فقلت له حانقا: «ومن سألك أيها الأحمق أن تأتي بكل هذه؟» فانفجر الرجل كأنه أراد أن يفرغ كل غيظه في وقال صائحا: «خذ فاحمل. خذ أيها الكسول.» ثم جعل يدفع إلي واحدة بعد أخرى، وهو كلما أعطاني إحداها شتم شتمة جديدة ودفعني في يدي إذ يناولني. فلما فرغ منها انصرف عنا وهو يغمغم. وجعلت أحتال على طريقة أستطيع بها أن أحمل حملي، وقضيت في ذلك حينا أضعه في أشكال وأوضاع وهو ينفرط ويتساقط، حتى استطعت أخيرا أن أجمع كل كرنبتين على كتف وأمسك رأسيهما بيدي من أمام، ونظرت إلى الفارس منتصرا. فارتاح لما رأى وقال لي: «عفارم!» ثم ابتسم وهمز جواده وسار وسرت خلفه ولم يبق ثمة أمل في ركوبي.
لم نلبث أن أوغلنا في ريف جانبولاد، وكثر الناس على الطريق وفي الحقول، وكانوا كلما مر بي أحدهم نظر إلي نظرة طويلة يتأملني وأنا سائر وحملي يهتز فوق كتفي مع حركة جسمي، ثم يرفع كم ثوبه إلى وجهه ليخفي تحته ضحكته. فكنت كلما مررت بواحد منهم نظرت إليه، حتى إذا رأيته يرفع كمه بادرت كذلك بضحكة، فترتفع على أثر ذلك قهقهة صريحة مرحة كانت ترن في أذني أحلى رنين. أيها الأشقياء من بني الإنسان، التمسوا الضحك كلما أحسستم بالرغبة في البكاء، التمسوا الضحك كلما شعرتم بدبيب اليأس بين ضلوعكم؛ فإن اليأس لا يلبث أن يذوب تحت نوره الساطع.
هذا أمر مجرب عرفته من طول ما قاسيت في الحياة.
واقتربنا بعد حين من قرية، وكانت الشمس قد علت في كبد السماء واشتد الحر، فتحرك الفارس في سرجه ونزل إلى ظل شجرة في جانب ساقية على مقربة من القرية، واخترت لنفسي مكانا معتزلا، وجلست أنظر إلى الحقوق وإلى الناس ممن يذهبون إلى القرية أو يخرجون منها.
ثم تنبهت على صوت صاحبي يناديني: «هو. ألا تسمع؟» وكان إلى ذلك الوقت لم يسألني عن اسمي. فعذرته في جفاء ندائه لي، ونظرت إليه مستفهما. فأشار إلي بيده أن أذهب إليه، ثم قال: «ألم تجع بعد؟» وكنت بغير شك جائعا، فهززت رأسي أن نعم، وحسبت أنه كان يخفي طعاما في موضع لم أره، فقال لي: «إذن ماذا نفعل؟» ففاجأني سؤاله ولم أحر جوابا. أيسألني أنا عما نفعل؟ وهل سرت وراءه من ماهوش لأدبر له طعامه؟ ونظرت إليه والعجب مرتسم على وجهي، فأعاد قوله: «ألا تسمع؟ ماذا نفعل؟» فقلت له: «إذا لم نجد أكلا فلا يمكن الأكل.» فلم يعجبه ردي وقبض وجهه وأطرق قليلا، ثم رفع رأسه باسما وغمز بعينه مشيرا نحو القرية. فثارت في نفسي شكوك كثيرة، وهززت رأسي مستفهما. فضحك وقال: «اذهب إلى هناك، فالتمس لنا طعاما.» وكأن حجرا قد أصاب رأسي عند ذلك، فتراجعت أترنح وصحت: «ماذا؟» فأعاد علي قوله وإيماءته وبسمته، فزادت حيرتي. إن أهل القرية كثيرون يبلغون المئات أو الألوف، وقد عجزت عن صاحب حقل الكرنب وحده، فما بالي بهؤلاء جميعا؟ واستقر رأيي على الإباء. ولم يكن الجوع شاقا علي؛ فقد تعودت صوم رمضان، فلن أعجز عن صيام يوم واحد. ولكن الفارس صاح بي: «ماذا يؤخرك عن السير؟» فتجرأت وقلت: «إنني لا أملك نقودا.» فنظر إلي نظرة فيها ازدراء، ولكنه سكن لحظة يفكر، ثم لمعت عيناه وقال متحمسا: «عفارم! خذ هذه فبعها واشتر بثمنها.» وأشار إلى الكرنب. فسمرت في موضعي ولم أتحرك؛ إذ كانت هذه أخت الأخرى، ولا خيار بين البيض الفاسد. فلما رأى الرجل أنني لا أتحرك قام وهزني من كتفي هزة عنيفة وصاح بي: «هو، لا تضيع الوقت.» فلم أجد بدا من الطاعة، وحملت الكرنب وسرت به نحو القرية. فلما دخلتها وجدت جدرانا من الطين قد رصت رصا ليس فيها سوى فتحات صغيرة أذكرتني بيوت الدجاج. ورأيت الدواب تخرج منها فحسبتها حظائر الماشية جعلت في طرف من القرية. ولكني كلما سرت لم أر إلا جدرانا متشابهة، ورأيت الناس يدخلون ويخرجون منها بثيابهم المتربة وعيونهم الرمصاء. مساكين هؤلاء، هل يكون بينهم من يشتري الكرنب؟ وسرت حتى بلغت آخر القرية، فوجدت براحا من الأرض فيه أطفال يلعبون بكرة يتقاذفون بها. وكنت أحب الأطفال منذ خلقني الله، ولا أرى منهم أحدا حتى أذكر ولدي عجيبا وجميلة. ما كان أشوقني إليهما، وما كان أشد حنيني إلى رؤيتهما! لقد تركتهما منذ يومين طويلين كأنهما دهر من الدهور، وكنت لا أدري كيف أمسيا ولا كيف أصبحا، ولا أعلم هل أصابا عشاء أم فاتهما العشاء والإفطار. الله لهما من حبيبين، فهو أشفق عليهما مني وأبر بهما. وتقدمت نحو الأطفال وأنا أمسح دمعتي، ووقفت أنظر إليهم وشفتاي تختلجان وقلبي يخفق.
كم كان في هؤلاء من أمثال ولدي؟ وهل كان فيهم من تركه أبوه وهاجر من القرية كما هاجرت؟ مساكين هؤلاء الأبرياء، كانوا يلعبون في أسمالهم البالية، ويفركون أعينهم الرمصاء بأيديهم الملوثة. وتأملت وجوههم الشاحبة. لقد كانت جميلة لو امتلأت لحما ودما. ونظرت إلى أقدامهم السوداء، لم تكن سوداء وإنما هو الطين الكثيف الذي كان يغطيها بلونه الكالح القاتم. مساكين هم، ما كان أظرفهم في تواثبهم وتضاحكهم وتعابثهم! وتحركت نفسي إليهم فلم أملك أن اندفعت نحوهم لكي أشاطرهم ما هم فيه، وأعلمهم كيف يسددون الرمية؛ فقد كنت في صباي عميدا للصبيان في لعبهم. وما كدت أقترب منهم حتى سددت إلي الكرة من يد أحدهم، فوقعت في صدري وصدمتني صدمة كدت أصرخ من ألمها. لم تكن كرة، علم الله، بل قطعة من الطين اليابس القاسي. فوقفت ووضعت الكرنب على الأرض لأمسح ما علق بثيابي من الوسخ، وما كاد الشياطين يبصرونني أفعل هذا حتى علا ضحكهم وأقبلوا علي يصفقون ويستعدون لكي يتخذوني هدفا لقذائفهم. فخشيت على نفسي وحملت الكرنب مسرعا ورجعت من حيث جئت وأنا أسمع تناديهم وتضاحكهم وتحريض بعضهم بعضا على أن يسرعوا لتسديد قذيفة جديدة ليدركوا مني متعة أخيرة قبل منصرفي. وكان قلبي مع ذلك لا يزال يخفق حنينا إليهم عندما بلغت أقصى الميدان وبعدت عن مدى رمايتهم.
عدت بعد ذلك إلى نفسي وذكرت الكرنب والفارس، وجعلت أفكر في طريقة أحمل بها من يستطيع الشراء من أهل القرية على شراء سلعتي، فتذكرت الباعة في وطني ماهوش وهم ينادون على سلعهم بالأسجاع والنغمات المطربة، ويصفونها وصفا شعريا يحببها إلى الشارين. فجعلت أنادي على الكرنب وأتغنى به وأستعير له كثيرا من صفات الزهر والعطور والحرير. ولست أدري ما الذي حمل أهل القرية على أن يجتمعوا حولي ويضحكوا كلما سمعوا ندائي، كأنني كنت أناديهم لأضاحكهم. ومضى وقت طويل وأنا أسير والناس يسيرون من ورائي نساء وصبية وشبانا، ولم يتقدم أحدهم للشراء حتى يئست وعزمت على الرجوع خائبا. ولكني فكرت في ثورة صاحبي إذا عدت إليه بغير طعام، فنظرت إلى الجمع الذي كان حولي وسكت عن الغناء، وقلت لهم بكلام ساذج: «ألا يريد أحد في هذه القرية أن يشتري كرنبة مني؟» فضحكوا جميعا، واقتربت مني عجوز فقالت ضاحكة: «فعل الله لك، هل تريد بيعا؟ لقد كنا نحسب أنك تغني إعجابا بخضرك.» فأجبتها منكسرا: «أسأل الله لك الستر يا أماه، لم يكن بي إعجاب، بل لقد ضقت بها وثقلت على كاهلي، وإنما غنيت ليشتري الناس مني على عادة قومي في ماهوش.» فضحكت وضحك سائر من حولي وتصايحوا فيما بينهم: «غريب غريب.» وتواثبوا إلي من كل ناحية يقلبون ملابسي ويجسونها ويمسحون أيديهم عليهم، وجعلوا يمطرونني بالأسئلة عن وطني، ومتى جئت وإلى أين أذهب. ولم أستطع أن أجيب عن شيء من ذلك كله، بل شعرت بضيق شديد وصحت بهم في شيء من الضجر: «هذه كرنبات فاشتروها مني بدريهمات أشتري بها طعاما.» وكأنهم سمعوا مني مزاحا، فصاحوا ضاحكين وقالت إحدى البنات: «غن لنا مرة أخرى يا عم.» فغضبت ونظرت إليها في ألم وكدت أصيح صيحة أخرى مؤنبا، ولكني سمعت من ورائي صوتا ينادي: «عفارم!» فعرفت الصوت ونظرت إلى ورائي في فزع وأردت أن أشكو إلى الفارس ما لقيت، ولكني رأيت وجهه يتحرك بالغضب، ورأيت شاربه يهتز كشارب القط إذا كشر، ولم أدر إلا وقد اقترب مني وأخذ الكرنب فألقاه على الأرض في عنف، فتحطم وتطايرت أجزاؤه وتناثرت أوراقه الرطبة البيضاء، ثم صاح في وحشية: «ما هذا؟»
وما كاد الجمع يراه حتى انفض من حولي، فجرى النساء والصبية وهم يصرخون، وانصرف الرجال يتلفتون إلى وراء. فقلت له وقد غضبت: «ماذا؟» فصاح بي صيحة لم أفهم معناها، ثم مضى إلى أقرب منزل فطرقه وخرجت إليه امرأة فأمرها أن تحضر له طعاما، فأسرعت داخلة إلى الدار ولم تبطئ حتى جاءت إليه بما عندها من خبز وجبن وبيض. وما كان أشد عجبي عندما رأيت المنازل المجاورة كلها قد فتحت، وأقبل الناس منها يسعون زرافات ووحدانا، وكل منهم يحمل شيئا في يديه أو في صفحة أو قرطاس، وأخذت أجمع ما يأتون به حتى لم أدر كيف أحمله. وسار الفارس في كبرياء إلى خارج القرية عائدا إلى ظل الشجرة، وسرت وراءه أحمل ما استطعت حمله في يدي، وسار الناس من ورائنا في موكب يحملون ما جاءوا به حتى بلغنا مجلسنا، فألقوا ما معهم وهم يتأدبون ويظهرون المودة، ثم ساروا سراعا كأنهم يلتمسون النجاة. ووالله لو كنت وحدي لقضيت النهار كله في سير، ولعدت آخر النهار بمعدة خاوية.
أكلنا هنيئا ، ثم جلسنا نتسامر، وقد عادت أخلاق صاحبي إلى الموادعة، ولم أتمالك أن سألته: «أيعرفك أهل هذه القرية؟ إنهم قد أكرموك حقا.» فقال وهو يضحك: «إنهم لا يعرفون إلا هذه الريشة.» ثم طأطأ رأسه وهز ريشته الزرقاء، وقال وهو يبتسم ابتسامة هادئة: «إذا أردت أن تعيش فاعرف كيف تعيش. خذ ما تستطيع قسرا. اعرف كيف تأمر ثم تملأ جيبك. املأ جيبك ما استطعت، ثم سر رافعا رأسك. خذ ضريبتك أنى وجدت إليها سبيلا.»
نعم هكذا الدنيا، وقد كانت هدايا المساكين منذ القدم ضريبة.
Unknown page