والحقيقة أيضا أن دوره هو انتهى أو كاد، ليبدأ دور الستارة؛ فقد أصبح همه الشاغل كلما عاد إلى البيت أو خرج منه أن ينظر إليها، ويرى إن كانت مقفلة أو مفتوحة. وحين نبه على سنسن مرة ومرتين أن تراعي إقفالها باستمرار، ولم تفعل عنادا منها لا أكثر، قرر أن يكون حمشا ويفرض رأيه. وهكذا فوجئت به سنسن في اليوم التالي، وهو في طريقه إلى المكتب، فوجئت به يصرخ فيها بلهجة غريبة باترة حاسمة ألا تفتح الستارة أبدا لأي سبب كان، وأن عليها أن تقبل أمره هذا بلا نقاش ... وغير مهم المناقشة الشكلية التي تلت كلامه، والتي لم يتزحزح فيها عن رأيه في أن من حقه كزوج أن يصدر أية أوامر يراها دون أن يكون مطالبا بتفسيرها، والتي لم تتزحزح فيها هي عن رأيها في أن لها الحق كل الحق أن تمتنع عن تنفيذ أي أمر صادر منه أو من غيره، ولا تكون مقتنعة به. المهم أن تمسك كل منهما برأيه جعل الموقف يتوتر، وجعل بهيج يفقد السيطرة على هدوئه وأعصابه، وجعله في نوبة غضب ينفجر لها بأن السبب الحقيقي لعمله الستارة هو الشاب الأعزب الذي احتل الشقة المقابلة، ونظراته التي ضبطه وهو يوجهها بصفاقة وقلة أدب إلى بلكونتهم، ورغبته في أن يحفظ لبيته حرمته، ويحميها من وقاحة جار مثله. وساعتها اتضح أن الزوجة هي آخر من تعلم بأخبار الجيران العزاب؛ فقد بدا واضحا أن سنسن لا تعلم شيئا عن تعزيل الأرملة العجوز، ولا عرفت أبدا بمجيء الأعزب، ولا طرق لها الموضوع بالا. - طيب ... آدي انتي دلوقت عرفتي. - لا ... إذا كان كده يبقى خلاص ... أمرك يمشي.
ومشى أمره وأصبحت الستارة كحائط لا يتزحزح، كل ما في الأمر أن البلكونة قد تغير مركزها في البيت. وبدلا من المكان غير المطروق الذي كانته، والذي لم تكن سنسن تجسر على الظهور فيها إلا وهي بملابس الخروج، أو بأكثر ملابس البيت حشمة، ولا تظهر فيها إلا وهي مضطرة، وإذا وقفت فيها نظرت إلى الشقق المقابلة والمجاورة بأدب وحساب، حتى ينظر إليها أصحابها بأدب وحساب، بدلا من هذا أصبحت البلكونة تحت حماية الستارة مكان سنسن المختار للجلوس، تقضي فيه أي وقت تشاء بأية ملابس ترتديها وتقوم بأي عمل تراه. بل شيئا فشيئا بدأت سنسن تفطن إلى مزايا للستارة كانت خافية عليها، أهمها بلا جدال ما يدور في شققهم ومطابخهم وحجرات جلوسهم ونومهم، دون أن يكون باستطاعتهم هم أن يروها؛ فالستارة تحجبها عنهم وتتيح لها أن ترى ولا ترى. وهكذا بدأت نظراتها تفقد طابع النظر من خلال بلكونة مفتوحة، وتتخذ طابع النظر من خلال الشقوق. وبعد أن كانت البلكونة تجعلها تعامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوها به، وتجعل لعينيها دور المراقبة لغيرها ولنفسها، أصبحت مهمة عينيها أن تراقب الغير فقط، وتتجسس عليه وتكشف أسراره وخباياه، وهي ضامنة أن أسرارها في حصن حصين. ونفس التحول بعد بضعة أيام انتقل لتفكيرها، فأصبح اهتمامها بما لديها، وأصبح الوقت الذي تقضيه تتفرج على ما يحدث داخل الشقق الأخرى أكثر بكثير من الوقت الذي تقضيه ترعى فيه شئون شقتها.
وكذلك كان لا بد أن يواتيها الخاطر ولو مرة، ويجعلها تفكر في رؤية هذا الجار الجديد الذي كلمها زوجها عنه، وترى كيف تطل الوقاحة من نظراته كما قال الزوج. •••
والمدهش أن الجار الأعزب لم يكن وقحا أو قليل الأدب، كان في الحقيقة مشغولا جدا. فقد كان يعمل في الصباح في شركة، ويدرس بعد الظهر في كلية، ويقضي ساعتين كل ليلة يصحح الملازم في مطبعة. شاب من قراء سير العصاميين المؤمن بأن في استطاعته أن يصبح مثل روكفلر وعبود. الغارق في أحلامه هذه بطريقة لم يخطر على باله مرة أن يقف في بلكونته، ويتطلع إلى بنات الجيران فضلا عن أن يحاول معاكسة أحد. وقد كان من الممكن أن يظل غارقا في مشغولياته وأحلامه تلك، لو لم ير هذا الستار الذي صنعه السيد بهيج؛ فقد لفت نظره أن تنفرد تلك البلكونة المقابلة وحدها دون غيرها من بلكونات البيت وغيره من البيوت بهذه الستارة التي كان واضحا أنها أقيمت حديثا، وأنها مسدلة باستمرار ولا تفتح أبدا. وهكذا منذ اليوم الأول الذي لاحظ وجودها فوق سور البلكونة، وهذه البلكونة بالذات بدأت تلقى منه عناية خاصة ربما لغرابة الظاهرة؛ وربما لأن منظرها هيج كوامن خياله، وجعله يمضي يحلم ويتصور نساء ألف ليلة وليلة أو فتياتها اللائي لا بد أقيمت ستارة كثيفة كهذه لتحميهن من العيون.
وربما لو كان قد رأى السيدة سنسن بكاملها، وهي في الشارع أو في بلكونة مكشوفة لما استرعت انتباهه، أو توقفت عندها نظراته، ولكان قد عاملها مثل العشرات غيرها من السيدات، والفتيات اللاتي يراهن في نوافذهن وشرفاتهن، ويتركهن جميعا ليوجه انتباهه كله إلى الستارة المسدلة وإلى الحورية الرائعة الجمال التي لا بد تكمن خلفها، والتي لا بد أن يأتي يوم تظهر فيه أو على الأقل يبدو منها وجه أو ذراع.
بل لم لا نقول إن الستارة وما تحجبه كانت وراء تركه لعمله في المطبعة، ورفعه حرارة النقاش الذي دار بينه وبين صاحبها إلى درجة أخرى، والاستغناء عن خدماته؟ وعدم ضيقه ألبتة بما حدث بل فرحته به، إذ سيتاح له منذ اليوم أن يقضي ساعتين أخريين يتطلع فيهما إلى البلكونة ذات الستارة المسدلة، ويخمن ويحس بالحرمان ويهيج الإحساس أحلامه.
وبالتأكيد إذن، كان لا بد أن يأتي اليوم الذي يدرك فيه، وقلبه تتعانف دقاته، أن قماش الستارة يختلج اختلاجة أنثوية بلا شك، وأنه ويا للهول بعد قليل انفرج فرجة صغيرة رفيعة، ولكنها كانت كافية لأن يتأكد أنها فعلا أنثى، وأن عينها ووجنتها التي اطلعت وتلصصت أجمل وأروع عين ووجنة رآهما في حياته.
حقيقة كان ذلك اليوم بالذات هو اليوم الذي قررت فيه سنسن أن تتفرج على الجار الأعزب الوقح، ويبدو أن محاولتها البحث عن وقاحته قد امتصتها إلى درجة لم تفطن معها أنه لمحها من خلال قماش الستارة ورآها.
والواقع أنها لم تفاجأ كثيرا، فقد وجدته كما وصفه زوجها تماما ... وبالفعل كانت نظراته تحفل بالوقاحة وقلة الأدب، وبالفعل لم يحول أبصاره عن البلكونة طيلة الوقت الذي ظلت تراقبه فيه. أدركت حينئذ أن زوجها كان على حق في إقامته للستارة؛ فلولاها ما استطاعت أن تحمي نفسها من وقاحته ونظراته.
وانسحبت يومها من البلكونة، وقد عاهدت نفسها أن تتجاهل وجود العازب وشقته وبلكونته.
Unknown page