وبكلمات أخرى قليلة، حكى لي قصته مع شلبي الذي لم يكن مجرد مساعد له أو عضو في عصابته، ولكنه كان صديقه وأخلص خلصائه، صداقة بدأت بخناقة في سوق الأربعاء ... واستمرت عشر سنوات، ووصلت إلى حد أن سلم له الغريب نفسه واسمه وماله، وهو مؤمن أنه يسلمها لصديق ... صديق لم يشك في إخلاصه، حتى ذلك اليوم الذي واعده فيه على اللقاء عند نفس الساقية التي تركناه فيها من هنيهة. والتي وجد نفسه بعدها محاصرا بخمسين بندقية ميري، وبمسدس الضابط فوق رأسه. لم يداخله الشك ساعتها، بل حتى لم يشك حين أخذوه هو في «البوكس»، وتركوا شلبي ... أنى له أن يعرف أن الحسد كان يأكل قلبه طوال هذه السنين، وأنه ظل يدبر الخلاص منه ليستولي على العصابة، وعلى ما هو أهم من العصابة ... على وردة ... وأنه هو الذي اتصل بالمأمور ودبر معه الخطة؟
لم يكن الغريب يحكيها كحكاية ... كان كأنما ينزف أو يتألم ... وفي أحيان كان يسكت، ثم يقول فجأة وهو يطحن أسنانه بأسنانه: دا الطاقية اللي كان لابسها ليلة الساقية طاقيتي، اشتريتها باتنين جنيه من واحد عرباوي، وعجبته فحلفت أن يأخذها.
ويضحك فجأة ويقول: إنت عايز الحق ... الحق مش هو اللي غلطان. آني الغلطان ... بقى عايز في صنعة اللي بيشتغلوا لصوص وقتالين قتلة تتوجد خلصانية ولا صداقة؟ مفيش كلام من ده ... في الليل كل واحد ونفسه ... واللي يسلم دقنه لغيره، ما يلومشي على اللي يصح له.
ثم يلتفت إلي مرة ويحكي لي كيف دبر مقتل شلبي بنفس الطريقة التي دبر بها شلبي تسليمه ... وفي نفس المكان تقريبا ... وبنفس السلاح ... الصداقة والإخلاص ... فالخفير خفير العزبة التي فيها وردة، وقد اندفع شلبي لصداقته والإغداق عليه، ليتركه يحوم حول وردة، ويدبر معه أمر خطفها، تلك الليلة بالذات كانت موعد الاختطاف، وكان شلبي والخفير جالسين ينتظران مقدم رجلين آخرين من العصابة، ومعهما المطايا لتنفيذ الخطة. والشيء الذي لم يعرفه شلبي أبدا أن الخفير باع سره للغريب ... والشيء الذي لم يعرفه الخفير أبدا أن الأمر سيحسم بالبلطة.
وبينما الغريب يتكلم وأنا مندمج أسمع كلامه، كان خاطر يلح علي إلحاح الناموسة: ترى ماذا يقول أبي الذي لا يفوته الفرض، لو تكشف له الغيب للحظة، وعرف ما أفعله ساعتها وما شاهدته، والرجل الذي أسير خلفه، وبحديثه أغوص في ذلك العالم الشاذ الغريب، وألم بتفاصيل أتفهها يخلع القلب ويوقف الشعر؟
وربما إلحاح الخاطر هو الذي شغلني عن أن أدرك أننا كنا طوال الوقت قريبين من عزبة وردة، وأننا قد أصبحنا على أبوابها.
وربما هو أيضا الذي صرف أنظاري عن الغريب، بحيث لم أفطن إليه؛ إلا وقد جلس وجذبني من جلبابي وقال: بص كده مش ده دم؟
وحين أمعنت النظر كانت يده بالفعل تقطر دما. وكلما تحسس فخذه وأخرجها تكاثر الدم، وحين عراها ظهر الجرح ... جرح بشع متهتك، وكأن شيطانا مسعورا قد نهش فخذه.
إحدى ضربات البلطة لا بد قد أفلتت وأصابته، وهو يخلص على شلبي.
13
Unknown page