لعبة البيت
الشيخ شيخة «أ» الأحرار
أحمد المجلس البلدي
شيء يجنن!
آخر الدنيا
الستارة
الغريب
لعبة البيت
الشيخ شيخة «أ» الأحرار
أحمد المجلس البلدي
شيء يجنن!
آخر الدنيا
الستارة
الغريب
آخر الدنيا
آخر الدنيا
تأليف
يوسف إدريس
لعبة البيت
شب سامح على أطراف أصابعه ونط ودق الجرس، وسمع صوتا طويلا ممدودا يقول: مين؟ فاحتار وخاف وسكت.
وفتح الباب، ووقفت على عتبته سيدة ضخمة مهيبة، ترتدي قميص نوم خفيفا جدا، لونه أصفر باهت كقشر الليمون. ووجم سامح وكاد يجري، ولكنه تماسك، وعرف أن التي فتحت هي أم فاتن، رغم وجهها الخالي من المساحيق.
وقبل أن يحدث أي شيء، ابتسمت له السيدة ابتسامة كبيرة وانحنت ناحيته، وقالت: يوه ... هو انت يا حبيبي؟! ... أنا رخرة قلت مين اللي بيضرب الجرس ده ومالوش خيال ... عايز إيه يا حبيبي؟ عايز الهون؟ ... ماما بتعمل كفتة؟
ولم يجب سامح في الحال ... مد بصره من خلال وقفة الأم العريضة وقميصها الشفاف، وما بقي من الباب في فراغ، محاولا أن يرى فاتن ... ولكنه لم يجد لها أثرا؛ لا في الصالة، ولا في الحجرة القريبة المواربة للباب، ولا بجوار الراديو تعبث بمفاتيحه.
وقال بجرأة منقطعة: عايز ... عايز فاتن تلعب معايا.
وضحكت الأم، وانحنت وقبلته وقالت: كده؟ طيب حاضر يا حبيبي.
وانبسط سامح، وانبسط أكثر حين التفتت إلى الخلف، ونادت: فاتن. سيبي الغسيل أحسن تبلي هدومك ... وتعالي ... تعالي علشان تلعبي مع ابن أم سامح.
ثم التفتت إلى سامح قائلة: بس اوع تزعلها يا حبيبي ... لحسن مخليهاش تلعب معاك بعد كده أبدا.
وقال سامح بحماس وعيون صغيرة ذكية تبرق: إن زعلتها يا تانت، ما تخليهاش تلعب معايا تاني.
فقالت أم فاتن وهي تتركه وتستدير: وما تنساش تسلم لي على مامتك، وتقول لها ما بتزرناش ليه؟
ثم دخلت السيدة إلى الحمام، وهي تهتز وتتدحرج.
ووقف سامح يترقب ظهور فاتن ويتأمل الصالة، كان فيها ترابيزة سفرة مثل صالتهم، غير أن كراسيها قديمة موضوعة فوق الترابيزة. وكان هناك كرسي غريب الشكل مسنده عال جدا، يحتاج إلى سلم للصعود عليه، والكرسي ترقد فوقه قطة ذات ألوان جميلة، ملفوفة على نفسها ونعسانة. وظهرت فاتن فجأة، وكأنما خرجت من تحت الأرض، ترتدي فستانها الأبيض القصير الذي يرتفع ذيله عن الركبة، وتوجهت إلى التسريحة الموضوعة في الصالة، وانحشرت بينها وبين الحائط، ثم أخرجت سبتا صغيرا مثل الأسبتة التي يباع فيها حب العزيز، غير أنه مصنوع من البوص، وعلقت السبت في يدها، واتجهت إلى الباب حيث يقف سامح، وابتسم لها سامح وسار في اتجاه السلم، وتبعته فاتن.
وفي منتصف السلم قال لها فجأة: إن كنت جدعة امسكيني قبل ما اوصل باب شقتنا.
وجرى أمامها فوق الدرجات، ولكنه حين لم يسمعها تجري خلفه توقف، وقال: إخيه عليكي ... مش قادرة تجري ورايا يا خايبة؟
فقالت وفي ملامحها ثبات وتأفف ورزانة: أنا محبش الجري ده.
وتضايق سامح قليلا من تأففها، ووقف ينتظرها وهو معلق بدرابزين السلم، ونصفه خارج عنه.
ودخلا الشقة من بابها المفتوح، وتأكد سامح أن أمه مشغولة في المطبخ؛ إذ كانت لا ترحب أبدا بإحضاره فاتن ليلعب معها ... وعبر سامح الصالة وفاتن وراءه، وعيناها لا تغادران السبت المعلق في يدها.
وأصبحا في الحجرة الداخلية ذات السرير الحديدي القديم والدولاب والكنبة.
وقال سامح وهو يهلل ويشير إلى ما تحت السرير: أهو ده بيتنا ... أهو ده بيتنا ... يلا بقى نعمل بيت.
ورفع داير السرير الأبيض الذي يحيط به من كل الجهات، ودخل تحت السرير، ودخلت فاتن وراءه ... وبينما بقيت هي على رزانتها، بدأ سامح يصنع زيطة كبيرة، ويصرخ ويدور ويهلل، ثم أخذها إلى ركن السرير الداخلي؛ حيث صندوق الشاي القديم الذي يحتوي على كل ممتلكاته وألعابه الخاصة ... مجموعة كبيرة من علب السجائر الفارغة، وأغطية الكازوزة، وأرجل كراسي مصنوعة بالمخرطة، وعلب تونة وسالمون بمفاتيحها، وقطع صغيرة كثيرة من أقمشة جديدة متعددة الألوان سرقها من درج ماكينة الخياطة. وجر الصندوق وأخذ يستخرج محتوياته ويفرج فاتن عليها ... وبدأت الرزانة تغادر فاتن، فجلست على الأرض وتربعت، وأخذت تخرج من «سبتها» لعبها هي الأخرى وممتلكاتها وتفرجه عليها.
وفي هذه المرة أيضا أعجب سامح بالحلة الألومنيوم الصغيرة، والوابور البريموس الصغير، وترابيزة المطبخ التي في حجم علبة الكبريت. واستكثر على فاتن أن تكون هي مالكة هذه اللعب الجميلة كلها ... ثم انتابته الخفة والحماسة، فقام وأخذ ثلاثة ألواح خشبية كانت ساقطة من «الملة» القديمة، ومضى يضعها على حدها، ويقسم بها ما تحت السرير إلى أقسام، وهو يقول: دي أوضة السفرة ... ودي أوضة النوم ... وده المطبخ. وبدأت فاتن تنقل أشياءها إلى المطبخ، ووضعت الترابيزة في ركن ووضعت فوقها الوابور، ثم وضعت الحلة فوقه، وقالت: احنا اتأخرنا قوي ... نطبخ إيه النهارده؟!
فقال سامح في حماس: نطبخ رز ... يلا نطبخ رز!
وما لبث أن غادر تحت السرير في الحال وجرى إلى المطبخ، حيث ادعى لأمه أنه يبحث عن كرته المفقودة في الدولاب، وعاد وقبضته الصغيرة مضمومة وموضوعة في جيب بنطلونه، وحين أصبح تحت السرير فتحها، ووضع محتوياتها من حبات الأرز القليلة في الحلة.
وقالت فاتن وهي تتنهد: إنت تروح الشغل وأنا أطبخ.
فقال سامح: أروح الشغل إزاي؟
فقالت: مش انت تروح الشغل ... وأنا أطبخ؟
فقال: إييه؟ ... إنتي عايزة تلعبي لوحدك؟ ... يا نطبخ سوا سوا يا بلاش.
فقالت فاتن: لا يا سيدي ... هي الرجالة تطبخ؟ ... إنت تروح الشغل وأنا أطبخ ... يا كده يا بلاش.
فقال سامح: دي بواخة منك دي ... عايزة تطبخي لوحدك، وتقوليلي روح الشغل؟ والله مانا رايح.
واحتقن وجه فاتن غضبا وقالت: طب هه.
وأنزلت الحلة من فوق الوابور، ووضعتها في السبت.
فقال سامح بغضب: هاتي الرز بتاعي ... هو بتاعك؟
فأخرجت فاتن الحلة ... وقلبتها على الأرض ... وقالت: رزك أهه. جك قرف.
ونشبت خناقة حادة ... وكل يحاول أن يجمع حوائجه، هذه لي وليست لك ... وشتمته ولعنت أباه، وغضب سامح ودفعها، فسقطت منها العروسة ... وأخيرا جمعت فاتن أشياءها، ووضعتها كلها في السبت الصغير، وعلقت السبت في يدها، ورفعت داير السرير واختفت.
واغتاظ سامح كثيرا وهو يراقبها، وتمنى لو يلحقها قبل أن تغادر شقتهم ويضربها ... بنت مثلها صغيرة ومفعوصة تريد أن تمشي عليه كلمتها. دائما تغيظه هكذا كلما لعب معها، وكل مرة يلعب معها فيها يصمم ألا يعود للعب معها ... في المرة القادمة سيضربها بالقلم لو فتحت فمها ... ولكن لا ... لن تكون هناك مرة قادمة ... لن يلعب معها أبدا حتى لو أحضرتها أمها ورجته أن يلعب معها ... بنت مفعوصة ذات سن أمامية مكسورة تغضب لأتفه سبب، وما أسرع ما تعلق سبتها في يدها وتتركه! ... هي حرة، وحتى هو ليس في حاجة إليها ليلعب ... يستطيع أن يلعب وحده ولا الحوجة إليها.
وهكذا بدأ سامح يحاول أن يلعب لعبة البيت وحده، فراح يقيم الحواجز الخشبية التي هدمتها الخناقة، ويكلم نفسه بصوت عال، وكأنه يريد أن يقسم نفسه إلى قسمين أو شخصين يلعبان معا، أحدهما يتكلم والآخر يسمع. ومضى يقول: ودي أوضة السفرة، وده المطبخ ... نطبخ إيه النهارده؟
وأجاب على نفسه: رز.
ولكنه غير رأيه بسرعة وقال: لأ ... فاصوليا.
وفكر أن يذهب ويسرق فاصوليا من المطبخ، ولكنه لم يجد لديه حماسا كافيا لتنفيذ الفكرة ... كان قد بدأ يدرك أنه يضحك على نفسه حين يقسم نفسه قسمين يلعبان مع بعضهما ... وبدأ يتبين أنه يلعب وحده فعلا، وبدا حينئذ كل شيء ماسخا وقبيحا إلى درجة أنه لم يعد يصدق أن ما تحت السرير بيت كما كان منذ دقائق مضت ... بدأ يرى الألواح الخشبية مجرد ألواح، والدواية التي كان ينوي استعمالها حلة مجرد علبة ورنيش فارغة. لم يعد ما تحت السرير بيتا، ولا عادت الألواح الخشبية حجر نوم وجلوس وسفرة.
واغتاظ سامح ... فمن دقائق قليلة، وحين كانت فاتن تلعب معه، كان يعتقد فعلا أن المطبخ مطبخ، والصالة صالة، وحجرة السفرة حجرة سفرة. لماذا حين ذهبت وأصبح وحده بدأ يرى كل شيء سخيفا مختلفا، وكأن لعبة البيت لا تنفع إلا إذا لعبها مع الست فاتن؟!
وفي غمرة غيظه غادر ما تحت السرير، بل غادر الحجرة كلها، ومضى يلف في الصالة يبحث لنفسه عن لعبة أخرى يتسلى بها ... وفي درج مكتب أبيه الأخير عثر على حنفية قديمة، استغرب كيف كانت موجودة طوال هذه المدة في ذلك المكان، ولم يعثر عليها سوى اليوم. أخرج الحنفية ومضى يفتحها ويغلقها وينفخ فيها، ومضت في ذهنه فكرة: لماذا لا يستعملانها هو وفاتن في لعبتهما، فيركبها في رجل السرير، ويصنع لها حجرة صغيرة، وتكون هي الحمام؟ ألا يصبح حينئذ كالبيوت الحقيقية؟ ولكن ... لا ... إنه لن يلعب أبدا معها، حتى ولو جاءت من تلقاء نفسها، وحاولت تلعب معه ... سوف يقول لها بكل احتقار: جاية هنا ليه يا باردة؟ روحي يلا على بيتكم.
وطبعا هي لا بد قادمة عما قليل، فهي الأخرى لن تجد أحدا تلعب معه.
وانتظر سامح أن تأتي، ولكنها لم تأت، وتذكر حينئذ كيف كانت غلبانة، وهي تنحني وترفع داير السرير والسبت معلق في يدها ... كانت غلبانة صحيح. لماذا لا يذهب ويصالحها؟ وذهب إلى الباب وفتحه، وتلفت هنا وهناك، ولكن الطرقة كانت خالية وليس فيها أحد.
وعاد مغموما إلى الحجرة الداخلية، واتجه إلى السرير ونظر من الفرجة الكائنة بين الداير الأبيض والمرتبة ... بدا ما تحت السرير واسعا جدا وخرابا، والألواح الخشبية ولعبه وأشياؤه المبعثرة شكلها كئيب، وليس هناك أبدا أي أثر لذلك العالم الصغير الذي كان أحب إليه من كل عوالم الكبار وسيماته ومباهجه.
وترك الحجرة متضايقا وظل يدور في الصالة. وفجأة أحس أنه ضاق ببيتهم كله، وأنه يريد الخروج منه والذهاب إلى أي مكان ... وهكذا وجد نفسه واقفا في الطرقة خارج باب الشقة وحده. أمه تناديه وهو يكذب ويقول إنه ذاهب ليلعب مع الأولاد في الحارة.
وفي الطرقة بدأ يفكر ... لا بد أن فاتن ذهبت إلى أمها باكية، ولا بد أن أمها أخذتها وأغلقت عليها الباب، ولن تسمح لها أبدا باللعب معه مرة أخرى. إن أخوف ما يخافه لا بد قد حدث. يا له من غبي سخيف! لماذا أغضبها؟ لماذا لم يقل لها: أنا رايح الشغل أهه، ويصل إلى باب الحجرة مثلا ثم يعود ويقول لها: أنا رجعت م الشغل أهه. لماذا عاندها؟ وماذا يصنع الآن؟
وهبط درجات السلم تائها، محتارا، مترددا بين أن يهبط، ويحاول أن يجد طفلا من أولاد الحارة يلعب معه أسخف لعب؛ فهو لا يريد إلا أن يلعب مع فاتن لعبة البيت بالذات، وفاتن ذهبت إلى أمها ولن تعود أبدا، أو أن يصعد ويدعي لأمه أنه سخن ومريض. وحتى لم يجد في نفسه أي رغبة أو حماس لكي يهبط أو يصعد أو يتحرك من مكانه أو أي شيء. كل ما أصبح يتمناه من قلبه وهو يهبط درجة ويتوقف درجات؛ أن تزل قدمه رغما عنه فيسقط ويتدحرج على السلم، ويظل رأسه يتخبط بين الدرجات، وكل خبطة تجرحه وتسيل دماءه.
وحين وصل في هبوطه إلى باب شقة أم فاتن، كان الباب مغلقا ومسدودا، وكأن أصحابه سافروا أو عزلوا ... ألقى نظرة واحدة على الباب، ولكنها جعلته يحس بالرغبة في البكاء، ويسرع بالهبوط.
وقبل أن ينتهي السلم عند آخر بسطة، توقف حزينا حائرا، وكأن شيئا ثمينا جدا قد ضاع منه، وأخرج رأسه من درابزين السلم، وتركه يتدلى في يأس من حديد الدرابزين ... ومضى يجلس على الأرض، ويفرد ساقيه بلا أي اهتمام بملابسه أو بما يلحقها، ثم يقف فجأة وقد قرر أن يكمل الهبوط، ولكنه يجد نفسه قد عاد للجلوس وإدلاء رأسه من حديد الدرابزين. وكلما تذكر أنه لولا عناده لكانت فاتن لا تزال تلعب معه، وكلما تصور أنه قد حرم اللعب معها إلى الأبد، تمنى لو مرض فعلا أو مات، أو أصبح يتيما من غير أب أو أم.
ولم يصدق عينيه أول الأمر، ولكنه كان حقيقة هناك. على آخر درجة في السلم سبت فاتن الصغير نائما على جنبه، والحلة الألومنيوم ساقطة منه. وهبط السلالم الباقية قفزا، وتدحرج وعاد يقفز، وعلى آخر درجة وجد فاتن هناك ... هي بعينها جالسة ورأسها بين يديها، وكانت تبكي ودموعها تسيل، وسبتها الصغير راقد بجوارها، والحلة قد تبعثرت منه.
وأحاطها سامح بذراعيه واحتضنها، وراح يطبطب عليها بيديه الصغيرتين، ويقبلها في وجهها وشعرها، ويقول لها، وكأنه يخاطب طفلة أصغر منه بكثير ويصالحها، وهو فرحان؛ لأنها لم تذهب لأمها ولا اشتكت: معلش، معلش، معلش.
وجذبها برفق لينهضها، ونهضت معه بغير حماس، ودموعها لا تزال تتساقط ... دموع حقيقية. وأعاد الحلة إلى السبت وعلقه في يدها، ومضى يصعد بها السلم وذراعه حولها، وهي مستكينة إليه لا تزال تدمع وجسدها ينتفض، ولكنها لا تقاومه ولا تتوقف عن الصعود.
الشيخ شيخة
بلاد الله واسعة وكثيرة، وكل بلدة فيها ما يكفيها ... كبار وصغار، وصبيان وإناث، أناس وعائلات، ومسلمون وأقباط، وملك واسع تنظمه قوانين وتقض مضاجعه قوانين. وأحيانا يخرج للقاعدة شاذ، كالحال في بلدنا الذي ينفرد دون بلاد الله بهذا الكائن الحي الذي يحيا فيه، والذي لا يمكن وضعه مع أناس بلدنا وخلقها، ولا يمكن وضعه كذلك مع حيواناتها. وأيضا ليس هو الحلقة المفقودة بينهما ... كائن قائم بذاته لا اسم له، أحيانا ينادونه بالشيخ محمد وأحيانا بالشيخة فاطمة، ولكنها أحيان وللسهولة ليس إلا. فالحقيقة أنه ظل بلا اسم ولا أب ولا أم، ولا أحد يعرف من أين جاء ولا من الورثة ذلك الجسد المتين البنيان ... أما أن له ملامح بشرية فقد كانت له ملامح، كانت له عينان وأذنان وأنف ويمشي على ساقين ... ولكن المشكلة أن ملامحه تلك كانت تتخذ أوضاعا غير بشرية بالمرة، فرقبته مثلا تميل على أحد كتفيه في وضع أفقي كالنبات حين تدوسه القدم في صغره، فينمو زاحفا على الأرض يحاذيها، وعيناه دائما عين منهما نصف مغلقة، وعين مطبقة. ولم يحدث مرة أن ضيق هذه أو وسع تلك ... وذراعاه تسقطان من كتفيه بطريقة تحس معها أنهما لا علاقة لهما ببقية جسده، كأنهما ذراعا جلباب مغسول ومعلق ليجف.
وبشعر رأسه القصير الكثيف الخشن كالفرشاة تبدأ مشكلة تسترعي الانتباه ... فليس فيه علامات أنوثة، وهو أيضا يخلو من علامات الرجولة. وجسده ضخم ربع في سمك الحائط ومتانته، ولكن وجهه لا يحمل أثرا للحية أو شارب. وكان من الممكن أن يفصل صوته في نوعه ويضمه إلى دنيا النساء أو الرجال، لولا أنه كان لا يتكلم ولا يتحرك إلا إذا أوذي أو تألم. وحينئذ يخرج منه فحيح رفيع لا تستطيع أن تعرف إن كان فحيح أنثى أم ذكر، أو حتى فحيح آدمي أصلا.
وكان نادر المشي، وإذا مشى سار في خطوات ضيقة جدا، وكأنه مقيد. وهوايته الكبرى أن يقف ... يظل واقفا بجوارك أو أمام دكانك أو في حوش بيتك كالمذنب بلا ذنب، ساعات وساعات دون أن يخطر بباله أن يتحرك. ولا أحد يعرف كيف يأكل أو من أين، فالطعام إذا قدم إليه رفضه ... والبعض يؤكد أنه يقتات بالحشائش من الغيطان، وأن طعامه المفضل هو البرسيم، وأنه إذا شرب يشرب كالمواشي من الترعة. ولكنها أقوال، مجرد أقوال، ولم تبلغ الجرأة بأحد أن يزعم أنها رؤية عين.
وكائن كهذا لو وجد في أي مكان آخر؛ لرأى الناس فيه ظاهرة جديرة بالدراسة والأبحاث، أو على الأقل ينشر صورته في الجرائد والقيام معه بتحقيقات ... ولكن أهل بلدنا لم يكونوا يرون فيه كائنا شاذا أبدا، كل ما في الأمر أنه كائن مختلف. وما دام يحيا بينهم لا يؤذي أحدا ولا يجلب شرا لأحد، فلا اعتراض لأحد على حياته، وحرام أن يعترضه أحد، أو يحملق فيه إنسان، أو يسخر من وقوفه أو اعوجاج رقبته ساخر، فهكذا أراد الخالق. وإذا أراد الخالق فلا مناص من إرادته ... وليس على العبد أن يعترض على نظامه حتى إذا شذ النظام ... وكم شذ النظام حتى ليبدو الكون بلا نظام. وكم من مجذوب مهفوف ومشوه ومجنون ... والكل يحيا ولا بد أن يحيا الكل، ويضمهم ذلك الموكب الرهيب البطيء السائر بهم نحو النهاية حيث لا نهاية، كل ما في الأمر أن أهل البلد كانوا يعاملون الشيخ شيخة بنوع خاص من الرهبة ليست فيها تلك القدسية الممزوجة بالسخرية التي ينظرون بها إلى المجاذيب والأولياء، وليست فيها تلك الشفقة الممزوجة بالاشمئزاز التي ينظرون بها إلى المشوهين والمرضى. ربما رهبة النظر إلى شيء مخالف شاذ، يكشف بشذوذه عن كنه النظام الهائل الذي يلف الكون والناس، رهبة من النظام أكثر منها رهبة من مخالفة النظام. كان إذا جاء على قوم جالسين تحاشوا النظر إليه، وتعمدوا ألا يجعلوه يحس أنهم شعروا بوجوده . وقد يلقي عليه واحد أو اثنان نظرات عجلى مستطلعة، ولكن العيون لا تلبث أن ترتد، والألسنة لا تلبث أن تستمر فيما كانت فيه من حديث، بصرف النظر عن وقفته غير بعيد عنهم، وثبوته في مكانه ثبوت جذع نبت من الأرض فجأة ... وإذا جذب وقوفه الذي يطول انتباه الأطفال، والتفوا حوله يتأملونه بلا رهبة أو خشية من معصية الاعتراض، نهرهم الكبار، وتطوع واحد بالجري وراءهم حتى يغيبهم في شقوق البلدة وحواريها ... والويل لهم إذا فكر أحدهم في معاكسته، أو نغزه بعود قطن ليجعله يصدر ذلك الفحيح الغامض الرفيع.
وسنين طويلة قضاها الشيخ شيخة في بلدنا على هذه الحال، والناس قد أحلوه من كل واجبات الإنسان والحيوان والنبات، وتركوا له كل حقوقها. إذا شاء وقف كالنبات وتسمر، وإذا شاء فح كالحيوان، وإذا شاء تحرك من تلقاء نفسه كإنسان وإلى أي مكان يريد، لا يزجره أحد، ولا يعترض طريقه أحد. ويدخل أي بيت ويظل قابعا في أي ركن فيه ما شاء من الوقت، دون أن يضايق وجوده أهل البيت أو حتى يحسوا له وجودا. وكأنه يصبح إذا حل جزءا من المكان أو الزمان أو الأثير. تتعرى النساء أمامه، وكذلك يفعل الرجال، وتتحدث العائلات عن أخص شئونها في حضرته، وينام الرجل مع زوجته أو غير زوجته، وتدبر أمامه المكائد وتكتب البلاغات، ويقول الهامس للآخر حين يريد أن يطمئنه كي يفتح له صدره: قول يا أخي قول ... ما تخافش ... هو فيه إلا أنا وأنت والشيخ شيخة ... قول. •••
كل ما في الأمر أنه هناك بين كل بضع سنين وأخرى تنطلق إشاعة، خافتة واهنة لا تكاد تصل إلى الألسنة حتى تذوب فوقها وتتبدد ... مرة يقولون: إن ثمة علاقة مريبة تربطه بنعسة العرجة، فهي كثيرا ما تشاهد، وهي تبحث بعينيها في الليل عنه، وأحيانا تسأل عنه. وكثيرا ما رؤيت خارجة من الخرابة القريبة من الجامع، حيث كان يقضي معظم لياليه. وهي لا بد تعاشره ... في إشاعة، وفي إشاعة أخرى يقولون: إنه ابنها، وإنه جاء هكذا؛ لأنها حملت به سفاحا من أب فاسد الدم من رجال البندر، حيث كانت تذهب نعسة لتبيع الجبنة واللبن وأحمال الحطب في الفجر ... ويتردد الناس ألف مرة في تصديق أيهما؛ فنعسة تكاد بطلوع الروح تحسب على جنس النساء، فهي صلبة العود كالرجال، جافة الأخذ والرد متينة البنيان، تدخل العركة وتعور الرجال، وتخرج سليمة لم يصب جلبابها تقطيع. مات عنها زوجها وهي صغيرة فتحزمت بحزام الكادحين واشتغلت، وتقلبت في الكثير من الأعمال التي يزاولها النساء، ولكن طبعها كان إلى الرجال أقرب. وهو الذي حال بينها وبين الزواج، وهو الذي جعلها تستقر آخر الأمر في عملها الذي رشحتها له عضلاتها القوية وعظامها العريضة ... حمالة أحطاب وتبن وطحين وكل ما لا يستطيع وما لا يليق بالرجال أن يحملوه. وكل عدة شغلها «حواية» صنعتها من أثواب بالية، وخاطتها حتى أصبحت كالكعكة. وإذا وضعتها فوق رأسها تستطيع أن تحمل بها حمل جمل ولا تكل. وتمضي بحملها ثابتة الخطوة مختالة ترج الأرض، وتحدف عياقة بساقها، فيرن خلخالها الذي لم تفرط فيه ... ربما ليظل العلامة الوحيدة على أنوثتها، تلك التي تلتهم الأحمال الوعرة والعمل الشاق علاماتها واحدة وراء الأخرى ... وعيبها الوحيد أنها كانت إذا مشت فاضية بغير أحمال لا تعرف كيف تمشي، وتنط كالجرادة، وتتذبذب خطواتها بين هزات الأنثى ودغرية الذكر. ومن هنا سموها بالعرجة، سماها الرجل غيرة، وسمتها النساء استنكارا، وسماها الكل ظلما. أمن في مثل خشونتها يعاشر الشيخ شيخة؟ أو حتى يتصور أحد أنها كانت أما لابن ذات يوم، حتى لو كان الابن هو هذا المخلوق؟
ولكنهم يؤكدون ويقولون إنها بعد ولادته أخفته في نفس الخرابة التي يأوي إليها في كبره، وظلت ترضعه خفية وترعاه بعيدا عن الأنظار، ولم يخرج منها إلا وهو كبير بأسنان!
وفي عام يكثر الحديث عن ميوعة النساء وفسادهن، ويبلغ الأمر بالبعض أن يدعي أن بعض الجائعات والقاطنات في أطراف البلدة لا يجدن ما يشبعهن، فيلجأن إلى الشيخ شيخة وهن ضامنات صمته المطبق ولسانه الذي لن ينطلق.
ومرة سرت قصة تقول إن الشيخ شيخة ليس ابن رجل كبقية الآدميين ولكنه ابن قرد، وإن إحدى نساء بلدنا اللاتي أعياهن البحث عن الخلف، لجأت إلى غجرية، فوصفت لها «صوفة» تستعملها. واستعملتها ولحظها السيئ كان فيها نطفة قرد، جعلتها تحمل وتلد الشيخ شيخة، وتفزع منه ساعة ولادته، فتعطيه للغجرية، وتعطيها نقودا ثمنا لسكوتها ولكفالتها له. وتأخذ الغجرية المولود وتلف به في بلاد الله، ثم تعود به وقد كبر، فتتركه عند حافة البلدة وتمضي.
وفي العام التالي تسري قصة أخرى ضاحكة لتؤكد العكس، ولتهمس أن الشيخ شيخة ما هو إلا ابن عبده البيطار الذي يقص شعر الحمير ويقلم حوافرها ويركب لها «الحدوات» الحديد. والذي يشاع - والعهدة على الرواة - أنه من عشاق إناثها، وبالذات حمارة الشيخ البليدي المأذون، وأن الشيخ البليدي هو الذي تخلص من المولود؛ مخافة أن تلصق التهمة به، أو على الأقل بابنه الذي كانوا يشيعون أنه مصاب بنفس الداء.
أقاويل وقصص وإشاعات هشة وخافتة ومتباعدة، ولكنها لا تنقطع. وكأنما يؤكد بها الناس إصرارهم على محاولة تفسير هذا اللغز الحي؛ فلا بد لوجوده بينهم من تفسير وسبب؛ إذ لا بد لكل شيء من سبب، حتى الشيء غير المعقول لا بد لوجوده من سبب معقول، ولكنها إشاعات وحكايات لا تفسر ولا توضح ... وبعضها يقال للترويح عن النفس لا غير.
وكان من الممكن أن يظل الشيخ شيخة يحيا في بلدنا يمثل شخصية الحاضر الغائب والراكب الماشي والكائن غير الكائن، لولا أنه ذات ليلة من عام مضى جاء ولد من أولاد العبايدة يجري من ناحية الجامع ويلهث. وما كاد يجد الجمع الذي يسهر عند زقاق الطاحونة، حتى انهار يجلس بينهم ويرتجف ويغمى عليه. - ما لك يا ولد جرى إيه؟
قال بتهتهة العبايدة وحشرجتهم: إنتم بالكم إيه!
قالوا: إيه؟
قال: دا أتبن الشيخ شيخة بيسمع وبيتكلم زي البربند. - إزاي يا ولد؟ مش معقول ... دا من رابع المستحيل ... عرفت إزاي؟
والولد يقسم برحمة أبيه إنه كان فائتا من ناحية الخرابة، فسمع اثنين يتكلمان بصوت منخفض ما لبث أن ارتفع، فاقترب وإذا به يجد الشيخ شيخة يكلم العرجة، كلام مضبوط مثل كلام الناس، ولم يصدق نفسه، فاقترب أكثر، ولكن نعسة كشت فيه، فجرى وجاء يلهث ويرتجف ويروي الحكاية. •••
وطبعا لم يصدقه واحد من الجالسين ولا حتى من الذين سرى لهم الخبر، كلهم أجمعوا على أن كلام الولد تخريف في تخريف، وأنه لا بد قد أرعبته الخرابة فتصور ما تصور. أو من الجائز جدا أن المتحدثين كانا من الجان ... فهو احتمال أقرب كثيرا من أن يكون الشيخ شيخة يتحدث أو يتكلم أو يعقل الكلام. وهل من المعقول أن يخدعوا فيه كل هذه السنين الطوال؟ ثم ما فائدة أن يخدعهم وماذا يستفيد؟ ولأي شيء يعذب نفسه ويقف بالساعات وينام كالحيوانات ويحيا كالديدان؟
ولكن رغم قوة الحجج واستنكار الناس لصحة أي حرف مما قاله الولد، فرغما عنهم وبدون قصد راحت نظرتهم إلى الشيخ شيخة كلما رأوه أو تسمر قريبا من أحد مجالسهم ... راحت نظرتهم تختلط بتساؤل شاك بمجرد احتمال، ولو كان احتمالا غير معقول: ماذا لو كان كلام الولد صحيحا، وكان الشيخ طول عمره يرى ويسمع ويعقل كل ما دار ويدور أمامه؟
ما إن يطرق التساؤل الرءوس حتى تنتفض رافضة مستبشعة؛ فمصيبة كبرى بل فاجعة الفواجع لو صح القول ... هذه السنين التي قضاها يعامل معاملة الكائن المكاني الذي لا يرى ولا يسمع ولا يعقل، جعلته يرى من كل قاطن في القرية أحوالا وأسرارا لم تطلع عليها عين بشر. كل إنسان في البلدة يحيا كالسفينة، جزء منه فوق الماء ظاهر للعيان، وجزء تحت الماء لا يراه أحد. وحتى لو شاهد أقوياء الأبصار ما قرب منه إلى السطح، فمن المحال أن يروا الأجزاء الخافية العميقة التي لا يمكن أن تصلها يد أو عين أو أذن ... لا تصلها إلا إذا أخرجها صاحبها، فهو وحده العليم بها ... وإذا كان الإنسان كائنا له أسرار، ومن خواصه كإنسان أن يخفي في نفسه أجزاء ويحكم إخفاءها؛ فكذلك من خواصه الأزلية أنه يخفيها رغما عن نفسه وتحت مقاومته، ويضطر بين كل حين وحين للإذعان فيخرجها ويظهرها ويتفحصها، ربما بعد فوات سنين، ولكن لا بد أن يخرجها لنفسه مثلا إذا كتبها، أو لأقرب الناس إليه أو أحيانا أبعدهم منه ... ولكن لا بد أن يتوسم فيه القدرة على حفظ سره ... والشيخ شيخة كان يمثل هذا الدور في أحيان لبعض الناس. وفي أغلب الأحيان رأى ما لم يره أحد، وسمع ما لم يسمعه أحد بحكم أنه لم يكن أحدا. كان كالحيوان المستأنس ... كقطط البيوت مثلا وكلابها. وما أمنع ما رأت قطط البيوت وكلابها! وآه لو تكلمت قطط البيوت وكلابها! ربما لما استطاع أحد العيش؛ فهو لكي يعيش كفرد يضطر لإحاطة نفسه بجلباب وملابس تحفظ جسده وأسراره، ولكي يعيش كفرد في مجموعة يضطر لإحاطة بعض نفسه بأسوار ... ويسمي هذا البعض أسراره، ففيها كيانه وفيها مفاتيحه ونواياه الداخلية التي تفرقه عن الآخرين وتحفظ استقلاله ... والعائلة المكونة من أفراد تضطر لإحاطة نفسها ببيت ذي جدران بالغة السمك، فيكون لها هي الأخرى كيانها وذاتها واستقلالها ... والبلدة تضطر هي الأخرى لإحاطة نفسها بسور مفترض وحدود وجنسية، وكلمة «بلدي» و«بلدياتي» لتحفظ كيانها من الضياع والذوبان.
كارثة كبرى لو صح الخبر، أو حتى لو كانت هناك شبهة في صحته، فقد لا يعد هذا هدما لكل الجدران الداخلية التي تحيطهم وتقسمهم، ولكنه على الأقل فرجة صنعت في كل جدار، فرجة من الممكن أن ينتقل منها للغير كل ما يحويه الداخل، فيقوم حينئذ يوم الفوضى الذي هو أفظع وأبشع من يوم القيامة.
بدءوا يرمقون الشيخ شيخة إذن بنظرات مرعوبة حيرى، تطوف حوله وحمى الشك تعشيها، والشيخ شيخة على ما هو عليه ... رقبته مثنية وجلبابه الأزرق ممزق متسخ، إذا وقف ظل واقفا، وإذا جلس لا يتحرك، وعينه على ربع إغماضها لم تتغير، والأخرى على إغلاقها، وملامحه مثلما رأوها دائما صلبة متجمدة لا تنفك، وواضح جدا أنها ما انفكت طول عمرها. حتى والشك يدفعهم للدوار حوله واستيقافه ومخاطبته، وتوجيه الأسئلة إليه لا تصدر عنه حركة، ولا بارقة انفعال لمحها أحد تطفو على سطح هذه الكتلة المدكوكة من اللحم والعظم والشحم.
وكان أن بدأت الزوابع التي هاجت للخبر تهدأ وتئوب إلى رضا واقتناع، والرعب الذي اكتسح كلا منهم حين أدرك أنه من الممكن جدا أن تكون فرجة صغيرة قد صنعت في حائطه، وامتدت منها عين واعية، وعرفت كل ما بداخله. هذا الرعب بدأ يتحول إلى اطمئنان وما صاحبه من شك يتجمد على هيئة يقين. •••
وكاد يصبح لما حدث نفس المصير الذي كانت تلقاه الشائعات لولا حادث آخر وقع. وهذه المرة لم يردده خائف أو ولد، ولكن رجالا كبارا شهدوه بأعينهم، وسمعوه بآذانهم، وكانوا يقسمون على ما يقولون ... ففي ظليلة السعدني التي تحتل بطن الجسر، ويصنع للوافدين عليها القهوة والشاي ويرص المعسل. كان الحديث يدور يوم السوق عن الحادثة التي رواها ابن العبايدة، وكان الشيخ شيخة واقفا في الشمس فوق الجسر لا يتزحزح من مكانه، وعرق كثير يكسوه، حين جاءت بالطبع سيرة نعسة العرجة، وانبرى أكثر من واحد يغمزها ويلمزها، ويروي الهواجس على أنها وقائع وأخبار، حتى دفعت المزايدة الدائرة أحدهم لأن يقسم أنها راودته ذات يوم عن نفسه. وهنا فوجئ الجميع بصرخة، أو على الأصح شيء كالصرخة، فلم تكن صرخة تلك التي سمعوها، ولا استغاثة، ولا عويلا، وإنما انفجار كالهدير أو كالجمل حين يضرب بالقلة، ثم آهة. ثم الأهم من هذا كله كلمة سمعها البعض «أعوذ بالله»، وبعض آخر «منك لله». وأقسم هؤلاء وهؤلاء، ولكن الشيء المؤكد أنهم جميعا سمعوا كلاما بشريا يتصاعد قربهم، وحين تلفتوا، رأوا الشيخ شيخة يترك مكانه تحت الشمس ويتحرك بأسرع مما اعتاد، ولا يلبث أن يختفي في حقل الأذرة القريب ولا يظهر.
ورغم كل ما دار، وكل ما أجمع عليه الحاضرون واتفقوا، فبعد يوم أو يومين كانت تلح على بعضهم كفرادى، وتضيق الخناق وتستحلفه، فيقول: الحقيقة ما اقدرش أحلف ... الله أعلم ... إنما إن ما كانش هو حيكون مين؟ الجسر؟
وياما أقسمت أيمان، ورميت طلاقات، وهاجت البلدة بالجدل! وقسم كبير يؤكد أنهم خدعوا في الشيخ شيخة أكبر خديعة، وأنه ظل سنين يمثل عليهم دور الأصم الأبكم؛ ليعرف أحوالهم وأسرارهم ويسرق مخبآتهم، وقسم كبير آخر أهون عنده أن يصدق أن الجسر قد نطق وتكلم من أن يصدق أن الشيخ شيخة هو الذي فعل ... ولكن هذا الجدل والخلاف كان يجري على أسطح الألسنة فقط، ففي أعماق الكل كان خوف حاد قد بدأ يتراكم. وكلما راجع أحدهم نفسه ليتذكر ما قاله في حضرة الشيخ شيخة وما فعله، ووجد أن ما قاله كثير وما فعله أكثر، انقلب خوفه إلى هوس ورعب، وازداد قلبا للبلدة رأسا على عقب، باحثا عنه محاولا أن يراه؛ إذ ربما تعيد رؤيته، مجرد رؤيته الطمأنينة إلى نفسه، ويصبح كل ما قيل ويقال كذبا في كذب وكابوسا رهيبا مزعجا غمر البلدة ومن فيها.
غير أن الشيخ شيخة رغم كثرة الباحثين عنه لم يعثر له أحد على أثر؛ مما كان له أسوأ الوقع ... إذ تراه أين ذهب؟ وإلى من يحكي الآن ويعدد؟
ولكن اختفاءه على أية حال لم يطل، فبعد أيام قليلة وجدوه عائدا من البندر. وأغرب شيء أن نعسة كانت تسحبه من يده! وما كاد الخبر ينتشر حتى كانت البلدة كلها بكبارها وصغارها، وبالأخص نساؤها اللاتي كن يبدون هالعات يرتجفن من الغضب والذعر، ويكون بقعة كبيرة سوداء في الدائرة الآدمية المحكمة التي ضربت حول نعسة والشيخ شيخة. ومضت أعينها تمتد إليهما وتتفحصهما بحدة وشراهة ... ولم يكن شيء قد تغير في الشيخ شيخة ... شواله الأزرق على حاله، وشعره على قصره. كل ما في الأمر أن رقبته المثنية كانت قد بدأت تعتدل. والأمر المحير كانت هذه الضحكات التي تصدر عنه كلما سأله أحدهم سؤالا، أو وجه إليه كلمة. ضحكة غريبة تبدو كما لو كان يتكلمها ولا يضحكها.
أما نعسة فقد ظلت ساكتة لفترة، ثم وكأنها ضاقت فجأة، انفجرت تسألهم عن سر تجمعهم وتشتمهم، وتلعن آباءهم جميعا من أكبر كبير لأصغر صغير، يا غجر يا لمامة عايزين إيه؟ ابني ولا مش ابني ما لكم وما لنا؟ ... أخرس ولا بيتكلم عايزين منه إيه؟ كان عيان وداويته يا ناس إيه الجناية في كده؟ وحتى لو ما كانش عيان، لو كان سليم وسمع وشاف ... يعني حيكون شاف إيه وسمع إيه؟ ما الحال من بعضه ... واللي بيقول في حق الناس كلام بطال بيتقال عليه كلام بطال ... واللي بيخبي العيب عن جاره حيلاقي جاره بيخبي عنه نفس العيب ... حيكون شاف إيه وسمع إيه؟ ... اوع كده أنت وهو لحسن وحياة مقصوصي ده اللي حاطوله منكم، حاطبق زمارة رقبته، ماني سيباها إلا بطلوع الروح. •••
استمع الناس لكلام نعسة مذهولين حيارى، لا يعرفون بماذا يردون ... يرون حماستها التي انبثقت فجأة، وأسقطت عنها كل خجل وحجاب، واستعدت معها لأن تعترف مثلا أن الشيخ شيخة ابنها، وتذكر لو لزم الأمر اسم أبيه، وتصك آذانهم الحمم الخارجة من فمها، ولا يملكون إزاء ما تقول تصرفا أو حلا.
وكان لا بد أن ينفض الجمع، ويجيء الغد وبعد الغد ... ويبدأ الشيخ شيخة يخرج وحده ويجوب البلدة، ويقف موقفته المشهورة لدى جماعاتها الجالسة أو المنتحية ركنا. ولكن الحديث كان يكف نوعا ما لمقدمه. وإذا استؤنف وبدأ متحدث ما يتكلم، وتطلع أثناء كلامه ناحية الشيخ شيخة، وفاجأه الشيخ بالضحكة الجديدة التي عاد بها، ولدت الضحكة في عقل الرجل كل الظنون وتلعثم وأجبر مرغما على السكوت ... إذن من يدري؟ ربما يضحك الشيخ شيخة منه؛ لكيلة القمح التي لطشها أمامه من الجرن يوم التخزين، بينما هو جالس الآن يتحدث عن السرقة واللصوص. وربما يضحك؛ لعلمه بسر نقطة الدم التي لا تزال عالقة بذيل جلبابه، وقد كان يومها واقفا في نفس المكان. وربما هو يضحك منه؛ لأنه بالأمس فقط كان في مجلس آخر وكان الشيخ شيخة هناك، وكان يتحدث بكلام غير الكلام.
حين جاء الغد وبعد الغد ... بدأ الناس يدركون أكثر وأكثر أن المحظور قد وقع، وأن ضحكة الشيخ شيخة هي الكوة التي فتحت في كل جدار، وأن محتويات مخازنهم الخفية السرية في خطر، وأنهم أمام الشيخ شيخة عرايا من كل ما يسترهم ويحفظ لهم الشخصية والكرامة والكيان ... وأنهم أبدا لا يستطيعون أن يحيوا في بلدة واحدة معه، مع إنسان يعرف عنهم كل شيء ... ويواجههم بضحكته الغريبة البشعة أنى يكونون! •••
وكان لا بد أن يصحو الناس مذعورين ذات صباح على صراخ مدو، صادر عن قلب يعوي ويتمزق، ويقول: يا بني يا حبيبي.
وتسرع الأرجل هالعة إلى مصدر الصوت، فيجدونه ينبعث من الخرابة، ويجدون نعسة صاحبته، ويفاجئون بها تقذفهم بوابل من الطوب والأحجار، وتبكي بحرقة وتلعنهم، وتقول إنه كان طول عمره أصم أبكم، وإن الويل لهم منها. بينما الشيخ شيخة ممدد أمامها غارقا في دمه، ورأسه محطم بحجر.
«أ» الأحرار
وقعت هذه الحادثة في مكتب إحدى الشركات الكائنة في شارع سليمان، واحدة من الشركات ذات الأبواب الزجاجية المصنفرة والمكاتب الصاج الإيديال، والسعاة الذين يرتدون بدلا رمادية، ويضعون على جوانب صدورهم لافتات نحاسية دقيقة الحجم.
في الصباح، وفي الساعة الثامنة تماما، الموظفون جميعا على مكاتبهم، والسعاة على الأبواب، والسكون مستتب مطبق رغم حفيف الأوراق، وتكتكة الآلات الكاتبة والحاسبة. بعد قليل كانت دوامة العمل قد بدأت تدور، والأبواب الموصدة كثر فتحها وإغلاقها، وبدأ الموظفون يتجرءون على الصمت وينطقون. والجو بدأ يحفل بدخان السجائر ورائحتها، غير أن هذا كله كان يدور أيضا خارج حدود لا يتعداها.
وفجأة، وفي حوالي التاسعة، بدأت تصل إلى الآذان ضجة غير عادية صادرة من حجرة السيد عبد اللطيف سالم، رئيس قسم السكرتارية. وأن تسمع ضجة في حجرة السيد عبد اللطيف أمر عادي جدا، ولكن غير العادي أن تحدث هذه الضجة قبل الحادية عشرة صباحا ... فالريس عبد اللطيف كان مريضا بنوع غريب من الربو، وكانت أنفاسه - وبالتالي خلقه - لا تبدأ تضيق قبل الحادية عشرة بأي حال من الأحوال. لهذا كان لا بد أن في الأمر سرا، وليس خلف أبواب الشركة أسرار؛ فالسر الذي وراء الباب يعرفه الساعي الواقف أمام الباب. ومن ساع إلى ساع ينتقل السر حتى يصبح بعد ثوان قليلة خبرا. ولهذا سرعان ما عرف الجميع أن الريس عبد اللطيف يزعق لأحمد رشوان، وعلى هذا أصبح العجب مضاعفا ... زعيق الريس قبل الحادية عشرة، والزعيق لأحمد رشوان الذي لم يسبق لأحد، وخاصة الريس عبد اللطيف، أن زعق له أو احتك به؛ فقد كان أحمد هذا شابا مؤدبا جدا، بل ممكن أن يعد أكثر موظفي العالم أدبا ... وأدبه مقرون بمراعاة تامة للأصول، وما يصح وما لا يصح. وكلمات مثل «من فضل سيادتك»، و«تسمح لي» و«لا مؤاخذة»، و«أشكرك شكرا جزيلا» (باللغة العربية الفصحى)؛ كلمات مثل تلك يستعملها أحمد آلاف المرات في اليوم الواحد. ثم إنه لم يكن جميلا ولا وسيما لتكون لديه مركبات الوسيمين الجميلين، مثل افتعال الحركات للفت نظر السيدات والآنسات من موظفات الشركة، أو المحافظة الزائدة على هندامه والعناية به. كان كما يقال «دوغري وجد»، ولكنك لأمر ما لا تستطيع، كلما رأيته جادا وقورا، أن تمنع نفسك من أن تسخر من جده ووقاره! ربما لأن له أنفا طويلا بارزا مقوسا، ومدببا من أسفل وكأنه رأس خطاف. ربما لملابسه التي يحرص على اختيارها كلاسيكية جدا، فيفصل الجاكتة طويلة وحشمة، والبنطلونات يجعلها واسعة وقورة. وليس معنى هذا أن أحمد جاد طوال الوقت، فهو أحيانا يهزر معك ويضحك، ويستمع إلى النكات الخارجة التي يلقيها زملاؤه. وقد يقرص الواحد منهم في جنبه، ولكنه يفعل هذا خلسة، وكأنما يفعله من وراء نفسه الجادة الوقورة. ثم إنه شهم إذا كان معه نقود سلفك، واطمئن؛ فإنه لن يقترض منك أبدا، فهو في مسائل النقود حريص على أن يحيا في حدود دخله، لا يتعداه بأي حال من الأحوال. وفوق هذا فهو لا يدخن، ولا تعرف إن كان يرتاد السينمات أو لا يرتادها، ولكنه على أي حال فخور جدا بكونه خريج كلية التجارة جامعة القاهرة. صحيح هو يعمل «تايبست» في الشركة، ولكن هذا لا يمنعه من الوعي الدائم بأنه أحسن من زملائه كتاب الآلات الكاتبة الذين لا تتعدى مؤهلات الواحد منهم حدود التجارة المتوسطة أو التوجيهية.
والشغل عند أحمد شغل، والرئيس رئيس، والزميل زميل. أما الزميلات فليس له بهن علاقة؛ إذ هو ضد أن تعمل المرأة إلا مدرسة أو ممرضة. ولا يزال إلى الآن يعتز برأيه هذا، وبأنه أبداه من عشر سنوات، حين كان لا يزال طالبا لمندوب إحدى المجلات الجامعية، حين جاءه يسأل عن رأيه في التعليم المشترك ... يومها ظل قرابة الساعتين يمليه رأيه باللغة الفصحى، وهو يتابع ما يكتبه الطالب المحرر، ويصحح له أخطاءه الإملائية والهجائية والنحوية، ويؤكد له أن المرأة مملكتها البيت، إذا خرجت منه فلا بد أن تضل الطريق. لهذا لا بد أن أحمد قد وجد نفسه في محنة حين عين بالشركة، وعينت معه زميلات له يؤدين نفس عمله. اكتفى حينذاك بأن أزاحهم من خاطره تماما، وكأنهن غير موجودات.
وبالتأكيد كانت هذه هي المرة الأولى التي يزعق له فيها الريس عبد اللطيف؛ فلا بد أن سبب الزعيق مثير للغاية. ولهذا سرعان ما اكتشف بعض الموظفين أن هناك أوراقا مستعجلة يجب إمضاؤها من الريس في الحال. وما أسرع ما كان باب الريس يفتح للداخل والخارج، الداخل يكاد يكون حب الاستطلاع يقفز من عينيه، والخارج يضع يده في فمه يكاد يموت من الضحك؛ ذلك لأن سبب الزعيق كان أغرب سبب ممكن أن يخطر على البال، بل كان لا يمكن أبدا أن يخطر على البال.
الداخل كان يجد أحمد واقفا مزررا جاكتته، أنفه معقوف صارم جدا، ورأسه منخفض في أدب وابتسامة لا معنى لها لا تبرح وجهه، والريس عبد اللطيف خلف مكتبه الكبير ذي السطح الزجاجي يداه تدفعان المكتب، وكأنما تريدان قلبه على أحمد رشوان، وزعيق كثير يخرج من فمه ووجهه وعينيه، وحتى من صلعته الخفيفة ... يوزع قليلا منه إلى اليسار، وقليلا آخر إلى اليمين، والأغلبية العظمى يصبها على أحمد: قلنا ميت مرة الصورة لازم تنكتب زي الأصل تمام بالحرف الواحد بلا زيادة أو نقصان، قلنا ميت مرة كده.
قالها الريس فعلا أكثر من مائة مرة، وفي كل مرة يسكت منتظرا إجابة أحمد، حتى إذا ما هم أحمد بأن يجيب، قاطعه الريس ومضى يلقنه المحاضرة التي يجيدها تماما عن العمل في الشركة وأصوله وقواعده.
وأنهى الريس محاضرته قائلا: اتفضل. خد الجواب، واكتبه بالضبط زي الأصل يا حضرة ... اتفضل يلا.
وخرجت كلمة من فم أحمد؛ ربما تكون قد خرجت قبل هذا، ولكنها كانت المرة الأولى التي يسمعها فيها الريس.
قال أحمد رشوان: اسمح لي ... لأ ... مش حاكتبه إلا كده.
وتحجرت عينا الريس، وقال: أسمح لك إيه؟!
فقال أحمد: اسمح لي سيادتك مش حاكتبه.
فقال الريس بصوت منخفض كصوت الزناد حين يجذب استعدادا لإطلاق النار: ليه بقى يا حضرة؟
والواقع أن أحمد تململ للسؤال ... فهو بالتأكيد كان قد جهز نفسه له، ولكنه وجد حرجا كثيرا، وكأنه متأكد تماما مما ينطقه وهو يقول: لأني إنسان يا أستاذ عبد اللطيف. أنا مش آلة كاتبة. - إيه؟ أنت إنسان مش آلة كاتبة؟! يعني إيه ده يا حضرة؟!
قالها الريس وملامحه تتسع فجأة كما ضاقت فجأة، وهو يمسك شفته السفلى بأصبعين، ويجذبهما إلى أمام ويحدق في أحمد.
وأول ما خيل للريس أن الجدع قد جن، ولم يكن هذا في رأيه شيئا مستغربا، فقد كان لا يطمئن أبدا إلى أدب أحمد هذا الزائد عن الحد، ومحافظته المبالغ فيها على الأصول، والجنون يمكن أن يكون نهاية طبيعية لإنسان كهذا.
وكأنما قرأ أحمد أفكار رئيسه؛ فقد ابتسم ابتسامة اعتذار كبيرة، وكأن الذي سيقوله عيب ما بعده عيب وقال: ما تبصليش سيادتك على أني مجنون. أنا مش مجنون ... أنا إنسان، ولازم يكون فيه فرق بيني وبين الآلة الكاتبة ... أنا ... أنا.
وإلى هنا انتهت حصيلة أحمد من الكلمات؛ فقد كانت مهمته شاقة ومزدوجة. كان عليه أن يصوغ ما يدور في فكره إلى كلمات، ثم كان عليه أن يعيد صياغة هذه، فيجعلها مؤدبة أصولية، تصلح لكي يخاطب بها رئيسه. وإذا كانت المهمة الثانية سهلة؛ فالمهمة الأولى أكثر صعوبة؛ إذ كيف يصوغ أحمد رشوان ما عن له بالأمس من أفكار، وكيف يشرح للريس عبد اللطيف العصبي الضيق الخلق كل ما حدث بالضبط، خاصة إذا كان لم يحدث شيء يذكر. كل ما حدث أن نوبة أرق حادة انتابته في الليلة الماضية ... كان راقدا في فراشه غير المريح ، وكاد ينام لولا أن أطار النوم من عينيه برغوث خبيث، صمم أحمد على أن يعثر عليه حيا، وصمم البرغوث على أن يحاوره ولا يجعله يظفر به. كلما كاد يطبق عليه، أصبح وكأنه فص ملح وذاب. وأخيرا غطس البرغوث ولم يظهر، ولكنه ترك أحمد يعاني من ذلك الإحساس المقلق، الإحساس بنهشات خفية وزحف أقدام دقيقة غير مرئية، ذلك الإحساس الذي يدفع الإنسان إلى التأرجح بين الشك واليقين في وجود تلك الكائنات. وفجأة، وبدون سابق إنذار، خطر لأحمد رشوان ذلك الخاطر الذي كاد يجعله يقفز من الفراش؛ فقد اكتشف أنه ليس كاتبا على الآلة الكاتبة كما يظن نفسه ويظنه الناس، ولكنه هو نفسه آلة كاتبة ... كيف جاء الخاطر في ذهنه؟ لا أحد يدري. وكيف استطاع ذهن أحمد رشوان الأصولجي أن يجمع تلك المفارقة أو المتشابهة التي بدت غريبة كل الغرابة؟ لا أحد يدري أيضا ... المهم أن الفكرة استحوذت عليه تماما، حتى أنسته النوم والفراش وزحف الكائنات غير المرئية. ودون أن يستطيع أن يكبح جماح خياله وجد نفسه يوغل في التفكير ويوغل ... ما الفرق بينه وبين الآلة الكاتبة؟ هو صحيح خريج جامعة ومحترم، ولكنه في عمله لا فرق بينه وبين الآلة الكاتبة التي يكتب عليها ... هو له أصابع وهي أيضا لها أصابع. وهو يقرأ الأصل، وتستحيل الكلمات خلاله إلى ضغطات، والمكنة تستحيل الضغطات خلالها إلى كلمات. وإذا كان هو يأمر المكنة بأصابعه أن تكتب، فالشركة تأمره بأصبع واحدة منها أن يكتب. وإذا كانت المكنة لا تستطيع أن تغير ما يأمرها به إذا ضغط على حرف الميم، فلا بد أن تكتب ميما؛ فهو أيضا لا يستطيع أن يغير إذا قالوا له اكتب كذا، فلا بد أن يكتب كذا. أجل، ما الفرق بينه وبين الآلة الكاتبة؟ الواقع لا شيء، بل الحقيقة لا شيء مطلقا.
وأول الأمر ضحك أحمد كثيرا، ضحك بلا وعي، ولم يكف عن الضحك إلا بعد أن فطن لنفسه، فوجد أنه يضحك ضحكا غريبا ماسخا في الشقة المظلمة الخاوية؛ «فأحمد رشوان كان قد تعدى الثلاثين ومع هذا كان لا يزال أعزب» ... وآلاف الخواطر كهذه تعن لآلاف الناس آلاف المرات في اليوم الواحد، ولكنها لا تعلق بأذهانهم كثيرا. إنها كآلاف الأشياء التي تبرق في أرض الشارع المشمس، يعبر بها الناس ولا يحفل ببريقها أي منهم، ولكن بريق أحدها قد يجذب أنظار عابر سبيل ليتوقف عنده مثلا ويحدق فيه، بل ممكن أن ينحني ويتناوله ويتفحصه. وفي أغلب الأحيان يعود ليلقي به وهو يضحك من نفسه ومن البريق الزائف الذي شغله.
وكان ممكنا أن يحدث هذا لأحمد رشوان، فيلقي بالخاطر من وراء ظهره، ويعود إلى متابعة أفكاره أو محاولة النوم، ولكن ربما لفراشه غير المريح، وربما لأنه كان في حاجة ماسة إلى ما يشغله عن إحساسه بالكائنات غير المرئية التي تقاسمه فراشه؛ ربما لهذا تلكأ عن الخاطر قليلا ... وويل لأي منا إذا تلكأ عند خاطر؛ فقد يغير التلكؤ مجرى حياته. ربما تتلكأ عند كلمة قالتها فتاة، وأعجبتك طريقة نطقها لها، فإذا بك بعد شهور زوج لهذه الفتاة. والتلكؤ عند واجهة مكتبة قد يوقع في يدك كتابا يغير شخصيتك تماما. ونيوتن المشهور لم يفعل أكثر من أنه تلكأ ذات يوم أمام تفاحة سقطت من تلقاء نفسها على الشجرة.
أحمد رشوان هو الآخر تلكأ عند الخاطر، ومضى يقلبه على وجوهه. أحيانا يحسب الأمر هزلا في هزل؛ إذ أمن المعقول تنعدم الفروق تماما بينه وبين الآلة الكاتبة؟ ولكنه حين يحاول أن يجد فارقا أساسيا، ولا يستطيع أن يدخل الأمر في طور الجد، ويبدأ يخاف أن يكون التشابه حقيقة. بل بلغ به الوضع حد أنه كان أحيانا يحدق في أصابع يديه، ويلعبها معا في الظلام، ثم يوقفها جميعا، ويلعب كلا منها على حدة. وأحيانا يشيح بيده، وكأنما يقول: غير معقول هذا ... غير معقول.
بل عنت له خواطر مضحكة للغاية: لم لا يكون الأمر عكس ما يتصور، وتكون الماكينة الكونتيننتال التي يكتب عليها أفضل منه؟ فهي على الأقل ضامنة بقاءها في الشركة مدى الحياة، وهو غير ضامن بقاءه ولو ليوم واحد . وحتى المنضدة التي تستقر عليها منضدة أنيقة صنعت خصيصا من أجلها، وكلفت الشركة ما لا يقل عن العشرة جنيهات، بينما مقره هو عبارة عن كرسي ملقلق الساق، اشترته الشركة في مزاد، ووقف عليها ببضعة قروش.
وعشرات الأفكار المضحكة للغاية.
وكأنما كان طوال المدة التي قضاها يفكر ويسرح، كان يدخر لنفسه خط رجعة مؤكدا. وكان ضامنا مائة في المائة أنه يملك الدليل القاطع على أن ثمة فرقا كبيرا بينه وبين الآلة الكاتبة. فقط كان يحتفظ بالدليل؛ ليفاجئ به أفكاره في الوقت المناسب ... وأخيرا لم يجد بدا، وأخرج الدليل وقال لنفسه: الفرق بيننا أنها آلة جامدة صماء بكماء، لا تستطيع التصرف وحدها أبدا، أما أنا فأنا ملك ... أنا إنسان أستطيع أن أفكر وأتصرف بمطلق إرادتي.
قال هذا لنفسه وهو يسحب الغطاء فوقه، وكأنما يكيل الضربة القاضية وينهي المعركة التي دارت وطالت في خياله.
ولكنه ما كاد يسحب الغطاء حتى دق شيء ... ومن كثرة تفكيره في المكنة خيل إليه أنها بالتأكيد هي التي تدق، بل ذراع واحدة فقط من عشرات أذرعها هي التي تدق باستمرار، وكأنما علقت وتكتب: لا لا لا لا.
وبسرعة ثمانين كلمة في الدقيقة - وهي السرعة التي طالما حلم أحمد أن يكتب بها - مضت أذرع الآلة ترتفع وتنخفض وتتداخل في الظلام، وتكتب وترد عليه في تكتكة منتظمة: أنت واهم ... من قال إنك تملك حق التصرف؟ أنت مثلي تماما، وحريتك في التصرف كحريتي والدليل موجود. الخطاب المشهود الذي كنت تكتبه لشركة الأسمنت، ووجدت أن كلمة «شؤون» مكتوبة خطأ والهمزة موضوعة فوق الواو، وذهبت إلى الريس عبد اللطيف فرحا تريه الخطأ، وظننت أنه سيكافئك لفطنتك ونباهتك. أتذكر نظراته التي التهمك بها وهو يقول: اسمع يا حضرة، أنت هنا مش على كيفك يا حضرة. اللي مكتوب قدامك، انقله زي ما هو يا حضرة. غلط مش غلط ملكش دعوة يا حضرة. إيه حتعدل ع الشركة. الشركة عايزة الهمزة على الواو تبقى الواو يا حضرة. عايزاها طايرة في الهوا تبقى طايرة في الهوا. فاهم يا حضرة؟ اتفضل على شغلك واعرف مركزك كويس. إنت هنا كاتب يعني تكتب، يعني تفعل ما تؤمر به. إنت عارف المكنة؟ إنت زي المكنة ... فاهم يا حضرة؟
الريس عبد اللطيف ذو الصدر المقفع إذن هو الذي أوحى إليه بالخاطر، وظل الخاطر كالقنبلة الزمنية في عقله، حتى فجره الأرق اللعين في تلك الليلة الليلاء.
في نفس الوقت، الذي اكتشف فيه أحمد رشوان السبب، كانت أشياء كثيرة أخرى قد حدثت داخل عقله، وحدثت كلها معا وبسرعة مذهلة. فأولا كان قد آمن إيمانا لا شك فيه أنه في نظر الشركة مكنة لا أكثر ولا أقل، وأن الريس عبد اللطيف على حق، والمكنة على حق، وهو وحده المخطئ الواهم الذي كان يظن نفسه شيئا آخر غير هذا، شيئا اسمه الإنسان. وفي لحظة خاطفة تصور أحمد نفسه بأنفه الذي يعتد به كثيرا، بالكتب التي كان يقرؤها أثناء دراسته، ويتيه على زملائه بقراءتها وإدراك حقائق عن الكون والحياة لا يدركونها، بكفاحه الرهيب من أجل الشهادة، بالشهادة، بحياته وكل أحلامه، بكل هذا مجرد مكنة، آلة، حتى أقل من الآلة التي يكتب عليها!
للحظة خاطفة تصور أحمد هذا، ولكنها كانت كافية لأن تملأه بالغضب. وغضب أحمد رشوان لأمثال هذه الأشياء ... غضب يعرفه عنه كل أصدقائه وزملائه. إذن كانت المسألة مسألة مبدأ وحق. ركبه الغضب، وأبى أن يتزحزح عن موقفه قيد أنملة. حدث مرة في أثناء امتحان المحاسبة أن وقف أستاذ المادة في وسط خيمة الامتحان، ولبخ في حق الطلبة، واتهمهم بأنهم سفلة وأوغاد (إذ كان الطلبة قد أحدثوا ضجة بعد توزيع الأسئلة لصعوبتها). فما كان من رشوان إلا أن ترك الإجابة، وانتصب واقفا يحتج على الأستاذ. وغضب الأستاذ وأصر على طرد رشوان من اللجنة، وتقديمه لمجلس تأديب. ولكنه تحت إلحاح المدرسين زملائه، اكتفى بأن قال إنه على استعداد للصفح عنه لو اعتذر عن تصرفه علنا أمام الطلبة. ورفض رشوان رفضا باتا أن يعتذر، وفضل أن يغادر اللجنة ويرسب في المحاسبة على أن يهين كرامته.
كان لا يمكن أن يمر خاطر كهذا على أحمد رشوان مرور الكرام إذن، فالأصول أنه إنسان، وخلافا لكل الأصول أن يكون مجرد مكنة. وعليه أن يثبت لنفسه وللناس أنه إنسان، وأن ثمة فرقا كبيرا بينه وبين المكنة، عليه أن يثبت هذا أو يهلك دونه. •••
وفي صباح اليوم التالي، كان أحمد رشوان يأخذ طريقه إلى مقر الشركة في شارع سليمان، وكأنه في طريقه إلى ساحة معركة أو لجنة امتحان. كان قد سهر كثيرا، وكان عصبيا وعلى وجهه تصميم خطير. لم يكن لديه أية فكرة عما يمكن أن يفعله، ولكنه كان مصمما على أن يثبت لنفسه على الأقل أنه إنسان، إنسان حقيقي، وليس مجرد آلة كاتبة.
دخل المبنى وألقى تحيات الصباح وتلقى التحيات، وبوجه غير صبوح صبح على الريس عبد اللطيف، وتناول منه «الشغل» بلا ذيول شكر طويلة كما تعود أن يفعل.
وذهب إلى الحجرة التي يعمل فيها هو وزملاؤه. كان أكثرهم قد سبقوه، وبين حفيف التحيات ونكات الصباح الخفيفة الطائرة جلس. وبينما كان يرفع الغطاء عن المكنة، لم يستطع أن يمنع نفسه من إلقاء نظرة متشككة عليها، ومط شفتيه حتى التصقت شفته العليا بأرنبة أنفه المدببة، وذلك أنه وجدها فعلا كتلة من حديد ... حديد في حديد يلمع ... وحديد مطفأ، وبرودة وسكون ولا حياة. مكنة صماء بكماء، ذلك أمر لا شك فيه.
وقبل أن يبدأ في كتابة الخطاب الأول قرأ الأصل بإمعان ... وحين قارب على الانتهاء تهلل وجهه وابتسم، ذلك لأنه عثر على الشيء الذي كان يريد العثور عليه، فقرب نهاية الخطاب وجد في الأصل تعبيرا يقول: «وحينئذ نكون أحرارا في التصرف بمقتضى ما تخوله لنا كافة حقوقنا كشركة مساهمة.»
عند كلمة «أحرار» توقف أحمد رشوان. وهو نفسه لا يدري لماذا اختارها بالذات، وجعلها ضالته المنشودة، وصمم على أن يحذف منها الألف، ويكتبها «أحرار» فقط. ربما لأنه وجد موسيقاها هكذا تنسجم أكثر مع بقية الجملة؛ وربما لأسباب أخرى لا يعلمها إلا الله.
مضى يكتب الخطاب بحماس، وهو يحس بنشوة لأنه يكتب شيئا أراده هو، ويملك التصرف فيه . يكتب وهو يرمق في شماتة أذرع المكنة وحروفها، وهي ترتفع وتنخفض في طاعة بكماء عمياء، وهو الذي حين جاءت كلمة «الأحرار» راح يكتبها على مهل، وكأنه يتلذذ بطعم كتابتها، ورمق الألف في الأصل، ثم ازور عنها شامخا بأنفه، وتابع الكتابة وكأنه يعزف على مفاتيح بيانو أو ثقوب ناي.
وكان أسرع خطاب كتبه بعد أن التحق بالشركة، بل وقبل أن يبدأ في غيره، ذهب به إلى مكتب الريس ومعه الأصل والصورة، وفي صدره حماس مستبشر دافق.
والذي حدث أن الريس عبد اللطيف ما كاد يلقي نظرة سريعة على الخطاب، حتى أدركت عينه الخبيرة على الفور أن الأحرار مكتوبة بلا ألف، فنظر إلى أحمد رشوان طويلا، وكأنه يريد تجميده وقال: هي في الأصل «أحرارا» ولا «أحرار» يا حضرة؟ - أحرارا. - يعني بألف؟ - أيوة بألف. - يعني شفتها؟ - شفتها يا ريس. - طيب أمال يا حضرة ما كتبتهاش ليه؟ ... روح يا حضرة اكتبها، وهات الجواب تاني.
فقال أحمد رشوان بكل ثبات واطمئنان: مش حاكتبها يا سيد.
والواقع أنه قال هذا، وكادت تنتابه نوبة خوف. فالدهشة الشديدة المذهلة التي ارتسمت على وجه الريس عبد اللطيف كانت شيئا يخيف؛ إذ كيف يعصي مرءوس رئيسه هكذا في وضح النهار وعيني عينك، وفي مسألة لا تحتمل النقاش؟!
دهش الريس عبد اللطيف وذهل، ولم ينطق في الحال! وخلال ذلك الصمت كان أحمد رشوان في حالة «أخد ورد» مع نفسه، ذلك أنه في قرارة نفسه لم يكن شديد الإيمان بما هو مقدم عليه. إن هي إلا نوبة حماس عنت له إثر خاطر حاد في الليل، وكان لا بد لها أن تثمر عملا ما. وقام أحمد بهذا العمل، وكان على استعداد للتراجع، بل لم يكن يعتقد أن المسألة ممكن أن تأخذ كثيرا من الشد والجذب.
وأخيرا تكلم الريس، وقال: بتقول إيه يا حضرة؟
وفي أدب جم عاد أحمد يقول: أنا رأيي يا أستاذ عبد اللطيف أنها تنكتب من غير ألف تكون أحسن. - رأيك؟!
خرجت الكلمة كالرصاصة من فم الرجل، أعقبها بسرب دافق من القذائف. - رأيك ده تلفه في ورقة، وتبلعه على ريق النوم. رأيك ده تقوله لصاحبك وانتو ع القهوة. رأيك هناك عند بابا وماما، إنما هنا مفيش رأيك. هنا شركة ليها أوامر وقوانين. هنا تمشي تروح تكتب الألف ورجلك فوق رقبتك، ولولا عارف إنك طيب كنت بهدلتك صحيح ... اتفضل يا حضرة.
وانتاب أحمد غضب، وقال: أنا أحتج يا سيد عبد اللطيف على الإهانات دي. - إنت مش تحتج، وديني لاخصم لك يوم كمان ... اتفضل روح اكتبها.
وهكذا وجد أحمد نفسه في قلب المعركة ... معركة للدفاع عن كرامته كإنسان ... لم يكن يعتقد أن الأمر ممكن أن يتطور إلى هذا الحد، وطبعا كان واثقا أن مسألة الخصم هذه تهديد ليس إلا، والمشكلة ممكن أن تحل بإضافة ألف إلى الأحرار واعتذار لبق، وينتهي كل شيء. ولكن كان أسهل عليه أن يقطعوا رقبته قبل أن يفعل شيئا كهذا؛ فأهم شيء في نظره كان هو الثبات، فالمسألة لم تعد «أحرارا» بألف أو بغير ألف. المسألة كرامته وشرفه، فلم يكن يعتقد أنه سيهان على تلك الصورة، ويعامل كما لو كان آلة كاتبة لا تحس ولا تغضب.
كل هذا وصوت الريس يعلو أكثر وأكثر، وعناد أحمد يزداد ... الريس يقسم أنه لن يتركه إلا إذا كتبها ورجله فوق رقبته، وأحمد يقسم أنه لن يكتبها ولو خرج له أبوه من التربة وأمره بكتابتها. والصراع قد وصل قمته، والمسألة التي بدأها أحمد وهو غير مؤمن تماما بها. كانت قد تبلورت إلى درجة أنه لو قبل إضافة ألف للأحرار؛ فمعنى هذا أنه تنازل طائعا مختارا عن كرامته ورجولته وشرفه، وإذا كان الناس في الصعيد وفي كل مكان يقتلون دفاعا عن كرامتهم ورجولتهم؛ أفلا يستطيع هو الصمود مهما كانت النتائج؟
وطبعا لم يقف الزملاء مكتوفي الأيدي ... حاولوا تهدئة الريس بلا فائدة، وحاولوا حمل أحمد على الإذعان بلا فائدة، بل كان يقابل هدهداتهم ورجواتهم باشمئزاز؛ إذ هم في نظره أكلة عيش منافقون مداهنون لا يقدرون قيمة هذه الأشياء والمواقف، يلتقطون الخبز من بين أقدام الرؤساء بعد أن يلعقوا تلك الأقدام. فليمت قتيلا، ولكنه أبدا لن يكتب ألفا للأحرار.
والعجيب أن قليلا من زملائه الموظفين والكتبة هم الذين كانوا يضحكون بينهم وبين أنفسهم على المشكلة القائمة. أما الغالبية العظمي فقد أخذت الأمر على أنه مشكلة من واجبهم حلها برجاء هذا وممالأة ذاك، أو حتى باقتراح حل وسط؛ إذ اقترح أحدهم أن يقوم هو بكتابة ألف الأحرار حسما للنزاع، وقوبل اقتراحه برفض هائل من الريس وباستنكار حاسم من أحمد رشوان.
وسرعان ما ضاق صدر الريس عبد اللطيف، فهدر في جميع من بمكتبه يأمرهم بالخروج مقسما بالله العظيم ثلاثا أن سيكون جزاؤه على تلك الفعلة هو الرفت العاجل ... اليوم بلا أي تأخير. قال هذا وهو يعتصر قبضتيه، ويصر على أسنانه، ويجهز نفسه لكتابة مذكرة مستعجلة جدا لمدير عام الشركة، يطلب فيها فصل أحمد رشوان فورا؛ إذ الجريمة في نظره أخطر جريمة ... عصيان واغتصاب، وإذا لم تعالج الأمور بحزم؛ وبتر فممكن أن تسري عدواها إلى بقية الموظفين.
أما أحمد فقد أخذه الزملاء إلى حجرتهم، وأحضروا له فنجان قهوة رفض أن يشربه، وظلوا يتحايلون عليه يحذرونه من العقاب، ويقسمون له أن المشكلة الآن حلها بسيط، وأن الريس عبد اللطيف عصبي صحيح، ولكنه ابن حلال، فأقل اعتذار يرضيه.
ولكن أحمد ظل يهز لهم رأسه باستمرار، بل كان حريصا على أن تظل الابتسامة طوال الوقت فوق ملامحه؛ حتى لا يعتقد زملاؤه أنه مهزوز، مع أنه كان مهزوزا ... كان قد صمم تصميما نهائيا خطيرا على عدم التراجع؛ فقد كان يدرك أنه لو تراجع فلن يحترم نفسه بعدها. هو الذي يعتبر أن ميزته الوحيدة أنه يحترم نفسه ... بل سر حرصه على الأدب الجم في معاملة الناس أنه يريدهم أن يعاملوه بأدب، فإذا فقد احترامه لنفسه؛ فأي قيمة تبقى له كإنسان؟
وسرى الخبر طبعا في أنحاء المكتب ... وتلقفته الأفواه ضاحكة وساخرة ومعقبة، حتى أصبح الخبر نكتة تروى، وصار الموظفون الكائنون في الأجنحة البعيدة يتسابقون إلى حجرة أحمد رشوان؛ ليتفرجوا على زميلهم العجيب الغريب الذي رفض أن يكتب ألف الأحرار، معتقدين أنه لا بد قد أصيب بلوثة. يحدقون في ملامحه ويشاهدون كيف يتكلم وبأي ردود يجيب ليعرفوا مدى إصابته ... وكانوا يعودون إلى مكاتبهم، وقد انقسموا على أنفسهم، بعضهم يؤكد أنه مجنون، وبعضهم يؤكد أنه لا بد تعبان شوية، وآخرون يصرون على أن المسألة كلها لا تعدو أنه ابتلع ليلة الأمس قطعة حشيش، لا يزال مفعولها ساريا في جسده، ويؤكدون قائلين: دا من شكله باين عليه حشاش. •••
وعن طريق الريس عبد اللطيف وصل الأمر إلى المدير العام. والظاهر أنه لم يكن لديه ما يشغله، أو أنه وجد المشكلة غريبة ومضحكة في الوقت نفسه، وأراد أن يتفرج على الموظف الأعجوبة هذا الذي رفض أن يكتب ألف الأحرار. الظاهر هذا لأنه بناء على المذكرة التي قدمها السيد عبد اللطيف كان باستطاعته أن يمضي قرار الفصل في الحال، أو يخفض العقاب إلى خصم وإنذار مثلا.
وأن يطلب المدير العام موظفا صغيرا معناه في العادة كارثة سوف تحل بالموظف، أقلها أن يوقف أو يفصل أو يتهم في تبديد. وهكذا مضى أحمد يتلقى كلمات التعزية والتشجيع، وهو يخطو إلى مكتب المدير العام بخطوات راعى أن تكون منتظمة ومتماسكة ووقورة.
وكانت أول مرة يدخل فيها أحمد مكتب المدير العام، وخيل إليه حين أصبح في الداخل أنه لم ير في حياته مكانا فيه كل تلك الفخامة والأناقة والروعة، حتى النتيجة المعلقة على الحائط مطلية بماء الذهب. وكل شيء في الحجرة مدير عام؛ المقاعد والستائر والهواء المكيف اللذيذ الذي يكاد يصيب الداخل بقشعريرة جنسية، والسكون التام المطبق الذي تحس فيه بدقات ساعة يدك عالية قبيحة بلدية.
وما كاد أحمد يستجمع شعاعات نفسه الطائرة، ويلتقط أنفاسه، ويبدأ يبحث عن المدير العام في تلك الصالة الفخمة الواسعة، حتى فوجئ بصوت نحيف يقول له: قرب يا شاطر.
وتقدم أحمد بضع خطوات أخرى حتى بدأ يتبين ذلك الرجل النحيف جدا القابع وراء المكتب، لا يظهر منه غير رأس دقيق كرأس الفأر. وبينما أحمد حائر ماذا يفعل أو يقول، جاءه الصوت مرة أخرى: إيه الحكاية؟ فيه إيه؟ مش عايز تكتب ألف الأحرار ليه يا شاطر؟
ووجد أحمد نفسه باندفاع ولا إرادة: عشان أنا إنسان يا سيادة المدير.
وضحك المدير وقهقه ... ضحك كثيرا جدا، وظل كرسيه يدور به وهو يضحك ويعلو، حتى كاد يصبح فوق المكتب. وعرق أحمد وتلجلج وأحس أنه قال كلمة سخيفة لا معنى لها؛ إذ ما أدرى المدير العام بكل ما دار في عقله من خواطر؟ وبدأ يبتلع ريقه وأفكاره بسرعة؛ ليبلل حلقه الجاف وعقله ويستطيع أن يتكلم، وتكلم ... وشرح للمدير كل ما عن له من خواطر. وكلما رأى الرجل يستمع كان يحس أنه رجل طيب جدا، على عكس ما يتصوره الناس عن مديري العموم.
وحين انتهى فوجئ بالمدير العام يقهقه ويدور في كرسيه، والكرسي يهبط به حتى كاد يصبح تحت المكتب ... واعتمد المدير رأسه على كفيه وقال: أمال انت فاكر ايه ياسمك إيه؟ دا مش انت بس اللي مكنة ... انت مكنة وعبد اللطيف رئيسك مكنة، وأنا مكنة، وكلنا مكن. مش أنا المدير العام أهه؟ رئيسي عضو مجلس الإدارة المنتدب افرض قال لي اشتري ألف سهم من أسهم الشركة، أقدر أشتري 999؟ لازم أشتري ألف، وإذا عملت كده أترفد ولا لأ؟ طبعا أترفد. يبقى أنا في الحالة دي إيه؟ انطق. أبقى إيه؟
وقال أحمد بصوت لم يصل أبدا إلى أذن المدير: تبقى سيادتك مكنة.
فقال المدير وهو يستدير في كرسيه، ويولي أحمد رشوان ظهره، والمشكلة بالنسبة إليه قد انتهت: روح أحسن اعتذر لرئيسك. وأنا حاكتفي بخصم يوم واحد من مرتبك. اتفضل! كلنا مكن يا مغفل ... كلنا مكن.
وانتظر المدير قليلا ليترك لأحمد فرصة الانسحاب، وبعد لحظة استدار مرة أخرى، وإذا به يفاجأ بأحمد رشوان لا يزال واقفا، بل فوجئ أكثر حين وجد أنه قد انتظر اللحظة التي يواجهه فيها ليقول: بس أنا إنسان يا سيادة المدير ... أنا إنسان. - إنسان في عينك قليل الأدب ما تختشيش. ده جزا اللي يعاملكم بشفقة؟ غور من وشي يلا غور. - يا سيادة المدير أنا بكالوريوس تجارة، أنا مش ... - غور من وشي.
وقبل أن يفتح أحمد فاه مرة أخرى كان الباب قد فتح، ودخل الساعي وجذبه من يده برفق وأخرجه وأغلق الباب.
ولكنه ما كاد يصبح في الطرقة حتى كان جرس المدير يدق، وحتى كان قد استدعي مرة أخرى للمثول في مكتبه.
ودخل أحمد بوجه شاحب كوجوه المنومين مغناطيسيا، وكأنما هو مدفوع للمضي في الطريق الذي صمم عليه بقوى خفية أكبر منه. والمدير العام أيضا كان متجهما صارما، وكأنما قد نبتت له فجأة أنياب أظافر.
وخير أحمد بين الموافقة على كتابة الألف فورا وخصم ثلاثة أيام من مرتبه، أو فصله نهائيا من الشركة.
وما كاد أحمد يفتح فاه ويقول: أنا ... حتى كانت يد المدير على الزر، وحتى كان السيد عبد اللطيف داخل الحجرة، وكأنما انشقت عنه الأرض. وكلمة واحدة قالها المدير لعبد اللطيف: ارفدوه.
ثم لم يلبث أن أردف: دلوقت حالا. •••
ورفدوه.
سلمه عبد اللطيف الأمر الإداري بفصله، وطالبه بتسليم العهدة، ونصحه مدير المستخدمين بأن يرفع قضية على الشركة؛ لعل وعسى ...
والتف الزملاء حول أحمد حين عاد إلى الحجرة ليسلم ماكينته الكونتننتال، وهي كل عهدته. كان في وجوههم أسى كثير ورثاء، ولكنه كان في قرارة نفسه يرثي لهم هم. كان يحس أنه وحده الإنسان، وأنهم هم من فراشهم إلى مديرهم العام مجرد ماكينات كاتبة وحاسبة وكانسة ومفتشة.
وبينما كان أحمد يعبث بأحرف المكنة ليتأكد من سلامتها، دق صدفة على حرف الألف، ولكنه فوجئ بأن ذراعها لا ترتفع، ودق مرة أخرى ولم ترتفع الذراع.
واعتقد زملاؤه أنه لا بد قد جن حقيقة حين انطلق إلى حجرة الريس عبد اللطيف، وهو يصرخ بطريقة مختلفة تماما عن طريقته المؤدبة وبانفجار: الحق يا ريس ... اتفضل آهي الماكنة رافضة تكتب الألف. هيه! ارفدوها بقى هيه رخرة يا ريس ... ارفدوها.
فقال الريس عبد اللطيف وهو يكح: المكن يا بني لما بيرفض الكتابة ما بيترفدش، بيصلح ... ابقوا ودوها الورشة وصلحوها. •••
وغادر أحمد مبنى الشركة وأصبح في الشارع، ولكنه بعد قليل لم يعد يعرف في أي الشوارع يمشي؛ فقد ظل يسير كالمفيق من حادث، كالحالم؛ كالمصدوم، يسير بلا وعي وبلا هدف أو وجهة. وأخيرا وجد نفسه مرة أخرى في شارع سليمان قريبا من لافتة الشركة ومبناها. ولم يستطع أن يمنع خاطرا صبيانيا خطر له، وجعله يقرأ اللافتة، وكأنه يراها ويتأملها لأول مرة. وفقط حين كاد ينتهي من قراءتها، أدرك أنه قد رفد اليوم، وأنه فقد عمله، وأن عليه أن يستعد لأيام وربما سنوات عجاف، وأن سبب رفده أغرب سبب؛ إصراره على أنه إنسان.
ومرة أخرى نظر حوله ... الشارع يموج بالناس والعربات والدراجات، والناس تسابق العربات، والدراجات تسابق الناس وهو ماش، لا يسابق دراجة ولا تسبقه عربة، بلا هدف ولا وجهة. وفجأة أحس بشيء حار يندلع في حلقه، شيء جعله يقف في وسط الشارع، ولا يشعر بنفسه إلا وهو يصرخ ويقول: أنا إنسان.
والتفتت رءوس المارة مندهشة ناحيته، وأطلت من العربات وجوه، وألقيت عليه نظرات كثيرة مستغربة. وقال واحد: الناس باين عليها اجننت!
وضحك طفل، وزأر كلاكس يأمر أحمد بإخلاء الطريق.
ولم يستغرق هذا كله إلا لحظة خاطفة، ثم لم تلبث الحركة أن عادت في الشارع إلى سابق عهدها، وكأن شيئا لم يحدث.
أحمد المجلس البلدي
أنى تذهب كنت تجد أحمد العقلة ... نجارا تلقاه، حلاقا تلقاه، تاجرا في مخلفات الجيش تلقاه. ثم هو بعد هذا يجيد شغل الآلاتية، وكي الناس للشفاء من الأمراض، وجس البهائم العشر، والقيام بأعمال الأبونيه وتعهدات فرق المزيكا والرقص، وإصلاح الكلوبات والبوابير في الأفراح، وحتى في «تلتيم الموتى» تلقاه.
ومع هذا كله فقد كان بساق واحدة.
أو على وجه الدقة بساقين؛ ساق خلقها الله، وساق صنعها بنفسه على هيئة عكاز عظيم الشأن، تفنن في مسحه وتنعيمه وتزويقه، وحفر الحمام والعصافير والنساء الممسكات بسيوف عليه.
وإذا كانت ساقه التي خلقها الله وسواها تمشي في أمان الله وبصوت غير مسموع، فساقه التي خلقها هو لها دبيب معروف، وفي أي مكان من البلد يمكن أن تسمعه ... على الترعة، وعند المحطة، وفي القهوة، وفوق أسطح البيوت، وأحيانا في كل الأماكن مجتمعة. ساق يستطيع أن يعدي بها المصارف، ويقفز بها من فوق أكياس القطن، وينزل بها في «الباط» لشباب البلد ويغلبهم، ويدخل معهم في مسابقات جري على السكة الزراعية ... والغريب أنه يفوز.
وأحمد العقلة لا تستطيع أن تحدد له سنا أو هيئة أو حرفة حتى ولا قامة ... إذا أردته قصيرا وجدته، طويلا وجدته، أحيانا تبدو لك عينه اليسرى عوراء عن بعد وسليمة عن قرب، وتبدو اليمنى أحيانا كذلك، وله كتف أعلى من كتف، ووجه لا يريك إياه. وإنما إذا حادثته ظل كالحمار الذي تحاوره ذبابة يخفضه ويعليه، وينظر إلى جانب أو آخر، كأنما يلهيك عن رؤية وجهه؛ ربما لعلمه أنه لا يخضع خضوعا حرفيا لمقاييس الجمال المتعارف عليها.
إذا ضحك لا يضحك، وإذا حزن لا يحزن، وإذا تكلم تهته. وهو كثير الأسفار كثير الغياب، كثير المشاريع والتقاليع، يبدأ عملا من الأعمال أو حرفة من الحرف وينجح فيها، حتى إذا ما بلغ قمة النجاح تركها فجأة وبلا مقدمات إلى غيرها. قيل مرة إنه لو حافظ على ما كسبه؛ لأصبح من ذوي الأطيان، ويطير هو دائما وراء القائل مهددا إياه بعكازه، لاعنا أباه وأبا الأطيان.
تجده يوما في البلد ويوما في القاهرة ويوما في العريش، ويوما جالسا على قهوة بلدي في السلوم يروي لعربي بعقال حادثا غريبا وقع له في عنيبة على الحدود بين مصر والسودان، ومقسما بالله العظيم وبرحمة أبيه أنه حدث.
وإذا سافر سافر بالإكسبريس؛ فهو لا يطيق بطء القشاش، وإذا ركبه، ركبه في الدرجة الأولى العليا أي فوق سطح القطار، وإذا أراد أن يهبط لا يهبط كبقية خلق الله في المحطات، بل يهبط بين محطتين، والإكسبريس مارق بأقصى سرعة.
وكل شيء فيه يتحرك، ودائم التحرك ... يده تتحرك لتقص شعر واحد بطريقة مدهشة للغاية، أو تمتد إلى كيس خفي، وتخرج منه ولاعة غريبة الشكل صنعها بنفسه لتفرجك عليها، أو تقبض على يد أخرى، وتضغط عليها وتكاد تكسرها للهزل ليس إلا.
ولسانه دائم التحرك، يعدل حكاية رواها أحدهم ويكذبه فيها، أو يلقي إليك بخبر يذهلك، أو يخرجه لبنت حلوة يتصادف مرورها أمام الدكان.
وإذا حلق أحيانا لا يطلب من بعض زبائنه أجرا، وأحيانا يطير وراء الزبون من هؤلاء مطالبا بأجره، مهددا بضربة عظمى من عكازه ... وممكن أن تدخل دكانه فتجد نفسك وكأنك في متحف، فالدكان عشة من البوص أقامها بنفسه وطلاها بنفسه وبيضها بنفسه، ونقش أسفلها وأعلاها بنفسه أيضا. واللمبة الغاز من صنع يده، بل هو أيضا صانع البرنيطة التي تحجب ضوءها عن السقف ... وهو الذي دندشها بالرسوم والنقوش والآيات القرآنية ... ولا بد أن يفتح لك صندوقا من داخل الصناديق، ويخرج لك ماكينة حلاقة جديدة تلمع، ويقسم بالأيمان المغلظة أنه أرسل في طلبها من ألمانيا، وأنها جاءت باسمه رأسا. ولا تدهش إذا عثرت في ركن من أركان الدكان على تلسكوب، أو ميكروسكوب «يستعمل عدساته لإشعال السجاير من ضوء الشمس»، أو مدفع مترليوز من مخلفات الجيش.
ثم قد تجد نموذجا مصغرا لطنبور اخترعه أحمد العقلة، يديره أمامك ويفرجك عليه قطعة قطعة معددا مزاياه التي تتلخص في أنه ينقل كمية أكبر من الماء، ويمنع الفلاح من الإصابة «بالبلهاريسيا» ... وتتفرج عليه، ولا تجد فيه أي شيء ممكن أن يميزه عن الطنبور العادي المستعمل فعلا، وتقول لأحمد هذا، فيبتسم دون أن يبتسم، ويقول لك: اته ... اته ... اته ... اش اش فهمك ف ف الاختراعات ... ومع هذا فلو أعجبك الطنبور أو الميكروسكوب، أو حتى ماكينة الحلاقة الواردة رأسا من ألمانيا، فلا تنزعج إذا ناولها أحمد لك وأقسم بالله العظيم أنها: ما ماما هي عادت تابعاه.
غير أن أهم شيء في أحمد العقلة أنه لم يكن يطيق رؤية الأعوج ولا يصلحه. إذا رأى أن الكوبري الذي يصل ما بين البلدة والمحطة مهدد بالانهيار، فسرعان ما تجده قد خلع جلبابه، وأدار عكازه كالسيف الطائح في كل اتجاه، وأحضر أخشابا وأسمنتا وحجرا لا تدري من أين، وأصلح الكوبري. وإذا وجد كومة تراب تسد الطريق وتعاكس مرور العربات الداخلة إلى البلدة والخارجة منها، فستجده حالا قد استعار فأسا من دار قريبة، ونزل في التل خبطا وعزقا حتى سواه. «كيف يستعمل الفأس وهو يرتكز على عكاز؟ مسألة أخرى». وإذا خربت طلمبة الجامع يضيق بمحاولات عم باز القاتلة البطء لجمع ثمن إصلاحها من المصلين، وستجده حتما هو الذي لا يصلي، ويتخلص بمهارة من المحاولات التي تبذل لحمله على الصلاة، ستجده قابعا بجوارها يدق «قلبها» ثم يستمع، وأحيانا لا تفعل محاولاته أكثر من أن تزيد فسادها فسادا، ولكنه في أحيان يظل يقاوح حتى يصلحها.
إذا احتجت طعما لتصطاد السمك دلك على أحسن مكان تجد فيه الطعم، بل في أغلب الأحيان يستأذن منك دقيقة، ثم يعود وفي يده كرة الطين المملوءة بالطعم. وإذا قلت إن نفسك في الذرة المشوية مثلا، فثق أنه لن يهدأ حتى يسرق لك ملء حجره، ويشعل راكية نار ويشويها. وكل سعادته حينئذ أن يجلس يراقبك وأنت تلتهم الكيزان في نشوة، ووجهه قد احمر وسال منه العرق من كثرة ما هفهف على النار ونفخ وقلب الكيزان. وإذا عزمت عليه أشاح بوجهه خجلا، وقال لك بسعادة حقيقية: بل بل بل بالهنا والش ش ش فا. بالهنا والشفا.
وفي أي فرح لا بد ستجد عكازه يرتفع وينخفض ويزق وينزق، راقصا مرة، حاملا العريس على كتفه مرة أخرى. وهو الذي ينصب الدولاب والسرير، ثم هو الذي يعشي الناس، ويزكيه الجميع ليقف على حلة اللحم المسلوق، وتلك علامة الثقة المطلقة في أمانته ... وفي أغلب الأحيان ينتهي الفرح دون أن يتعشى. وقد يسكت عن تضحيته هذه أياما، ولكن سيرة الفرح لا بد ستأتي ذات يوم، فيفلت لسانه رغما عنه ويقول: ود ود وديني ليلتها ما ما ما تعشيت.
وأحمد العقلة له مع ساقه قصة مشهورة، بدأت في ذلك اليوم الذي جاء فيه مفتش الصحة للكشف على أحد المتوفين في البلدة، وانتظره أحمد حتى خرج وارتبك كثيرا وهو يحاول مواجهته والحديث إليه؛ فقد كان به ضعف من ناحية الأطباء، ويكن لهم بالذات احتراما لا مزيد عليه، ربما من يوم أن بتر أحدهم ساقه ... سأله أحمد عن حقيقة الإشاعات التي يسمعها، وتقول إن مستشفى القصر العيني يركب لمبتوري الساق أرجلا صناعية مجانية. وأحس الناس من سؤاله أن الموضوع الذي كانوا قد نسوه تماما لم ينسه أحمد للحظة واحدة. وأكد له الطبيب صحة الإشاعة، ولكنه قال له كلاما يثبط أقوى العزائم؛ فقد قال إن عمل ساق صناعية مسألة في حاجة لجهود كبيرة وإقامة، ووساطات لا قبل لأحمد بها، ومن رأيه أن يريح نفسه ويوفر جهوده، ولم يفعل أحمد شيئا أكثر من أنه ظل يهز رأسه، ويقول: ك ك ك كتر خيرك ... كتر خيرك ... وانسحب من أمام الناس الذين التفوا حوله وحول الطبيب والإشفاق يجتاحهم، وكأنهم قد أدركوا في تلك اللحظة فقط أنه ذو عاهة وأنه يستحق الرثاء، هو الذي كانوا يعاملونه باستمرار على أنه ند لهم فقط، ولكن على أنه جبار وقوي لا يستعصي عليه شيء.
وتلفتت البلدة ذات صباح، فلم تجد أحمد، وقيل إنه سافر، وقيل إنه سيغيب.
وفعلا غاب أحمد أطول مدة غابها، حتى بدأت سيرته تطرق الأحاديث، وتكاد مصمصات الشفاه تحدد له مصيرا تعسا مجهولا. ولكن مصير مين؟ ذات عصر وجدوا أحمد نازلا من القطار ماشيا على رصيف المحطة كما يمشي الناس، بساقين، وجلابية بيضاء جديدة. وكادت البلدة كلها تجتمع بشملها حوله تستمع لقصته التي كان يرويها بكلماته التي يخرجها تحت ضغط كغطيان زجاجات الكازوزة، وتتفرج عليه بعد أن جاء من مصر، وعلى ساقه الجديدة الصلبة كالحديد التي لا يستطيع الإنسان أبدا أن يعرفها من ساقه الأخرى. ومن تلقاء نفسه، كان أحمد يردد الحكاية وهو فرحان. سافر طبعا في أول قطار بأبونيهه الدائم فوق السطح، وذهب إلى القصر العيني وسأل وقطع تذكرة، وعرف اسم الطبيب الذي عنده الكشف، بل ذكر للناس أسماء جميع أطباء القصر العيني ورتبهم مضيفا إليهم ألقابا خاصة من عنده ... وسأله الدكاترة أين بترت ساقه؟ وبعشرة قروش أثبت لهم أنه عمل العملية في القصر العيني نفسه ... وقالوا له شهادات من الشئون الاجتماعية أحضر لهم شهادات، تعهدات جاء بالتعهدات، عفاريت زرق أحضر لهم العفاريت الزرق. وأخيرا وجدوا أن الطريقة الوحيدة للتخلص من إلحاحه وإصراره ومناكفاته أن يصنعوا له الساق، فبدءوا يتخذون إجراءات صنعها، ولكنهم أنذروه أنها ستأخذ وقتا طويلا، ربما شهرا وربما أكثر، فقال لهم: على مهلكم قوي ... معاكم لحد سنة واتنين. وظل وراءهم حتى عملوها ... وها هي ذي. ولكن السامعين كانوا يتركون قصة الساق وتشغلهم أسئلة أخرى ... كيف وأين استطاع أحمد أن يقيم كل تلك المدة، وهو الوحيد الساق في البلدة الكبيرة التي يتوه فيها الناس؟ فيقول أحمد ببساطة إنه كان ينفق على نفسه من متاجرته في الزجاجات الفارغة التي كان يبيعها للمترددين على المستشفى، وأحيانا كان يسرح بصندوق ببس أو برطمان هندي.
ويبقى سؤال آخر أين كان يقيم ويبيت؟
وتأتي إجابته: ف ف ف القصر يا ولاد.
فيدهش الناس ويسألونه: داخلية يعني؟!
فيجيب وهو ضيق بغبائهم وبالسؤال: لا لا لا لا ... داخلية إيه! ع ع ع الباب. •••
وبدأ أحمد يحيا في البلدة مستمتعا بساقه الأنيقة الجديدة. واضطر لشراء حذاء لقدمه الأخرى، فالساق الصناعية مجهزة بحذاء وجورب ... وحين أصبح من ذوي الأحذية وجد أن من المحتم أن يتخلى عن كثير من الأعمال التي يقوم بها ... لا جري، ولا هزار، ولا طلوع نخل أو نزول ترعة، وهمه كله أصبح المحافظة على الساق الجديدة وإبقاء حذائها نظيفا، وإبقاء جلبابه أكثر نظافة ليتلاءم مع نظافة الحذاء ... فلا نوم على الأرض، ولا حلاقة إلا للزبائن النظيفين، بل حتى هؤلاء الزبائن أصبح عليه أن يحلق لهم فوق كرسي؛ إذ لم يعد بوسعه أن يتربع خلف الزبون أو أمامه على الأرض. والسهم الأهوج المندفع الذي كأنه تضاءل وهبطت سرعته حتى أصبح يمشي كالناس العاديين وربما أبطأ، محافظة على ساقه وتمسكا بالوقار الذي تفرضه عليه، وحتى السفر أصبح المركز القريب هو آخر حدوده. وإذا سافر يركب كبقية المسافرين بتذكرة، وصعود على مهل وهبوط باتزان وأدب ... وأفكار غريبة أصبحت تتناثر من فمه لزبائنه الذين قل عددهم، ومعارفه الذين قلت تحيته لهم وتحيتهم له، أفكار بنعل ورباط وحمالات، أفكار عن فانلات حمراء بأكمام لا بد من اقتنائها، ومحفظة تحفظ قروشه من الضياع. وبدلا من الفنجرة والصرف على الأصحاب والشاي الذي يعبه طول النهار بغير حساب؛ لماذا لا يحاسب ويوفر ويبدأ في مفاوضة الحاج محمد على امتلاك الأمتار القليلة التي يقوم عليها الدكان؟ وبدل الشحططة والمبيت كل ليلة في مكان، لماذا لا يبدأ يستقر ويبحث له عن زوجة كبقية خلق الله، وقد زالت العاهة ولم يعد يخشى أن تنظر امرأته إلى غيره من الرجال؟ أفكار ومشاريع تكفلت بتعكير باله الرائق ومزاجه، وتحويل ضحكاته العالية وقهقهاته إلى نوبات غضب وزعيق، والطلمبة تخرب، ويأتي عم باز يستعرضه يرجوه فيخجل ويقول: حاضر يا عم باز. ولا يذهب ويكسل، ثم يقول لنفسه أ اشمعنى أنا يعني اللي أصلحها؟ مانا زيي زي الناس. وما دام الناس يصلون ولا يصلحون الطلمبة، أو يرفعون الأكوام من طريق العربات، فليبدأ هو يصلي وليبدأ يفعل مثلما يفعل الناس. والناس تأكل وتلبس وتتزوج، ويحيط كل منهم نفسه بما يحميه من ضربات الزمان؛ فلماذا يشذ هو ويبعثر جهوده وما لديه دون خوف من ضربات الزمان؟
بل المضحك أنه كان لا يغضب أبدا إذا عايره أحد بساقه المقطوعة، أو أشار إلى عاهته على سبيل المزاح. كان يضحك ولا يحس أبدا أنه عوير أو أهين. من يوم أن ركب الساق وأقل إشارة إليه أو إليها تجرحه، حتى أصبح أشد ما يؤلمه أن يكون جالسا محترما في مكان، ويمد أحدهم يده خلسة ليتحسس ساقه، وكثيرا ما يتحسس السليمة، فيشتعل أحمد غضبا ويثور، حتى صار له في كل يوم خناقة وضرب وتحقيق. •••
وفي يوم وجدته البلدة عائدا من غيبة فوق سطح القطار، ولم يهبط إلا بعد أن تحرك القطار. هبط هائجا كالزوبعة يجري ويضحك ويطير وراء الناس كالمجنون، حتى بدأ البعض يتساءل إن كان قد فقد عقله حقيقة. ولكنه لم يكن قد فقد عقله، كان قد فقد ساقه الصناعية، واستبدلها بعكاز من المشمش أيضا وقد أضاف إليه تحسينات ... وكان سعيدا جدا، وكأنما أفرج عنه بعد سجن أو خرج براءة من اتهام، يتطلع إلى البلد والناس وكأنه يراهم من جديد، وكأنه المسجون حين تفك عنه القيود. وانهالت عليه الألسنة تسأله عن ساقه وأين ذهبت؟ وقال أحمد يومها حكاية وعدل فيها، ثم عاد ونفاها، وروى حكاية أخرى. وإلى الآن لا يزال يروي عن ساقه في كل مرة قصة مختلفة. مرة يقول إنه كان جالسا على قهوة في المنصورة واضعا ساقا فوق ساق، وكانت الساق الصناعية هي العليا ... استرعت انتباه واحد من الأفندية المحترمين الجالسين، وسأله عنها وفصلها له بخمسة جنيهات ليشتريها لأخيه المبتور الساق. ومن هنا لهنا أوصل سعرها إلى عشرة، ووجد أحمد الثمن معقولا، ووجدها فرصة فخلعها وقال: خذها مبروكة عليك!
ومرة يقول إن أولاد الحرام نشلوا الساق، وهو نائم بها في منتزه في طنطا، وإنه حين ذهب إلى القسم ليشكو للضابط نشل ساقه ظنه الضابط مجنونا، وكاد يحيله إلى مستشفى المجاذيب.
ومرة يقول إن له صاحبا كان يعمل سواقا في بلاد فوق، وحدثت له حادثة بترت ساقه فيها واستعمل العكاز، ولكنه حين أراد أن يتزوج قصده ليستأجر منه الساق؛ ليتواجه بها أمام العروسة وأهلها، ولكن أحمد رفض أن يؤجرها له وقال: إذا كان سلف معلشي ... إنما إيجار لأ.
وهكذا أخذها الصاحب على سبيل القرض وبلا رهن، ولكنه بعد الفرح استحلاها، وطمع عليها، ولم يردها إلى يومنا هذا.
أكثر من قصة يرويها أحمد عن فقد ساقه، وينهيها دائما بضحكة عالية مدوية وبقوله: في داهية ... دا دا كأن الواحد كانت رجله مقطوعة.
ثم يترك السامعين مبهورين، ويجري وراء واحد سبه أو خطف طاقيته، أو ساهاه واستولى على الحقيبة الخشبية التي يحمل فيها عدة الحلاقة. يندفع عكازه كالقذيفة الموجهة طائرا في الهواء، ثم يتبعه بجسده في قفزات هائلة سريعة ترج الأرض.
شيء يجنن!
لست في حل من ذكر اسم المدينة التي يوجد فيها ذلك السجن العمومي، فالقصة لم تصبح بعد حكاية، ولا تزال في حكم الخبر الذي يتناقله النزلاء وموظفو السجن وأقارب هؤلاء وأولئك. وعلى أية حال فالسجون العمومية ليست كثيرة والحمد لله. بالكاد يوجد منها سجن في عاصمة كل مديرية مخصص للمحكوم عليهم بالحبس، أو السجن من المديرية نفسها، وما يحيط بها من مراكز أو محافظات.
والبداية مثل فرنسي يقول «فتش عن المرأة.» ولكننا لن نجد امرأة واحدة في ذلك السجن العمومي، فهو من النوع المخصص للرجال. والأنثى الوحيدة المسموح لها بالتجول في أنحاء السجن ليست امرأة ولكنها كلبة، أو على وجه التخصيص كلبة المأمور. وللمأمور في أي سجن عمومي منزل مقام داخل السجن لا تستطيع أن تفرقه عن بقية بناياته من الخارج، ولكنه قطعا فاخر المنظر من الداخل، ويحتل في العادة مكانا قريبا من المدخل، وله باب خاص، ولكنه محوط بالسور الرهيب الذي يحيط بالسجن من كل جانب.
ورغم أن «ريتا» (وهو اسم الكلبة) كانت تتمتع في السجن بحرية تحسد عليها، إلا أنها ظلت سيئة الحظ لفترة طويلة، لا لأنها الحيوان الوحيد الذي يحيا في مكان كل ما فيه من البشر، ولكن لسبب آخر؛ فكونها في بيت المأمور داخل السجن كان يمنعها منعا باتا من الاختلاط ببني جنسها من الكلاب في الخارج، وبالذكور منهم خاصة. والظاهر أن المسكينة بعدما تعلقت بأهداب الصبر فترة طويلة لم تعد في النهاية تستطيع، وبدأت تفقد السيطرة على نفسها وأعصابها، وساءت أخلاقها، وأصبحت مصدرا لشكوى لا تنقطع من السيدة الشابة زوجة المأمور التي كانت تصغره بخمسة عشر عاما على الأقل. مرة تهاجم النملية وتبعثر محتوياتها، وتدلق صفيحة السمن على الأرز، ومرة ترفض الطعام ويظل لعابها يسيل بلا سبب واضح، وليالي بطولها تمضيها في عواء غريب كأنها قد انقلبت ذئبة، وأحيانا تضبط في حالة استكانة غير لائقة لمداعبة أحد المساجين. وأخيرا ذلك اليوم الذي هبهبت فيه بشدة في وجه الولد الصغير حتى اصفر من الهلع، وحتى اقترح المسجون العجوز الذي يخدم في البيت أن «يرشوا» له في المكان الذي روع فيه. في ذلك اليوم بالذات أصرت الزوجة الشابة على أن يختار المأمور بين أحد أمرين؛ إما أن يتخلص من الكلبة بالتي هي أحسن، وإما أن تترك له البيت والسجن بأسره. والمأمور مع أنه كان رجلا شديد التدين أسمر البشرة سمينا، ذا لغد و«شامة» دائرية في حجم القرش تحتل وجنته اليمنى؛ إلا أنه كان شديد التعلق ب «ريتا»؛ ربما لأنها من النوع الأصيل الذي كان يعتز المرحوم والده بتربيته (ووالده كان هو الآخر مأمور سجون، وتعلم هواية تربية الكلاب من رئيسه الإنجليزي أيام كان الإنجليز هم الرؤساء في كل شيء حتى في السجون)، شديد التعلق بها إلى درجة كانت تدفعه لمناقشات بالغة العمق مع واعظ السجن حول نجاسة الكلاب، وأين تكمن بالذات نجاستها. مناقشات كادت تدفعه لإيثار مذهب الإمام مالك على أبي حنيفة الذي يتبعه؛ لأنه سمع أنه مذهب في بعض الروايات يبيح تربية الكلاب إذا كانت للحراسة ... ومن تحصيل الحاصل أن نقول إنه كان أيضا شديد التعلق بزوجته الشابة، ولا يمكنه بأي حال أن يفرط فيها. كل ما حدث أنه رأى أن المشكلة لا تستدعي أيا من الحلين، وحلها واحد لا غير ... أن يعقدوا للكلبة على كلب. وكان باستطاعة «ريتا» أن تحصل على عشرات الكلاب الذكور بحركة واحدة من ذيلها فقط، لو فتحوا لها باب السجن وتركوها تجرب حظها بالخارج. ولكن المأمور كان لا يمكن أن يسمح لها بهذا العبث؛ لخوفه أن يتلوث نسلها من ناحية؛ ولأنه كان يتمنى لو استطاعت «ريتا» أن تنجب ذكرا من أب أصيل حتى يستعيض بابنها عنها؛ إذ كان وجودها وهي الأنثى داخل السجن الرجالي الذي تتجول فيه كما يحلو لها قد بدأ يقلقه، ويحس أنه وضع لا يمكن أن يرتاح إليه مأمور حمش مثله.
كان على «ريتا» إذن أن تبقى رهينة المحبسين «سجنها وحرمانها»، حتى يقدر لها أن تظفر بكلب يعطيها نسلا أصيلا معروف النسب.
وشاء حظها الحسن ألا تبقى هكذا طويلا؛ فقد كان بالسجن موظف محكوم عليه في اختلاس اسمه فوزي واسمه المشهور به في السجن فوزي بك، وكان يعامل معاملة حرف «ألف»، ويمضي طول النهار يتنقل بين مكاتب الموظفين بقامته الفارعة النحيفة وبدلة السجن التي فصلها له ترزي ونظارته السميكة، ووجهه المسحوب الطويل طولا لا حد له، حتى يكاد الناظر إليه يعتقد أنه إذا ابتسم لا بد أن يبتسم بالطول. وكانت عائلة فوزي بك هذا تأتي لزيارته زيارة خاصة مرة كل أسبوع، تتم عادة في غرفة المأمور الذي كان ولوعا بحضورها وبالاشتراك في أحاديثها، ولو كانت عائلية أو خاصة، وبانتهاز الفرصة كلما سنحت الفرصة لقرص ابنة فوزي بك الكبيرة ذات الستة عشر عاما في خدها، وخدها كان يشبه التفاحة شكلا، ومن المؤكد أنه كان يشبهها طعما. في زيارة من تلك الزيارات جاء كلب ضخم من نوع «الوولف» مع العائلة. ومن لحظة أن وقع نظر المأمور عليه أدرك أن «ريتا» قد حلت مشكلتها، وأنه عثر لها أخيرا على فارسها. وبالمناسبة كان الكلب اسمه فارس، وإذا كانت الكلاب تقاس بما فيها من كلوبة؛ فقد كان من الواضح أن فارس يتمتع بقدر وافر منها. وما كاد المأمور يعرض الأمر على فوزي بك حتى إنه لم يوافق فقط، ولكنه أخذ يكيل للمأمور عبارات الثناء المنمقة على «بالغ عطفه» «وعظم تواضعه»، وتنازله بإسناد هذا الشرف إلى كلبه المتواضع.
وهكذا بعد الزيارة أخذوا «فارس» إلى مخزن الملابس والمهمات ليحتجزوه حتى يحضروا ريتا، وكان المخزن حافلا بأكوام الملابس الجديدة والمستعملة والكهنة، ولا بد أن الكلب أخذ يسلي نفسه بالقفز فوقها، والتطلع من نوافذ المخزن العالية؛ إذ بعد قليل سمعه النزلاء والحراس ينبح نباحا شديدا، ويحاول دفع رأسه بين حديد النوافذ ليغادر المخزن. ولا يعرف أحد للآن على وجه الدقة ماذا رآه الكلب بالضبط وأثاره، فالمخزن كان يطل من جهته الخلفية على فناء السجن الداخلي حيث كان المسجونون حرف «ب» في حالة «طابور» أي في حالة فسحة. ربما مشهد المئات منهم ببدلهم الزرقاء ذات السراويل التي تقصر أحيانا فلا تكاد تصل إلى الركبة، وتطول أحيانا حتى تجرجر على الأرض، والتي يبدون فيها على هيئة بشعة تكاد بشاعتها تبعث على الضحك، أو ربما تكون «الزيارة من خلال السلك» تلك التي يقف فيها مئات الأهالي في ناحية، وعشرات المساجين في ناحية أخرى، ويحشد كل منهم طاقته في صوته ليصرخ ويشتاق ويسلم، لتصبح الزيارة مظاهرة مجنونة حافلة بالأيدي المشوحة والاستغاثات والدموع. ربما هو مشهد الخارجين للمحاكمة الجالسين القرفصاء ببدلهم القذرة على الأرض، في تشابه لا تكاد تميز فيه شخصا عن شخص، ولا بدلة عن تراب، ربما هو الجو العام للسجن الذي يطبع كل شيء بطابع غريب مرير، ويبدو فيه المساجين آلافا من البقع الزرقاء والبيضاء المنتشرة كالجراد البشري مرصوصة على الأرض تقطع الطوب، متعلقة بالحيطان تطليها وخالعة ملابسها تسلك المجاري، وسائرة اثنين اثنين وبين كل اثنين جردل فيه ما فيه من ماء أو «يمك» أو قاذورات. أو لا بد أن التي أثارت «فارس» هي القضبان ... في كل مكان قضبان، وكل شيء بينك وبينه قضبان ... بعض الناس قالوا إن الذي أفقد الكلب صوابه كان منظر أرغفة عيش السجن. وقال آخرون بل هو إحساسه أن الباب أغلق عليه، وأصبح أسير الجدران. المهم أن الكلب ظل نباحه يرتفع، ولا يترك فرجة في المكان إلا وجرب فيها نفسه وجسمه، حتى زرق من خلال فتحة التهوية في المخزن، وقفز المسافة الكائنة بينه وبين دور تسعة، ومنه إلى سور المسجد، إلى الخلاء. وحدث هذا قبل أن ينتبه أحد، بل دون أن ينتبه أحد ... فالحقيقة أنهم لم يكتشفوا هربه إلا حين ذهبوا يفتحون باب المخزن، وقد أحضروا ريتا.
هاج المأمور طبعا، وكادت الشامة اللاصقة بوجنته تقفز غضبا، وتخترق عين السجان الذي ذهب يبلغه بما حدث. وأسرع فوزي بك يعتذر عن تصرف كلبه، ويعد بإنزال العقاب به وتوصية الأسرة بحرمانه من الطعام. وظل طوال الأسبوع كلما قابل المأمور يعتذر، حتى حان موعد الزيارة التالية، وجاء الكلب مع العائلة، ونبه المأمور زيادة في الاحتياط بأن يحجز الكلب في إحدى الزنازين الانفرادية التي يوضع فيها كبار المجرمين إذا عصوا أو أذنبوا. وخصص لحراسته أرذل سجان في العنبر. ولتسهيل المهمة أكثر، وضعت «ريتا» في الزنزانة هي الأخرى حتى لا يضيع الوقت في البحث عنها. وأخذ فارس بعد الزيارة من صحبة العائلة إلى الزنزانة، حيث أدخل فيها بخدعة وأغلقوا عليه الباب. ووقف السجان يراقبه من خلال «العين» الموجودة في الضلفة. وما كاد الباب يغلق على الكلب، ويدرك أنه أصبح سجين جدران أربعة، حتى راح يهبهب دون أن يعير «ريتا» أقل انتباه وكأنه لا يراها، ثم تحولت هبهبته إلى عواء. وما لبث السعار أن انتابه، فمضى يقفز ويجري في اتجاه النافذة وينشب أظافره في الضلفة ويخربش الحائط، بينما علا نباحه حتى كاد يصم الآذان. وكلما أوغل في محاولاته انكمشت «ريتا» على نفسها، وانكمشت واضعة ذيلها بين فخذيها، محتلة من ركن الحجرة القصي أصغر مساحة يمكنها أن تحتلها، تاركة بقيتها لهذا البركان الهائج. ظل الشاويش يراقبه منتظرا أن يعقل ويهدأ بلا فائدة، كلما كان الوقت يمتد كان سعاره يزداد والزبد الذي حول فمه يتكاثر. وجرى الشاويش بالأخبار إلى المأمور، وسبه المأمور قائلا إنه هائج لأنه لا بد جائع، وأمره بأن يقدم إليه ثلاث قطع كبيرة من اللحمة التي يأكل منها المساجين، وعاد الشاويش مهرولا لينفذ الأمر، غير أنه ما كاد يفتح الباب ليلقي اللحم حتى فوجئ بقفزة هائلة من الكلب، وثب فيها على أكتافه وألقاه أرضا، وبقفزة أخرى كان قد أصبح خارج العنبر، وبثالثة كان قد أصبح خارج السجن، ومضى يجري ويجري مبتعدا لا يلوي على شيء.
ولم تكن السقطة وحدها هي كل الجزاء الذي حل بالشاويش؛ فقد أقسم له المأمور بشارب أبيه أنه لن ينساها له، وأنه سينتهز أول فرصة، وينقله إلى سجن الواحات. بل شمل غضب المأمور فوزي بك نفسه، واستمع الرجل للتأنيب وهو صاغر، وحاول أن يعتذر فرفض اعتذاره، ولم يسمح له المأمور بفرصة إلا أن يرسل في طلب الكلب فورا؛ وإلا كان ما كان.
وأرسل أحد السجانة إلى منزل عائلة الرجل ليحضر الكلب المارق، ولكنه عاد يقول إن الكلب لم يعد بعد، وإن العائلة تقضي وقتا عصيبا في انتظار عودته. وأرجعه المأمور إليهم ليخبرهم بأن عليهم إحضار الكلب متى عاد، وفي أي ساعة يعود ولو كان في منتصف الليل. ولم يعد الكلب للعائلة إلا بعد انقضاء يومين، يبدو أنه ظل تائها فيهما في المدينة. وخضوعا للأوامر أحضروه، وكانوا قد استعدوا له هذه المرة، فأمر المأمور بإدخاله حين حضوره مع «ريتا» في الفناء الداخلي لسجن التأديب، وهو فناء تحيطه الزنازين من كل جانب، وسقفه مصنوع من القضبان، وبابه من حديد وقضبان أيضا، ولا يمكن أن يهرب منه أبدا. وكان على الكلب أن يبقى مع «ريتا» في هذا الفناء، حتى يتم كل شيء، على أن يقدم لهما الطعام والماء خلال المسافات الكائنة بين القضبان ثلاثة عساكر بالبنادق، على رأسهم شاويش التأديب المعروف بقسوته وجرأته.
وتم كل شيء تماما وفق ما أراد المأمور، ولكن الكلب بدا كأنه فقد عقله نهائيا هذه المرة، فقد قضى يوما بطوله ينبح ولا يكف عن النباح، وفي الليل لم يدع أحدا يغمض جفنه لا في فناء السجن ولا في بيت المأمور. وقرب الفجر أحس الديدبان بحركة في سقف فناء التأديب، وقبل أن يصرخ ويقول «م اللي هناك» كان الكلب قد أرغم جسده على المروق بقوة جبارة من خلال المسافة الصغيرة الكائنة بين حديدتين. وفي ومضة كان يقفز من سقف إلى سقف إلى خارج السجن.
ولم يعد لمنزل العائلة لا ليلتها ولا ما تلاها من أيام وليال، وبحثوا عنه في كل مكان فلم يجدوه أبدا، كان بلا ريب قد غادر المدينة كلها إلى غير رجعة.
آخر الدنيا
حين ذهبت شمس الشتاء الصغيرة، وجاءت الشمس الكبيرة، وهبت نسمات الحر تؤذن بقرب الامتحان ... كان أهم ما يشغل باله هو ضياع تلك القطعة الفضية المسدسة الأحرف ذات اللمعة الهادئة الوقورة والنعومة الخشنة التي يبعث ملمسها الفرحة والأمان.
وحين رجوعه إلى البيت وقد ضعضعته رحلة العودة، وملأت جسده النحيف الأصفر بالعرق الصغير الأبيض، مد يده في جيب البنطلون وحين لم تلمسها كذب أصابعه وعاد يمدها. وكلما أكدت الأصابع أنها غير موجودة ازداد تكذيبا لها ... ولم يبدأ الخوف الأكبر ينتابه إلا حين فتش جيوب البنطلون كلها والجاكتة والجلباب ومكان وقوفه، وكل بقعة من أرض الغرفة المظلمة التي لا يأتيها النور إلا من كوة صغيرة قرب السقف ... لم يبدأ الخوف الأكبر ينتابه إلا حين فتش الحجرة وما فيها بحرص وإمعان، وكأنما يفتش كفه ... ولم يجدها.
حينئذ فقط كانطلاق الاستغاثة في ريف ساكن، كالخبر القاصم للظهر ... كالمصيبة المفاجئة، أدرك أنها ضاعت ولم تعد في حوزته ... ووجد نفسه ينهار على الأرض نصف خالع لملابسه، وهو لا يعرف شيئا، ولا يفكر في شيء ولا ما يجب عليه أن يفعل، وكأن عقله قد ضاع منه أيضا ... وطالت الجلسة وامتدت وهو يحس بها وكأنها لم تبدأ، وكأنها جريمة أن يتحرك ... لم يبدأ يتحرك إلا حينما بدأ صوت رفيع يعلو داخله ويقوى، ويؤكد له أنها أبدا لم تضع، وأنها لا بد موجودة في مكان ما، وما عليه إلا أن يجد المكان ليجدها. هنا فقط تحرك وأكمل خلع بذلته، وأكمل ارتداء جلبابه وعاد يفتش الحجرة ومحتوياتها من جديد، ثم خرج إلى فناء الدار الواسع غير المنتظم، وصعد إلى السطح، وبعود من الحطب عسعس فيما أمام البيت من تراب، بل الكناسة أيضا، فرزها بالعود وبعينيه وبكل قدرته على التمييز ... ولكن بحثه في كل تلك الأمكنة كان نوعا من أداء الواجب ... لم يكن قد فقد شيئا قبل الآن ... فلم يكن أبدا قد امتلك شيئا ... ولهذا فهو لم يجرب أيضا أن يبحث عن شيء، ولا أحس أبدا بهذا المزيج الغريب من الأفكار التي تفزعه ويطردها، فتعود أقوى، فيكاد يبكي مخافة أن يكون ما يحدث له هو الجنون الذي يرسلون من أجله الناس إلى السراية الصفراء.
لا يهم الآن أين هو أو ماذا يفعل، ولا إن كان قد قدر له أن يظل حيا إلى يومنا هذا؛ فربما عاش واغتنى وبنى لنفسه قصرا وأحس بأهمية أشياء كثيرة، ولكنه أبدا لا يمكن أن يكون قد أحس بمثل الأهمية التي أحسها يوما ما لتلك القطعة الفضية المسدسة الأحرف ... ليس لأنها أول نقود أعطاها له أبوه ... فأبوه كان دائما يعطيه أشياء كلما جاء لزيارتهم ... والحقيقة أنه لم يكن يأتي كثيرا ... كل بضعة شهور مرة ... يفاجأ حين يعود من المدرسة بصوته الحبيب يأتيه من وراء الباب قبل أن يفتح له الباب ... أو يكون الليل قد استتب وسكنت الأصوات كلها، ثم مر قطار آخر الليل بصفيره الحزين النعسان ... ومرت بعده دقائق، وإذا بالقبضة تدق على الباب، وبالصوت أحب صوت يقول: افتحوا أنا فلان ... ولهذا فما من مرة كان يعود فيها من المدرسة ويطرق الباب، فما من مرة يفوت فيها آخر قطار إلا ويستجمع نفسه استعدادا للمفاجأة، واستعدادا لما قد يعقبها من خيبة الأمل.
وإذا جاء أبوه أخذه تحت إبطه واحتضنه وقبله قبلة سريعة في خده، ودس يده في جيبه وأخرج له شيئا: حبة كراملة ... قلم رصاص جديد غير مبري، وأحيانا يدس يده ولا يخرج شيئا، ويحس بأبيه محرجا فيفتعل سببا، ويختفي لينقذه من الإحراج ... وفي كل مرة يأتي يظن أنه قد استحوذ عليه أخيرا، وأنه لن يفلت منه أبدا. وفي كل مرة يحدث ما يؤلمه، فيعود من المدرسة أو من الخارج ليجد أن أباه قد ساهاه وذهب. يدور في أنحاء البيت ويصعد إلى السطح، ويجري إلى الجامع يفتش صفوف المصلين الراكعين أو الواقفين ... أو حتى الساجدين الذين قد اختفت كل معالمهم ولم تبق لأيهم سوى قدم واحدة واقفة تسند الجسد، وبلمحة واحدة يلقيها على الأقدام كان يدرك أن أيا منها ليست قدم أبيه.
ويلهث حينئذ إلى المحطة لعله في مكان ما في البلدة لم يسافر بعد، ولا بد سيأتي لركوب القطار، وتمر القطارات ذاهبة وآتية ولا يظهر له أثر، حتى إذا مر قطار الرابعة تملكه اليأس الكامل، وجازف بنفسه ومر من أمام «الراس» في طريقه إلى البيت يكاد يبكي ... وأحيانا يبكي ويحس أن البكاء لا يعبر أبدا عن ضيقه، وأن الحل الوحيد أن يساهيه القطار، ويظل يدهمه ويدفعه حتى يوصله إلى بعيد ... أبعد بعيد ... آخر الدنيا.
ويصل البيت وتسأله الجدة أين كان. فيتخابث هو ويسألها أين أبي؟ ... فتجيبه بتلك الكلمة التي يحس بها كزلطة السكة الحديد حين تدق الرأس: سافر. لكم كره السفر وتمناه؛ فهو الذي يأخذ أباه منه، وهو أيضا الكفيل بأن يذهب به إليه ... وكأنما تتذكر الجدة ... إذ لا بد أن تعنفه على شيء حدث في أثناء زيارة أبيه ... ثوب متسخ، أو شحوب زائد عن الحد، أو كلمة شكوى تفوه بها، وبيد جافة معروقة تأخذ أنفه بين إصبعيها لتمسحه وتعلمه النظافة، وإن تململ ثبتته في مكانه بقرصة أذن. وإن قال: «يا اما» لكزته قائلة: اسكت يا ابن النجسة ... ويحس بالخجل الشديد كأنها عرته أمام الناس، ومع أنه يعلم تماما أن جدته فظة المخارج فقط، وأن كلامها مع الجميع شتائم.
ويحين العشاء ... والعشاء دائما خضار من الغيط مسلوق أو أرز بالتقلية، والطبلية تزدحم بأيد كبيرة خشنة، وحتى النساء اللاتي يخجلن في حضرة الرجال لا يخجلن ساعة الطعام، ويروح الكل يأكل في نهم، والأيدي تتسابق بلقم كالفئوس تفرغ الغموس في ومضة، ويده صغيرة كيد القطة يمدها خلسة ويدعي الأكل، خائفا أن يدرك أحد أن الطعام لا يعجبه وأنه دلوعة وأنه طفل، فالجميع كبار يعاملونه كالكبير، ولا يمكن أن يجعلهم يتصورون أنه صغير. ولا تكون به حاجة للادعاء فلا أحد يفطن إليه والكل مشغول عنه، والقطط وحدها هي التي تهرب من القبضات الساحقة الزاجرة وتستهيفه وتتكاثر عليه، تمد يدها قبل يده، فإن حاول سبقها زجرته وماءت في وجهه وأخافته.
وفي أحيان يضيق بالعشاء ويروح يتصور عشاء آخر مع عائلته الحقيقية وإخوته الصغار والكبار، فلا بد أن له إخوة، ولا بد أنهم يتناولون الآن طعاما أحسن، وأبوه يأخذهم تحت ذراعيه ويهدهد عليهم، وأمهم - أمه - تدللهم وتطعمهم ... لا بد هذا رغم كل ما تقوله الجدة وتقسم عليه، رغم تأكيدها بأنه لا إخوة له ولا أم. إنه شيطاني ... مرة انتابه العناد، وظل يبكي ويطالب الجدة أن تدعه يذهب إلى إخوته وأمه، وحين لم يفلح فيه زجر أخذته الجدة في حضنها وقبلته، وقالت له وهو يرى الدموع في عينيها إن أمه سرقها حرامي ذات ليلة من أبيه، وألا فائدة من بكائه أو إصراره؛ إذ لا أحد يعرف مكانها أو أين تقيم، وأنها هي أمه الحقيقية التي سيعيش معها إلى الأبد ... ليذهب كالشطار إلى المدرسة ويتعلم، ويصبح غنيا وأفنديا كالبهوات. وحين حاول المحاولة الأخيرة، وطلب أن يذهب إلى مدرسة من المدارس القريبة من أبيه، ضمته جدته وهي تخبره ألا مكان له عند أبيه؛ إذ هو يعمل هناك بعيدا جدا بينهم وبينه أسفار وأسفار. - عند آخر الدنيا يا جدتي؟ - تماما هناك يا بني ... مكانك معي هنا لتكون قريبا من المدرسة.
ورغم هذا فلم تكن المسافة بين بيت جدته والمدرسة تقل عن الأربعة كيلومترات، يصحو لها من الفجر ... توقظه العمة أو زوجة العم التي يكون عليها الدور في جلب الماء من الترعة، وتصب عليه من إبريق فخار في ماء مرصرص يوقف شعره، ويدمي فروة رأسه، ويظل لا عمل له طوال الطريق إلا النفخ في يده. ويجري حتى لا يتأخر والطريق مضبب نصف مظلم وطويل لا نهاية لطوله، ويقطعه وحيدا؛ فزملاؤه لا يصحون في هذا الوقت المبكر. ومع هذا يسبقونه إلى المدرسة وقد أركبهم آباؤهم ركائب، أو قطعوا لهم تذاكر بتعريفة في أول قطار. ودائما يصل والطابور واقف، ولا بد له كل يوم من خيزرانات أربع أو خمس ... للتأخر أو لقذارة الحذاء، أو لعدم الحلاقة ... وبأيد صغيرة ورمها البرد وخدرها الضرب. وبأذن حمراء بالزمهرير وما تيسر من القرصات، وببدلة جرباء كالحة وركب مسلوخة وشبه حذاء، يدخل الفصل منكس الرأس، وربما لهذا كان يطلع الأول ... دائما الأول، ودائما هو أكثر التلاميذ انتباها ... ربما لكيلا ينتبه إلى نفسه ويخجل. في فسحة الغداء فقط يعود رأسه ينكس، حين يترك غيره يذهب إلى المطعم أو الكانتين ويذهب هو ليبحث هناك عند آخر السور على منديل الغداء الذي طبقوا له فيه الرغيف على قطعة الجبنة، والذي كان يخفيه بجوار السور، ويتكفل لونه الذي لا يختلف عن لون الأرض بحفظه من الضياع. وما أعمق الراحة التي كان يحسها حين يدق آخر جرس؛ إذ معناه أن تبدأ رحلة العودة ... نفس الطريق الذي قطعه لاهثا مذعورا يعود منه الهوينى، وبالهوينى يحلم ما يشاء من الأحلام. وقد لا يحلم أبدا ويظل طول الطريق سعيدا يكاد يطير، فقط لإحساسه أنه هنا يستطيع أن يختار أي حلم ويحلم به ... وأي هدف ويحققه. هنا يستطيع أن يعثر على أمه، ويستحوذ إلى الأبد على أبيه، ويسافر إلى آخر الدنيا، ويجد الكنز وخاتم سليمان ومصباح علاء الدين.
وفي نفس طريق العودة هذا فقد كنزه الحقيقي، القطعة ذات القرشين التي أعطاها له أبوه في زيارته الأخيرة ... وقبل أن يغيب غيبته التي طالت، وأسالت دموع جدته مرارا. ويسمع الهمسات أنه لن يعود إلى البلدة مرة أخرى ... أشياء لم يكن يحفل بها، فالهاتف الذي في نفسه يؤكد له أنهم جميعا يكذبون عليه، فمن المستحيل أن يتركه أبوه هكذا ولا يعود إليه. بل هو لا يعرف تماما لماذا أبطل التفكير في أبيه، ووضع همه في القطعة ذات القرشين ... صحيح كان يدرك أنها نقود ولكنه يدرك بالسمع، فهو لم يشتر شيئا ولم يبع، ولا امتلك قرشا أو مليما في حياته، ووضعه في محفظة أو كيس، بل لم يكن قد امتلك أبدا شيئا لنفسه ... البدلة والكراريس والأقلام كانت أشياء يعطونها له ليذهب إلى المدرسة، والأشياء التي كان يعثر عليها أحيانا ويحفظها، ويصنع لها صندوقا، ويضعها فيه كان يدرك من أعماقه أنها بغير قيمة، ويستغرب حرصه على إبقائها عنده واعتنائه بها؛ فهو لا يتحمس لها إلا حين تضيع أو يكتشف ذات مرة أن جدته تخلصت منها.
القطعة ذات القرشين أو «أم أربعة» كما كانت الجدة تسميها، كانت شيئا آخر. لأول مرة في حياته أحس أنه أصبح مالك شيء ذي قيمة عظمى! إنها ليست نكلة أو ربع قرش أو تعريفة أو غير هذا من القطع التي كانوا يسمحون له بإمساكها في يده، أو التفرج عليها ... إنها قرشان بحالهما، في قطعة من الفضة، الفضة التي يسمع الناس يتكلمون عنها باحترام لا يعادل إلا احترامهم للذهب ... أيام أن أعطاها له أبوه لم يكن قد أحس بأهميتها. كان مشغولا كالعادة بخوفه من أن يسافر، وبالضيق الذي ينتابه حين يسافر، والأقاويل التي أعقبت سفره. حين بدأ يفطن إليها وإلى أنها ملك خالص له لا يشاركه فيه أحد كاد ينسى أباه، والدنيا وكل ما في حياته.
وظلت معه طوال الشتاء ... إذا عاد من المدرسة كان يضعها في كيس صغير خيطه بنفسه لأجلها، ويحكم وضع الكيس في جيبه ... كلما خرج من البيت تحسسها ... كلما جاء عليه الدور في لعبة «ضربونا» اطمأن لوجودها. ولا ينام إلا إذا ملس عليها، ويستعجل اليقظة ويصحو فرحا؛ لأنه من جديد سيضغطها بين أصبعيه، ويقلبها ويستمتع مرة أخرى بلمس خشونتها. إذا ارتدى البدلة نقلها إلى جيب البنطلون، وقبل أن يخلعه يكون أول ما يفعله أن يعيدها إلى الجلباب. وأغرب شيء أنها، وهي معه ويتحسسها طوال الطريق، كان يحس بالدنيا دافئة وبخطواته أسرع، وحتى إذا ناله على التأخير ضربات، وتورمت يداه فقبل أن يدخل الفصل كان يناضل لكي تستطيع أصابعه التي فقدت حركتها وإحساسها أن تطبق عليها. وحين تنقل إليه الأصابع حجمها مبالغا فيه ومضاعفا، وملمسها مخالفا مغايرا، وكأنما تورمت هي الأخرى. وفقدت الإحساس ونالت خيزرانات، حين يحدث هذا في التو كان يذهب الألم عن يديه والمهانة عن نفسه، وفي الفصل إذا استعصت عليه الإجابة استنجد بها، وإذا خانته الذاكرة وأخطأ وأحس بالمذلة، تعزى بأنها على الأقل معه في متناول يده. وتركزت أحلامه في طريق العودة حولها ... أحيانا يتصور أن أناسا يعرضون عليه مائة جنيه ليأخذوها، ورغم إدراكه أن الجنيهات المائة مبلغ لا حد لضخامته؛ فإنه كان إذا وصل في أحلامه إلى مرحلة التنفيذ لا تطاوعه نفسه فيرفض، ويرفض حتى مبلغا أكبر ... ويقول الناس عنه إنه مجنون، ويسألونه كيف لا يقايض عليها بمائة جنيه وأكثر، فيعجز هو عن تقديم السبب، إذ هو نفسه لا يستطيع أن يعرف لماذا يحبها كل هذا الحب، ويفضلها على مال الدنيا كلها، وحتى على مصباح علاء الدين!
وحين يستعرض في الطريق مخازي اليوم، ودائما كانت له كل يوم مخاز، ويتذكر نظرة مدرس الجغرافيا «الملظلظ» السمين ذي الحذاء البني الذي لم تر عيناه شيئا في مثل لونه البني الجميل، ولمعته التي تخطف البصر، ونعله الثخين السميك المحلى حين يتصل بالجلد بعدد لا نهاية له من الخطوط الدقيقة القصيرة المتوازية. أعظم ما كان يتمناه في حياته أن يرتدي حذاء بمثل تلك اللمعة والنظافة. حين يتذكر نظرته إليه النظرة التي كلها اشمئزاز، وكأنه ينظر إلى دودة أو بصقة، وكلامه عنه وعن أبيه، وبصيغة الجمع، وعن أبيه بالذات وفقره وفقرهم، وكأنهم مصابون بداء منفر تتقزز له النفس اسمه الفقر، حين يتذكر ضرب التلامذة الكبار له وقذفهم الحبر على بدلته، وجاره ابن عامل تليفون هندسة الري الذي ترك له التختة وحده، وذهب إلى تختة أخرى هامسا في أذن جيرانه بأنه لم يعد يطيق رائحة البصل والمش التي تفوح منه، حين يطارده لقب «أبو ضب» الذي أطلقوه عليه ظلما حتى آمن به وبدأ يفكر في وسيلة لانتزاع أسنانه، حين يستعرض ويضم نفسه على نفسه، وكأنما يريد أن يخفي نفسه عن نفسه، لا يبدأ ينسى ويعود يحلم ويسعد إلا حين يتذكرها ويدس يده كالملهوف ويطمئن عليها.
وفي ذلك اليوم حين خلع البدلة، وعرف أنها ضاعت، وظل ما تبقى من اليوم منحنيا يبحث، أو نائما على بطنه يخترق الظلام بأنظاره ويتأمل، وأوى أخيرا إلى مضجعه بين الأجساد الكثيرة التي تحفل بها وبنفسها وشخيرها الغرفة. كان كل ما يشغل باله قبل أن تغمض جفونه أنه - بعد - لم يجدها. وحين استيقظ ومد يده مرة واحدة إلى الكيس عن بعد وتلمس جميع أطرافه، استعد لصرخة فرحة، وأطبق يده مرة واحدة على الكيس، ولكن يده لم تطبق إلا على الهواء، وكان الكيس كالأمس لا يزال فارغا. تورم قلبه وتمدد يحتل كل صدره، ويكاد يوقف أنفاسه عن التردد. ما فائدة الصباح الباكر أو المدرسة، أو أن يكون الأول ويصبح كالبهوات إذا لم يجدها؟
ومضت أيام كثيرة ... خميس وجمعة وراء خميس وجمعة، وما فعله في اليوم الأول كان يفعل بعضه في الأيام الأخرى، فيعيد تفتيش الدرج أحيانا، أو يتأمل البقعة التي يقف فيها حارسا لمرمى فريق الكرة الزلط، أو يعيد تقسيم الحوش إلى مربعات جديدة يتفحصها إصبعا إصبعا. مضت أيام وعاد يضحك ويحزن ويلعب «ضربونا»، ويعاني من خشونة الجدة وخيزرانات المدرسين، ولكنه كان وكأن شخصا آخر هو الذي عاد يفعل كل هذا، شخصا لا يفرح ولا يحزن، ولا يجد في الألم ألما ولا في أحلام العودة سعادة. أما شخصه هو فقد ظل دائما معها، وكأنها كانت تمتلكه، وحين ذهبت أخذته وأخذت انتباهه وكل إحساسه، كلما فتح فمه ونطق شيئا، كلما كف عن الحديث وسهم، كلما أحس أنه يريد أن يفكر، كلما بدأ يضحك، كلما صادفته سعادة صغيرة ... حبة طماطم أو برتقالة أو أستيكة يكافئه بها مدرس الحساب على معضلة، كلما أحس بالعضة وأدرك مفجوعا أنها ضاعت، وأنه لا يزال لم يعثر لها على أثر، وهنا ومن جماع نفسه، وبكل ما يمتلك من عناد وتصميم، كان يهتف ويكاد يصرخ ويسمع الناس أنها لم تضع، أبدا لم تضع، فلا بد أنها موجودة في مكان ما من الدنيا تنتظر منه أن يعثر على المكان فيعثر عليها.
وفي يوم وقد مضى الشتاء وبدأت الدنيا تحفل بالشمس الكبيرة والحر ورائحة الامتحان، كان عائدا ما كاد يخلع الجاكتة ويلقيها ويلتقط أنفاسه من رحلة العودة، حتى تذكر - هكذا - وكأن يدا لا يعرفها امتدت ووضعت الفكرة في رأسه ثم تلاشت، تذكر أنه في اليوم الذي فقدها فيه تماما كانت نفسه قد زينت له أن يحصل على بضع كيزان من التين الشوكي المزروع فوق جسر السكة الحديد، وأنه لأول مرة خالف نصيحة أبيه الذي كان يوصيه على الدوام بألا يصعد إلى الجسر أبدا، وأن يمشي على الناحية المحاذية للخليج من السكة الزراعية، بحيث إذا ميلت عليه سيارة قادمة يصبح بإمكانه أن يخوض في الخليج الضحل. يومها خالف النصيحة، وصعد إلى الجسر، وزاغ بصره بين الكيزان الناضجة الصفراء كالكهرمان، وبين جلباب عم علي الأسود الذي يشتري التين من المصلحة ويحرسه ويبيعه. لا بد أنه في خضم خوفه واضطرابه ومحاولته أن يحاذر الشوك، وأن يفك ملابسه بطريقة يدعي بها لعم علي أنه يقضي حاجته فيما لو ظهر له فجأة، لا بد أنها سقطت منه في ذلك المكان، ولا بد أنه لم يع وهو في حالته تلك بسقوطها.
ورغم أن الأمر كان مجرد فكرة بعيدة الاحتمال، أبعد منها أن تكون قد ظلت في مكانها تنتظره طوال تلك الأسابيع هي الجديدة أو تكاد، ذات اللمعة رغم هذا، إلا أن الفرحة التي اجتاحته أغرقت بفيضانها أي تردد أو شك، فرحة حقيقية جعلته يدرك أنه لم يكن يفرح، وحين انطلق يجري بالقميص والبنطلون قافزا فوق جدته التي كانت تجلس على عتبة الغرفة، تلضم عقود «البامية الناشفة»، أحس أيضا أنه لأول مرة يجري أو يمشي أو يتحرك، أو يهمه الجري والتحرك. ودون أن يعي كان قد حدد لنفسه ما يجب عمله؛ فالتين الشوكي مزروع بطول الأربعة كيلومترات التي يستغرقها الجسر، وهو لا يعرف في أي بقعة بالذات قام بمغامرته ... ولهذا فسيمسك الجسر من الأول من محطة البندر إلى أن يجد البقعة. ولم يلتقط وعيه بنفسه، ولم يبدأ ينظر إلى الشيء المحدد؛ إلا حينما أصبح، وكأنما بسرعة البرق عند محطة البندر. ونظر إلى الجسر الطويل واستعذب النظر، ففي مكان منه سيجدها، ولا يهم الطول فكلما طال البحث امتدت النشوة، وأيضا لا يهم أنه للمرة الثانية يخالف نصيحة الأب، وتحذيره بأن القطار لو فعل سيقطعه قطعا قطعا ... أكبر قطعة منها في حجم القرشين ... فهو للمرة الأخيرة يخالفها ولا خطر هناك، فالساعة بالكاد قد بلغت الثالثة، وباقي على القطار القادم، قطار الرابعة، ساعة، والأمر لن يأخذ دقائق. •••
وقدما قدما فوق الفلنكات الخشبية مضى يتحرك ويتوقف، ويجول بعينيه خلال الزلط الكثير، عشرات الزلطات ومئاتها وآلافها، ثم ينحني ويتفحص جذور التين وأوراقه الجافة ثم يعود للسير، ولكنه كان يدقق ويتفحص الأداء الواجب ليس إلا؛ فقد كان يعتمد على انفعال ما سينتابه حين يصبح عند البقعة التي قام فيها بمغامرته؛ إذ رغم أن تينها لا يختلف عن غيره في طول الجسر ، وزلطها لا يختلف عن الزلط؛ إلا أنه متأكد أنه لو رأى ألواح التين وأوراقه وشجرته التي أخذ منها في الحال سيعرفها. وهكذا مضى يزحف قدما قدما ينظر أداء للواجب، ويتأمل الأوراق والبقع، منتظرا أن تحدث له الاختلاجة التي يترقبها. وحين لا تحدث يتقدم خطوة أخرى فرحان فقط؛ لأنه أخيرا يعود للبحث عنها، سعيدا بتضييق الخناق عليها، يود لو لم يحدث صوتا حتى لا تحس به وتفر.
وترك السيمافور خلفه وعدى الكوبري، وبدأت أعصابه تتوتر، وكأنها تستعد للاختلاجة الكبرى، وأصبح يدقق إلى الدرجة التي لا يرفع عينيه عن الزلط إلا حين يبدأ الزلط يسبح أمام عينيه ويدور، ولا يترك شجرة التين إلا حين يحس بأشواك أوراقها تكاد تلمس عينيه. وفجأة اختلج جسده، وتوالت دقات قلبه وعرق، وأحس بروحه تنسحب إلى أسفل، وعاد يدير عينيه في البقعة، ويزداد جسده اختلاجا ودقا وعرقا. بالضبط ... هي البقعة! بقايا الكيزان التي انتزعها، والورقة التي قسمها نصفين بلا سبب معين. كان مفروضا أن يبدأ بفحص الزلط والرمل والتراب وينحني ويدقق، ولكنه لم يفعل شيئا من هذا فقد وجدها، هكذا دون أن يبحث عنها. لفت نظره بريقها الفضي الوقور ينبعث من فوق حجر أبيض، وكأنما وضعت هناك بفعل فاعل أو ظل يحرسها ملاك، تماما كما هي بالعضة الصغيرة في حافتها، بملمسها، بالرجفة التي تعتريه حين يتحسس خشونتها الناعمة.
ظل زمنا طويلا واقفا في مكانه لا يفكر ولا يرى ولا يسمع، ولا يعرف ماذا يجب عليه أن يفعل، وكان أول ما تحرك فيه يده، وتحركت لتزيد قبضته عليها، وخاف عليها من عنف القبضة فخففها، ثم سار ووجد نفسه يتوقف بلا سبب، وما كان يتوقف برهة حتى أحس بفرحة حلوة طاغية، وأدرك أنه وجدها، حقيقة وجدها. وراح يقذفها بحرص لتعود تختلط بالزلط وينقض عليها. وتستميت قبضته ليعود يفتحها، ويقذفها ويفرح حين يجدها. ولكنه لم يلبث أن عدل عن إضاعتها، فقد خاف أن تساهيه كأبيه تذهب ويفتش ولا يجدها. خاف إلى درجة كاد يعتصر نفسه ويبكي، فهو خلاص لم يعد يريد أن يساهيه شيء، ويذهب ويأخذ روحه معه، إلى درجة أصبح حلمه كله أن يستمر في هذه اللحظة إلى الأبد؛ فهو لم يعد يريد شيئا، لا أبا ولا مدرسة ولا جدة، ولا حتى يوما آخر يستيقظ من أجله وينام في آخره ... لم يعد يريد إلا أن يظل يحس أنها عادت إليه، وأنه عاد إليها وأنها ستبقى معه، وسيبقى معها دون أن يقطع هذا البقاء حادث أو ضياع.
وأنى له أن يدرك وهو على هذه الحال أن الثالثة كانت قد فاتت من زمن والرابعة حلت، وقطارها جاء وقام من محطة البندر، وتعدى السيمافور، وأنه في تلك اللحظة بالذات خلفه يصفر له صفيرا متقطعا مستغيثا يأمره به أن يبتعد.
الستارة
كلما رأيت ستارة مسدلة فوق شباك، أو «بيشة» تغطي وجها، أو مشربية تحجب شرفة تذكرت بهيج. وكلما تذكرته وجدت نفسي أضحك بصوت عال، لا لشيء في شخصيته أو سلوكه يستحق الضحك، ولكن لأنه كان زوجا من النوع المحترم، النوع الذي تجده لا بد خريج جامعة أو صاحب منصب. ولديه مجموعة هائلة من «الكرافتات»، والذي لا بد تجد مشكلته الكبرى أنه يخاف خوف الموت أن يأتي عليه يوم يصبح فيه آخر من يعلم.
وتسأل بهيج عن سبب لهذا الرعب المقيم فلا تجد ... الحقيقة تجد أسبابا أوجه، كانت كفيلة بمنع هذا الخوف عنه. فهو مثلا قد تزوج عن حب، وزوجته جميلة وديعة، وتحبه إلى أقصى حد، حد يكلفها أحيانا أن تبكي إذا سافر، وتبكي إذا عاد، وتبكي إذا استشعرت انصرافه عنها، وتبكي إذا أقبل عليها. وليس معنى هذا أنها مصدر نكد؛ فالبكاء لدى النساء ليس دائما علامة حزن، هو سلاح لا أكثر ... السلاح الذي لا يخيب. أكثر من هذا، سنسن (وهو اسم التدليل لسناء)، تملك قدرة عجيبة على إرضائه، فتعرف متى تضحكه، ومتى تضحك عليه، وبنفس الرشاقة التي تختار بها ألوان فساتينها تختار أيضا أنواع خصامها وأوقاتها. ولديها نبوغ خاص في تحديد أوقات الصلح، ودبلوماسيتها هائلة في إملاء شروطها، وقدرتها ساحرة في إحالة جلسة الصلح إلى لجنة تعويضات، مهمة الزوج فيها أن يبالغ في التقدير، ومهمتها هي أن تناشده الرأفة بميزانيتهم والاقتصاد، وكفاية خمسة جنيه للشنطة ... هو أنا مجنونة أشتريها بستة ... بالاختصار هي زوجة حنون مطيعة مخلصة، وإن كان هذا لا يمنعها أن تتحول أحيانا إلى نمرة مفترسة إذا امتدح زائرة مثلا، أو تطلب الطلاق في الحال إن تأخر ساعة، فهي أحيان ليس إلا يسود بعدها الصفاء.
ترى لماذا إذن هذا الخوف المقيم من يوم تخونه فيه؟ لماذا الخوف من الإعصار والبحر هادئ أزرق وجميل؟ الحقيقة لا نستطيع أن نحدد سببا واضحا، فهو يثق فيها أي نعم، وفي حبها له أي نعم، ولكن شيئا ما كان لا يجعله على تمام الثقة في قدرتها على حماية نفسها من ذئاب المجتمع وكلابه. شيء ما كان يفرض عليه أن يقوم هو بهذه الحماية، نفس الشيء الذي يفرض عليه مثلا أن يحمل عنها حقيبة الملابس، أو يجلسها في مقعد الأوتوبيس ليقف هو. شيء ربما السبب فيه أنها هي نفسها تطلبه، وتنتظره وتعامله على أنه رجلها وحارسها وراعيها، وتشعره باستمرار أن لولاه ما كان باستطاعتها أن تحيا معززة مصونة الشرف والكرامة ... هو شبه الاتفاق الذي يرى أن المجتمع كله من حوله قد تواضع عليه، وأخذه مأخذ الحقائق الثابتة ... اتفاق أن المرأة بمفردها غير قادرة على حماية نفسها بنفسها، وأنها ارتضت أن تكون المهمة للرجل، بل حتى ولو لم ترتض لما اطمأن الرجل على قدرتها على حماية نفسها، ولبقي يؤدي دور الحارس اليقظ الأمين.
وبهيج رجل مجرب لم يتزوج إلا بعد أن عرك الحياة برجالها ونسائها، وخرج من تجاربه وقد فقد الثقة في هؤلاء وأولئك، ثقته أن هناك قيما قد تحول بين أي رجل وأي امرأة، وألا وسيلة للحيلولة بينهما إلا بالقوة، القوة بأشكالها المختلفة. تعلم وقرأ وسافر وجال وآمن بالمساواة، وديمقراطية الأجناس والأنواع، واستقلال المرأة وحقها في العمل واختيار المهنة والزواج. حدث له هذا كله دون أن يؤثر في قليل أو كثير على القواعد التي درج عليها والتجارب التي ترسبت فيه، وأصبحت جزءا من كيانه، وجعلته بعد الزواج لا يملك إلا أن يصنع كما يصنع الأزواج، وإلا أن يصبح خوفه الأكبر يوما يأتي عليه ويكون فيه آخر من يعلم ... ولهذا ظل في كل لحظة من حياته الزوجية يعمل لهذا اليوم ألف حساب، وهو مؤمن ألا سبيل لمنعه إلا بمجهود خارق يقول به ليدفع عن زوجته المهالك والمزالق، ولعلمه أنها قد تأتي على أهون سبب؛ فقد كان يستعمل كل ذكائه وحداقته وخبرته لشم الخطر ليتلافى أهون الأسباب. إذا أراد دخول السينما اختار مقعدين، يجاور أحدهما الممر لتجلس فيه سنسن، وليجلس هو بجوارها حائلا بينها وبين الرجال. وإذا سافر أرهق ميزانيته، وظل يطوف القطار حتى يعثر على ديوان خال تماما، أو على الأقل ركابه من العجائز أو النساء، وفي أي ازدحام تجده خلفها مباشرة، يكاد لولا الحياء يطوقها بجسده كله ويدفع الناس عنها وكأنها من زجاج. وإذا انتقل من مسكن إلى آخر، ظل أياما يدرس موقع المسكن الجديد ويتأكد من متانة معلوماته عن الجيران، أو على الأقل هذا هو ما فعله حين انتقل إلى منزله الجديد بإحدى العمارات الحديثة الكائنة في أول مصر الجديدة من ناحية روكسي. •••
ولقد ظلت الحياة تمضي به وبسنسن إلى اليوم الذي عزلت فيه الشقة التي تقابلهم من العمارة المواجهة، والتي كانت تقطنها أرملة جافة نحيلة وأولادها الستة. يومها وطوال الأيام التي ظلت فيها الشقة خالية، كانت أمنيته الخفية أن يبتسم الزمن له أخيرا، وتقطن الشقة شابة حسناء، أرملة كانت أو غير أرملة. أمنية لم يكن يرى فيها بهيج ما يتنافى أبدا مع الإخلاص الزوجي؛ إذ هو في الحقيقة مثل الأزواج لا يترك شاردة ولا واردة ولا مارة في الشارع إلا ويسلط أنظاره عليها تعاينها، وتهم بها أحيانا. وإن كانت الظروف مواتية، فلا مانع لديه إطلاقا، إذ لا يعقل، ولا يمكن لشيء تافه عابر صغير كهذا أن يؤثر على حبه لزوجته أو تعلقه بها.
ولكن الظروف لم تكن هذه المرة مواتية، ونوافذ الشقة المقابلة تفتحت يوما، ورأى بهيج بعيني رأسه شابا يطل منها، شابا لا أحد معه، لا طفل ولا زوجة أو أم ... وكان واضحا من نظراته الجريئة، وطريقة تطلعه إلى الناحية المقابلة وإلى المارة في الشارع أنها طريقة الحر الذي لا يخشى على نفسه مغبة نظرة، ولا يحمل فوق كاهله مسئولية، ولا يعمل حسابا لإنسان وراءه كل مهمته أن يناقشه الحساب. كانت نظرات وتطلعات فرس بري غير مروض ذكرت بهيج نفسه بأيام ما قبل الزواج، ذكرته لا ليتحسر، وإنما ليحس بهم مفاجئ بدأ يركبه ... الشاب واضح تماما أنه أعزب، وها هو ذا قد سكن أمامهم لا يفصلهم عنه سوى الشارع. وبهيج كان أعزب يوما، ويعلم أنه والعزاب جميعا لا يتركون حولهم أو أمامهم طوبة من طوب الأرض إلا وأشبعوها فحصا ولمسا؛ لعله يثبت في النهاية أنها طوبة مؤنثة. وهو واثق طبعا من نفسه، ومن أن سنسن أشرف نساء الأرض، ولكن من قال إن أسلم أصحاء الأرض لا يمرض، خاصة إذا ظل صباح مساء معرضا للميكروب؟ لا ضمان هناك لأي شيء؛ فأي شيء ممكن أن يحدث. فالمسألة ليست جلسة في أوتوبيس أو رفقة سفر ... المسألة إقامة دائمة وسكن.
أغلق بهيج باب البلكونة في ذلك اليوم وهو يفكر، وظل يفكر حتى بعد إغلاقها ... وإلى صباح اليوم التالي حين فتحها بنفسه، ووجد بلكونة الجار مفتوحة هي الأخرى، ووجده يغني وصوته القبيح يأتيه عبر الشارع عاليا ... أعزب ... متحديا. •••
وبدأ الجار الأعزب الجديد يصبح مشكلة، وبكثرة تفكير بهيج فيها، بدأت تتشعب وتتعمق وتضاف إلى مشاكل حياته الرئيسية، خاصة حين كان يعود. وقبل أن يدخل البيت يسرح ببصره إلى أعلى ليجد بلكونة الشاب مفتوحة وبلكونتهم أيضا مفتوحة أو مواربة، ولا يفصل الاثنتين سوى الشارع العريض.
وبدأ بهيج يفكر في حل حاسم للمشكلة ... وأضناه التفكير فقد كان في موقف لا يستطيع معه أن ينتقل من البيت ويعزل، وليس هو السلطان؛ لكي يجبر القاطن الجديد على التعزيل. وهو يريد أن يحمي زوجته من الخطر الوافد في سرية تامة وهدوء، ودون أن تشعر أنه لا يثق فيها أو يحميها.
ورغم هذا كله؛ فقد كان مصرا على أن يجد الحل.
وقد وجده.
وعلى العشاء المقتبس بحذافيره من ركن المرأة، والذي كانت تفوح منه رائحة الاقتباس وطعمه الماسخ، بدأ بهيج يسوق المقدمات ويتحدث عن الحريات المنزلية الأربع. قال إنه بدأ يدرك أنهم محرومون في بيتهم من حرية الحركة والعري والحفاء وارتكاب الحماقات، وكيف أن المنزل لا يعد متعة أو بيتا بمعنى الكلمة إلا إذا توافرت له هذه الأركان؛ وإلا لكان السجن أرحم. وهو قد أدرك أيضا بعد طول بحث أن سبب إهدار حرياتهم تلك يرجع إلى عامل واحد لا غير، هو البلكونة التي تفتح على الصالة، وتتوسط البيت وتجرحه، وتجعله نهبا لأنظار الجيران القاطنين عبر الشارع. وأن الطريقة الوحيدة؛ لكي يصبح بيتهم بيتا، هي أن يقيموا فوق سور البلكونة ستارا عاليا، أعلى من قامته، يحجب كل ما يدور داخل البيت عن الأنظار. وحين تبلورت المقدمة الطويلة في هذا الاقتراح، بدأت الزوجة تسخفه، وتعيب عليه أن يريد أن يخنقها ويمنع عنها الشمس والهواء. وكل هذا لأنه لا يثق فيها ولا يثق في نفسه، إلى آخر المحاضرة التي تعودت أن تلقيها عليه، وتسخف بها أي اقتراح من اقتراحاته؛ ربما لمجرد كونها اقتراحاته.
ولكنه لم ييأس ... استجمع كل ذكائه وقدرته على الإقناع؛ ليدحض مزاعمها وليثبت لها أن ليس في الأمر شك فيها أو في الجيران، وأنه لا يريد سوى حقه في الاستمتاع ببيته، وحجب الأنظار المستطلعة عنه. وأيضا لم تبدأ الزوجة توافق إلا بعد أن تعهد بشراء طقم كراسي إيديال للبلكونة، ومضى يغذي أحلامها عن الجلسات المرتقبة وليالي القمر وأشجار الياسمين التي لا بد سيزرعونها.
ولم يأت الغد إلا ليجد بهيج قد اتفق مع المنجد والنجار، ولم يمض يوم آخر إلا وكانت الستارة معلقة عريضة، تغطي البلكونة من جهاتها الثلاث، وترتفع فوق قامة الرجل.
واعتقد بهيج يومها أن دوره في حل المشكلة والمحافظة على بيته وزوجته قد أداه على خير ما يرام، ويحق له بعد هذا أن ينام ملء جفونه ويمدد رجليه ويشخر. •••
والحقيقة أيضا أن دوره هو انتهى أو كاد، ليبدأ دور الستارة؛ فقد أصبح همه الشاغل كلما عاد إلى البيت أو خرج منه أن ينظر إليها، ويرى إن كانت مقفلة أو مفتوحة. وحين نبه على سنسن مرة ومرتين أن تراعي إقفالها باستمرار، ولم تفعل عنادا منها لا أكثر، قرر أن يكون حمشا ويفرض رأيه. وهكذا فوجئت به سنسن في اليوم التالي، وهو في طريقه إلى المكتب، فوجئت به يصرخ فيها بلهجة غريبة باترة حاسمة ألا تفتح الستارة أبدا لأي سبب كان، وأن عليها أن تقبل أمره هذا بلا نقاش ... وغير مهم المناقشة الشكلية التي تلت كلامه، والتي لم يتزحزح فيها عن رأيه في أن من حقه كزوج أن يصدر أية أوامر يراها دون أن يكون مطالبا بتفسيرها، والتي لم تتزحزح فيها هي عن رأيها في أن لها الحق كل الحق أن تمتنع عن تنفيذ أي أمر صادر منه أو من غيره، ولا تكون مقتنعة به. المهم أن تمسك كل منهما برأيه جعل الموقف يتوتر، وجعل بهيج يفقد السيطرة على هدوئه وأعصابه، وجعله في نوبة غضب ينفجر لها بأن السبب الحقيقي لعمله الستارة هو الشاب الأعزب الذي احتل الشقة المقابلة، ونظراته التي ضبطه وهو يوجهها بصفاقة وقلة أدب إلى بلكونتهم، ورغبته في أن يحفظ لبيته حرمته، ويحميها من وقاحة جار مثله. وساعتها اتضح أن الزوجة هي آخر من تعلم بأخبار الجيران العزاب؛ فقد بدا واضحا أن سنسن لا تعلم شيئا عن تعزيل الأرملة العجوز، ولا عرفت أبدا بمجيء الأعزب، ولا طرق لها الموضوع بالا. - طيب ... آدي انتي دلوقت عرفتي. - لا ... إذا كان كده يبقى خلاص ... أمرك يمشي.
ومشى أمره وأصبحت الستارة كحائط لا يتزحزح، كل ما في الأمر أن البلكونة قد تغير مركزها في البيت. وبدلا من المكان غير المطروق الذي كانته، والذي لم تكن سنسن تجسر على الظهور فيها إلا وهي بملابس الخروج، أو بأكثر ملابس البيت حشمة، ولا تظهر فيها إلا وهي مضطرة، وإذا وقفت فيها نظرت إلى الشقق المقابلة والمجاورة بأدب وحساب، حتى ينظر إليها أصحابها بأدب وحساب، بدلا من هذا أصبحت البلكونة تحت حماية الستارة مكان سنسن المختار للجلوس، تقضي فيه أي وقت تشاء بأية ملابس ترتديها وتقوم بأي عمل تراه. بل شيئا فشيئا بدأت سنسن تفطن إلى مزايا للستارة كانت خافية عليها، أهمها بلا جدال ما يدور في شققهم ومطابخهم وحجرات جلوسهم ونومهم، دون أن يكون باستطاعتهم هم أن يروها؛ فالستارة تحجبها عنهم وتتيح لها أن ترى ولا ترى. وهكذا بدأت نظراتها تفقد طابع النظر من خلال بلكونة مفتوحة، وتتخذ طابع النظر من خلال الشقوق. وبعد أن كانت البلكونة تجعلها تعامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوها به، وتجعل لعينيها دور المراقبة لغيرها ولنفسها، أصبحت مهمة عينيها أن تراقب الغير فقط، وتتجسس عليه وتكشف أسراره وخباياه، وهي ضامنة أن أسرارها في حصن حصين. ونفس التحول بعد بضعة أيام انتقل لتفكيرها، فأصبح اهتمامها بما لديها، وأصبح الوقت الذي تقضيه تتفرج على ما يحدث داخل الشقق الأخرى أكثر بكثير من الوقت الذي تقضيه ترعى فيه شئون شقتها.
وكذلك كان لا بد أن يواتيها الخاطر ولو مرة، ويجعلها تفكر في رؤية هذا الجار الجديد الذي كلمها زوجها عنه، وترى كيف تطل الوقاحة من نظراته كما قال الزوج. •••
والمدهش أن الجار الأعزب لم يكن وقحا أو قليل الأدب، كان في الحقيقة مشغولا جدا. فقد كان يعمل في الصباح في شركة، ويدرس بعد الظهر في كلية، ويقضي ساعتين كل ليلة يصحح الملازم في مطبعة. شاب من قراء سير العصاميين المؤمن بأن في استطاعته أن يصبح مثل روكفلر وعبود. الغارق في أحلامه هذه بطريقة لم يخطر على باله مرة أن يقف في بلكونته، ويتطلع إلى بنات الجيران فضلا عن أن يحاول معاكسة أحد. وقد كان من الممكن أن يظل غارقا في مشغولياته وأحلامه تلك، لو لم ير هذا الستار الذي صنعه السيد بهيج؛ فقد لفت نظره أن تنفرد تلك البلكونة المقابلة وحدها دون غيرها من بلكونات البيت وغيره من البيوت بهذه الستارة التي كان واضحا أنها أقيمت حديثا، وأنها مسدلة باستمرار ولا تفتح أبدا. وهكذا منذ اليوم الأول الذي لاحظ وجودها فوق سور البلكونة، وهذه البلكونة بالذات بدأت تلقى منه عناية خاصة ربما لغرابة الظاهرة؛ وربما لأن منظرها هيج كوامن خياله، وجعله يمضي يحلم ويتصور نساء ألف ليلة وليلة أو فتياتها اللائي لا بد أقيمت ستارة كثيفة كهذه لتحميهن من العيون.
وربما لو كان قد رأى السيدة سنسن بكاملها، وهي في الشارع أو في بلكونة مكشوفة لما استرعت انتباهه، أو توقفت عندها نظراته، ولكان قد عاملها مثل العشرات غيرها من السيدات، والفتيات اللاتي يراهن في نوافذهن وشرفاتهن، ويتركهن جميعا ليوجه انتباهه كله إلى الستارة المسدلة وإلى الحورية الرائعة الجمال التي لا بد تكمن خلفها، والتي لا بد أن يأتي يوم تظهر فيه أو على الأقل يبدو منها وجه أو ذراع.
بل لم لا نقول إن الستارة وما تحجبه كانت وراء تركه لعمله في المطبعة، ورفعه حرارة النقاش الذي دار بينه وبين صاحبها إلى درجة أخرى، والاستغناء عن خدماته؟ وعدم ضيقه ألبتة بما حدث بل فرحته به، إذ سيتاح له منذ اليوم أن يقضي ساعتين أخريين يتطلع فيهما إلى البلكونة ذات الستارة المسدلة، ويخمن ويحس بالحرمان ويهيج الإحساس أحلامه.
وبالتأكيد إذن، كان لا بد أن يأتي اليوم الذي يدرك فيه، وقلبه تتعانف دقاته، أن قماش الستارة يختلج اختلاجة أنثوية بلا شك، وأنه ويا للهول بعد قليل انفرج فرجة صغيرة رفيعة، ولكنها كانت كافية لأن يتأكد أنها فعلا أنثى، وأن عينها ووجنتها التي اطلعت وتلصصت أجمل وأروع عين ووجنة رآهما في حياته.
حقيقة كان ذلك اليوم بالذات هو اليوم الذي قررت فيه سنسن أن تتفرج على الجار الأعزب الوقح، ويبدو أن محاولتها البحث عن وقاحته قد امتصتها إلى درجة لم تفطن معها أنه لمحها من خلال قماش الستارة ورآها.
والواقع أنها لم تفاجأ كثيرا، فقد وجدته كما وصفه زوجها تماما ... وبالفعل كانت نظراته تحفل بالوقاحة وقلة الأدب، وبالفعل لم يحول أبصاره عن البلكونة طيلة الوقت الذي ظلت تراقبه فيه. أدركت حينئذ أن زوجها كان على حق في إقامته للستارة؛ فلولاها ما استطاعت أن تحمي نفسها من وقاحته ونظراته.
وانسحبت يومها من البلكونة، وقد عاهدت نفسها أن تتجاهل وجود العازب وشقته وبلكونته.
ولكن الشاب لم ينسحب ... وقف مسمرا في بلكونته إلى ساعة متأخرة من الليل علها تظهر. وخيل إليه في الصباح أنه أخيرا أحب، ومن يدري قد تكون هي الأخرى أحبته. وهكذا قضى الجزء الأكبر من اليوم التالي، ولا عمل له إلا التحديق في الستارة علها تختلج مرة أخرى وتنفرج. وكلما كان الهواء يداعب قماشها ويحركه، كان الدم يسخن في عروقه ويعتقد أنها هي، ويركز بصره كله عله يستطيع أن يتبينها.
وفي نفس ذلك اليوم التالي لم يكن وحده الذي يحدق في الستارة المختلجة، كان بهيج الزوج عائدا من عمله يلقي ببصره كما تعود ناحية الستارة ليطمئن عليها أولا، ثم يعود ليختلس نظرة خاطفة إلى بلكونة الجار ليطمئن على خلوها منه.
وفي ذلك اليوم حين وجد بهيج القماش يتحرك لم يعلق على حركته أهمية، ولكنه حين وجد الأعزب واقفا في البلكونة قد صوب نظراته المحمومة إلى الستارة المختلجة، عاد ينظر بسرعة إلى حيث كان ينظر، وبدوي أعنف دق قلبه، وأيقن بلا أدنى جدال أن الستارة لا تختلج عبثا، وأن وراءها عينين تنظران وجسدا ... وراءها سنسن.
وفي لمح البصر كان قد أصبح في الشقة، ولم يخل عليه أنه وجدها في المطبخ، فلا بد أنها لمحته وفرت. وفي لمح البصر كان قد أطبق عليها طالبا منها أن تعترف. وحين حاولت الكلام أجابها بصفعة قوية من يده الأخرى أعقبها بأخرى مدوية من اليسرى. وإمعانا جرها إلى البلكونة، وأزاح الستارة بغل ليريها الشريك الآخر واقفا لا يزال يحدق ... الشريك الذي ما إن أزيحت الستارة ورأى المشهد حتى اختفى في التو وذاب برعونة، وبكل جبن المذنب المتلبس.
وكانت الصفعتان إشارة البدء لعاصفة من تلك العواصف التي كثيرا ما تجتاح حياة الأزواج والزوجات، تقتلع الضعيف منها وتهدد القوي، فقد تبعها كلام صارخ محموم عن شرفه وطعنات حادة قاتلة إلى شرفها، ونعوت بشعة ويمين طلاق ألقي. والزوجة تحاول الدفاع والاستشهاد بالخادمة، ويصرخ قائلا إنه رأى الستارة بعينه تهتز، فتستنجد قائلة: ربما الهواء. فيعود يهم بصفعها أو ركلها، وهو يقرنها بالهوى وبنات الهوى.
عاصفة قذفت بالزوجة تلك الليلة إلى بيت أبيها، وقذفت به إلى الخمارة ... وهطلت آخر الليل دموع. وفي اليوم التالي تدخل الأهل والأصدقاء، وبدأ الزوج يراجع نفسه قليلا. وبعد أن كان رافضا ألبتة أن يصغي أو يناقش، بدأ يخفض رأسه ويستمع، ويلمح حرقة الصدق في كلام كان الزوج في حاجة إليه، فحتى بعد أن رأى بعينيه كان أهون عنده أن يشك في عينيه ولا يشك فيها، فحياتهما معا وعشرتهما واندماجهما بطريقة كادا معها أن يصبحا جسدا واحدا، بطريقة يعرف كل منهما عن الآخر أكثر مما يعرف الآخر عن نفسه، ويثق بالآخر أكثر مما يثق بنفسه ... هذا كله فوق التجربة التي قام بها وسطاء الخير، وأعادوا تمثيل ما حدث أمام الزوج ونفخوا في الستارة لتختلج. وراقبها الزوج من أسفل ليعرف إن كانت اختلاجاتها تشبه اختلاجة الأمس، وليثوب إلى نفسه حينئذ، ويطلب الصفح وتنتهي العاصفة نهاية لا يتوقعها أحد فوق فراشهما، وهو يحتضنها ويقبل عينيها الدامعتين، وتصل حرارة الحب بينهما حد أن ينسيا تماما ما حدث وسبب الحكاية، ويستمتعا باللحظة والسهرة، وكأنها أول لقاء. وفي أحيان تصل العواطف بينهما حد معاودة الاعتذار. بل تأكيدا لندمه وتوبته وإمعانا في ثقته بها يعلن لها أنه خلاص قرر أن تفتح الستارة باستمرار، وحين تأبى هي يقسم هو ويلحف في القسم، ويؤكد لها أنها بعد تلك اللحظة حرة في أن تدخل وتخرج وتغلق البلكونة أو تفتحها وتقف فيها، أو تتطلع منها على أية هيئة وبأية ملابس ولأي وقت تشاء.
وبينما كان الدفء يشع من فراشهما، كان الجار الأعزب في فراشه يرتجف من البرد. ومن بعض ما تيسر من تأنيب الضمير ومن خوف كثير على نفسه وحياته، وكان يتوج هذا كله بقرار صارم ألا يقف بعد هذا في بلكونته أبدا، ولا يتطلع إلى جارة أو غير جارة، وأن ينهمك مرة أخرى في مشاغله. •••
وجاء الصباح التالي لتعود الحياة سيرتها وقد تغير شكلها قليلا؛ فالستارة في بلكونة بهيج قد فتحت على آخرها، وبلكونة الأعزب مغلقة وكأنما دقت فيها مسامير. ومع هذا فلم تظهر سنسن في البلكونة، ولا حتى وجدت لديها حماسا لأن تفعل شيئا آخر بالمرة. كان ما حدث لا يزال ساري المفعول في نفسها تأبى أن تصدق أنه حدث، وإذا صدقته غامت عيناها بالدموع.
وحتى بعد أن مضت أيام وزالت كل آثار العاصفة، ظلت سنسن غير شديدة الحماس لكل هذه الحريات التي أصبحت تملكها ... تقف في البلكونة فلا تحتمل الوقوف، تجوب الشارع وواجهات العمارات المقابلة بعيون قد انطفأ فيها البريق. أي متعة للبلكونة الواضحة المكشوفة بعد متعة اختلاس النظر من الشقوق؟ وبأي نفس تقبل المتعة وهي قد عاشت التهمة وذلها ونالت العقاب؟ الحقيقة كل ما كان يشغل بالها إذا وقفت في البلكونة أن تواتيها الفرصة لتدافع هي عن نفسها وشرفها أمام الأعزب الشاب، الشرف الذي أهدره زوجها، وهو يدافع عنه. كانت تريد أن تلقي عليه درسا وتريه أنها ليست كما ظن هو أو ظن زوجها. ولكن الفرصة لم تكن تواتيها؛ ففي كل مرة تجد بلكونته مغلقة وتجده غير موجود.
ولكن مهما طال الزمن؛ فلا بد أن سيأتي اليوم الذي يوجد فيه. غير أنه حين جاء وخرجت هي إلى البلكونة، ووجدته واقفا أمامها عبر الشارع دق قلبها بالانفعال. وللمرة المائة استعادت ما كانت قد انتوته، فهي ستظل ساكتة إلى أن يبدأ يتطلع إليها، حينئذ سوف تواجهه بقسوة وتبصق في وجهه أو تقذفه بما في يدها، ثم تدخل وتصفق وراءها الباب، ولكنها ظلت واقفة أكثر من ساعة دون أن يتطلع إليها أو يبدو أن في نيته أن يتطلع إليها. وكان من المستحيل عليها أن تقبل الهزيمة حتى لو أدى بها الأمر لمحاولة جذب انتباهه ورفع صوتها تطلب من الخادمة أن تحضر لها شيئا. وحتى حين ضغطت على نفسها وفعلت. لم يبد عليه أي اهتمام، أكثر من هذا بعد قليل وجدته ينسحب إلى الداخل، ويمد يده ويغلق الشيش.
وكان عسيرا عليها أن تصادفه واقفا في البلكونة خلال الأيام التي تلت، ولكنها في كل مرة عثرت عليه، كانت تحاول أن تفعل كل شيء وأي شيء فقط؛ لترفع بصره الذي ألصقه بأرض الشارع وأبى أن يرفعه. ولم تفعل محاولاتها المتعددة أكثر من أنها أنستها الهدف منها، والدرس الذي كان في نيتها أن تلقيه عليه، والحقد الذي تكنه له في قلبها، وأصبح همها كله ومنتهى أملها أن تنجح فقط في رفع بصره من فوق أرض الشارع، وكأنها إذا نجحت ونظر إليها يكون قد تم الانتقام، واستعادت مكانتها وشرفها المثلوم.
ولو كان أحد قد أخبرها أنها ستضطرب كل هذا الاضطراب، وستلهث ويجف لعابها ويتوقف قلبها عن النبض، لو كان أحد قد أخبرها أن هذا كله سيحدث لها حين تفاجأ ذات مرة، وقبل أن تحاول شيئا أنه قد رفع بصره إليها وثبت عينيه في عينيها، لما صدقته بل ولما صدقت أبدا أنها لم تستطع أن تحتمل نظراته لثوان، وأنها هي التي انسحبت من البلكونة هذه المرة ترتجف، وهي لا تملك قدرة على صفق باب أو فتح فم. كل ما حدث أنها استطاعت قبل أن تختفي أن ترسم بالكاد شيئا فوق ملامحها يعبر عن الغضب.
وربما لو لم ترسم هذا الشيء ... ربما لو ظلت واقفة، وكأنها لم تلحظه أو نالها اضطراب، ربما لو لم ترد أن تؤنبه وتعلمه الخلق الحسن، ربما لو حدث شيء من هذا؛ لما قضى الشاب ذلك الوقت الطويل يفكر فيها، ولما شجعه ما حدث منها على المضي في التفكير وتدبير الخطط لما بعد التفكير.
أما هي فقد ظلت وقتا طويلا أيضا تفكر وتستنكر اضطرابها وتستعذبه، وتنتوي العودة إلى البلكونة وتعدل عن نيتها، والإحساس العام الذي يتملكها أنها غير غاضبة على الشاب، وأنها أصبحت ليس لديها مانع حتى أن يعود يوجه إليها نظراته.
وفوجئ بهيج! عاد ذات يوم، فوجد الستارة تنسدل وتحجب الشرفة وما فيها، واستغرب ... وسأل الزوجة فإذا بها تقول إن الستارة لازمة لحمايتها من نظرات الجيران المتطفلين، وإن لكل بيت حرمته والستارة تحفظ الحرمة، وحاول أن يناقشها بنفس حججها القديمة، ويتحدث عن الشمس والهواء، ولكنها أفحمته حين قالت إنها كانت مخطئة في اعتقادها، وإنها أخيرا اقتنعت برأيه. •••
واستمرت الستارة بعد هذا تؤدي عملها مع اختلاف بسيط؛ إذ كانت تستخدم لتحول بين بهيج وبين رؤية الشاب الأعزب إذا كان موجودا في البيت، ولتحول بينه وبين رؤية الواقفة تحتمي بها لتستطيع أن ترى الشاب ويراها دون أن يلحظهما أحد، وبالذات بهيج. وفي أحيان كان يتطلع بهيج من الشارع ليطمئن على أن الستارة مغلقة ومسدلة، ودائما كان يجدها كذلك. وإذا تصادف ووجدها تختلج كان حينئذ يهز رأسه ويبتسم، ويقول: الهوا ... لا بد أنه الهواء ... لعنة الله عليه.
الغريب
من كان يظن أن «الشوربجي» ذا الشعر الأصفر المجعد، والوجه الخواجاتي الأحمر، والملامح الجذابة الحادة له مثل هذه القصة المذهلة مع قتال القتلة، وقاطع الطريق وسلطان الليل؟ أنا نفسي، قبل أن يحكي لي، كان من المستحيل أن أصدق أن الشوربجي، زميل ثانوي العتيد الذي علمني ركوب العجل وكتابة القصص، جعلني أدمن قراءة روايات الجيب ... لم أكن أعتقد للحظة أن في حياته جانبا بأكمله لا أعرفه، وكان مقدرا ألا أعرفه، لولا تلك المصادفة التي جمعتني به ... والمصادفة وحدها هي التي كانت تجمعني به. فعلى الرغم من أننا نعمل في نفس المدينة، في القاهرة، إلا أنني لم أكن ألقاه إلا صدفة. وفي كل مرة نأخذ العناوين ونضرب المواعيد ونحن نعرف سلفا أننا لن نستعملها، وأننا لن نلتقي إلا كما تعودنا اللقاء صدفة ... وأنا أعرف عن الشوربجي أشياء كثيرة، أعرف بلدهم، ورأيت أباه مرة، وأعرف ولعه بالنساء، وضيقه الشديد بأننا على الرغم من أننا كبرنا وغادرنا ثانوي؛ إلا أننا لا نزال نسميه باسم جده، كما تعودنا أن نسميه. فاسمه في الحقيقة كان، ولا يزال طبعا، عبد الرحمن صالح الشوربجي، ولكنا في ثانوي نضيق بالأسماء الأولى المتشابهة. وهكذا عرفناه بالشوربجي، وعلى الرغم من ضيقه بالتسمية ظللنا نعرفه هكذا إلى اليوم، إلى حد أنني كنت أستغرب حين تناديه زوجته أمامي بعبد الرحمن، أعرف عنه أشياء كثيرة، ولكني لم أكن أعتقد أبدا أن في حياته أناسا كالغريب أبو محمد وعم خليل، وحياة الليل وسفك الدماء. هو الرائع الأدب الذي تخدش خجله الكلمة الخارجة حتى بعدما صار رجلا كبيرا وخلف أبناء، ولكنها الصدفة كما قلت، وربما الليلة أو الموضوع الذي طرقناه ... موضوع السفاح. والشوربجي ليس محدثا لبقا ولا راوية ممتازا، وعلى الرغم من أنه علمني كتابة القصص، ولكنه يتحدث أجمل بكثير مما يكتب.
لا أعرف ماذا دعا الشوربجي ليكشف لي عن هذا الجزء من نفسه في تلك الليلة ... فربما الموضوع كما قلت، وربما الجلسة، وربما الساعة الواحدة والنصف التي بدأنا الحديث فيها، وربما قصته نفسها، أو لعل السبب هو تلك اللذة الواضحة التي كنت أراه مستمتعا بها، وهو يغوص في نفسه ويحفر ويستخرج أشياء، وكأنما يكشف وجودها لأول مرة، ربما هذا هو ما جعله ينساق، ويقضي ليلة كلها يتحدث، وأقضيها وأنا أنصت ... وأرتجف أحيانا، ولكني أستمر أنصت بشغف وبلا انقطاع.
1
تصور أنني جاءت علي فترات في حياتي، كان حلمي الوحيد فيها أن أقتل إنسانا أي إنسان. أقتله هكذا بلا سبب وبلا رغبة إلا رغبة القتل في حد ذاتها ... ولا تنهك نفسك وتحاول أن تبحث في طبك، أو في كل علوم النفس الحديثة عن تفسير لهذه الرغبة؛ فأنا لم أكن مريضا أو شاذا أو أعاني من مأساة عائلية. كنت تلميذا عاديا جدا، بالكاد تعديت الرابعة عشرة من عمري، وكنت أعتبر رغبتي هذه رغبة طبيعية جدا لا شذوذ فيها ولا انحراف، وأنها لا تعن لي فقط، ولكنها لا بد موجودة عند كل الناس، ولا بد قد استبدت بهم يوما، خاصة وهم يضعون أقدامهم على عتبة الرجولة، أن يقوموا بعمل خارق يحسون بعد القيام به أنهم قد أصبحوا رجالا ... بعضهم يترك البيت مثلا ويحاول البحث عن عمل يتقاضى عليه أجرا، مثلما يفعل الرجال الكبار ومثلما يفعل أبوه. وبعضهم يبدأ يسهر في الخارج ويعود متأخرا، ويصطدم بأهله ويقول لهم بأعلى صوته: «أنا حر أسهر على كيفي ... أنا راجل». وبعضهم يبدأ بحمل بندقية أبيه على كتفه وإطلاق النار، فإذا اعترض أبوه على تصرفه هدد بقتل نفسه أو بقتل من يعترض طريقه «يقصد أباه»، وبعضهم يحلم بامتلاك مسدس ... وكلها رغبات طبيعية الهدف منها أن يثبت كل لنفسه أنه قد أصبح رجلا، ويثبت لها بطريقة الرجال الخشنة.
كل الخلاف بيني وبين من كانوا في سني أني غاليت قليلا في رغبتي، وأردت أن أدخل عالم الرجال بأن أقتل أحدهم، وهي على العموم كانت رغبة دفينة لا أجرؤ على إظهارها حتى لنفسي، ولكني أحس بوجودها وأسعى إلى تحقيقها وكأنما من وراء نفسي. ومن ورائها لأني كنت أخاف ألا أكتفي بقتل رجل واحد، وأن أنساق في هذا الطريق ... ولكني كنت أطمئن نفسي وأقول إن هذا لن يحدث.
وأدلل لنفسي على هذا بأن أستعرض ما كنت أفعله مع القطط وأنا صغير؛ إذ كنت وأنا طفل أخافها جدا، أخاف شواربها الطويلة وتكشيرتها ومخالبها البشعة، وكنت أرنو إلى اليوم الذي أكبر فيه وأستطيع إخافتها، وأنتقم لكل ما سببته لي من رعب ... وارتبط الكبر في نفسي بقدرتي على إخافة القطط والكف عن الخوف منها؛ ولهذا لم أكف عن مطاردتها أبدا. وهدفي أن أنجح ذات يوم في حصارها وإرعابها، وإمتاع نفسي بمشهدها وهي خائفة مني ... وكم طاردت من قطط، وكم نجحت في إغلاق الأبواب والنوافذ لمنعها من الهرب، ولكني دائما كنت أفشل في حصارها وتهرب. مرة واحدة فقط نجحت في حبس قطة في إحدى حجرات بيتنا. كانت قطة الجيران وكنا نكرههم، وكنت قد اعتزمت في ذلك اليوم لا تخويفها فقط، والاكتفاء بسعادتي لرؤيتها خائفة، ولكن على تمويتها أيضا.
ظللت أجري وراءها حتى دخلت حجرة المخزن وكل نوافذها وفتحاتها محكمة الإغلاق، فدخلت وراءها مسلحا بعامود حديد من عمدان نافذة قديمة. وأغلقت الباب واستمتعت أيما استمتاع بالورطة الكبرى التي حلت بالقطة، تقفز من الأرض إلى السقف ومن السقف إلى الأرض، وتبحث في هلع عن مخرج، وتصرخ صرخات مرعوبة متصلة، وكل ما فيها قد وقف يرتجف ويرتعش، والباب من ورائي محكم الإغلاق، وأنا أتقدم ناحيتها بخطى بطيئة، والعامود الحديدي مرفوع فوق كتفي ومستعد لأخبطها به الخبطة الواحدة القاتلة.
مضيت أتقدم ببطء وأنا أنعم بحالة الرعب المميت التي تملكتها، وأستعيد كل ما قاسيته في صغري من رعب، وأسعد بنفسي وبكبري، وبهذا الانتقام الضخم الذي أتيح لي أن أقوم به ... وفجأة توقفت في مكاني، فالقطة كانت قد أدركت بعد مجهود هائل مريع ألا مخرج لها من الحجرة وأنها هالكة لا محالة ... ولا أعرف إن كانت فعلا قد أدركت هذا، ولكني لا أزال أذكر صرختها الأخيرة والركن المظلم الذي كنت قد أجبرتها على الانزواء فيه، ثم كيف كفت عن صراخها العالي المذعور، واستدارت لي تواجهني لأول مرة منذ أن بدأت مطاردتي لها، تواجهني بل وبدأت تمزق الأرض بمخالبها وتتقدم نحوي ... و... أعوذ بالله، نظرتها ... عيناها بالذات ... لن أنسى ما حييت الرعب ... أقصى درجات الرعب. حدقتاها مفتوحتان على الآخر وأنيابها مكشوفة كلها حتى آخر الفك، وهي تتقدم وقد بلغ رعبها درجة كنت متأكدا معها أنها ستقفز حالا، وتنشب أنيابها وأظافرها وشاربها والرعب المطل من عينيها ... ستنشب هذا كله في وجهي، وتمزق لحمي وتفقأ عيني وتلتهم زوري.
ونظرة واحدة فقط هي التي ألقيتها عليها، وهي التي سمرتني في مكاني أنظر إلى رعبها اليائس المجنون وتتفكك أوصالي ... ولا أدري كيف أنقذت نفسي في آخر لحظة، وفررت من الحجرة وأنا أجري خائفا مرتعشا لا ألوي على شيء، أبحث عن أمي لأحتضنها وأرتعش وأخفي وجهي وعيني في صدرها، وأتمنى لو استطعت أن أختفي بكلي داخلها! •••
ربما مغالاتي في إثبات رجولتي بقتل رجل سببها هذه المغالاة التي دعتني لأن أثبت أني تركت الطفولة وكبرت، بتحولي من خائف من القطط إلى مخوف لها. تلك العادة التي تركتها تماما بعدما حدث لي مع القطة المرعوبة في المخزن. ولو كنت أعلم أن رغبتي هذه الثانية لإثبات رجولتي ستقودني لموقف أكثر رعبا وأشد بشاعة؛ لترددت قليلا وأنا أركب رأسي، وأصمم وأبيت النية في صدري، وأتكتمها وأسعى حثيثا حثيثا لتحقيقها!
أما لماذا عن طريق القتل بالذات؛ فقد تقول إنها استمرار لنزعتي وأنا صغير، ولكن الواقع غير هذا؛ فالقتل في حد ذاته لم يكن هو ما يجذبني ... القتلة هم الذين كانوا يجذبونني ... هؤلاء الناس الذين يسمونهم في مديريتنا أولاد الليل، هؤلاء الذين يحكمون مملكة الليل ويقتلون من يعترض سبيلهم فيه ... في تلك السن كنت شديد الإعجاب بأولاد الليل هؤلاء إلى درجة أني في أحلامي؛ لكي أصبح رجلا، كنت لا أريد إلا أن أصبح واحدا من الذين يقشعر لذكرهم العاديون القانعون بلقمهم وحياتهم ... كانت الرجولة في رأيي مرتبطة بأعمال غير عادية وبرجال غير عاديين. كانت الرجولة في رأيي هي رجولة أولاد الليل ... كنت أريد إذا أصبحت رجلا أن أصبح واحدا من الذين يقشعر لذكرهم الرجال في بلدنا؟!
بالاختصار كنت أريد أن أصبح بطلا باعتبار أن الرجولة لا بد أن تكون بطولة، ومثلي الأعلى كان أولاد الليل ... ولهذا كنت دائم التتبع لتحركاتهم، وأتفه ما يحدث لهم تماما كما يتتبع شبان هذه الأيام أبطال السينما، ويتحرقون شوقا إلى أخبارهم ... وكان حلمي الدائم أن أتعرف بهم أو بأي منهم، وأن يصاحبني ويعلمني حرفة أولاد الليل ويجعلني أقتل، وأصبح في النهاية رجلا.
كنت في الرابعة عشرة كما قلت، نحيفا شاحب الوجه هادئ الملامح، عمري ما تشاجرت أو اشتبكت أو شتمت أحدا، حتى كان أبي وأمي وكل الناس يقولون عني إني طيب وابن حلال ... ولم يكونوا يعرفون أبدا أن في صدري بركانا يريد الانفجار، وأن في رأسي أحلاما وعالما غامضا غريبا مختلفا تماما عن العالم الباهت الراكد الذي كنت أحيا فيه، عالم آخر فيه شجاعة وجدعنة ومخاطرة وصدام ... عالم لا بد أنه لا يوجد إلا في الليل، ولا يسمح بدخوله والحياة فيه إلا لرجل بطل ... لابن ليل!
2
ولم أترك طريقا أسلكه ليوصلني لأولاد الليل إلا طرقته ... كنت أضيق بصحبة لداتي من تلامذة البلدة وطلبتها، وأجوب الغرز والقهاوي بحثا عن أخبار سرقة أو جريمة، أو أملا في العثور على رجل شاف أو رأى وجالس يحكي ... وكان منقذي الدائم هو عم خليل ... كان عم خليل يعمل خفير طماطم في عزبة قريبة مجاورة، وكان عجوزا تخطى الخمسين، ولكنه قضى شبابه كله، وجزءا من رجولته لصا كبيرا وابن ليل؛ وربما من أجل هذا السبب اختاره صاحب العزبة وعينه خفيرا على المائة فدان.
كنت آخذ له باكو المعسل والسكر والشاي، والشاي بالذات؛ فقد كان كييف شاي، يضع الأوقية كلها في التلقيمة الواحدة، ويعمل الشاي من ثلاثة أدوار، الأول سادة، والثاني بخدشة سكر، ولا يسمح لي بأن أشرب إلا من الدور الثالث الحلو ... وكنت أجد في صحبة عم خليل متعة كبرى ... فقد كان إذا تسلطن من الشاي والدخان، بدأ يحكي عن مغامراته وعن كبار اللصوص الذين عرفهم، وعن البهائم التي سرقوها، والجدران التي نقبوها، والمنازل التي دخلوها، وكنت أحب منه عدم مبالغته في ذكر بطولاته الشخصية وتمجيد أدواره، كان دائما يلعب لأي عصابة يعمل معها دور المراقب، أو المشاهد الذي يحمي ظهر المهاجمين ويحذرهم ... وكان خليل هو الآخر يجد في صحبتي متعة، فهو وحيد عجوز تعدى الخمسين، يقبع طول الليل والنهار في ذلك العش الذي صنعه لنفسه على رأس المائة فدان المزروعة طماطم، وكان أعور يغطي نصف وجهه بمنديل محلاوي متسخ بطريقة لا يبدو معها أنه يخفي عوره. وكان يحب الكلام ويحب أن يحكي عما فعله في الزمن الخالي ... وكان يجد في خير مستمع، وكان يقضي الساعات يحكي ولا يمل. ساعات يلتهب فيها خيالي البكر، وأجد نفسي بقوى أكبر مني مدفوعا؛ لا لكي أسمع فقط، ولكن لكي أعمل وأنضم إلى عصابة مثلا، وأشاهدهم وهم يشتبكون ... وكنت حينئذ أسأله إن كان يعرف أحدا من أولاد الليل المعاصرين الذين كنا نسمع نتفا متفرقة عن حوادثهم، كان حينئذ يقول باشمئزاز يكشف عن فكه الأسفل الأثرم، ويهز بيده علامة اليأس، ويقول: أولاد ليل إيه دول؟ دول عيال ... أولاد الليل كانوا زمان ... إنما دلوقتي ... يا شيخ ... دول شوية عيال.
وكنت أصدق عم خليل؛ إذ من الحكايات التي كنت أسمعها، كان واضحا أن عالم البطولات والأمجاد قد ولى بعد أيامه وعصاباته. وكنت أتحسر حقيقية ويملؤني الضيق؛ لأني لم أوجد قبل وجودي بأعوام، وفاتني هذا الزمن القديم الحافل.
شخص واحد فقط كنت إذا سألت عم خليل عنه لا يشيح بيده أو يشمئز، وإنما يتولاه وجوم ويقول: آه ... الغريب أبو محمد ... دا ما له ده؟ ... أهو ده اللي فاضل من أيام زمان.
ذلك أن الغريب أبو محمد كانت شهرته، كابن ليل مدوخ بوليس، قد بدأت تعم الآفاق ... وكان من غير الجيل الذي يتحدث عنه عم خليل، ولكني حتى وأنا في هذه السن، كنت أستطيع أن أدرك بوضوح أن عم خليل لا يستطيع أن ينكر على الغريب مكانته، ولكنه يفسر جدعنته ورجولته بادعاء أنه الجزء الباقي من الماضي الغابر!
وحين كنت أطلب من عم خليل وألح في الطلب أن يجعلني أرى الغريب أبو محمد ولو مرة واحدة، كان يتنصل ويعتذر، ويبدو عليه أنه أفاق من حالة التفتح الوجداني الذي كان سادرا فيه ويقول: ما لك إنت يا بني ومال الناس دول؟ ... يكفيك شرهم.
فلا يفزعني رده، وأستنكر أن يكون هو نفس الشخص الذي كان من هنيهة يشيد بأولاد الليل وحياتهم وأشخاصهم، وأنه هو نفسه كان منهم، فيعود ويقول في صوته الخائف خوف الموت من العودة ... إن الله قد رضي عنه ... وإنه تاب، وإن هذا كان زمان وأيام زمان ... أما الآن فإنه يصلي والحمد لله يصوم رمضان. والحقيقة أنه لم يكن يصلي أو يصوم، وكنت أرى بعيني رجالا يأتون إليه؛ ليخفوا عنده أشياء ويعودوا بعد أيام يستردونها. وأراهم وهم يغمزونه، وأراه وهو يعود إلي وفيه اضطراب ويقول: آه ... أيوه ... احنا كنا بنقول في إيه.
ويبدأ يتحدث فإذا بها نفس الحكاية التي قالها لي مرة، وأصبر قليلا علها تكون مختلفة. وإذا بها هي بنفس تفاصيلها، فأقول له هذا، فينتقل إلى مغامرة أخرى لا جديد فيها، فهي أيضا قد سمعتها. ومع أني كنت قد اكتشفت أنه لم يعد لديه شيء جديد؛ إلا أني لم أكف عن التردد عليه في عشته التي كان يسميها «الطيارة»، ويراقب منها بعين واحدة كليلة عليها سحابة فدادين الطماطم الشاسعة ... لم أكف؛ لأني في قرارة نفسي كنت عن طريقه أريد أن أعثر على الغريب، وكنت أعرف أنه خيطي الوحيد الذي لا أعرف سواه، وكنت أطمع أن يحدث هذا يوما ما مهما كثرت الأيام. وكانت الإجازة الصيفية تنقرض وأيامها تسرع، وشغفي يزداد وأملي يكاد ينفد.
ولم أكن أتصور أن الإجازة لن تنقضي إلا وقد عرفت الغريب، وعرفته بطريقة لم أكن أيضا أتصورها.
3
كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها وروميل في العلمين، والناس يتحدثون عن الحاج محمد هتلر وإشهار إسلامه، وبقدومه المتوقع ليخلصنا من الإنجليز. أما عالم الليل في مركزنا؛ فقد كان مشغولا بأمر آخر لا يمت بصلة إلى هتلر أو روميل. أيامها كان ثمة أمر عسكري قد صدر بترحيل المجرمين المشبوهين إلى معتقل الطور، ونشط كل مأمور مركز، ونشط كل عمدة، ونشط الحاقدون ومحترفو كتابة العرائض. وفي كل بضعة أيام يتكون فوج من المجرمين فعلا، والأبرياء الذين اغتنوا، والأبرياء الذين زج بهم نكاية وزورا، فوج يربط في سلاسل من حديد وكلابشات، ويرحل إلى الطور. أما مركزنا فقد رزقه الله بمأمور كان قريبا لأحد رجال السراي الذين تتحدث عنهم الصحف؛ ولهذا رأى أن يفسر الأمر العسكري بطريقته الخاصة. وبدلا من أن يتعب نفسه في عمليات الترحيل ومكاتباته واستماراته، كان يتولى ترحيل المشتبه في أمرهم ليس إلى الطور ولكن إلى العالم الآخر، وبطريقة بسيطة للغاية لا سلاسل فيها أو كلابشات. كان إذا أفلح في القبض على أحدهم وجيء به إلى المركز لا يدخله السجن، وإنما يبقيه معه في حجرته يحدثه ويؤانسه، ويقدم له الشاي والمزاج، ثم إذا هب الليل يدعوه إلى نزهة معه في «البوكسفورد». وهناك على حافة البحيرة أو أحد المصارف الكئيبة المؤدية إليها يوقف العربة، وينزل هو ويدعو ضيفه للنزول، وبعدة طلقات ينتهي من أمره، ثم يدفعه إلى البحيرة، ولتظهر جثته بعد هذا أو لا تظهر ، فلا أحد شاف ولا أحد درى! والحكومة أبدا غير حريصة على حياة المجرمين والمشتبه في أمرهم، ولا يمكن أن يثبت أي تحقيق يجري طرف مسئولية عليه أو على أحد.
وبعدد هائل من هذه - الفسح - التي أصبحت بعد هذا معروفة ومشهورة، استطاع المأمور الهمام أن يتخلص من عدد لا بأس به من المجرمين السابقين والحاليين والمشتبه في سوابقهم أو لوائحهم، حتى أصبحت سيرة المأمور كقاتل أكثر سريانا على الألسن من سيرة أي ابن ليل عتيد. وكان يصله ما يقوله الناس، وكان يضحك ضحكا يسمع من شباك مكتبه في المركز ويجلجل. ربما كان يجد هو الآخر لذة في الخروج على القانون تفوق لذة تطبيقه ... المهم أنه كان في أحاديثه الخاصة ومجالسه وبين مرءوسيه لا يكف عن ترديد أن كل ما حدث لا يعد شيئا، وأن الفسحة الحقيقية التي لن يهدأ حتى يحققها هي فسحته مع الغريب أبو محمد، عميد أولاد الليل في المركز بل في المديرية، وربما في كل وجه بحري. ولم يكن راضيا أبدا عن مجهود مباحث المركز وعساكره ومخبريه ... في كل يوم كان يعقد لهم طابور توبيخ وتأنيب وتقريع. والعجيب أنهم كانوا يقولون إنه في طوابيره تلك يستعمل ألفاظا لا يمكن أن يستعملها جامعو أعقاب السجائر، رغم أنه، كما يقولون أيضا، يستمد نفوذه من صلته بالسراي والملك عن طريق قريبه هذا ذي المنصب الكبير ... ورغم الألفاظ والطوابير والتوبيخ؛ فقد ظل الغريب مختفيا لا يقبض عليه، حتى حين وصل الأمر إلى حد التحدي السافر، وأصبح المأمور ينفق من ماله الخاص - وربما ليس بالضبط من ماله الخاص - ويرصد المكافآت، ويؤجر العيون، ويلعب من بعيد على شلبي الذي كان معروفا أنه ساعد الغريب الأيمن ويغريه - ويبدو أن هذا السلاح نجح؛ فقد فوجئ أهالي المركز ذات يوم بأن الغريب محبوس في المركز ينتظر مصيره المعلوم المحتوم، وأن القبض تم بالاتفاق مع شلبي، وأن شلبي قد قبض.
والمفاجأة التي لم يكن أي من أهل المركز وقراه يتوقعها هي تلك التي جاءت مع غروب الشمس، حين قالوا إن الغريب قد هرب في عز النهار، وإن الدنيا قامت وراءه ولم تقعد بعد، وإن وقعة من يخفيه، أو لا يبلغ عنه أسود من شعر رأسه.
تلك كانت المفاجأة التي لم يفق منها أحد في المركز أو قراه، والتي ظلت حديث الناس أياما، والتي أصبح موقف الناس بعدها كموقف المتفرجين على عسكر وحرامية، ولكنها لعبة خطرة يشاهدونها، ويتحدثون عنها في السر وبأصوات منخفضة. وينهر الجار جاره أو الصديق صديقه إذا رفع صوته وتحدث، مذكرا إياه بالمخبرين الذين أطلقهم المأمور يتجسسون ويعدون الأنفاس، ويتسلمون غبار الغريب.
حتى نحن - شلة الطلبة والتلامذة الذين كنا نسهر على حائط الكوبري الأسمنت الناعم في ذلك المساء - نتسامر ونتحدث عن المطاردة الخطرة ونحن مطمئنون تماما ألا مخبر بيننا أو بوليس. كنا نتحدث في خوف وهمس، ويستغرقنا الحديث تماما حتى ننسى أنفسنا ولا نصحو إلا على تحذير صادر من أحدنا يقول: إن لليل آذانا، وإن من المستحسن أن نسد أفواهنا ونسكت.
وكنا نصمت ويبدأ خوفنا يطغى، فالدنيا كلها كانت قد عرفت أن الغريب لم يبارح المركز أو قراه؛ زيادة في تحديه للمأمور، وأنه يستعمل الأذرة الصيفي بعيدانها الطويلة وتشابكها الذي يخفي الفيل لو أراد ... وكان حديثنا عن الغريب خطرا من الناحيتين؛ كنا نخاف المأمور وعيونه من ناحية، والغريب من ناحية أخرى؛ إذ من يضمن أننا إذا تحدثنا لن تفلت من أحدنا كلمة ... كلمة قد يشيد فيها بالغريب، فيغضب علينا المأمور ورجاله وآه من غضبهم! أو قد نشيد فيها بالمأمور، فيغضب علينا الغريب، وآه من غضبه هو الآخر وسكينه التي كانوا يقولون إنه يربطها حول سمانة رجله! ... بل أكثر من هذا كانت جلستنا نفسها نوعا من التهور، سننال عليه بالتأكيد علقا وتأنيبا؛ فأهلنا وأهل البلاد كلها يحيون في حالة رعب من اللحظة التي عرف فيها أن الغريب قد هرب، وأنه يختفي في حقول الأذرة، وأنه يظهر بالليل أحيانا ليغتصب الطعام والنقود ... وكان رعبهم هو الآخر مزدوجا. وكأن كلا منهم كان يتصور أن المأمور سيوجه إليه تهمة التستر على غريب، هكذا لله في لله، ودون حتى أن يراه. ولهذا كانت قرى مركزنا تشطب من المغرب، والبهائم تروح قبل ذهاب الشمس، وتصبح الحقول والشوارع صحراء ليلية جرداء، لا حياة فيها ولا حس، ليس فيها سوى دوريات رهيبة مسلحة ومصفحة، تجوب ظلام الليل وصحراءه؛ بحثا عن الذئب المختفي في مكان ما منه.
ولأن كل هذا كان يدور في خواطرنا بسرعة إذا صمتنا، فصمتنا كان لا يطول ... في الحال نجد أحدنا قد بدأ يتحدث والآخرين قد بدءوا يشاركونه. وإذا بالحديث يعود رغما عنا سيرته الأولى، ويعود كل منا يسأل الآخرين، بينما هو في الحقيقة يسأل نفسه: ماذا يفعل الواحد منهم لو لقيه الغريب، وهو في طريق عودته إلى بيته؟ وعاصفة خوف هي التي كانت تجتاحنا لدى إلقاء السؤال. خوف مبالغ فيه؛ إذ الواقع أن هاتفا خفيا في قرارة كل منا كان يتمنى لو حدث هذا، ولكن يتمنى ماذا؟ كان مليون هاتف آخر يتصايحون فورا في جوفه، ويقتلون ذلك الهاتف الخافت. وبسرعة تتحرك دوافع الجبن لتأخذ من الشجاعة كل سماتها وأرديتها، وتحتل المقام الأول. وتجعل من دوافع الشجاعة حيثيات تهور وجنون وقلة عقل ...!
وفي تلك الليلة حين تكاثر الخوف حتى فض سامرنا ومجلسنا، نفس الخوف الذي كان يبقيه ويمنعنا من الحركة، وقام البعض يتشبث بزملائه ويحتمي بهم ويطلب منهم أن يوصلوه. وقام آخرون يختارون أسلم الطرق وأقربها إلى البيوت. وحين قمت بدوري لم أكن أعرف ولا كان حتى باستطاعتي لو أردت أن أتخيل أن الصدف اختارتني ليلتها؛ ليخرج علي الغريب من بين عيدان الذرة، ويجفف الدماء من عروقي بمثل ما حدث ...!
4
من الصعب علي جدا أن أحدد إن كنت لم أستشعر أبدا أني سألقاه، ولكنها لم تكن حاسة سادسة أو إشارة من المجهول ... كان شعورا عاما غمرني، وجعلني لا أعتقد أن هناك فارقا كبيرا بين أن ألقاه أو لا ألقاه.
كان علي لكي أصل إلى بيتنا أن أمشي على جسر الترعة مع بقية رفاقي ثم نفترق، حيث يستمرون هم في سيرهم إلى البلدة، وأنحرف أنا في طريق ضيق يدور حول طرف البلدة، وتحده المساكن من ناحية والأرض المزروعة من ناحية أخرى ... والعجيب أن الخوف انتابني فقط وأنا معهم ... أما حين أصبحت وحدي؛ فقد تلاشى الخوف فجأة، ومع هذا لم أعد إلى حالتي الأولى، اضطراب عظيم وجدته يعصف بي، وكان الخوف قد وصل إلى أن أصبح فوق متناول حواسي ووعيي، وانقلب إلى حذر عظيم واستعداد جنوني للدفاع عن النفس، وحساسية مطلقة لأخفت الأصوات، والتهاب الخيال إلى درجة يرى فيها أي بياض في الليل جلبابا، وأي سواد شبحا، وأي حركة طعنة ... وكان لم يبق على انتهاء حقل الأذرة الصيفي الذي كنت أسير بحذائه إلا بضعة أمتار. بعدها أمر بأرض القمح المنخفضة، حيث الاحتمالات أقل والأمان أكثر ... والأذرة في الليل لها وشوشة تحدثها أوراقها الطويلة الحادة كالموسى الخشنة كالمنشار، خاصة حين يفاجئك حدها في جبهتك أو يلسعك وهو يصك يدك ... وأنا خائف أن أبطئ، وكل ثانية تمر قد تحدث فيها الكارثة. وجاءني شيء من خلف ظهري كالهبهبة. حسبتها أول الأمر هبهبة كلب، ولكنها كانت كلمة ... «وله» ... وبسرعة الومض خطر لي أنها بالتأكيد ليست هبهبة، ولكنها كلمة ... أمر من إنسان. وخطوت خطوة ثانية، وجاءت هذه المرة واضحة، أخرست وشوشة الذرة، وأصمتت صراصير الليل وأزيزه. - وله ...
نفذت إلي آمرة سريعة، فيها دعوة أحسست بعدها بصمم دافئ، وكأن أحدهم صب ماء ساخنا في فتحات أذني ... ولم أعد أسمع ولا أتحرك أو أتنفس أو أفكر ... وفي عقلي شيء واحد يدق ولا يتغير: لقد حدث ... لقد حدث ... لقد حدث!
لحظة واحدة هي التي استغرقها كل ما دار، ولكنها من اللحظات التي يجلس الإنسان بعدها ساعات؛ ليستطيع أن يلم بكل ما حدث فيها ويرتبه، ويجعله يخضع للمنطق والمعقول ... لماذا لم أجر وقد كان باستطاعتي أن أفعل؟ لماذا انكتم الصوت في حلقي الجاف ولم أصرخ؟ لماذا لم أكن أريد أن أجري أو أصرخ أو حتى أتنفس؟ لماذا التفت فجأة إلى الخلف في حركة مذعورة، وقلت بتلك الحشرجة المرتفعة التي ملأت صوتي المراهق برنين أصوات الرجال وخشونته: أيوه ... عايز إيه؟ - ما تخافش يا شاطر.
هل معقول هذا؟ وهل يخضع الخوف أحيانا للأمر، أو لأمر قادم من شخص معين، بحيث إذا جاءك وجدت نفسك فعلا قد كففت فورا عن الخوف؟ ولكن إذا لم يكن هذا صحيحا؛ فبأي شيء استطعت أن أدفع هذا الخوف وأجعل ما أصابني من خوف يتلاشى، وكأنه ذاب؟ جسدي فقط هو الذي تولته رعشة ... رعشة بلا خوف ... وكأن الخوف قد غادر رأسي وصدري إلى الأبد، وركب أطرافي وأرعشها بطريقة جعلت همي كله يصبح أن أوقف ارتجافي الظاهر هذا، وأستجمع إرادتي كلها لآمر بها أطرافي أن تكف عن خوفها ... بلا جدوى، بل بالعكس كلما أمرتها كانت تزداد خوفا وارتعاشا ... والحقيقة المالئة رأسي لحظتها أني لا يجب أن يظهر علي علامة خوف واحدة، حتى لو كانت ارتعاشة. ووجدت السؤال ينطلق مني بلا تفكير، إلا أن أوقف أسنانا تصطك وركبا تهتز ... بلا تفكير إلا أن تمر اللحظة الحاضرة، فقط تمر وبأي ثمن؛ إذ لأمر ما كنت أعتقد أنها لو مرت بسلام، فسأملك أمر نفسي بعدها، وسأنجح في التصرف. - من أنت؟
شخطة خرجت مني، ولا شخطة المأمور! ... أو الغريب نفسه إذا صادف شحاذا أو متسولا! ... وبسرعة، وقبل أن تصطك أسناني مرة أخرى أعقبتها: إنت مين؟
وجاء الصوت الذي لم أكن إلى ذلك الوقت قد عرفت من أين يجيء، وهل يأتي من أمامي أو من خلفي ... أو حتى يخرج من باطن الأرض: أني غريب.
وانطلقت مرة أخرى، وكأنني مسدس الخائف حين لا يصبح همه إلا أن يطلق الرصاص ... ولا يكف إلا بعد أن يفرغ رصاصه ... انطلقت لأقول: إنت غريب ولا الغريب؟ ... ولكن شيئا غريزيا أوقف الجملة الطلقة في حلقي، وجعلني أقول: أنت ال... وبتقول «وله» ليه؟ ... ما تقول سلام عليكم يا أخي ... ما تقول سلام عليكم.
قلتها وانتهت طلقاتي وسكت. وسكت الصوت الآخر. انتهى بعدها صمم أذني، وعاد إليها أزيز الليل ... وبدأت أنفاسي تتلاحق وتعمق، ورحت أفكر في أن أطلق ساقي للريح وأجري وأستغيث، ولكن شيئا كامنا في نفسي ظل يردد لي أنني لن أفعل شيئا كهذا، وأن ليس باستطاعتي أن أتحرك من مكاني خطوة، حتى لو أردت.
وطال الصمت، أو ربما طال في نظري ... وخيل إلي أن كل شيء قد انتهى ... وأن صاحب الصوت لا بد قد ذهب، ولكن أبدا ... إحساس غمرني وجعلني أحس أني أراقب، وأن عينين لا أراهما تدرسانني خلجة خلجة، وأن أمري وصغر سني لا بد سينكشفان حالا ... وستحين لحظتي القاضية. ويا له من شعور أفزعني، وأنا واقف عاري الرأس مخلوع الصندل، تحت سماء بدأ قمرها الجامد يختنق ويذوي، وظلامها الكامل يطبق، والشعاعات غير المرئية تخرج لا بد من مكان داخل هذه الشجيرات المتكاثفة لتتفحصني على مهل وبتمعن! ... أنا المتجمد في مكاني لا بقوة الرعب؛ فقد ذهب الرعب، ولكن بقوة ما بعد الرعب، بقوة الشعور الذي يجمد الفأر في مكانه حين تنغلق عليه المصيدة، بحيث حتى لو فتحت له بابها؛ لما استطاع أن يهرب منها.
ومن الظلام المخفف بظلال العيدان سمعت ضحكة ... بالضبط لم تكن ضحكة ممكن أن يقاس نوعها وطولها ... كانت إذا قيست بالضحك الحقيقي، حسبتها حبة من مسبحة ... أو قطرة من ماء، أو عينة من ثوب قماش ... وآخر ما كنت أتوقعه من نفسي هو أن أغضب لسماعها ... غضبت، بل أكثر من هذا، أحسست أني أكظم غيظي، ولكني سكت. - إنت ابن مين يا شاطر ...؟
وكاد غضبي يتحول إلى حركة وقول لدى سماعي السؤال، وخاصة لدى كلمة «شاطر»، ولكني لا أعرف لماذا هدأت للسؤال، وحل الاطمئنان في قلبي ... وقلت: أنا ابن فلان. - أبوك رجل طيب.
والحقيقة لم أسمع بقية إجابته ... فقد وجدت العيدان تشخشخ وتتأرجح، ثم يبرز على أثر الكلام من بينها امرأة قصيرة القامة ترتدي ثوبا أسود، وطرحة سوداء، وبرقعا ذا قصبة ذهبية لمعت بشحوب تحت شعاع القمر الأصفر.
5
من الممكن أن يعتقد البعض أنه كان حريا بزيه هذا أن يبعث في نفسي السخرية والاستهانة بصاحبه، ولكن العكس بالضبط هو ما حدث ... فقد أحسست فعلا بشعري يقف، وقشعريرة ملتهبة تغمر فروة رأسي، وأنا أرى الغريب قتال القتلة ومدوخ المديرية يرتدي ثوب النساء الأسود، ويضع مثلهن البرقع ... وأن يظهر لنا العفريت كعفريت شيء يخيف، أما أن يظهر في صورة «عرسة» فشيء لا بد أن يبعث على الرعب المميت.
وخطا الغريب بضع خطوات ناحيتي، وهاتف الجري عند كل خطوة يعلو نداؤه وترجع رأسي صداه، ولكنه فجأة جلس وقال: اقعد ... وفي الحال قعدت، وإن كنت قد افتعلت البطء والتؤدة وأنا أجلس ... كانت حافة «القيد» الذي تروى منه الأرض، والذي جلسنا عليه لأتهيأ مكانا لجلسة مريحة، ولكن مشكلتي لم تكن في الجلسة. مشكلتي كانت فيما يريده الغريب مني، هو يريد الناس لقتلهم مثلا أو ليعورهم أو ليأخذ منهم نقودا، فماذا يريد مني وهو لم يقتلني، ولا يعقل أن يكون معي نقود، ويطلب مني أن أجلس!
جلست في صمت، وهممت أن أتكلم ولكني أمرت بالسكوت. أمرني ذلك الكائن الغريزي الذي يتولى أمرنا وحكمنا في أوقات كتلك، أوقات لا نعرف فيها نوايا وأهداف من نكون معهم ... خاصة إذا كانوا من زملاء الليل أو أمثال الغريب.
لم أكن حتى ذلك الوقت قد رأيته ... كنت قد لمحته وحدقت فيه، وكنت أعرف أنه أمام عيني وبجواري، ولكني لم أكن قد رأيته ... السياج الرهيب الذي كان يحيط به ... الذين قتلهم والذين طاردهم والذين طاردوه، والحكومة التي يعاندها والحكومة التي تريده، وتاريخ طويل من القصص والروايات والأحاديث منسوجة وملونة ومحبوكة كانت تحيط به من كل جانب، ولا أستطيع معها أن أراه حتى وهو في ملابس النساء تلك، بل لم تفعل ملابسه أكثر من أنها أضافت للسياج الوهمي سياجا حقيقيا، وتفاعل السياجان ليجعلاني أحس به موجودا وغير موجود، هو الجالس بجواري ويكلمني، ولا يمكن أن يكون هذا شخصه أو الكلام كلامه ... أمعقول هذا؟ الغريب هو الجالس على حافة القيد يحادثني؟ كان يخيل لي في لحظة أن من أراه في تلك الثياب السوداء ليس سوى ظل لعملاق رهيب لا يزال كامنا في الأذرة، وفي أحيان يخيل إلي أن الثوب خال من الداخل، وأن الغريب ما هو إلا نقطة زئبقية داخلية لا يمكن إمساكها أو القبض عليها.
وأخرج علبة الدخان من جيبه أو هكذا تمنيت، فأي حركة منه كانت ترعشني، وتجعلني أنتفض مترقبا غرزة السكين المربوطة على فخذه في صدري، وقال: تاخد سيجارة؟
قلت: كتر خيرك.
قال: خد.
قلت، وأيامها كنت أدخن خلسة سيجارة أو سيجارتين في اليوم ... قلت متصنعا الأدب: ما بشربش.
هز رأسه في سخرية وقال: بتشرب ... خد.
وادعيت، كأنما براعته قد كشفتني، فقلت: علشان خاطرك حاخدها.
مد لي السيجارة وأشعل عود الكبريت من علبة ذات ستين عودا «ماركة الخيال»، ومد العود ناحيتي قائلا: ولع.
وآليت على نفسي ألا أشعل سيجارتي قبله وأقسمت، ولم يفعل قسمي أكثر من أنه أطفأ العود، وقرب رأسه ذات البرقع الذي كان قد رفعه ليشعل اللفافة مني، وأشعل الكبريت مرة أخرى. ولأمنع انطفاءه قربت رأسي، وليمنع انطفاءه قرب رأسه، وانفجرت الشعلة تضيء ما بيننا، وتضيء - أعوذ بالله أعوذ بالله - وجهه، وكأنما أضاءت وجه جنية، عيونها مخططة بالطول، وكأنما أضاءت وجه نعجة شيطانية مجنونة ترتدي برقعا.
سقطة السيجارة من فمي هي فقط التي عرفتني أن فمي مفتوح وأني خائف جدا، وكأن كل ما فات من خوف لم يكن سوى التثاؤب الذي يسبق المرض. أما وأنا أحدق في وجهه فهو الخوف، المرض، الحمى الباردة التي تهد الجسد وتضعضع العظام، الحمى التي ترجفني، حمى الخوف التي أدركها بوعي محسوسة ملموسة.
ورغم هذا ما أعجب قدرتنا! ما أعجبنا نحن بني الإنسان! لو كنت حيوانا ... وأحسست بمثل ما أحسست لفقدت السيطرة على نفسي، ولظللت أجري وأركض رعبا حتى لقيت حتفي، ولكنني في اللحظات التالية كنت بقدرة الخوف الخارقة قد ملكت السيطرة على نفسي تماما، جلست بجواره أيضا أدخن السيجارة العربي «الملكونيان» التي عزم علي بها، وأدوخ ... فقد كنت حديث العهد بالتدخين وبابتلاع الدخان، وأرد على أسئلته بثبات أو بمحاولات جادة يائسة الثبات غالبا ما كانت تنجح، وغالبا ما كانت إجاباتي تخرج مفهومة معقولة تكاد تبدو طبيعية ... سألني عن دارنا، وأين هي من جلستنا ، وسألني أين كنت، ومع من، وماذا قلت لهم، وماذا قالوا لي، وماذا يقول الناس عنه ... ولم يفتني وأنا في حالتي التي أتأرجح فيها بين «الهي والهوى» تلك أن ألاحظ غبطته الساذجة لكل كبيرة وصغيرة قلتها له نقلا عن الناس، بل وألفتها أيضا. وما أيسر التأليف علي وأنا أحاول أن أرضيه، وأجعل أقوالي كمرآة مكبرة يرى فيها حجمه مضاعفا وبطولاته أطول من المآذن وسعف النخيل.
وأنا آخذ آخر أنفاس سيجارتي، كانت المشكلة لا تزال تلسعني، ولا أزال أريد أن أقول له كم حاولت أن أراه وألقاه، وأشهد عم خليل و«طيارته» غير بعيدة على أقوالي، وأتردد لا لشيء إلا لخوفي من أن يفسر رغبتي في رؤيته تفسيرا يجلب غضبه. وأخشى ما كنت أخشاه لحظتها أن أقول كلمة أو أقدم على حركة تثير غضبه، بل كان يخيل لي أحيانا أنه سيغضب فجأة من تلقاء نفسه كالمجاذيب وأهل الله ... وكأن أخلاق أهل الليل قريبة الشبه جدا من أخلاق أهل الله. ولكنني نسيت المشكلة تماما، بل نسيت نفسي والمكان والزمان في طرفي الكماشة اللذين أطبقا على بلبلة أذني، وأنا أدفن بقايا السيجارة في طين القيد.
6
أصابع لا يمكن أن تكون أصابع ... لا بد أن عظامها من الداخل كانت حديدا، والجلد فوقها قد جف من زمان وتحجز. خيل إلي أن جسدي كله يحمر للقرصة، ومع هذا فقد كنت أحس بالأصابع الكماشة لا تقصد بها الجد والأذى بقدر ما تريد التنبيه المغلف بهزل ... وصوت يأتيني من وراء البرقع الذي أعيد كقناع الديك الرومي إلى مكانه: وبتشرب سجاير ليه؟ ... مش عيب؟
ولم أتأوه ... خوفا، وربما حسبها جدعنة، ولكنها كانت والله خوفا، وحتى سكوني بعد هذا وهو يسألني، هل أصلي مثل أبي المشهور بصلاحه ... ثم نطقي حين ازدادت الضغطة وقولي: لاه.
وتزداد القرصة، ويجيئني السؤال كلفحة النار الهادئة: ليه؟
فأقول: حاصلي ... حاصلي.
وحينئذ أحس بجسدي يبرد وينتعش ويعود إلى الحياة؛ إذ الكماشة كانت قد تركت أذني، ولكني ما كدت أتنفس، حتى دوت خبطة أو خبطتان على ظهري كدق الساطور على جسد الذبيحة المنفوخ، والغريب لعنة الله عليه، يقول: لا والله ... أنت واد جدع ... يحميك لأبوك ... لولا أنك جدع لغرزتك زرع بصل في القيد ده ... قف.
ماذا أفعل؟ وقفت ... قرب هنا ... قربت ... هات ودانك ... أذني التي كنت لا أزال أحس بها حمراء كالجمر المضيء في ظلمة الليل هي نفسها التي قربتها، وهي نفسها التي سمعته ... سمعت قحة الغريب أبو محمد وهو يقول: آني جعان يا ولد.
أقسم أن صدري لم ينشرح لكلمة سمعتها من إنسان بمثل ما شرحت صدري تلك الكلمة، وأزالت كل ما تراكم فيه ليلتها من اضطراب ورعب وارتجاف وهوس ... واستقرت في أعمق أعماقه وراحت تدوي دويا غريبا حبيبا، نداء ... النداء الذي تتجمع له النخوة والحب والرغبة العارمة في التضحية، وأسهلها التضحية بالنفس. وبكل هذا، وبكل ما حدث في وما انداح من صدري قلت في شبه هتاف: تحب تاكل إيه؟ - أي حاجة ... وإن كنت تقدر هات لي صندوق دخان وحجر بطارية وقلة ميه.
واستدرت لأجري، ولكنني لم أتحرك، فيده المهولة كانت قد أمسكت بذيل جلبابي ... وعدت أواجهه فوجدته يرفع البرقع ويقول: كلام رجالة؟!
وجمت ... فقد أحسست أنه يهينني، وربما القمر الساقط على وجهي الشاحب اللاهث قد أنبأه هو الآخر أني أكاد أبكي تأثرا، فترك الذيل، ولكنني لم أتحرك ... ظللت واقفا، وأيضا لا أستطيع أن أتكلم ... كنت أريد أن أقول له أشياء كثيرة جدا، ولكني لم أكن أعرف كيف أقولها؛ ربما لأني لم أكن أعرف بالضبط هذه الأشياء الكثيرة التي أريد قولها؛ وربما لأني لدى كلمته هذه بدأت أفقد الحماس الدافق الذي أشاعه طلبه في صدري، وبدأت أفكر في أن أذهب وأوقظ أبي والخفراء والعمدة ونمسكه.
وقفت حتى قال: روح ... يلا.
قلت له: مش خايف مني؟
قال بهدوء آمر هامس ينفذ إلى النخاع: روح.
وبخطوات مضطربة مضيت أتخبط في الطريق إلى بيتنا القريب.
7
قطع الشوربجي كلامه مرة ليقول: من كان يصدق أنني سأعود إليه بعدما نفدت بجلدي منه، ومن كان باستطاعته أن يصدق أن علاقة طويلة ستنشأ بيني وبين الغريب، علاقة أصبح فيها محل ثقته حتى ليأتمنني على زوجته الحلوة الصغيرة «وردة»، أحلى وأجمل وأنضج من رأت عيناي؟
لا بد أن الإنسان هو الذي يتمتع وحده بتلك الخاصية المجنونة خاصية أن يرى الخطر ماثلا أمام عينه أحيانا، فلا يهرب منه كما تفعل الكائنات، ولكنه بكل طيش يواجهه ويسمي هذا شجاعة ويفخر بها ... لا بد، وإلا لما كانت هناك قوة في الوجود تستطيع أن تعيدني إلى حيث يختفي الغريب، محملا بكل ما استطعت العثور عليه في بيتنا من طعام، وبقلة الماء المخصصة لأبي، والتي كان لا يجرؤ أحد من أهل البيت على لمسها. •••
تلك كانت قصة لقائي بالغريب لأول مرة. والذي حدث أنها لم تكن الأخيرة، فلقد ظللت أياما كثيرة أقابل الغريب، وأحمل له الطعام والماء، وكل المطالب الصغيرة التي يحتاجها اختفاؤه الكامل. ولم تكن المهمة سهلة؛ فالطعام في القرى لا يباع أو يشترى، وكان لا بد من التحايل الكثير لإحضاره من بيتنا، واختلاق الحجج للتزود ببعضه من بيوت أهلي وأقاربي. وكان الغريب أول الأمر يعاملني بحرص شديد، فما ذهبت له مرة بالطعام ووجدته في المكان المتفق عليه. كنت أجد مكان الانتظار دائما خاليا فأقف، وأظل أتأرجح بالشك والخوف، حتى يخرج علي من حيث لا أدري. وبعد أن يكون قد اطمأن إلى أني بمفردي ... وكنا لا نلتقي إلا ليلا في تلك الفترة الكائنة بين المغرب والعشاء ... ورغم سني الصغيرة وغرابة هذه العلاقة، فلم يطلب مني الغريب أبدا أن أبقي ما يحدث بيننا سرا، ولكني أنا كنت على استعداد لأن أموت قبل أن أطلع عليه أحدا ... وما أروع تلك الأيام القليلة التي عشتها أمينا على سر الغريب وصلته الوحيدة بالحياة ... كنت أحس طوالها أني أخيرا، وبطريقة لم تخطر لي على بال، قد استطعت أن أدخل ذلك العالم الذي عشت أحلم بالحياة فيه. وما أروع المرات التي شاطرته فيها الطعام، أو التي طالت جلستنا فيها ودار الحديث ... حديث كنت أقوم أنا بأغلبه، تاركا للغريب مهمة تشجيعي على المضي فيه، أو قطع حبل استماعه بسؤال. وما أتفه ما كانت تبدو لي أحداث حياتي الكبيرة، وأنا أحدثه عنها ... ما أتفه ما كانت تبدو خلافاتي مع الناس وخناقاتي واشتباكاتي، وأنا أقولها للرجل الذي يقتل الناس لأي هفوة، وأحيانا بلا هفوة!
وقد اقتضاني الأمر لقاءات كثيرة، وأحاديث ممتدة لأستطيع أن أراه رأي العين، وأتعرف على ملامحه. كان أول ما يجذب انتباهك حين تراه شارب أسود كث، بدأت تظهر له شعرات ناصعة البياض يمتد بعرض وجهه. وتحس به يبتلع ملامحه كلها، ويستولي على عينيك، ولا يدع لك اهتماما آخر توجهه إلى أنفه الحاد الرفيع الذي ينتهي فجأة، وكأنما بمطب عند شاربه، ولا عينيه الضيقتين اللتين تآكلت بعض رموشهما واحمرت. وكان أعجب ما فيه يداه؛ إذ كانتا صلبتين صغيرتين أصغر حجما من يدي أنا وأقصر أصابع، وحتى «بلغته» كانت صغيرة، تحس أنها فصلت لصبي أو أنها بلغة فتاة ... ومرة لاحظت أنه بالكاد يلاحقني في الطول إن لم أكن أنا أطول منه بقليل، وأنه حين ينهي ضحكه بشخشخة صوتية اعتادها؛ ربما ليضفي نوعا من الخشونة على ضحكه.
بعد ليال كنت قد أخذت عليه إلى درجة أني سألته مرة سؤالا لا يوجهه إلا «عيل» مثلي - على حد رأيه - أو مجنون. سألته لماذا هو قتال؟ ولماذا لا يحيا كالناس الذين خلقهم الله وسواهم؟ وماذا دفعه في الطريق؟ ضحك للسؤال وشخشخت ضحكته، وقال: الله يقطعك يا شيخ ... وأنت قد السؤال ده؟ طب اسأل حاجه تانية.
ولكني وبطريقة صبيانية، وكأنما أتدلل على أبي، ألححت عليه أن يجيب ... حينئذ فقط، وبعد إلحاح، سهم وشردت نظرته حتى خفت أن يكون مشغولا بتتبع مصدر ما للصوت؛ إذ ما كان أرهف أذنيه لأقل الأصوات وأضألها! ثم قال: الحق الحق مش عارف، إنما اللي أقدر أقول لك عليه إني كنت كل مرة يا قاتل يا مقتول.
قلت مبهورا وقد خيل إلي أنه بدأ بعظمة لسانه يفتح لي أسرار عالم الليل الرهيب: إزاي؟ قاتل يا مقتول إزاي؟ - يعني يا كنت أقتل يا أتقتل، فكنت باقتل.
قلت وأنا أمد انبهاري، وأطيله لأشعره به: كل مرة كده؟ - كل مرة كده. - حتى أول مرة؟
هنا سكت وعاد يسهم، ثم قال: لا ... هي المرة الأولانية هي اللي صعبة ... كنت زارع عند واحد ... كلني، طالبته مرة واثنين وتلاتة، وسقت عليه الناس مارضيش، قالوا لي بلغ فيه بلغت، حطوني أنا في المركز وضربوني ... وأنا في السجن صممت إني أقتله. ويوم ما طلعت تمام، بعت العجلة واشتريت بندقية وطخيته قدام باب بيته. حققم معايا وانحبست إنما ما ثبتشي عليا، أهله راحوا أجروا واحد يقتلني وياخد بتاره. أستناه لما يقتلني؟ قتلته قبل ما يقتلني، وعليها يا سي عبد الرحمن.
قلت أقاطعه: يعني ... ال... الراجل ده ... ما. ما. ما زعلتش لما قتلته مثلا يعني؟ - زعلت، أمال ما زعلتش! قعدت شهر ما أدقش زاد ولا ميه وعييت، ما خلصنيش م العيا إلا أما عرفت أن أهله مأجرين علي واحد يقتلني.
وسكت سكوتا مفاجئا جعل الاضطراب يدب في نفسي، والتفت إلي مرة واحدة وقال بصوت عال رفيع: وأنت بتسأل عن كده ليه؟
فقلت له برهبة وصوت متهدج بالخطورة: أصلي عايز أقتل واحد.
ضحك وضحك حتى دمعت عيناه، ثم قال وهو لا يزال يضحك: تقتل واحد مين؟ قل لي عليه وأنا أقتله لك.
قلت له: مش واحد محدد، أي واحد.
قال بدهشة: أي واحد ... إزاي يعني أي واحد؟
قلت: أي واحد كده.
وكانت في الحقيقة مهمة صعبة أن أشرح له ما أريد، وأخبره بالتفصيل عن تلك الرغبة الخفية التي تراودني، والتي جعلتني ألازم عم خليل، وأتمنى أن ألقاه هو، والتي ما جرؤت أن أصرح بها لأحد سواه. نظر إلي بركن عينه نظرة اكتشفت معها أنه حين ينظر بركن عينه يحول، وقال: بتتكلم جد؟
وقلت، وكلي صدق ومن أعماق قلبي: والله بتكلم جد. أمال أنا بكلمك ليه؟ - بتكلمني ليه؟ - عشان أنت اللي حتعلمني أقتل إزاي.
ضحك حتى كاد ينفجر، وقال وهو يخبط على كتفي: مش عيب يا أستاذ الكلام ده؟ أعلمك القتل إزاي، هو كوتشينة يا فندي؟
وأحسست أني أهنت؛ خاصة لكلمة أفندي، وهو ينطقها بطريقة ممدودة الحروف. مع أني لأمر ما، كنت أعتقد أنه هو الوحيد الذي لن يسخر من رغبتي هذه لو حدث وقلتها له، بله أن يضحك علي وعليها كأي عابر سبيل، أو زميل من زملاء الدراسة. أحسست أني أهنت، ولم أشأ مجادلته؛ مخافة أن يأخذها هزلا ويضيع حلم حياة بأكملها ... وسكت.
وسكت هو الآخر، ثم وجدته بعد فترة يطبطب على كتفي وكأنما يصالحني ويقول: وإذا كان نفسك يا سيدي تقتل بخليك تقتل، المسألة بسيطة.
قلت وقد عاودني الأمل: والنبي؟
قال: بس على شرط حاكلفك بمأمورية تقدر تعملها؟ - واعمل أبوها كمان.
8
وحتى تلك اللحظة لم أكن قد نظرت للغريب أبدا باعتبار أنه إنسان مثلنا، ممكن أن تكون له زوجة أو يكون من عائلة وله والدان، وقطعا لم يدر بخلدي أن تكون له مثلا زوجتان ومن يدري ربما أكثر ... المشكلة أنه لم يترك لي وقتا للتأمل أو الاندهاش، على الفور مضى يحدثني عن تفاصيل المهمة التي تنتظرني، والتي كان علي فيها أن أوصل للزوجة الأولى ورقة بخمسة جنيهات، وأن آتي له بالثانية ... والأولى كانت في بلده القريب من بلدنا، سمراء كالحدأة، جافة، رفيعة كعود السنط الجاف. وأولادها على الأقل أكثر من عشرة، وكلهم لهم نفس سمرتها وعودها الجاف. وطلعت عيني، وهي تسألني عن كل كبيرة وصغيرة من أمر الغريب وتستريب، وتعود وتلح لتتأكد حتى تشهدت حين انتهت المهمة وأفرجت عني.
أما مهمتي الثانية فكانت ل «وردة» أحدث زوجاته التي لم أكن أتخيل أنها على هذا القدر المذهل من الأنوثة والليونة والجمال. لم أكن قد ذهبت أبدا إلى العزبة التي وصفها لي الغريب، ولكني كنت أعرف أنها تقع في منتصف المسافة بين كيلو 14، وبين محطة الطلمبات التي ترفع مياه المصرف الكبير إلى مستوى ماء البحيرة ... واخترت أن أذهب في شيخوخة العصر حتى أعود بها والدنيا ظلام، وكنت مضطربا خائفا أتحاشى الناس، وأتصور أنهم يعرفون وجهتي، ويعرفون حتى «الأمارة» التي زودني بها الغريب لتؤمن «وردة» أني قادم من عنده ... ويا لها من أمارة، أمارة ما طلبت منه أن يأتي لها بقلم حواجب أسود، أمارة لم أستسغها أبدا ولا هضمت أن ينطقها الغريب بلسانه، ويشغل نفسه بها إلى درجة أن يتذكرها.
حين وصلت كانت العزبة لا تزال خالية إلا من النساء العجائز والأطفال، وقوبلت بعاصفة نباح هائلة من كلاب كثيرة هزيلة يكاد يقتلها الجوع، وظلت تطاردني حتى كدت أعود لولا الفلاحة الضخمة الملوثة الملابس بالطين، والتي ظهرت في الوقت المناسب لتحول بينها وبيني.
ثم تقودني لبيت «وردة» وتتطوع من تلقاء نفسها بتعليل زيارتي، فتسألني: إنت يا خويا من قرايبها بتوع المحطة؟
وكانت تقصد بالمحطة البندر حيث السكة الحديد، وحيث درج الناس على تسميته بالمحطة. وهي أيضا التي دقت الباب بيدها الملوثة، ونادت على وردة، وطلبت منها أن تفتح «للضيوف» ... وأجابها من الداخل صوت حافل بزغاريد أنثوية رقيقة، لكنها بندراوية راقية حلوة ... صوت بدا غريبا غير متوقع في ذلك المكان النائي الموغل في بعده عن كل ما يمت إلى الرقي والحلاوة بصلة ... وفتح الباب، ولومضة خاطفة لمحت أجمل وجه وقعت عليه عيناي، وجه أبيض يكاد من بياضه أن يصبح شفافا، ومن وسامة تقاطيعه أن يتحول إلى صورة من الصور التي نراها على علب الحلوى والملبس. وكان واضحا أنها انتهت توا من استحمامها، فشعرها كان قد صفف نصفه، ولا تزال قطرات الماء تتساقط من نصفه الآخر ... ومضة رأيتها بعدها تختفي بحركة غريزية وراء الباب، ثم تعود للظهور، وقد وضعت فوق رأسها جلبابا أخفى الشعر، وحاول فاشلا أن يخفي الوجه. ولم يتح لي أن أرى أكثر؛ فقد أسقطت رأسي في الحال فوق صدري خجلا، ولم أرفع عيني عن الأرض، وكدت آمر أذني ألا تسمع خاصة حين خرج صوت «وردة» مملوءا بزغاريده الخافتة الداخلية يرحب بي، ويطلب مني أن أتفضل، مع أنها لم تكن قد عرفت بعد من أنا ولماذا جئت.
ووجدت نفسي أزداد خجلا وتعثرا، وأنا أشرح لها بأقل الكلمات وأسرعها سبب مجيئي، وتحمر أذناي وتسخنان وأنا أذكر لها الأمارة. ولم يغير ما قلته شيئا من ترحيبها أو لهجتها، فمضت بنفس الروح ترحب بي، وتطلب مني أن أدخل وأجلس. وحين ترددت وجدتها تجذبني إلى الداخل بيد بضة لا تزال مبتلة بالماء وتقول: خش يا حبيبي ... دا بيتك ... اتفضل اسم الله عليك، اسم النبي حارسك.
ولم تترك يدي إلا حين أصبحت في حجرة داخلية كالمندرة، وإلا حين أمالت بيدها الأخرى «حصيرة» زاهية النقوش وفرشتها، ووضعت فوقها مسندين، وأصرت على أن أجلس على أحدهما، وأستند إلى الآخر.
ولم أكد أبدأ ألتقط أنفاسي حتى كانت عدة الشاي أمامنا، والشاي نفسه قد انتهى إعداده. وحتى كانت تناولني الكوب بنفس يدها التي بدت حمراء من كثرة بياضها ونعومتها، ثم تسألني عن رأيي فيه، وتقول إنها راعت أن تجعله خفيفا ليكون «شاي أفندية» يليق بي.
ومع رشفات الشاي الأولى بدأت أفيق، فحتى ذلك الوقت كانت مشغوليتها الشديدة في إكرامي والترحيب بي لم تدع لي فرصة أحدثها فيها عن سبب مجيئي بالتفصيل، أو حتى أذكر لها شيئا عن كنه علاقتي بزوجها الغريب. وكلما طال الوقت يزداد اهتمامها بي، وكلما زاد اهتمامها ازددت خجلا واضطرابا، حتى بدأت أفكر في وضع الشاي جانبا، وتهيئة نفسي لإعادة الرسالة عليها، ولكني فوجئت بها تقترب مني كثيرا وتقول: إنت مكسوف ليه يا حبيبي؟ ... هو ده مش زي بيتكم ولا احنا مش قد المقام؟ ما تنكسفش يا خويا اسم النبي حارسك وحاميك.
وأعقبت كلماتها الأخيرة بهدهدة حنونة علي، هدهدة كادت تأخذني معها تحت إبطها.
وكان لا بد أن ينتهي خجلي ولو للحظة وأرفع بصري إليها، إلى تلك التي تعاملني كصبي صغير أو طالب، بينما هي لا تكبرني إلا بأعوام أقل من أن تعد. وحتى لو كانت أكبر مني بكثير؛ فهي امرأة وأنا شاب غلظ صوتي وبرزت حنجرتي. ثم إنها ليست صغيرة فقط ولكنها حلوة بطريقة لا يتصورها العقل، بيضاء جميلة ملفوفة في فستانها الحرير المحبوك، وكل ما فيها ناضج فائر يكاد يمزق الفستان. وحتى لو كان لها جسد رجل، فيكفي ما في عينيها من سواد جميل، يشع رغبات مجنونة تكاد تنطق وتصيح ... ولا تجد في هذا كله حرجا من الطبطبة علي، وأخذي تحت إبطها، وإدارة وجهي ناحيتها كلما حاولت أن أغض الطرف أو أستدير. بل لا تجد حرجا في أن تعزم علي بالدخان والمعسل، وأي مكيف أريد. وأحيانا كثيرة تملس على شعري وتقول: الله ... شعرك أصفر وحلو زي شعر الإنجليز ... اسم النبي حارسك يا خويا وصاينك.
وتقول «أخويا» بطريقة يقشعر لها الجسد، بطريقة لا تمت إلى الأخوة بصلة.
وظللت طوال الوقت منبهرا مما أراه وأسمعه ومن إحساسي الدائم أنها مع كل ما تفعله زوجة الغريب ذلك الجبار الرابض ينتظر عودتنا، وعلى فخذه الأيسر سكين. ويبلغ انبهاري قمته حين تتعمد بين كل حين وحين أن تخبط على كتفي خبطة دلال وتأنيب وتقول: اطلع من دول ... دا زمانك مقطع السمكة وديلها، حاكم البنات تموت في شعرك ده ... يحميك يا خويا لشبابك اسم الله عليك ... إنت مش حتبات هنا إن شاء الله؟ والله ما سيبك تروح لوحدك أبدا.
ويتولاني الضيق العظيم، ضيق الموفد في مهمة الذي يكتشف أنه هو الذي أصبح موضع الاهتمام، وأن كل الرسالة التي يحملها لم يعد لها أهمية بالمرة وسط ازدحام الإكرام الهائل، والأسئلة المتوالية عنه وعن شخصه ونفسه، والطبطبة والأحضان التي ظاهرها عطف خالص، والتي يدوخ التفكير في باطنها.
ويبلغ الضيق بي أن أقوم أحيانا منتفضا، وكأنني سأهم بالجري فتحيطني بذراعيها فورا، وأحيانا تمس شعري بقبلة يقف لها شعري، وتسألني في دلال عما يدفعني للعجلة، وبأصبعها المكهربة تتحسس وجهي وذقني وشاربي المخضر. ويزداد ضيقي وأنا أعامل كاللعبة التي لا رأي لها ولا اعتبار. وآمر نفسي أن تظل صورة الغريب ماثلة أمام عيني، لا تختفي لحظة تحول بيني وبين هذه المرأة البندراوية التي لا يوقفها خجل أو يمنع يدها حياء. امرأة تبدو كالمحرومة التي ما رأت في حياتها رجلا ... تراه ماذا يفعل معها؟ ومن الواضح أنها لا تخافه أبدا، ولا تعمل له حسابا قط.
وربما الضيق والاستنكار وغرابة الموقف هي التي دفعتني دفعا لأن أجد نفسي أحس فجأة باحتقار هائل لوردة برغم جمالها الهائل وشخصيتها الطاغية المكتسحة.
الغريب بعيد عنها، والرجال يخافونها خوف الموت، ولم يبق لها في منفاها البعيد عن الرجال إلا تلك الصدفة التي ساقتني إليها، من تحسبني تلك المرأة الداعرة؟ ومن تحسب نفسها؟
هكذا بدفعة بغض قوية خلصت نفسي منها، وحدجتها بنظرات خلت من كل ما يخجل أو يربك، وأعدت عليها الرسالة كلمة كلمة، وطلبت منها أن تصحبني. وكأنما صدمها تغيري؛ فقد وجدت الاضطراب يملأ عينيها فجأة، ويدفعها للحركة بلا هدف داخل محجريهما. ولكن ذلك لم يستمر إلا لهنيهة؛ فقد وجدت بريقا ما يعود يشع من نظراتها، ولم أحتج لذكاء كثير لأدرك أنها فسرت نفوري على أنه فشل لأنوثتها معي، وأنها لكي تنجح، عليها أن تعيد سن أسلحتها، وتمضي في المعركة. وهكذا جذبني، وهذه المرة كانت أحضانها مكشوفة، وإن حرصت على أن تسبقها بقولها: اسم الله عليك، اسم النبي حارسك.
ووجدت نفسي أنا الآخر أبادلها البغض والنفور بطريقة مكشوفة، ويغادر الخجل نظراتي ليغرق نظرتها هي، حتى ليدفعها لأن تقول: هو أنا مش عاجباك يا حبيبي؟
وإلى هنا وجدت نفسي أصرخ، وأقول لها: أنا ما لي وما لك؟ ... أنا باعتني عم الغريب ... جاية ولا مش جاية؟
ويبدو أنها قرأت في عيني أن الضيق قد بلغ بي منتهاه، ولكنها لم تنسحب من الموقف فورا، ظلت تحادثني وكأنما لتختبر إحساسي الأخير تجاهها، ولتزيل الجفوة التي حدثت. وفي النهاية قالت إن علي أن أعود للغريب، وأخبره أنها لن تستطيع الذهاب إليه. أما لماذا؛ فقد أبت أن تجيب، وطلبت مني أن أبلغه ما قالته فقط وبلا أي تعليق، وبعد فترة قالت: وإذا كان عايز هو يشوفني ... خليه ييجي.
وكانت تقول هذا، وكلانا مدرك أنه مستحيل، فمجيئه إليها خطر أكيد.
وحين لم أجد فائدة اندفعت خارجا، ولكنها أمسكتني واستبقتني إلى أن حشت جيبي بفطيرة لفتها في غلاف مجلة، وأصرت علي أن آخذها. ولا أدري لماذا حين أخرجتها في منتصف الطريق وأنا عائد، وحاولت أن أقضم منها قضمة جزعت نفسي، ووجدتني أقذفها بكل قوتي في المصرف، وأتخيل المشهد الحافل الذي سيدور بيني وبين الغريب.
9
وكان لقائي معه حزينا لا أدري لم. كنت أحس من ناحيتي أني فشلت في مهمة كلفني بها، وأن علاقتي البسيطة الواضحة به قد حدث فيها شيء عقد من بساطتها، الغريب الذي ما رأيته إلا كبطل يرى، لا يمكن أن يربطه بأرضنا أو بحياتنا رابط فجأة اكتشفت أنه زوج، وزوج ل «وردة» وأي وردة! اكتشاف جعلني أحس بالخجل ... وكأنه كان من واجبي ألا أعرف، وكأنني ضبطته في موقف شائن أو لحظة ضعف.
أما الغريب؛ فكل ما فعله حين رآني أنه قال: هيه ... ما جاتش؟
ولأول مرة في علاقتي به، أدرك أني لكي أجيبه؛ علي أن أكذب. وكذبت. وحاولت أن أجد لها عذرا وأبرر ولكنه هز رأسه وقال: طيب ... هيه ... حصل خير ... وحد شافك لما رحت؟
ومن توهانه عرفت أنه يريد أن يغير الموضوع ليس إلا. وضايقني أنه لم يثر ولم يغضب وينشب أظافره في عنقي، أو قام من فوره إلى العزبة، وانتزعها من مرقدها ونقلها. حتى حين حاولت أنا أن أعود إلى الموضوع، وأستنكر موقفها استنكارا خفيا لم يظهر عليه الضيق، وراح يسألني عنها وعن صحتها، وماذا كانت تفعله بالضبط حين وصلت. أسئلة كان يبذل الجهد لكي تبدو طبيعية كأسئلة أي زوج غائب عن زوجته البعيدة.
ومع هذا فكل سؤال من أسئلته كان ينبت العرق البارد تحت إبطي؛ مخافة أن يكتشف الكذب في إجاباتي، وكنت لا أبدأ التنفس بحرية وأرتاح إلا حين يهز رأسه وينتقل إلى سؤال آخر.
ولكني لا زلت أذكر رأسه هذا ذا الخمسين عاما حين ارتفع فجأة من فوق صدره، وارتفعت معه عينان أخفي ظلام الليل ضيقهما وتفاصيلهما، وجعلهما تبدوان كما لو كانتا مجرد دائرتين مظلمتين على جانبي أنفه ... لا زلت أذكر ارتفاعة رأسه، والوضع الذي اتخذه وهو يصب علي صمته، وكيف طال الصمت، حتى بدأت أقلق وأحاول يائسا أن أخترق نظارة الظلام الغامقة الموضوعة فوق عينيه لأفتش عما يريده مني، حين قال فجأة: اسمع يا فندي.
ومنعتني الرهبة عن أن أستحثه، أو أفتح فمي، أو حتى أموء في إصغاء. كان القمر يطل علينا من بعيد من فوق أشجار الظلام والكافور المحيطة بغيط الميامنة، وكان مكسورا كأحد «متارد» اللبن التي يضعونها تبركا بعد كسرها فوق قبر سيدي أبو لقان، وشعاعاته الشاحبة محمرة كضوء لمبة الجاز حين توضع في الفانوس ويمنع عنها الهواء، وكان رأس الغريب يواجهني كبيرا بالنسبة لحجمه، ثابتا واجما كأن صاحبه قد مات، ومن خلال فم لا يكاد ينفرج جاءني صوته: إنت بتكدب علي يا فندي؟
ومت ... أقسم أني أحسست وكأني أسقط من حافة الدنيا إلى هاوية الآخرة، السقطة توقف القلب وتشل العقل وتجمد الأطراف، ويدفع رعبها جلودنا لأن تفرز فزعها على هيئة عرق صغير ينبت ... عرق الرعب. وحاولت التشبث بالهواء وقلت: ليه؟
ومرة أخرى، جاءني صوته، وكأنه صوت الظلام إذا تكلم الظلام: بتكدب علي ليه يا أفندي؟
وابتلعت ريقي بصوت حاولت كتمه، وقبل أن أبتلعه مرة أخرى قال: إنت عملت حاجة مع وردة؟
ويبدو أنه لمحني أعتدل في مكاني ملسوعا، فوجدته يستطرد معدلا السؤال: ولا هي لعبت عليك يا أفندي؟
وفي جزء من الثانية كنت قد وطنت نفسي على أن أنهار أمامه، وأقول له كل شيء، وإذا نفدت بجلدي أقطع صلتي به وبوردة، وبتلك المشاكل التي لست ندا لها، والتي ورطت نفسي فيها بصبيانية قد تضيع حياتي. ولكني في الجزء التالي من الثانية، كدت أفقد وعيي بتأثير دفقة الحياة القوية التي عادت إلي مع أغرب وآخر ما كنت أتوقعه ... ضحكة عالية ضخمة صدرت عن الغريب، وبددت عن الليل ظلامه، وانتزعت عقلي من مكانه، ضحكة ... ويد قصيرة قوية امتدت تطبطب على كتفي، وصوت آخر كصوت النور إذا تكلم النور، يأتيني من ملامح بدأت تتحرك وتنفعل وتعود إليها الحياة: إنت خفت يا أفندي؟ ... الله يجازي شيطانك ... قول لي بقى ... وردة عملت معاك إيه؟ •••
وأنى لي أن أعرف أن الغريب يعرف عن زوجته الجديدة وردة كل شيء، وأنها نقاوة عينه التي أخذها على عيوبها، وأنه رآها تغني في الأفراح مع الفرقة الموسيقية فأعجبته وعشقها وتزوجها بما يشبه القوة، وأنه يضعها في العزبة النائية كالطائر في قفص مفتوح يتحدى الرجال بها ويتحداها وتتحداه، وأن العلاقة بينهما - على رأي عم خليل الذي شرح لي كل شيء - كالعلاقة بين الجني المارد والمرأة في ألف ليلة، يضعها في قمقم مفتاحه معه، وتحتفظ هي بصرة فيها خواتم من خانته معهم، رغم كل قمقمه وأقفاله وجبروته. غير أن وردة لم يكن لديها صرة خواتم، وواضح أن الغريب أقوى أثرا من الجني المارد وأكثر حبا، فهو يقتر على نفسه وزوجاته وأولاده ويصرف عليها، ويعفيها من أن تخلص له أو تتصرف بشرف، ويقول لها: إذا استطعت أن تفعلي شيئا؛ فحلال لك أن تفعليه.
وربما يقول هذا عجزا، وليبرر لنفسه خطأها إذا أخطأت، ونار الشك تأكل قلبه، وعذابه لا ينتهي، والسؤال المضني يلح عليه: «تراها استطاعت وأخطأت، أم لا تزال عاجزة؟»
ولا يزال اسمه المرعب يحول بينها وبين الخطيئة ... وكلما ازداد شكه فيها وازداد شكا في نفسه، اندفع يثبت لنفسه وللناس أنه قادر جبار، واندفع يضرب ويبطش ويبسط نفوذه على الجيرة وجير الجيرة، ويجعل من اسمه - من الغريب - القمقم الرهيب الذي يحول بينها وبين الرجال، ويحول بين الرجال وبينها. من أين لي أن أعرف أن الغريب اختارني بالذات ليرسلني لوردة، لا لشيء إلا لأكون كالطعم الحي يمتحن به حالتها ويتحداها بي، وليريها أنه وهو بعيد قادر على أن يشل إرادتي أنا، ويضحك عليها بي؟ ومن أين لي أن أعرف أن وردة كانت تعلم أني آجلا أو عاجلا سأنهار وأحكي للغريب كل شيء، وأنها فعلت كل ما فعلته معي وهي متأكدة أن الغريب سيعرفه؟ فعلته تحديا وردا على تحديه؟ أنى لي أن أعرف أني كنت كالرسالة الحية المتنقلة التي أرسلها الغريب يسألها فيها عن أحوالها ومبلغ خضوعها له، وأنها أرسلت إليه الرد مكتوبا على نفس الرسالة - علي أنا - ردها المعتاد المملوء بتحديه وثورتها عليه؟ أنى لي أن أعرف أن الغريب اختارني بالذات ليثبت لوردة أن نفوذه علي أشد أثرا من كل أنوثتها وجمالها، وأنها أرادت بما فعلته أن تثبت العكس؟
أنى لي أن أعرف هذا كله؟ •••
أما ليلتها فكل ما فعله الغريب وأنا أحكي له ما حدث أنه استمع إلي وهو يضحك، ضحكات لا شخشخة في آخرها كضحكات صبي مراهق سعيد بنفسه ورجولته.
وسألني حين انتهيت بقليل من الجد: طيب يا فندي دي لو كانت مراتك وعملت كده، كنت تعمل فيها إيه؟
قلت بغضب حقيقي: كنت قتلتها من زمان.
فقال: كدهه؟ ... هو القتل بالساهل كده؟
قلت بدهشة: بالنسبة لك على الأقل لازم يكون حاجة سهلة.
فقال وهو يعود يخفض رأسه: قتل الناس حاجة، وقتل مراتك حاجة تانية ... مين عارف ... بيتهيأ لي أن كل واحد تلاقيه بيفكر ساعات يقتل مراته ... بس العيب إنه ما بيرسيش على رأي ... ساعة تقول خلاص معدش فيها أمل، يلا ادبحها ... وساعة تقول يا واد يمكن تصلح ... وتفضل متردد بين كده وكده لغاية آخر يوم من عمرك ... لو كان الواحد بيرسي على رأي، كان كل واحد زمانه قتل مراته من زمان.
ولم أفهم ما يريده بالضبط، كل ما فهمته أنه يريد مراوغتي وأنها ليست طريقته، وأني لأول مرة أراه يتساهل في أمر خاص به، فقلت: كان بيتهيأ لي إنك مش كده.
فقال بنصف ارتفاعة من رأسه، وبصوت حائر بين الجد والهزل: بكرة تكبر، وتعرف، وتقدر.
وعاد رأسه إلى الانخفاض، وأحسست به هذه المرة مدلدلا، ورقبته كالعلم الحائر المنكس، وكدت أشفق عليه وأضيق به وبالجلسة وأقوم واقفا لأروح، لولا أنه فجأة شب من جلسته كالملسوع، وكأنما استطالت أذناه وارتفعتا إلى فوق كأذني كلب أحس بالخطر، ثم وجدته يقول في صوت يلهث بغير جري: خد توبك في سنانك وطير ... واوع تبطل جري إلا أما تحصل الدار.
10
وبينما كنت أقضي ليلة محمومة أتقلب فيها على لذع اضطراب غير مرئي أتساءل عما دعاه لأن يأمرني بالجري. وأحيانا أعود إلى الحديث الذي دار بيننا، وأحاول أن أوفق بين صورة الغريب كما تصورته والغريب كما وجدته، الغريب القادر والغريب العاجز، الغريب الذي يخيف الدنيا والغريب الذي لا تخافه وردة أولى الناس منه بالخوف، بينما كنت في هذا كان الغريب يقضي ليلة من أتعس لياليه كما علمت في اليوم التالي ... فقد كان إحساسه مضبوطا، وكانت دورية مكبرة على رأسها المأمور بنفسه قد خرجت للبحث عنه وفي حقول الأذرة بالذات، ولو طال كلامنا قليلا، أو لو كان سمعه أقل حدة لأطبقوا علينا.
وفي الليلة التالية ذهبت إلى الغريب، ومعي البطيخة التي كان قد ذكر أن نفسه فيها، وشققتها لتبرد وجلست أنتظر، وطال انتظاري دون أن يظهر. وأخيرا قنعت من الغنيمة بالتهام ما استطعته من البطيخة ودفن الباقي في الأرض، ثم عدت وأنا حائر؛ أأفرح لانقطاع الخيط الذي كان يربطني به أم أحزن؟! كانت معرفتي به على الرغم من قصرها قد أشبعت قليلا من نهمي لمعرفته، ولكنها - وهذا هو المهم - لم تكن قد حققت الشيء الوحيد الذي أردتها أن تحققه؛ إذ لم يعلمني الغريب القتل كما حلمت، بل كدت أؤمن أنه هو نفسه لا يعرف كيف يقتل.
وانقضت أيام قليلة، ربما يومان ربما ثلاثة، قبل أن أصحو ذات ليلة على طلقة مكتومة صكت الحائط المجاور لفراشي. انتبهت من نومي تماما، وأصخت السمع هنيهة، وإذا بطلقة واضحة ثانية تأتي على هيئة حصاة صغيرة، تأكدت أنها قد قذفت عن عمد لتصيب نافذتي دون سواها وتناديني. وتساءلت: من تراه يكون؟ فالغريب لا يعرف بيتنا على وجه التحديد، وحتى إن عرفه فكيف يعرف حجرتي، والنافذة التي أنام بجوارها. اعتدلت برأس أفرغه الاضطراب الشديد من كل محتوياته، فغدا كالصندوق الفاضي الذي يرن لأقل حركة أو خاطر. وفتحت النافذة باحتراس، ومن شبه الظلام المخيم خارج البيت، سمعت كلمة آمرة هامسة واحدة: انزل.
ثم أعقبتها أخرى: وهات الطلياني.
كلمات لمع في الظلام فحيحها كنصل صولي حاد ثم اختفى. وكاد كل شيء في الخارج يعود إلى السكون المظلم الذي كانه، لولا أني لمحت أكثر البقعات سكونا وظلاما تتحرك وتتشكل على هيئة شبح، ثم تمشي آخذة طريقها إلى الغيطان.
والواقع ، طغت فرحتي على كل شيء؛ على اضطرابي وإشفاقي أن يكون ما حدث قد أيقظ أحدا من أهل بيتنا، خاصة أبي ذلك الذي يستيقظ لأقل همسة. وكانت الفرحة لا تزال تعصف بي وأنا أتحسس طريقي إلى العشة الكائنة أسفل برج الحمام، حيث أخفيت المدفع الإيطالي الصغير الذي أعطانيه الغريب. كنت خلال الأيام القليلة التي انقطعت فيها صلتي بالغريب، قد بدأت أعود إلى حياتي التافهة الخالية من الأسرار والليل والأحداث، وما أعظم ما بدا الفارق! ... وما أكثر ما جبت الأذرة؛ لعل الخيط يعود مرة أخرى ويصلني به! وها هو ذا قد عاد بنفسه، وبصورة ألهبت خيالي.
طغت فرحتي على كل شيء، وفي غمضة عين، كنت أقف أمامه حيث تعودنا أن نلتقي، ألهث وأحدثه عن البطيخة، وأناوله المدفع، وأضع الظروف أمامه في الخزانة الفارغة كما علمني ... وحين سيطرت على انفعالاتي وبدأت أنظر إليه، أدركت مشدوها أني أمام غريب آخر، أمام إنسان قد انعدمت كلماته ولم نفسه، وتجمعت شخصيته في بذرة إرادية واحدة، وكان في سحنته شيء لم أره من قبل ... حماس ربما جنون، روح جديدة تلبسته، شيء أسكت ثرثرتي مرة واحدة، فأرغمني على أن آخذ دور الجندي الذي ينتظر أوامر قائده، ويدرك أنها أوامر خطيرة بالتأكيد لها ما بعدها.
وبالفعل صح ما توقعته، فقد وجدته بلهجة حامية سريعة وخطيرة: تروح ولا تيجي معايا؟
قلت بسرعة: آجي معاك ... بس على فين؟ - ما تسألش ... يمكن نقتل ... يمكن ننقتل ... تيجي معايا؟
قال هذا، ودون أن ينتظر إجابتي فرق بيديه عيدان الأذرة، ونفذ بجسده القصير بينها.
وكنت بعد ثانية تردد أتبعه.
11
ولم أحاول مرة أن أجره للحديث أو أسأله، كان يبدو كالمقاد إلى هدف قوي بعيد يجذبه ويعيشه، ولا يدع له وقتا للكلام أو الوقوف، ويتخطى بي كباري، ويلف حول خلجان ويزحف على يديه في بطون أحواض، وكأنما هو لا يراني أو يسمعني أو يحس أصلا بوجودي. في الأحيان النادرة التي تكلم فيها كان يقول: إيه ... هيه ... بتقول إيه؟
فإذا حاولت استيضاحه، أجابني بغمغمة أدرك معها أنه مستغرق في تفكير من العبث أن أحاول استخراجه منه. كان الليل هائلا كبيرا كخيمة مأتم كللت بالسواد؛ حدادا على وفاة النهار، وليس فيها سوى أنوار قمر شاحب ونجوم أضيئت لتهدي المعزين. وكانت الغيطان واسعة ممتدة أوسع من غيطان النهار ... نترك حقول القمح المحصود لندخل حقول الأذرة، ونخرم وسط أقطان، ونرقب خيالاتنا المعتمة في الأرض الغارقة بالماء تنتظر زراعة الأرز. أرض كثيرة شاسعة وممتدة، كل شبر منها مزروع ومعتنى به، وعرق من أجله هؤلاء الغلابى الراقدون في بيوتهم، وكأنما ناموا من الحزن، يتقلبون في انتظار أن يأتي النهار، ويغترفهم بقبضته، ثم بكل عزمه يبذرهم ليفرش بهم وجه الأرض، فيقلبوا سوادها خضرة، وخرابها عمارا، وطميها خبزا ... إلى أن يجيء الليل وبمنجله يحصدهم، وبأسراره وخفاياه يخزنهم في صوامعهم الآدمية المصنوعة هي الأخرى من الطين. ما كان أبعدنا عن أولئك الذين يبذرهم النهار ويحصدهم الليل، وتنبتهم الأرض ليعودوا ينبتونها! ما كان أبعدنا عنهم وهم نائمون، بعيدين ينعمون بطاعتهم الشاملة للكون وأرضه ونهاره وليله! ما كان أبعدنا ونحن نخترق عالمهم وجهدهم في استخدامه وتجميله! الغريب أمامي قصير صغير اليد قوي الذراع ... الذي ناضل حتى أفلت من قبضة النهار ومنجل الليل، ويريد أن يخضع الكون لنواميسه، وليكون له على الناس سلطان الكون ونواميسه، فيخشونه كما يخشون الله والآخرة وبرد طوبة. وأنا وراءه أتأمل حجمه الصغير حتى المدفع المعلق في كتفه، وأتأمل حجم الليل الكبير، وأجده أحيانا أضأل كثيرا من أن يملك زمام الليل ويصبح سلطانه.
ولكنا لم نكن وحدنا ... كان يحدث أن أسمع الغريب يغمغم بخفوت، ثم يقول: دستوركم يا رجالة.
وأتفرس حينئذ فيما حولي، وبالكاد ألاحظ رجلين، أو بضعة رجال قد انتحوا من الليل ركنا تحت كوبري أو في مدار ساقية، لا تدري لأي شيء هم جالسون ينتظرون، ولا لأي هدف يتحدثون في صمت ويتشاورون، ولا ما الذي جعلهم يتركون، هم الآخرون، مضاجعهم ويسهرون في تلك البقع المخيفة ورغم هذا الليل الشامل البهيم؟ ولكني كنت أهز رأسي وأقشعر، وأقول هم أولاد الليل الحريصون على تقاليد الليل حرص الغريب، والذين حين يحييهم تحيته تلك يأمنون ويؤمنونه، وكأنما ألقى عليهم كلمة السر، ويردون عليه قائلين: دستورك معاك.
وفيهم أيضا كرم الفلاحين، فما أكثر ما كانوا يردفون: اتفضل.
وما أكثر ما كنت أفرح وأنتشي حين يلحظون وجودي، ويقولون: دستوركم معاكم، اتفضلوا يا رجالة.
شيئا فشيئا وبعد توغل طويل في الليل، وغوص أكثر في ظلامه ولقاء لأبنائه، بدأت أرى الغريب بعين جديدة، بدأت أراه بعين الليل الذي نحن فيه، فأحس أنه مع الليل أكثر انسجاما. وكأن كلا منهما جزء متمم للآخر ... حتى ليستحيل على المرء أن يتصور الليل بغير الغريب والغرباء زملائه، أو يتصور الغرباء بلا ليل يحجبهم ويسترهم ويحيون في كنفه ... هؤلاء الهاربون من أبوة النهار الواضحة إلى أبوة الليل الخفية، هؤلاء الذين يجذبهم الليل بكل وضوحه وقانونيته، من يراهم ويرى ألفتهم مع الليل وترويضهم لوحوشه يخيل إليه أنه من المستحيل أن ينتهي أمرهم، حتى ولو ملأ العمران كل الأرض. سيظل هناك أولاد ليل ما دام هناك ليل، وما دام لليل سحره وجاذبيته التي لا تقاوم، فما ذنبهم؟ الليل هو الذي يجذبهم ويخلقهم وينتزعهم من النهار، وسيظل الليل يخلقهم ما وجد هناك ليل وما ظل الماء يخلق السمك، والصحراء تخلق الرعاة، والغربة تخلق الحنين. منذ الأزل كان هناك الغرباء وإلى الأزل سيظلون. ومنذ الأزل وأشد العقاب ينزل بهم ويهلكهم، ورغم العقاب يعودون يوجدون. فكما فقد الليل غريبا جذب من أهل النهار آخر ... ربما لكي تظل الدائرة تدور، ولكي يظل هناك أهل ليل وأهل نهار، ولكي يظل أهل النهار هم الكثرة وأهل الليل قلة، أو حتى ربما لنظل من أهل الليل أو النهار عن طواعية واختيار.
حين أوقفني الغريب بذراعه وواجهته، وراح يتفرس في، تساءلت بيني وبين نفسي ما الذي يمنع رجلا كهذا أن يقتلني والبقعة نائية، ولن يشهد فعلته أحد سوى الليل الذي لا يرى ولا يسمع ولا يفتن؟ والحجة موجودة - حكاية وردة - بل حتى بلا حجة، ما الذي يمنعه من قتلي إلا أنه يعرفني؟ ألأن بيني وبينه صلة هي التي تجعلني أحس بالأمان؟ من يدري؟ ربما لو عرف الناس بعضهم بعضا معرفة وثيقة ما جرؤ أحد على قتل أحد ... ما خاف أحد من أحد. كنت أفكر في هذا حين سألني الغريب بصوت أجش، قد خشنه الصمت الطويل، وبله الندى: إنت خايف؟
قلت على الفور: لا.
قال: مستعد لأي حاجة؟
قلت على الفور أيضا: أي حاجة إيه.
ولم يجب ... تأملني مرة أخرى، وقال: شايف النار دي؟
ولم أكن قد رأيت نارا، ولكني حين تلفت وجدت قبضة بعيدة كالجمرة تحسبها عين ذئب وحيد العين. - عارف مين هناك؟ - مين؟ - شلبي. - شلبي مين؟ - صاحبي وحبيبي، أنا جاي أقابله أصلي ما شفتوش من زمان، ونفسي هفتني عليه.
وشرح لي الغريب المطلوب مني. قال إنه يريد أن يخيف شلبي والرجل الجالس معه أمام النار، يشويان الأذرة وتملأ رائحتها الجو ... كان علي أن آخذ المدفع معي، وأمشي باحتراس حتى أصل منهما، ثم أخرج عليهما فجأة، وأقول: بتعمل إيه يابن الكلب إنت وهوه؟
وعلي أن أطمئن؛ فسرعان ما سيظهر هو، ونضحك جميعا على ما حدث، ونجلس معهم نشوي الذرة ونأكلها.
وفي الحقيقة ظل قلبي يخفق، وكأنني ذاهب إلى حتفي، والمدفع يرتجف في يدي حتى اضطررت لإمساكه بيدي الاثنتين وأضغطه في كتفي. وببطء شديد رحت أتقدم، وخيل إلي أن وقتا طويلا قد مضى قبل أن تصبح المسافة بيني وبينهما كافية لأن أراهما وأرى وجهيهما. كانا اثنين؛ أحدهما شاب وسيم يرتدي طاقية صوف معوجة في عياقة على رأسه، والآخر كان واضحا أنه خفير نظامي؛ فقد كانت بندقيته راقدة بطولها على ساقيه المتربعتين، وهو مشغول بالهف على النار وتقليب الكيزان، بينما الأول جالس، وقد أحاط ساقيه بيديه، وعلى وجهه علامات تفكير.
ولولا خوفي من الغريب؛ لضربت فوقهما طلقة في الهواء، فقد كان المدفع معبأ في يدي يغري بالإطلاق ... وإطلاق الرصاص من بعيد أسهل بكثير من أن أواجههما.
ظللت أتردد وأرتجف، حتى رأيت شبح الغريب يطل من باب الحظيرة خلفهما ... وحينئذ فقط، وكأنما أصدر لي أمرا غير مسموع، وجدت نفسي أنطلق كالثور الهائج أصرخ وأدب بأقدامي، وأخترق المسافة الكائنة بيني وبينهما في قفزات واسعة ألقتني في لمحة البصر أمامهما، لا يفصلني عنهما إلا النار المحمرة الخافتة، والمدفع في يدي أصوبه بحماس بالغ مضحك ... ولكن الحيلة نجحت بأكثر مما توقعت؛ فقد ارتدا إلى الخلف في جزع حقيقي، بل اندفع الخفير يصرخ وكأنما فقد عقله ... غير أن هذا كله استغرق ... لم يستغرق في الحقيقة أي زمن، وكأنه لم يحدث بالمرة ... إذ في نفس الوقت تقريبا، كان شيء آخر يحدث ... أفظع وأبشع شيء شاهدته، أو سأشاهده في حياتي.
والكارثة التي لا خلاص منها أني شاهدته بعيني هاتين ... رأيته ولم يكن أمامي إلا أن أراه ... إلى هذه اللحظة بإمكاني أن أتذكر الغريب، وهو يتقدم ليصبح خلفهما مباشرة، وبإمكاني أيضا أن أتذكر يديه حين ارتفعتا عاليا فوق رأسه، ولكني لا أذكر أبدا أني رأيتهما تهويان. كل ما أذكره هو ذلك الصوت الذي لم أسمعه قبلا، والذي لا يشبه أي صوت من أصوات الوجود الأخرى، صوت كصوت كسر البيضة بالبيضة إذا كانت البيضة في حجم الرأس ... كصوت الحديد المحمي حين يطش إذا وضع في الماء ... ما أذكره هو ... طس ... وإذا بالشاب العايق يقوم نصف قومة، ولكنه لا يعود للجلوس، ترتفع ساق من ساقيه في الهواء، ثم تبدأ تهبط على دفعات متقاربة، وكأنها عقرب ساعة نطاط، وكذلك راح رأسه يهبط ... ولكنه لم يكن نفس رأسه، كان قد تحول إلى كتلة، وقسم إلى قسمين بينهما شيء لامع أسود تنخلع قلوب أكثر الرجال شجاعة إذا عرف أنها بلطة قد غورت في الرأس، ووصلت خلال إحدى العينين إلى الوجنة.
12
لم تستغرق العملية كلها سوى ثوان، ولكنها أخذت من عمري سنين أستعيدها، وأتأملها وفي كل مرة تخاطبني نفس الأحاسيس، وأرتجف تحت وقع القشعريرة نفسها، وأدوخ كما لو كنت أنا الذي شطرت البلطة رأسه.
ترى، أية قوة خفية تجعلنا نتألم إذا رأينا الغير يتألم؟ ونكاد نموت إذا رأيناه يموت؟ الشاب لم أكن أعرفه أو لي به صلة، ومع هذا؛ فقد ظل مصرعه يطاردني ويعذبني ... وكأني أنا القتيل، بل كان يصل عذابي إلى درجة أكبر ... وكأني أنا القاتل!
وإذا كنت قد روعت مرة لما حدث للشاب ليلتها، فروعي كان أكبر للدقائق القليلة التي أعقبت موته، وبالذات لرؤية وجه الغريب ... وجهه حين انتزع البلطة من مكانها الموغل في عمقه وبشاعته، ووقف يلهث ويستند إليها ... ويقلب نظره بيني وبين الخفير الذي كان قد تمدد على الأرض، لا نعرف إن كان إغماء أو رعبا أماته وأوقف قلبه ... يا له من وجه! ... ويا لبصابيص النار حين أضاءته، وجسدت خلجاته، وجعلت قشعريرتي تتحول إلى رجفة مسموعة لا يمكن إيقافها.
عيناه ... عيناه الضيقتان ما رأيتهما أبدا بهذا الاتساع، بل ما اعتقدت أبدا أن أي عين بشرية يمكن أن تتسع وتستدير، وتصل إلى ما وصلت إليه عين الغريب ... لو كان الغريب هو المقتول؛ لما أوصل الرعب عينيه إلى هذه الدرجة من الاتساع، ولما حدث لوجهه كل ما كان يعانيه من شحوب ... وكأنما الضربة التي فلق بها رأس الرجل قد فتحت بابا سريا له منه مارد أو جني ووقف قبالته يمسك هو الآخر بلطة، ويهم بتصويبها إلى أم رأسه ... لا بد أنه كان يرى فعلا شيئا كهذا؛ وإلا لماذا كان يسيطر عليه كل ما كان مرتسما في عينيه ونظراته الزائغة من رعب؟ ولا بد أنه كان في تلك اللحظة بالذات فاقد الإحساس بنفسه وبما يفعله، فقد كان يدير رأسه وينقل البلطة من مكان لمكان، ويلف ويدور ويفعل هذا بحركة شيطانية سريعة ما عهدتها فيه وليست من خصائصه. وكأنه قد أصبح غريبا آخر غير الغريب الذي صاحبني في رحلة الليل، أقسم أنه كان غريبا آخر ... غريبا لم أستبعد أن يرشق بلطته في رأسي بلا سبب، أو يرفعها ثم يهوي بها على الخفير الممدد، فيقسمه نصفين ... كان واضحا أن باستطاعته أن يفعل أي شيء، وهو في حالته تلك التي لا يدري فيها بما يفعله، بل كان واضحا أنه وصل إلى درجة لا يمكن إيقافه عندها، وإنما عليه أن يستمر يبطش ويقتل ويكسر الرءوس، وكأنما ليدافع عن نفسه ضد هذا الشيء الخارق المهول الذي كان منتصبا أمامه يخيفه ويرعبه، ويفقده من الرعب والخوف عقله.
وباستطاعتي أن أقول إنني والخفير قد نفذنا من تحت بلطته ليلتها بمعجزة. لقد كاد يدفعني وعيي لأن أضغط على زناد المدفع كما علمني، ولا أتركه حتى يفرغ في جسده كل رصاصه ... كنا أربعة كائنات حية، تسيطر عليها أقصى درجات الرعب ... رعب القاتل لا يقل عن رعب القتيل ... ورعب الخفير الفاقد الوعي من الرعب لا يقل عن رعب الغريب ... ورعب القاتل المحترف لا يقل عن رعب الصبي الخام المغامر، وكلنا في حالة دفاع عن النفس ... أنا مستميت على المدفع، والغريب مستميت على البلطة ... مستميت في البحث كالمجنون عن الشبح الذي يرعبه ... والخفير متشبث بإغمائه يحتمي به ولا يريد أن يفيق، ولو خير القتيل نفسه، لاستمات على ميتته مفضلا ألف مرة أن يموت مرة، ولا يعود للحياة؛ ليواجه ميتة البلطة مرة أخرى ... وحتى النار الموقدة كانت تقاوم الفناء بإحراق كيزان الأذرة وشيها ... والكيزان تقاوم النار ويدفعها الرعب عن المصير المحتوم لأن تئز وتشكشك، وتفرقع حباتها أحيانا، وكأنها تستصرخ النار بآخر رمق وتطلب النجدة ... رعب كامل من الموت، وتشبث كامل بالدفاع عن النفس في وسط ليل قد اشتدت ظلمته في محاولة أخيرة للوقوف أمام النهار الطالع. والشاهد الوحيد المحايد قمر أفطس الأنف مخنوق كالمشفق علينا مما نخوضه ... كالحزين على المصير.
حتى بدأنا نشم رائحة لحم آدمي مشوي، تختلط برائحة الذرة المشوية وتملأ المكان. •••
وفجأة، بدأنا نتحرك.
وبدأت الحركة بضربة من قدم الغريب أعادت الخفير إلى صوابه وأوقفته ... وتعاون الرجلان على حمل القتيل، وإطفاء النار التي كانت قد بدأت تسري في لحم ذراعيه وملابسه ... وحملت أنا المدفع والبلطة وسارا أمامي بحملهما ... ولم نذهب بعيدا، فبعد بضعة أمتار وصلنا إلى ساقية مهجورة ... واحدة من تلك السواقي التي كانت تستعمل لاستخراج الماء من جوف الأرض حين يشح ماء النيل، والتي بطل استعمالها من زمن ونبتت حولها الحشائش، وأصبح ماؤها آسنا له لون الزيت المعدني ورائحته ، لتبدأ تدخل في حوزة الليل وأبنائه، تؤخذ عندها المواعيد وتخفى في مياهها المسروقات. وحتى ذلك الوقت لم أكن أعرف أنها تستخدم أيضا كمقبرة لمن لا يستحب أن تحويهم المقابر ... مقبرة تلقى فيها الجثة بعد ربطها بحجر ... وتتكفل مياهها بالتهام لحمها وعظامها وما ترتديه في أيام!
وعدنا في موكب صامت، أنا في المقدمة والخفير وسطنا والغريب في المؤخرة ... وقد انتقلت إليه البلطة والمدفع. وسرعان ما اختفى الخفير بعد أن تبادل معه الغريب همسات، وأكملنا السير وحدنا.
وظللنا فترة لا نتحدث. وكان الغريب أول من نطق، وبدأ كلامه بنبرة عادية، وبلهجة حاول فيها أن يعتذر عن اضطراره لإشراكي في تلك اللعبة الخطرة؛ فقد كان لا بد له من قتل شلبي ... ولم يكن أمامه من يستعين به سواي.
وبكلمات أخرى قليلة، حكى لي قصته مع شلبي الذي لم يكن مجرد مساعد له أو عضو في عصابته، ولكنه كان صديقه وأخلص خلصائه، صداقة بدأت بخناقة في سوق الأربعاء ... واستمرت عشر سنوات، ووصلت إلى حد أن سلم له الغريب نفسه واسمه وماله، وهو مؤمن أنه يسلمها لصديق ... صديق لم يشك في إخلاصه، حتى ذلك اليوم الذي واعده فيه على اللقاء عند نفس الساقية التي تركناه فيها من هنيهة. والتي وجد نفسه بعدها محاصرا بخمسين بندقية ميري، وبمسدس الضابط فوق رأسه. لم يداخله الشك ساعتها، بل حتى لم يشك حين أخذوه هو في «البوكس»، وتركوا شلبي ... أنى له أن يعرف أن الحسد كان يأكل قلبه طوال هذه السنين، وأنه ظل يدبر الخلاص منه ليستولي على العصابة، وعلى ما هو أهم من العصابة ... على وردة ... وأنه هو الذي اتصل بالمأمور ودبر معه الخطة؟
لم يكن الغريب يحكيها كحكاية ... كان كأنما ينزف أو يتألم ... وفي أحيان كان يسكت، ثم يقول فجأة وهو يطحن أسنانه بأسنانه: دا الطاقية اللي كان لابسها ليلة الساقية طاقيتي، اشتريتها باتنين جنيه من واحد عرباوي، وعجبته فحلفت أن يأخذها.
ويضحك فجأة ويقول: إنت عايز الحق ... الحق مش هو اللي غلطان. آني الغلطان ... بقى عايز في صنعة اللي بيشتغلوا لصوص وقتالين قتلة تتوجد خلصانية ولا صداقة؟ مفيش كلام من ده ... في الليل كل واحد ونفسه ... واللي يسلم دقنه لغيره، ما يلومشي على اللي يصح له.
ثم يلتفت إلي مرة ويحكي لي كيف دبر مقتل شلبي بنفس الطريقة التي دبر بها شلبي تسليمه ... وفي نفس المكان تقريبا ... وبنفس السلاح ... الصداقة والإخلاص ... فالخفير خفير العزبة التي فيها وردة، وقد اندفع شلبي لصداقته والإغداق عليه، ليتركه يحوم حول وردة، ويدبر معه أمر خطفها، تلك الليلة بالذات كانت موعد الاختطاف، وكان شلبي والخفير جالسين ينتظران مقدم رجلين آخرين من العصابة، ومعهما المطايا لتنفيذ الخطة. والشيء الذي لم يعرفه شلبي أبدا أن الخفير باع سره للغريب ... والشيء الذي لم يعرفه الخفير أبدا أن الأمر سيحسم بالبلطة.
وبينما الغريب يتكلم وأنا مندمج أسمع كلامه، كان خاطر يلح علي إلحاح الناموسة: ترى ماذا يقول أبي الذي لا يفوته الفرض، لو تكشف له الغيب للحظة، وعرف ما أفعله ساعتها وما شاهدته، والرجل الذي أسير خلفه، وبحديثه أغوص في ذلك العالم الشاذ الغريب، وألم بتفاصيل أتفهها يخلع القلب ويوقف الشعر؟
وربما إلحاح الخاطر هو الذي شغلني عن أن أدرك أننا كنا طوال الوقت قريبين من عزبة وردة، وأننا قد أصبحنا على أبوابها.
وربما هو أيضا الذي صرف أنظاري عن الغريب، بحيث لم أفطن إليه؛ إلا وقد جلس وجذبني من جلبابي وقال: بص كده مش ده دم؟
وحين أمعنت النظر كانت يده بالفعل تقطر دما. وكلما تحسس فخذه وأخرجها تكاثر الدم، وحين عراها ظهر الجرح ... جرح بشع متهتك، وكأن شيطانا مسعورا قد نهش فخذه.
إحدى ضربات البلطة لا بد قد أفلتت وأصابته، وهو يخلص على شلبي.
13
وعولج الجرح طبعا ... قام بعلاجه الدكتور معروف الذي أخذ الطب بالممارسة ... والذي كان يعمل حلاق صحة اسما ... بينما شهرته كطبيب ملء الأسماع، حتى كانوا يقولون إن يده النحيفة المعروقة التي تشبه في ليونتها ورقتها أيدي النساء أنجع من أيدي عشرات الأطباء الحقيقيين.
وقصة علاجه نفسها ودوري فيه قصة طويلة تصلح وحدها رواية، يكفي أن أقول إنها تمت تحت الكوبري المتحرك، حيث كان الغريب قد قرر أن يقيم إلى أن تشفى ساقه ... ولم أكن أتصور أن تحت الكوبري سيكون بهذا الأمان والاتساع ... وأن بإمكان الإنسان أن يعيش شهورا تحته دون أن يدرك المار فوق الكوبري من أمره شيئا ... لم أكن أعتقد أن الأمر سينقلب إلى متعة وتجربة جديدة مثيرة يحياها الإنسان وهو منحن، كأنه يحمل الكوبري فوق كتفيه، ويحس بمشاعر غريبة والماء يجري بجواره، وتحت هذا الارتفاع المنخفض، والأصوات ترن في مزيج من صدى الأرض والحديد ورخامة الماء ... أيام كثيرة قضيتها أحيا مع الغريب تحت الكوبري، وقد انقطعت صلتي بالعالم وبدنياي وعائلتي، وكأن لم تكن لي في يوم من الأيام حياة أخرى غير تلك ... انقطعت هكذا من تلقاء نفسها ... ودون أي قرار مني أو نية ... وقد أصبح شفاء الغريب هو كل ما أحفل له وأحيا من أجله ... وما أعمق الصلة التي نشأت بيني وبينه في تلك الفترة، وأنا أراه عن قرب ضعيفا قويا، عملاقا ومتألما، نادر الكلام وصاحب حكمة ... ما أكثر ما في صدره من أسرار، وما أقل ما يفضفض بها!
ولكني لا أزال أذكر من حادثة علاجه لحظة لا يمكن أن أنساها، تلك التي كان يتهيأ فيها الدكتور معروف لإعطائه حقنة المخدر الموضعي، حين بدأ وجه الغريب يشحب أمام عيني وعرقه ينبت، وعيناه تتسعان ونظراته تروغ.
تساءلت لحظتها لم كل هذا؟ حسبته أول الأمر من مضاعفات الجرح ... ولكن معروف حين سأله: إنت خايف ولا إيه؟
ونفى الغريب بسرعة، وبشدة أدركت ما لم أكن على استعداد لتصديقه أبدا، أن الغريب الهائل المهول بكل هيلمانه وجبروته خائف كأي طفل من الحقنة، أكثر من هذا حين هم معروف بغرز الإبرة في جلده وجدته يستمهله، ثم يشخط فيه ويأمره أن ينتظر حتى يلتقط أنفاسه، ثم يستسلم أخيرا ليعود يتراجع وينسحب إلى الخلف حتى يوقف حائط الكوبري انسحابه، ويستعمل معروف الإرغام حينئذ فيمسك بجلده، بقوة ويغرز فيه الإبرة ... ويا لها من لحظة روعت فيها بالغريب، وقد انقلب شخصا آخر! مجنونا ربما، أو قطة تعاني من أقصى درجات الرعب على استعداد لأن تنقض وتغرز أنيابها وتنهش ... لحظة أعادت إلى ذاكرتي ما حدث للغريب عقب مصرع شلبي، فعيناه فعلا كانتا قد اتسعتا بطريقة غير بشرية، ونظراته قد أصبحت حمما، والاصفرار لونه ولم يترك حتى أظافره، وكأنه يرى ماردا هائلا يهم بالانقضاض عليه والفتك به ... لحظة بلغ من بشاعتها أن الغريب حين انتفض مستديرا لمعروف عقب انتهاء الحقنة ... استدار بطريقة شيطانية مرعوبة حتى خلت أنه يستدير ليطبق على رقبة الرجل، ولا يتركه إلا جثة هامدة ... لحظة طالت وامتدت وارتسم خيالها على الماء المتموج الجاري قريبا منا، كلوحة خالدة مهتزة للإنسان حين تقلبه أقصى درجات الرعب إلى وحش غاضب مخيف. •••
وفي ساعة راحة من الألم ناقشته في أمر وردة ... كان احتكاكي بها قد ازداد في الفترة الأخيرة، وازداد معه اشمئزازي منها حتى بدأ يتحول إلى اشمئزاز منه ... كنت أشكو له منها، فيهز رأسه هزة من لا يبالي ولا يهمه الأمر ... ولم أكن أستطيع أن أهضم أن يصر رجل مجرب خبير مثله على الاستحواذ على امرأة مثلها لا تليق به ولا تقيم لسطوته حسابا ... كان راقدا ينش الذباب عن وجهه بمنشة من الخوص صنعتها له فأغلق عينيه، وأحسست أنه خجلان مني ومكسوف، ولا يجد ما يقوله ليبرر موقفه ... وماذا يقول؟ ... ومن الواضح أنها لا تقيم لعلاقتها به وزنا، ولا تحفل بطلباته ورسائله ... والمرة الوحيدة التي زارته فيها تحت الكوبري كانت بإلحاح شديد مني، ولأجل خاطري أنا ... وبثمن آه لو عرفه الغريب! ... أغلق عينيه طويلا ثم فتحهما في النهاية، ليقول لي إنه خلاص قد انتهى من أمرها إلى قرار، وأنه سيطلقها ويدعها تذهب لحال سبيلها ... ولكني من الطريقة التي قال بها «قراره» عرفت أنه قد يكون مخلص النية فعلا. ولكن قراره هذا سيظل كلاما في كلام ومع إيقاف التنفيذ.
لماذا يصر إنسان كالغريب صاحب السطوة والنفوذ على الاحتفاظ بإنسانة كوردة؟ أهو الحب كما يقولون؟ أم لكي تظل كالشاهد الحي على عجز نفوذه، وعلى أنه هو الآخر له حدوده مثل أي إنسان؟
القرار في الواقع جاء من ناحيتها هي حين ذهبت إليها في اليوم التالي فلم أجدها، وقال أهل العزبة إنها أخذت ملابسها، وكل ما يخصها وذهبت. إلى أين؟ لا أحد يعرف.
وبحماس الصبية نقلت له النبأ غير عابئ بما قد يحدثه فيه، ولم أعتقد للحظة أن سيكون للنبأ مثل هذا الوقع، وأني بعد ساعات سأجد في عيون الغريب آخر ما يتصوره العقل ... دموعا حقيقية.
المهم ... كان الجرح قد قارب على الشفاء، ورائحته بدأت تحتمل، والغريب تمالك نفسه بعض الشيء، وأصبح في استطاعته أن يتسلى في النهار بالسنارة واصطياد السمك، حين ظللت أدبر في نفسي أمرا طول اليوم، وأنتظر حلول الليل لأواجهه به. كنت قد ألقيت نظرة تأمل على حياتي، فوجدت أني فعلت كمن رقص على السلم، فلا هو صعد أو هبط، ولا هو أصبح ابن ليل أو عاد إلى دنيا النهار. بكل تهور تركت حياتي وأهلي وانضممت للغريب أجري وراء أحلامي، فماذا فعلت بنفسي أكثر من أني بددت حياتي الواقعة، وبددت كذلك أحلامي، ولم يعد لي سوى دور الخادم أو الصبي؟ كنت قد وصلت إلى قرار، ورحت أنتظر على مضض اللحظة التي أعلنه فيها.
وأخيرا جدا وبعد لأي جاء الليل، ولم يكد العشاء يولي والليل تتدعم أركانه، حتى طلبت من الغريب أن يسمعني. وأدرك بذكائه الفطري أني أعاني من أمر لا يحتمل، فاستمع لي وطال إصغاؤه، وتركني أفضفض، وسألني في النهاية عما أريد. وببساطة قلت له ما أريد ... قلت له إني أريد منه أن يكون أمينا معي، وأن ينفذ وعده ويحقق لي الأمنية التي دفعتني لترك حياتي ووضع نفسي تحت أمره. استمع لي أيضا، ثم سألني - وكأنه لا يعرف - ما أريده بالضبط.
فقلت: ما انت عارف ... عايز اقتل. - ما تقتل. - ما أعرفش إلا أما تعلمني. - القتل مش عايز علام. اللي عايز يقتل بيقتل.
هنا بدأت ألمح أنه سيعود إلى مراوغتي فاعتدلت أكثر، وبلهجة جادة أعني كل حرف فيها رحت أعيد قولي، وأطلب منه أن يساعدني على تحقيق أملي؛ لأحسم موقفي وأنضم نهائيا له، وأصبح ابن ليل بحق وحقيق. وإلا فمعنى هذا أنه يستصغر شأني، ويضحك علي، ويستبقيني لأقوم على خدمته.
وعض شفته السفلى تألما، وأغلق عينيه ثم عاد يفتحهما، ويقول: طيب ... عايز تبقى واد ابن ليل يعني، وتعمل حاجة ما يقدرش عليها أولاد الليل؟ ... اقتلني ... أنا بقولك جد ... أحسن ما المأمور يقتلني ... وآني خلاص زي ما قال سعد باشا آني انتهيت ... اقتلني ويبقي اسمك اللي قتلت الغريب.
ولولا أني أحسست أنه لا يهزل، وإنما يتكلم جادا؛ لثرت وتركته في الحال، ولم لا أقول إني فكرت في اقتراحه للحظة؟
ولكني هززت رأسي هزة يائس ... وسكت مغيظا لا أعرف ماذا أقول.
أما هو؛ فقد ابتسم وطبطب على كتفي بغير خشونة، وكأنه يطبطب علي بيد وردة وقال: طيب ... ما تزعلش ... حنخليك تقتل زي ما انت عايز، وتاخد الشهادة يا سيدي ... المدفع أهه ... وأول واحد بييجي عالكوبري سوا من الناحيادي أو الناحيادي ... اقتله.
وانتفضت واقفا من الفرحة انتفاضة خبطت رأسي في «كمرة» الكوبري الحديدية، وكادت تفقدني الوعي، وهتفت والألم يعصف بي: بتتكلم جد؟
قال: ما دام بتتكلم على الجد، فالحكاية معدش فيها هزار ... آني مبسوط منك لأنك أفندي كده ومتعلم وبتفهم كأنك ابني ... يمكن كان نفسي إني أبقى زيك، ولا يبقى ابني زيك، إنما ما دام انت عايز تبقى زيي أنا، ومش عاجبك تبقى تلميذ، فخلاص معدش هزار ... يا حتقتل أول واحد يفوت ... يا حاقتلك أنا ... وده مش كلام أفندية.
14
وهكذا تركنا مجلسنا تحت الكوبري، وزحفنا حتى بلغنا الحائط الذي يمتد من درابزينه، والمدفع الإيطالي في يدي، وكلانا قابع في وضع استعداد، وعيوننا تخترق الظلمة؛ إذ كان القمر لم يطلع بعد لنلمح أول القادمين. وبهمس وبلهجة جديدة على أذني تماما، قال الغريب: لما تشوفه انس نفسك خالص، وبص له هوه ... وما تنشنش إلا أما يقرب ... عند الشجرة اللي هناك دي ... وساعة التنشين اكتم نفسك خالص، وخلي النيشان على وسط صدره ... ولما تضبط النيشان اضرب على طول ... اوع تتردد لحسن يقتلك هو ... لازم تعمل حساب إنه مسلح، وأنك إن ما أصبتوش حيصيبك هو ... يا قاتل يا مقتول ... وإذا خفت فكر إن بينك وبينه حاجة ... فكر إن ده اللي قتل أبوك حتى إن ما كانش أبوك مات ... فكر تمام كده، وآمن بحق وحقيق إنه هو اللي قتله ... وإذا ما وقعش بعد الأولانية ... التانية على طول ... والتالتة ... وحتى لو وقع غير النيشان، واضرب في المليان.
ولأول مرة في حياتي أجد نفسي أستمع لدرس يلقى علي وأنا متفتح كليا لتلقيه، وآذاني تسمع وأصابعي تفهم، وأنفاسي تعي ما يجب عليها أن تفعله، وروعة ما سيحدث قد طغت علي واكتسحتني ... وروعة ما يحدث تغرقني بنشوتها، فها أنا ذا أخيرا جدا أتلقى أسرار أولاد الليل، وأتلقاها عن جدارة. فلولا ثقة الغريب في وفي قدراتي لما رضي أن أصبح تلميذه. الغريب الرابض بجواري، وقد بدأت تطرق صوته وحركاته ملامح الغريب الآخر، ملامح الغريب حين يقتل أو يهجم أو يقدم على أمر خطير. أما الشيء الذي لمحته، وجعل العرق البارد ينبع من جسدي كله ورقبتي، ويملأ بسريانه الملموس قناة ظهري، الشيء الذي رأيته وقلب نشوتي إلى رعب بارد لا رحمة فيه ولا هوادة، فهو البلطة التي لمحت الغريب يطبق عليها بيمينه ويخفيها عني بثيابه، البلطة التي أطاحت برأس شلبي، والتي تستعد قطعا للإحاطة برأسي إذا فشلت فيما أنا مقدم عليه.
فجأة أحسست وكأني كنت أحيا طول الوقت بأحلامي في واد، وجسدي في واد آخر، وأنه قد آن الأوان ... أتت اللحظة لكي أنقل جسدي وكياني لأرض أحلامي، وأن نحلم شيء وأن ننقل أجسادنا إلى أحلامنا شيء آخر، فما بالك إذا أصبحت حياتنا نفسها تتوقف على هذه الخطوة؟
وقال الغريب: خد.
كانت سيجارة ملفوفة، وكنت أرفض أن أدخن أمامه، ولكني أخذتها بيد ثابتة وأشعلتها، ومضينا ندخن تدخين ند لند ... وأجبر نفسي على اعتقاد أنه تدخين ند لند.
وقال الغريب: بعد الحكاية ما تتم ... نمشي من هنا.
ثم صمت برهة، وواجهني بعينين فيهما لمعة، وقال: يمكن حظنا يبقى كويس، ويطلع متريش ... على العموم بعد ما تخلص عليه تروح ومعاك المدفع تفتشه، وتجيب أي حاجة تلقاها وتمشي ... واوع تتلخبط ويقع منك انت حاجة وانت بتفتشه.
وهززت رأسي أطلب منه أن يطمئن.
ومر الوقت بطيئا، ونحن نمد أبصارنا بأكثر مما نستطيع علنا نلمح ذلك القادم المجهول.
وطال انتظارنا، وأعصابي تزداد توترا مع كل دقيقة منه، حتى لم أعد في النهاية أستطيع. وهممت أن أقف أو أنفجر أو أصرخ لأخفف ما بي من بخار مضغوط، ولكني قبل أن أفعل وجدت يده الصغيرة تمتد إلى ذراعي وتضغط عليها، ووجدته يقول: الصبر ... طول بالك أمال ... قلت لك انس روحك خالص ... إنت لما بيعلموك ركوب العجل بيقولوا لك إيه؟ مش بيقولوا بص لقدامك، بص لبعيد؟ ... وانت إياك تبص لروحك ... تضيع ... خلي همك في اللي جاي.
وكأن كلماته تحفل بالسحر؛ فقد وجدت الضغط يخف، ووجدتني أهدأ وأعود أنظر أمامي.
وطلع القمر ومضى نوره الأول الذي يشبه نور الشروق، وبدأت شعاعاته تبيض، وقرصه الناقص يصعد قدما في السماء حتى كاد يتوسطها، وكأنه «كلوب» علق من سقف الدنيا، وكأنه شمس الليل أشرقت، فقد وجدنا ليل الليل يغيب ونهار الليل يحل، والظلمة الكاملة تستحيل إلى نور غير كامل، والطريق الزراعي المؤدي إلى الكوبري، والطريق الممتد منه والزرع القريب والأشجار البعيدة ... وجدتها كلها تظهر نصف ظهور، وتتضح نصف اتضاح.
وطال تأملنا لكل ما حولنا ولكل ما حل بالكون من تغيير، وكذلك طال ترقبنا لنلمح وسط هذا السكون الشامل حركة ... مجرد حركة.
وأول ما حدث أن دق قلبي دفعة دقات متتابعة سريعة، أعقبها خفوت وصمت وكأن لم يعد يصدر عنه صوت، وأعقب هذا مباشرة صوت بعيد ساحق في بعده. ولكنه كان يغني.
وعاد قلبي يطلق دقاته من جديد.
وخيل إلي أني انتظرت عاما كاملا، حتى ظهر في أفق النهار القمري صاحب الصوت. بدا أول الأمر كنقطة بيضاء ساكنة، ثم بياض متحرك، ثم كائن نصفه الأعلى أبيض، والأسفل أسود، ثم ظهر أنه رجل يمتطي دابة ويغني.
انتظرت أن يتكلم الغريب، ولكن لم يصدر عنه شيء، حتى خلت أنه ما رأى أو سمع.
وأيضا ما تكلم الغريب أو نطق ... عيناه وكأنهما ضمتا إلى الرجل المتحرك بخيط، ويده لا تزال مستميتة على البلطة. ولا ينطق حتى حين التفت إليه طالبا النجدة ... طالبا كلمة.
وعدت أنظر إلى الرجل من خلال العرق المملح الذي يسيل من جبهتي إلى عيني ويلسعها. ومسحت العرق، وسددت فوهة المدفع ليصبح الرجل، و«ذبابة» الفوهة، وشق جهاز التنشين على خط مستقيم واحد، وفي نيتي ألا أبدأ في إحكام التنشين والتسديد على منتصف الصدر تماما؛ إلا حين يصير الرجل القادم بحذاء الشجرة.
ومن أجل هذا، مضيت أتابع حركة الدابة بحركة يسيرة من الفوهة ... ورغما عني رحت أتابع الموال الذي يغنيه الرجل ... لم يكن صوته جميلا أو يصلح للغناء ... ولكنه كان عاليا وقويا، وكان يقول «يا ليل»، وكأنما يستحلف الليل ويرجوه أن يمنع عنه شروره. ويا «عين» فأتصور أنه يبكي ويرثي نفسه، وكأن مسعاه لدى الليل فشل. وكان الموال يتحدث عن بستان حبيبه، وما فيه من مشمش ورمان ونرجس، وكيف أنه سيدخله ويقطف من كل أثماره ... وبدأت أرى أن بينه وبين الدابة شيئا ... كان «زكيبة» لا بد أنها ملأى بالطحين، ولا بد أنه تأخر في «المكنة»، وكان الغريب لا يزال صامتا صمتا لم أر مثله، ولا يمكن أن يستطيعه بشر، صمتا بلغ من عمقه وصدقه أنه جعلني أحس وكأنه غير موجود معي بالمرة، وكأنني أواجه الموقف وحدي. الرجل المجهول أمامي، والمدفع في يدي، ولا شيء سوى الليل معنا. ورغما عني أحسست وكأن شيئا ثقيلا قد انزاح عن صدري. فقد أحسست أن باستطاعتي أن أتصرف بمطلق إرادتي وأني حر، لا يحد من حريتي وجود الغريب أو بلطته. لأول مرة بدأت أشعر أني غير خائف أو مرغم ... وكلما اختلست النظر إلى الغريب، ووجدته ساكنا سكون الموتى أزداد إيمانا بأني لا شريك لي فيما أفعله، وأني سيد الموقف والمدفع معي، والمفاجأة معي، والليل هو الآخر معي ... لأول مرة أنفض عن نفسي رداء التلمذة وعقليتها، وأحس أني ابن ليل حقيقي وأني قادر.
وبكل تلك الثقة التي غزتني عدت أنظر إلى هدفي. كان الرجل قد اقترب حتى لم يعد بينه وبين الشجرة المعهودة سوى أمتار، وكان صوته واضحا وألفاظ مواله ومعانيه منتظمة ... وربما الغناء الذي بدأه وهو خائف قد عمل عمله ... وجعله يحس بالونس والطمأنينة ... فغناؤه كان قد بدأ يحفل بالنشوة، وكأنه يغني للغناء ذاته، ويقول «يا ليل» مسبحا بأبنوسية الليل وجلاله، و«يا عين» متحسرا على العين التي نامت، وحرمت نفسها من جماله.
وكان علي أن أقتل هذا الرجل المنتشي بمواله وغنائه بعد أقل من دقيقة زمن. ففوهة المدفع تتحرك معه، وعند الشجرة تماما سأحكم التصويب وأطلق الرصاصة.
وأقول كان علي أن «أقتله» فقط لمجرد القول. فالقتل ساعتها لم يعد له في نظري أي هالة أو بشاعة. كان قد أصبح شيئا عمليا بحتا. شيئا لن يكلفني أكثر من مجرد كتم أنفاسي والتنشين، وحركة صغيرة من سبابتي اليمني أجذب بها الزناد.
واقترب الرجل كثيرا، حتى لم يعد بينه وبين الشجرة سوى قصبة.
وكتمت أنفاسي، وبكل ما أملك من قوة، حاولت أن أحمل يدي برصاص الدنيا كله، حتى تكف عن ارتجافتها الرقيقة، ويظل الخط الواصل من منتصف الصدر إلى جهاز التنشين قائما ومستقيما ... وفي ثانية تصورت أن أبي قتل في نفس الليلة، وأن هذا الرجل قتله وقادم لتوه من هناك ولا بد من قتله ... حركة واحدة من الزناد وينتهي كل شيء، فأدخل عالم الليل من أرحب أبوابه ... حركة واحدة، ضغطة صغيرة.
ولا أعرف ما حدث بعد هذا على وجه الدقة.
كل ما أذكره هو ضوء القمر، وجلباب الرجل الأبيض الزاهي البياض، ومواله الذي بدا جميلا يكاد من جماله يوقف الطير على أشجارها تستمع، والشعور بالأمان والونس الذي كان مسيطرا عليه، والذي ظل مسيطرا عليه، حتى وهو يحاذي الشجرة ويبدأ في تجاوزها ... ربما لو كان قد خاف، ربما لو كف عن غنائه أو شعر بالخطر، ربما لو كنت قد آمنت إيمانا كاملا أنه قتل أبي، ربما لو كان حدث شيء خارج عن إرادتي وإرادته، شيء خدش سياج التحريم الذي يحيطه ويتحرك معه، ويتكفل بشل أي إنسان حوله عن أن يلحق به أذى. ربما لو كان قد حدث شيء من هذا لتغير كل شيء ... ولتغير مجرى حياته نفسه؛ إذ لا أستطيع إلى الآن أن أعرف لماذا لم يتحرك إصبعي تلك الحركة الصغيرة الهينة ويضغط على الزناد. وما سر هذا النداء الذي تصاعد من أعماقي، من أعمق أعماقي، من أقدامي وجوفي وأصابع يدي، وقمم شعري ... نداء لم أسمعه قبلا، ولم أكن أتصور وجوده، ولم أعمل له حسابا، ولا اعتقدت أنني - في آخر لحظة - سيتصدى لي هاتف من داخل نفسي يقول لي: حرام ... كلمة نتداولها ونقولها للغير ببساطة، ويقبلها الغير، أو يرفضها ببساطة أيضا. أما أن أقولها أنا لنفسي، وفي لحظة كتلك، فهو ما حيرني وما جعلني إلى الآن أحتار، وما أنبت العرق الغزير من كل مكان في جسدي، وما جعله بحورا في باطن يدي وباطن سبابتي بالذات ... تلك التي كان عليها أن تقوم بالعمل الحاسم في المهمة، عرق غزير لزج، كاد ينزلق معه المدفع من قبضتي، ويجعل سبابتي تنزلق على الزناد كلما أرادت أن تضغط. وهو أيضا لا بد سبب انزلاق إرادتي، كلما استجمعتها وقلت: الآن لأرد بها على النداء المتصاعد من داخلي يقول: حرام حرام! نداء ألعنه وأتساءل عن مصدره، وأستنكر أن تذيب كلمة كهذه كل طاقتي على الإرادة، ويصل ما تحدثه من شلل إلى آخر عقلة في إصبعي.
نداء أدركت قرب النهاية مصدره ... كان الرجل مصدره ... كلما رأيته مطمئنا يغني ويرفع عقيرته، وكأنما الوجود كله ملكه، أحسست أنه لا يضمر شرا، ولا يتوقع شرا. وكلما سمعت كلماته، وتعرفت عليها ووجدت لها معاني، وكلما رأيت جلبابه الأبيض وعمامته، والدقيق الذي طحنه، أحسست أن المسافة بيننا تتلاشى، وأنه يغني لي مثلا، أو يحييني، وأنه إنسان، وأنه حرام ... حرام ... حرام ... كل غنائه وخبطاته بالعصا على ظهر دابته، وهزات أرجله ورنات حنجرته، دون أن يقصد هو أو يعي كانت تصلني على هيئة نداء أمر واحد يقول: حرام، حرام. بل تكاثرت النداءات في النهاية؛ إذ إن أي شيء كان يفعله كإنسان كان يطلق نداء، حتى جلسته الآدمية المنتصبة فوق الدابة كانت تطلق نداء ... تكاثرت النداءات، حتى وجدتها في النهاية تصنع حوله سياجا لا يمكن اختراقه. وكأنه أينما يتحرك تتحرك معه دائرة حرام واسعة لا بد أنها احتوتني وشلتني، والتي بلغ من تأثيرها أنه حين أصبح قاب قوسين أو أدنى من الكوبري، ورآنا وألقى السلام، وجدت المدفع ينزلق من قبضتي ويسقط، ووجدتني أقول: سلام ورحمة الله.
وحين حاذانا ... وقال معتذرا عن مروره علينا راكبا: دستوركم يا رجالة.
وتصاعد من جانبي صوت كنت قد نسيته تماما، يقول: دستورك معك ... اتفضل.
بدأت أتذكر على وجه التحديد المصير الذي ينتظرني ... والعجيب أني فعلت هذا بلا خوف وبلا مبالاة تامة ... كنت على استعداد لمقاومة الغريب، إن هو حاول قتل الرجل، وإنجاز ما فشلت في إنجازه، مقاومته حتى ولو اقتضى الأمر أن أفقد حياتي.
15
ولكن الغريب لم يقتلني، وأيضا لم يحاول قتل الرجل. وبدأت أتكلم وأحاول أن أشرح ما بدر مني، أو على وجه أصح ما لم يبدر مني، ولكنه وضع يده على كتفي، وقال: مفيش داعي ... البلطة دي كنت مجهزها ليك صحيح.
وسألته لماذا إذن لم يستعملها؟ وفوجئت به يقول إنه كان ينوي استعمالها حقيقة لو كنت قد أطلقت النار على الرجل وصرعته ... إجابة أذهلتني، وجعلتني أستمع للكلمات التي قالها بانتباه عظيم، ولكنه على أي حال لم يتكلم كثيرا ... قال ما معناه إنه، هو الغارق إلى أذنيه في عالم الجريمة والقتل، كان لا يمكن أن يسمح لي بأن أتردى فيه حتى لو أردت، فلو كنت قد فعلتها، لما كنت قد كففت أبدا عن فعلها ولأصبحت مثله، ولعشت الحياة المؤلمة الرهيبة التي يحياها، ولاضطررت دفاعا عن حياتي لأن أجتث أعمارا، وأيتم أولادا وأملأ الأرض بشروري وآثامي، أتعذب وأعذب الناس، وأعاديهم إلى درجة الموت، ويعادونني إلى درجة البغض، لأصبحت في النهاية ابن ليل غادرا خئونا كشلبي ... إذا تعاملت بشرف فقدت حياتي، وإذا لم أشك في كل الناس حتى أخلص الناس ... ضعت. - واخص على العيشة اللي لا تأمن فيها الناس ولا الناس يأمنوا لك ... ولا تصدق حد ولا حد يصدقك، ولا تخلص لحد ولا حد يخلص لك ... الموت أهون منها ... والمصيبة إنك فيها ما تقدرش تقتل روحك، تقتل كل الناس ولا تقتل روحك ... وعلشان كده كنت حالحقك وأرحمك وأخلص عليك، يا ريت ألاقي أنا حد يرحمني ويغلبني، ويخلص علي.
وسكت برهة يتأمل القمر ... ثم قال وكأنما يحدث نفسه: وعلى أقل تقدير لو كنت قتلته كنت حاعرف أنك ما عدتش تنفع الواحد يأمن لك ... النفر لما بيقتل بيصبح زي الديبة، ماعندهاش مانع تاكل ولادها، بينسعر زي ما يكون عقر كلب مسعور، ويبقى مالوش شغلة إلا أنه يعض، ويفضل يعض حتى صاحبه وصديقه ... وعلى أقل تقدير كنت حاتبلغ عني.
وسكت مرة أخرى وتناول مني المدفع وراح يتفحصه ... ثم استطرد: الظاهر إني لازم أفوق ... آني حاوديك في داهية معاية ... آني عذبتك قوي ... وطول المدة دي كنت باتمني أني أغمض وأفتح ألاقيني أبوك، وألاقيني راجل طيب وألاقيك ابني ... إنما الظاهر أبوك الحقيقي أولى بك ... اصلب حيلك.
كنت سادرا في إصغائي حين فاجأتني كلماته الأخيرة، فقد قالها بلهجة مغايرة تماما، وبصوت حاسم باتر لا تشوبه ذرة تردد أو رحمة ... وحدقت فيه بعيون واسعة مدهوشة، وبملامح صارمة جامدة قاسية لا تضطرب ... عاد يقول: فز قوم ... وما تبطلش جري إلا حدا بيتكم.
ودوى انفجار رهيب، وفوق كتفي تماما، مرت لفحة هواء ساخن مضغوط كادت تقتلع أذني، وأفقت على نفسي وأنا أجري ... ودوى انفجار بعيد آخر، وفوق رأسي مرت كتلة الرصاص تغلي وتطش وتثقب الهواء ... ولكني وحتى وأنا مستمر في انطلاقي، جرؤت على إلقاء نظرة - كنت أعرف أنها الأخيرة - على الغريب ... وربما كان خداع بصر، ولكني شعرت، وكأني أنا الثابت وكأنه هو الذي يجري ويتحرك ... بملامح بدت طاعنة في الكبر، وبأكتاف تنوء بما حملت، وبقامة قصيرة مضت تغوص مع الليل وتختفي في أعماقه، وتنضم إلى كتله السوداء المتراجعة أمام كاشفات الفجر وشعاعاته.
Unknown page