وبعد أن قضينا في الراحة ساعة قمنا إلى السير، وأبيت أن أركب عندما سألني الفارس أن أفعل، بل شكرته وسرت على قدمي أتأمل ما قاله لي، وقلبت نظري في الريف وما فيه من جمال الطبيعة، وتمنيت لو كان أهل القرية بعض حيوان الحقل. لقد كانت قطعان الماشية ترعى في المرج الأخضر سمينة بيضاء ناصعة أو صفراء فاقعة، تسر النظر بما عليها من كسوة نظيفة حباها بها الله جل وعلا.
ومر وقت طويل وأنا سائر أفكر فيما يقع عليه بصري، حتى سمعت صوت صاحبي يناديني، فنظرت إليه فرأيته يشير بأصبعه إلى الأفق. وكان النهار قد انقضى إلا أقله، وأقبل الليل وأخذ النور يتضاءل، ولاحت على الأفق مدينة كأنها صورة رسمها صانع ماهر فوق طومار كاغد. وبعد قليل لمعت الأنوار تبص خافتة من بعيد منثورة على الأفق في غير نظام. وخفق قلبي عندما سمعت الفارس يصيح وهو يشير إلى المدينة «جانبولاد».
الفصل الثالث عشر
لم تدع لي الأيام الأولى من مقامي في جانبولاد فراغا للتفكير ولا للترفيه عن نفسي؛ فقد كنت في شغل شاغل من أمر حياتي الجديدة، وما ينبغي لي فيها من وسائل العيش. فاتخذت لي مسكنا في جوار صاحبي الفارس غرفة وفناء واسعا تسطع فيه الشمس من شروقها إلى غروبها. وأعددت فيه القليل من الأثاث، ولم أنس أن أبعث مع بعض التجار خبرا يطمئن أهلي في ماهوش، وأرسلت إليهم شيئا من الرزق الذي أصبته.
ولما استشعرت الاطمئنان إلى حياتي الجديدة، أخذت أدير عيني فيما حولي وأتحسس أحوال البلد الذي حللت فيه.
وجانبولاد مدينة عظيمة تجتمع فيها خيرات ريف خصب، وكانت من قبل تراثا لعلاء الدين سلطان ماهوش، ثم نزعها منه تيمور فيما نزعه من أرض السلاطين.
مسكين علاء الدين، إنني لا أذكره إلا ذكرت الدين والمكرمات جميعا. ولكن أبر السلاطين ليس في هذه العصور أقواهم وأعظمهم؛ لأن تيمور لم يدع عظمة لغير سفاح الدماء. وعلية ابنة علاء الدين، إن قلبي لم يخل يوما من صورتها، وما زالت تؤنس أحلامي في حلي وترحالي.
أيها القلب اتئد، فما من حيلة لك إلا أن تقنع بأطياف الأحلام، وما علية مما أنت فيه؟ ما هي إلا صورة، فلتقنع بصورتها ولتجعلها نجية وحي العلا.
قضيت الأيام في هذه المدينة أتعلم كل يوم معنى جديدا. ومن غريب أمر الإنسان أن يرى في البلد الأجنبي ما لا يراه في البلد الذي ولد وعاش فيه؛ فكل ما يحيط بالإنسان في بلده مألوف معروف، مع أنه قد يكون للأجنبي عجبا من العجب.
ولست أقصد هنا أن أصف أهل جانبولاد لأبدي فيهم رأيا؛ فمن ذا الذي نصب بعض الناس ليحكموا على البعض؟ لا، بل إني أحس في نفسي أشد الحاجة إلى عطف الآخرين علي وتغاضيهم عن عيوبي، فلست بمن يتلمس العيوب أو يعد السقطات. علمتني الحياة أن آخذ الناس كما أراهم، فهكذا خلقهم الله، وهكذا أراد لهم أن يعيشوا. إنهم من طين الأرض لا يستطيعون أن يكونوا من ملائكة السماء، وما أحرانا إذا رأينا العيوب أن يزيد عطفنا على أصحابها ورثاؤنا لهم؛ لأننا من البشر نحس ثقل الطين في طبعنا. وأكرم ما يستطيعه إنسان أن يملأ قلبه بالعطف على المخطئ والآثم؛ لأن هؤلاء أحوج إخوانه في البشرية إلى عطفه.
Unknown page