أخذت أقلب أكداس الورق التي تراكمت عندي حتى ضقت بها، لكنني خرجت من النظرات السريعة التي أدرتها فيما كتبته بعلمي - عن إيمان صادق دائما - وعلى فترات من الزمن متباعدة، أقول إنني خرجت من هذا كله بأن رأيت القلم الذي شطح ذات يوم في تطرفه نحو الغرب، قد عاد آخر الأمر إلى توبة يعتدل بها، فيكتب عن عروبة جديدة تكون هي الثقافة التي تصب جديدا في وعاء قديم، أو تصب قديما في وعاء جديد.
منطق الطير
لعب الطير بخيال الأسبقين من أسلافنا. ويكفي أن نجد فيما خلفوه لنا هذه الصور الثلاثة، التي أقامها على الطير ثلاثة من أعلام الفلسفة والفقه والتصوف، وأعني بها «رسالة الطير» لابن سينا، و«رسالة الطير» للغزالي، و«منطق الطير» لفريد الدين العطار. وبين الصور الثلاث تشابه شديد في التصور، رغم تباعد الفترات الزمنية بين الرجال الثلاثة؛ فظهرت أولاها في القرن العاشر (الميلادي)، وظهرت ثالثتها في القرن الثاني عشر. على أن ذلك التشابه بينها لم يمنع بالطبع أن يكون بينها من الاختلاف كذلك بما يتفق مع اختلاف النزعة عند الأعلام الثلاثة.
وأساس التصور في الحالات الثلاث هو أن تجتمع جماعة الطير من شتى صنوفها، ليدور بينها حوار حول ضرورة أن يبحثوا لها عن حاكم يتولى زمامها. وجماعة الطير في كل حالة تعرف من ذا يكون ذلك الحاكم، لكنها تعرف كذلك أن الطريق إليه مليء بالصعاب، ولا بد لمن يتصدى للرحلة أن يكون ماضي العزيمة قوي الروح، مؤمنا بما هو ساع في سبيله. ثم ينتهي الحوار بالعزم على خوض المغامرة، لكن عقبات الطريق إلى حيث الحاكم المنشود، تحول دون الكثرة من الطير أن تبلغ غاية المدى، فتسقط صرعى، أو منهوكة القوى. ولا يستطيع الوصول إلا قلة قليلة، صلبة الإرادة، قوية الإيمان.
وإنه لمما يلفت النظر، أن الطائر الحاكم، الذي كانت جماعة الطير في سبيلها إلى البحث عنه، والوصول إليه، هو مما تواضع العرف على أنه تصور يتعلق به الخيال، لكنه عسير أن يتحقق للإنسان مهما جد في السعي إلى بلوغه؛ فهو عند الغزالي «عنقاء»، وهو عند العطار طائر اسمه «سيمرغ». على أن ذلك الطائر المنشود، وإن يكن مستحيل الظهور، فهو يتصف «بالخلود».
ذكرت كل ذلك عندما هممت بقراءة شيء من «منطق الطير» لفريد الدين العطار (الترجمة العربية عن الفارسية للدكتور بديع محمد جمعة). ولقد نظم العطار موضوعه فيما يقرب من خمسة آلاف بيت من الشعر، وهو من أعظم ما كتبه المتصوفة المسلمون.
وقرأت، وقرأت ثم قرأت، وكنت كلما قرأت في «منطق الطير» مقالة أو حكاية (فقوام الكتاب «مقالات» تتخللها «حكايات») أحسست شعورين في آن واحد، لا أدري إن كانا متعارضين أو متكاملين؛ فمن جهة كنت أشعر بغزارة الوجدان الصوفي المكثف في العصور المتلاحقة. ومن جهة أخرى كنت أسمع هاتفا باطنيا يهتف بي قائلا: هذا بيت أقامه صوفي ليسكنه، أفلا يجوز لي - أنا الذي ورثت البيت - أن أجري فيه بعض التعديل لأسكنه بدوري؟
ولم أكد أطرح السؤال، حتى رأيت الموضوع قد اتسع أمامي، ليشمل هذه الحالة مع سواها من حالات؛ ففي كل مرة أقع فيها على رائعة من روائع تراثنا، مما أشعر معه أنه - برغم روعته الذاتية - يمكن أن يقرأ قراءة جديدة، تحتفظ للروح الأصلي بكل قوته، ثم تضيف إليه اتساقا مع ما يلزمنا في عصرنا؛ فها هنا (في «منطق الطير» للعطار) هيكل متين البناء، وهو في نفسه الهيكل الذي استخدمه من قبله الغزالي وابن سينا في «رسالة الطير» لكل منهما. والطير في الهياكل الثلاثة، والتي هي رموز ترمز لعباد الله، إنما كان مسعاها نحو ما يحقق لها وجودها في عصور أولئك الأعلام البارزين. فماذا لو أدخلنا على القصة تأويلا جديدا، ثم قرأناها قراءة جديدة على ضوء هذا التأويل، فإذا هي تحقق للقارئ في عصرنا وجوده كذلك؟
كيف؟ ذلك يكون بأن نجعل «العنقاء» أو «السيمرغ» اسما دالا على منجزات البحث العلمي، التي كلما تقدم بها السير نحو الأفق، انزاح الأفق إلى الوراء، وبهذا يظل العلم يسعى ويتحسن ويظل الطريق أمامه مفتوحا؛ فالمستحيل الذي يتضمنه معنى «العنقاء» أو معنى «السيمرغ» إنما هو في بلوغ نهاية يقال عندها: هنا انتهى العلم وأكمل ما يريد. والصعاب التي تعترض الطريق - كما صورها هؤلاء الأعلام في رحلة الطير كما صوروها - هي من الصعاب نفسها التي يلقاها العلماء الباحثون في ميادين بحثهم؛ فليست النتائج العلمية أو الكشوف العلمية مما تمطره السماء فنتلقاه بلا عناء، ولا هي مما يصادفه العلماء ملقى على قارعة الطريق.
إن عظمة الإنتاج الفني والأدبي، هي - على الأقل من بعض وجوهها - في قابليته للتأويلات الكثيرة؛ فهي كالكنوز التي كلما جمعت طبقة منها تكشفت وراءها طبقة أخرى. وليس الفن والأدب في ذلك شبيها بالعلوم لأن الصياغة العلمية (التي كثيرا ما تتخذ صورة رياضية) يشترط فيها ألا تحمل إلا معنى واحدا، ولا يجوز لها أن تؤول إلا على وجه واحد، لكن ما هكذا القطعة من الفن أو الأدب؛ فها هنا تتعدد الأبعاد وتكثر اتجاهات الرؤية، حتى ليصبح من الجائز أن تقول عنها إن لها «ظاهرا» كما أن لها «باطنا» وراء ذلك الظاهر.
Unknown page