وأنانيتهم، فراحوا يطالبون بإبعاده عن الجزائر. قال الرؤساء إن التقرير لم يكتب بأسلوب إداري صرف، ووقع الحاكم العام لمدينة الجزائر بالفعل أمرا بطرد كامي من المدينة، وهو ما يوازي حرمانه من سبل الحياة في الجزائر كلها.
واضطر كامي إلى الرحيل إلى بارس، يحمل وصية من زميله باسكال بيا إلى إدارة تحرير صحيفة «باري سوار» التي استطاع أن يعين فيها مخبرا صحفيا. كان ذلك في ربيع عام 1940م، وكانت الحرب العالمية قد اشتعلت وأوروبا قد أذهلها الزحف الألماني الذي يزرد بلدا بعد بلد. واحتل الألمان فرنسا. وانتقلت الصحف إلى داخل البلاد، وانسحب محررو «الباري سوار» إلى «كليموفيران»
Clemont-Ferran
في مقاطعة الأوفيرن
Auvergne ، ومعهم كامي الذي كان يحمل في حقيبته مخطوطة روايته الأولى «الغريب» التي كان يريد أن يطبعها في باريس. وما لبث أن تخلى عن عمله الصحفي؛ لأنه لم يرد أن يقف في صف حكومة فيشي المؤقتة الذليلة، أو يتعاون مع نظام يكرهه من أعماق قلبه. وترك صحيفة «الباري سوار» ورواح يبحث عن مأوى في مدينة ليون. وبقي في هذه المدينة ثلاثة شهور، قفل بعدها راجعا إلى الجزائر ليعيش مع أسرة زوجته في أوران. واستقبلته المدينة في غير اكتراث؛ لا عمل، ولا مال، وسخرية القدر المعتم على الكتفين. ويسافر إلى باريس، ويستمد من وحدته القوة في إتمام أعماله، وانتظار النصر الأدبي الذي يقترب منه.
كانت رواية «الغريب» قد تمت، ومسرحية «كاليجولا» تفرض نفسها عليه منذ عام 1938م، و«سوء فهم» تنضج في ضميره، والصفحات الأولى من «أسطورة سيزيف» تتزايد يوما بعد يوم، والمحال يقيم أسواره الجرداء من حوله. وامتد الاحتلال الألماني لفرنسا أربع سنوات، وكامي يتحداه ويكافحه في السر والعلن، ويواجهه بالجبهة النقية، والنظرة الهادئة، والكلمة الشجاعة.
ويستدعي الناشر جاليمار كامي إليه - وكان قد أرسل إليه روايته «الغريب» - ويعرض عليه وظيفة قارئ في دار النشر المشهورة. وينضم كامي بطبيعة الحال إلى حركة المقاومة السرية في باريس، ويرأس تحرير جريدة «كومبا» (كفاح)، التي جعلت شعارها «من المقاومة إلى الثورة». ويظل كامي يكتب مقالاتها الافتتاحية، ويظل الفرنسيون ينتظرونها كل صباح، تدعوهم إلى مكافحة الظلم، وتذكرهم بأن يحرصوا على العدل؛ فما من شيء يهدى إلى الإنسان، والقليل الذي يمكنه أن يغزوه، لا بد أن يدفع ثمنه بالموت الظالم، ولكن عظمة الإنسان لا تكمن في ذلك، بل في إرادته أن يكون أقوى من القدر البشري، وإذا كان القدر البشري ظالما، فليس أمامه غير وسيلة واحدة ليتغلب عليه، وهي أن يكون هو نفسه عادلا.
Unknown page
ولكن البلد الذي بدا في مظهر الضحية النقية المقدسة مد يده إلى السكين، والمظلوم الذي عانى وطأة الظلم أربع سنوات مريرة لم يلبث أن أمسك بسوط الجلاد في مدغشقر والجزائر وفي أعمال الانتقام الوحشي ممن اتهموا بالتعاون مع العدو، وعادت سحب الكذب والحقد والصراع على السلطة بين الأحزاب المختلفة تتلبد في سماء باريس. كان النصر على العدو الخارجي أمرا سهلا لا يقاس إلى النصر على العدو الباطن في النفوس، الذي يستلزم المزيد من الشجاعة والألم ودم القلب. وراح كامي في كتاباته وخطبه وأحاديثه يدافع عن كرامة الروح، ويوقظ في النفوس معنى العدل، ويدعو إلى تجديد الفكر السياسي بالشجاعة والتفاهم والنبل.
ولكن كامي كان يقاوم طوفانا أقوى منه. توقفت صحيفة الكومبا بعد ثلاثة أعوام مشرقة تحت رئاسته، لم تخن فيها قضية واحدة من القضايا التي دافعت عنها. واستقال من رئاسة تحريرها واعتزل الصحافة، وإن ظل دائما يعبر عن آرائه في القضايا الملحة في أكثر من مناسبة وفي أكثر من قضية، في مقالات جمعها فيما بعد في كتابه «مشكلات معاصرة»
Actuelles ، وتكشف جميعها عن جوهره الحق الذي تلخصه كلمة «الأمانة». إنها جميعا وثائق من عصرنا، لم تترك مشكلة من المشكلات التي تزيد من عذاب البشر في هذا الزمان، بغير أن تدلي فيها برأي، وبغير أن تفصل بين السياسة والأخلاق، أو قل بغير أن تحاول إعادة السياسة مرة أخرى إلى حرم الأخلاق. إنه يستنكر العنف والطغيان في كل صوره وفي أي معسكر كان، كما يستنكر كل فعل يؤدي إلى موت الإنسان، مهما تكن طبيعة الأسباب التي تساق دائما لتبريره. بهذه الروح العادلة المطلقة عالج مشكلات التسلح الذري والحرب الباردة واستنكر الإرهاب الاستعماري في مدغشقر والجزائر، وأيد الثورات الوطنية في قبرص وألمانيا الشرقية والمجر وبولندا، واحتج على الرعب في كل صوره وأشكاله، لا يكتفي بتأكيد المبادئ، بل يقدم دائما الحلول العملية المباشرة المعتدلة.
كان كامي يحمل في كيانه كل صراعات العصر ويتجاوزها بفضل الحماس المتوهج الذي عاناها به. وكان حسه الأخلاقي الشجاع، كما قال له سارتر في رسالته المشهورة بعد النزاع الذي نشب بينهما،
3
يذكر الناس بأنه آخر خلفاء شاتوبريان وأكثرهم موهبة، وأنه يقف في صف الأخلاقيين الفرنسيين الكبار في القرنين السابقين، بجده وحكمته وجرأته. وألف الناس كلمات مثل العدل والأمل والعظمة والنبل تخرج من فمه وتسيل من قلمه، وتبشر بسعادة بشرية من نوع جديد، وإن كان القدر الإنساني القاتم الأليم لا يغيب عن أفقها لحظة واحدة.
وظهرت في عام 1947م رواية الوباء معبرة عن مأساة العصر، واضعة أحداثه في إطار الأسطورة أو الرمز المتحرر من الزمن والمكان، الذي يتطلبه كل عمل فني صادق. وكانت الرواية بفصولها الخمسة الكبرى تراجيديا أكثر منها رواية بالمعنى المألوف، ولعل ذلك هو سر عظمتها ونجاحها في آن واحد.
ولكن الطوفان كان أقوى منه كما قدمنا، والعصر بدا كأنه قد أفلت من كل حد وفقد النظرة الموضوعية للأمور، وسار كالأعمى على الشعار المألوف: الغاية تبرر كل وسيلة. وتتابع الهجوم عليه من اليمين واليسار، من المحافظين والماركسيين بل ومن أولئك الذين هب للدفاع عن حقوقهم. ونشب النزاع المؤسف المشهور بينه وبين صديقه سارتر، هذا يتهمه بأنه برجوازي رجعي، وذلك يرد عليه بأن يهادن الشيوعيين والأمريكيين، ويزن بميزانين في آن واحد. وامتد النزاع فصار هجوما مرا على صفحات مجلة «سارتر» «الأزمنة الحديثة» على كتاب كامي «المتمرد» وألقيت التهم الشخصية عليه مما أدمى قلبه بجراح عميقة، وأثرت فيه تأثيرا جعله يأوي إلى الوحدة والصمت طوال أعوام طويلة. لم يكد يخرج عن هذا الصمت إلا ليظهر روايته الفريدة «السقطة» (1956م)، ويعد اقتباساته المسرحية لروايات من فولكنر (جناز لراهبة) ودستويفسكي (الممسوسون)، ويعيد كتابة وإخراج مسرحيات لكالديرون (التبتل للصليب) ولوب دي فيجا (فارس أولميدو)، ويدون الصفحات الأولى من رواية جديدة لم تتم (الإنسان الأول)، ويخطط لمسرحية جديدة لم تتم أيضا «دون جوان».
كان فيما يبدو قد نفض يديه إلى الأبد من متاعب السياسة العفنة، وأقبل بكل كيانه على الواجب الأساسي لكل كاتب فنان، ألا وهو الخلق والإبداع، وتتابعت الأزمات الشخصية عليه، وهاجمه داء السل القديم في عام 1949م زمنا طويلا، وتوالت الصدمات والمتاعب فألجأته إلى الوحدة الإسبانية الراقدة في أعماق قلبه، التي لم يكن يخرج منها لحظات إلا ليقفل راجعا إلى جزيرته، على حد قوله في مذكراته اليومية لعام 1951م.
4
Unknown page
ولكن المتوحد الغائب كان حاضرا دائما في أذهان الناس وفي قلوبهم . كانوا في كل حدث يقابلهم يسألون أنفسهم ترى ما هو رأي كامي؟ ماذا عساه سيقول الآن ؟
غير أن كامي لم يقدر له أن يقول كلمته الأخيرة؛ ففي يوم الإثنين الرابع من يناير عام 1960م، وفي الساعة الثانية والربع ظهرا، اصطدمت عربة تسير في سرعة مجنونة على طريق سانس باريس بشجرة اصطداما مروعا. وبين حطام العربة عثر الناس على امرأتين في حالة إغماء، وسائق جريح مات بعد الحادث بأربعة أيام - وكان هو الناشر ميشيل جاليمار - ومسافر رابع مات للحظته، كانت عيناه قد برزتا قليلا، والدم تناثر على رقبته، وعلى وجهه أمارات الهدوء والدهشة. وحين فتشوا جيوبه وجدوا فيها تذكرة سفر بالسكة الحديدية لم يستعملها صاحبها، كما قرءوا في بطاقته هذه الكلمات: «ألبير كامي. كاتب. ولد في 7 نوفمبر 1913م، في موندوفي، مديرية قسطنطينة.»
وكأن الناس لم يتحدوا في ذلك اليوم في شيء كما اتحدوا في حزنهم على كامي. وكأن صرخة واحدة هي التي خرجت من بين شفاههم: هذا الموت الظالم. هذا الموت المحال.
المحال
تمهيد
«خنق الجلاد الكاردينال كارافا بحبل من حرير، انقطع منه، كان عليه أن يحاول مرة ثانية، تطلع الكاردينال إلى الجلاد، دون أن ينبس بكلمة واحدة.»
ستندال: دوقة باليانو (وضعها كامي في مقدمة كتابه «أعراس») «نحن نعلم أن الشمس تكون في بعض الأحيان معتمة.»
كامي (1) المحال
1
في الاستعمال اللغوي
Unknown page
أي معنى تحاول هذه الكلمة أن تعبر عنه، وهي تلغي كما يبدو من اسمها كل معنى؟ وماذا يمكن أن يقال عما يستعصي في ظاهره على كل مقال؟ وهل في وسع العقل أن يحكم بشيء عن كل ما ينفي العقل ويخالف المعقول؟ (أ)
قد يدل «المحال»، كما تخبرنا المعاجم اللغوية والفلسفية، عن أمرين؛ فهو قد يعبر تارة عن فساد في اللغة أو الذوق العام، أو عما لا يستقيم مع القواعد المألوفة في هذه اللغة أو هذا الذوق،
2
وهو تارة أخرى يدل على ما ينافي العقل ويخرج عما يمكن الحكم عليه بالخطأ أو بالصواب. والأساس المنطقي في الأمرين واحد؛ فالخروج عن قواعد اللغة هو في الوقت نفسه خروج عن قواعد المنطق التي تحكم هذه اللغة، والخروج عن قواعد المنطق يستتبع بالضرورة الخروج عن اللغة التي يحكم المنطق بناءها ويجعلها صالحة للتفاهم والتعبير؛ ففي استطاعتنا إذن أن نأخذ الكلمة بوجه عام للدلالة على ما يخالف العقل، وبوجه أعم على ما يعجز العقل عن أن يقرر في شأنه إن كان يخالفه أو لا يخالفه. وأعم من هذا وذاك وأشد غموضا إطلاق كلمة المحال في لغة كل يوم على ما يعتقد الإنسان أنه يخالف العقل، سواء في ذلك أكان الحديث عن لفظة أو فكرة أو إنسان.
3
ومن المألوف في حياتنا اليومية أن نطلق صفة الاستحالة على كل ما يتعارض مع ما نسميه عادة ب «العقل السليم»، وأن نبادر فنقول إن كل ما يناقض عاداتنا العقلية والفكرية، أو ما لا يدل على دلالة معينة تواضعنا عليها بحكم العقل أو حكم التقليد فهو محال. (ب)
أما في الفلسفة فنحن نفهم عادة تحت كلمة المحال ما يتعارض مع قوانين المنطق؛ فالفكرة «المحالة» فكرة لا سبيل إلى التوفيق بين عناصرها والتأليف بين أجزائها. والحكم «المحال» حكم يتضمن غلطا ينتهي به بالضرورة إلى نتيجة باطلة، ويكشف عن الفساد في بنائه الصوري. والمحال بهذا المعنى أعم من التناقض - الذي يجمع الضدين في حكم واحد وفي وقت واحد بالذات - وأقل تعميما من الخطأ والفساد؛ لأنه لا يدل على صدق ولا على كذب، وقد يدل عليهما معا في وقت واحد. (ج)
ولا يندر أن نقع في الكتابات الفلسفية وأشباهها على مثل هذه القضية: «العالم محال». ألا تعني هذه القضية أن العالم مجرد عن المعنى، أو أنه خال من كل غاية يمكن أن يهدف إليها الموجود من وجوده؟
لو أن الأمر كان كذلك لما كان في مثل القضية ما يستحق القليل أو الكثير من الكلام؛ لأنها ستترك عندئذ مجال العقل وتدخل في مجال العاطفة والانفعال. وقد تثير فينا ما تثيره صرخة نفس يائسة خاب ظنها في الحياة، ولكن العقل سيعرض عنها في كبرياء وسيجد أنها لا تستحق منه قليلا ولا كثيرا من العناء؛ فما أكثر ما تنطلق مثل هذه الصرخات من شفاه الحائرين والمعذبين، ومن فقدوا في عدالة الأقدار كل أمل ورجاء! وما أكثر ما سمعناها تتردد كالصدى الضائع المكتوم إثر كوارث الطبيعة في لشبونة أو أجادير، من أفواه أناس كانوا يقدسون التجانس والكمال في معبد الطبيعة فإذا بهم يقفون أمام أطلاله الخربة، ويرون بأعينهم ما آل إليه أفضل العوالم الممكنة! «كما تقول عبارة ليبنتس المشهورة». وسواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد، فإن مثل هذه العبارة المريرة «العالم محال، أو العالم لا معنى له» قد تدل على خيبة الأمل كما تدل على عدم المبالاة، ولكنها قد تعبر كذلك عن حال التوقف والانتظار، حيث لا يعني المحال الصدق ولا البطلان، ولا يدل على الخطأ ولا على الصواب.
فإن كان المحال لا يعني أمرا من بين هذين الأمرين اللذين لا يتعداهما الفكر بحال، وإذا كان من اللازم المحتوم لكل قضية أن تكون إما صادقة أو كاذبة ولا توسط بينهما - على نحو ما يقضي به المنطق التقليدي وما يقول به «الحس السليم» الذي نسير على هداه في حياتنا اليومية - فهل هنالك إمكانية ثالثة بين هذين الأمرين أو وراءهما؟ هل يمكن أن تكون هناك قضية لا يجوز عليها الصدق ولا الكذب، أو يجوز أن تكون صادقة وكاذبة في آن واحد، بحيث يمكن أن نطلق عليها اسم المحال؟
Unknown page
ذلك ما نود الآن أن ننظر فيه من وجهة نظر المنطق، تاركين المحال ودلالاته المختلفة عند كامي إلى حين، لنقف وقفة قصيرة عند الأزمة التي نشبت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن بين المناطقة والرياضيين، وهي التي تعرف باسم «أزمة الثالث المرفوع». (2) المحال والمنطق: أزمة قانون الثالث المرفوع
لا يشك اليوم اثنان في أن هناك في مجال الفكر العلمي الدقيق ظاهرات تتعدى حدود التصورات التقليدية في المنطق الصوري، والرياضة والفزياء الكلاسيكية. وظاهرة المحال هي إحدى هذه الظاهرات التي لا تنطبق عليها قوانين المنطق التي صاغها أرسطو، والتي أدت إلى الأزمة المعروفة بأزمة «الثالث المرفوع».
فمن المعروف أن أرسطو قد حدد مبدأ الثالث المرفوع في كتاب العبارة بقوله بأن الموجود إما أن يكون أو لا يكون، ولا توسط بينهما؛ لأن الأمر مع ما لا يكون ولكن يمكن أن يكون أو لا يكون يختلف عنه مع ما يكون.
4
وهذه العبارة تلخص المبدأ المنطقي القديم الذي يقوم على أساسه بناء المنطق كله؛ فالقضية إما أن تكون صادقة أو كاذبة، وليس هناك حل ثالث؛ أي إنه يستحيل عليها أن تكون صادقة وكاذبة في وقت واحد، كما يستحيل عليها ألا تكون صادقة ولا كاذبة في وقت واحد أيضا. ومن الواضح أن هذا المبدأ الذي يطلق عليه في المنطق اسم الثالث المرفوع هو النتيجة الضرورية المترتبة على مبدأ عدم التناقض، الذي يقول إن القضية لا يمكن أن تكون صادقة وكاذبة في آن واحد وبنفس العلاقة.
ومن المعلوم أيضا أن مبدأ الثالث المرفوع يلعب دورا هاما فيما يسمى بمنطق السلب أو النفي. وربما ترجع أهميته في السنوات الأخيرة فيما ترجع إليه إلى الأزمة التي أثارها بين أصحاب النزعة الصورية
Formalism
وأصحاب النزعة الحدسية
Intuitionism
في الرياضة الحديثة، وبين نظريات المنطق الحديث ذي القيم المتعددة، بل في المراحل الأخيرة التي تطورت إليها الفزياء، وبخاصة فيما يتصل بعلاقة هيزنبرج الشهيرة التي تسمى عادة باسم علاقة عدم التحدد أو عدم الدقة.
Unknown page
5
إن المنطق التقليدي يتبع مبدأ عدم التناقض بمبدأ الثالث المرفوع؛ فبينما يقول مبدأ عدم التناقض في صورته العامة بأن الحكمين المتعارضين لا يمكن أن يكونا صادقين في وقت واحد، نجد مبدأ الثالث المرفوع يؤكد أن الحكمين المتناقضين لا يمكن أن يكونا فاسدين معا. فإذا كان الحكم س هي ب حكما فاسدا، فإن الحكم س ليست هي ب حكم صادق بالضرورة، أو إذا كان الحكم «س ليست هي ب» حكما فاسدا، فإن الحكم «س ي ب» حكم صادق بالضرورة.
6
أي إننا نستطيع أن نعبر عن مبدأ الثالث المرفوع على هذه الصورة؛ بين الصدق والفساد، بين التأكيد والنفي، لا يوجد ثمة مكان لإمكانية ثالثة.
وجدير بالذكر أن الجدال حول استبعاد هذه الإمكانية الثالثة بين الصدق والفساد أو إفساح مكان لها أمر قديم يرجع إلى ما قبل ظهور أشكال المنطق ذي القيم المتعددة، كما يسبق النقد الذي وجهه الرياضيون أنفسهم في مطلع هذا القرن إلى مبادئ التفكير الرياضي؛ فجون ستيوارت مل يلاحظ
7
أن بين الصدق والكذب دائما ما يوجد مجال لإمكانية ثالثة يسميها باللامعنى.
8
أما عالما المنطق الشهيران ج. ه. برادلي
9
Unknown page
وت. ن كينز فيجيبان بأن القضية التي تعبر عن المحال قضية متناقضة في ذاتها، وأن مبدأ الثالث المرفوع إنما ينطبق على القضايا وحدها؛ ولذلك فإن «إما-أو» التي تقرر بحسب تعريفها صدق القضية أو كذبها ليس فيها أدنى تحفظ، ولا يمكن أن تسمح بأية استثناء. ويسأل القارئ نفسه: ألا يمكن أن توجد إلى جانب «نعم أو لا» التي يتطلبها مبدأ الثالث المرفوع إمكانية ثالثة تسمح ب «نعم ولا» أو لا تسمح لا بالنعم ولا باللا؟! سؤال محير يرفضه المنطق التقليدي أصلا، ولا يجد مجالا لمناقشته. إنه يستبعد الإجابتين معا، فإذا وجد امرؤ أنه مسوق إلى إحداهما فإن الرأي عنده أن السؤال قد أسيء وضعه، وأنه قد ترك نفسه ينزلق إلى اختيار بين موقفين كلاهما فاسد ومرفوض؛ لذلك كانت كل مشكلة يواجهها العقل تلزمه بأن يجيب عليها نفيا أو إيجابا، وأن يصفها بالصدق فيقبلها أو يدمغها بالبطلان فيطرحها جانبا، مدفوعا في ذلك بالتقابل القاطع بين الصدق والكذب وبين الصحة والفساد-صدق أو كذب، نعم أو لا، هنا نجد ثنائية الإيجاب والسلب التي تؤلف نسيج الفهم والتفكير بوجه عام.
أدى تطور العلوم الطبيعية منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى إعادة النظر في المسلمات الرياضية وفي الأسس التي تقوم عليها الفزياء الرياضية مما أدى بدوره إلى إثارة الجدل حول مبدأ الثالث المرفوع ومدى انطباقه على المجالات الجديدة التي لم يكن المنطق التقليدي يعرف عنها شيئا.
فالمنطق الذي تسير عليه العلوم الطبيعية الحديثة كما نسير عليه في حياتنا اليومية بطريقة تلقائية هو المنطق التقليدي أو منطق القيمتين. أما المكتشفات الجديدة التي هزت كيان العلم فقد كان لا بد لمواجهتها من تجاوز منطق الثالث المرفوع إلى منطق ذي قيم متعددة، يسمح على الأقل بإيجاد قيمة متوسطة بين اللا والنعم، وبين الصدق والكذب. وقد أفضت إلى هذه المباحث المنطقية صعوبتان تسببت إحداهما عن المفارقات التي قابلها التفكير الرياضي في نظرية المجاميع، وفي مشكلة اللامتناهي، والأخرى فيما يسمى بمنطق الكم التي استلزمت ضرورة تعديل قوانين الميكانيكا (ومن المعروف في تاريخ المنطق الحديث أن هانز ريشنباخ هو الذي طبق منطق القيم المتعددة على ميكانيكا الكم).
أما فيما يتصل بأزمة الأسس التي تقوم عليها الرياضة فهناك اتجاهان متقابلان، لكل منهما وجهة نظره في مشكلة الأساس الذي تقوم عليه الرياضة، اصطلح على تسمية أحدهما ب «الحدسية» (ومن أشهر المنادين بها بروور وديفوش) والآخر ب «الشكلية أو الصورية» التي تبني الفكر الرياضي على مجموعة المسلمات البديهية. ومجمل النزاع الذي نشب في العشرينيات من هذا القرن يمكن التعبير عنه في هذا السؤال: هل تقوم الرياضة على أساس حدسي أم على أساس صوري؟
10
والحقيقة أن هذه المشكلة في جوهرها مشكلة فلسفية، والنزعتان المتعارضتان فيها تكشفان عن تأثير صراع قديم محتدم في مجال الفلسفة نفسها. ولما لم يكن في استطاعتنا أن ندخل في تفاصيل أزمة أسس الرياضة من وجهة نظر علمية بحتة، لافتقارنا إلى التخصص الدقيق من ناحية، واقتصارنا على الجانب الفلسفي وحده من ناحية أخرى، فسوف نكتفي بالكلام عن مبدأ الثالث المرفوع وحده، وعن الأزمة التي عاناها في السنوات الأخيرة وأدت بالبعض إلى الشك في صلاحيته صلاحية مطلقة، والنقد الذي وجه إليه من جانب النزعة الحدسية الرياضية ومن أصحاب المنطق المتعدد القيم.
إن نقطة البدء الأساسية عند أصحاب هذه النزعة الحدسية هي الشك في صلاحية مبدأ الثالث المرفوع لأن يطبق على المجموعات الرياضية غير المتناهية.
11
ويمكننا أن نسوق مثلا من ذلك للتعبير عن رأي بروور في هذا الصدد.
فلو سلمنا بأن أعداد المتتالية الحرة
Unknown page
12
غير المتناهية (ف) هي كما يلي: 1، 6، 28، 3، 9، 11 ... فسيكون في استطاعتنا في هذه اللحظة أن نقول عن هذه المتتالية إن «ف تحتوي على العدد 9»، ولكننا لن نستطيع أن نقول عنها «إنها تحتوي العدد 4» ولا أن نقول إنها «لا تحتوي على العدد 4»؛ ذلك لأننا لا نستطيع في هذه الآونة أن نصدر حكما قاطعا بذلك. يبدو إذن أن مبدأ الثالث المرفوع، الذي يقضي بأن يكون أحد الحكمين المتناقضين صادقا والآخر كاذبا، لا يصلح في ميدان المتواليات العددية غير المتناهية صلاحية مطلقة، بل يسمح ببعض الاستثناء؛ فالحكمان الآتيان: (1)
يوجد في المتتالية (ف) عدد له خاصية (1). (2)
جميع أعداد المتتالية (ف) لهم الخاصية (1).
ليس لهما حكم مضاد يناقضهما مناقضة حقيقية؛ أي إن نقيضهما المبني بناء صوريا خالصا لا يخضع لمبدأ الثالث المرفوع؛ إذ ليس له معنى موضوعي ملموس. والحكمان النافيان لهما: (1)
لا يوجد في المتتالية (ف) عدد له خاصية (1). (2)
لا تحتوي جميع أعداد المتتالية (ف) على الخاصية (1).
يحتويان على معنى موضوعي واضح بالنسبة للمتتالية الحرة ف؛ فكلا الحكمين يشير إلى موقف لا يمكن القطع فيه بشيء؛ إذ لا يمكن في حالة المتتالية الحرة - وهي تختلف عن المتتالية التي تحددها قوانين معينة - أن نتنبأ بالأعداد التي قد ترد فيها، ولا يمكن لذلك أيضا أن نقطع بأن عددا من الأعداد ذات الخاصية (1) لن يظهر فيها. وإذن فإمكانية ظهور استثناء على نحو من الأنحاء الموجودة، غير أننا لا نستطيع أن نقرر بشكل محدد إن كان هذا الاستثناء سيصبح أمرا واقعا.
13
فالقضية الفاصلة
Unknown page
Disjunktion «إما أن يوجد في المتتاليات الحرة عدد له الخاصية (أ) أو لا يوجد» ليست قضية فاصلة حقيقية؛ وعلى ذلك فإن علينا، كما يرى بروور، أن نفسح مجالا لعدم القطع بالنسبة للقضايا المتعلقة بالمجاميع اللامتناهية. ويترتب على ذلك أيضا أن تحسب حساب إمكانية ثالثة بين القضية القائلة: «يوجد عدد له الخاصية (أ)» وبين القضية التي تنفيها وتقول: «لا يوجد عدد له الخاصية أ». وبذلك يحتمل مبدأ الثالث المرفوع الاستثناء، كما يفلت اللامتناهي من تطبيق هذا المبدأ عليه، وتظل القضايا التي تعبر عنه وراء الصدق والكذب جميعا. لا بد إذن من أن نسلم بوجود قيمة منطقية ثالثة، سيصطلح على تسميتها بالمحال. أو بتعبير أدق، ما لا يمكن البرهنة على صدقه ولا على كذبه؛ إذ إن الكذب لا يعد نقيضا للصدق إلا حيث يكون التحقق منهما ممكنا.
14
ولا بأس هنا من أن نذكر حكاية المفارقة الطريفة التي يمثل بها العالم المنطقي بروور للموقف الحرج الذي وجد الرياضيون والمناطقة أنفسهم فيه، وهي الحكاية المعروفة بحكاية العمالقة المنطقيين؛ فقد كان هؤلاء العمالقة يسكنون جزيرة نائية، ويقتلون كل غريب يسوقه سوء حظه إلى شواطئها. لقد كان على كل غريب أن يجيب على سؤال معين يوجهه العمالقة إليه. وسواء أكانت الإجابة صادقة أو كاذبة فلم يكن له مفر من أن يضحى به على مذبح الصدق أو مذبح الكذب. وذات يوم يوجه العمالقة كعادتهم سؤالهم الخالد إلى أحد الغرباء: ماذا سيكون مصيرك؟ ويجيب الغريب قائلا: سوف يضحى بي على مذبح الكذب. ويفاجأ العمالقة وتشيع الحيرة بينهم. لقد اكتشف الغريب الإجابة التي تفلت من تقابل الأضداد وتتجاوز الصدق والكذب جميعا، وتتعدى بذلك مبدأ الثالث المرفوع. لقد أعجز العمالقة الحكم على إجابته بالصدق أو بالكذب، وفوت عليهم فرصة التضحية به على أحد المذبحين!
وقد وضع المنطقي إ. هايتنج
15
منطقا اقتدى فيه بأنموذج المنطق التقليدي، ولكنه استبعد منه مبدأ الثالث المرفوع؛ فهو منطق ذو قيم ثلاثة؛ ما يمكن البرهنة على أنه صدق، وما يمكن البرهنة على أنه كذب، وما لا يمكن البرهنة على صدقه أو كذبه، ويعبر عن هذه القيم في حساب القضايا المنطقية على هذا النحو العددي: صادق = 1، كاذب = 0، لا صادق ولا كاذب = 1. والنتيجة الهامة المترتبة على ذلك هي نبذ المساواة التقليدية في القيمة بين الإيجاب والنفي المزدوج، بحيث لا يبقى لمبدأ عدم التناقض، الذي يقوم كما رأينا على مبدأ الثالث المرفوع، غير قيمة واهية؛ إذ يمكن للنفي المزدوج في هذه الحالة أن يتعلق بالقضية الصادقة أو بالقضية التي لا سبيل للبرهنة على صدقها أو كذبها سواء بسواء.
أما ريشنباخ فقد ذهب مذهبا آخر، لقد أراد أن يدخل على المنطق حساب احتمالات يسلم فيه بقيم ثلاث: 1، 0، 1 / 2 حيث تكون 1 / 2 هي القيمة المنطقية غير المحددة. هذه القيمة الثالثة هي النتيجة المترتبة على فزياء الكم، أو بعبارة أدق على علاقة عدم التحدد التي قال بها هيزنبرج. وبذلك يكون المنطق التقليدي الذي وضع أرسطو بناءه المتكامل، وظن الفلاسفة إلى عهد «كانت» أنه لا يمكن إضافة شيء جديد إليه، أقول يصبح هذا المنطق التقليدي مجرد حالة خاصة من حالات منطق الاحتمالات، لا يراعى فيه الاحتمالان المتطرفان، ونعني بهما الاحتمالية اللامتناهية، أو اليقين، واحتمالية الصفر أو الكذب (وقريب من هذا محاولات ج. ل. ديفوش في إقامة منطق عام يضع فيه الأساس المنطقي للفزياء الحديثة).
والحق أن محاولات أصحاب المنطق ذي القيم الثلاث (بل وأصحاب المنطق ذي القيم المتعددة إلى ما لا نهاية له من القيم مثل لوكازيفتش وأتباعه) لها ما يبررها من الواقع العلمي الحديث؛ فالموقف الحاضر في العلم الطبيعي في الرياضة والفزياء على السواء، قد لفت أنظار العلماء إلى مراجعة الأسس التي يقوم عليها المنطق وتعديل شكلها التقليدي، وإعادة النظر في مجموعة المسلمات البديهية التي يقوم عليها الفكر، وبخاصة بعد أن تبين لهم من نتائج البحوث في بعض فروع الرياضة والفزياء والرياضية أن بعض البديهيات الواضحة لم تعد من البداهة والوضوح بما كانت عليه من قبل. وليس هنا مكان التعرض لهذه المشكلات وتتبع تطورها منذ احتدام أزمة الأسس الرياضية إلى اليوم. إن ما نريده لا يتعدى الإشارة إلى الفكرة الرئيسة التي قدح بها بروور ومدرسته شرارة تلك الأزمة، وإلى إمكانية وجود قيمة ثالثة بين الصدق والكذب من وجهة النظر الصورية البحتة؛ أي صلاحية مبدأ الثالث المرفوع كمبدأ ومثال منطقي. (أ)
فبالنسبة للأعداد التي لم تحدد بعد في متتالية حرة (ف) مثل 1، 6، 28، 3، 9، 11 ... تكون القضية القائلة إن «ف تحتوي على العدد 4» قضية مستحيلة وخالية من كل معنى مثلها في ذلك مثل القضية الأخرى القائلة «إن ف لا تحتوي على العدد 4».
16
Unknown page
والقضية الوحيدة التي يمكن أن تقال فيكون لها معنى هي هذه القضية: «المتتالية ف يمكن أن تحتوي على العدد 4 ويمكن ألا تحتوي عليه»، وإذن فكل ما نستطيع قوله من وجهة النظر الصورية هو ما يلي: كل مقولة عن متتالية حرة وكل مقال منفصل يخالف معناها فهي مقولة متناقضة في ذاتها. (ب)
يرفض بروور مبدأ الثالث المرفوع باعتباره المبدأ الذي تقوم عليه كل معرفة. وهجومه عليه، وإن يكن له ما يبرره من الناحية الموضوعية، لا ينصب في الحقيقة على مبدأ الثالث المرفوع
Tertium non datur
بمعناه المنطقي الخالص. يقول بروور: «في رأيي أن مسلمة الحل (يعني بذلك المسلمة التي تقول إن كل مشكلة رياضية فهي قابلة في أساسها للحل، وهذه المسلمة تقوم بدورها، في النزعة الرياضية الصورية، على صحة مبدأ الثالث المرفوع) ومبدأ الثالث المرفوع كلاهما فاسد، وقد نشأ الاعتقاد بهما من الناحية التاريخية من استخلاص المنطق التقليدي من رياضة المجاميع الجزئية لمجموعة متناهية بذاتها، ثم إعطاء هذا المنطق بشكل قبلي وجودا مستقلا عن الرياضة وتطبيقه أخيرا بغير حق - على أساس هذه القبلية المزعومة - على رياضة المجاميع غير المتناهية.»
17
وبروور بهذا الزعم يسيء فهم المنطق الأرسطي في منشئه ومعناه، وهو الذي أراد به أن يثبت دعائم العلم الحق والتقنين المضبوط، ويقع في الخطأ الذي نصادفه كثيرا لدى الرياضيين وأصحاب المنطق الرياضي؛ فالواقع أن الأمر هنا يتعلق بصحة التصورات المنطقية لا بنظرية المجاميع المتناهية، لقد استخلص أرسطو الصورة المنطقية مستجيبا في ذلك للحاجة إلى تدعيم التفكير التصوري وتأمينه ولنزعته الأصلية لكل ما هو شكلي وصوري. وحين أراد أن يضرب الأمثلة لما يقول لم يستطع لسوء الحظ أن يستغني عن الاستعانة بالعيانات الكمية، مما أدى إلى بعض اللبس في أقواله.
18 (ج)
إن مبدأ عدم التناقض والثالث المرفوع مبدآن صحيحان صحة مطلقة بالنسبة لكل ما هو موجود؛ أي بالنسبة لما هو كائن أو لما يمكن أن يكون. وهما بذلك يقومان على أساس جوهر الموجود نفسه وطبيعته. وقد لاحظ أرسطو بنفسه أن مبدأ الثالث المرفوع يتعلق بالحاضر والماضي، وبذلك يمكن للإيجاب والسلب أن يكونا صادقين أو كاذبين. أما في مجال الممكن والمستقبل - ما بقيت أسبابهما مجهولة - فلا يمكن لإيجاب ولا سلب أن يحكم في شأنهما بالصدق أو بالكذب «لأن الأمر فيما يتعلق بما لا وجود له، ولكن يمكن أن يوجد أو لا يوجد، يختلف عنه فيما يتعلق بما هو موجود.» كما تقول عبارة أرسطو التي أوردناها من قبل. (د)
كثيرا ما يساء استخدام مبدأ الثالث المرفوع وتطبيقه في أفكارنا اليومية وتأملاتنا المنطقية؛ فكم من أحكام تواجهنا نجدها حقا متقابلة تقابل الضدين، حتى إذا أمعنا النظر فيها وجدنا أن مبدأ الثالث المرفوع لا ينطبق عليها ولا يصح لها؛
19
Unknown page
فقولنا مثلا إن «جوته شاعر من شعراء العاصفة والاندفاع»،
20
وقولنا إنه «ليس شاعرا من شعراء العاصفة والاندفاع». وقولنا إن «الحصان أبيض» أو إنه «ليس بأبيض» أمثلة مختلفة لأحكام لا تحتوي على تضاد ولا انفصال حقيقي؛ ولذلك فكلاهما فاسد من وجهة النظر المنطقية الخالصة؛ فالقضية الأولى تنطبق على جوته في مرحلة من مراحل تطوره العقلي والفني، ولكنها لا تنطبق عليه في مرحلته الكلاسيكية أو مرحلة شيخوخته المتأخرة. وكذلك الشأن في القضية الثانية؛ فالحصان قد يكون أبيض في الجبهة، أسود الساقين، بحيث يمكن القول عنه إنه أبيض وأسود في وقت واحد. غير أننا لو توخينا الدقة لوجدنا أن هناك أوصافا معينة بذاتها أو أضدادها هي التي يمكن لها وحدها أن تطلق على شيء معين في نقطة مكانية وزمانية بعينها. وهنا لا بد من اتباع مبدأ التفرد بكل دقة وتحديد الواقع المكاني والزماني تحديدا تاما لكي يمكن التحقق من القضية التي نقولها عنهما بعد ذلك؛ فجوته في مثالنا السابق يمكن في مرحلة زمنية معينة أن يكون شاعرا من شعراء العاصفة والاندفاع أو لا يكون، كما يمكن للحصان في نقطة معينة من جسمه أن يكون أبيض أو أسود، ولكنه لا يمكن أن يحتمل الاثنين معا في آن واحد ومن جهة واحدة.
وإذن فمبدأ الثالث المرفوع يصلح لأن يطبق على الأحكام المتضادة بحق (مثل أ هي ب، وأ ليست هي ب) لا على الأحكام المتقابلة تقابلا عكسيا بحيث يمكن أن يكون كلا الحكمين فاسدين في وقت واحد، كما يمكن أن يقوم بينهما حكم ثالث. وإذن فالاعتراضات التي يوجهها بعض الرياضيين والمناطقة إنما تنطبق على الفصل
Disjunktion
الفردي لا على مبدأ الثالث المرفوع بما هو كذلك. (ه)
ما أهمية هذه القيمة الثالثة التي تحدثنا عنها إذن، والتي لا ينطبق عليها الصدق ولا الكذب، وقد تكون مع ذلك صادقة وكاذبة في وقت واحد، هذه القيمة التي نطلق عليها أوصافا مختلفة، فنصفها حينا بأنها تلك التي لا يمكن البرهنة عليها أو تحديدها، ونصفها حينا آخر بالمحال؟ الواقع أن هذه الكلمات إن كانت قد احتفظت حتى الآن بمعنى حدسي يزيد على طابعها التقليدي، فإنها لا تدل في الواقع على قيمة منطقية، بل على استحالة التوصل في بعض الأحوال إلى تحديد دقيق للقيمة المنطقية، فهل يجوز لنا أن نجعل من افتقاد القيمة المنطقية قيمة؟ ربما كان هذا الحل مريحا من الناحية الشكلية الخالصة، ولكنه لن يغير من الموقف الأصلي في شيء؛ فهذه القيمة الثالثة تدل في حقيقة الأمر على العجز عن تقرير الصدق أو الكذب في أحوال معينة. إنها تعبر، كما قلنا من قبل، عن موقف لم يقطع فيه بشيء، وفي مثل هذا الموقف لن يكون مبدأ الثالث المرفوع هو المبدأ الوحيد الذي لا بد من طرحه والاستغناء عنه، بل إن القدرة على المعرفة هي نفسها التي ستتعطل وتصاب بالبلبلة أو الجمود.
21 (و)
لا يمكن أن يكون مبدأ الثالث المرفوع مبدأ خاطئا. ومع ذلك فقد يكون من واجبات المعرفة في لحظة من لحظات تاريخها أن تسمح على الأقل في بعض الظروف بوجود قيمة ثالثة إلى جانب قيمتي الصدق والكذب أو التأكيد والنفي لقضية من القضايا. ولا يصح أن يؤدي هذا الاستثناء إلى طرح مبدأ الثالث المرفوع. إنها تبين حدوده وحسب. فمثال المعرفة، الذي يجد التعبير عنه في هذا المبدأ المنطقي، لا يصح النيل منه أو الانتقاص من شأنه. إن عليه أن يحتفظ بكل ما فيه من دقته وإحكامه. ومع ذلك فإن من الواجب أن نضيف أنه ينبغي تطبيقه بحذر، وأن الفكر ليس قادرا على تطبيقه في جميع الأحوال. ولقد اعترف بذلك أحد المناطقة التقليديين أنفسهم، وهو برادلي؛ حيث يقول: «إن مبدأ الثالث المرفوع على الرغم من أهميته وضرورته، ليس صادقا صدقا مطلقا. إنه يفترض عالما منفصلا يتألف من وقائع غير مترابطة، وحقيقته نسبية ومقصورة على الواقع كما هو ماثل في مثل ذلك العالم.»
22 (ز)
Unknown page
ربما دار في خلد القارئ بعد هذه الملاحظات التي سقناها عن مشكلة المحال في المنطق الحديث أن في استطاعتنا أن نبحث عن طبيعة المحال عند كامي، وهو الذي يهمنا في هذا المقام بوجه خاص، بطريقة منطقية صورية. غير أننا سنتبين من الفصل القادم أن الأمر على خلاف ذلك تماما، وأن المحال عند كامي لا يمكن أن يفهم إلا بطريقة ديالكتيكية-وجودية. ونود قبل أن نتعرض لذلك بشيء من التفصيل أن نقرر هذه الحقائق التي انتهينا إليها من حديثنا السابق فيما يتعلق بالبناء المنطقي للمحال: (1)
المحال إمكانية ثالثة بين الصدق والكذب، أو التأكيد والنفي، أو النعم واللا؛ فهو قد يدل على ما ليس بصادق ولا كاذب، كما قد يدل على ما هو صادق وكاذب في آن واحد. (2)
إن إمكانية وجود المحال لا يصح أن تؤدي إلى نبذ مبدأ أساسي من مبادئ المعرفة الإنسانية، ألا وهو مبدأ الثالث المرفوع، بل ترسم حدوده وتبين ظروف صلاحيته أو عدم صلاحيته. إن من حق الفكر، بل من واجبه، أن يبحث إمكانياته وحدوده، ولكن معرفة الحد لا يصح أن تؤدي إلى تغيير المطلب الأساسي الذي ينشده العقل في الحقيقة، بل الأصح من ذلك أن نقول إن مبدأ المعرفة نفسه هو الذي يشعرنا بوجود الحد؛ فالثنائية التي يقوم عليها كل فهم وكل معرفة، ونعني بها ثنائية الصدق والكذب والإيجاب والسلب، لا بد من أن تظل قائمة لا تمس، وكل مساس بها إنما يكون على حساب الفهم والمعرفة أنفسهما. (3)
وقد يكون من الأنسب أن نوجه المشكلة وجهة جديدة لعلها أن تفيدنا في الفصول القادمة، وذلك بأن نقدم مشكلة المعنى على مشكلة القطع في أمر الصدق أو الكذب. وسوف نرى فيما بعد أن قضيتين كهاتين: «العالم له معنى»، و «العالم ليس له معنى» ليستا في الحقيقة قضيتين متضادتين ولا يعبران عن فصل حقيقي؛ فالواقع أن المعنى في مثل هذه القضية: «العالم لا معنى له» إنما يكمن في خلوها من المعنى؛ فهي إذن لا تمثل القضية المناقضة للقضية التي تقول: «إن للعالم معنى»، ولا يمكن لهذا السبب أن تمتحن على أساس منطقي «صوري». (4)
يمكننا أن نصف المحال بأنه ما لا سبيل للبرهنة عليه. إنه يدل - إن صح أن له دلالة على الإطلاق - على حال من الانتظار والتوقف عن الحكم؛ أعني أنه لا يدل على موقف نهائي. إنه نوع من السلب النسبي، يحتوي في داخله على بذرة الإيجاب.
الفصل الأول
المحال
(1) المحال (أ)
بدايات المحال. (ب)
منشؤه وتحديد طبيعته. (ج)
Unknown page
نماذج المحال. (د)
هل سيزيف سعيد؟ (أ) بدايات المحال
لم يستمد كامي فكرته عن المحال من مرجع ولا كتاب. لقد بدأ الإحساس «بمحالية» الوجود الإنساني يتسلل إلى قلبه وهو بعد طفل صغير. كانت مجموعة من «الصور» الأساسية الواضحة - كما يسميها بنفسه - نبعت من عالم طفولته، وعلمته كيف يتجرد من الوهم، والتعود، ويواجه لغز الحياة والموت بكل ما فيه من غرابة وقسوة وإعتام. إنه البؤس، والشيخوخة، والصمت، والليل الوحيد الطويل يقضيه إلى جانب فراش أم محبوبة ولكن ما أبعدها عنه، ورحلات شاب وحيد بلا مال ولا هدف، وأناس يتحركون كالظلال ويتكلمون ويتعذبون، ويكشفون - وإن لم يشعروا هم أنفسهم بذلك - في حركاتهم وأصواتهم وعذابهم عن العدم في أنقى صورة.
في لحظات العري هذه، عندما تختفي كل فكرة نحتمي بها، ويتبدد كل سند عقلي نتذرع به، ينساب جمال الأرض سرا إلى النفس كانسياب الموجة، ويرد الوجود الإنساني «المحال» - ولم يكن كامي قد عرف الكلمة بعد - إلى العدم.
هنا
1
نستطيع أن نتلمس بدايات المحال. إنه قريب من العدم، الذي راح يدق على الباب دقات رقيقة متباعدة، ولكنه ليس ذلك العدم الرهيب الذي يدعونا إلى الموت. ليس ذلك البحر الغامض المعتم الذي تحدثنا نفوسنا في بعض الأحيان أن نهوي في لجته، مدفوعين برغبة النفي التي لا تقهر، والذي سيضعنا فيما بعد أمام مشكلة الانتحار، أهم وأخطر المشكلات الفلسفية جميعا وأكثرها جدية. إن «المحال» الذي نشعر به الآن أقرب ما يكون إلى الحالة النفسية التي يحس فيها الموجود كأنه في «فراغ».
الأم المريضة الصامتة قد عرفت هذا «العدم» الخالي من كل عزاء: «كان يحدث أن يسألها سائل: «فيم تفكرين»؟ فتجيبه قائلة: «في لا شيء». وقد كان هذا صحيحا، كان كل شيء هنا؛ أعني لا شيء.»
2
عبثا نفتش عن طبيعة هذا العدم الوجودية أو المنطقية. إنه لا يعدو أن يكون إحساسا معتما عاريا من كل عزاء، ينتابنا في بعض الأحيان، وقد نسميه في السطور القادمة باسم «المحال». وليس «المحال» الذي نقصده هنا سوى اسم آخر نطلقه على الشعور بالغربة، بالهوة المظلمة التي تفصل الصبي عن أمه التي لا سبيل إلى القرب منها.
Unknown page
3
إنه هذه اللحظة التي خرجت عن حدود الزمان،
4
وتجمع فيها كل شيء ولا شيء، نعم ولا. إنه، بكلمة واحدة، الصمت الذي يتضح فيه كل شيء.
5
في هذا النسيج المعتم من مشاعر الصبي الحساس سنجد ما سوف نؤكده فيما بعد، سنجد جانبي النور والظل، حب الحياة واليأس من الحياة، الإيجاب والسلب، النعم واللا مجتمعين في وحدة لا تنفصم. وهنا سنتعرف أيضا على ما سوف نسميه ب «أخلاق المحال»، التي ستجعل شعارها «عش كما لو ...» والتي سنجدها في «أسطورة سيزيف» في بناء محكم من التصورات؛ فها هو كامي يقول في كتابه الأول: «لا أريد أن أختار بين جانب النور وجانب الظل في هذا العالم.» و«إن الشجاعة الحقة في ألا نغمض عيوننا أمام النور ولا أمام الموت «...» عندما أنصت للتهكم (ضمان الحرية الذي يتحدث عنه باريه) الذي يكمن في قرارة الأشياء، أجدها تتكشف لي شيئا فشيئا. إنها تطرف بعينيها الناصعتين الصغيرتين وتقول: عيشوا كما لو ...»
6
7 (ب) منشؤه وتحديد طبيعته
إذا كنا نتحدث عن تحديد طبيعة الشعور بالمحال فلا ينبغي أن يفهم من ذلك أننا نريد أن نفسره تفسيرا عقليا، أو نضعه في نسق مرتب من تصورات الفهم والإدراك . إن محاولتنا لن تتعدى تتبع النتائج التي تنجم عن هذا الشعور. وسيكون المعيار الذي نحتكم إليه هو الصدق الذي يقتضي من الإنسان أن يسلك بما يتفق مع هذا الشعور.
8
Unknown page
فأنا أستطيع من الناحية العملية، أن أحدد جميع الأحاسيس اللامعقولة التي لا تقبل التحليل، ومن بينها الإحساس بالمحال، وأن أتعرف على قيمتها العملية، وذلك بأن أضم مجموعة الظواهر المترتبة عليها في نظام عقلي واحد، وأحاول فهم الصور التي تتجلى فيها وأقومها وأترسم عالمها.
9
ولما كانت المعرفة على اختلاف صورها مستحيلة عند كامي،
10
فسوف نلجأ إلى منهج التحليل، نحصي بواسطته الصور التي يظهر بها الشعور بالمحال ونصف عالمها ونتعرف على جوه.
فالشعور بالمحال شعور مفاجئ، غير منتظر، مجرد عن كل عزاء. قد يباغتنا عند منعطف شارع، وقد يستولي علينا ونحن نباشر أكثر أعمالنا اليومية سخفا. إنه تجربة شخصية وحيدة، لا سبيل إلى توصيلها للآخرين.
هذا الشعور بالمحال قد يرجع إلى أسباب كثيرة، أول ما يؤكده كامي منها هو طابع الآلية الذي تتسم به حياتنا التي نعيشها كل يوم: «يقظة، ترام، أربع ساعات في المكتب أو المصنع، طعام، ترام، أربع ساعات من العمل، طعام، نوم، اثنين، ثلاثاء، أربعاء، خميس، جمعة، سبت، دائما وأبدا نفس الإيقاع. لقد طالما كان هذا طريقا مريحا.»
11
هذا الإيقاع الآلي الرتيب الذي تسير عليه حياتنا اليومية يقابله إيقاع آلي آخر ينتظم أفعالنا وسلوكنا؛ فليس اللامعنى من حولنا فحسب، ولكنه كامن كذلك في نفوسنا؛ فالإحساس بالضيق وعدم الارتياح الذي تثيره فينا لاإنسانية الإنسان قد تسببه ملاحظة عادية نراها كل يوم ولكننا لا نلتفت إليها إلا على حين فجأة: «إنسان يتحدث في التليفون ووراء حائط زجاجي.» نحن لا نسمعه ولكن نرى حركاته وإيماءاته الخالية من كل معنى، ونسأل أنفسنا «لماذا يعيش؟» وهكذا نحيا حياتنا المتعبة ولا نلتفت إلى متاعبها، ونعيش أيامنا الرتيبة ولا ندهش لما فيها من رتابة، حتى يأتي يوم يستيقظ فيه الإحساس بالمحال فجأة وعلى غير انتظار، ليوقظ فينا الإحساس بالقرف والملال. بهذا «القرف»
12
Unknown page