بل اليقين الذي لا شك فيه أنهم لا يقرءون ما ينتقدونه إذا جاز الشك في إلمامهم بنماذج الأدب «المقتدى به» على سنة الحياة والأحياء.
فقد ثاروا، أو أثيروا، على دعوتنا الأدبية لأنها جمود على القديم واستبقاء لميزان النقد كما غبر عليه المقلدون في عصور الضعف والانحلال، وقالوا إننا ندين بوحدة البيت ونتغنى ببيت القصيد ونجهل وحدة القصيدة كلها كأنها «بنية حية» تحل فيها الأبيات محل الجوارح والأعضاء، وأجمل ما يقال في الاعتذار لهم أنهم مساكين لم يتعلموا القراءة قبل خروجهم من بطون أمهاتهم منذ نيف وأربعين سنة. وإلا لقرءوا يومئذ في عالم الغيب ما كتبناه نقدا لوحدة البيت أو نقدا لبيت القصيد!
وفيما يلي تسجيل لهذه الأعجوبة التي لا نظير لها في آداب الأمم ولا في أدب الأمة العربية من قديم إلى حديث، لأن هذه الأعجوبة ظاهرة منقطعة عن الأدب كل الانقطاع، معزولة عما يقال إنه جيد معبر عن الحياة وما يقال إنه رديء جامد على القديم، ولولا أن هذه الأعجوبة ظاهرة فريدة في بابها لما استحقت أن تذكر ولا أن يكون لها موضع في تاريخ النقد والأدب، وإنما تسجل لأنها أول تزييف من نوعه للدعوات الأدبية في لغة من اللغات، وقديما كان تزييف من نوعه للدعوات الأدبية في لغة من اللغات، وقديما كان تزييف الذهب بالنحاس وتزييف الذهب بخليط من المعدن كيف كان. فأما تزييف الذهب بالحصى أو بالتراب فمن أعاجيب الزمن التي لا تقع في حساب. وهل قامت قط دعوة أدبية تنكر ما لم تقرأه وتنتقد ما لم تقرأه وتبلغ من الغفلة أن تداري ما وراءها بمثل هذا الغشاء، ولا غشاء! •••
وهذه القصة بالتمام والكمال كما سجلناها منذ عام في هذا المقال.
شيء من هذا، بل أغرب من هذا قيل عن كاتب هذه السطور وهو إنني جامد على مذهب الأقدمين في نقد الشعر والأدب، وإنني لا أفهم وحدة القصيدة ولا أصول البنية الحية في الكتابة، وخير من الاستطراد في الحكاية عن هؤلاء القائلين أن ننقل هنا كلامهم كما قالوه. قالوا أفادهم الله:
نجد هذا في الحكم النقدي وفي التعبير الأدبي نثره وشعره على السواء، وكما كان نقاد العرب القدامى يعدون بيتا من الشعر أبلغ ما قالته العرب وبيتا آخر أهجى ما قالته العرب، وإلى غير ذلك من أفعال التفضيل، لا يزال نقادنا وأدباؤنا من المدرسة القديمة يحتفلون كذلك بهذا المعنى الواحد أو البيت المنفرد لما فيه من أسلوب رائق ومعنى شائق ... فالعقاد مثلا يترنم بهذا البيت:
وتلفتت عيني فمذ خفيت
عني الطلول تلفت القلب
فلا يلبث أن يقرر أنه يساوي عنده ألف قصيدة. لماذا؟ لأن العقاد مثله في ذلك مثل بقية أدبائنا القدامى، لا يبصر بالظاهرة الأدبية في الوحدة العضوية المتكاملة للعمل الأدبي وإنما في البيت، في المعنى، في النادرة اللطيفة، في العبارة المفردة.
أعلمت أيها القارئ إذن ما هو مذهب العقاد؟ مذهبه في الأدب أنه هو ذلك الخلط الذي قضى حياته ينحي عليه وينكره ويشرح عيوبه وسخافاته.
Unknown page