ومنذ سنتين نسمع من جانب الأدباء الروسيين ثورة على أدب «الصناعة» المصطنع الذي درجوا عليه كرها بتوجيه الرقابة وتحت الحظر من العقاب والمصادرة كلما بدرت من الأدباء المنكودين بادرة استقلال أو مخالفة في التطبيق والتنفيذ. وكتبت الشاعرة أولجا برجولتز تقول إنها كانت تنشد بعض القصائد في جمع من «الصعاليك» فصاح بها صائح منهم: أسمعينا شيئا من الغزل الإنساني لا من الغزل في المكنات والجرارات.
وقالت في حملتها التي شنتها على الأدب المصطنع على صفحات الجازيته الأدبية: «إن أهم شيء في جوهر الأدب ناقص في أدبنا وهو عنصر الإنسانية أو عنصر الكائن الآدمي. ولست أعني أن الكائنات الآدمية مهملة في أدبنا كل الإهمال، فالواقع أننا نرى هناك نماذج شتى من السواقين والوقادين والبستانيين يوصفون أحيانا وصفا بارعا ولكنهم موصوفون أبدا من الخارج ولا يزال أهم الأشياء ناقصا في أشعارنا؛ وذلك هو البطل الغنائي العاطفي ذو العلاقة الفردية بالدنيا وبالطبيعة.»
وقد استجاب لها في حملتها شاعران نابهان وهما فردوسكي وقسطنطين بستوفسكي ومعهما اتحاد النقاد، فأطبقوا جميعا على التذمر في المسرحيات «الملقنة والآداب الموحاة».
واجترأت الشاعرة فيرا أنبار على التهكم من وصايا المربين الفنيين الذين يدعون لأنفسهم الخبرة بتدريب الناشئة من الطفولة على «الاندماج» في الحضارة العصرية، فقالت: «إنهم يزعمون أن أغاني الأطفال توضع في الأمم البرجوازية لينام عليها الطفل ولكنها في روسيا توضع لتوقظه وتقلق منامه.»
وكتب كبيرهم أهر نبورج يقول: «إن الكاتب المؤلف ليس بالآلة الميكانيكية، وأنه لا يؤلف كتابه لأنه يعرف صناعة الكتابة ولا لأنه عضو في مجمع كتاب السوفيت - يجوز أن يسألوه ما باله لم يؤلف كتابا منذ زمن بعيد، ولكن الكاتب يؤلف لأنه يشعر بضرورة إبلاغ الناس شيئا من ذات نفسه ويلعجه هذا الشعور حتى يتخلص منه ...»
هذه شرارة من النار الكامنة في الصدور، تتطاير اليوم كلاما ولم تكن قبل ذلك خامدة أو منطفئة في قلوب المكتوين بها، ولكنهم كانوا يعبرون عنها بما كان في وسعهم من ضروب التعبير الفاجع الأليم.
كانوا يعبرون عنها بالانتحار.
ولهذا مات ثلاثة من أكبر أدبائهم منتحرين قبل سن الخامسة والثلاثين، وهم مايكوفسكي وايسنين وباجريتسكي، ومات غيرهم ميتة غامضة تحيط بها الشكوك، ولم يعرف عن أحد من أدبائهم الموهوبين أنه جاوز الشباب في سلام.
وليس في الشرق العربي من يعرف هذه المذاهب على بصيرة بها أو عن استقلال بالرأي والشعور، ولكنهم يلقنونها تلقينا «ببغاويا» أو يتهافتون عليها ولعا بكل غريب مجهول؛ وقد تموت المذاهب في الغرب ولها في الشرق دعاة يهتفون لها ويترنمون بها ويشبهون في صيحات الإعجاب بها زميلهم الأصم الذي قيل في نوادر الأضاحيك إنهم أيقظوه بعد انقضاض السامر؛ فهب من نومته مصفقا للمطرب المبدع، بعد سكوته بساعات.
ولعل أناسا من الداعين إلى أدب الحياة كما بشر به مايكوفسكي لم يقرءوه ولم يعلموا أنه انتحر هو وزميلاه من أدباء الحياة على هذا الطراز، ولو أنهم علموا بذلك لما أقحموه في المقال ليتخذوه قدوة لطلاب الحياة وأدب الحياة!
Unknown page