سيرة عقلية
ميلاد التذوق الفني
منابع التحصيل
مؤثرات في العشرين
القارئ الكاتب
مرحلة التحول
دكتوراه في الفلسفة
قبيل ثورة يوليو 1952
دفاع عن العقل
أمتنا الوسط
أفكار في حياتنا العقلية
ثقافتنا برؤية جديدة
واجب المثقفين
موقفنا بين عصرين
من تحولات العصر
عودة إلى قواعد
لكي يعتدل الميزان
ولادة عصر جديد!
سجناء الكهوف
لماذا ارتفعت السماء؟
من الشعب وإليه
إنسان هذا العصر
يا قالع الشجرة!
الأجسام الطافية
الرؤية الواحدة
حتى لا تنفرج الزاوية
لا ... لن أكسر مغزلي
كيف يولد طاغية
قلم يتوب
منطق الطير
في سبيل يقظة عربية
درس نتعلمه من الأوائل
الفكر العربي من لغته
رؤية صحراوية
رجع الصدى
حضارة الأخلاق
حقيقة المبادئ
ينقصنا منهج العلم
إحياء التراث وكيف أفهمه
أفكار مغرضة
أسطح بغير أعماق
علموهم تذوق الفن
وللحياة أسلوبها
ديمقراطية الثقافة
الفكرة الأدبية
هل هما اثنان؟
طبقات ثقافية
حدود التسامح
قسمة الحظوظ
الكتاب أولا، والكتاب آخرا
فلسفة الشهادة
خطان متعامدان نحو جامعة للشعوب الإسلامية والعربية
من وحي الحياة الجارية
الصامتون والصائتون
وكذلك أخلاق المدينة
منطق معكوس
ساعات الفراغ
الشيطان الأخرس
فقراء الأرض
العمل الفارغ
الفنون في مناهج الدراسة
حديقة الهانم
جوائز الدولة
عن الدراسات العليا
الحروف والكلمات
لنا رسالة
في غرفة الامتحان
الثورة الرابعة التي جعلت «الجامع» جامعة!
قضبان الضوء
دفاع عن المعقول
هيكل البناء
لقطات على الطريق
حق العزلة
عقد اللؤلؤ
عيون تنظر ولا ترى
ملائكة بغير أجنحة
الفكر المغامر
النفوس وما تخفي
كواهل العظماء
حرمة الحياة الخاصة
متعة الحديث
دعهم على سجيتهم
اتجاه العدوى
النجم الدءوب
حياة على عجل
غرور
الجائع يحلم بالعيش
الكلمة الولود
أخلاق الحيوان
التعاون فطرة
الأرانب العفاريت
كيف يكتب الأديب
باب النجار المخلع
سيرة عقلية
ميلاد التذوق الفني
منابع التحصيل
مؤثرات في العشرين
القارئ الكاتب
مرحلة التحول
دكتوراه في الفلسفة
قبيل ثورة يوليو 1952
دفاع عن العقل
أمتنا الوسط
أفكار في حياتنا العقلية
ثقافتنا برؤية جديدة
واجب المثقفين
موقفنا بين عصرين
من تحولات العصر
عودة إلى قواعد
لكي يعتدل الميزان
ولادة عصر جديد!
سجناء الكهوف
لماذا ارتفعت السماء؟
من الشعب وإليه
إنسان هذا العصر
يا قالع الشجرة!
الأجسام الطافية
الرؤية الواحدة
حتى لا تنفرج الزاوية
لا ... لن أكسر مغزلي
كيف يولد طاغية
قلم يتوب
منطق الطير
في سبيل يقظة عربية
درس نتعلمه من الأوائل
الفكر العربي من لغته
رؤية صحراوية
رجع الصدى
حضارة الأخلاق
حقيقة المبادئ
ينقصنا منهج العلم
إحياء التراث وكيف أفهمه
أفكار مغرضة
أسطح بغير أعماق
علموهم تذوق الفن
وللحياة أسلوبها
ديمقراطية الثقافة
الفكرة الأدبية
هل هما اثنان؟
طبقات ثقافية
حدود التسامح
قسمة الحظوظ
الكتاب أولا، والكتاب آخرا
فلسفة الشهادة
خطان متعامدان نحو جامعة للشعوب الإسلامية والعربية
من وحي الحياة الجارية
الصامتون والصائتون
وكذلك أخلاق المدينة
منطق معكوس
ساعات الفراغ
الشيطان الأخرس
فقراء الأرض
العمل الفارغ
الفنون في مناهج الدراسة
حديقة الهانم
جوائز الدولة
عن الدراسات العليا
الحروف والكلمات
لنا رسالة
في غرفة الامتحان
الثورة الرابعة التي جعلت «الجامع» جامعة!
قضبان الضوء
دفاع عن المعقول
هيكل البناء
لقطات على الطريق
حق العزلة
عقد اللؤلؤ
عيون تنظر ولا ترى
ملائكة بغير أجنحة
الفكر المغامر
النفوس وما تخفي
كواهل العظماء
حرمة الحياة الخاصة
متعة الحديث
دعهم على سجيتهم
اتجاه العدوى
النجم الدءوب
حياة على عجل
غرور
الجائع يحلم بالعيش
الكلمة الولود
أخلاق الحيوان
التعاون فطرة
الأرانب العفاريت
كيف يكتب الأديب
باب النجار المخلع
أفكار ومواقف
أفكار ومواقف
تأليف
زكي نجيب محمود
سيرة عقلية
ميلاد التذوق الفني
ليس من السهل على صاحب الحياة الثقافية التي تشعبت فروعها بين فكر وأدب وفن وفلسفة، أن يتعقب تلك الحياة إلى بذورها الأولى؛ لأنه حتى إن وقع على تلك البذور، فهو لا يأمن أن تكون قد سبقتها عوامل أنتجتها، كما هي الحال في بذور النبات؛ إذ كانت هذه البذور بدورها ثمرة نبات سابق؛ ولذلك فلست أرى بدا من عشوائية الاختيار.
وسأجعل البداية العشوائية لحظات تقاربت أزمانها في السنوات الأولى من عشرينيات هذا القرن، عندما كدت أبلغ من العمر عشرين عاما، وكانت أولى تلك اللحظات حين شاءت لي المصادفة أن أستمع إلى أستاذ في الأدب الإنجليزي يشرح للطلاب قصيدة وردزورث التي عنوانها «النرجس الأصفر»، وهي القصيدة التي يقول في سطرها الأول ما معناه: «جلت وحدي كما تجول السحابة»، وأخذ ذلك الأستاذ يحلل هذا السطر وحده في درس كامل، مما جعلني أستمع إليه وأنا ذاهل لما يمكن أن يتكشف عنه بيت واحد من الشعر إذا وجد الناقد الدارس، الذي يفجر الألفاظ تفجيرا ليخرج مكنونها الدفين. ولم أكن قد عهدت فيما قرأناه وحفظناه قبل ذلك من الشعر العربي مثل هذا التحليل العجيب؛ فلو قلت الآن إن تلك المحاضرة التي استمعت إليها في النقد الأدبي، والتي تناول فيها معلم شارح ذواقة، سطرا واحدا هو فاتحة القصيدة، لو قلت الآن إن تلك المحاضرة كانت عندي بذرة تحول في قراءة الشعر كله وقراءة الأدب كله لما بعدت عن الصواب.
وربما شاءت لي المصادفة الهادفة - إذا صح لي أن أقرن الأهداف المقصودة إلى المصادفات العابرة - شاءت لي تلك المصادفة ذات المغزى، أن يجيء محاضر الأدب العربي في إثر ذلك الأستاذ الناقد العجيب؛ فكان هذا المحاضر العربي يضع أمامنا أبياتا من الشعر الجاهلي وكأنه يقدم لنا أحجارا خشنة غلاظا لا تقوى على هضمها أقوى المعدات، ولم يكن في وسعه أن يفك جلاميدها ليخرج الكنوز من أجوافها؛ فبقدر ما كانت المحاضرة التي استمعت إليها عن شعر وردزورث طاقة متفجرة فتحت أمامي الطريق إلى سماء في التذوق الأدبي تعلوها سماء، جاءت المحاضرة الثانية - بالمقارنة مع ما قبلها - وكأنها النذير الصارخ في أذني بأن تراثنا الأدبي بحاجة إلى أيد أخرى غير الأيدي التي كانت تعبث بذلك التراث الغني وهي عجماء.
تلك - إذن - كانت أولى اللحظات التي تقاربت أزمانها معي، قبيل بلوغ العام العشرين من عمري، والتي عندها ولدت لي طريقتي في تذوق الفنون بشتى صنوفها. وأما اللحظة الثانية، فقد كان بطلها أستاذا في تعليم الرسم، لا أقول إنه كان ذواقة للفن بحيث جاءتني منه العدوى؛ إذ إني - حتى في تلك السن - كنت أدرك أن شروحه لأعمال الفنانين تنقصها الحساسية المرهفة، لكنني برغم ذلك أشهد بأنه قد فتح أمامنا بابا، وكان بمثابة من أشار بيده قائلا لنا: هاكم المروج الفسيحة، إذا أردتموها فادخلوا إليها من هذا الباب. ومن هنا بذرت في نفسي بذرة - ربما كانت ضعيفة الأثر، مقيسة إلى بذرة التذوق الأدبي - لكنها على أية حال كانت هي فاتحة التفاني إلى دنيا الفنون.
وقد أظلم نفسي إذا لم أذكر هنا بأن الحاسة الأدبية - متمثلة في أول الأمر في الحس بالألفاظ وجرسها - قد انغرست عندي منذ الطفولة الباكرة، التي لا أبالغ إذا حددتها بسن التاسعة أو العاشرة. وإنه لمن الأحداث المحفورة في ذاكرتي منذ ذلك الحين البعيد، ما حدث لي ذات يوم وقد دعيت مع أفراد الأسرة إلى حفلة زواج. وما كان أشد دهشة الحاضرين جميعا والحاضرات - وهي دهشة اختلطت معهم بضحكات الهزء والتصغير - عندما فاجأت الجميع بأن صعدت على كرسي في ركن الغرفة، وأخرجت ورقة وأخذت أتلو خطبة التهنئة التي كنت قد أعددتها سرا!
أذكر ذلك لأستشهد به على ميل مبكر نحو صياغة اللفظ، التي قد تكون عتبة الدخول في رحاب الأدب تذوقا وإنشاء. وربما كان هذا الميل المبكر عندي، هو الذي جعلني ألتقط شعاع النور حين أرسله أستاذ الأدب الإنجليزي وهو يقدم لنا قصيدة وردزورث، وهو الشعاع الذي أضاء لي طريق الأدب: كيف يكون إبداعه، وكيف يكون فهمه وتذوقه. فإذا كان جرس اللفظ هو الذي ملأ سمعي قبل ذلك، فإنني بعد ذلك الدرس الملهم، قد أدركت أن الأدب إذا ما استخدم قوة اللفظ، فإنما يستخدمها لتكون أداة لتوصيل ما انبث فيه من المعاني.
ولقد ظهرت معي محاولات أولى منذ ذلك العهد، أمزج فيها بين النغم والمعنى، لعل من أوائلها حادثا عابرا، كان أقرب إلى اللهو المازح منه إلى الجد البناء، وذلك أن مجلة مصورة في ذلك الحين - أظنها كانت مجلة «اللطائف المصورة» - قد أعلنت عن مسابقة يكتب فيها المتسابقون أسطرا لا يزيد عدد كلماتها عن أربعين كلمة - فيما أذكر - بحيث يصفون في هذه الكلمات القليلة ما عسى أن يصنعوه لو علموا أن نهاية العالم ستكون بعد ساعة واحدة، فكتبت مع الكاتبين. وبالطبع لا أذكر نص ما كتبته، لكنني أذكر أني قلت إنني لو علمت ذلك لقعدت بلا حراك لا أصنع شيئا، ومع ذلك فما تزال ترن في أذني إلى اليوم عبارة وردت في كلماتي، قلت فيها إنني وقد «وجدت الدقائق تمر سراعا، والقلب يدق تباعا.» مع ما تكاثر في خاطري مما ينبغي عمله، فقد جلست أنتظر بلا حراك. وجاءت نتيجة المسابقة بفوزي بجائزتها الأولى، وهي جنيهان! فقل ما شئت عن فرحتي بالجنيهين. وماذا تظن عن موقفنا عندئذ من المال؟ كانت بضعة قروش تتحرك في مجالها! وجاءني صديقان ممن كانت الصلة قد توطدت بيني وبينهم يلحان في نزق الشباب وخفته أن نذهب جميعا، أنا وأخي والصديقان، لننفق هذين الجنيهين. وكان أول خطة المساء أن نذهب إلى مسرح يوسف وهبي.
ذهبنا، وكانت المسرحية القائمة في تلك الليلة هي «كرسي الاعتراف». ولم أكن قد شهدت قبل ذلك في حياتي مسرحا، ولا عرفت كيف يكون! كنت أسمع عن دنيا المسارح، لكن شيئا قر في نفسي بأنها لم تخلق لي ولا خلقت لها. أما وقد ذهبنا في تلك الليلة، ورأيت ما رأيت، فلست أدري بأي لغة أصور لك الهزة العميقة العميقة العميقة، التي اهتزت بها نفسي لما رأيت؛ فكل ما رأيته جديد، وكل ما سمعته جديد. وعدت إلى داري ذلك المساء لأحلم بما قد رأيت وسمعت. والحق أنه كان فتحا جديدا في حياتي، لا لأن المسرحية والتمثيل يستحقان أو لا يستحقان؛ فأنا ليلتها لم أكن على أدنى درجة من العلم بدنيا المسرح؛ فقد تكون تلك المسرحية جيدة وقد لا تكون، وقد يكون الممثلون أجادوا أو لم يجيدوا؛ فلم يكن ذلك مدار انتباهي، بل كان المدار هو تلك الدنيا الجديدة نفسها حين انكشف عنها الستار.
تلك هي اللحظات القلائل المتقاربة في أزمانها، والتي فتحت لي فيها أبواب التذوق في دنيا الشعر والفن والمسرح، فكان لها عندي ما بعدها.
منابع التحصيل
كانت عشرينيات القرن بحيويتها الفكرية والأدبية الدافقة الجياشة، هي السنوات التي أشعلت الجذوة في صدري نحو التحصيل العلمي الذي لم ينقطع معي إلى اليوم؛ فكنت أجمع كل ما كان يخرجه أعلام الفكر والأدب من كتب خلال العام الدراسي، لأجعل منه زادي في إجازة الصيف. على أن ما كانت تخرجه المطابع عندئذ خلال العام الدراسي كله لم يكن ليجاوز أصابع اليدين، ولم تكن أثمان الكتب بحيث أعجز عن الشراء.
كان أحمد حسن الزيات قد أخرج كتابيه المترجمين: «آلام فرتر» لجيته، و«رفائيل» للامارتين؛ فكم مرة تظنني قد قرأت هذين الكتابين؟ لو قلت إنني قرأتهما ثلاث مرات متوالية على الأقل لما بالغت؛ فلقد سحرتني لغة الترجمة إلى حد الفتنة. وإذا لم تكن هي فتنة المسحور، فبماذا تسمي هذا السلوك الآتي: أردت أن أكتب خطابا إلى أبي، وكان لم يزل في منصبه في حكومة السودان بالخرطوم، وكنت قد عدت من إجازة قصيرة قضيتها معه هناك. وكان طريق السفر تتوسطه مرحلة بسفينة بخارية فيما بين أسوان ووادي حلفا، وفي هذه المرحلة النهرية كانت تقف السفينة بركابها عند أبي سمبل، ليستطيع من أراد أن يزور ذلك المعبد القديم المنحوت في صخر الجبل. ولقد زرت المعبد مع الزائرين، فلما أردت الكتابة إلى أبي بعد عودتي إلى القاهرة، وجدت قلمي ينساب بما جاء في ترجمة الزيات لرفائيل عن معبد قديم؛ فالوصف أخاذ للقلوب، والعبارة العربية في الترجمة فتنة للأذن. وجدت قلمي ينساب بما حفظته عن ظهر قلب، منتحلا إياه لنفسي، ومن شدة فتنتي بما أكتب، نسيت أن أضع في الخطاب - لا في أوله ولا في آخره - التحية المألوفة في الخطابات التي يرسلها ابن إلى أبيه؛ فكل ما ورد في خطابي هو وصف جميل لمعبد ادعيت أنه هو أبو سمبل الذي زرته في الطريق.
نعم، فتنت بأسلوب الزيات يومئذ؛ فلا هو الأسلوب الذي يفوح برائحة القدم من لفظ غريب وسجع أغرب، ولا هو الأسلوب الذي يخلو من العناية الشديدة باختيار اللفظ، وصقل العبارة، وحسن التركيب في الجملة الذي يعطيك شيئا من التوازن بين أجزائها. وكذلك كانت كتب المنفلوطي هي الأخرى أمرا يشبه أن يكون واجب الأداء؛ فليس قارئا بين الشباب من لم يقرأ «العبرات» و«النظرات» للمنفلوطي. ولكم كان شائعا بين الشباب من الكاتبين أن يستخدموا كثيرا من «لوازم» المنفلوطي في التعبير. ولا أقول إني نجوت من هذه العدوى، لكنني أقول إني أضفت إلى ذلك ما لم يضفه كثيرون غيري، وهو الإعجاب بأسلوب الزيات إعجابا تمنيت أن يكون له أثر عندي وصدى. وإنه ليصعب علي الآن أن أزن مقدار ما تبقى في كتابتي من تأثر بذلك الأسلوب، لكن الأرجح أن أثره قد زال بزوال دواعيه.
كانت لكتب «المطالعات» و«المراجعات» وغيرهما مما أخرج العقاد في ذلك الحين، أو قبله بقليل، أثر في حصيلة فكري وفي طريقة التناول العقلي، أكثر جدا مما كان لها من أثر في وجداني أو في أسلوب كتابتي؛ فعند العقاد وجدت زادا فكريا غزيرا، التقطته ووعيته ورددته في أحاديثي مع الأتراب إلى حد الإسراف؛ فمن ذلك - مثلا - أنني حين قرأت فكرة العقاد عن الجمال بأن الجمال هو الحرية، بمعنى أن الشيء يكون جميلا بمقدار ما يتغلب على القيود وينساب في حركة سهلة، كالنهر الجاري إذا قيس إلى الماء الآسن، وكالبدن الخفيف الراقص إذا قيس إلى البدن الثقيل البطيء، وكالزهرة النامية على فرعها إذا قيست إلى زهرة شبيهة بها مصنوعة من ورق، وهكذا وهكذا. أقول إنني حين قرأت فكرة العقاد هذه في توحيده بين الجمال والحرية كأنما هما هوية واحدة، وجدتها تملك علي عقلي، إلى الحد الذي جعلني حين ذهبت في إجازة الصيف إلى الريف - وريفنا يقع بين المنصورة ودمياط، في قرية ميت الخولي عبد الله التي أسر أهلها لويس التاسع في الحروب الصليبية - أقول إن الفكرة عن الجمال والحرية قد ملكت علي عقلي إلى الحد الذي جعلني حين ذهبت إلى الريف، واعتدت الجلوس أمام دكان لبقال كان يرحب بأمثالي من طلبة العلم، يجلسون للمناقشة أمام دكانه، يستمع إليهم معجبا وهو صامت، أخذت أطرح فكرة العقاد عن الجمال بأنه حرية الحركة الدالة على عضوية الحياة، فتدخل صاحبنا البقال في الحديث ساخرا من هذا الكلام الفارغ الذي نقوله نقلا عن العقاد. وزعم البقال لنفسه المعرفة العملية بالموضوع، وهي عنده معرفة ترجح ألف مرة ما ينقله القارئون عن الكتب؛ فهو - كما قال عندئذ وفي حماسة شديدة - متزوج من أربع زوجات، ولم يكن للعقاد ولا لأحد منا زوجة واحدة؛ فمن حق أمثاله أن تكون لهم كلمة مسموعة في طبيعة الجمال، أكثر جدا مما يكون ذلك من حق رجل كالعقاد، أو من حق شباب مثلنا. قال ذلك جادا. فلئن كان الرجل عجيبا في انعراجه بالحديث إلى ما لم نكن نعنيه، فذلك مفهوم من رجل مثله، لم يتسع أفقه لأمثال هذه الأفكار النظرية في علم الجمال. أما نحن فقد كنا أعجب منه وأغرب؛ لأننا قابلنا جده بجد مثله، وأخذت أنا بكل الحرارة المشتعلة أدافع أمامه عن فكرة العقاد تلك بأن الجمال هو الحرية من القيود والمعوقات، مهما يكن نوع الشيء الجميل ومهما تكن ضروب القيد والتعويق. وإن مثل تلك الحرارة في الحديث الذي وضعت في القيد غير موضعها ليدل على مدى الجدية التي أخذت بها قضايا الثقافة منذ ذلك الحين.
وكان سلامة موسى داعيا آخر من دواعي انشغالي الفكري في تلك السنين، خصوصا حين نشر كتابه عن «حرية الفكر» وكتابه عن «التطور» في نظرية دارون. وهاك في هذا الصدد قصة أخرى تدل على انغماسي فيما كنت أطالعه من الإنتاج الثقافي يومئذ؛ فقد قرأت في كتاب «حرية الفكر» عن حادثة الإمام أحمد بن حنبل وما تعرض له من محنة التعذيب؛ إذ خالف رأي الخليفة المأمون في مسألة القرآن: أقديم هو أم حادث مخلوق؟ فقد كانت تلك من أمهات المشاكل التي تعرض لها الفكر الإسلامي في عصوره الأولى؛ فثمة من يقول إن القرآن هو كلام الله، فلا يعقل ألا يكون أزليا مع أزلية الله؛ أي إنه قديم بالاصطلاح الذي استخدموه يومئذ، ولكن كان كذلك هناك من يقول عن القرآن إنه حدث تاريخي وقع لحظة نزوله. فكان المأمون يأخذ بالرأي القائل إنه حادث مخلوق في لحظة نزوله، وكان أحمد ابن حنبل ممن يأخذون بأزلية القرآن مع أزلية الله. فأصر الخليفة على أن يحمل الإمام ابن حنبل على تغيير رأيه، فلم يستطع برغم ما نزل بالرجل من قسوة فظيعة تقشعر لها الأبدان.
لم أكن قبل ذلك سمعت بهذه المشكلة الغريبة، ولم أفهم شيئا من هذين المصطلحين الواردين في المشكلة: «مخلوق» و«قديم» بالنسبة إلى القرآن، فانتهزت فرصة في أول درس في التاريخ الإسلامي - وكان بالمصادفة هو مقررنا من التاريخ لذلك العام - وسألت الأستاذ عن المشكلة وما أصلها وما فصلها؟ كان أستاذنا قد عاد لتوه من بعثته بإنجلترا، وكنا قد لاحظنا عليه نواحي كثيرة من ضعف الشخصية الذي دعا بعضنا إلى الاستخفاف به والسخرية منه، لكن لم يكن لأي شيء من ذلك دخل في جدية سؤالي، وجدية المأخذ الذي توقعت أن أجاب به على السؤال؛ فكانت دهشتي شديدة، وحيرتي أشد، حين ثار الأستاذ ثورة صبيانية، وأمرني بالخروج من قاعة الدرس.
ولعل هذه القصة وحدها كافية للدلالة على مقدار ما تزودت به من ثقافة على أيدي المفكرين والأدباء حينئذ، إذا قيس بما أصبته - أو أصبت به - في معاهد الدولة.
مؤثرات في العشرين
في تلك الفترة التي أتحدث الآن عنها، وهي النصف الثاني من العشرينيات، كان الدكتور طه حسين هو الذي ملأ خيالي. وليست المسألة هنا متعلقة بالمادة المكتوبة نفسها - علمية كانت أو أدبية - وإلا فلست أظن أن طه حسين بما كان ينشره عندئذ كان أغزر فكرا من سواه، ولا كان ألصق من سواه بصور الإبداع الأدبي؛ فربما كان العقاد - مثلا - أوفر محصولا منه، وأدنى منه إلى صور الإبداع؛ إذ كان العقاد شاعرا ولم يكن طه حسين. لا، ليست المسألة هنا متعلقة بغزارة الفكر أو بالدنو من أصالة الإبداع، بل هي مسألة متوقفة على الروح التي كان طه حسين يبثها في النفوس؛ ولذلك فقد كان دون سواه هو الذي انشقت له جماعة المثقفين معسكرين؛ معسكر معه يؤيده ويسانده، ومعسكر ضده يعارضه ويحاربه. وقد كنت بغير شك من المؤيدين المساندين.
إنك تظلم طه حسين لو وزنت قدره بوفرة المحصول الفكري الذي قدمه للناس في كتبه، وتكون أشد ظلما له إذا جعلت الميزان هو الصور المتعارف عليها في الإبداع الفني، وهي الشعر والقصة والمسرحية؛ لأن طه حسين إنما استمد معظم قيمته من قدرته على تغيير الاتجاه. إنه لم يكتب ما كتبه لمجرد الرغبة في الكتابة، أو الرغبة في كسب الرزق، بل ولا لمجرد عرض الأفكار المنقولة أو المبتكرة، وإنما كان يكتب ليغير وجه الحياة الثقافية في الأمة العربية؛ ومن ثم جاءت خطورته. إنه رمز ذات يوم إلى العوامل التي رآها عقبة في سبيل التغيير المطلوب؛ رمز إليها باسم قرطاجنة، ثم أعلن على رءوس الأشهاد بأنه لن يستريح حتى تهدم قرطاجنة؛ ومن أجل هذه الرغبة في التقدم والتجديد امتلأ به خيالي.
لست أمدح نفسي ولا أذمها، حين أصفها وصفا أمينا فأقول: إن لديها استعدادا قويا - لا بد أن تكون له جذوره البعيدة في طفولة لم تجد فرصتها في نمو حر طليق - استعدادا قويا لتلقف كل فكرة تراها مؤدية إلى تقويض القديم إذا ما بطلت صلاحيته، لتقيم مكانه جديدا مأمولا. إنني لأتصيد الأفكار التي يثور بها أصحابها على عوائق التقدم، أتصيدها تصيدا، وأفرح كلما وقعت منها على شيء يغذي هذا الميل في نفسي.
ولقد كتبت بعد تلك السنوات التي أضع الآن معالمها؛ كتبت بعدها بأكثر من ربع قرن، وكان ذلك في مقدمة كتابي عن فلسفة برتراند رسل، أقول: إنني وإن لم أكن تابعا كل التبعية لبرتراند رسل في فلسفته، ولا رافضا كل الرفض لها، فإنني مع ذلك أشعر برباط قوي بينه وبيني، وذلك الرباط هو الدفاع الحار الذي ينهض به رسل في سبيل حرية الفرد من كل طغيان؛ طغيان التقاليد الاجتماعية إذا لم تعد صالحة لحياة العصر؛ وطغيان الحكومات إذا لم تجعل الأولوية الأولى لمصالح الناس.
وكذلك بيني وبين برتراند رسل رباط آخر يقربه من نفسي، هو تلك الفرحة الكبيرة التي يفرحها كلما استطاع إقامة البرهان على خطأ اعتقاد كان يظنه الناس بديهية لا تحتمل الشك ولا الجدل. إن مثل هذه النزعة عند الرواد، ضرورية لتمهيد الطريق نحو تغيير الأوضاع الاجتماعية، وتغيير الأفكار التي تحجرت على مر الزمن دون أن يصبح الناس بحاجة إليها؛ فيظن أن صلابتها تلك هي صلابة الصواب الذي لا يأتيه الخطأ. إن أصحاب هذه الرغبة في التجديد ومسايرة روح العصر، هم دائما بمثابة الفدائيين، الذين يتسللون إلى حصون العدو، فيمهدون بذلك إلى دكها وتخريبها، كي يتاح لأنصار الجديد الأصلح أن يقيموا في مكانها حصونا أخرى.
ومن هؤلاء كان طه حسين فيما كتب يومئذ؛ ومن أجل هذا تابعته بقلبي الشاب وبعقلي الناشئ معا.
وفي تلك السنوات الأخيرة من العشرينيات، مالت الرغبة بجماعة من الأصدقاء تضمني نحو استغلال فراغنا في الصحافة؛ إذ رأيناها طريقا لإشباع ما أحسسناه في نفوسنا من نوازع الفكر والأدب. وكنا بالفعل قد بدأنا نكتب مقالات أدبية في المجلات الأسبوعية، وهي مجلات كانت يومئذ ركنا هاما من أركان الحياة الثقافية؛ فمنها «السياسة الأسبوعية» التي كانت ملحقا لجريدة السياسة المعبرة عن حزب الأحرار الدستوريين، ومنها «البلاغ الأسبوعي» الذي كان ملحقا لجريدة البلاغ لناطقة بلسان الوفد. وكان الأغلب على السياسة الأسبوعية أن تنقل عن الثقافة الفرنسية، كما كان يغلب على البلاغ الأسبوعي أن ينقل عن الثقافة الإنجليزية، أو هكذا كان انطباعنا، بحكم أن الأولى كانت تنشر للدكتور طه حسين، والدكتور محمد حسنين هيكل، وغيرهما من الذين تلقوا العلم في السوربون، وأن الثاني - البلاغ الأسبوعي - كان ينشر للعقاد الذي، وإن لم يتلق العلم في إنجلترا، إلا أن مصادره الرئيسية كانت من أدباء بريطانيا ومفكريها.
بدأنا نحن - جماعة الأصدقاء من الشباب - نكتب المقالات في هاتين المجلتين. وأذكر أن أول مقالة كتبتها في حياتي الأدبية كانت في عام 1927م تعليقا على الأغاني التي شاعت في ذلك الحين، وامتلأت أصواتها - ولا أقول «كلماتها» لأنها كانت في بعض أجزائها أصواتا بغير كلمات - امتلأت أصواتها بما يوحي بمعان داعرة، ونشرت لي تلك المقالة في السياسة الأسبوعية.
أقول إن تلك الجماعات من الشباب الأصدقاء - التي كنت أحد أعضائها - قد أحست برغبة قوية في أن تتصل بالصحافة. وكنا عندئذ خمسة فيما أذكر، أنا وأخي الأستاذ محمود محمود، ومعنا ثلاثة آخرون، كان أحدهم المرحوم الدكتور عباس مصطفى عمار؛ فاتفقنا بادئ الأمر على تكوين جمعية أدبية تنمو مع الزمن، وأقمنا علينا من بيننا رئيسا وسكرتيرا وأمينا للصندوق؛ أي إنه لم يبق منا إلا عضوان فقط بغير ألقاب، كنت أحدهما على أرجح الظن. وقررنا في أول جلسة من جلساتنا أن يكون الاشتراك الشهري عشرة قروش، كما قررنا أن نبدأ في تكوين مكتبة للجمعية، تنمو هي الأخرى مع الزمن. وبدأنا بشراء كتاب كان قد صدر حديثا وضجت الصحف بالإعلان عنه، وهو كتاب «عصر المأمون» للدكتور فريد الرفاعي، ثم حزمنا أمرنا ذات يوم وصممنا على عرض أنفسنا للخدمة مجانا في أية صحيفة تقبل العرض.
بدأنا بجريدة الأهرام. ودخلنا نحن الخمسة على رئيس التحرير، فسألنا: ماذا تريدون؟ وأجاب عنا أحدنا فقال: نحن جمعية أدبية من الطلاب، تريد الاشتغال بالصحافة بغير أجر، كل ما نريده هو فرصة للتدريب، حتى إذا ما تخرجنا جعلنا الصحافة مهنتنا عن خبرة ودراية. فقال رئيس التحرير في نغمة عاطفية لم تخل من سخرية: يحسن أن تنصرفوا إلى دروسكم، وأن ترجئوا هذا الحديث إلى ما بعد التخرج.
وخرجنا من عنده إلى جريدة السياسة. ولم يكن الدكتور هيكل رئيس التحرير موجودا هناك تلك الليلة، فقصدنا إليه في اليوم التالي، ورحب بما عرضناه عليه، وبدأنا تدريبنا، لكنه لم يمض على هذا التدريب أسبوعان حتى أراد لنا الدكتور هيكل شيئا آخر، وهو أن نعاونه على إخراج كتيبات صغيرة تباع مع الصحف بأثمان رخيصة، كل كتيب منها يبسط موضوعا يتصل بتاريخنا. ولقد خصص لكل منا موضوعا يجمع له مادته، وكان نصيبي هو أسطورة سميراميس. ونفذ المشروع، وصدر الكتيب الأول في موضوع لا أتذكره، لكننا أسرعنا إلى البحث عن أسمائنا في المقدمة كما وعدنا، فلم نجد لها ذكرا، وكان امتحان العام قد اقترب، فانصرفنا إلى ما هو أجدى.
القارئ الكاتب
اختلفت حياتي الثقافية خلال الثلاثينيات عما كانت عليه في العشرينيات اختلافا بعيدا؛ فبعد أن كنت في العشرينيات قارئا وكفى؛ بحيث لم أكد أكتب حينئذ إلا بضع صفحات، أصبحت في الثلاثينيات قارئا كاتبا.
في شهر يناير من سنة 1933م ظهرت مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات؛ فما إن صدر العدد الأول منها حتى انفتح أمامي الميدان الذي أنظم فيه نشاطي في دنيا الثقافة، بعد الفراغ من شواغل مهنتي؛ فما هو إلا أن أخذت أرسل المقالات تباعا بالبريد، والرسالة تفسح لي صدرا رحبا. ولكن فيم كانت تلك المقالات بوجه عام؟ كانت فصولا في أعلام الفلسفة الغربية، يغلب أن تختص كل مقالة منها بفيلسوف؛ فهذه مقالة عن برجسون، وتلك عن نيتشه، والثالثة عن شوبنهاور، وهلم جرا.
هكذا كان نصيبي من الثقافة أول الأمر هو نصيب السمسار الذي يتوسط بين صاحب السلعة وشاريها، أو قل إن نصيبي لم يزد على ما يؤديه عارض الأزياء؛ فالأزياء التي يتولى عرضها على الناس لا هي من نسجه وصنعه ولا هي من حقه فيملكها ليرتديها. على أن ذلك النصيب المتواضع، كان يؤرقني حتى في تلك المرحلة الباكرة، فانتهزت فرصة عدد ممتاز أراد صاحب الرسالة إخراجه بمناسبة عيد الهجرة - وهو تقليد حميد جرى عليه بعد ذلك كل عام - ودعاني للكتابة فيه؛ إذ كتبت مقالة ألهمتني الهجرة فكرتها، فقلت إنه لا بد لروحي الحبيسة في أفكار الآخرين أن تهاجر إلى حيث يكون فكرها المبتكر الأصيل. واستعرضت موقفي صادقا صريحا، فإذا أنا أقرأ ثم أقرأ، وأتلون بما أقرأ كأني دودة زاحفة على ظهر الأرض تسعى؛ فتصفر إذا حبت فوق الرمال، وتخضر إذا زحفت فوق الحقول. كنت أقرأ للشكاك فأشك، ثم أقرأ للمؤمنين فأومن. هذا كتاب متشائم أطالعه، فإذا أنا الساخط الناقم، وذلك كتاب متفائل فإذا أنا المستبشر الفرح الطروب.
وضربت لنفسي في تلك المقالة الأمثلة لعلي أهتدي بهديها؛ ضربت مثلا بالإمام الغزالي الذي قرأ واستوعب ليلقي دروسه ويؤلف كتبه فيما قرأ واستوعب، لكنه وقف بغتة يحاسب نفسه حسابا بلغ من عسره أن نالت من الغزالي العلة بما نالت، ولم يشفه منها إلا أن استمع إلى وحي نفسه، فهجر بغداد حيث كان يقيم ويعلم، إلى حيث ينطلق العقل في دنيا التأملات.
وكذلك ضربت لنفسي مثلا بالأديب الروسي تولستوي، الذي غاص في أغوار الفكر ما غاص، وانتهى به الأمر إلى اضطرب وحيرة، حتى لقد أفرغ مكتبته من كل ما فيها إذ رآه من الأباطيل. لقد قرأ تولستوي للفلاسفة الأعلام جميعا؛ قرأ لأفلاطون، وكانط، وشوبنهاور، وباسكال، لكنه الآن قد تبين أن أفكار هؤلاء الفلاسفة إنما تكون واضحة ودقيقة، حيثما تبعد عن مشكلات الحياة المباشرة، أما في ميادين هذه الحياة، فإنها لا تهدي الحائر سواء السبيل.
ولكن هل ردعتني تلك الثورة النفسية؟ إنها لم تردع، ومضيت فيما كنت ماضيا فيه، من قراءة لهذا وذاك من كبار المفكرين؛ لأكتب فيما بعد عما قرأته؛ فكأنما الكتابة والقراءة كانتا عندي يومئذ جانبين لشيء واحد. وحدث ذات مساء أن زرت صاحب الرسالة في مكتبه، ولم أكن قبل ذلك قد زرته، مكتفيا بالبريد أنقل به مقالاتي إليه. وكان مكتب الأستاذ الزيات صاحب الرسالة عندئذ غرفة من شقة كانت تستأجرها لجنة التأليف والترجمة والنشر - وكان الزيات أحد أعضائها - فقدمني إلى من كان موجودا هناك من أعضاء اللجنة، وكان منهم رئيس اللجنة الأستاذ أحمد أمين، فرحبوا بي ترحيبا أكثر مما كنت أراني جديرا به، من علماء أجلاء، ومن أدباء ذائعي الشهرة والصيت.
لم يمض على ذلك اللقاء الأول بضع دقائق، حتى دعاني الأستاذ أحمد أمين إلى ركن في بهو الدار كان خاليا. وبعد أن أعاد على مسمعي ثناءه وتقديره لما كان قرأه لي من مقالات نشرتها مجلة الرسالة، عرض علي أن أشاركه في إخراج كتب عامة تشرح تاريخ الفلسفة ومعانيها شرحا يزيل عنها الغموض، ويقربها من جمهور القارئين.
فرحت بالعرض فرحة شديدة. وكان ذلك في صيف 1934م؛ فلم تمض بضعة أشهر إلا وقد أكملت الكتاب الأول من سلسلة الكتب المقترحة، وجعلنا عنوانه «قصة الفلسفة اليونانية»، ارتكزت فيه على كتاب في الموضوع للدكتور ستيس، لكني بالطبع أطلقت لنفسي حرية العرض والشرح والتأويل، ثم ما هو إلا أن طبع الكتاب، فكان الباكورة الأولى لما أراده لي الله، منذ ذلك الحين وإلى يومي هذا من حياة التأليف. وبعد عام واحد - وكنت منذ يوم اللقاء الأول قد دخلت لجنة التأليف والترجمة والنشر عضوا - بعد عام واحد ألحقت بالكتاب الأول كتابا من جزأين عن «قصة الفلسفة الحديثة». وكان ارتكازي هذه المرة على كتاب في الموضوع للمؤلف الأمريكي «ول ديورانت».
وهنا لا بد أن أنصف نفسي، ما دمت لم أجد من الناس منصفا، فأقول: لم يكن قبل قصة الفلسفة الحديثة كتاب عربي بهذا الشمول عن الفلسفة الحديثة؛ فلئن كانت الفلسفة اليونانية قد ظفرت بحظها في اللغة العربية منذ تولاها العرب الأقدمون، فإن الفلسفة الحديثة لم تكن هذه حالها. ومعنى ذلك هو أن كل ما ورد فيها من مصطلحات وأسماء، كان لا بد له من ألفاظ عربية نبتكرها لها ابتكارا. وإذا كان بعضها قد أصابه التعديل بعد ذلك فإن كثيرا جدا منها قد صمد ليكون هو اللفظ العربي المقبول.
وكنت فيما بين «القصتين»: «قصة الفلسفة اليونانية» التي صدرت سنة 1935م، و«قصة الفلسفة الحديثة» التي صدرت سنة 1936م، قد ترجمت أربع محاورات أفلاطونية، هي التي يسمونها أحيانا بالمحاورات السقراطية؛ لأنها تصور سقراط على حقيقته، ولا يكون فيها سقراط شخصا حواريا يجري لسانه بأفكار أفلاطون. ترجمت المحاورات الأربع ونشرتها بعنوان «محاورات أفلاطون».
ذلك كان شأني عندئذ: أعرض الأفكار نيابة عن أصحابها، ولعله كان وما يزال شأن كثيرين غيري؛ فحياتنا الفكرية ربما لبثت حتى يومنا هذا معتمدة على عرض المنقول، سواء كان هذا المنقول مأخوذا عن الغرب الحديث، أو كان مأخوذا عن الأدباء العرب الأولين. ولما شعرت يومئذ بأن جهودي المضنية لم تلق التقدير الذي كنت أرجوه، برغم ما لقيته من رواج في السوق، لجأت إلى المقالة الأدبية أبثها شكواي، وأحسبها هي الشكوى التي نسمع مثلها من الشباب في كل عصر، حين يتعجل التقدير قبل أوانه؛ فكتبت في مجلة الثقافة، التي كانت قد نشأت لتوها، صادرة عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، مقالتين، جاءت الثانية مؤيدة للأولى، وهما «البرتقالة الرخيصة» و«ذات المليمين»، فأحدثتا شيئا من الأثر. كان المدار في المقالة الأولى عطفا على البرتقالة التي مهما أوتيت من حسنات، فلن تلقى عند الفاكهاني عنايته بالتفاح وإن أعطبه الدود. وكان المدار في المقالة الثانية غفلة قطعة النقود ذات المليمين - وكانت عندئذ عملة قائمة - إذا توهمت شبها بينها وبين الريالات وأنصافها، حين ترى نفسها محشورة معها في كيس واحد.
وبذلك أوشكت الثلاثينيات أن تسدل أستارها، لتجيء الأربعينيات في حياتي الثقافية بلون جديد.
مرحلة التحول
لم تكن ثلاثينيات القرن قد انتهت، حين حدثت في حياتي الأدبية أربعة أحداث، كان أولها ظهور مجلة الثقافة عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد أمين لكونه رئيسا للجنة؛ فوضعت ثقلي في تلك المجلة بديلا عن مجلة الرسالة. وكان الحدث الثاني هو مشاركتي لبعض أعضاء اللجنة في مشرع لترجمة عيون الأدب الغربي، وكان نصيبي منه كتابا من تأليف ه. ج. ولز، والكتاب ضخم، وموضوعه ميادين العمل والثراء في العالم، استهدف به مؤلفه إظهار العيوب التي هي علة الأمراض الاجتماعية كلها، كما استهدف به أن يبين بأن الاشتراكية هي المخرج الوحيد. وكان المفروض أن يضطلع بترجمة ذلك الكتاب الضخم ثلاثة أعضاء، هم الأستاذان عبد الواحد خلاف، ومحمد فريد أبو حديد، وأنا، ثم انصرفنا في إجازة الصيف لأعود بعدها وقد أكملت الثلث المخصص لي، ولأجد أن الزميلين لم يكتبا حرفا. وكان لا بد من أن ينشر الجزء الذي ترجمته في كتاب مستقل، لكن ذلك الجزء المترجم كان يحتوي على ما يقرب من نصفه مما لا يفهم إلا موصولا بما قبله، فحذف ذلك النصف، واكتفت اللجنة بنشر النصف الآخر ليجيء الحديث متكاملا، وصدر الكتاب بعنوان «الأغنياء والفقراء».
وأما الحادث الثالث فهو أن أعلنت وزارة المعارف - هكذا كان اسمها في تلك الأيام - عن مسابقة أدبية، فدخلت فيها بكتاب عن المدن الفاضلة كما تصورها الفلاسفة والمفكرون في العصور المختلفة، وظفرت فيها بالجائزة. وكان الذي سلمني الجائزة - ومقدارها فيما أذكر يقل قليلا عن مائة جنيه - هو الدكتور هيكل الذي كان وزيرا للمعارف يومئذ. ولقد نشر الكتاب بعد ذلك بأكثر من عشرة أعوام، وجعلت عنوانه «أرض الأحلام».
وأما خاتمة الأحداث التي جاءت في آخر أعوام الثلاثينيات، فهو البدء في مشروع طويل عريض، اتفقت مع الأستاذ أحمد أمين على إنجازه، بصورة الاشتراك التي أنجزنا بها من قبل ذلك قصة الفلسفة؛ إذ اتفقنا على كتابة «قصة الأدب في العالم»، الذي صدر منه خلال الأعوام السبعة، فيما بعد 1942م و1949م، أربعة مجلدات، انتهت بالقصة إلى أول القرن العشرين. ولغضبة كتمتها بين أضلعي، أمسكت عن تقديم الأصول الخطية للمجلد الخامس، وهو عن أدب القرن العشرين. وما زالت تلك الأصول حتى هذه الساعة «مدشوتة» بين أوراقي، لا أريد لها أن تشهد النور.
أردنا بقصة الأدب في العالم أن تكون كسابقتها قصة الفلسفة؛ فنعتمد على مراجع قليلة منتقاة، ثم نتفرع منها هنا أو هناك كلما اقتضت الظروف، على أن تكون العناية موجهة نحو الصياغة السلسة الواضحة التي يفيد منها أوساط القارئين. وكانت طريقة السير هي أن نقف وقفات مختارة، نطل منها على أرجاء العالم في فترة بعينها، لنرى ماذا كان من أدب في كل رجا من تلك الأرجاء. ولما كان الأدب العربي جزءا من القصة، فقد كان هذا الجانب من الكتاب هو نصيب الأستاذ أحمد أمين في الكتاب. كما عهدنا الأدب الفارسي لمختص، هو الدكتور عبد الوهاب عزام في النصف الأول من شوط المسيرة، والدكتور يحيى الخشاب في النصف الثاني منه. وفيما عدا الأدبين العربي والفارسي كانت بقية آداب العالم نصيبي.
ثم أراد لي الله فرجا بعد ضيق طالت به السنون، وهو أن الأربعينيات لم تكد تبلغ ضحاها حتى جاءتني فرصة السفر إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه في الفلسفة. كانت الحرب العالمية الثانية في عزها عندما تحدد موعد السفر. وكان السفر ليكون على سفينة هي إحدى مجموعة من السفن تسير مجتمعة لتحرسها المدمرات والبوارج. وكانت بورسعيد هي ميناء الرحيل. ولم يخصص المدنيين في تلك القافلة البحرية إلا جزء يسير. وكان هؤلاء المدنيون خليطا عجيبا، فيه من كل صنف طراز، فيه رجال من السلك السياسي، وفيه طلاب العلم، وفيه الموظفون من مختلف الألوان. وبدأت الرحلة بإرشادات إلى المدنيين، من قائد السفينة، وهي كلها إرشادات بالغة الصرامة والتحوط. وبرغم ذلك الجو الرهيب لم أشعر بأدنى درجة من درجات الخوف؛ لأن الرغبة في تحقيق الأمل كانت أشد وأقوى.
وكنت قبيل مغادرتي القاهرة بنحو ثلاثة أسابيع، قد شاركت في مشروع أدبي خططت له لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهو إخراج سلسلة تتعقب الفكر الحديث في أبرز معالمه. وتم اختيارنا للكتب التي أردنا لها أن تصاغ في عبارة عربية دون أن نلتزم الترجمة الحرفية. وكان نصيبي من ذلك المشروع كتابا في النقد الأدبي من تأليف ه. ب. تشارلتن، هو الذي جعلت عنوانه العربي «فنون الأدب». ولقد ألقيت على نفسي - باختياري - مهمة شاقة؛ هي أن أختار لمادة الكتاب أمثلة من الأدب العربي، بدل الأمثلة التي ساقها مؤلف الكتاب من الأدب الإنجليزي؛ إذ إن هذه الأمثلة الإنجليزية لو ترجمت إلى العربية فقدت الجوانب التي سيقت من أجل توضيحها، وأحمد الله على توفيقه؛ فقد جاء الكتاب آخر الأمر في صورته العربية وكأنه تأليف عربي أصيل.
كان لا بد لي من مضاعفة جهدي لأفرغ من الكتاب في أسابيع قليلة قبل السفر، وذلك ما قد كان، اللهم إلا المقدمة، التي لم يكن قد بقي لها - على قصرها الشديد - من وقتي ساعة واحدة. وبينما نحن نعبر البحر في قافلة السفن، قيل لنا إن للركاب أن يكتبوا ما شاءوا من رسائل لذويهم، على أن تسلم أوراقا مكشوفة؛ لأنها ستطبع على ميكروفلم لترسل مئات الرسائل معا في بكرة واحدة، وهناك في جهة الوصول، تفصل الرسائل بعضها عن بعض، وتكبر، وتعطى لأصحابها، فكتبت - فيما كتبت - مقدمة كتاب «فنون الأدب»، وأرسلتها إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة.
كان الأستاذ أحمد أمين قد قالي لي ذات يوم، عندما رأى مقدار ما أنتجه في وقت وجيز: إنك لو كنت من الجن، لاستكثرت عليك هذا الإنتاج كله في مثل هذه الأيام القليلة! فماذا عساه قائلا لو رآني وأنا في لندن ملتحقا بجامعتها، مصمما على أن أعب البحر في أعوام قلائل؟ أتدري كم ساعة كنت أقضيها في مكتبة الجامعة، لا أتحرك من مقعدي؟ كنت أول طالب يدخل المكتبة صباحا عند فتح أبوابها - بالمعنى الحرفي لهذه العبارة - وآخر من يغادر المكتبة مساء عندما تغلق أبوابها، بالمعنى الحرفي مرة أخرى. وما زلت أذكر طالبا إنجليزيا كان يعد هو الآخر رسالته للدكتوراه في الفلسفة، فسألني يوما: كيف تستطيع التركيز العقلي طوال هذه الساعات التي أراك فيها مشدودا إلى مقعدك في المكتبة؟ إنني أخرج وأغيب ثم أعود، لأجدك ما زلت في جلستك غارقا فيما يشبه الغيبوبة، وأنا أسألك: كيف تستطيع؟ ... كما أذكر أيضا طالبا هنديا صادفني في نادي الطلبة خلال عطلة الأسبوع، فما رآني حتى جمد في مكانه قائلا بعد صمت قليل: أهو أنت؟ إنك لا تعلم كيف أشقيتني! قلت: أنا أشقيتك؟ كيف كان ذلك ومتى؟ قال: إنك تكبرني سنا، وكنت كلما أخذ مني التعب في المكتبة وأهم بالرحيل، أنظر خلفي فأراك جالسا إلى كتبك لا تكاد تلتقط أنفاسك، فأقول لنفسي: اجلس وامض في عملك؛ فالذي مكن هذا الرجل من مواصلة العمل يجب أن يمكنني، ثم أواصل العمل حتى تنهد قواي هدا، وأنت ما زلت جالسا، فأغادر المكتبة وأنا أصب عليك اللعنات!
كتمت الجواب في صدري، ولو أفصحت عنه لقلت: إنها لذة المحروم، وقد تحقق له أمل ظنه بعيد المنال.
دكتوراه في الفلسفة
كانت الكلية التي سجلت فيها للحصول على إجازة الدكتوراه في الفلسفة، هي ما يسمى بكلية الملك في جامعة لندن. وكان المشرف على عملي هو الدكتور هاليت، وهو رجل من طراز فريد؛ فمجال اختصاصه الذي تميز به في الجامعات البريطانية كلها، هو إسبينوزا وفلسفته. وكانت طريقته في البحث والنظر تذكرني بأعتى شيوخ الأزهر السابقين، الذين لم تكن تبهرهم الأضواء الحديثة بقدر ما يؤرقهم الإخلاص الشديد لمادة البحث بين أيديهم، كذلك الباحث القديم الذي قيل عنه إنه أخذ يبحث في كلمة «حتى» من جميع وجوهها النحوية، ومع ذلك فلم يشعر بأنه قد استوفى بحثه بصورة ترضيه، فقال ما معناه إنه سيموت وفي نفسه شيء من «حتى»! ومن هذا الطراز العجيب كان الدكتور هاليت؛ فهو أستاذ أكاديمي عتيد عنيد بحاثة دقيق دءوب في روح من الهدوء والبساطة يلفتان النظر.
وكان الموضوع الذي أردت بحثه هو «الجبر الذاتي»، قاصدا بذلك حرية الإنسان في تقرير مصيره، بغض النظر عن العوامل الخارجية المحيطة به. وكنت إذ ذاك مشبعا بمزيج من فلسفات برجسون والبرجماتية والوجودية، مختلطا بعضها ببعض في وجهة نظر واحدة. ولم يكن بيني وبين الأستاذ هاليت اتفاق في وجهة النظر، لكن الأمر في البحث الجامعي ليس أمر نظر خاص ووجهته، بل هو أمر نصوص وكيف تستخرج منها النتائج ويستشهد بها. ولقد أخذت من ذلك الرجل أعظم فائدة يمكن أن يفيدها طالب من أستاذه؛ لأنه كان يرهف لي عقله كله، ليلتقط ما عسى أن يكون في عبارتي من مآخذ وثقوب. وكنت بدوري أعد نفسي قبل لقائه أجود إعداد، لأقترب من مستواه في النقد ورد النقد. وإني لأشهد الله بأني قد خرجت آخر الأمر شخصا آخر غير الذي كان عند دخوله، من حيث يقظة الوعي ودقة العبارة.
وبينما أنا غارق إلى الأذنين في بحثي عن «الجبر الذاتي»، إذا بالنبأ يشيع بأن «الكلية الجامعة» - وهي الكلية التي حصلت منها على درجة البكالوريوس الشرقية من الدرجة الأولى - قد جاءت بأستاذ باحث ليتولى رئاسة قسم الفلسفة بها، هو الدكتور آير. ووفق التقاليد الجامعية هناك كان لا بد لهذا الأستاذ الجديد أن يلقي محاضرة عامة في ميدان تخصصه لتكون بمثابة الإعلان عن بدء اضطلاعه بمنصبه.
واستعدادا لحضور تلك المحاضرة العامة، جمعت من مكتبة الجامعة الرئيسية مؤلفات آير هذا، لألم بفكره واتجاهاته قبل أن أراه. وكان بين مؤلفاته تلك كتاب صغير عنوانه: اللغة والحقيقة والمنطق، يعرض فيه بكل قوة ووضوح، اتجاها جديدا لجماعة من فلاسفة العلوم، ظهرت أول الأمر في مدينة فينا بالنمسا، ثم انتشرت في أجزاء من أوروبا وأمريكا، وكانت تسمي اتجاهها ذاك باسم «الوضعية المنطقية»، قاصدة بهذه التسمية أنها أولا تساير المذهب الوضعي الذي أشاعه قبل ذلك أوجست كونت في فرنسا، والذي خلاصته أن النظرة العلمية تحدد نفسها بالظواهر كما تظهر، وأما ما وراء تلك الظواهر مما يخفى على المشاهدة والتجربة فلا يدخل في مجال التفكير العلمي، اللهم إلا إذا كان مستدلا استدلالا سليما من التجارب والمشاهدات. وثانيا أضافت تلك الجماعة جانبا آخر إلى ما سبقهم به أوجست كونت، وهو أنه لا داعي للأشياء نفسها الموجودة في الطبيعة، لتعلم إن كانت جملة من الجمل التي يقولها الناس هي مما يمكن أن يندرج في مجال العلوم أو لا يندرج؛ إذ يكفي في ذلك أن تحلل ألفاظ الجملة - موضوع النظر - وطريقة تركيبها، لتعرف إن كانت صالحة لأن تكون جزءا من علم وضعي أو غير صالحة؛ ومن ثم فقد أطلق على هذا الاتجاه الجديد اسم الوضعية المنطقية؛ لاكتفائه بالتحليل المنطقي للعبارات اللغوية، في قبول ما يصلح للعلم ورفض ما لا يصلح.
وما زلت أذكر تلك اللحظة التي لمعت عندها في رأسي تلك اللمعة المضيئة، التي خيل لي معها أن غطاء قد انكشف أمامي عن حقيقة كانت مخبوءة عني، وتلك هي أن اللغة حاجز يقف بين الإنسان والأشياء، ولا سبيل إلى اختراق هذا الحاجز اللغوي لرؤية الطبيعة على حقيقتها، وإذن فلا بد من تحليل تلك اللغة تحليلا يميز فيها بين ما هو علم مما ليس علما. وفي هذه الحالة يكون عمل الفيلسوف أشبه بعمل الخبير بالنقود، يعرف كيف يميز في قطع النقود بين الحقيقي منها والمزور.
منذ تلك اللحظة، وإلى هذه الساعة، لا أجد لنفسي ما يبرر أن أنظر إلى العمل الفلسفي نظرة أخرى غير هذه. وبهذا الاعتقاد الجديد ذهبت لأستمع إلى الأستاذ آير وهو يلقي محاضرة الافتتاح.
وكان الدكتور كيلنج - صاحب المرجع المعروف في فلسفة ديكارت - هو أستاذنا في الفلسفة الحديثة عندما كنت في «الكلية الجامعة» قبل أن أتحول عنها إلى «كلية الملك»، ولم أكن أرى فيه ما يملؤني إعجابا به، مع أنه كان أول أستاذ بريطاني ألتقي به في إنجلترا. نعم، إنه ذكي، وملم بمادته إلمام الباحث الدارس، أما نفاذ البصيرة، ومسايرة الحركة الفكرية مسايرة تتفق مع منصبه الجامعي، فلم أكن أرى فيه شيئا منه. لقد درس في السوربون بعد أن درس في إنجلترا، وله لحية صغيرة يصبغها بما يشبه الحناء، وقد دعاني ذات مساء على عشاء في منزله، فوجدته منزلا مكدسا بالكتب، وهو متزوج من سيدة فرنسية، والظاهر أنه لا ولد له، وقد اعتذر لي عن تواضع مسكنه، قائلا: إن بيتي الأول قائم في باريس؛ حيث أقضي أطول وقت مستطاع.
وكان من الأفكار التي تحمس لها أثناء حديثنا - وكان الحديث قد تناول الأدب المسرحي - أن شكسبير لا يستحق هذه الضجة كلها التي يثيرونها حوله؛ فليس هو بشاعر من الطراز الأول. أين هو في القدرة على البناء الشعري من راسين أو كورني؟ فقلت لنفسي: ترى لأي حد تجيء آراء الرجال انعكاسا لجنسية الزوجات؟ ... إن كيلنج رجل عليل ضعيف البنية، ولقد كان يطمع في دعوة توجه إليه من جامعة القاهرة ليقضي في دفء مصر عاما أو عامين، لعله ينعم بشيء من الصحة، وظنني قادرا على أداء هذا الصنيع. والحق أني تمنيت يومئذ لو أن بي شيئا مما ظن، لكن عيني كانت بصيرة، وأما يدي فكانت أقصر جدا مما ذهب إليه خيال الذين أجروا هذا المثل على ألسنة الناس.
كان لي في لندن ضروب من النشاط الثقافي تستحق أن تذكر، منها أن جامعة لندن فور انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945م أعدت برنامجا عاما للمواطنين في بريطانيا، الذين يزمعون السفر إلى الشرق الأوسط، فكان أن طلبت من السفارات العربية المختلفة أن ترشح من أبنائها المقيمين في بريطانيا من يلقون المحاضرات في الموضوعات التي أرادت الجامعة أن تدار حولها الأحاديث، فرشحتني السفارة المصرية لأحاضر في الأدب العربي المعاصر، متمثلا في أديب بعينه ترك لي اختياره، كما أذكر أنها رشحت معي في جلسة الأدب زميلي الدكتور محمد النويهي ليحاضر في الأدب العربي القديم، فاخترت العقاد شاعرا ؛ لأنني كنت وما أزال مؤمنا بأن العقاد في شعره قد جسد تطورا عميقا في قيم المجتمع العربي؛ إذ نقل محور الارتكاز إلى الفرد المتميز من سائر الأفراد، بعد أن لم يكن للفرد في المجتمع العربي وزن كثير. ولقد رأيت يومئذ بأنه لا جدوى من الحديث المجرد، دون أن يسمع الحاضرون نماذج من شعر العقاد مترجما إلى الإنجليزية، فاستثرت كل ما أملك من قدرة لغوية، وترجمت أكثر من مائتي بيت من شعر العقاد، شعرا إنجليزيا، ثم تابعت بعد ذلك عملية الترجمة إلى أن توافر لي قدر لا بأس به، وأرسلت أجزاء مما ترجمت إلى المجلات الأدبية في بريطانيا أولا، ثم في الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك، فكان من احتفال تلك المجلات المتخصصة بما أرسلت، شاهد لي بأن الترجمة الشعرية التي قمت بها لم تخل من قيمة.
وكذلك كان من أوجه نشاطي الثقافي في بريطانيا في تلك الفترة، محاضرات ألقيتها بدعوة من معهدنا المصري في لندن، قمت فيها بتحليل مستفيض للثقافة المصرية التي كانت سائدة في ذلك الحين، وهي ثقافة كانت تتميز بازدواجية واضحة، كأن مصر كان يسكنها شعبان لا شعب واحد.
قبيل ثورة يوليو 1952
لم يكن قد بقي على ثورة يوليو 1952م إلا عامان وبعض العام، حين أوكلتني لجنة التأليف والترجمة والنشر - وكنت عضوا فيها - أن أنوب عنها في الإشراف على مجلة الثقافة، التي كانت تصدرها في ذلك الحين. وإني لأستعرض الآن بعض ما كنت أكتبه يومئذ، وما كان يكتبه غيري، فأرى كيف كانت صدورنا تغلي بما كان يحيط بنا من فساد، مما كان كافيا لمن يستطيع قراءة الأحداث، أن يوقن بأن ثورة الشعب كانت - يومها - قاب قوس واحد من الوقوع.
أحس الكاتب بالظلم الفادح ينزل على الناس أشكالا وألوانا، فصاغ هذه الحقيقة في صورة غلام صغير، وقد سمع رجلا يصيح في الطريق بكلمة «ظلم»؛ فلأمر ما، رسخت الكلمة برنينها في سمعه، فلما أصبح صباح اليوم التالي، روعت أم الغلام حين وجدته قد ملأ أركان الدار بكلمة «ظلم» مكتوبة بالطباشير على المقاعد والموائد والجدران، فتهددته أمه بالعقاب إذا عاد إلى مثل هذا العبث وطفقت تمسح الظلم من بينها بخرقة بالية.
لكنه لم يكن قد مضى بعد ذلك يوم واحد، حين جاء الجيران يشكون الغلام لأبويه؛ لأنه تسلل إلى دورهم، وملأ لهم الدنيا بكملة «ظلم» يكتبها هذه المرة بقطعة من الفحم، لا يسهل محوها كما سهل محو الطباشير. وعوقب الغلام على فعلته، لكنه بعد يوم آخر، وسع الدائرة إلى حيث كانت الدكاكين، وكان قد ظفر بوعاء فيه طلاء، فراح يغافل الناس ويكتب حيثما مكنته الفرصة، كلمة «ظلم» بطلاء لا يمحى. وزيد في عقابه من أبويه، لكنه لم يرتدع. ولبث هادئا بضعة أيام، ثم كانت بعدها الطامة؛ لأن الغلام هذه المرة، قصد إلى دار الحكومة كانت على مقربة من مسكنه مع أبويه، وحصل من حيث لا يدري أحد على مبراة، حفر بها الكلمة نفسها على مداخل تلك الدار. وتدخل الشرطي، ونودي الوالد، وعرض الغلام على طبيب. ونصح الوالد أن يصحب ولده المريض إلى الشاطئ لعله يهدأ، وفعل ما نصح به، لكن دهشة الوالد كانت على أشدها، حين استمع إلى عجلات القطار فوق القضبان، فإذا بها وكأنها تقول: ظلم، ظلم، ظلم ...
هذه صورة، وفي صورة ثانية، صب الكاتب سخرية هي أمر السخرية بمن كانوا يلوكون في أفواههم كلمة «الشعب» ومصالح الشعب، حتى إذا ما انكشفت له حقيقة الأمر، وجد هؤلاء السادة في واد، وجموع الشعب الحقيقي في واد آخر. وفي سبيل تصويره لهذه المفارقة، صور قرية على قمة جبل يرتفع برأسه فوق مستوى السحاب؛ فلئن اعتاد أهل الأرض أن ينظروا إلى السحاب منسابا فوق رءوسهم، فأهل تلك القرية العالية ينظرون إلى السحاب تحت أقدامهم. وكانت طبقات السحاب دائما من الكثافة بحيث يتعذر على ساكن القمة أن يرى شيئا مما يقع في أسفل الجبل. ولقد أتيح للكاتب الرحالة أن يقضي يوما في قرية السادة، فإذا هي هادئة الطرقات، ومعظم دورها مغلق النوافذ والأبواب، فلا يدري السائر في الطريق من بواطنها لا قليلا ولا كثيرا، لكن صاحبنا الكاتب الرحالة لم يلبث أن وقع في تلك القرية على نشاط عجيب وراء الجدران؛ فما إن فتحت له الأبواب، حتى جاءته من الداخل أصوات كالرعود، وضجة لا يكاد يميز فيها بين متحدث ومتحدث، لكن كلمة «الشعب» لم يخطئها سمعه وسط الضجيج المختلط؛ لأنها كانت أكثر الكلمات دورانا على ألسنة المتكلمين. وعجب الكاتب الرحالة بينه وبين نفسه: أي شعب يا ترى؟ إنه لم ير في طرق القرية شعبا، وكان كل ما رآه بيوتا نظيفة جميلة، وعددا قليلا من المارة، اتسموا جميعا ببدانة الأجسام، واسترخاء الأطراف، وبطء الحركة، فلم يسع كاتبنا الرحالة إلا أن يسأل من وقف إلى جانبه: أين الشعب هنا؟ فأجابه في استنكار قائلا: شعب؟ ليس الشعب هنا على القمة؟ إنه هناك على السفح عند أسفل الجبل.
وهبط كاتبنا الرحالة إلى السفح في طريق عودته، فكان أول من لقيه من الناس، امرأة عجوز متهدمة جلست على جانب الطريق، وأمامها صندوق خشبي صغير، تناثرت على ظهره سبع قطع من الحلوى، ترى كم مليما تربح هذه المسكينة في يومها؟ أين تسكن؟ وعلى أي كومة من التراب والحصى تضع جنبها سواد الليل؟ ماذا تأكل؟ وكيف تغطي جسدها إذا ما اشتد برد الشتاء؟ من ذا يجيبها إذا تأوهت من ألم، كما شاء الله لعباده المرضى أن يتأوهوا كلما اشتد بهم الألم؟
تقدم صاحبنا من بائعة الحلوى: بكم تبيعين القطعة يا أمي؟ فأجابته بصوت مرتعش: القطعة بمليم، فقال لها: سأشتري حلواك كلها لأولادي! فأخذت المسكينة تدعو له ولأولاده بطول البقاء، فقال لها صاحبنا وهو يدفع لها قرشا كاملا ثمنا لحلواها - وحقها سبعة مليمات - لا تنسي يا أمي أن تطلبي من الله في دعائك، رحمة بأولئك الذين يرعون مصالحك هناك فوق قمة الجبل؛ فلقد رأيتهم وهو يبذلون كل جهدهم في سبيلك؛ إذ رأيتهم وهم يبحثون لك عن أفضل دستور يلائمك من بين دساتير أوروبا، ورأيتهم وهم يتجادلون من أجلك في هل يكون الفن للفن أو يكون الفن للمنفعة؟ ورأيتهم وهم يهيئون لك مصطافا على شاطئ البحر ، تلوذين به من قيظ الصيف ...
تلكما - إذن - صورتان مما كنا نكتبه قبيل الثورة بقليل: صورة الغلام الذي أخذ يكتب الظلم على قطع الأثاث والجدران والأبواب، يكتبها بالطباشير مرة، وبالفحم مرة، وبالطلاء ثالثة ويحفرها بمبراته رابعة، وصورة السادة الذين تربعوا فوق قمة الجبل يبحثون عن مصالح الشعب، والشعب هناك عند أسفل الجبل، يتضور من جوع، ويتأوه من ألم. وها هي ذي صورة ثالثة نضيفها؛ فهذا صبي في العاشرة رآه الكاتب وقد وقف أمام بائع الحلوى، ليلة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. وقف الصبي على بعد ثلاثة أمتار أو نحوها، مثبتا ناظريه في عروس من الحلوى. والأعجب من هذا أن راحت العروس الحلوة بدورها تنظر إليه، لا تزيح عنه البصر.
كان الصبي ينظر إلى معشوقته وعلى فمه ابتسامة خفيفة كلها هيام، وكانت العروس الحلوة بدورها تبتسم له في حنان، لكن أوجه الخلاف بين العاشقين الصامتين كانت فسيحة المدى: إنه صبي فقير وقف هناك في هلاهيله رغم البرد القارس، وقف مرتعش الأطراف تريد عضلاته الصغيرة أن يزحم بعضها بعضا ليدفئ بعضها بعضا، ورآه الكاتب يرفع إحدى قدميه، فيقف بها على أطراف الأصابع، ونظر إلى القدم المرفوعة، فإذا آثار جرح كبير في عقبها، تعرفه جرحا بحواشيه القرمزية المنتفخة، وأما فجوة الجرح نفسه فقد ملئت بالطين الجاف، كأنه بركان ثار وأرسل الحمم، ثم خمد مؤقتا، ليثور من جديد بعد حين، لكن الصبي الولهان ظل واقفا يرتعش ويرقب عروسه المشتهاة في شرفتها العالية. إنها بادية الثراء، لبست ثوبا نظيفا جديدا لامعا، عليه الترتر اللامع.
شعر الصبي ملبد فوق رأسه، خشن بأوساخه، غليظ، وشعر العروس ممشط مرسل ناعم. جسد الصبي ملطع ببقع بيضاء من ملح، وجسد العروس كله في حلاوة السكر وأشهى ...
طاخ! نزلت صفعة الشرطي على الصبي إذ هو شاخص ببصره إلى عروسه يحلم! طاخ! صدمت ركلة الشرطي قدم الصبي الجريحة، فجرى المسكين صارخا من الألم في صوت يشبه عواء كلب جريح، وظل يحجل على قدم واحدة، حتى أوى إلى فجوة باب مغلق خلف مقصورة الحلوى، وجلس هناك في الظلام باكيا، يهز جذعه إلى خلف وإلى أمام، ممسكا بقدمه الجريحة بين كفيه.
أمثال هذه الصور هي ما جرى به القلم في مجلة الثقافة التي أشرفت على تحريرها نحو ثلاثة أعوام، قبيل ثورة يوليو سنة 1952م.
دفاع عن العقل
كانت الخمسينيات في حياتي الثقافية، معركة متصلة حامية اللهب، أدافع فيها عن ضرورة التزام الإنسان في حياته العلمية بمنطق العقل، في صرامة لا تجد فيها العاطفة ثغرة لها، تتسلل منها، فتضعف ذلك المنطق العقلي بميولها وأهوائها. ولم يكن ذلك تهوينا من شأن العواطف الإنسانية، وأهميتها البالغة في حياة الإنسان، لكن لكل شيء مجاله، فإذا كنا لا نطالب الفنان أو الأديب، بالتزام المنطق العلمي، في إبداعه الأدبي أو الفني، فكذلك لا ينبغي لنا، أن نطالب الباحث العلمي بأن يقحم شيئا من وجدانه في مجاله العقلي.
وكانت عقيدتي هي أن عصرنا هذا - وكنا عندئذ في أول الخمسينيات - يسوده استهتار عجيب في كل شيء. وكان الذي يهمني يومئذ، ناحية خطيرة من نواحي حياتنا، هي ناحية التفكير والتعبير؛ فلقد اعتادت الألسنة والأقلام، أن ترسل القول إرسالا غير مسئول، دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب، أدنى الشعور، بأنه مطالب أمام نفسه، وأمام الناس، بأن يجعل لقوله سندا، من الواقع، الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي، فكتبت حينئذ أقول: إنه لو كان هذا الارتجال الحر الطليق، من قيود الواقع وشكائمه، مقصورا على جوانب هينة يسيرة من حياتنا، لما كان الأمر بحاجة إلى جهد يبذل، لكنه ارتجال اتسعت رقعته، حتى شمل حياتنا العملية والعلمية كلها أو كاد.
فكان أن وجهت أغلب جهدي نحو الاتجاه التجريبي العلمي من اتجاهات الفلسفة المعاصرة. وهل كان يمكن للعلم أن يبلغ ما قد بلغه من السيطرة على عقول الناس، وعلى حياتهم العملية في عصرنا هذا، دون أن يكون لذلك صداه في الفلسفة وأهدافها؟ إن تاريخ الفكر في كل مراحله، لم يشهد عصرا رفضت فيه الفلسفة أن تتابع الحركة الفكرية السائدة في عصرها . ولست أدري من ذا الذي كذب الأكذوبة الكبرى عن الفلسفة ، فقال عنها إنها تعزل نفسها في أبراج من العاج، فلا تصطخب مع تيار الحركة الفكرية في شتى ميادينها؟ متى كان ذلك، وعند من من الفلاسفة؟ هل كان سقراط وهو يجول في طرقات أثينا، يناقش الناس في أمور حياتهم الخلقية، معتزلا في برج من العاج؟ هل ترك فلاسفة العصر الوسيط، في الشرق الإسلامي أو في الغرب المسيحي، سائر الناس في واد، وذهبوا هم في واد آخر؟ ألم يجولوا مع الناس في الميدان الأساسي الهام الذي كان يشغلهم، وهو ميدان العقيدة الدينية وتحليلها وتأويلها وتأييدها؟ هل ترك كانط علماء عصره يبحثون في الرياضة وفي الطبيعة، وحبس نفسه دونهم في برج عاجي، يتكلم فيما لم يكونوا مشتغلين به؟ أو أنه كان يحلل قوانين الرياضة وقوانين الطبيعة التي كان يأخذ بها علماء عصره؟
وكذلك أردنا للفلسفة أن يكون لها دورها في عصرنا، أردنا لها أن تجلس مع سائر رجال العلم على مائدة واحدة، وأن تسكن معهم في بيت واحد؛ فلئن كان علماء عصرنا في شغل شاغل من الطبيعة الذرية، التي غيرت من وجهة النظر إلى قوانين الطبيعة، فجعلتها احتمالا لا يقينا، وجعلتها إحصاء لما يقع بالفعل، لا إملاء لما ينبغي أن يقع، فلا بد للفلسفة كذلك أن تشغل نفسها بهذا الاحتمال في صدق القوانين العلمية، ما معناه؟ وبهذا الإحصاء الذي تبنى عليه المعرفة العلمية، ما سنده من منطق العقل؟
كان مبدئي - وما زال - هو أن الفيلسوف الذي ينفض يديه من تيارات عصره، إنما هو متمرد، لا يفيد أحدا بعصيانه. وتيار العصر هو بغير شك - وفي أهم جانب من جوانبه - تيار العلوم الطبيعية التجريبية، أو ما يتصل بتلك العلوم من قريب أو بعيد، فكيف تغير الفلسفة التقليدية من نفسها، بحيث تتجاوب مع عصرها؟ إنها تفعل ذلك - في رأينا - بعدة وسائل، من أهمها أن تترك العلوم لأصحابها؛ فلا يجوز للفيلسوف اليوم أن ينافس العالم في علمه، لا يجوز له - مثلا - أن يبحث في طبيعة الذرة، أو في طبيعة الضوء، أو الصوت، أو طبقات الأرض، أو أجرام السماء، وهنالك من رجال العلم المتخصصين من جعلوا هذه الموضوعات مدار اختصاصهم العلمي. وكذلك لا يجوز للفيلسوف أن يبحث في طبيعة الإنسان، وهناك من علماء النفس وعلماء الاقتصاد وعلماء الاجتماع وغيرهم، من يحاولون البحث في طبيعة الإنسان وطرائق سلوكه وتفكيره، ما وسعتهم المحاولات العلمية، وبمقدار ما يمكن إخضاع الإنسان للتجارب والمشاهدات العلمية.
وقد نسأل: إذا نحن تركنا العالم للعلماء المتخصصين، لكل منهم ميدانه الخاص، فماذا يبقى للفلسفة بعد ذلك؟ الجواب هو أن تضطلع الفلسفة - بين ما تضطلع به - بتحليل الأسس التي تقوم عليها العلوم نفسها؛ وذلك أن كل علم من العلوم، يفترض لنفسه نقطة معينة يبدأ منها، ثم يصعد، لكنه لا يعنى بنقطة البداية نفسها، ليرى كيف جاءت؛ فتكون هذه العناية بها، هي العمل الأساسي للفيلسوف. يبدأ علم الحساب في الرياضة - مثلا - بالأعداد، ثم يصعد منها إلى العمليات الحسابية التي تزداد تركيبا وتعضيدا كلما صعد، لكنه لا يعنى بالجذور الأولى التي نبتت منها الأعداد ذاتها، فإذا التفت باحث هذه اللفتة، كان فيلسوفا يفلسف علم الحساب. وكذلك قل في علم الهندسة من علوم الرياضة، إنه يبدأ بفكرة المكان ثم يأخذ في تقسيم ذلك المكان المفترض، إلى نقط وخطوط ومسطحات ومثلثات ومربعات ودوائر، لينظر في خصائص كل قسم من هذه الأقسام، لكنه يترك فكرة المكان ذاته، لا يهمه أن يعرف كيف تكونت، مع أنها هي الأساس الذي بني عليه علمه. فإذا تناولها باحث بالنظر والتحليل، كان عمله هذا هو فلسفة تفلسف علم الهندسة. وقل شيئا كهذا في كل علم وفلسفته. وبهذا يجيء علم العصر وفلسفته متكاملين موصولين في خط فكري واحد.
وإذا كان هذا هو المهمة الأولى للفلسفة في عصرنا، فإنه لا بد لها أن تقف طويلا عند الألفاظ الهامة، التي تكون أركانا أساسية في التفكير العلمي، لتتناول تلك الألفاظ بالتحليل الذي يحدد معانيها، والذي يتعقبها إلى أصولها، وهو تحليل يغلب عليه الجفاف - كأي تحليل علمي آخر - فهو لا يقدم للقارئ حديثا سهلا شائقا سائغا، يقرؤه وكأنه يقرأ حكاية حب ومغامرات؛ ومن ثم كانت كراهية الجمهور العام لمثل هذه التحليلات التي يراها عابر السبيل وكأنها تعقد البسيط، وتغمض الواضح، لكن ما يكرهه عابر السبيل من الجمهور العام، لا يجوز أن يكون كريها كذلك عند من أخذ نفسه بدقة العلم وعنائه وجفافه.
ومع ذلك، فقد وجدت الدعوة إلى هذه الدقة العلمية - برغم جفافها وعنائها - أقول إن هذه الدعوة إلى الدقة العلمية، التي أطلقناها في الخمسينيات، إيمانا بضرورتها، لا في الميدان الفلسفي الخاص فحسب، بل بضرورتها كذلك في ميادين التفكير الأخرى، كلما أراد باحث أن يكون لبحثه كل الدقة التي يتطلبها منطق العلوم. إن هذه الدعوة وجدت أشد المعارضة من بعض المشتغلين بالفلسفة عندنا؛ لأنها دعوة جاءت مخالفة للألوان المألوفة من العمل الفلسفي؛ وذلك لسبب بسيط، وهو أن عصرنا لم يجئ على الصورة نفسها التي ألفتها سوالف العصور.
وختمت أعوام الخمسينيات بكتاب أسميته «نحو فلسفة علمية»، لو كنت حكمت على مصيره، في ضوء ما قد أصاب إخوة له سبقته، لقلت إنه لن يظفر بنظرة من فرسان الفلسفة الذين يجيدون في ميدان الفروسية، ركوب الجياد، ورماية الرمح، والمبارزة بالسيف، لكنه - برغم ذلك كله - كان هذا الكتاب الذي ظفر - فور صدوره - من الدولة بجائزتها، مما دلني على أنها دولة لا تضيع أجر العاملين.
أمتنا الوسط
كانت فاتحة الستينيات في حياتي الثقافية، معركة فكرية خفيفة، لم تكد تثور حتى هدأت، وذلك أني أعلنت رأيا في كتيب صغير، كان عنوانه هو «الشرق الفنان»، أردت به أن أقول إن تراث الإنسانية الثقافي، كما تشهد عليه أمهات الأسفار الدينية والفلسفية والعلمية، ينهض دليلا على أن ثمة طرفين وبينهما وسط يلتقيان فيه؛ فطرف منهما على يمين العالم، هو بلاد الشرق الأقصى، كالهند والصين، طابعه الأصيل العميق، هو النظر إلى الوجود الخارجي ببصيرة تنفد خلال الظواهر البادية للحواس، إلى حيث الجوهر الكامن وراءها، فيدرك ذلك الجوهر بحدس مباشر، يمزج ذاته في ذاته، مزجا تفنى معه فردية الفرد، لتصبح قطرة من الخضم الكوني العظيم. ومثل هذه النظرة المعتمدة على الذوق المباشر، والتي لا تحتاج إلى تعليل أو تحليل، هو ما يميز الفنان - بصفة عامة - في طريقة النظر إلى حقائق الأشياء. ونحن إذا أخذنا هذا النظر المباشر أساسا لرؤية الحقيقة الكونية، وجدناه لا يقتصر على الإدراك الفني وحده، بل يشمل معه كذلك نظرة المتصوف ورؤية المتدين؛ لأن هذه الجوانب الثلاثة، فروع لوقفة واحدة، هي وقفة من يدرك العالم بروحه لا بعقله.
ذلك إذن هو أحد الطرفين. وأما الطرف الآخر فنراه في الغرب، وطابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجي، بعقل منطقي تحليلي، يقف عند الظواهر مشاهدا لها، وهي تطرد وتتتابع، فيجعل من اطراد الحدوث على وتيرة واحدة، قانونا علميا، يستخدمه بعد ذلك في الانتفاع بظواهر الطبيعة، على النحو الذي يرتضيه. ولا بد لمثل هذه النظرة، من السير في خطوات استدلالية، تنتزع النتائج الصحيحة من مقدماتها الصحيحة، وتلك هي نظرة العلم.
ولقد التقى هذان الطرفان معا، واندمجا في ثقافة واحدة، هي ثقافة الشرط الأوسط؛ ففي هذه الرقعة من الأرض، اجتمع تأمل المتصوف وتحليل العالم وصناعة العامل، حتى لقد قال «وايتهد» - الفيلسوف المعاصر - إن حضارة الغرب الحاضرة، ترتد كلها إلى أصول ثلاثة، هي: اليونان وفلسطين ومصر؛ فمن اليونان فلسفة، ومن فلسطين دين، ومن مصر علم وصناعة. ولقد اجتمع كثير من هذه العناصر الثلاثة - دفعة واحدة - في شوارع الإسكندرية القديمة؛ إذ التقى رجال العلم بأصحاب النظرة الصوفية، وبرجال المهارة الصناعية العملية، في آن واحد. وحين انتقل مركز الثقافة من أثينا إلى الإسكندرية، لم تكن النقلة تغييرا في المكان وكفى، بل كانت تغييرا في منهج التفكير كذلك، حتى جاز لمؤرخي الفكر أن يفرقوا بين مرحلتين، أطلقوا عليهما اسمين مختلفين، وإن يكونا قريبين؛ هما: «الهلينية» و«الهلينستية»؛ فالأول منهما اسم لفلسفة اليونان وهي متركزة في أثينا، قبل انتقالها إلى الإسكندرية القديمة، والثاني اسم لتلك الفلسفة نفسها، حين امتزجت في الإسكندرية بالتراث الديني والتراث العلمي والتراث الصناعي العملي، وهو مزيج أدى إلى ضرب من الثقافة كان فيه تأمل المتأمل وعبادة العابد، وتحليل العالم، وصناعة الصانع؛ أي إنها كانت ثقافة جمعت في ذاتها عبقرية الغرب وعبقرية الشرق مجتمعين.
جاءت الأفلاطونية من أثينا إلى الإسكندرية، فانطبعت بالطبع الشرقي الصوفي - على يدي أفلاطون في القرن الثالث الميلادي - وهو رجل ولد في أسيوط، وتعلم في الإسكندرية، فكان هو الذي أنشأ ما نسميه في تاريخ الفلسفة، بالأفلاطونية الجديدة، وقد كان لها بالغ الأثر - فيما بعد - على الفلاسفة المسلمين، الذين أطلقوا عليها أحيانا اسم: مذهب الإسكندرانيين.
وهل نحن بحاجة إلى القول، بأن هذا الشرق الأوسط في روحانيته منذ أقدم عصوره، هو الذي اختاره الله ليكون مهبط وحيه الذي أوحى به إلى موسى وعيسى ومحمد، عليهم جميعا صلاة الله وسلامه؟
لقد كانت الإسكندرية حامية المسيحية في قرونها الأولى، وفيها بدأ اللاهوت المسيحي لأول مرة، ينسق بين العقيدة من جهة، والعقل الفلسفي من جهة أخرى، مما رسم الطريق أمام أوروبا المسيحية بعد ذلك، طوال العصور الوسطى، وذلك دليل على اجتماع أمرين لأهل بلادنا، كما زعمنا، وهما القلب والعقل معا، أو قل: الإيمان والعلم، العيان المباشر ومعه عملية التحليل العقلي.
إنه كثيرا ما عرض الكتاب الغربيون للفوارق التي تميز الغربي من الشرقي في التفكير، حتى لقد ذهب رجل مثل الشاعر البريطاني، رديارد كيلنج، إلى القول المشهور: الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا. ولعل هذه التفرقة بين شرق وغرب، هي التي أثارت الزوبعة الخفيفة التي ثارت في أول الستينيات، عندما نشرت هذا الرأي في اختلاف الثقافات، لما رسب في أذهاننا من آثار سياسية سيئة بقسمة العالم إلى شرق هنا وغرب هناك، لكن فات الجميع فكرة أساسية أكدتها، ومن أجلها نشرت الكتيب الذي نشرته، وهي الفارق الثقافي من حيث الجذور، بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط، فجعلوهما معا من الناحية الثقافية «شرقا» واحدا، مع أن هذين الشرقين - الأقصى والأوسط - وإن تشابها في النظرة الحدسية المباشرة، فهما بعد ذلك يختلفان، في أن الشرق الأوسط يضيف إليها نظرة علمية عملية. وكذلك من الناحية الأخرى، يتشابه الشرق الأوسط مع الغرب في النظرة العقلية العلمية العملية، ثم يختلفان بعد ذلك، في أن الشرق الأوسط يضيف إليها نظرته الصوفية الدينية.
على ضوء هذا الذي قلناه، نستطيع أن نرى وجه الخطأ في آراء المستشرقين الذين تصدوا لتحليل العقل العربي. ووجه الخطأ عندهم دائما، هو أنهم نظروا من جانب واحد إلى عقل هو بطبيعته ذو جانبين، يقول «ليون جوتييه» في كتابه عن الفلسفة الإسلامية: «إن العقل «السامي» - وكان يقصد العقل العربي - يترك الأشياء مفرقة ومفككة كما يصادفها، وكل ما يفعله إزاءها، هو أن يقفز قفزات مباغتة من شيء إلى شيء، بغير ربط ينسقها معا، بما يراه فيها من تدرج. على حين أن العقل «الآري» - وكان يقصد العقل الأوروبي - يركب الأشياء المختلفة تركيبا يعتمد على روابط متدرجة، تجعلها وثيقة العرى بعضها مع بعض، حتى ليصبح الانتقال من شيء إلى شيء أمرا طبيعيا.»
ونحن نصحح هذا الذي قال جوتييه، فنقول إن ذلك الانتقال المباغت، من جزئية واحدة إلى جزئية أخرى، هو جانب ما يميز النظرة الحدسية، لو أخذناها من سطحها الظاهر؛ ذلك لأنه لا مندوحة لصاحب النظرة الفنية - مثلا - عن الوقوف أمام هذه الزهرة اليوم، وأمام ذلك الغدير غدا، لكنه قد يغوص داخل الجزئية الواحدة ليبرز حقيقتها الباطنة إبراز بين روابط القربى وبين سائر أجزاء الكون. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن ما قاله جوتييه إنما يصدق على الجانب الحدسي وحده، من جانبين يؤلفان العقل العربي. وأما الجانب الآخر الذي أسقطه من حسابه، كعادة المستشرقين دائما، فهو الجانب العلمي المنطقي الذي عرف به الشرق الأوسط خلال تاريخه.
فالنظرة الصوفية والنظرة العلمية، اللتان قال عنهما رديارد كيلنج إنهما لن تلتقيا، قد تلاقتا بالفعل في أمة، جعلها الله أمة وسطا، هي الأمة العربية.
أفكار في حياتنا العقلية
أنشأت وزارة الثقافة سنة 1965م مجلة «الفكر المعاصر»، وكنت أول من قام على إنشائها، وأول من أشرف على تحريرها. وقد روعي في تلك المجلة أن تكون معرضا للأفكار المؤثرة في عصرنا، بغض النظر عن مصادرها وألوانها، لكنني بالإضافة إلى هذا الهدف العام، وضعت لنفسي هدفا آخر موازيا له، ألا وهو إلقاء الأضواء على طائفة كبيرة من المفهومات العقلية التي شاعت في مجتمعنا خلال الستينيات بصفة خاصة، شيوعا جعل الناس يألفون سمعها إلفا أنساهم حقيقة معانيها، فكانت - في رأيي - بحاجة شديدة إلى تحليل وتوضيح، ليكون قبولها - بعد ذلك - أو رفضها، قائما على أساس من الفهم الصحيح، لا على مجرد العادة الآلية التي تنتج من تكرارها على ألسنة المتكلمين أو أقلام الكاتبين.
لقد كان - ولا يزال - من أسهل السهل على المتكلم أو على الكاتب أن يستخدم عبارات ومقابلات، من أمثال: إرادة التغيير، ووحدة التفكير، واليمين واليسار، وصلة الفكر بالحياة، والفردية والمواطنة، والثقافة والمثقفون، والصراع الفكري، والمنهج الجدلي، وهكذا وهكذا، دون أن يتأرق جنب لذلك المتكلم أو الكاتب، من غموض يكنف تلك الأفكار الأساسية، التي كانت - وما زال بعضها - قائما في حياتنا، وكأنه المحاور التي تدور حولها أرجاء الإصلاح والتغيير والتطوير التي نسعى نحو تحقيقها، فتناولتها بالتحليل، للكشف عن مضموناتها، لعل ذلك أن يكون هاديا لنا في السير على الطريق الصحيح.
وأود هنا أن ألاحظ ملاحظتين: الأولى، هي أنني ممن يعتقدون في أن النشاط الفلسفي، إنما هو في حقيقته نشاط يلقي الأضواء على الأفكار الشائعة، وليس من الضروري أن يضيف من عنده فكرة جديدة، شأنها في ذلك شأن المنظار الذي يوضح الرؤية، دون أن يزيد من عدد الكائنات المرئية. والملاحظة الثانية، هي أن طائفة ضخمة من أعلام الفلاسفة، كانت هذه هي رسالتها الأساسية. خذ سقراط مثلا لهؤلاء؛ فهو إنما سعى إلى تحليل المفهومات السائدة في عصره وتوضيحها وتحديدها. وأستطيع أن أسوق لذلك أمثلة كثيرة أخرى.
وإذن فقد كنت أمينا على رسالة الفلسفة، حين تناولت مفهوماتنا الجديدة بالتحليل والتوضيح، وهما تحليل وتوضيح كثيرا ما انتهيت بهما إلى نتائج كانت تثير الدهشة عند المعارضين، دون أن يجدوا موضع ضعف في خطوات التحليل التي أدت إليها. ولأضرب لذلك مثلا واحدا، هو الطريقة التي حللت بها مفهوم «الصراع الفكري»؛ فلقد كانت عبارة «الصراع الفكري» شائعة خلال الستينيات شيوعا يلفت النظر؛ إذ كان كثيرون منا يستخدمونها ليصفوا بها كل اختلاف في الرأي حول مشكلة مطروحة، دون أن يتحملوا عناء النظر في ذلك الاختلاف، أهو حقيقي بحيث يستحق أن يكون صراعا، أم هو اختلاف ظاهري لا يتعدى الألفاظ وطرائق استعمالها؟
تناولت اختلاف الرأي حول مشكلة بعينها، لأحلله إلى جوانبه وأبعاده، فإذا بالتحليل يهديني إلى أن لمثل هذا الاختلاف في الرأي صورا أربعة؛ واحدة منها فقط هي التي يجوز أن توصف بأنها صراع فكري. وأما الثلاثة الأخرى، فهي في الحقيقة أقرب إلى التعاون والتكامل بين مختلف الأطراف، منها إلى أن تكون صراعا، وهذه الصور الأربع هي:
أولا:
أن تكون هنالك مشكلة معينة مطروحة للحل، فيقترح لها حلان، بحيث إذا ثبت أن أحد الحلين هو الصحيح، تحتم أن يكون الحل الثاني باطلا. وفي مثل هذه الحالة، يكون الاختلاف على طريقة الحل، هو الذي يمكن وصفه بأنه صراع بين فريقين؛ فمثلا، إذا كانت المشكلة المطروحة هي: من الذي يملك وسائل الإنتاج، كالمصانع وغيرها؟ هنا قد تكون إحدى الإجابات هي أن الذي يملكها هو الدولة، وقد تكون هناك إجابة أخرى، هي أن الذي يملكها هو الفرد أو مجموعة الأفراد الذين أنشئوها؛ فهذان جوابان مختلفان في الأساس، بحيث إذا صح أحدهما كان الآخر مرفوضا؛ فيحق لنا في حالة كهذه أن نقول إن ثمة صراعا بين الفريقين. وتلك هي الصورة الوحيدة من بين الصور الأربع لضروب الاختلاف، التي تكون صراعا فكريا بحق. وأما الصور الأخرى، التي سنذكرها، فليست من الصراع في شيء. وإن الصراع الفكري ليتبدى في مجتمعنا حول مشكلات كثيرة؛ مثل: من الذي يضطلع بنفقات التعليم: الدولة أم المتعلمون أنفسهم؟ ومثل: من الذي يكون له حق الطلاق بين الزوجين: أيكون هذا الحق لأحدهما منفردا، أم يكون للقاضي؟ وهكذا. على أن أمثلة هذا الصراع الفكري، بالمعنى الذي حددناه له، ليس فيها بأس، ما دامت تؤدي في نهاية الأمر إلى حل يرضى عنه أكثرية المواطنين.
ثانيا:
هنالك صورة أخرى لاختلاف الرأي، ليست صراعا بالمعنى السابق، بل هي صورة من شأن الاختلاف فيها أن يزيد الأمر وضوحا، وتلك هي حين أن يعرض للمشكلة المطروحة حلان، يختلفان في الصياغة اللفظية وحدها، لكن المعنى في كلتا الحالتين واحد؛ ولذلك فإن صواب إحدى الصياغتين، يكون هو نفسه دليلا على صواب الصياغة الأخرى. ومن الأمثلة على ذلك مشكلة كانت أثيرت خلال الستينيات عن نظامنا الاشتراكي، هل هو اشتراكية عربية؟ أو هو تطبيق عربي للاشتراكية؛ فحاولت من ناحيتي أن أبين بالتحليل أن الإجابتين معناهما واحد، لا اختلاف بينهما إلا في طريقة الصياغة اللفظية؛ وبالتالي فهو اختلاف ليس من قبيل الصراع الفكري.
ثالثا:
هنالك صورة أخرى لاختلاف الرأي بين الناس، مما لا يبلغ أن يكون صراعا فكريا؛ لأنه في حقيقته يكون تكاملا بين مختلف الأطراف، لا تعارضا، وذلك حين تطرح مشكلة معينة، فيجيء لها حلان من ناحيتين مختلفتين، لكننا إذا دققنا النظر في هذين الحلين، وجدنا أحدهما يحل جانبا من المشكلة، والآخر يحل من المشكلة جانبا آخر؛ ففي هذه الحالة، أولى لنا أن نجمع الحلين معا في صيغة واحدة، لا أن نعارض بينهما، ثم نتوهم أنه صراع فكري. خذ مثلا لذلك مشكلة طرحناها، وأظنها ما زالت مطروحة بيننا، وهي خاصة باللغة التي نستخدمها: أتكون هي العربية الفصحى؟ أم تكون هي العامية المصرية؟ فترى فريقا يقول إنها العربية الفصحى، وفريقا آخر يقول: بل هي العامية المصرية؟ لكن انظر من قرب إلى المشكلة تجد لها الحلين معا؛ فالفصحى هي التي لا بد من استخدامها في مواقف بعينها، والعامية المصرية هي التي لا يجوز استخدامها في مواقف أخرى. ومعنى ذلك أن الإجابتين لا تتعارضان بقدر ما يمكن لهما أن تتعاونا معا على الحل الصحيح.
رابعا:
وأخيرا هنالك حالات من اختلاف الرأي، نرى فيها أن السؤال المطروح للجواب، هو في الحقيقة مشكلتان دمجتا معا في سؤال واحد، وهنا قد تجيء لنا إجابتان من ناحيتين مختلفتين، إلا أن إحداها تجيب عن إحدى المشكلتين، بينما تجيب الأخرى عن المشكلة الثانية، وهنا أيضا لا صراع، بل تكامل بين الإجابتين.
ذلك مثل للتحليلات التي أخذت أوضح بها أفكارنا. والذي عجبت له حقا، هو أنني وجدت من النقاد من يكرهون أن يزال عن الأفكار غموضها، خشية منهم أن يتحول الصراع المزعوم إلى تعاون وتكامل.
ثقافتنا برؤية جديدة
لم أنقطع خلال هذه الأعوام التي انقضت من السبعينيات، عن محاولة النظر إلى مستقبل الثقافة العربية: كيف يكون؟ وإنه لسؤال وارد وملح، لا بالنسبة للأمة العربية وحدها، بل هو سؤال وارد وملح في كل البلاد الأخرى، ذات الحضارة القديمة، والتي شهدت في تاريخها عظمة ومجدا في ظل حضاراتها تلك، ثم ما هو إلا أن دار الزمان دورته، فإذا للدنيا حضارة جديدة تقوم على أسس أخرى، غير الأسس التي قامت عليها تلك الحضارات، فماذا نحن صانعون؟ إن بين أيدينا، وفي شعاب عقولنا، وشغاف قلوبنا، تراثا من عقيدة ولغة وشعر وموسيقى وأدب وعمارة ونظم اجتماعية للأسرة ولما هو أوسع حدودا من الأسرة وغير ذلك من جوانب الحياة المتعددة، ولكننا في الوقت نفسه مواجهون بحضارة عصرية جديدة، ما تنفك تفتح علينا أبوابنا ونوافذنا، أو نفتح عليها نحن أبوابها ونوافذها لتدخل ساحتنا. ولو كان الوضع الأصيل المستقر الموروث، على توافق تام مع ما يتسلل إلينا من حضارة العصر خلال النوافذ والأبواب، لما كان هناك إشكال يستحق النظر، لكنهما ليسا دائما على مثل هذا التوافق التام، مما يدعونا إلى التساؤل مرغمين لا مخيرين: ماذا نحن صانعون في الحالات التي يكون فيها شيء من التنافر بين قديمنا وجديد العصر الذي تحيط بنا مؤثراته وعوامله؟
ونظرت إلى مسيرة حياتنا الثقافية إبان هذا القرن العشرين منذ أوله، لأرى كيف سارت بنا تلك الحياة خلال ثلاثة أرباع القرن، لعل ذلك بذاته يشير إلى المستقبل الذي نحن صائرون إليه. وأخذت أنقل نظري عبر هذه الفترة، واقفا عند كل عشار من السنين، فإذا بي ألمح خطوات مطردة تسير كلها قدما، وكأنها تستهدف غاية مقصورة.
ففي عقد العشرة الأولى من هذا القرن، كان هنالك الإمام محمد عبده في أواخر أعوام حياته، وكان معه لطفي السيد، وقاسم أمين، ومصطفى كامل. فهل يمكن لعين الرائي أن تخطئ نقطة الالتقاء، التي اجتمع عندها هؤلاء جميعا ، على اختلاف نزعاتهم؟ ألا نقول، ونحن مطمئنون إلى صواب ما نقوله، إنهم جميعا كانوا يستهدفون الحرية، كل منهم يستهدفها من أحد جوانبها؟ كانوا كلهم رسل ثقافة جديدة، ولكن كل واحد منهم التمس لثقافته الجديدة وجها وطريقا، غير الوجه والطريق اللذين التمسهما الآخرون: كان الإمام محمد عبده يريد للثقافة الجديدة أن تكون ضربا من الإحياء الديني على ضوء العلم الجديد؛ بحيث يبدو إسلام المسلم متسقا أتم اتساق مع النظرة العلمية الوافدة إلينا من حضارة العصر، والتي لعلها أن تكون أهم ما تحمله إلينا الحضارة الجديدة؛ فالحرية التي تتحقق لنا عن هذا الطريق الذي سلكه محمد عبده، هي في صميمها تحرر من خرافة وجهل، لو أزلناهما عن إسلامنا، ظهر هذا الإسلام بوجهه الصحيح، وهو وجه لا يتنافى مع لب الحضارة العصرية، الذي هو - كما قلنا - تقدم في مجال العلوم.
وكانت الحرية التي أرادها لطفي السيد، هي حرية العقل وما تؤدي إليه من نتائج؛ فلا قيد على الفكر إلا ما يقتضيه منطق العقل. وكانت الحرية التي غلبت على مصطفى كامل، حرية سياسية من المستعمر الذي احتل بلادنا. وأما الحرية التي عمل على تحقيقها قاسم أمين، فقد كادت تنحصر في مجال اجتماعي واحد، هو تحرر المرأة من حجابها، وبالتالي تحررها من أغلالها الأخرى.
وجاء العقد الثاني من أعوام القرن العشرين، فكان من أبرز معالمه الثقافية أن ولدت القصة بمعناها الغربي الجديد، على يدي الدكتور هيكل، وولد إلى جوارها ميزان جديد لشعر جديد، على أيدي العقاد وزملائه، وبين هاتين الولادتين لما هو جديد في الأدب والشعر، عكف لطفي السيد على ترجمة الفلسفة الأرسطية إلى العربية؛ فماذا تعني هذه الجوانب الثلاثة مأخوذة معا، إلا أننا قد فتحنا بأيدينا أبوابنا لنتلقى حضارة الغرب - قديمها اليوناني، وجديدها العصري - على حد سواء؟ فإذا أضفنا هذا الخط الذي ظهرت معالمه واضحة في العقد الثاني، إلى الخط الذي كان قد برز في العقد الأول من السنين، رأينا كيف أخذت قيمتان من قيم حياتنا الجديدة، تتضافران معا، هما الحرية من جهة، وقبول القوالب الأدبية والفكرية من الغرب، من جهة أخرى.
وانتقلنا إلى العقد الثالث، وهو سنوات العشرينيات، التي كانت بحق عصر تنوير شامل؛ فقد رأينا الكتاب في تلك الفترة، لا يقفون عند مجرد الكتابة كما اتفق، بل كان كل كاتب منهم يضرب بقلمه على الورق فيشق طريقا جديدا: حرية الشاعر في تصوير ذاته المقررة المستقلة، وكان ذلك عند العقاد في شعره؛ وحرية المواطن في اختيار حكامه، وكان ذلك عند الدكتور هيكل وعند علي عبد الرزاق، كل منهما بطريقته؛ وحرية الناقد الأدبي في النظر إلى النصوص القديمة، وكان ذلك عند طه حسين؛ وحرية الموسيقي وتحرره من تقليد الطرب، وكان ذلك عند سيد درويش؛ وحرية العقيدة بأوسع معانيها، وكان ذلك عند سلامة موسى. هكذا جاءت امتدادات الدعوة إلى الحرية، لتنشر ضلوعها، فتشمل رقعة الحياة الفكرية والذوقية، ثم جاءت معها امتدادات أخرى لنقل القوالب الأدبية والفنية عن الغرب، مع ملء هذه القوالب المستعارة بحياتنا نحن، فكان أن بدأ شوقي المسرحية الشعرية، وبدأ توفيق الحكيم المسرحية النثرية، من حيث هي إبداع أدبي، لا يتوقف على تجسيده فوق المسرح.
وجاءت الثلاثينيات بعد ذلك، لتواصل مسيرة العشرينيات في توسيع رقعة الأساسين اللذين أرسيت لهما الدعائم منذ العشار الأول، وهما أساس الحرية من ناحية، وأساس التمكين للنظرة العقلية من ناحية أخرى. على أن نفهم هذا التمكين للنظرة العقلية، مكتسيا بلواء الحرية، فهما يشمل قبولنا للأشكال الثقافية الغربية، ما دمنا نحرص على تضمينها حياة عربية أو مصرية خاصة، لكننا في الثلاثينيات أخذتنا الخشية أن يكون قبولنا للقوالب الغربية عاملا على محو الشخصية الموروثة، فانتبهنا إلى إحياء التراث، وإلى الإشادة ببطولات الماضي، على نطاق واسع؛ حتى لم يعد كاتب واحد من كتابنا إلا وأخرج الكتب في هذه الإشادة أو في ذلك الإحياء.
فلما بلغت الحرب العالمية الثانية نهايتها في وسط الأربعينيات، كانت كل تلك العوامل السابقة، قد أخذت تتفاعل، فبدت في الأفق إرهاصات قوية لظهور ثقافة جديدة، تتسم بالإيجابية، وبالمحلية ، وبلمسة الحياة الواقعة، وبالغوص في أعماق النفس المصرية، وأعني بها ثقافتنا خلال الخمسينيات والستينيات، بوجه عام.
فإذا عدت بعد هذا العرض السريع لمسيرتنا الثقافية خلال ثلاثة أرباع القرن، وسألت سؤالي الذي بدأت به، وهو: على أي صورة سيكون المستقبل في حياتنا الثقافية؟ وجدت الجواب، وهو: على غرار الخطى التي خطوناها، معتمدين على ركيزتين؛ هما: مزيد مطرد من الحرية، وثقة بالعقل وبالعلم تزداد مع السنين.
واجب المثقفين
كان أبو العلاء المعري - كما قال عن نفسه - رهين محبسين؛ إذ كان رهين ظلام فرضه عليه كف البصر، كما كان في الوقت نفسه، رهين داره لا يغادرها. وكان وهو مستتر وراء ذينك المحبسين، ينعم بينه وبين نفسه بثقافة عريضة عميقة؛ فكان في مستطاعه - لو أراد - أن يقنع بذلك العالم الفسيح الآفاق، الذي يستعيض به عن رؤية البصر ومخالطة الناس، لكنه مع ذلك أحس في فؤاده قلقا لا يتركه ليستريح إلى ثقافته تلك، العريضة العميقة الفسيحة الآفاق، فكأنما كان يخاطب نفسه - في لحظة من لحظات قلقه - حين أنشد بيتيه من الشعر، اللذين يقول فيهما:
ولو أني حبيت الخلد فردا
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا نزلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
لا، لم يعد أبو العلاء في تلك اللحظة راضيا بانفراد، حتى لو كان انفراده ذاك في جنة الخلد، لا انفرادا في محبسيه. وماذا تجديه سحائب الغيث مهما غزر عطاؤها، إذا لم يكن ذلك الغيث قسمة بينه وبين الناس؟! لقد أراد يونس - عليه السلام - أن ينجو بنفسه من عبء الواجب الاجتماعي الذي ألقي عليه، ففر إلى شاطئ البحر؛ حيث وجد سفينة على أهبة الإقلاع، واستقلها مع المسافرين إلى حيث لا يدري، وانقلبت السفينة بمسافريها، وكان أن ابتلعه حوت؛ فكأنما أرادت له مشيئة الله أن تذهب به العزلة التي أرادها لنفسه، إلى آخر مداها. وماذا تكون العزلة في أقصى درجاتها، إن لم تكن هي هذه الصورة الغريبة الفريدة، التي أوى بها يونس إلى جوف الحوت، لا يرى من الدنيا الخارجية أرضا ولا بحرا ولا سماء ؟! فما إن ألقى الحوت بحمله على شاطئ البحر، حتى فقه يونس معنى الرسالة التي أريد له أن يؤديها، وهي أن يعود إلى الناس ليسهم في حياتهم وفي إصلاحها.
كانت هذه الصور وأمثالها، هي التي تراءت لي ذات صباح بارد في جوف الشتاء، وكنت عندئذ في مكتبة عامة، أستدفئ بدفئها، وأغتذي من كتبها، فأقرأ وأكتب، ما حلت لي القراءة، وما وسعتني الكتابة، لكن صوتا فاجأني من صميم نفسي، يسألني: ثم ماذا؟ إنك بكل هذه القراءة والكتابة، إنما تثقف نفسك المفردة، لكنك لا تؤدي واجب المثقفين!
ليست الثقافة الصحيحة هي التحصيل الأكاديمي للعلم، مهما بلغ مداه، بل لا بد أن يضاف إلى ذلك التحصيل عملية هاضمة، تبلور المقروء في قيم جديدة تنشر في الناس. إنه لا يكفي أن يلم المثقف بعناصر الحياة من حوله، إلماما باردا لا حياة فيه، بل لا بد له إلى جانب ذلك، أن ينفذ برؤيته الجديدة، إلى حيث تكمن المعوقات في حياة الناس، فيخرجها لهم ويلقي عليها الأضواء، ليراها كل ذي بصر، وذلك هو الالتزام الذي لا مناص للمثقفين من الاضطلاع به. إنه التزام بالحق، يرونه ثم يعلنونه.
إن أحداث الحياة كما تقع، قد يراها الجميع على حد سواء، لكن الذين يتفاوتون في رؤيته، هو امتدادات تلك الأحداث؛ فإلى أي شيء تؤدي تلك الوقائع التي تحيط بنا؟ ما هي صورة المستقبل الذي تتمخض عنه اللحظة الحاضرة؟ هذا هو نوع الأسئلة، التي قد لا يستطيع الجواب عنها إلا من أرهفت الثقافة قدرته على الإدراك، وليس هو من قبيل الإدراك بالغيب المجهول، بل هو إدراك للغائب المستتر وراء الحاضر كما تراه العين وتسمعه الأذن.
ومثل هذا التنوير، الذي يلقي الأضواء على خفايا اللحظة الحاضرة، وما عسى أن يتولد عنها، هو واجب محتوم على المثقفين، وهو الواجب التي تصدت له الفلسفة في شتى عصورها. وعندما ننادي بأن يخرج فلاسفة الجامعة من عزلتهم الفكرية، إلى حيث يشاركون في عملية التنوير، فإنما نريد لهم - بعبارة أخرى - أن يعمقوا شعور الناس بمشكلاتهم الفكرية نحو توجه خاص؛ ففي مرحلة التحول الاجتماعي التي تعبرها الأمة من وجه حضاري إلى وجه حضاري آخر، ترتج القيم، وتنبهم الرؤية ويختلط أمام الأعين طريق الصواب وطريق الخطأ؛ وعندئذ تدعو ضرورة الموقف أن يشعل المثقفون مصابيحهم التي في أيديهم، لتتحول معارفهم النظرية إلى هداية عملية.
ماذا نعني عندما نتحدث عما نسميه بثقافتنا القومية؟ إننا لا نعني بهذه العبارة إلا حاصل جمع المعارف والمهارات التي حصلها الأفراد. ولو اقتصر كل فرد على نفسه هو، فيما قد حصله، لكان هنالك أفراد مثقفون، ولكن ليس هنالك ثقافة قومية. فإذا عرفنا أن العالم الخارجي لا يشعر بالوجود الحضاري لأمة من الأمم، إلا عن طريق ثقافتها القومية، لا عن طريق الثقافات الفردية المتناثرة، أدركنا كم هو ضروري ومحتوم أن تنصهر الروافد المتفرقة لتجتمع كلها في تيار واحد. ولا يجمع تلك الروافد المتفرقة في تيار قوي عميق، إلا أن تجتمع معا على مشكلات الحياة العامة، تحللها، وتعللها، وترسم لها طريقة الحل.
الفرد المثقف الواحد في عزلته، قد يدرك ذات نفسه، لكننا إذا أردنا للأمة في مجموعها أن تدرك ذاتها، وتشعر بحقيقة نفسها، فلا يتحقق لنا ذلك إلا حين تنصب جهود المثقفين الأفراد، لتلتقي في نقطة مشتركة. ولقد قيل إن هنالك جوانب ثلاثة للأمة النابضة عروقها بدم الحياة، وهي أن تشعر بذاتها أولا، وأن تعبر عن ذاتها تلك ثانيا، وأن تشعر هذه الذات بغيرها ثالثا. وإذا كان هذا هكذا، فليس ثمة أمة شهدها التاريخ، قد حققت هذه الجوانب الثلاثة، بأوضح مما حققته منها الأمة الإسلامية في ازدهارها الحضاري؛ فقد تصورت ذاتها أجلى ما يكون التصور، ثم عبرت عن ذاتها أقوى ما يكون التعبير، ومدت آفاقها لتصل إلى حضارات الآخرين، أوسع ما يكون الامتداد. ويبقى على الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر، أن تصنع صنيع أسلافها.
تلك كانت سلسلة الخواطر في رأسي، وكيف تتابعت ذات لحظة من أواخر الستينيات، فكانت أولى ثمارها، محاولة متواضعة دعوت بها إلى ما أسميته بتجديد الفكر العربي، وموجزه أن نتجانس مع حضارة العصر في علومها وتقنياتها وكثير من نظمها، فنقبلها عن طواعية ورضى، بل نسهم في تطويرها ونمائها، وأن نتجانس - في الوقت نفسه - مع أسلافنا في الوقفة الذوقية والخلقية، ليكون لنا من هذين العنصرين، وجود في الحاضر، وانتماء في التاريخ.
موقفنا بين عصرين
لم تكن هذه اللحظة الأخيرة التي أتحدث عنه الآن، لحظة قصيرة، ما جاءت إلا لتمضي، بل هي لحظة استغرقت من حياتي الثقافية مرحلتها الأخيرة كلها، التي لبثت معي حتى اليوم، منذ عشر سنوات أو نحوها؛ فقد كنت قبل ذلك واحدا من كثرة كثيرة من المثقفين العرب، الذين فتحت عيونهم منذ الطفولة وخلال الصبا، وانتهاء بنضج الرجولة؛ فتحت عيونهم طوال أعمارهم، على فكر أوروبي، حتى سبقت إلى أوهامهم الظنون بأن أوروبا هي العالم كله، من مبتدئه إلى منتهاه، وبأن الفكر الأوروبي هو وحده الفكر الإنساني دون سواه. ولبثت هذه هي حالي أعواما بعد أعوام، كان الفكر الأوروبي محور دراستي أيام التحصيل، ثم كان مدار عملي بعد ذلك. وأما التراث العربي فلم تكن له في رأسي إلا أصداء خافتة جمعها على مر الأيام، من القراءات الخاصة المبعثرة؛ ولذلك لم تكن لعصور ذلك التراث عندي صور متكاملة؛ فقد أعلم شيئا عن الجاحظ، وشيئا عن المتنبي، وثالثا عن ابن خلدون، لكنني لا أستطيع أن أضع هذه الأجزاء المفككة في تسلسل، يبين لي عن أي جزء منها، متى كان وأين ولماذا؟
ثم سنحت لي تلك اللحظة المباركة، التي امتلأت فيها بالعزم المصمم، على أن أتدارك ما فاتني، من الإلمام بتراثنا العظيم، ما وسعني ذلك، من جهد محدود، وبقية من عمر، فأخذت أنضح مما حولي من ينابيع ذلك التراث نضحا، ينتظمه المنهج حينا فيسير على هدى، ويخبط خبط الجائع الملهوف حينا آخر، فيخطف لقمة من هنا ولقمة من هناك. وكنت في كلتا الحالتين أقرب شبها بمسافر غريب، جاء إلى مدينة لم يجس خلالها من قبل، فتقع عيناه على ما تغفل عنه أعين سكانها الأصليين؛ إذ أعين الناس كثيرا ما تغفل عن الشيء المألوف، إلى أن يجيء المسافر الغريب فيراه، ولكنني في الوقت نفسه كنت معرضا للوقوع في أخطاء لا يقع فيها من يألف المكان ومحتواه.
ومع ذلك، فقد مضيت، تدفعني الرغبة الجامحة في أن أكمل نقصا كان معيبا في ثقافتي، كما هو - من غير شك - نقص معيب في ألوف آخرين ممن ساروا في نشأتهم الدراسية كما سرت. وما أكثر ما دهشت، عندما كنت ألاحظ لنفسي - فيما أقرأ - بعض الملاحظات، فأتحدث فيها مع زملائي من أهل الاختصاص العلمي في جوانب ذلك التراث، فإذا هم لم يلحظوا بسبب الإلف - ما لحظت - فكان ذلك يزيدني رغبة، ويزيدني جرأة، حتى انتهيت إلى محصول، رأيت من الإخلاص للتاريخ الفكري أن أعرضه على الناس، في كتب ومقالات، تلاحق صدورها منذ ذلك الحين.
على أن كل قضية فكرية مما كان يعرض لي أثناء السير، سرعان ما كانت تفجر معها قضية أخرى، ثم ثالثة ورابعة؛ فمثلا: كنت أتساءل - كلما مضيت في قراءتي - ترى هل ينفعنا هذا الميراث فيما نحن فيه الآن؟ وإلى أي مدى؟ ثم لا ألبث أن أسأل نفسي قائلا: وما هو على وجه الدقة هذا الذي نحياه الآن؟ ما هي العناصر الأساسية التي يقوم عليها عصرنا، لنكون على بينة منها، قبل أن نجيب عن سؤال يسألنا: أيصلح ميراثنا الفكري لعصرنا الحاضر أم لا يصلح؟ حتى إذا ما تكاملت لدي جوانب من الحياة المعاصرة، تكفي للمقارنة وللحكم، رأيت المشكلة الأساسية وقد تبلورت أمامي؛ حيث ما زالت قائمة إلى يومنا هذا، تتحدانا جميعا بالبحث والتفكير من أجل جواب مقنع مفيد، وهي: كيف نمزج مزجا طبيعيا حيا بين ذاتنا القومية ذات العناصر الموروثة، وبين الأركان الأساسية من حضارة العصر؟
ولم تكن هذه المشكلة مقصورة علينا وحدنا، بل كانت مشكلة شغلت طوائف المفكرين والأدباء، في سائر الأقطار ذوات الحضارات القديمة، كالهند والصين واليابان وأمريكا اللاتينية؛ ولذلك عن لجماعة من أهل الرأي في باكستان، أن يقيموا ندوة ثقافية عالمية، يدعون إليها نفرا ممن يمثلون تلك الأقطار ذوات الحضارات القديمة، ليتدارسوا معا عسى أن يصنعوا في موقفهم بين الحضارتين. كان ذلك في سنة 1965م أو نحوها، وكنت ممن سعدوا بالدعوة لحضور تلك الندوة التي انعقدت في مدينة لاهور بباكستان. وكان أهم ما خرجت به من الندوة، ليس هو حلا معينا بذاته تحل به المشكلة المعروضة، بل هو أن لتلك المشكلة الثقافية أهمية خاصة، تجعل لها - أو يجب أن تجعل لها - أولوية على كل ما عداها في حياتنا الفكرية؛ لأن محاولة حلها، ترسم أمامنا طريق السير كيف يكون، وإلى أي اتجاه يميل.
إننا اليوم في مرحلة التحول بين عصرين. وإنها لبديهية واضحة، أن القيم والمعايير التي يقيس بها الناس أفكارهم وسلوكهم، ليميزوا فيها بين الصحيح والضال، لا بد أن يصيبها اهتزاز وغموض في مراحل التحول؛ إذ هي لا تستقر، ولا تتحدد معالمها، إلا حين تطرد أساليب الفكر وطرائق العيش. فإذا قال قائل، والناس في مرحلة التحول، يجب التمسك بما كان سائدا في العصور الماضية، كان بقوله هذا، بمثابة من ينكر أننا نتحول من عصر إلى عصر؛ لأنه يريد للحاضر أن يكون امتدادا للماضي بغير تفرقة ولا تمييز. إنه لا مندوحة - لمن يجتاز مرحلة التحول كالتي نجتازها - عن الاستجابة المتوثبة السريعة لعوامل التغير من حوله، وإلا أورد نفسه موارد الهلاك، إذا هو - في خضم التغير الذي يحيط به - لجأ إلى قواعد سلوكية خلقت لتجيب عن بواعث أخرى غير البواعث المؤثرة فيه الآن. وهل هنالك ما هو أوضح من القول بأن حكمنا على المستقبل بقواعد الماضي هو حكم يفترض الثبات والاطراد في صورة الحياة، مع أن مثل هذا الثبات ليس له وجود؟
لكن هذه الضرورة الحتمية الموجبة لسرعة التغير، لنرد على العوامل الحضارية الجديدة بما يلائمها، لا بد أن تصاحبها ضرورة حتمية أخرى، توجب علينا أن تجيء ردودنا تلك التي نرد بها على العوامل الحضارية الجديدة، ردودا متميزة بالطابع الشخصي الأصيل، الذي لا نحاكي به أحدا، وهي أصالة لا تتوافر لنا، إلا عن طريق امتلائنا بروح تراثنا؛ بحيث نحافظ على الموقف الذوقي الخاص، الذي عرف به أسلافنا. أعني أن نحافظ على طرائق الحكم على الأشياء والمواقف، حكما أخلاقيا أو حكما إجماليا، لا نراعي فيه إلا وجهة النظر المأثورة عن تاريخنا الماضي. ولعل شيئا كثيرا جدا من هذا الحكم الذوقي الأخلاقي، يكتسب عن طريق دوام اللغة العربية، بما تحويه في بطونها من أصول ثقافية وفنية، كما يكتسب عن طريق استمرارنا في إطار تشريعي ثابت، على الأقل من جهة الأصول.
تلك كانت، هي وأمثالها، إيحاءات اللحظة الخصبة الفريدة، التي أخذني فيها العزم على أن أكمل النقص من جوانب ثقافتي، فبدأت الغوص في بحر الثقافة العربية. فإذا لم أجد الفرصة سانحة لما يشبه المعرفة الشاملة، والإلمام الكامل، فلا أقل من أن أضيف إلى فكري إضافات، تبرر أن أكون عربيا معاصرا.
من تحولات العصر
عودة إلى قواعد
لقد أردت عن عمد أن أورد في هذا العنوان كلمة «قواعد» نكرة، لا تقيدها أداة التعريف؛ فلست أحب أن تفرض علينا القواعد المعينة المحددة من أرض غير أرضنا، ولا من عصر غير عصرنا. ولكنني في الوقت نفسه لا أتصور حياة للفكر أو للفن دون أن تضبطها «قواعد» يقيمها أصحاب المواهب العليا فيما يبدعونه، فيجري على طريقهم أصحاب المواهب المتواضعة، وعندئذ يقال إن «مدرسة» في الفكر أو في هذا الفن أو ذاك قد نشأت، كان فلان منشئها وإمامها، ثم اقتفى أثره الأتباع. وأما أن يقال إن رجل الفكر أو رجل الفن حر في إبداعه حرية مطلقة، لا إلزام عليه من أحد في منهاج عمله، ولا التزام أمام نفسه بما قيدته به من ضوابط الحركة، فتلك هي الفوضى، التي سرعان ما يذهب زبدها جفاء.
نعم، إنه من طبائع الأمور، أنه إذا نشبت حرب كبرى تهز العالم، كله أو معظمه، وإذا ما اشتعلت ثورة داخل الشعب الواحد، فإن تلك الحرب أو هذه الثورة، لا بد أن تجر في ذيلها جموحا يحطم القيود جميعا إذا استطاع، دون وقفة عند كل قيد، ليسأل عنه الغاضبون: أهو قيد جاء لينظم حركة الإبداع في فكر أو في فن؟ أم هو قيد نزل عليهم بلاء ليعيق خطو السائرين ؟ لا، إن الناس يومئذ لا يفرقون بين قيد نافع وقيد قاتل؛ فكل قيد عندهم ساعة الغضب واجب التحطيم. وإلا ففيم نشبت الحرب؟ وفيم اشتعلت ثورة؟ ولقد حدث منذ حين ليس ببعيد، أن شاركت في حديث يجري بين مجموعة من الزملاء، وجاء سياق قلت فيه إن ناقد الأدب والفن والفكر، لا يسير في نقده على هدى إلا إذا كان يضمر في دخيلة نفسه «الأسس» أو «القواعد» التي بيني عليها أحكامه. وبعبارة أخرى، فإنه يتوقع للإنتاج الجيد أن يقام على صور معينة يمكن تقنينها، ثم يبحث عن تلك الصور فيما سيعرض لنقده. وإذا هو لم يلتزم منهاجا كهذا، جاء بعده أشد ضلالا من خبط العشواء ... قلت ذلك لجماعة الزملاء - أو قلت شيئا يقرب منه - فعصفت من أفواههم عاصفة من لاءات، لا، لا، لا، ليس للإبداع في شتى مجالاته «قواعد»؛ لأن القواعد قيود، ونحن نرفض أن يقيد المفكر أو الفنان بأي قيد - هكذا قالوا.
وما زلنا نذكر تلك الحمأة التي أصابت أصحاب الأدب والفن، بل ورجال الفكر في أعلى مستوياته. كيف أخذتهم الكراهية إبان العقد السابع (الستينيات) وبعض العقد الثامن (السبعينيات) لكل ما يفرض عليهم إيقاعا معينا ينظم خطوات السير في البناء الفني، بل هم لم يقفوا عند حد الكراهية الصامتة، وراحوا يهجمون عليه بالتهم التي كانت تهمة «الرجعية» أقلها وأهونها؟ ذلك لأنهم لم يكونوا يريدون لحركة الفكر أو حركة الإبداع ما يحول دون انطلاقها حرة كأنها ثورة الحمم الثائر في تدفقه الهادر من فوهات البراكين.
يقول إن ذلك كله كان أمرا طبيعيا حين كانت سورة الغضب ما زالت تملأ نفوسهم الثائرة؛ فالشعر لا يتقيد بوزن أو قافية.
والقصة لا تتقيد بخط مستقيم من تسلسل الأحداث والفكر يتحلل من شروط المنطق، والموقف كله بمثابة مستجير من العقل باللاعقل. وساد الظن بأن هذا الفكاك من القواعد هو «الحرية» التي ينشدونها، فكرر القول بأن ذلك ربما كان من طبائع الأمور في أعقاب الثورة.
ولا بد أن يكون القارئ على علم بالحالتين اللتين تتناوبان الوقوع مع الأيام.
وهما المعروفتان بالكلاسية والرومانسية، أو قل - إذا شئت لهما لسانا عربيا - إنهما الاتباع والابتداع، وهما الاسمان العربيان اللذان صاغهما لأول مرة - فيما أعتقد - المرحوم أحمد حسن الزيات؛ فهما حالتان تتعاقبان على الناس، فإذا ما نشبت حرب كبرى، أو انبثقت ثورة، كان من الطبيعي أن يميل الناس إلى فك القيود بكل أشكالها، وتلك هي حالة «الابتداع» التي يراد بها أن تصوغ لنفسها طريق سيرها، لكن الأيام تمضي بعد ذلك، فينقشع الدخان، ويسكن اللهب، وتستقر الحياة الجديدة على أوضاعها الجديدة. وها هنا تصبح تلك الأوضاع نفسها هي القواعد التي نتوقع لها أن تراعى. وبهذا تسود حالة «الاتباع». وهكذا دواليك.
فإذا كان لنا عذرنا خلال الستينيات وبعض السبعينيات، في أن نمقت التقاليد المرعية ونخرج عليها لنضع لأنفسنا ما هو جديد، فما عذرنا اليوم إذا لم نقتن ذلك الجديد نفسه ليصبح هو «القواعد» التي يلتزمها الفنان، والتي يتوقعها الناقد فينقد على أساسها؟ كنا نقول - مثلا - ما الذي يقيدنا بأشكال معينة في الشعر، وفي القصة، وفي المسرحية؟ وفي التصوير؟ وفي النحت؟ بل كنا نقول في مجال الفكر: ما الذي يلزمنا بمنطق اللغة ومنطق العقل؟ نعم، كنا نقول ذلك جادين. ولكم سأل السائلون: لماذا لا يصاغ الشعر بالعامية التي هي لغة الجماهير؟ ولماذا لا نجهز على أرستقراطية الثقافة، لنجعلها ديمقراطية فتصادف هوى عند الجماهير؟ وهكذا، كأنما تلك «الجماهير» (بالجمع) ليس فيها «جمهور» يريد ما هو أعلى، وجمهور آخر يريد ما هو أدنى؛ فكل بحسب ما كسب من تعليم وتثقيف، وكأنما الجمهور الأرفع بثقافته ليس جزءا من الشعب، له حقوق تقابل حقوق الجمهور الأقل ثقافة.
كانت تلك حركة ابتداعية أعقبت الثورة. ونحن نسأل الآن إذ نقف على مشارف الثمانينيات: أما آن الأوان لمرحلة اتباعية تقوم على قوائم ثابتة، أو تقرب من الثبات؟ إن استمرارية الثورة ضرب من المحال. وحتى إذا كانت ممكنة، فليست هي بالشيء المرغوب فيه وهي كحال الجري؛ فيستطيع الإنسان الجري حينا ليسرع، لكنه لا يستطيع، بل ولا يجب أن يواصل الجري بلا وقوف أو قعود، حتى تهدأ أنفاسه، وينعم مما قد حصله.
وأحسب أننا لم نكن بدعا في الستينيات وما قبلها بقليل، حين أخذتنا حرارة الثورة على الأوضاع القائمة - في الحياة الواقعة وفي الثقافة معا - فالعالم كله قد ارتج ارتجاجا عنيفا إزاء القيم القديمة. وها هي تلك حركات الشباب التي بلغت ذروتها في أواخر الستينيات، والتي أرادوا بها أن يغيروا كل شيء، من الثياب، إلى الطعام، إلى التعليم، والموسيقى، والرقص، والغناء، وكل شيء. لقد كانت بحق فترة اهتزت فيها الأرض بالثورات على التقليد أشكالا وألوانا. لكن جولة بأبصارنا إلى العالم الآن، كفيلة أن تبين لنا كيف ينحسر الموج الهائج ليستقر الماء، ولترسو سفائن الحياة على مرافئ الثبات والهدوء. وإذن فلن نكون بدعا بين الناس إذا نحن طالبنا في حياتنا الثقافية بالعودة إلى قواعد.
وليس من شأن القواعد التي نطالب مبدعي الثقافة بالعودة إليها، أن تحجر على حرية الكاتب أو الفنان. وكل ما في الأمر أن يكون لكل لعبة قواعدها التي تميز الصواب فيها من الخطأ، دون أن تقيد اللاعب في حركته وإبداعه. لا فرق في هذا بين رجال العلوم ورجال الفنون ولاعبي الكرة. أليس للبحث العلمي في شتى ميادينه منهج محدد دقيق، يلتزمه الباحث في خطوات سيره، وإلا لرفضته أسرة العلماء؟ ماذا لو تقدم واحد من علماء الفلك - مثلا - أو علماء الكيمياء إلى زملائه بنظرية جديدة دون أن يبين لهم كيف كان طريقه إلى كشفها، وكيف يكون طريقه في إثبات صدقها؟ لا، إن للبحث العلمي قواعده الملزمة، دون أن تكون تلك القواعد حائلا دون نبوغ النابغين. وهل هذا نفسه في لعبة الكرة وفي غيرها؟ فلها قواعدها التي يحكم على أساسها، دون أن تكون تلك القواعد عائقا يعوق المهارات عن الظهور.
فلماذا يريد الشاعر أن يكون شاعرا، والمصور مصورا، والنحات نحاتا، بغير مجموعة من قواعد فنه لتحكمه ولتمكن نقاده من الحكم عليه؟ وكما أسلفت القول: إنه يجوز - بلا جدال - أن تحطم تلك القواعد في أعقاب الحروب الكبرى والثورات الجارفة؛ لأن كل شيء في الحياة عندئذ يصيبه التحول كثيرا أو قليلا. ولكن الخارجين على تلك القواعد، إنما يخرجون عليها ليحلوا غيرها مكانها؛ لاستحالة أن يجيد الكاتب أو الفنان، ما لم يكن سيره على نهج، وذلك هو قواعد فنه.
ولعل استطراد الحديث هنا لا يكون معيبا، إذا ما خرجت به من دنيا الثقافة إلى دنيا الحرفيين وغير الحرفيين في الحياة العملية؛ إذ يخيل إلي أن مناخ العصيان والتمرد والتحطيم، الذي أتاح لمبدعي الثقافة أن يلقوا عن أنفسهم كل قيد، ليتخبطوا بعد ذلك أحرارا كما شاءت لهم نزواتهم، كان هو نفسه المناخ الذي قضى على كل القواعد التي تحكم التعامل بين العاملين من جهة، ومن يستأجر عملهم من جهة أخرى؛ فقد تلجأ إلى كهربائي أو ميكانيكي ليصلح لك عطبا في جهاز عندك أصابه تلف، فلا تدري قط ماذا سيتقاضاه العامل، وما يسعك إلا أن تنتظر نطقه بالحكم وكأنك تنتظر حكم قضاء مجهول. وما هكذا تكون الحال لو ارتدت إلى حياتنا «قواعد»، إن لم تكن بالغة الدقة، فحسبها أن تكون معلومة عند المتعاملين على وجه التقريب. لقد طرأ على جهاز التليفزيون عندي شيء من اضطراب الصورة، فاستدعيت من زعم القدرة على إصلاحه. والذي أدهشني أن الرجل لم يكد يخطو داخل الدار خطوة واحدة، حتى بادرني بقوله إنه يتعاطى خمسة وثلاثين جنيها على الإصلاح الذي دعي من أجله! قلت له: لكنك لم تر الجهاز بعد، ولا عرفت ما به من خلل إن كان يسيرا أو خطيرا. فما كان منه إلا أن أعاد شرطه بغير تعليق، فسألته ساخرا من نفسي قبل أن أسخر منه: ما هي القاعدة التي تقيس عليها عند تقدير أتعابك؟ قال بدوره ساخرا مني لا من نفسه: قاعدة؟ إنه لا قاعدة عندي، وهل بقيت في بلدنا قواعد حتى تطالبني بذلك؟ ... وجاءني سباك ذات يوم ليصلح لي شيئا، وأنجز مهمته في خمس دقائق، وسألته كم يطلب؟ فأجاب: خمسة جنيهات! قلت له: هل تدري أن رئيس الوزراء لا يؤجر جنيها على الدقيقة؟ ولا أقول لك كم يؤجر أستاذ الجامعة في محاضرة ينتدب لها، مدتها ساعة، تسبقها ساعة يذهب فيها، ويلحقها ساعة يعود فيها. فقال: إنه إذا كان رئيس الوزراء يريد لنفسه دخل السباك، فحرفة السباكة لم تغلق أبوابها.
قد يخيل للقارئ أنني قد غلوت في استطراد الحديث، حين بدأت برجال العلم والأدب، وكيف اضطرتهم رومانسية الحرب العالمية الثانية أولا، وثورتنا عام 1958م ثانيا، إلى كسر القيود في ميادين فنونهم، والعبث بالقواعد، ثم انتهيت إلى شطط الحرفيين عندنا في تقدير أجورهم تقديرا جزافا، لكنني أرى جوانب حياتنا على اختلافها قد تشابهت في إعفاء نفسها من التزام المعايير، حتى أصبح الأمر كله مرهونا بعشوائية المصادفات.
إنني رجل أصيب بداء التحليل العقلي، الذي يفتت المواقف والأفكار إلى أدق مكوناتها، ويحاول رد هذا كله إلى ما يظنه الأصل الأصيل الدفين الذي انبثقت منه تلك العناصر الظاهرة. ولقد حاولت أن أعلل هذا الانفلات العام الشامل من وضع القواعد الضابطة واحترامها، فخيل إلي أن العلة الكامنة وراء هذا هي اختفاء العدالة وروح الإنصاف، فأضيف ذلك إلى ما أدت إليه رومانسية الحرب والثورة من تمرد على منطق العقل، فكان ما كان من عبث يهزأ بدقة المقاييس وملاءمة المعايير والقواعد، سواء كان الذي بين أيدينا قصيدة من الشعر ننظمها، أو تقريرا نكتبه عن شئون عامة، فلا نراعي فيه دقة العلم، أم زبونا يريد منا عملا فنذبحه ذبحا عند تقدير الأجر المطلوب.
إنه لا تعارض بين أن يطرد النمو يوما بعد يوم، وبين أن يكون ذلك النمو نفسه منطويا على خط ثابت يحفظ للشخصية هويتها واستمرار وجودها. لا فرق في ذلك بين أمة بأسرها وفرد واحد؛ فالفرد يتحول لحظة بعد أخرى لينتقل من طفولة إلى مراهقة فشباب فاكتمال فنضج، حتى لتتغير في جسده كل خلية ولد بها، ويصبح كأنه إنسان جديد، لكن ثمة وراء هذا التحول خطا يظل على درجة ملحوظة من الثبات، هو الذي يجعل أول حياته موصولا بكل حلقة من العمر يحين بعد ذلك حينها.
ولولا هذه الاستمرارية لتعذر، بل لاستحال علينا كتابة التاريخ المتصل الفصول لأمة معينة أو لفرد بذاته، أو لمنشط من مناشط الإنسان في سيره الحضاري ، كتاريخ العلم، وتاريخ الشعر، وتاريخ العمارة، وغير ذلك.
ويلفت النظر في الأمم ذوات الامتداد التاريخي الطويل، أنها إنما استمدت هذا الدوام من ثباتها على ملامح معلومة تميزها، وأنها إذا ما تفجرت بالثورات حينا بعد حين، لتغير من نفسها جانبا أو آخر؛ فإنها لا تظل على ثورتها تلك إلا ريثما يتغير ما أرادت أن تغيره، ثم تعود لتستأنف سيرها على طريقها المألوف. حدث هذا في الصين بعد ماوتسي تونج، وحدث هذا في مصر عند ثورة التصحيح سنة 1971م، التي أريد بها أن يعود ميزان هذا السير إلى اعتداله بعدما أصابه بعض الانحراف عن المسار السديد.
وإذا قلنا عن فرد واحد أو عن أمة بأسرها إنها تحرص على أن تدوم لها هويتها عبر الزمن بكل تغيراته الطارئة، فكأننا قلنا بذلك إن ذلك الفرد أو تلك الأمة قد حافظ أو حافظت على معايير وقواعد التزمتها في حياتها الفكرية والنفسية والعملية، وتلك هي ما نطلق عليه اسم العرف، أو التقاليد، أو روح الشعب. فإذا كنا قد جاوزنا تلك المعايير والقواعد حتى أسرفنا في التجاوز، فالحكمة تقتضي أن نعمل على أن نعيد إلى حياتنا قواعد نبدع الفكر والفن على أسسها، ونتعامل بعض مع بعض على أسسها لنعود أسرة لها خصائصها التي بفضلها دامت على مدى التاريخ من يوم مولده وحتى يومه الحاضر.
لكي يعتدل الميزان
قد يكون من أبرز المعالم التي تميز ثقافة عصرنا، عندنا وعند غيرنا على حد سواء، ذلك التضخم، أو ربما كان أقرب إلى الصواب أن أقول ذلك التورم، الذي طرأ على نفوس الأفراد؛ بحيث أصبح شعور الفرد الواحد نحو نفسه، يميل إلى ابتلاع العالم كله في جوفه، إذا استطاع وبمقدار ما استطاع. ولعله شعور أوحى به إلى إنسان هذا العصر، جبروت العلم والصناعة، الذي شعر الفرد الواحد بضآلته منسوبا إليه، فبدل أن يتنفخ زهوا لأنه هو صانع الجبروت، انكمش إلى حد الفناء أول الأمر؛ لأن كل فرد أخذ ينسب عظمة عصره إلى الآخرين، ويتوهم في نفسه التفاهة وصغر الحجم، لكنه لم يلبث أن نفض عن نفسه هذا التخاذل، ووثب إلى النقيض الآخر، بأن بث في ضميره إيمانا بذاته، يظن به أنه هو وحده في إحدى كفتي الميزان، وسائر العالم في الكفة الأخرى. فجاء شعوره هذا ردا عنيفا على قوى عصره الجبارة، التي أرادت أن تهصره هصرا تحت أثقالها.
وانعكست ثورة الفرد النفسية هذه، في الفن المعاصر، وفي كثير من الأدب المعاصر، وفي بعض الحركات الاجتماعية. وإلا فلماذا نشأت مذاهب الفن التي تجيز أن يضع الفنان على اللوحة «طبيعة» من عنده هو، غاضا بصره عن الطبيعة الحقيقية الرابضة بجبالها وسهولها وبحارها هناك خارج نفسه؟ إنه فعل ذلك ليقول للدنيا من حوله: ها أنا ذا فلان الفرد الفريد المنفرد، الذي أرادت مكنات العصر أن تطحنه بعجلاتها. وهذه الوقفة الفردية نفسها قد انعكست كذلك بصورة واضحة في بعض المذاهب الفلسفية في عصرنا، وفي مقدمتها مذهب الوجودية، الذي جعل الفرد سيد نفسه؛ فهو إنسان حر بقدر ما يصنع هو لنفسه القرار، ثم يكون مسئولا عنه، لا يتبع في ذلك أحدا؛ لأنه بمقدار تبعيته يكون قد أهدر آدميته.
وأحسب أن هذه الثورة التي التهبت بها نفوس الأفراد، احتجاجا على عجز الفرد الواحد وضعفه أمام القوى الهائلة التي تدير له حياته - عملا وفرغا - رضي بذلك أو كره. أقول إنني أحسب أن ثورة الفرد على عجزه وضعفه، ربما وجدناها منعكسة أيضا في أفلام الفأر الصغير الذي أراد الفنان بها أن يكون النصر في النهاية دائما له، بغض النظر عن التفاوت البعيد بينه وبين العدو الذي يواجهه، قطا ضخما أو سبعا ضاريا. ولعل القارئ قد لحظ كما لحظت أنا فيما نشهد من أفلام وتمثيليات على الشاشة الصغيرة في بيوتنا، كيف يسهل التنبؤ منذ البداية إذا ما كان في الأمر صراع بين قوي وضعيف، بأن الغلبة في آخر الأمر ستكون للضعيف على القوي، لا لأن هذا هو دائما واقع الحياة، بل لأن ذلك هو ما أصبح كل فرد منا يتمناه.
ولست بذلك أزعم بأن تضخيم الأفراد لذواتهم هو شيء وليد عصرنا وحده، لا لست أزعم ذلك؛ لأن هذا الميل نحو شعور الفرد بذاته، وبأهمية تلك الذات، حتى ليتوهم أنه خلق ليكون مركزا للكون كله، هو جزء من فطرة الإنسان، وطريقته في وعيه بنفسه - أو هكذا أظن - لكن يبقى أن نسأل: «كيف» يعبر الإنسان عن فطرته تلك في هذا العصر أو ذاك؟ فتقرير المرء لذاته ربما أكد صورة انتمائه لشيء أكبر منه، كي يستمد منه القوة ويضيفها إلى قوته، وكذلك ربما اتخذ صورة التمرد على كل ما هو أكبر منه، وهذه الصورة هي التي أزعم أنها من سمات هذا العصر ومن جوانب نقصه معا. ويرد على خواطري في هذا السياق ما أورده فرويد في كتابه عن «الطوطم والمجرم» من تصور الإنسان وهو لم يزل عضوا في القبيلة البدائية الأولى، في فجر البشرية. إنه إنما كان يتبع مع سائر أفراد القبيلة، سيدا متسلطا غيورا على ضخامة شخصيته من أي ظل لاعتداء يسلبه شيئا من سلطانه، بما في ذلك نساء القبيلة اللائي لم يرد أن يشاركه فيهن تابع من الأتباع، مع أن هؤلاء الأتباع هم في الأصل أبناؤه، فما كان من هؤلاء الأبناء إلا أن قتلوه ثم أكلوه. وجعل فرويد هذا التصور (الذي يقال إنه استمده من دارون) رمزا يرمز به إلى عدة أمور في التركيب النفسي للإنسان؛ فهو رمز يشير إلى نهاية نموذج اجتماعي بدأت به البشرية، لتجاوزه بعد ذلك إلى ما هو أرقى وأحفظ للفرد الواحد من الناس. وهو كذلك رمز لانتقال القوة من السلف إلى الخلف، على أساس أن ابتلاع الأبناء لأبيهم من شأنه أن تسري القوة التي كانت له في شرايين الأبناء، فتضاف قوته إلى قوتهم؛ أي إن هؤلاء الأبناء يضيفون قوة ماضيهم إلى قوة حاضرهم في حياة واحدة. ثم هو رمز لازدواجية الشعور عند الإنسان؛ ففي كل إنسان يمتزج الحب بالكراهية إزاء الموضوع الواحد، ولقد أكل أبناء القبيلة الأولى أباهم، كراهية له في محوه لشخصياتهم ، وحبا لما يمثله في حياتهم من قوة وسطوة.
إذن فالثورة التي تنفجر في ضمائر الأفراد، على كل ما يسلبهم تميز فردياتهم، هي شيء قديم مع الفطرة، والذي يختلف مع العصور هو الطريقة التي تتم بها تلك الثورة، والذي يميزها في عصرنا، هو محاولة الفرد الثائر أن ينفلت من قبضة الكل الذي يحتويه. فانظر إلى أفراد أرادوا في الماضي تقرير نواتهم، ماذا صنعوا تحقيقا لتلك الإرادة، ثم انظر إلى أفراد من عصرنا استهدفوا الغاية نفسها، ماذا يصنعون لتحقيقها.
فقد كان للرجل من المتصوفة إذا تمرد على عصره نفيا لذلك غاية، هي التجرد من الروابط التي تصله بما حوله من الدنيا ومتاعها، مجاهدا للوصول إلى الحق سبحانه وتعالى، شهودا، أو معرفة، أو توحدا. وإذن فالفردية الثائرة هنا، تزيدها ثورتها تلك اقترابا من الله جل وعلا. ولكن قارن هذه الصورة بالفردية الثائرة في عصرنا، تجد ثورتها تلك قد مالت بها نحو استقلالها حتى عن ربها وخالقها؛ ومن ثم طغت على العصر موجة الإلحاد، التي هي الآن - مع سائر جوانب الثورة الفردانية - في سبيلها إلى الانحسار.
وخذ مقارنة أخرى، وإن تكن ذات صلة غير مباشرة بالمثل الذي أسلفناه، رجل الفن - في مختلف أشكال الفنون - إذا ما رفض عصره لأي سبب من الأسباب، ماذا كان يصنع تحقيقا لفرديته الثائرة، وماذا هو صانع الآن؟ كان المصور يغرق نفسه إغراقا في بيوت الله يصب فنونه على سقوفها وجدرانها، وكأنما هو يتعبد بمواهبه إلى باريه الذي وهبه تلك المواهب. وكان الشاعر ينظم غر قصائده في مجد الله وملائكته ورسله. وهكذا جعل - الفنان الثائر على مجتمعه، العابد لربه - فنه في خدمة دينه. لكن قارن ذلك بما يصنعه فنان هذا العصر إذا امتلأت نفسه بالتمرد على عصره، تجده لا يقيم فنه إلا على نفسه هو، يسكبها ألوانا على لوحته، أو ألفاظا في قصيدته. ومن هنا لم يكن الفنان العابد في الماضي حريصا على ذكر اسمه على نتاجه الفني. وأما الفنان الثائر على عصرنا فيكاد يضع اسمه على نتاجه قبل أن يكتمل له ذلك النتاج.
على أن رجال الأدب والفن لم يكونوا دائما في ثورة على مجتمعهم، بل إن كثرتهم كانت متوافقة مع محيطها، فإذا قال الشاعر شعرا، جعله أقرب إلى صحيفة دفاع عن جماعته التي ينتمي إليها، مادحا لرءوسها، مشيدا بخصالها، هاجيا من يناصبها العداء، كما فعل - مثلا - جرير والفرزدق. وإنما ضربت بهما مثلا، لحدوث حادث في دنيا الشعر عندئذ يلفت النظر، وهو ظهور شاعر عظيم، لكنه لم يوجه شعره إلى مدح وهجاء وفخر بالقبيلة، بل وجهه إلى الشعور النقي الخالص بما انطبع به في بيئته، منزها عن أي غرض إلا غرض الشعر نفسه. فوا عجبا! إنه لم يلفت أنظار نقاد الشعر، ولا سرى في وجدان جمهور الشعر، وذلك هو «ذو الرمة». ولقد سأل ذو الرمة يوما الفرزدق - وكان الفرزدق يكبره، لكنه عاصره في المرحلة الأخيرة من حياته - أقول إن ذا الرمة سأل الفرزدق يوما، والدهشة تملؤه، عن السر الذي يكمن في قصوره عن أن يعده نقاد الشعر من فحول ذلك الفن، ليتساوى مع الفرزدق نفسه ومع جرير. فأجابه الفرزدق بقول معناه أنه لم يظفر بتقدير النقاد؛ لأنه لم يستخدم شعره في مدح أو في هجاء، أو في فخر؛ أي إن ذا الرمة أراد أن يكون بشعره «فردا» أكثر منه عضوا في جماعة، فدفع الثمن إهمالا له من تلك الجماعة.
نعم، لم يكن رجال الأدب والفن يثبتون فردياتهم دائما بالخروج على ما هو أوسع من أشخاصهم المفردة، كالعقيدة الدينية، والانتماء إلى المجتمع الذي يحتويه، بل كثيرا ما وجدوا أن وسيلتهم إلى ذلك الإثبات هو خدمة الغطاء الذي يحميهم - من دين ومجتمع. أما في عصرنا فقد بات الأغلب على من أراد إثبات وجوده من الأفراد، أن يلجأ في ذلك إلى شذوذ يخرج به على المحيط الذي يحتويه، على ظن منه بأن اهتمامه بذاته وإبرازه لتلك الذات في تميزها، لا يتم إلا إذا حطم في سبيل ذلك وعاء كان يحتويه.
ولست أدري على وجه اليقين، ماذا كانت العوامل في ظروف عصرنا، التي نفخت في صدور الأفراد طموحا، كان في الكثرة الغالبة منهم طموحا فوق قدرتهم على تحقيق شيء منه، فكان ما كان من سخط الفرد المعاصر على دنياه وعلى عصره، وعلى أسرته، بل وعلى نفسه. إنه يطمح أن يكون بالغ الثراء، أو قوة السلطان، أو مرموقا في علم أو أدب أو فن، وليس في مواهبه الأدوات التي تحقق له ما يصبو إليه، فتشتعل الثورة في نفسه بغير حق. ولو كان رجال التربية في عصرنا قد وجهوا اهتمامهم نحو أن يعلم الفرد نفسه على حقيقتها، فلا يتوقع منها إلا وسعها، راضيا بذلك، متقنا لذلك الذي هو في وسعه أن يصنعه، لما تورط في طموح إلى ما ليس في وسع مواهبه أن تناله.
أريد أن أقول بهذا كله إن أفراد الناس، وإن يكونوا قد فطروا على الارتفاع بأشخاصهم، ظهورا وتميزا، إلا أن تلك الفطرة قد اتخذت في عصرنا صورة مرضية (من المرض) كان من نتائجها ذلك الإحباط الذي حطم النفوس - ونفوس الشباب بصفة خاصة - خلال الستينيات أكثر من الأعوام التي سبقتها، ومن الأعوام التي لحقتها. وكان وجه المرض في مسعاهم نحو التميز والظهور، كامنا في تصورهم بأن استقلال الفرد بفرديته، يقتضي عصيانا للدين، وللقانون، وللعرف الاجتماعي، وللتقاليد الراسخة في الإبداع الفني.
ولقد رأينا في مصر - وفي الوطن العربي عامة - صورا كثيرة من هذه الأوهام، وخصوصا خلال الستينيات؛ حيث كان موضوع الفخر عند المفكر أو عند الفنان أو حتى عند الفرد في حياته العادية - الخاصة منها والعامة على السواء - كان موضع الفخر هو العصيان والتمرد، حتى أصبح ذلك الخروج على العرف المألوف تيارا عاما، أو أشبه ما يكون بتيار عام، لا يقتصر على بلد دون بلد. وكان ذلك التيار العام يتميز ببعض الجوانب الرئيسية الأساسية، التي من أهمها محاولة الانتقال بمحور الأخلاق من التزام الواجب (الديني، والقانوني، والاجتماعي) إلى التماس المتعة، على اعتبار أن الإنسان إنما يعبر عن نفسه بإشباع رغباته وشهواته، أصدق مما يعبر عنها بوأد تلك الرغبات والشهوات.
ما الذي دفع أبناء تلك الفترة، أن يأكلوا آباءهم، إذا استخدمنا التصور الفرويدي الذي أسلفناه؟ ظني هو أنه - بين عوامل تاريخية أخرى - حين وجد معظم الأفراد أن ليس لهم أدوار اجتماعية يؤدونها على سبيل المبادأة والأصالة والإبداع، ورأوا أنفسهم أقرب إلى أدوات صماء تنفذ ما يراد منهم أن يؤدوه، عزت عليهم أنفسهم، فأوجدوا لأنفسهم تلك منافذ تحقق فردياتهم المكتومة، ولكنها موجة جاءت فغمرت، وواضح أنها في سبيلها إلى السكون المنتج الفعال.
على أن ما نلحظه اليوم ونخشاه، هو أن بندول الحياة الثقافية على وجه التعميم الذي لا يخلو من استثناءات هنا وهناك، عندما زحزح من موقعه المتطرف نحو التمرد، لم يقف عند نقطة الاعتدال، بل تأرجح إلى الطرف النقيض، واعتصم هناك بحصن يريد به أن يشد الناس إلى الوراء. فاعجب ما شاء لك العجب لشباب يرفضون الحاضر، لا ليقفزوا إلى المستقبل قفزا يتناسب مع فتوة الشباب وأمله، بل ليكر راجعا إلى ركن من الماضي يحتمي به! لولا أن ثمة في أفق حياتنا دلائل كثيرة تدل على أن ذلك البندول في طريقه إلى التوسط العاقل، وعندئذ يعتدل بنا الميزان.
ولادة عصر جديد!
قضى التاريخ على هذا القرن العشرين، أن يجيء مرحلة وسطى يتحول فيها الناس من حضارة كانت قد استقرت على قوائمها، إلى حضارة أخرى، تريد بدورها أن تستقر على قوائم، أو - إن شئت مزيدا من دقة التعبير - قل إنهما رؤيتان مختلفتان في حضارة واحدة؛ إحداهما شهدت ذروتها في أوروبا خلال القرن الماضي، ويرجى للأخرى أن تتم ولادتها في القرن الآتي (الحادي والعشرين). وأما هذا القرن الذي نحن فيه، فهو همزة الوصل بين الحالتين، فإذا كان له حسنة تذكر، فهي أنه هو الذي احتمل آلام المخاض تمهيدا لقدوم وليد جديد.
كان القرن الماضي هو الذي بذر البذور. وسيكون القرن الآتي هو الذي يحصد الثمار. وأما المرحلة الوسطى، التي هي الشجرة في نمائها وعنائها، فقد كانت نصيبنا نحن - أبناء القرن العشرين - ففي القرن الماضي ظهرت طائفة من الأفكار العظيمة، التي سوف تكون بذورا وجذورا للحياة الجديدة؛ فلا يكاد عصرنا الحالي يضيف من عنده إلى تلك الأفكار الكبرى فكرة واحدة؛ ولذلك فقد انحصرت مهمته في الفهم والهضم والشرح والتحليل، وأحيانا قليلة في المعارضة والتعديل، ثم في محاولات التطبيق؛ ففي منتصف القرن الماضي ظهر دارون بفكرة التطور البيولوجي، وظهر في الوقت نفسه تقريبا ماركس بفكرة التطور المادي للتاريخ، وبعدهما بقليل ظهر فرويد بفكرته عن اللاشعور. وجنبا إلى جنب مع تلك الأفكار ظهرت رياضة جديدة كادت أن تنسف أسس العلم الرياضي كما عرفته الدنيا منذ إقليدس. كما ظهر في العلوم الطبيعية منهج جديد يختلف اختلافا بعيدا عن كل ما ألفته تلك العلوم من قبل، ألا وهو منهج البحث بالأجهزة الدقيقة «التكنولوجيا». فما هي إلا أن انكشفت طبيعة الوحدات الصغرى، كالذرة، والخلية، فانفتح الطريق أمام رؤية جديدة للكون، هي الرؤية التي تبلورت في نظرية النسبية التي قدمها أينشتين، فنتج عن هذا كله ما نتج مما نعيش الآن في مناخه وتحت سمائه.
تلك هي البذور التي بذرها علماء القرن الماضي، والتي كتب على عصرنا أن يتولى فهمها وهضمها وتطبيقها، وربما قدم لها تعديلات هنا وهناك. وكان لا بد أن تحدث تحولات في رؤية الإنسان، وفي طرائق عيشه بناء على ذلك العلم الجديد. ولو كانت تلك التحولات مقصورة على مستوى العلماء وحدهم، يتناقشون ويتجادلون، لذهبت الموجة في غفلة من جمهور الناس، لكنها كانت تحولات تناولت صميم الحياة العملية، مما استتبع حتما أن يتغير شيء من القيم والعرف؛ وبالتالي لم يكن بد من حروب وثورات ليتحقق الشمول على أرض الواقع، في البيت والشارع، والمزرعة، والمصنع.
جاءت حياتنا - على امتداد ما مضى من القرن العشرين - مضطربة الموج، مهتزة المعايير، لا نكاد نميز الفوارق الفاصلة بين ما هو خطأ وما هو صواب في أي شيء؛ فليس يدري أحد على وجه اليقين الثابت كيف يكون نظام الحكم، بحيث نضمن للسفينة أن تسير بمنجاة من العواصف والصخور. وحتى في البلاد التي رسخت جذورها في استقلالها بحكم نفسها، والتي لم تكن تتعرض لزلازل الثورات والانقلابات، ظهر فيها إبان هذا العصر الراهن ما قلقل بنيانها الراسخ؛ لأن تحولا جديدا طرأ عليها وعلى الدنيا بأسرها ، وهو أن يأخذ العمال بنصيب في حكم بلادهم، بعد أن لم تكن فكرة كهذه تخطر بالبال منذ أن كانت في الدنيا حكومات! فعلى أية صورة، وإلى أي حد ينال العمال هذا الحق العادل المشروع؟ إجابات كثيرة مختلفة تسمعها من أقطار الأرض.
وكذلك لا يدري أحد دراية اليقين الثابت، كيف يكون التعليم الذي يضمن لكل فرد حقه، ويضمن في الوقت نفسه للمجتمع تقدمه في ظروف الحياة الحاضرة. إننا لمعذورون إذا كنا نبني في نظم التعليم اليوم ما نهدمه غدا، ونهدم اليوم ما أقمناه بالأمس؛ فالتحولات سريعة وجارفة، والأفكار متقلبة متغيرة بعد أن كان العالم طوال العصور ثابتا وعلى رأي معين محدد في التعليم، خلاصته أن هناك مادة علمية موجودة بين أيدينا، وعلينا أن نصبها في رءوس الدارسين، وليس لهؤلاء الدارسين إلا أن يتقبلوا ما يتلقونه، راضين أو ساخطين! فجاء عصرنا هذا - عصر التحولات - ليسأل: وأين تذهب بشخصية الدارس نفسه؟ لماذا لا تكون تنمية هذه الشخصية هي الأساس الذي تتكيف له مقررات التعليم، بدل أن نجعل الأولوية لتلك المقررات، وافقت شخصية الدارس أم لم توافق؟ وما زال العالم يتخبط بين هذين المحورين.
كلا، ولا يدري أحد على وجه اليقين الثابت على أية صورة مثلى نصب حياتنا الاقتصادية، بحيث نستوثق من صيانة حقوق الأفراد كما ألفناها، ونضمن في الوقت نفسه اطراد النمو للمجتمع في جملته. هنا أيضا تأتيك الإجابات المتعارضة، بل إن البلد الواحد ليتذبذب في الرأي يوما بعد يوم. وهكذا، وهكذا تجري سفينة عصرنا على موج يعلو بها ويهبط، لأنه عصر التحولات.
وحياتنا في مصر إبان مرحلة التحولات هذه، ملأى بأمثلة تبين مقدار ما تتعرض له من غموض الرؤية، بسبب اختراقنا لمنطقة الضباب الحضاري، التي يخترقها العالم كله بين مرحلة ذهب زمانها، ومرحلة ينتظر لها أن تجيء. إنني أذكر جيدا ذلك الصديق الذي قابلني يوما منذ نحو ثلاثين عاما، وكنا صنوين على طريق العمر، وعلى طريق الدراسة كذلك ، لكنه كان أنفذ مني بصيرة بطبيعة الفترة التي نجتازها. وأخذنا نتحدث طويلا وعميقا عن أفضل أساليب العيش في زماننا هذا. وكنت أنا ممن يأخذون بضرورة أن يصعد الصاعدون سلم الحياة درجة درجة، ومع كل درجة ينبغي للصاعد أن يؤهل نفسه بما يبرر له ذلك الصعود. وأما صديقي فكان رأيه أن هذا الذي أقوله عن الصعود المتأني لا يجوز إلا في زمان استقرت فيه المعايير، وما دام عصرنا تموج من تحته الأرض وتميد، فلا ثبات ولا استقرار. إذن فلمن يستطيع كل الحق في أن يقفز طيرانا من أسفل السلم إلى أعلاه، دون أن تطأ قدماه مراحل الصعود الجزئية ليعرف مذاقها. ولقد كان لكلينا - صديقي وأنا - أن عاش وفق رأيه، فطار صديقي على قمم الجبال في حياتنا طيران الصقور، جزاء رؤيته الصادقة لطبيعة عصره، وزحفت أنا على أديم الأرض زحف السلاحف، ولكن لعله أدوم بقاء.
وإني لأطيل الأحاديث مع رفاق أكرمين، ارتفعت قاماتهم في ميادين الفن والأدب، فأسمع منهم ما يدلني على روح عصرنا، كيف أنه عصر التحولات التي تلتمس مخرجا نحو عالم جديد؛ فنابغة من نوابغ الفن عندنا، يشعر شعور الرضا عن نفسه؛ لأنه ما ينفك يجدد في اتجاهه الفني عاما بعد عام، أو شهرا بعد شهر. ونابغة من نوابغ الأدب المسرحي، يفاخر بأنه قد عاهد نفسه منذ أول شوطه ألا يقيم على شكل أدبي واحد، إلا ريثما يصوغ نموذجا له، ثم ينتقل إلى شكل أدبي آخر. ونابغة ثالث من نوابغ القصة، يحاول عامدا أن يكون له في كل مرة قالب أدبي جديد، خشية أن يقال عنه إنه يتبع التقليد في مجاله الأدبي ... هذه كلها حالات قد تدل على خصوبة الابتكار عند الرواد، لكنها كذلك علامات على عصر التحولات الذي نعيش فيه، والذي لا يدري أحد من أبنائه دراية الواثق، ما الحدود الفواصل بين الجيد والرديء.
ولم تكد المرأة عندنا تكسب شيئا من حقوقها، حتى بدأنا اليوم نسمع من المرأة نفسها عجبا؛ إذ أخذت كثيرات من سيداتنا وبناتنا يتشككن في أن يكن قد اخترن الأفضل، حين اخترن الخروج على ميادين العمل. ولقد سمعت عن استفتاء جرى بين مجموعة من فتيات الجامعة، يسأل عن رأيهن في صورة العلاقة المثلى بين الزوجين، فكانت الكفة أرجح في جانب الصورة التقليدية التي سادت قبل أن تظفر المرأة بشيء من حقوقها، وهي علامة أخرى على أن عصرنا يكتنفه ضباب فهو يتردد في كل موضوع بين نعم ولا؛ لأنه عصر التحولات.
ولعل بحث الإنسان في عصرنا هذا، عن شيء يجعل لحياته معنى، حتى لا يراها عبثا من العبث، هو الذي أحدث التعدد في الآراء حول تقويم الأشياء والمواقف؛ فأصبح ما هو مقبول عند هذا مرفوضا عند ذاك. ولم يكن مثل هذا البحث عن معنى للحياة، أو قل عن هدف واضح لها، أمرا واردا في عصور كثيرة مضت؛ لأن ظروف العيش فيها لم تكن تستدعي سؤالا كهذا، كما تستدعيه ظروف العيش في عصرنا.
ففي الفترات الطويلة التي سادها الإيمان الديني الراسخ، كان معنى الحياة في هذه الدنيا لا يحتاج إلى بحث أو سؤال؛ وذلك لأن الجواب كان حاضرا في الأذهان، وهو أن سعي الإنسان في دنياه، يستهدف حياة في الآخرة تكون أكمل وأعدل.
كلا، ولا كان السؤال عن معنى الحياة واردا، في العصور التي سادتها روح الإبداع الفني - وقد يكون ذلك الإبداع الفني منبثقا عن حياة دينية وقد لا يكون - كما كانت الحال في عصر النهضة الأوروبية لأن الإنسان وهو يبدع فنا، أو وهو يغامر كاشفا للبحار المجهولة، وصاعدا للجبال القاسية، وضاربا في الأرض هنا وهناك - وكل ذلك كان في أوروبا أيام نهضتها، أقول إن الإنسان وهو منهمك في مثل هذا الإبداع لا يسأل ما معنى الحياة وما هدفها؛ فمعناها عندئذ وهدفها ماثلان بين يديه. وكذلك لا يكون السؤال واردا في عصر تكثر فيه منجزات العلوم، كما كانت الحال إبان القرن الماضي في أوروبا أيضا؛ فلقد خيل للإنسان الأوروبي - والأمريكي - يومئذ أن مفاتيح التقدم الإنساني كلها في أيدي العلوم ومنجزاتها. وإذا كانت تلك هي نظرته إلى العلم وقدرته على فك أسرار الوجود، فلم يعد للسؤال عن معنى الحياة موضع؛ إذ يكون ذلك المعنى في تحصيل العلوم، ثم في استخدامها حتى تتحقق للإنسان سيادته على الطبيعة بكل ما فيها من أسباب القوة.
أما في عصر التحول هذا الذي نعيش نحن اليوم فيه، فالسؤال وارد لأن الموج مضطرب - كما قلنا - والمعايير مهتزة، والأهداف الحقيقية يلفها الضباب، فلا ندري في مسالك حياتنا أين الخطأ وأين الصواب، على أن هذا كله مدعاة للتفاؤل؛ لأنه هو نفسه الإرهاصات التي تسبق ولادة عصر جديد.
سجناء الكهوف
التشابه بين رءوس الناس وكهوف الجبال مألوف عند أصحاب الفكر والأدب، الأقدمين والمعاصرين جميعا؛ فكما كان الإنسان الأول يحتفر في صخر الجبل كهفا يأوي في ظلمته من غوائل بيئته، كذلك يجعل الإنسان - من تقدم به الزمان ومن تأخر على السواء - يجعل من جوفه شيئا يشبه الكهف، يدس في عتمته مخزونات من أفكار ومشاعر، بثها فيه المحيطون به منذ استيقظ فيه أول شعاع من نور الوعي، فلما أن شب أخذت تلك المخزونات تمسك بزمامه وتسيره هنا وهناك، وهو يحسب أن الذي يسيره إنما هو الحق المنزه عن الهوى؛ فهو في ذلك أشبه بالحجر ألقاه من ألقاه، فتحرك بقوة الدفع ليسقط في مكان معلوم لمن قذف به. لو كان ذلك القاذف ممن يعلمون حساب السرعة في الأجسام المتحركة، لكن ذلك الحجر الملقى، لو دب فيه وعي الكائنات الحية، مضافا إليه شيء من أوهام البشر، لظن أنه مصمم بإرادته على السقوط عند النقطة التي سقط فيها، كأنه إنسان مسافر في سيارة أو قطار، نزل في مدينة طنطا قادما من القاهرة؛ لأنه هو الذي رسم لنفسه أين يبدأ رحلته وأين ينتهي.
نعم؛ فهكذا تحركنا مخزونات النفس من مشاعر وأفكار، لم نكن نحن الذين اختزناها لأنفسنا بأنفسنا عن وعي وقصد وتدبير، بل فعل ذلك أناس أحاطوا بنا وتولوا تنشئتنا ونحن صغار.
ولعل أفلاطون لن يكون أول من استخدم هذا التشبيه للإنسان بسجناء الكهوف، وهو تشبيه أورده في محاورة «الجمهورية» ليبين للناس علة جهلهم بالحقيقة الموضوعية الخارجية؛ فهم كمن سكنوا كهفا، وللكهف فتحة على الطريق العام، يدخل منها ضوء الشمس، لكن سكان الكهف جلسوا فيه مشدودين بسلاسل؛ بحيث تكون وجوههم نحو الحائط الخلفي، وظهورهم نحو فتحة الكهف على الطريق الخارجي، فإذا ما مرت كائنات من بشر أو حيوان، أو مرت عربات، ألقي بظلالها على الحائط الخلفي الذي تتجه إليه أنظار سجناء الكهف. ولما كانت تلك الظلال هي كل ما يرونه طوال حياتهم في جوف الكهف، ظنوا أنها هي كل ما هنالك من كائنات الوجود. وإنك لتجهد نفسك عبثا إذا أنت حاولت أن تبين لهم بأن ما رأوه إنما هو ظلال للحقائق، خارج كهفهم، طرحت ظلالها أمامهم بفعل أشعة الشمس الساقطة عليهم من وراء ظهورهم. تجهد نفسك عبثا لو حاولت ذلك؛ إذ إنه محال عندهم أن يصدقوا ما يقال عن أشياء لم يرها منهم أحد ولم يسمع.
وهكذا الحال بالنسبة إلى كل إنسان يقع أسيرا لما بث في نفسه من مخزونات فكره وشعوره، إلا من أراد له الله علما يخرجه من أسره، ليرى حقائق الأمور كما هي واقعة، فيمحو من مخزونه كل ما يتناقض مع تلك الحقائق التي اهتدى إليها بعدئذ عن طريق معرفة كسبها وهو على وعي بما كسب.
وجاء رجل في فاتحة النهضة الأوروبية، هو فرنسيس بيكون، وحصر مصادر الخطأ عند الناس، فجعل منها مصدرا أسماه «بالكهف» جريا على الصورة التي سبقه إليها أفلاطون؛ فأخطاء الكهف عند بيكون هي تلك التي لم يزل فيها الإنسان بسبب أفكار مبثوثة في جوفه من حيث لا يدري، فأصبحت له بمثابة عدسات المنظار، ينظر إلى الدنيا خلالها فتصطبغ الدنيا بألوانها. ويظن لابس المنظار أنه إنما يرى الدنيا على حقيقتها؛ فهو إذا رأى الأشياء حمراء حسب احمرارها فيها وليس في لون منظاره.
على هذا النحو تتشكل الحقائق للناس متأثرة بتربيتهم الأولى. ومنهم من لا تؤاتيه ظروف حياته بمعرفة علمية يصحح بها أوهام نفسه، فيظل متشبثا بنظرته «الذاتية» تلك. ومنهم من تدركه رحمة الله فينكشف له الحق كما هو واقع؛ أي الحق «الموضوعي» الذي يستمد صدقه من الواقع الفعلي، غير متأثر بدوافع الأهواء المخزونة. وإذا مضينا في التشبيه بلابس المنظار، قلنا إن من الناس من يرى الدنيا بعدسات ينكسر فيها مسار الضوء، فتظهر لهم الأشياء منحرفة عن حقائقها، وهم لا يشعرون. ومنهم من جاءت عدسات منظاره أمينة على مسار الضوء في استقامته فيرى ما يراه على حقيقته الخارجية.
ولا عيب في أن يجيء إدراك الإنسان لما حوله صادرا عن مكنون وجدانه، شريطة أن ينحصر ذلك الإدراك الوجداني في مجاله الخاص، وعندئذ نكون على بينة بأن ما يقال إنما قيل تعبيرا عن وجدان خاص، لنفهمه من هذه الزاوية وحدها، فلا نضل بالظن أنه يصور لنا الأشياء تصوير المطابقة بين أصل وصورته الفوتوغرافية، أو صورته الكربونية، ومثال ذلك شعر الشعراء، وألحان الموسيقيين، ولوحات المصورين، وغيرها مما يدور مدارها. فإذا قال لنا شاعر إن ليله كان كموج البحر، وجب علينا أن نجاوز الصورة إلى ما وراءها من بواعث في وجدان الشاعر حملته على أن يرى ليله قد طال عليه ظلاما يعقبه ظلام، ولا نهاية له بفجر يبدده.
لا، لا عيب في أن يصدر المرء عن وجدانه فيما يقول، شريطة أن يكون على وعي بذلك، وأن نكون نحن على وعي به معه، حتى لا يختلط عندنا تصاوير الخيال بأحداث العالم. ولكن العيب كل العيب هو فيمن يتصدى لتقرير الحقائق كما تجري، فيدس في قوله خيوطا من تهاوين الحالمين قد يرضي بها وجدانه، لكنها لا تصور من واقع الأمر شيئا؛ فلئن كانت النظرة الذاتية مطلوبة لمن أراد أن يخرج للناس مكنون نفسه؟ فالنظرة «الموضوعية» للحقائق واجبة على من يتصدى لتلك الحقائق بالعرض الصادق؛ فلقد كنت أستمع في التلفزيون إلى متحدث جليل، فلما ورد في سياق حديثه محاولات العلماء الصعود إلى القمر وغير القمر من أجرام السماء، قال المتحدث الجليل أن منديل الورق الذي يمسح به أنفه المزكوم أنفع من صعود العلماء إلى القمر؛ فلو كان متحدثنا الجليل يعبر في ذلك عما يشعر به هو ، وجعل السامعين على إدراك بأنه إذ يقول ذلك، فإنما هو ينظر إلى موضوع نظرة شاعر، مسئول فقط أمام وجدانه وما يشعر، لما كان في الأمر ما يؤخذ عليه؛ فللشعراء كل الحق في أن يجعلوا من اللحظة القصيرة دهرا لا ينتهي، وأن يجعلوا من أبدية الدهر لحظة عابرة؛ لأنهم يستوحون نفوسهم وطريقتها في رؤية العالم. وأما أن يقول كلاما كهذا في سياق عرض «علمي» لما يعرض له، فقد كان واجب «العقل» يقتضيه أن يتقصى الحقائق في موضوعية العلماء. ولو فعل ذلك لعرف أن إحدى النتائج الفرعية الجانبية التي نتجت لنا عن الصعود إلى القمر، تلك الأقمار الصناعية التي نستخدم بعضها في نقل البث التلفزيوني إلى أرجاء العالم كله في لحظة واحدة. ومن يدري؟ فلعل محدثنا الجليل كان في حديثه ذاك مسموعا للعالم الإسلامي كله بواسطة أقمار صناعية، جاءت نتيجة فرعية لمحاولات الصعود إلى القمر، التي قال عنها سيادته إن ورقة يمسح بها أنفه المزكوم أنفع منها.
النظرة «الموضوعية» هي قرين العلم، ولا علم بغيرها، فماذا يقصد بها على وجه التقريب والتوضيح؟
مقصود بها أن ترى من الشيء المعين ما يراه «كل» إنسان آخر، ما دامت له أدوات الرؤية المطلوبة للمجال الخاص الذي يخضعه لرؤيته؛ فليس من الموضوعية العلمية أن تدلي في موضوع ما «برأي» شخصي، ربما جاء ميلك نحوه نتيجة «للكهف» النفسي الذي سجنت فيه بتأثير أولياء أمرك في مراحل حياتك الأولى. وقد تبلغ بنا الدقة في تحديد النظرة الموضوعية حد القول بأنها هي التي ترتد آخر الأمر إلى ما يمكن إخضاعه للقياس الكمي فقط؛ لأن ما دون ذلك غالبا ما يكون مجرد انطباعات على حواس الشخص المدرك، مع احتمال أن تجيء انطباعات شخص آخر على صورة أخرى؛ فرؤية الألوان بالعين: هذا أخضر، وذلك أصفر، تندرج - من الناحية العلمية - في مجال الإدراك الذاتي. وأما الإدراك الموضوعي لها، فهو طول الموجة الضوئية التي أدت بالعين إلى رؤية اللون الذي تراه؛ إذ ربما اختلفت أبصار الناس في انطباعاتها، بل ربما غاب البصر عن بعضهم. أما طول الموجة الضوئية فرقم رياضي لا وجه للاختلاف حوله بين أفراد العلماء . وكذلك قل في الصوت؛ فسمع الأذن للصوت يدخل في مجال الإدراك الذاتي. وأما المعرفة الموضوعية للصوت فهي معرفة موجات الصوت المعين كم طولها، وهكذا.
صحيح أن المعرفة الموضوعية التي تبلغ هذه الدرجة من دقة التحديد، قد لا تكون ممكنة في موضوعات كثيرة؛ فنقول عن هذه الموضوعات علمية بقدر ما تحتمل تلك الدقة، وهي غير علمية بقدر ما تفجر عنها. ولقد كانت معظم العلوم الاجتماعية والإنسانية مما لا تؤهله مادته لدخول ميدان الموضوعية العلمية في أدق صورها، لكنها اليوم تسير نحو هذا الهدف بخطوات سريعة، لإخضاع موادها إلى الضبط الكمي بالإحصاءات والقياسات وغيرها.
خروجنا من سجون كهوفنا الفكرية، مرهون بالبحث - في كل موضوع عام - عن جانبه الموضوعي؛ لأنه وحده يستجيب للرؤية العلمية. وأكرر القول بأن الرؤية الذاتية الوجدانية في بعض المجالات، ليس فيها عيب يعاب عليها ما دامت تقتصر على مجالها، ولا يزعم عنها زاعم أنها واجبة القبول عند سائر الناس. إنما نحرر أنفسنا من سجون كهوفنا، يوم أن تكون لنا القدرة على تحويل الشئون العامة إلى مسائل علمية، يقول فيها باحث لباحث: تعالى «نحسب» الأمر معا حسابا عدديا، بدل أن يقول له: تعالى «نناقش» الأمر على مائدة الألفاظ نتبادلها بالحديث وكأننا نسمر في ليلة مقمرة.
ومع ذلك، فلنعترف بأن ثمة من الموضوعات الثقافية الهامة ذات التأثير الفعلي العميق في حياة الناس، ما لا يستطاع إخضاعه للحساب الرياضي في دقته وموضوعيته، وما يستلزم بالضرورة أن يكون «النقاش» اللفظي وسيلته الأساسية أو الوحيدة؛ فنحن في هذه الحالة نطالب بأن يكون المتناقشون على يقين بأنهم يستخدمون اللفظة الواحدة بمعنى واحد عندهم جميعا، وإلا كان كل منهم في حكم من يتحدث في موضوع غير الموضوع الذي يتحدث فيه زميله. كنت ذات يوم عضوا في لجنة رسمية تبحث في شئون «الثقافة»، فقال قائل في غضون حديثه إن «الثقافة الرفيعة كذا وكذا.» فأسرع زميل بالاعتراض قائلا: «ليس في الثقافة ما هو رفيع .» ... فقل لي - أيها القارئ - ولك عند الله ثواب هداية الحيران، ما هذا الذي أمكن أن يكون «رفيعا» عند أحدهم وألا يكون «رفيعا» عند الآخر؟ وهل يمكن أن يكون ذلكما المتحدثان قد فهما كلمة «ثقافة» بمعنى واحد قبل أن يدخلا معا في نقاش؟
سجناء الكهوف عندنا كثيرون، كل ينضح من ذاته الخاصة، ويريد أن يفرض ما ينضحه على الآخرين، وليس في ذلك بأس إذا كان الأمر أمر ذواق ومزاج. وأما إذا كان المطروح موضوعا عاما، ويراد فيه كلمة الحق التي لا شأن لها بشجرة الأنساب؛ بحيث يزداد وزنها إذا جاءت من الوجهاء ذوي النسب الشريف، ويخف وزنها إذا جاءت من عابري السبيل. أقول إنه حيثما يراد في موضوع عام كلمة حق موضوعي، تستطيع أن تكون أساسا للبناء، فلا مندوحة لأولي الشأن عندئذ عن الخروج من ظلام الكهوف التي هم سجناؤها.
لماذا ارتفعت السماء؟
نعم، لماذا ارتفعت السماء فوق الرأس واتسع الأفق أمام البصر؟ كان ذلك لكي يعلو الإنسان بطموحه إلى غير نهاية، ولكي ينفسح أمامه الأمل بغير حدود؛ فكلما علا رأسه إلى السماء، وجد فوقه سماء، وكلما قطع شوطا إلى الأمام، وجد أمامه شوطا، وذلك هو الإنسان: في جسده حيوان يشده إلى أسفل، وتسري فيه روح ملائكية تشده إلى أعلى! إنه إنسان، لكي يتأرق ليعلو على الإنسان!
إن الخنزير خنزير، ولا يطمع في أن يكون شيئا غير خنزير ينسل من بعده الخنازير. وأما الإنسان فقدماه على الأرض ورأسه في السماء؛ قدماه تشدانه إلى «الواقع»، وطموحه يدفعه دفعا ليرتفع فوق ذلك الواقع، وإلا فكيف يتاح له ارتقاء، إذا هو لم يجاوز حدود واقعه ليعلو عليه؟
الخنزير مقيد بمكانه وزمانه. وأما الإنسان فذو خيال يحطم به حدود المكان والزمان؛ فإذا كانت قدماه مشدودتين إلى موقعهما من الأرض، فقوة خياله تطير به إلى الأعلى السماء، وإذا كان زمانه مرهونا بلحظته، فخياله قادر على أن يحمله فوق جناحيه إلا اللانهاية. والعاجزون وحدهم هم الذين ينظرون إلى الإنسان ويقولون عنه إنه «إما ... وإما»، ولا جمع بين الطرفين؛ فهو إما مقيد بواقعه المحدود مكانا وزمانا، وإما روحاني لا يقيده واقع. العاجزون وحدهم هم الذين يقولون هذا، وكأنما ليست لهم نفوس يستشفونها من الداخل، ليعلموا أن الإنسان هو هذا وذاك معا. ولكل من الحالتين في حياة الإنسان لحظتها؛ فهو ساعة أن يكون عالما في معمله أمام المخابير، أو في مكتبته وبين يديه المراجع، وساعة أن يكون مباشرا لتصريف من تصاريف حياته العملية، فعندئذ تكون السيادة المطلقة لما تراه العين وما تسمعه الأذن وما تحسه الأيدي من الأمر الواقع، وإلا لما استطاع العلماء أن يحصلوا علما صحيحا، ولا استطاع المباشرون شئون حياتهم العملية أن يحققوا لأنفسهم الطعام والمأوى.
ولكن ليس ذلك كل شيء في حياة الإنسان؛ لأن له لحظة أخرى يعيشها إلى جانب اللحظة التي يكون فيها عالما أو عاملا. وتلك اللحظة الثانية إذا ما حانت، انفتحت أمامه الأبواب المغلقة والنوافذ؛ فلا «واقع» هنا يسجنه بين جدرانه، ولا مكان هنا يقيده، ولا زمان يحدده؛ فهو إذا أقام الصلاة ووقف في حرمها المقدس أمام مولاه جل وعلا، كان في حالة من الشهود تخرجه من القيود والسدود؛ إنه في لا مكان وفي لا زمان، إنه كائن عابد؛ فهو عندئذ لا هو عالم ولا عامل. وهل سمعت حكاية ذلك العابد الذي عطبت له ساق، أو غير الساق من أعضاء جسده، وكان لا بد له من جراحة، ولم يكن الناس في ذلك الزمان القديم يعرفون المخدر الذي يستخدم اليوم في حالات الجراحة، فطلب ذلك العابد أن تجرى له جراحة العضو المعطوب وهو يؤدي الصلاة؛ وذلك لأنه كان يعلم أنه ساعة صلاته لا يظل جسدا يرى ويسمع ويحس؛ لأنه وهو في الحضرة الإلهية يكون في عالم آخر غير هذا العالم المحدود بواقعه.
وليست العبادة هي الحالة الوحيدة التي تخرج الإنسان من واقعه المحدود، بل هنالك كذلك حالة النشوة الفنية؛ فمن عرف كيف يتأمل قطعة من الفن كائنة ما كانت؛ موسيقى، أو شعرا، أو تصويرا، أو أي نوع فني آخر، عرف أنه في لحظة تأمله ذاك، إنما هو بمثابة من ترك العالم المحيط به ودخل عالما آخر تسوده قوانين أخرى غير القوانين السائدة في دنيا الأشياء والحوادث. ولو لم يكن الأمر كذلك لنفر القارئ من دنيا الخيال التي أدخل نفسه في رحابها، وهو يقرأ - مثلا - عن بساط الريح، أو عن مصباح علاء الدين، لكنه - وهو داخل العالم الخيالي في دنيا الأدب والفن - لا ينفر من شيء خارق للطبيعة؛ لأنه يعلم منذ دخوله في ذلك العالم أنه أمام مجموعة أخرى من القوانين؛ ولذلك قيل إلى من عرف كيف يحيا في دنيا الفنون، عرف بالتالي كيف يحيا حياة الحرية التي يستحيل على أحد أن يسلبه إياها، مهما بلغ من جبروت الطغيان. ولا عجب أن يقال في هذا الصدد إن السجين وهو في غيابة سجنه في مقدوره أن ينظر من خلال القضبان إلى ما يكن رؤيته من مشاهد الطبيعة، فإذا ما تأملها تأمل الفنان كان كمن أخرج نفسه من محبسه.
وحالات وجدانية أخرى كثيرة، منها حالات الحب بكل ضروبه، لا يكون الواقع المادي المحسوس، بقيوده وحدوده، هو صاحب السيادة كل السيادة، مما هو معروف ومألوف للناس أجمعين.
فهل تصدق أن هذه التفرقة الواضحة بين اللحظتين؛ لحظة أن يكون الإنسان محصلا للعلم، أو ممارسا للعمل؛ حيث تكون السيادة للعقل وحده مستعينا بالحواس من بصر وسمع وغيرهما، ولحظة أن يكون الإنسان مسلما زمامه لوجدانه؛ في عبادة، أو في تأمل لنتاج أدب وفن، أو في حب يشتد فيطمس السمع والبصر. أقول: هل تصدق أن هذه التفرقة الواضحة بين هاتين اللحظتين من حياة الإنسان، قد تعذر إدراكها على كثيرين؛ فلقد اجتاز كاتب هذه السطور محنة بعد أخرى، كلما قرأ أو سمع بأن ثمة من لم يفهم عنه هذه التفرقة التي أخذ بها منذ كانت له وقفة فكرية محددة، قوامها أنه إذا كانت اللحظة لحظة علم أو عمل، فالعقل مستعينا بالحواس، هو صاحب السلطان، والأمر الواقع وحده عندئذ هو مجال النظر. وأما إذا كانت اللحظة لحظة حياة للوجدان في أية ناحية من نواحيه ، وجب على العقل وحاشيته أن يتنحى، وعلى الواقع المادي أن يذوب؛ لأن المجال وقتئذ لا هو مجال للعقل ولا هو مقيد بحدود الواقع، فكان هناك من قرءوا الشطر الأول ولم يقرءوا الشطر الثاني، وكان موقفهم من كاتب هذه السطور، موقف من وقف من الآية الكريمة عند الجزء القائل:
لا تقربوا الصلاة ، وكان لهذا الكاتب من ذلك كله ما أدخله في محنة نفسية بعد محنة، وسبحان الله علام الغيوب وعلام القلوب.
ونعود إلى سؤالنا الأول: لماذا ارتفعت السماء فوق الرأس واتسع الأفق أمام البصر؟ ونعود كذلك إلى جوابنا الأول، بأن ذلك قد كان كذلك لكي يعلو الإنسان بطموحه إلى غير نهاية ولكي ينفسح أمامه الأمل بغير حدود؟ حتى ولو رأى فجوة هائلة بين طموحه من ناحية وقدراته من ناحية أخرى، لأنه ما لم يرتفع بذلك الطموح عن حدود واقعه كان كالخنزير الذي لا يريد إلا أن يكون خنزيرا ينسل الخنازير، وانظر إلى فاوست (وكل فرد من هو فاوست بدرجة تعلو أو تهبط) أقول انظر إلى فاوست الذي غلبه طموحه لأن يزداد علما بدنياه حتى ولو كانت حياته هي الثمن، تجد في نوازعه نوازع بناة الحضارة، ولم تكن الخنازير ولا أشباهها التي قنعت من دنياها بالحدود الدنيا من طعام وثياب ومأوى هي التي أقامت شيئا مما نعم به الآن.
فحيث تسير الحياة هينة لينة لا صعب فيها ولا كفاح، فلا يكون طموح، وتهدر عن الإنسان إنسانيته بقدر ما سقط عنه طموحه. لقد كان أستاذنا توفيق الحكيم قد خرج على الناس يوما بشعار يقول «الطعام لكل فم.» وأذكر أني أحسست إزاء ذلك الشعار بقلق لأنه قد يوحي بصورة بشعة لصفوف الناس وقد تربعوا على الأرض مفتوحي الأفواه، ليملأها لهم المتصدقون عليهم بطعام سواء كان المتصدق دولة أم جمعية أهلية أم فردا من الأفراد، وشعرت يومئذ أنني كنت أفضل قولا آخر يقول: «العمل لكل يد»، وعلى كل عامل أن يطعم نفسه من ثمرة عمله وكفاحه، فأنا أؤمن بالعمل الذي ينتج، ولا يسعدني ناتج يجيئني بلا عمل؟ لأن الأمر عندئذ يشبه عندي أن أدخل مباراة مع غيري فيقول لي منذ البداية: فيم العناء لك ولي؟ كن أنت الغالب الفائز بلا لعب، لا، إن مثل هذا الموقف لا يرضيني، وأحب أن يأتيني الفوز نتيجة لكفاحي.
ولعلني من أجل هذا الموقف، أجعله شرطا أساسيا لا أحيد عنه كلما أردت تقويم عمل فني، وهو أن أرى كم وضع الفنان لنفسه بنفسه من صعاب ثم تغلب عليها، فإذا كان ما بين يدي - مثلا - قصيدة من الشعر نظرت إلى ما تتضمنه من حوائل فرضها الشاعر على نفسه ثم غليها، ومن قبيل هذه الحوائل الوزن واختيار اللفظ والشكل والموضوع ... وبهذا فقط نفهم ما يقوله نقاد الفنون من أن الفن الرفيع يخفي ما قد بذله الفنان من جهد في بنائه.
لا، ليس يسعدني أن تكون لحياة قانعة سهلة على أطراف الشفاه أو أطراف الأصابع لأن العقبة وتذليلها هي التي تخلق من الإنسان إنسانا كاملا، وأما الحياة الميسرة من طعام ومأوى، فهي في مستطاع الذباب، ولست أظن أن حضارة كانت تقام لأحد لو كانت مغاليق الطبيعة تنفتح لمن يقف أمامها قائلا لها: افتح يا سمسم وإنما نحتاج تلك الطبيعة لكي تعلن عن سرها إلى علماء يعرفون للبحث العلمي عناءه ولا يكفيها علاء الدين ومصباحه لتفصح عن مكنونها؟ ولكم رأيت عند غيرن من مغامرات وركوب للأخطار في سبيل المعرفة العلمية وكنت أتأمل ما أرى قائلا لنفسي: متى يبلغ عندنا الطموح إلى المعرفة الصحيحة هذا المدى؟ إنهم هناك يعمقون في جوف الأرض، ويغوصون في غور البحر، ويطيرون حتى يجاوزوا نطاق الأرض، طلبا للمعرفة العلمية وأما نحن؟! وأما نحن فلقد جلست «العلم» ويسخر قائلا لسامعيه: أيحسب هؤلاء الذين يحسبون لظواهر الطبيعة حسابها، ليقولوا متى يكون زلزال ومتى لا يكون، أيحسب هؤلاء أنهم بالغون من الحق شيئا؟ إن الله سبحانه وتعالى ينتظر عليهم حتى يفرغوا من حسابهم، ثم يزلزل لهم الأرض من حيث لا يحسبون، وكأنما يخطبهم بذلك قائلا: «الكلام ما زال هو كلام المتحدث المشار إليه أو ما في معناه هل فرغتم من حسابكم؟ خذوا إذن ما يدلكم على أن حسابكم كله دخان في الهواء.»
فقل لي بربك هل يشغل مثل هذا القول طموحا نحو كشف المجهول؟
ماذا ينفع كلام كهذا شعبا مثل شعبنا في طموحه الوثاب نحو زراعة الصحراء، وشق الأرض بحيرات وأنفاقا؟ ولن أضرب المثل هذا إلا بأسلافنا المسلمين الأولين حين ارتفعت مع حرارة إيمانهم حرارة الحياة ومصارعة الحوائل والصعاب؟ وليسأل متحدثنا الفاضل نفسه: كم دفع ذلك الإيمان القوي رحالة يجوب مجاهل البر وظلمات البحر ليكشف عن المجهول؟ وكم عالما اندفع بإيمانه القوي نحو أن يرغم الطبيعة على أن تنطق بسرها المكتوم، فهذا هو جابر بن حيان - مثلا - وكأنه يسأل إذا كان معدن الذهب قد صنعته عوامل طبيعية معينة على مدى زمن الله أعلم بعدد سنينه، فلماذا لا أستطيع أنا أن أعيد صنع الطبيعة ثم أتفوق عليها بأن أطهو في أيام قلائل ما احتاجت هي في طهوه إلى ذلك الزمن الطويل؟ أقول إن جابر بن حيان هو بمثابة من طرح سؤالا كهذا ولم يحجم عن محاولة التجربة لعله ينجح، وهي وقفة علمية تنمي مثلها لعلماء المسلمين اليوم؛ لأن معظم ما في الوقفة العلمية الصحيحة من الطبيعة هو أن نصوغ لها الأسئلة التي ترغمها على الجواب ومثل هذه المغامرة هو الطموح الذي من أجله اتسع الأفق امام البصر وارتفعت السماء فوق الرءوس. ولم يكن بناة الحضارات ليجدوا حوافزهم الباعثة على انفساح الأمل وارتفاع الطموح ولو اعترضهم عند كل خطوة على الطريق من يثبط فيهم الهمة على هذا النحو العجيب.
كان هنالك في عصر اليونان الأقدمين شيء من التنافس بين الآلهة والناس؛ فكان أولئك الآلهة يحرصون على ألا يتنازلوا عن جوانب قوتهم للبشر ومنهم «المعرفة» فأبى برومثيوس للبشر إلا خيرا وهدى، وسرق شعلة العلم من الآلهة وأسلمها للناس، فما كان من هؤلاء إلا أن شدوا جسده إلى جذع شجرة وسلطوا عليه سباع الطير لتنهش لحمه عقابا له على فعلته ... نعم كان ذلك في العصور الأولى، ولكن جاءت رسالة الإسلام إلى المسلمين في القرن السابع الميلادي بشيء آخر تضمن فيما تضمنه أن توكل إلى عقل الإنسان شئون الإنسان إلى المدى الذي يستطيعه ذلك العقل بفطرته ويدخل في ذلك المدى استخلاص قوانين العلوم من الظواهر. ولو قصر الإنسان في واجبه نحو تحصيل العلم بالأشياء من حوله لكان مقصرا فيما أوصي به من تفكر في خلق السموات والأرض.
نفوس ثابتة بطموحها نحو تحصيل العلم وإنجاز العمل هي ما نريده لشبابنا اليوم وكل يوم. وليعلم هؤلاء الشباب أن السماء قد علت فوقهم ليعلو معها طموحهم وأن الآفاق اتسعت أمام أبصارهم ليمتد بآمالهم المدى.
من الشعب وإليه
شاركت ذات يوم في ندوة إذاعية عن «بناء الإنسان المصري»، ولم أكن على أدنى درجة من الغموض في المعنى المقصود الذي من أجله دعينا للحديث؛ فليس فينا واحد لا يرى بملء عينيه ما قد سرى في الناس من استهانة بالواجب المفروض على كل مواطن في موقع عمله. وإذن فلا بد أن يكون هدف الداعين إلى الندوة هو أن يدور حوار تلقي به الأضواء على مواضع النقص وسبل إصلاحها ليعود المصري إلى ما عهدناه فيه من إخلاص لأداء واجبه بغض النظر عن الجزاء، كثر أو قل، وأوضح صورة لذلك المصري هو الفلاح وهو يقضي بياض نهاره في أرضه لا يطوف برأسه السؤال عن العائد المادي: كم يكون؟
لكن الندوة لم تكن تبدأ حتى اعترض أحد المشاركين على موضوع الحوار المنتظر من أساسه قائلا ما معناه: إن الشعب في أبسط درجاته هو الذي من حقه أن يعلمنا كل شيء، وليس لنا نحن أن نعلمه؛ فلدى جمهور الناس من الإدراك السليم ما يهديه وليس لدينا نحن ما نضيفه إلى ذلك الإدراك.
فدهشت لأمرين؛ أولهما تلك التفرقة بين جمهور الشعب من ناحية وبيننا نحن الذين دعينا للندوة من ناحية أخرى؛ فكأننا هبطنا على الناس من كوكب مجهول، وكأننا لسنا أفرادا من ذلك الجمهور الذي أشار إليه الزميل في اعتراضه. وأما الأمر الثاني الذي أثار دهشتي فهو أن يقبل صاحب الاعتراض دعوة الإذاعة للمشاركة ثم يجلس ليقول للناس إنه لا يملك ما يقوله لهم ولو كان مؤمنا حقا بما قاله لطلب ممن وجهوا إليه الدعوة أن يعكسوا الأوضاع فيجمعوا جماعة من المارة في الطريق كما اتفق ليدلوا ببعض علمهم وليهتدي زميلنا بما يتلقاه منهم. واضح إذن أن زميلنا لم يكن يعني ما قاله، فلماذا قاله؟ لست أدري إلا أن يكون ذلك نفسه جزءا من الانحراف الذي ذهبنا ليتحدث عن طبيعته وعن أسباب حدوثه وعن طريق معالجته؛ فلعل الخطوة الأولى على طريق الإصلاح المطلوب هي الصدق الذي لا يتملق أبدا؛ فمصر هي المبدأ وهي المنتهى، وليس لأحد منا نصيب أكثر من سواه في شرف الانتماء إليها، فلماذا ينافق من ينافق؟ ومن الذي ينافقه؟ فإذا فرضنا حسن النية كان أقل ما نقوله هو أن هنالك لبسا عجيبا نلحظه حينا بعد حين بين أن يكون جمهور الشعب معلما للقلة المتعلمة من أبنائه وأن يكون ذلك الجمهور في موقف من نريد أن يتعلم على أيدي هؤلاء المتعلمين من أبنائه.
ولست أرى الأمر في هذا الموقف مختلفا عنه في أي موقف اجتماعي آخر يكون فيه أخذ وعطاء؛ فالمزارع يعطي للآخرين محصول أرضه ليأخذ منهم ثيابا وخدمات؛ فلا فضل له على الآخرين أكثر من فضل الآخرين عليه؛ فإذا كان يعطيني ما عنده لأعطيه ما عندي كان في هذا التبادل المتساوي عصب البناء الاجتماعي. ولقد شاءت المصادفة أن يكون من الشعب أفراد تعرف كيف تزرع الأرض وأفراد تعرف كيف تطب المرضى وأفراد تعرف كيف تنشر المعرفة داخل المدارس وخارجها، وهكذا. فما الذي أخجل زميلنا في الندوة أن يعطي مما عنده لقاء ما يأخذه مما عند الآخرين؟ ما حيلتنا إذا كان الحصاد عند أحدنا قطنا وقمحا وعند الثاني حرفة معينة وعند الثالث مجموعة أفكار قد يكون فيها ما يصلح المعوج؟
على أننا نريد في هذا الموضع من الحديث أن نقف قليلا لنتبين في وضوح من أين تبدأ الأفكار وإلى اين تنتهي فلعلنا واجدون في هذا التحليل ما يستريح له ضمير زميلنا الذي رأى إثما في أن يكون مصدر فكر يهتدي به الشعب؛ إذ ربما وضح لنا من التحليل أن العملية الفكرية تبدأ من الشعب لتعود إلى الشعب مرورا برءوس نفر من أبنائه تماما كما يصدر القطن من زراع الأرض ليعود إليه ثوبا يرتديه مرورا بمصنع للغزل والنسيج.
وأبدأ التحليل بحكاية رواها مؤلف لعله أن يكون أعظم فلاسفة العلم في عصرنا، وهو كارل بوبر، الذي كان أستاذا في كلية الاقتصاد بجامعة لندن لسنوات طويلة؛ فهو يروي في إحدى مؤلفاته أنه دخل قاعة المحاضرات ذات يوم وطلب من الحاضرين أن يعدوا أوراقا وأقلاما، فلما كان له ذلك أمرهم بقوله: «هيا فكروا.» فنظر إليه الطلاب نظرات متسائلة، لكنه أعاد عليهم القول مرة أخرى: «هيا فكروا.» فسألوه: فيم نفكر؟ فضحك وقال ما معناه: الآن قد ظفرت منكم بما أبتغيه؛ لأنكم لن تنسوا بعد الآن أن الفكر لن يكون فكرا قط، بل هو لا يخطو خطواته الأولى إلا إذا كان هنالك موضوع يتطلب التفكير. وإذا قلنا ذلك فكأننا قلنا أيضا إنه لا فكر إلا إذا كان هناك مشكلة تتطلب حلا.
ومن أين تأتي المشكلات التي تحتاج إلى حلول إلا من ميادين الحياة العملية نفسها؛ في المزرعة وفي المصنع وفي المكتب وفي الطريق، بل وفي البيت؟ ثم من أين تأتي الحلول إلا من ميادين العلوم على اختلافها؟ فإذا كانت مشكلة الزارع هي أن يحصل على مورد منتظم من ماء الري جاء له حل مشكلته من القائمين على هندسة الرأي بما أقاموه من مشروعات تنظم موارد الماء على امتداد العام؟ وهكذا قل في كل مشكلة تنشأ للعاملين في أي ميدان من ميادين الحياة.
لكن المشكلة قد تكون اجتماعية عامة، كتلك التي اجتمعنا في الندوة الإذاعية من أجلها، وهي الخاصة بما أصاب المصري من تغير طرأ عليه فسلبه شيئا من خصائصه التقليدية التي امتدت معه على فترات طويلة من التاريخ؛ فها هنا قد يسأل سائل: وهل لمثل هذه المشكلة الاجتماعية «علم خاص»؟ وجوابي أنه حتى لو لم يكن لها علوم خاصة بها، كعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرهما، فهي بحاجة إلى منهج في التفاؤل، أو إلى «طريقة» نظر ومعالجة. وفي العادة لا تتوافر طريقة كهذه إلا لمن شاء لهم الله من أفراد الشعب أن يتمرسوا بطرائق التفكير المنهجي من خلال المواد الدراسية التي عرضت لهم أثناء التحصيل.
ولا يقتصر الأمر في العلاقة الفكرية بين جمهور الشعب والقلة من أفراده التي جعلت الثقافة محور حياتها. أقول إن العلاقة بين هذين الطرفين لا تقتصر على أن تتعرض المجموعة الكبرى لمشكلات، فتلتمس حلولها عند المجموعة الصغرى، على نحو ما يعرض المريض مواضع شكواه على طبيب، أو يطلب رجل الأعمال من المهندس أن يعينه على تشييد المباني وإدارة الآلات، بل هنالك بين الطرفين - إلى جانب ذلك - روابط ثقافية أخرى؛ منها أن تكون في حياة المجموعة الكبرى عدة معان وقيم يتعامل الأفراد على أسسها، دون أن تجد لها عندهم صياغة صريحة واضحة؛ فيصبح من مهام رجال الفكر استخلاصها من ثنايا الحياة العملية وشعابها، ثم صياغتها بحيث تكون موضع رؤية وسمع، فتسهل مناقشتها وتحليلها ونقدها، وربما محاولة تعديلها.
فالمصري من عامة الشعب ينشئ علاقة حميمة بينه وبين ربه، وأخرى بينه وبين أفراد أسرته، وثالثة بينه وبين مواطنيه على صورة فريدة يتميز بها دون سائر الشعوب؛ فليس كل الناس، بل ليس كل المسلمين والمسيحيين يتعبدون بالروح نفسها التي يتعبد بها المصري؛ فالمسلم المصري سني معتدل على الأغلب. والمسيحي المصري كانت له رؤية خاصة كاد أن ينفرد بها منذ القرون الأولى في تاريخ المسيحية، وهي كذلك رؤية تتسم بالاعتدال. أقول إن المصري من عامة الشعب يعيش عقيدته الدينية إيمانا في القلب وسلوكا في دنيا العمل، لكن الذين جعلوا الثقافة محور اهتمامهم - وهم كغيرهم من المواطنين جزء من الشعب - هم وحدهم الذين يستخرجون الجانب النظري المتضمن في المواقف الحياتية العملية. ولماذا يستخرجونه؟ يفعلون ذلك لينتقل الموضوع من أعماق اللاوعي إلى مستوى الوعي، فيمكن عندئذ رؤية حقيقته وحدوده؛ فليس في مقدورنا أن نعرف ما طبيعة المصري من مجرد النظر إلى أفراد الناس سائرين في الطريق أو زارعين حقولهم أو صانعين هذا أو ذاك في مصانعهم، لكننا نرى هذه الطبيعة المصرية بما يشبه طبيعة العين إذا استخرجنا من تفصيلات الحياة العملية مبادئها النظرية المبثوثة في تضاعيفها وحناياها. ومثل هذه الرؤية كما هو واضح يمكن أن يقال عنها إنها من الشعب وإليه.
ويفيدنا في هذا الموضع من الحديث أن نقول إن استخلاص الدعائم النظرية من وجوه الحياة العملية هو من صميم الفكر الفلسفي، أنى كان وأينما كان. فإذا وجدنا معظم الفلاسفة الإنجليز - مثلا - ينحون منحى المذهب التجريبي الذي يرد معرفة الإنسان إلى «حواسه»، عرفنا أنهم إنما غلب عليهم هذا الاتجاه لأنه هو نفسه الاتجاه الأغلب في حياة الشعب البريطاني. وقل ذلك في فلسفة الأمريكيين «البراجماتية» (أي العملية)، وفي فلسفة الفرنسيين حين كانت «عقلية» أو في منحاها الوجودي المعاصر. ثم قل ذلك نفسه أيضا في فلسفة المسلمين حين كانت للمسلمين فلسفة؛ لأنك واجد فيها كل ما كان يشغل العقل الإسلامي من مشكلات، ومنها - مثلا - كيف يفهمون الأفكار الإسلامية ذات الأثر المباشر في حياة المسلم، كالإرادة بين الحرية والجبرية، وكالتوحيد، والعلاقة بين ما نزل به الوحي وما جاء عن طريق العقل، وهكذا ... كل هذه الفلسفات هي بمثابة رؤى فكرية استخلصت من حياة الناس ثم ردت إليهم.
ولسنا نقول شيئا مجهولا إذ نقول إنه كثيرا جدا ما يحدث أن تشيع في صدور الناس، على صور مبهمة أفكار ومشاعر، يحسونها بما يشبه الإدراك الوجداني الغامض؛ فتكون مهمة رجال الثقافة المبدعين للفن أو للأدب، أو للفلسفة، أو حتى المشرعين للقوانين الوضعية، أن يخرجوا ما قد كمن مبهما في الصدور إلى الإفصاح والعلانية. وإلا فلماذا يجد الشعب المعين «نفسه» في شعر شعرائه، وفي فنون رجال الفن من أبنائه، وفي شتى نواحي الإبداع، إذا ما جاء ذلك الإبداع من حس صادق عند أصحابه؟ ومن هنا كان كل عمل ثقافي أصيل - كائنا ما كان مستواه - بمثابة ناتج مأخوذ من الشعب ومردود إليه.
ولك بعد ذلك أن ترى ثقافتنا المصرية مجسدة في بعض معالمها القديمة والحديثة معابد القدماء ومقابرهم، روائع العمارة وفي المساجد والبيوت الأثرية، مصنوعات خان الخليلي، حكايات ألف ليلة وليلة (وقد صيغت في صورتها المعروفة عن ألسنة المصريين) سيد درويش، شعر البارودي وشوقي، مسرحيات توفيق الحكيم، قصص نجيب محفوظ، إلخ ... إلخ ... فهل ترى شيئا من هذا المحصول الثقافي إلا مأخوذا مما كان يتردد في نفوس الناس أفكارا أو معتقدات أو طرائق سلوك؟ وذلك هو ما يجب أن نعنيه حين نقول إن الثقافة تنبع من الشعب وتعود إليه؛ تنبع منه أحلاما مبهمة، أو سلوكا لا يدري صاحبه ماذا ينطوي عليه من مبادئ، ثم تعود إليه مصوغة في ألحان وألوان وكلمات ومشيدات.
فأنت على صواب إذا قلت أن الشعب هو المعلم، شريطة أن يكون ذلك إلهاما وإيحاء، وكذلك أنت على صواب إذا قلت عنه إنه يتعلم من أصحاب الثقافة فيه، إذا أردنا التعبير عما يجول في صدور الناس من مبهم غامض، تعبيرا معلنا صريحا، تراه الأعين، وتسمعه الآذان، وتمسه الأيدي.
إنسان هذا العصر
قبل أن أكتب كلمة مما أردت أن أكتبه في موضوع الإنسان وعصره هذا الذي كتب علينا أن نكون من أبنائه، لا بد لي من ذكر حقيقة لها عندي صدارة لأنها - على الأقل - تقطع الطريق على النقد المتسرع؛ هي أنه إذا كان محتوما على الناس في عصر معين، أن يشربوا ماءهم من مورد واحد، يكون هو الينبوع الذي تتدفق منه الخصائص الأساسية لذلك العصر، فإن هذا المورد المشترك لا ينفي أن تتشعب الحياة بعد ذلك شعوبا مختلفة في جوانب كثيرة من العقائد والأذواق وطرائق العيش؛ فالأمر في ذلك شبيه بشجرة عاتية رسخت في الأرض بجذع ثابت لا يميل مع العاصفة حيث تميل (وذلك هو روح العصر) حتى إذا ما اطمأن الجذع على ثباته ورسوخه، تفرعت فروعه وامتدت متشابكة أو متفرقة، ولكل منها أن يستقل بحركته وأوراقه؛ فحتى لو ضعف منها فرع وانكسر، فلا يؤثر مصيره بالضرورة في سائر الفروع.
وبعد هذا التحوط الذي جعلنا له صدارة، تلافيا لما قد يقال من أن الحديث عن العصر ووحدانيته ربما تضمن طمسا للخصائص النوعية التي تميز الشعوب المتباينة شعبا من شعب؛ أقول إنني بعد هذا التحوط، أسأل: ما هي أخص خصائص هذا العصر، التي لا بد أن يتمثلها كل إنسان، كائنا ما كان بعد ذلك ما يفصله عن سواه؟
أقول: ليست تلك الخصائص العامة المشتركة مطروحة لاختيارنا، فإما أخذناها وإما نبذناها، كلا بل هي فرض على كل من يقله العصر الحاضر بأرضه، ويظله بسمائه.
أولى تلك الخصائص التي ليس منها مهرب لمن أراد أن يحسب بين الأحياء، ذلك التوازن الدقيق بين علم ومنهاجه في ناحية، وفن وإبداعه في ناحية أخرى؛ في الأول تفنى الذات الفردية بقدر ما هو في مستطاع صاحب الذات أن يفنيها، وفي الثاني تعتبر الذات الفردية بنفسها، بقدر ما هو في مستطاع صاحبها أن يثبت وجودها. ولست أظن أن عصرا قبل عصرنا هذا، قد انفرجت فيه الزاوية بين ظاهر وباطن، بمثل ما انفرجت في عصرنا؛ فالظاهر الذي هو من شأن العلم أن يبحثه ويستخرج قوانينه، بعيد بعدا شاسعا عن باطن الإنسان، الذي هو من شأن الفن أن يخرجه ألحانا وألوانا، أو تعبيرا بالكلمات؛ فلقد كان يمكن في أي عصر سابق، أن نجد للعصر الواحد روحا واحدة موحدة، تظهر في هذه الناحية علما، وفي تلك الناحية فنا؛ ففي عصر النهضة الأوروبية مثلا انطلق الإنسان - مدفوعا بدافع العلم - يرحل في مجاهل البحر والبر والسماء، بل ويرحل كذلك في مجاهل «العقل» الإنساني، باحثا عن طرائق نشاطه إبان عملية التفكير، فكان الإنسان بهذا كله، كأنما يستكشف في الكون «أبعاده» طولا وعرضا وعمقا. وانعكس هذا في الفن، فرأينا التصوير يدخل البعد الثالث على رسومه، بعد أن كان قبل ذلك يكتفي بالصورة ببعدين؛ هما الطول والعرض، كما نرى في رسوم المصريين القدماء أو في رسوم العصر المسيحي في مصر.
وأما في عصرنا هذا، فلقد جاء الفن، لا ليجري مع العلم في منحى واحد، بل جاء ردا مضادا. أراد العلم المعاصر، مع لواحقه التكنولوجية والصناعية، أن يطغى على شخصية الفرد؛ بحيث يصب الأفراد جميعا في قوالب متجانسة، ثيابا، وطعاما، وشرابا، ومسكنا، وترفيها في وقت الفراغ؛ فالثياب الجاهزة يلبسها الجميع، والطعام المعلب أو المجمد يأكله الجميع، وعمارات السكنى باتت متشابهة في كل أرجاء الأرض، حتى لقد مدت شركات الفنادق نطاقها لتقيم كل شركة منها فنادقها المتشابهة حيثما حللت، ووسائل الإذاعة - مسموعة ومرئية - تملأ ساعات الفراغ للشعب كله بمادة واحدة. هكذا أراد علم العصر ولواحقه أن يصب الأفراد في قوالب التجانس، فأراد الفن أن يعوض الفرد ما أضاعه العلم من فرديته المتميزة، فكان ما كان من ضروب الإبداع الفني، التي استحل فيها المبدعون لأنفسهم أن يخلقوا بفنونهم عالما غير العالم الظاهر الذي خضع للعلم راغما. ومن هنا كان أول ما يميز ثقافة عصرنا، هو الإمساك بالميزان متعادل الكفتين بين علم وفن.
لكننا إذ نقول شيئا عن علم هذا العصر، فإنما نعني «علم» «هذا العصر» لا أي علم آخر في عصر آخر؛ لأن لعلم العصر روحا منهاجا يختلف بهما عن العلم في كل ما سبق من عصور. ويكفيني هنا أن أروي للقارئ ما سمعته في حديث تلفزيوني لمتحدث فاضل؛ إذ سمعته يقول لمن يستمع إليه شيئا كهذا: من أين يأتي أي عالم بعلمه؟ أليس يأتي به من أستاذه؟ ومن أين أتى ذلك الأستاذ بعلمه؟ ألم يكن ذلك بدوره عن أستاذه؟ وهكذا دواليك جيلا عن جيل، وعالما عن عالم. وأين يقف التسلسل؟ قال المتحدث إنه يقف عند آدم عليه السلام. ومعنى ذلك أن العلم البشري كله - فيما قال المتحدث - منبثق من آدم. ومثل هذا القول إن جاز أن يقال عن المعارف التي تجيء اشتقاقا بعضها من بعض، كمعرفتنا باللغة مثلا، فهل يجوز على علم يستخرجه العالم من تجارب علمية يجريها بأجهزته القياسية؟ افرض أن أحد العلماء قد قاس سرعة الصوت، أو حلل طبيعة التربة التي نزل بها رواد القمر، ثم سأل متحدثا: من أين جاء العالم بعلمه في حالات كهذه؟ أيكون جوابنا هو أنه أتى به من أستاذه، وهذا الأستاذ من أستاذه، وهلم جرا؟ أم يكون جوابنا أنه أتى بعلمه من تجربة جديدة غير مسبوق إليها؛ فهو علم لم يكن يعلمه أستاذه على نحو ما افترض متحدثنا الجليل في حديثه التلفزيوني.
تلك إذن سمة ضرورية من سمات الإنسان في عصرنا. وأعني أن يسلم ذاته في ميدان المعرفة العلمية، فلا يكون له فيها هوى على أن يعيد لذاته تلك اعتبارها ووجودها في ميدان التعبير الفني، وهو ميدان فسيح لا تكاد تحده حدود. وأما السمة الثانية لإنسان العصر، والتي ليس لنا إلا أن نتمثلها إذا أردنا المشاركة في زماننا، فهي الإيمان بما للإنسان من حق في تقرير مصيره، فردا كان أو جماعة. وأعني بذلك حق «الحرية» في مختلف أبعادها ومقيدة بشروطها؛ فالحرية الحق هي إبداع، وكما هو الشأن في كل إبداع، لا بد من «قيود» لضبط الإيقاع أثناء الحركة والسير، كالشاعر حين يقيم أمام نفسه قيود الشكل الفني من وزن وتقسيم، ليستطيع بعد ذلك أن يخطو على تلك القيود بالحرية التي يعرفها الفن في إبداعه. وما يقال عن هذا الضرب من الحرية في دنيا الفنون، يقال مثله في الحياة السلوكية بصفة عامة.
ولقد تفرعت عن «الحرية» في عصرنا، فروع بالغة الأهمية في حياة الإنسان؛ من أهمها أن تتعدد الثقافات بتعدد الشعوب، بعد أن كان الاعتراف في العصور السابقة لا ينعقد إلا لثقافة واحدة، تكون هي ثقافة الأمة الأقوى في ميدان الحضارة؛ فإلى نهاية الربع الأول من هذا القرن، لم يكن يعترف بنموذج ثقافي إلا للثقافة الأوروبية. وأما الآن فلكل شعب مهما صغر حجمه أن يعرض ثقافته الخاصة، دون أن يخجله اختلافها عن ثقافة الأوروبي أو الأمريكي. وانظر إلى مجتمع دولي كهيئة الأمم المتحدة عند انعقادها، تجد مهرجانا من اللغات والثياب والعادات؛ كل يعتز بما عنده، وكل يحترم ما عند الآخرين.
وسمة ثالثة لعصرنا، هي إيمانه بأن الحياة الإنسانية «تتقدم». ولقد يتعجب القارئ - كما شهدت بنفسي أناسا يتعجبون - عندما يقال إن عصرنا يؤمن ب «التقدم»؛ إذ قد يسألك سائل : وهل كانت العصور السابقة تؤمن ب «التأخر»؟ وفاتهم في ذلك أن الإيمان بالتقدم نتيجة لازمة، وهي أن نؤمن - بالتالي - بأن المستقبل سيكون خيرا من الحاضر، وأن الحاضر لا بد أن يكون خيرا من الماضي. وبناء على هذه النظرة لا يجوز لأحد ممن يؤمنون بالتقدم أن يلتمس نماذجه التي يقيس عليها الصواب والخطأ، فيما قد مضى وانقضى زمانه. وها هنا ستلحظ شيئا من الفزع عند من تعجبوا أول الأمر لقولك إن الإيمان بالتقدم هو من سمات عصرنا. فإذا كان السابقون قد رأوا التاريخ البشري في خط ينحدر مما هو أكمل إلى ما هو أقل كمالا، حتى لقد تعذر عليهم إلا أن يجعلوا «العصر الذهبي» فيما مضى، لا فيما هو حاضر بين أيديهم، فعصرنا هذا يعكس الأمر، ليجعل خط التاريخ البشري صاعدا أبدا نحو ما هو أكمل.
ومن الفروع الهامة التي تفرعت في عصرنا عن فكرة «التقدم» محاولة «التنمية» التي تشغل الناس اليوم في كل مكان؛ فهم في كل بلد ما ينفكون يسألون ويبحثون: كيف يحققون النماء في شتى وجوه الحياة؛ علمية واقتصادية واجتماعية وغير ذلك مما قد يخطر أو لا يخطر ببالك من وجوه، حتى ليقيسون نجاح الأمة من الأمم بدرجة قدرتها على تنمية نفسها عاما بعد عام؟ مما حفز الناس إلى مزيد من التنمية بعد مزيد. وكان هذا النهم نحو التنمية سببا في فزع طائفة من رجال الفكر في أرجاء مختلفة من العالم خشية أن يؤدي ذلك النهم الذي لا يشبع إلى استنزاف كنوز الأرض، فلا يبقى منها شيء للأجيال القادمة. ولم تكن لفكرة «التنمية» هذه أن تشتد قبضتها على عقول المعاصرين، لولا إيمانها أساسا بفكرة «التقدم».
على أن ما يهمنا نحن من هذا كله، هو ما نلحظه من تناقض في أفكارنا وفي أهدافنا؛ فبينما ننادي في جميع ميادين العمل بالتنمية في شتى صورها، حتى لقد أوردتها وزارة التعليم في تقريرها الخاص بتطوير التعليم، على أنها محور رئيسي في ذلك التطوير، لكننا في الوقت نفسه، ترانا في مجالات أخرى نذيع في الناس دعوة إلى الرجوع القهقرى، كأنما نريد نقيض النماء؛ إذ نريد انكماشا في قواقع الماضي.
وقد كان يمكن أن أجعل «التنمية» هذه، سمة أولى بين سمات عصرنا؛ لأنها تحوي في جوفها كل خيوط الحياة المعاصرة؛ فهي تحوي بين ما تحويه تنمية الإنسان الفرد تنمية تتيح له أن يعبر عما كمن في فطرته من قدرات. وحسبنا هذا النماء الحر لكل مواطن على حدة، ليتحقق لنا ما نريده من حرية للإنسان تبدع له ولنا ما هو جديد، ثم ليتحقق لنا ركن من أهم أركان العصر، ألا وهو أن يكون الهدف الأسمى للإنسان هو الإنسان نفسه. ولعل التاريخ لم يشهد عصرا كعصرنا إذ يدعو إلى ضرب من التعاون بين أغنياء الشعوب وفقرائها؛ فقد كانت دعوة كهذه تقتصر فيما مضى على العلاقة بين الفرد الغني والفرد الفقير. أما أن تقام الدعوة على أن تعطي الأمة الغنية مما عندها إلى أمة فقيرة، وعلى أن هذا العطاء ليس من قبيل الصدقة، بل هو من صميم النظام الاقتصادي نفسه، فذلك شيء جديد. ولسنا نقول إن هذا الجديد قد استقر على دعائمه، بل يكفينا أنه سار خطوات في طريق التنفيذ.
وإن شئت صورة موجزة لإنسان العصر - في المتوسط العام - فهو إنسان يؤمن في طبيعته البشرية بجانبين، ويريد أن يحياهما معا في توازن بقدر المستطاع؛ فالعقل من جهة والوجدان من جهة أخرى. من الأول يجيء العلم وما يتفرع عن العلم، ومن الثاني يجيء الفن وما يتفرع عن الفن. وإنسان العصر يؤثر البساطة في كل شيء فلم تعد ترى في عمارته قصورا مزخرفة كالتي كانت، ولا طعاما ولا ثيابا بالتعقيد الذي كان. ولعل بساطته تلك قد تفرعت عن نزوعه الشديد نحو الحرية، إلى الدرجة التي تجعل حتى أعداء الحرية يخفون عداوتهم تلك وراء الأستار ليظهروا بدعواها أمام الناس، وإنسان العصر أميل إلى الاعتدال بين الأطراف المتطرفة، فإذا مال به العلم نحو عقلانية خالصة في ناحية، شده الفن وتذوقه نحو نبض الوجدان في الناحية الأخرى؛ ولذلك لم يعد يظفر بالرضا العام من يتزمت في عقيدة أو في رأي. نعم إن العالم لم يخل - ولن يخلو - من تعصب المتزمتين، لكن المعول إنما هو عن الرضا أو السخط من الرأي العام. وفوق هذا وهذا وذاك، فإنسان العصر يزداد مع الأيام إيمانا بدعوة قديمة قدم التاريخ، لكن الإيمان بها هو الذي يضعف ويشتد، ألا وهي الدعوة التي تقول إن الإنسان إذا لم يكن في سمو الإله، فلا يجوز له أن يهبط إلى خسة الحيوان.
يا قالع الشجرة!
أستأذن أديبنا العظيم توفيق الحكيم، في تحوير العنوان الذي اختاره لمسرحيته «اللامعقولة» يا طالع الشجرة، لأجل عنوان مقالتي هذه: «يا قالع الشجرة»؛ فلقد كان أوفر مني حظا؛ إذ رأى بعين خياله ما كان شعبنا المصري الطيب كله قد وجده في سريرته وحياته؛ وذلك أنه رأى شجرة نمت واستقامت على جذعها، وكان طرحها أبقارا حلوبا؛ فقد رأى - إذن - زرعا أخضر، وضرعا مترعا بالخير، يدر اللبن فيتلقاه الناس بالملاعق الصيني. ومن هذه الصورة الفنية بزرعها وضرعها، جاء النداء: يا طالع الشجرة، هات لي معك بقرة، تحلب وتسقيني، بالملعقة الصيني. كان هذا هو ما أوحت به خبرة الحياة الطيبة لشعبنا الطيب، فأجراه على لسانه الشعبي أغنية حلوة. والتقطه أديبنا الكبير، فجعله - بكل ما فيه من اللامعقول - مصدر أدب جميل.
أقول: إن أديبنا كان أوفر مني حظا؛ لأنني بدل أن يقع مني البصر على شجرة نمت واستقامت على جذعها، وأثمرت للناس من خيرها لبنا وعسلا وفاكهة، فضلا عن ظل تنشره على الأرض ليفيء إليه من لذعته حمرة القيظ، رأيت شيئا آخر؛ إذ رأيت في طريقي طفلا في نحو الخامسة أو السادسة من عمره، يرتدي من الثياب ما يدل على ثراء وعلى عناية، يجاهد بيديه الصغيرتين أن تقتلع شجرة صغيرة، زرعها الزارعون لأيام قليلة خلت، هي وجارات لها على جانب الطريق، ثم أحاطوها بما ظنوه وقاية لتلك الشجيرات الرضيعة من أيدي العابثين.
وقفت أخاطب الطفل المعتدي، بابتسامة الوالد ونبرته: لا، لا، يا ابني لا تفعل، اترك الشجرة المسكينة لتنمو. فالتفت إلي ويداه ما زالتا ممسكتين بالجذع النحيل، وسألني: هل أنت عسكري؟ قلت له: لا، أنا مثل أبيك، ولو رآك أبوك لطلب منك ألا تسيء إلى هذه الشجرة. قال وانحنى على الشجرة يستأنف جهاده في التخريب: لست أنت بالعسكري فتأمر، ولا شأن لك، لا بالشجرة ولا بي؛ فالشجرة أمام بيتنا وفي شارعنا، لا هي أمام بيتك ولا في شارعك. قلت له: أتعرف لماذا زرعوها في شارعكم وأمام بيتكم؟ إنهم فعلوا ذلك لتكون لك كالأخت الصغيرة، فتنموان معا، لتصير أنت رجلا كبيرا، ولتصير هي شجرة كبيرة، ويومها ستجلس في ظلها محتميا من الشمس.
مضيت في طريقي - وكانت الساعة قبيل الغروب بقليل - وعدت بعد العشاء في الطريق نفسه، فإذا الشجرة صريعة، راقدة على جنبها، نصفها فوق الطوار، ونصفها الآخر في مجرى العربات، تفركها تحت عجلاتها هشيما يبعثره الهواء. كنت قد توهمت أن اليدين الصغيرتين لن تقويا على اقتلاع الشجرة، وتركتها مطمئنا، لكنهما استطاعتا، وقتلتا الشجرة. ولا بد أن يكون الصبي قد عاد إلى أهله منتفخا بالنصر، وحكى حكايته وحكايتي وحكاية الشجرة القتيل، إلى أمه وأبيه وأخوته، فضحكوا له مشجعين.
أكملت طريقي إلى منزلي، ووجدتني أتمتم شاديا: يا قالع الشجرة، ضيعت على نفسك البقرة، فلا حلب لك ولا سقيا، مهما يكن عندك من الملاعق الصيني! ... ثم دارت في رأسي صور قواتم، لشجرات أخريات من نوع آخر، رأيتها وهي تقتلع من أرضها، وباقتلاعها يذهب الأمل في ثمار تؤكل أو في ظل ينشر؟ فلماذا تتجه باللوم إلى ذلك الصبي الصغير، الذي هو بغير شك انعكاس لصورة أبويه في الهدم والتخريب؟ وها هي ذي صور أخرى - ولعلها أخطر - تجيئك تترى، من خبرة قريبة الحدوث أو بعيدة، كان أولاها وثوبا إلى رأسي ذلك الوالد الذي زرع لتوه شجرتين، أو قل زهرتين جميلتين، وكان منطق شعبنا الطيب العريق الذي عبر عن نفسه في ترنيمه: يا طالع الشجرة، هات لي معك بقرة ... إيمانا منه بأن كل نبتة تزرع، من حقها على الزارع أن يرعاها عناية ونماء، إلى أن تصبح شجرة مستقرة ، طرحها مصادر خير وبركة، لكن ذلك الوالد جرى على منطق آخر، هو نفسه منطق الصبي الذي رأيته يجتث الشجيرة من أرضها؛ لأنه ترك الزهرتين الجميلتين تتعرضان لعامل الذبول والجفاف. ولماذا؟ ليرضي عن نفسه رغبة لعلها أخس شأنا من رغبة الصبي الذي اقتلع الشجرة ليزهى بنصره على حياة قبل أن يشتد عودها لتقاوم العدوان العابث.
ولم تكد صورة الوالد اللاهي بمصائر صغاره ترتسم في ذهني، حتى جاءتني الذاكرة بصورة تصيبني برجفة كلمة تذكرتها، فقد كان «ش» طالبا بين طلابي، وهم يعدون اليوم بالألوف، وكنت ألمح فيه شيئا من علائم القلق والحيرة واعتزال الزملاء أحيانا، لكنه في أحيان أخرى يذهب إلى النقيض، فيمزح ويضحك ويهرج إلى درجة الإسراف. وحدث له ذات يوم أن صحبني في مشيتي من الجامعة إلى داري، وهي مسافة أمشيها في بضع دقائق، فقلت له لأشعره باهتمامي به: إني كثيرا ما أراك وكأنك تحمل الهموم! فأجابني: نعم، وأي هموم، فلا والد لألوذ بحمايته، ولا والدة، إنهما بين الأحياء، لكن كلا منهما سلك طريقا؛ فللوالد زوجة أخرى، وللوالدة زوج آخر، وأنا في أرجوحة بينهما، أرتكز على هواء ... ومضت خمسة وعشرون عاما، وكنت عائدا من الإسكندرية على عجل إلى القاهرة، لأقف إلى جانب شقيق دهمه المرض - رحمه الله - فبينما كنت في فناء المحطة أسرع الخطى إلى الخروج، اعترضني رجل في أسمال قذرة بالية، أشعث الرأس، ملطخ الوجه بما يشبه بقع الشحم الأسود، وطلب مني أي شيء أجود به، 5 قروش تكفيه؛ فلقد بات على الطوى ليلتين - هكذا قال - ونظرت إليه في ضجر أول الأمر، لكن إرادة الله شاءت عندئذ لذاكرتي أن تنتفض وكأنها اهتزت بموجة من كهرباء؛ فلقد رأيت في عينيه المنطفئتين شعاعا خافتا يذكرني بذلك الطالب القديم «ش»، فصحت في وجهه: أأنت فلان؟ قال: نعم يا سعادة البيه. وهنا لمحت في عينيه ما دلني على أنه تذكرني بعد أن لم يكن يعرف من أنا عند أول اللقاء. سألته في عطف كدت لا أقوى على سريانه في كياني: وما الذي أدى بك إلى هذه الحالة يا فلان؟ قال: هو نصيبي يا دكتور! لا، يا «ش»، إن كلمة النصيب لا تكفي، ماذا دهاك؟ قال: وقعت فريسة المخدرات ... أعطيته ما أعطيته، وأسرعت الخطى. فلما وردت هذه الصورة إلى ذاكرتي ليلة أن رأيت الشجيرة المقتلعة صريعة، قلت لنفسي: ماذا صنع الوالدان لذلك المسكين «ش» أقل مما فعله الصبي حين اقتلع الشجيرة، فضاعت الشجرة، وضاعت البقرة، ولم يعد لأحد حلب ولا سقيا، واندثرت في دنيا العدم كل الملاعق الصيني.
لم أكن قد وصلت إلى منزلي بعد؛ إذ قابلني صديق أديب ناقد، له في حياتنا الثقافية شأن. وكانت الصحف يومئذ مليئة بالتعليقات على المسلسل التليفزيوني عن حياة العقاد، وكان عنوانه «العملاق». فسألني صاحبي: هل تتابعه؟ فقلت: نعم إني أفعل. فما هو إلا أن انفجر صاحبي غاضبا مستنكرا، وكأنه دخل ساحة القتال وأصابته الهزيمة، قال: ما هذه العملقة الرخيصة، يتبرعون بها على كل من هب ودب! العقاد عملاق؟ إذن كيف يكون الأقزام؟ - هكذا قال - فرددت عليه بأن أخذت أقص عليه قصة الشجيرة التي اجتثها الصبي من أرضها، فقضى بيديه العابثتين على ظل كان يمكن أن يستظل به الناس لو أتيح لها أن تنمو، ثم سألت صاحبي: هل ترى فرقا كبيرا بين ذلك الصبي وبينك؟ ماذا يبقى في حياتنا في ظل نلوذ به ساعة قيظ، إذا نحن هوينا بفئوسنا على أعلامنا، نجتثهم واحدا بعد واحد؟ فلو استمعنا إلى أصوات تقول: ماذا صنع طه حسين حتى تقيم حوله كل هذه الضجة، وماذا صنع العقاد، وماذا صنع فلان، وماذا صنع علان، أفلا نفعل بهذا فعل الصبي الذي لم يبق للناس الشجرة، فقضى أيضا على البقرة، فلا شيء بعد ذلك يحلب ولا شيء يسقي، وعندئذ ماذا نصنع بما لدينا من الملاعق الصيني؟
تركت صديقي، ومضيت أكمل الطريق إلى بيتي، هامسا بين شفتي في غضب أكلما قابلت أحدا، وجدته يقتلع من أرضنا شجرة؟ أكان مقسوما لأسلافنا الأقربين والأبعدين جميعا أن يزرعوا وأن يبنوا ومقسوما علينا أن نقتلع ونهدم؟ حقا إنه «كلما أنبت الزمان قناة، ركب المرء في القناة سنانا». ماذا يبقى لحياتنا إذا أخذنا أنفسنا بإزالة الشجرة من بستانها، إلا أن تنصب على رءوسنا وقدة الشمس الحارقة، لا نجد شجرة نلتمس الوقاية في ظلها؟ لكن لقائي بذلك الصديق الناقد، وما دار بيننا من حديث عابر قصير، نقلني من عالم الأشجار - مزروعة ومقلوعة - إلى عالم الكلمات، وبين الكلمات والأشجار وشائج قربى
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ... * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار
نعم، إن بين الكلمات والأشجار وشائج قربى، ولهذا سهل انتقالي من عالم الشجر - مزروعا ومقلوعا - إلى عالم الكلمة طيبة وخبيثة؛ فناطق يلتزم الحق، وناطق يتعمد الباطل، وهنالك بين الطرفين صنف ثالث، أشار إليه الإمام علي - كرم الله وجهه - وهو الذي يقول كلمة حق يراد بها باطل. ولقد عاش كاتب هذه السطور حياة كانت كلها كلاما في كلام، فكان مرهف السمع لكل تعليق يجيء على كلماته. ولعل أقربه عهدا هو ما سمعه بالأمس من شيخ له مكانته وله مهارته؛ إذ قذف إليه عبارة من ذلك الصنف الثالث الذي هو وسط بين صراحة الحق وصراحة الباطل، والذي يحتاج من صاحبه إلى دهاء ودقة صياغة والذي يقتل بغير سفك للدماء.
إن أمثال هؤلاء الذين يهدمون ما يشيده الآخرون دون أن يضعوا هم حجرا على حجر في سبيل البناء ليس شأنهم شأن زارع شجرة طرحها أبقار حلوب، كالتي تصورها شعبنا الطيب في أغانيه، بل شأنهم شأن زارع الشجرة الملعونة في القرآن، شجرة الزقوم، التي طلعها كأنه رءوس الشياطين.
إن مصرنا الحبيبة تهم اليوم بمرحلة يسودها بنيان وعمران، وكنا نتمنى ألا يكون بيننا من يغافلنا في الظلام، فيضع بين تروس الآلة مسمارا يؤذيها. قل لمن يحسن بعض الإحسان: لقد أحسنت أو اسكت عن لا ونعم. ولقد أراد الله أن أقع على أمثلة من التدمير والتخريب، تثير الحسرة ولكنها لا تشيع اليأس. وكان ذلك الصبي الذي رأيته يقلع الشجرة الطفلة من حضن أمها اقتلاعا، هو أرحم الأمثلة التي رأيتها ؛ لأنه يقلع خيرا ثم لا يزرع مكانه شرا، لكنني رأيت من اجتث الشجرة أم البقرة، ليزرع مكانها الزقوم. فيا قالع الشجرة، قد ضيعت على نفسك البقرة، فلن تجد من يحلب ويعطيك، لا بملعقة الصيني، ولا - حتى - بملعقة الصفيح.
الأجسام الطافية
كل إناء ينضح بما فيه - كما قال القدماء - فإذا امتلأ الإناء عسلا نضح العسل، أو امتلأ حنضلا نضح الحنظل. وإناء المجتمع هو في ذلك كأي إناء، قد تضطرب في أحشائه خلال فترة معينة أفكار ومبادئ يتميز بها من سواه، بل يختلف بها عن نفسه قبل تلك الفترة وبعدها، فإذا بتلك الأفكار والمبادئ قد انعكست في أفراد الناس الذين يكتب لهم الظهور البارز إبان تلك الفترة. فقل لي - في أي عصر شئت - من أي الأنواع البشرية كانت الأجسام الطافية على السطح، أقل لك الكثير عن طبيعة الأفكار والمبادئ التي سرت في الناس خلال ذلك العصر.
وذلك أمر طبيعي لا غرابة فيه، وإلا فأين هي الغرابة في أمة ثارت نفوسها سخطا وغضبا، فرفعت على أكتافها قادة أبنائها الثائرين؟ أو في أمة امتلأت صدورها بروح المغامرة، أو بروح الدعوة إلى دين بعينه أو بروح النهوض والإصلاح بعد كبوة أصابتها؟ أقول: أين هي الغرابة في أمة سادتها فكرة معينة في فترة بذاتها فرفعت على أعناقها أولئك الأفراد من أبنائها، الذين تجسدت فيهم، أكثر من غيرهم، تلك الفكرة السائدة؟ هل كان يمكن لعصر الخلفاء الراشدين أن يؤمه أحد غير الخلفاء الراشدين؟ هل كان يمكن لعصر المأمون ألا يرتفع فيه صوت العلماء؟ هل كان يمكن لعصر النهضة الأوروبية في طموحه، ألا يظهر فيه كولمبس ليخترق ظلمات البحر، وجاليليو ليكشف عن شيء من سر السماء؟ كلا، فقد كان حتما لإناء المجتمع، في أي عصر من عصوره، أن ينضح بما اختلج في حناياه، متمثلا في رجال حملوا الرسالة وجسدوها.
وعلى ضوء هذا الذي قلناه، تستطيع أن تتصور نوع الرجال البارزين، إذا ما عرفت مناخ العصر المعين الذي برزوا فيه. فإذا قلت لك - مثلا - إن المناخ الفكري في مصر خلال الفترة الممتدة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، كاد ألا يكون فيه جديد يضاف، ومع ذلك فقد كان فيه أفذاذ بارزون، عرفت من فورك أن بروزهم بين أقرانهم لا بد - إذن - أن يكون مقصورا على اجترارهم لعلم قديم، يشرحونه، ويضعون له الهوامش. ثم إذا قلت لك عن مصر أيضا إنها وقعت في براثن المستعمر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ففقدت ما كان يمكن أن يكون لها من حرية. ثم قلت لك في الوقت نفسه إنها قد شهدت من أبناها من نبغ وارتفع صوته، عرفت من فورك أن هؤلاء لا بد أن يكونوا ممن جاهدوا في سبيل استرداد الحرية المفقودة، أو الحرية التي يراد اكتسابها جريا على سنن الحياة في العصر الجديد، وذلك هو ما قد كان بالفعل؛ فكل الأسماء التي لمعت منذ ذلك الحين، وإلى بضع عشرات من السنين بعد ذلك، إنما لمعت بسبب جهاد أصحابها في سبيل الحرية في هذا المجال أو ذاك؛ في مجال السياسة - وفي مجال الأدب - وفي مجال التعليم والبحث العلمي - وهكذا.
ولنحصر الحديث الآن على مصر منذ أواخر الخمسينيات، إلى آخر الستينيات، موجهين أبصارنا نحو من سطعت أنجمهم في سمائنا - بصفة عامة - لنسير باستدلالنا هذه المرة، لا من المناخ السائد إلى من أفرزه ذلك المناخ من البارزين، بل لنسير باستدلالنا في الاتجاه العكسي، أي أن نبدأ من الأجسام الطافية، لننتهي إلى نوع الماء الذي طفوا على سطحه، فإذا وجدت أن بعض من طفا على موج السياسة وهم أتباع أرادوا أن تكون لهم سطوة، وأن بعض من طفا على بحر التعليم من مدارسه الأولية صعدا إلى جامعاته، هم من كانوا في حياتهم الخاصة يسخرون من العلم والعلماء، وأن بعض من طفا على بحر الثقافة، هم من قالوا إن الثقافة لا تكون إلا للجماهير العريضة، وأن بعض من تولوا رئاسة القضاء هم من أضمروا في أنفسهم «مذبحة» للقضاء ... إذا وجدنا كل هذا فيمن طفا بجسده وبروحه معا فوق الموج، استطعنا أن نستدل شيئا عن طبيعة المناخ الفكري الذي ساد خلال الأعوام التي ذكرتها.
ولكن لماذا نجهد أنفسنا في بحث كهذا؟ الجواب هو أننا نفعل ذلك استجابة لسؤال مطروح بيننا الآن بقوة، وهو: كيف نعود بالمصري إلى جادة الطريق بعد أن انحرف؟ فهذا سؤال لا يجاب عنه إلا إذا عرفنا أين انحرف المصري وكيف انحرف؟ فليس فينا واحد لم يلحظ تبدلا في القيم المصرية الأصيلة، مال بها خلال تلك الفترة نحو الأسوأ، فجئنا اليوم لنسأل أنفسنا: لماذا كان الانحراف؟ وكيف؟
كنت ترسل البصر فيما حولك - إبان السنوات التي ذكرتها، فما أسرع ما يرتد إليك البصر مليئا بصور من الحياة الجارية، لا يتعذر على أحد أن يستخلص منها «القيم» «العليا» التي سادت تلك الفترة؟ والتي كانت خلاصتها هي الوصول إلى القمم دون أن تتعرض الأقدام لأشواك الطريق. وكان لهذا الصعود الطائر «تقنيات» مهر فيها من مهر، وخاب من خاب. ولقد قلتها يوما لوزير مسئول في معرض حديث كان قد تفضل فاستدعاني ليديره معي في شئون تخص حياتنا الثقافية؛ إذ قلت له ما معناه: إن لي اهتماما خاصا يتعقب شبابنا الذين يتخرجون من الجامعة، والذين لحظت فيهم أثناء تدريسي لهم، قدرت وميولا تشدهم إلى المشاركة الفعالة في حياتنا الثقافية. وإنه ليحزنني أن أقرر بأن تغيرا ملحوظا طرأ ويطرأ على هؤلاء؛ فبعد أن كان أمثالهم يعولون على دخول الديار من أبوابها، وما تلك الأبواب إلا العمل ثم العمل ثم العمل، أصبحوا قانعين بمجرد أن لهم ميولا غامضة نحو الحياة الثقافية. وأما بعد ذلك فالوسيلة أمامهم هي أن يبحثوا عن أشخاص من ذوي النفوذ، ليأخذوا بأيديهم طيرانا إلى أعلى، فإذا هو في كرسي الرئاسة يوجه العاملين فلا هو ذو خبرة ودراية، ولا العاملون خلوا من إحباط مهين.
إننا إذ نتحدث عن «القيم» كيف تبدلت خلال تلك الأعوام، فلا حاجة بنا إلى تناول موضوع «القيم» من زواياه الفلسفية الميتافيزيقية، وإلا وجدنا أنفسنا قد غرقنا في بحر متلاطم الموج من مذاهب متعارضة وليس مقال كهذا الذي بين يديك هو مجال الغوص إلى تلك الأعماق. ويكفينا هنا أن نتناول الموضوع من ناحيته العملية المرئية لكل ذي بصر، فإذا رأيت شخصا يسعى في حياته الفعلية نحو تحقيق هدف محدد معين، فاعلم عندئذ أن ذلك الهدف هو عنده «قيمة» مهما يكن بعدها عما كان «ينبغي» أن يكون.
وأظنه لم يكن عسيرا على أحد، خلال الستينيات، أن يلحظ في سلوك «الواصلين» كيف اتقنوا فن اللعب على حبلين في آن واحد؛ فينادون في الناس بشعارات يؤيدها الرأي العام، ويعملون في الخفاء بأضدادها، فإذا كانوا في العلانية، كانت «الاشتراكية» و«المساواة» وغيرهما مما يجري مجراهما، هي اللغة المسموعة، وإذا كان الخفاء، كانت لهم الطيبات من مناصب ومكاسب وامتيازات؛ ففي حالة كهذه، لو سئلنا ماذا كانت «القيم» إبان تلك الفترة، وجب أن يكون جوابنا هو أنها الأهداف العملية التي كان القادرون يسعون إلى تحقيقها، لا المعاني الرقيقة التي يذيعونها لفظا باللسان والفم.
في تلك الفترة التي تبدلت فيها القيم، رأينا أستاذا بالجامعة ينزع الغلاف عن كتاب أعجبه، ويضع مكانه غلافا آخر طبع عليه اسمه هو مؤلفا. وفي تلك الفترة تصاعدت حوادث الرشوة والاختلاس، حتى لقد أحصاها المركز القومي للبحوث الاجتماعية في بعض أبحاثه، فإذا هي تزداد بنسبة مخيفة. وماذا تعني الرشوة والاختلاس في حقيقة الأمر؟ إنهما يعنيان ما أشرنا إليه، وهو الوصول السريع إلى أهداف، ما كان ليصل إليها إلا بالجهد الشاق أعواما تمضي بعد أعوام.
صحيح أن هذه الظواهر وأمثالها، كانت شائعة ومألوفة في معظم أقطار العالم الثالث؛ إذ لوحظ فيها أنها عندما تخلصت من المستعمر، وظفرت باستقلالها، وتولى نفر من أبنائها مناصب القيادة ومراكز النفوذ، أحس هؤلاء كأنما تدفقت عليهم الخبرات في غفلة من الزمن، وأنها حالة عابرة سرعان ما تزول، فتملكتهم رغبة الإسراع في جميع الحصاد الغزير قبل أن تفلت الفرصة، فكان ما كان من ازدواجية - سبقت الإشارة إليها - فوجه من الوجهين يخدمون به الجماهير ولو بحلاوة الكلمات، والوجه الآخر ، لا يصدقون فيه أنفسهم، وينصرفون إلى توطيد الغنائم. أقول إن ذلك صحيح بالنسبة إلى معظم العالم الثالث، لكن كان الأمل ألا تتعرض له مصر، ووراءها ما وراءها من تاريخ.
خلاصة هذا كله، هي أن نموذجا جديدا «للنجاح» في الحياة قد ارتسم أمام الأبصار، وهو ما يصح أن نسميه بالنجاح الطائر؛ لأنه يتعين على صاحبه أن يعلو بجناحيه فوق رءوس السائرين على أقدامه، لكي يتسنى لهم الوصول إلى الغايات قبل أن يصل إليها المشاة الحفاة، لكن مثل هذه الوثبة الطائرة تتضمن - حتما - غض الأنظار عن ربط الأهداف بوسائلها الطبيعية وبالتالي عدم الشعور عند المواطن الظافر، بما يعانيه المواطن المهزوم؛ إذ من أين يجيء للظافر شعوره بعناء المهزوم، وهو لم يذق طعم الكدح ولا مرارة خيبة الرجاء؟ وفي انعدام شعور المواطن بالمواطن الآخر كان يكمن الداء.
فكل الأمراض التي انحرف بها المصري عن شخصيته المألوفة، والتي نريد معالجتها لنعيد له بناءه، مردها إلى هذه العلة الوحيدة، التي هي ضعف شعور الفرد بالآخرين؛ فإذا وصفنا المصري إبان تلك الفترة باللامبالاة، فقد كان عدم مبالاته منصبا على الآخرين، لا يشعر بوجودهم وكأنه على هذه الأرض يعيش فردا في خلاء! وإذا وصفناه بالتسيب، فالإشارة هنا إنما تعني انفلات الفرد من الروابط الملزمة له نحو الآخرين. ومرة أخرى أقول إن ضعف شعور الفرد بغيره، هو ظاهرة تعم العالم كله في مرحلته الحاضرة، ولا تقتصر على العالم الثالث، بله أن تكون مقصورة على مصر، حتى لقد تعرض لها بعض رجال الفكر البارزين ليبينوا أن تصورنا للفرد الواحد، كان لا بد له أن يختلف عن تصور السابقين وذلك لاختلاف ظروف عصرنا عن ظروف عصورهم، وهو اختلاف أدى أن يعمل ألوف العمال معا تحت سقف واحد، وأن يقوم العلماء ببحوثهم العلمية فريقا فريقا، لا فردا فردا، فنتج عن ذلك كله استحالة أن تكتمل فردية الفرد إلا إذا أضفنا إلى شخصه مجموعة الروابط التي تصله بسواه. وأعود فأقول إن انحراف الأفراد عن هذا المسار العام لم يكن مقصورا علينا، ولكن كان الأمل في مصر أن تنجو من العلة، لما تستند إليه من عراقة الأصول ورسوخها.
أقولها مرة أخرى: إن بيت الداء فيما طرأ على المصري، ففقد المبالاة، وتسيب، واستهتر، هو نقص شعوره بالمصري الآخر، فداس على رقاب الناس ليجعل منها «سلالم» يصعد عليها، دون وازع من ضميره، ثم تفرع من أصل الداء ما تفرع من علل؛ منها ومن أهمها: أن فقد الشاب المصري الطموح، أقوى وسيلة لمعرفة قدرته، ولمعرفة دنياه على حقيقتها؛ وذلك لأن الشخص الآخر - كما أظهرت البحوث العلمية - هو الذي يستطيع الفرد، من خلال تعامله معه، أن يقيس قدرات نفسه، وأن يزداد علما بالعوامل الاجتماعية المؤثرة في حياة الإنسان سلبا وإيجابا؛ فإذا حدث أن نشأت ظروف شجعت الناس على تجاهل بعضهم بعضا، نتج ذلك أن يفقد هؤلاء الناس أهم مقياس يعرفون به أنفسهم وبالتالي يعرفون العالم المحيط بهم معرفة أقرب إلى الصواب. ومن هنا ندرك لماذا اشتد الغرور بشباب الستينيات الذين أعانتهم بلادة ضمائرهم على الظهور بلا سند من قدرة ذاتية، حتى لقد أوهمهم غرورهم إذ ذاك، أنهم أعلم الناس، وأمهر الناس، وأشطر الناس، وأعظم الناس فكرا وفنا وأدبا وكل شيء. وسخروا ما شاءت لهم جهالتهم أن يسخروا من السابقين عليهم في بلدهم، ومن المعاصرين لهم ممن لم تكن لهم قدراتهم على الطيران بأجنحة من دخان.
حقا، لئن كان البارزون من الرجال والنساء في أي عصر، هم المؤشر الدال على جوهر الحياة في ذلك العصر، من حيث يقظة الضمير الاجتماعي أو نعاسه، ومن حيث جدية الاهتمامات أو هزلها، ومن حيث الإيمان بالعمل أو الكفر به، ومن حيث نزاهة الرأي أو ميله مع الهوى، فإن فترة الستينيات عندنا، كانت من أوضح الأمثلة التي تساق، لدلالة الأجسام الطافية على طبيعة عصرها.
الرؤية الواحدة
جلسنا عشرة أشخاص حول منضدة مستديرة، كان في وسطها تمثال صغير لفارس يركب جوادا، ثم طلب لنا أن نرسم ذلك التمثال كل من زاوية رؤيته. والحمد لله فقد كنا جميعا ممن لهم بعض القدرة على الرسم، فلما تم لنا ما أردناه، أخذنا نقارن الرسوم بعضها ببعض لنرى كم أحدثت فيها زوايا الرؤية المختلفة من خلاف؛ فبالطبع وجدنا التباين بينها قريبا حينا إلى الدرجة التي يصعب عليك معها أن ترى اختلافا في الجانب المرئي بين صورة والصورة التي تجاورها، بعيدا حينا آخر إلى الحد الذي يجعل صورة منها تبدي من الفرس صدره ووجهه، وصورة أخرى مقابلة لها تبديه من ظهره وقفاه.
رسوم عشرة اختلفت بعضها عن بعض، باختلاف الزوايا التي نظر منها الرسامون العشرة، لكن هنالك - برغم هذا التباين - قدرا مشتركا بينهم جميعا، لا اختلاف عليه؛ فكلهم يقر وجود الفارس فوق جواده. ولم يكونوا ليجمعوا على هذا القدر المشترك لو جلس بعضهم مديرا ظهره إلى المنضدة وما فوقها. وشيء كهذا هو ما نريده لأنفسنا في حياتنا الثقافية؛ فليكن لكل فرد منا وجهة نظره؛ أي ليكن لكل منا الرؤية الخاصة التي ينظر منها إلى الأشياء والأحياء والمواقف، لكن لا بد من قدر موضوعي مشترك بيننا جميعا، هو الذي يحدد لنا آخر الأمر ثقافة المصري ماذا تكون.
ولكي نمضي في التصور الذي بدأنا به توضيحا، لما نريد إثباته، سنغير من عناصره قليلا، ونضع بين الأشخاص العشرة - بدل الفارس وجواده - مسألة يراد فيها الرأي أو عدة الآراء. ولتكن مسألتنا - مثلا - هي هذه: ما هي أقوم السبل التي نحمل بها المواطنين على ضبط النسل ضبطا نقاوم به هذا التفجر السكاني المخيف؛ فها هنا لا اعتراض على اختلاف الرأي: عن أي طريق يكون الإقناع؟ أنسلكه في مناهج التعليم ذاتها، بالإضافة إلى وسائل الإعلام العامة، أم نقصره على الثانية دون الأولى؟ أنلجأ إلى التشجيع المالي عن طريق الضرائب - مثلا - فنرفعها عن الأسر الصغيرة ونضاعفها على الأسر الكبيرة؟ ... تفريعات كهذه يجوز أن يختلف عليها الرأي. أما جوهر المشكلة فموضوع اتفاق عام، لكن ما هكذا جاء الأمر الواقع في هذا الصدد؛ إذ رأينا نفرا من أئمة القول، ولهم من التأثير ما لهم، يذيعون في الناس أن يسدوا آذانهم دون الدعوة كلها، وليكثر النسل ما يكثر؛ فلا عليهم في ذلك من بأس، بل إن البأس هو في أن يحولوا دون تلك الكثرة ... فرجال كهؤلاء هم بمثابة من أدار ظهره إلى المنضدة وما عليها، في الصورة التي رسمناها في أول هذا الحديث.
ومثل هذا الخلاف في اتجاه الأفكار قد تلاحظه في مواقف كثيرة من حياتنا الفكرية، مما يمتنع معه أن نلتقي عند رؤية واحدة، يتسع فيها المجال لاختلاف الآراء، شريطة أن نظل على وحدة متجانسة بالنسبة إلى الأسس والمبادئ. وعندي أنه إذا أردنا لأنفسنا سياسة ثقافية تسير على هديها، كان إيجاد الرؤية الواحدة هو محور تلك السياسة ومدارها، ولكن كيف السبيل؟
إنني كلما وجدت «الثقافة» موضوعا للحديث الجاد؛ أعني الحديث الذي يجاوز أن يكون للسمر في حلقة الأصدقاء، شعرت بشيء من الحرج حتى أمام نفسي؛ وذلك لأنني في كل مرة أتناول فيها موضوع «الثقافة» بالتفكير، أجدني مضطرا إلى السؤال: وماذا تعني «بالثقافة»؟ ولقد سمعت وزيرا للثقافة ذات يوم، وكنا فيما يشبه ندوة تناقش مستقبل العمل الثقافي في مصر، سمعته يصيح في استنكار شديد لأحد المتحدثين؛ إذ بدأ حديثه بمحاولة تعريف «الثقافة» بما يحدد معناها، فقال الوزير في صيحته تلك: أفبعد هذا كله، وبعد أن كانت لنا وزارة بأكملها للثقافة، نسأل: وماذا نعني بالثقافة؟ ... نعم إن الأمر لينطوي على شيء من الحرج أن يسأل سائل عن معنى «الثقافة» بعد هذا كله، ولكن ما حيلتنا وهي كلمة وسعت كل شيء - أو كادت - كأنها «الفرا» الذي جرى عنه المثل القديم القائل: «كل الصيد في جوف الفرا.» وما دام هذا هو شأنها، ولم يعد لنا مندوحة عن تعريفها كلما هممنا بالدخول في مجال من مجالات معانيها المتعددة.
وإذن فلنسأل - بكل شجاعة - سؤالنا: ماذا نعني «بالثقافة» عندما يكون هدفنا إيجاد رؤية واحدة بين أفراد الشعب جميعا، على اختلاف مستوياتهم التعليمية؟ إن أول ما يرد على خاطري عند محاولة الجواب، هو أن الرؤية المنشودة، أقرب إلى أن تكون «حالة ذوقية» منها إلى أن تكون حصيلة معينة من معلومات؛ فالمطلوب هو إيجاد موقف وجداني بين أفراد الشعب جميعا، يميل بهم إلى الاشتراك في تقبل أشياء معينة وفي النفور من أشياء معينة أخرى، بما في ذلك الأفكار والقيم وطرائق العيش. وما دام الأمر كذلك، فإن سؤالنا يصبح هكذا: ما هي السبل التي نسلكها لنخلق في أفراد الشعب وجدانا مشتركا إزاء دنياهم التي يعيشون فيها اليوم؟ والمعلوم أن هذا الوجدان المشترك - إذا أوجدناه - كان المرجح لأفراد الشعب أن تجيء ردود أفعالهم على مواقف الحياة الهامة على درجة كبيرة من التجانس والاتساق. وعلى ضوء هذا نقول: إن معنى «الثقافة» في هذا المجال الخاص، هو أنها محاولات لتحويل الواقع الخارجي إلى حالة وجدانية باطنية، لكي تتحول تلك الحالة الوجدانية بدورها إلى سلوك خارجي يرد به صاحبه على موقف معين يحيط به.
وأحسب أننا لا نكاد نقول قولا كهذا، حتى يبرز أمام أبصارنا الأساس الأول - والأهم - في تصورنا «للثقافة» وما تعنيه، في هذا المجال الخاص من مجالاتها الكثيرة، وهو نفسه المجال الذي ندور فيه عندما نبحث عن «سياسة الثقافة» نرسمها، لنعمل على ضوئها في مجالس الثقافة ولجانها. وأما ذلك الأساس الأول والأهم الذي أعنيه، فهو أن الينابيع الرئيسية للثقافة بمعناها الذي حددناه، إنما هي: الدين، والفن، والأدب، ثم الأفكار العقلية حين تؤخذ من جانبها الذي يعمل مع تلك الينابيع الثلاثة، على إيجاد «موقف» أو «اتجاه» أو «رؤية» عند من يحصلها. ولهذا التحوط الشرطي أهمية لأن من المسائل التي تعترضنا ونحن نفكر في شئون الثقافة، مسألة «العلوم» بشتى فروعها؛ الرياضية، والطبيعية، والاجتماعية؛ فهل ندرجها في مجال «الثقافة» أو أن لها شأنا آخر؟ جوابي هنا هو أننا لا ندرج منها إلا «مناهجها» و«قيمها»؛ لأن تلك المناهج والقيم هي التي تعين على تكوين «نظرة» إلى الدنيا، ذات خصائص معلومة. وأما «المضمون» العلمي نفسه، من معادلات رياضية، وقوانين علمية، فهي «معلومات» يعرفها المختص، لا يعرفها سواه، في حين أننا نريد للمختص وغير المختص «ثقافة» مشتركة. وحتى إذا قدمنا للناس حقائق علمية مبسطة، فذلك لأننا نستهدف أن يخلص دارسها إلى «المنهج» الذي انطوت عليه تلك الحقائق وطرائق تحصيلها.
لا أريد أن أترك هذه النقطة الهامة إلى ما بعدها ، إلا إذا زدتها إيضاحا؛ لأنها كثيرا ما سببت لنا المتاعب؛ فلقد مرت علينا أعوام كثر فيها الحديث عن الثقافة، ولكن بمعان غريبة؛ فكان يقال - مثلا - إن الفلاح وهو ينفي القطن من الدودة، مثقف بهذا العمل، وإن كل ذي حرفة مثقف بسبب إلمامه بتلك الحرفة ومهارته في أدائها، وهو كلام لا يقوله إلا من اختلط عنده أمران؛ أولهما المعلومات والمهارات من جهة، والحالات الوجدانية أو الذهنية التي على أساسها تتكون نظرة الإنسان إلى دنياه من جهة أخرى؛ فالأولى «معرفة» لا بد منها، لكنها تدخل في معنى الثقافة من ناحيتها التي نتحدث عنها. وأما الثانية فهي الثقافة لأنها «وقفة» أو «رؤية» أو «نظرة» أو «اتجاه» لا يعتمد على معرفة بذاتها دون أخرى، ولا على حرفة بعينها دون أخرى.
ولكننا إذ نقول إن الثقافة بالمعنى الذي نريده، هي آخر الأمر «رؤية» تنشأ عند من تلقاها، كان أمامنا سؤال يتطلب الجواب، وهو: أليست تلك الرؤية المنشودة مرتبطة بنوع «المواطن» كما نتمناه؟ وإذا كان ذلك كذلك، فما هي صورة ذلك المواطن؟ فإذا ما اكتملت أمامنا صورته، سهل علينا بعد ذلك أن نرسم الخطوات المؤدية إلى تحقيقها. وأظن ألا خلاف بيننا على أن العناصر المكونة للمواطن المنشود، هي - أساسا - أن يكون «مصريا» بكل ما تحتوي عليها تلك الصفة من مقومات أهمها الروح الدينية، والتعلق بالأسرة، والنظر إلى الوطن كله على أنه أسرة كبرى. ثم أن يكون ذلك «المصري» «عربيا» بما يدل عليه ذلك الانتماء من لفتة ثقافية لها طرازها الخاص، وهو طراز يتمثل في اللغة العربية، والفن العربي، وطائفة من القيم التي يعلي من شأنها العربي كلما تصور لنفسه مثلا عليا ليقتدي بها. ثم أن يكون ذلك المصري العربي ذا نظرة تتقبل العصر الحاضر في أهم مميزاته من علمية صناعية وما يتفرع عنها من اتجاهات.
من هذه العناصر كلها نستطيع أن نؤلف نمطا ثقافيا، يكون هو الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه بشتى الوسائل المتاحة، وهو نمط تراه متحققا بالفعل في كثير جدا من المواطنين؛ فليست هي حالة نادرة أن يصادفك المواطن الذي هو مصري إلى أطراف أصابعه، وعربي إلى أطراف أصابعه أيضا، ثم هو في الوقت نفسه لا يجد عسرا في تمثل حضارة العصر هدفا ومنهجا. وإن شئت فانظر إلى الرجال الأعلام في حياتنا على امتداد هذا القرن العشرين، تجد أغلبهم من هذا الصنف الذي تجسد فيه النمط الثقافي المطلوب بعناصره الأساسية الثلاثة؛ المصرية والعربية والعصرية؛ طلعت حرب، طه حسين، العقاد، توفيق الحكيم، أحمد زكي، علي مشرفة، محمد كامل حسين، وغيرهم كثيرون وإن تفاوت بينهم الدرجات.
إنه إذا ارتسم في أذهاننا هذا النمط الثقافي، كان علينا بعد ذلك أن ننظر في أساليب إخراجه وعرضه وبثه في الناس؛ كلمة مطبوعة، وكلمة مسموعة، وكلمة مصورة. وفي هذا تكون مهمة اللجان بالمجلس الأعلى للثقافة، كل في مجال اختصاصه.
على أن هذه العناصر الأساسية الثلاثة؛ المصرية، والعربية، والعصرية، التي نريد لها أن تتلاقى مدمجة في نمط ثقافي واحد، تتطلب منا في إعدادها وعرضها، أن ننظر في اتجاهين؛ أحدهما أفقي، نستوعب فيه التفصيلات، فما هي تفصيلات الروح المصرية؟ وما هي تفصيلات الروح العربية؟ ثم ما هي تفصيلات روح العصر؟ وها هنا يقع العبء على كبار الدارسين. وأما الاتجاه الآخر فهو اتجاه رأسي نتدرج فيه - عند عرضنا للمادة الثقافية - مع درجات الأعمار الثقافية من طفولة إلى شباب ثم إلى نضج الاكتمال.
هكذا - فيما أتصور - نقيم في حياتنا الثقافية مضاعفا مشتركا بسيطا يجعل المواطنين جميعا ذوي رؤية واحدة للأصول والجذور والأسس، ثم يكون لكل منهم بعد ذلك القسط المشترك ما ينفرد به من آراء تتناول الفروع والتفصيلات. وبهذا نضمن ألا يختلف اثنان في ولاء المصري لمصر، وفي انتماء المصري لموروث الثقافة العربية، وفي الأخذ عن العصر علمية نظرته إلى المسائل العامة مع الاحتفاظ الكامل بفردية الفرد في حياته الوجدانية المتمثلة في الإبداع الفني.
على أن بين هؤلاء المواطنين، الذين تهيأت لهم رؤية عامة مشتركة مقامة على قاعدة ثقافية مشتركة ، من يقف عند هذا الحد المشترك لا يرتفع عنه بحكم ظروفه. ومنهم كذلك من تتاح له فرص الارتفاع فوق ذلك بدرجات متفاوتة. فإذا كان القسط المشترك من الدين - وهو أول ينابيع الثقافة كما ذكرنا - يقف بصاحبه عند ظاهر الشعائر وأساسيات العقيدة، فإن الدرجات التي تأتي بعد ذلك ترتفع بأصحابها إلى أعماق الفقه بالدين وأصوله. وإذا كان القسط المشترك من الفن، يقف بمعظم الناس عند التذوق الأعجم لمختلف صنوف الفن، من موسيقى وتصوير وتعبير، فإن فوق ذلك تأتي درجات من التذوق الناطق، بمعنى أن يكون المتذوق للفن المعين على علم بمواضع القيمة الفنية فيما يتذوقه. وكذلك قل في الأدب وفي أسس النظرة العلمية. وإذن فلا بد لواضع السياسة الثقافية أن تشتمل خطته على إنتاج يتلقاه أصحاب الطوابق العليا. وعلى ذلك فليس صحيحا أن تكون الثقافة كلها «للجماهير»، ولا هو صحيح كذلك أن تقتصر الثقافة على أصحاب الدرجات المتفاوتة فيما هو أعلى من القسط المشترك.
وفي هذا كله لا يجوز أن ننسى حين نكون في مجال «الثقافة» أن «الثقافة» - وليس التعليم - هو هدفنا ووسيلتنا معا. وأقول ذلك لما يبدو لي من أن القائمين على اللجان الثقافية المختلفة - وكلهم من صفوة المتخصصين في ميادينهم - قد يميل بهم التخصص إلى الرغبة في إنتاج أعمال «أكاديمية» أو ما يقرب منها، وهي أعمال مكانها الجامعات وما يشبهها؛ فعندئذ يفوتهم أننا ونحن في مجال الثقافة، إنما نستهدف آخر الأمر إيجاد «حالة ذوقية» لا تكديس محصول من المعارف؛ لأن ذلك هو واجب «التعليم».
والحديث في الثقافة يطول ويتفرع، تتقاطع فيه الأفكار وتلتبس المعاني، لكن محاولة التخطيط لها عن فهم واضح، ثم إقامة بنيانها على أسس راسخة، تؤدي بنا إلى قدر من التجانس يجعلنا شعبا واحدا وأسرة واحدة، هو أوجب واجب على من يستطيع؛ فحرام علينا أن نكون نحن من نحن، عراقة ثقافية وحضارة، ثم ينحرف بنا الطريق كما هو الآن منحرف؛ بحيث تتعدد فينا الرؤى، وكأننا عدة شعوب متنافرة النظر، في جوف أمة واحدة.
حتى لا تنفرج الزاوية
لم يكد يستقر الجلوس بزائري، حتى أخذ فيما جاء يحدثني فيه، فقال: لقد أرسل إلي صديقنا فلان ما زعم لي أنها قصة قصيرة كتبها، ويريد أن أنقدها له؛ فهذه أولى محاولاته في هذا الفن الأدبي، برغم تقدمه في السن، وغزارة إنتاجه في فروع أخرى. فلم يكن في وسعي إلا تلبية الرجاء، لكني ما بلغت من القصة المزعومة ثلثها حتى أيقنت أن صديقنا لم يرد قصة ونقدها، وإنما أراد خدعة يتستر وراءها، ليقول لي عن نفسي ما أراد أن يقوله، مما لم تسعفه الشجاعة أن يواجهني به يوم أن التقينا في دارك هنا، واحتد بيننا النقاش.
كان حادا فيما كتبه عني حدة السيف، صريحا صراحة الشمس في ظهيرة الصيف. وأحسست كأنما ألقى بما وصفني به حجرا يدق رأسي لأستيقظ من سباتي إذا كان بي من سبات؛ وذلك أنه رسمني في صورة رجل اعتزل الناس، وأفلت منه تيار الحياة، فنسج لنفسه من أوهامه رواقا يعيش فيه، لا يسمع إلا صوت نفسه، يحسب أن ذلك الصوت هو هتاف جاءه من جمهور المؤيدين.
الحق أن عهدي بصديقنا هذا أنه لا يسيء إلى أحد عن عمد؛ فهو طويل الصمت، عف اللسان، لا ينطق بلفظ إلا إذا راجعه في طوية نفسه مرتين، ليأمن الزلل. فما الذي دفعه إلى هذا الذي وصفني به، سوى أن يكون ذلك هو الحق كما يراه، ويريد نقلي من دنيا الأشباح إلى دنيا الوقائع؟ إنني وإن كنت على اعتقاد بأني لست كما يصفني، إلا أنني تلقيت كلامه كما يتلقى السائر في ظلام الليل سراجا يهديه إلى جادة الطريق. ولقد وجدتني أحفل بما يقوله عني في ثنايا قصته المزعومة، حتى لكأن كلماته حفرت في نفسي كما تحفر النقوش المنحوتة في حجر الجرانيت.
ليس ما يؤرقني هو الفجوة التي يزعم أنها تفصل أوهامي التي أعيش في أباطيلها عن دنيا الناس والحوادث؛ وذلك لأن مثل هذه الفجوة إن كانت قائمة عندي، فهي على درجة ضعيفة، لا تخرجني عن جماعة الأصحاء الأسوياء، ولكن الذي يؤرقني حقا ، هو يقيني بان صديقنا هذا أعمق فكرا وأدق تحليلا من أن يقذف بكلماته قذفا جزافا. وإذن فلا بد لي من التساؤل: ترى هل يريد من كلامه هذا شيئا آخر لا يحب أن يفصح به، ويكتفي بالإشارة الرامزة من بعيد، وعلى القارئ أن يبحث عن المعنى الخبيء؟
هنا قطعت أنا على المتحدث حديثه، وسألته: وماذا في ظنك أنت يكون هذا المعنى الخبيء؟
أجابني بقوله: ربما أراد أن يرمز إلى «المصري» أو إلى «العربي» في مرحلته الراهنة، بينما يشهد التاريخ للمصري خاصة وللعربي عامة أنه ذو لمسة واقعية يعرف بها أسرار دنياه المحيطة به؛ فقد يخيل لصديقنا هذا أنهما يعيشان اليوم في أوهام كثيفة عن مجد غابر، تحجب عنهما الرؤية الصحيحة لما يجري قاب قوس واحدة أو أدنى.
ومضى الزائر في حديثه يقول: كانت «مدام بوفاري» - في رواية الأديب الفرنسي «فلوبير» - تتميز في بناء شخصيتها بصفة بارزة، هي انفراج الزاوية بين أوهامها من جهة، ووقائع الدنيا من جهة أخرى. ولقد أجاد فلوبير تصوير هذا الجانب إجادة جعلت أن مجرد الإشارة إلى «مدام بوفاري» يكفي للدلالة على الهوة العميقة التي تقع بين أوهام الواهم وحقائق الواقع. وها هو ذا صديقنا في قصته المزعومة، يكثر من الإشارة إلى مدام بوفاري، فلا يبقى أمامي إلا السؤال: ترى من هو هدفه المقصود؟
ولقد أورد في غضون كلامه اسم «هانز أندرسون»، فلم أشك في أنه يشير بهذا إشارة لا تخفى على العارفين، إذ يشير إلى حكاية الملك الذي أوقعه المحتالون في وهم عجيب أعمى بصره وطمس على بصيرته؛ إذ أوهموه بأنهم نسجوا له قماشة لم تر الدنيا مثيلا لها، وأرادوا أن يلبسوه ثوبا يصنعونه من ذلك النسيج الفريد، وأهم ما يميزه هو أن العقلاء الأسوياء وحدهم هم الذين يستطيعون رؤية ذلك القماش، وأما البلهاء فلا يستطيعون ذلك.
توهم الملك أنه اكتسى بالثوب العجيب، وهو عريان، وأمر فسار في موكب حافل يشق طرقات المدينة، ليراه شعبه وهو في زخارفه، فكان المتفرجون يهمسون بكلمات الإعجاب والدهشة لجمال الثياب الملكية الفريدة، إلى أن صاح غلام صغير إلى أمه: أين هي الثياب؟ إن الملك عريان . وما إن قالها الغلام حتى سرت في الناس سريان البرق الخاطف: إن الملك عريان.
وتلك عجيبة من عجائب الإنسان، وهي أن حقائق وجوده وحياته قد يدركها الصبي الصغير بقلبه البكر وشعوره الصافي، كما قد يدركها الفيلسوف بعقله الجبار. وأما من هم بين ذينك الطرفين، فكثيرا ما تحول شواغل دنياهم دون رؤيتهم لأبسط الحقائق عن طبيعة الإنسان. فالغلام الذي صاح بحقيقة أن الملك عريان، شبيه بالفيلسوف ديكارت حين أعلن أنه موجود بفكره قبل أي شيء آخر، فكان الغلام وكان الفيلسوف، كلاهما، كأنما كشفا للناس عن سر مجهول.
وعودة إلى قصة صديقنا، وإبرازه للشخصية الإنسانية حين تنشطر بين وهم في داخلها وواقع في خارجها؛ فسواء أرادني أنا بقصته، أم أراد من ورائي أن يصور ما هو أهم وأعم، وأعني شخصية «المصري» أو «العربي» في مرحلته التاريخية الراهنة، فلقد استثارت القصة فكري، وهي - لأمر ما - تذكرني بحقيقة شاعت في عصرنا الراهن شيوع واسعا، كلما كان الحديث عن التفكير العلمي ومنهجه، وهي حقيقة لها مصطلحها الخاص في اللغات الأوروبية، حتى إذا ما أراد علماؤنا نقلها إلى العربية تفرقوا في الترجمة التي يختارها لها كل على حدة، ومن تلك الترجمات ما تنفر من سمعه أذني، وكان يمكن أن نتفق على مصطلح فيه الدقة وفيه النغمة المقبولة معا. وأما تلك الحقيقة المنهجية فهي تشير إلى المراجعة التي من شأنها أن تصحح مسار التفكير. فإذا عرض علينا صاحب فكرة فكرته، ثم تركناه بغير مراجعة وتمحيص، فقد تكون تلك الفكرة منطوية على أخطاء، وبرغم أخطائها تسري في الناس وكأنها تنزيل من التنزيل. وإذن فلا بد من مراجعة ناقدة، تحمل صاحب الفكرة على تصحيح فكرته. أقول: إن لهذه العملية في اللغات الأوروبية مصطلحا يكثف محتواها في صورة من يتلقى غذاء من سواه، فيبادله - بدوره - غذاء بغذاء، فالأول يقدم إلى الثاني فكرة، فيرد له الثاني جميلا بجميل، حين يقدم له ما قد يراه في الفكرة من خطأ يستوجب التصحيح. تلك هي العملية المنهجية التي أشرت إليها، والتي اختلف علماؤنا في المصطلح العربي الذي يصطلح للدلالة عليها. ولو كنت صاحب رأي، لاقترحت أن نتخلص من صورة «الغذاء» ورد الغذاء، وهي الصورة الموجودة في المصطلح الأوروبي؛ لأنها - لأمر ما - لا تتفق مع الذوق العربي. ولماذا لا نقول عنها - مثلا - «المراجعة للتصحيح» بكل ما فيها من بساطة ووضوح.
ولقد اكتسبت هذه العملية المنهجية في التفكير العصري أهميتها، من كونها تجاوزت حدود التفكير العلمي الخالص، ونشرت فروعها في ميادين أخرى تمس الحياة والديمقراطية في قلبها وصميمها. فإذا لم يرصد الخبراء - كل في مجال اختصاصه - ما يشاع فيهم من أفكار، رصدا يراجع ويمحص، ليردوا تلك الأفكار إلى أصحابها منقحة مصححة، فسرعان ما تمتلئ حياة الناس بالأباطيل، ثم سرعان ما ينتقل الناس من موقف التهاون في النقد والتصحيح، إلى موقف «الخوف» من نقدها وتصحيحها.
قال المتحدث: معذرة، فلقد استطرد بي الحديث، حتى بعدت عن قصة صديقنا؛ فقد جاءتني بمثابة العملية المنهجية التي حدثتك عنها، والتي توجب مراجعة الأفكار السائدة بيننا ابتغاء التصحيح إذا احتوت على ما يتطلب مثل هذا التصحيح.
ومرة أخرى قطعت على المتحدث حديثه، لأسأل: كأني بك يا صاحبي تفزع إذا قال لك قائل إنك تعيش في أوهام نسجتها لنفسك بخيالك؟ إنه لو كانت الأوهام (والأحلام ضرب منها) تنزل بالإنسان كل هذا الأذى، لما فطرت عليها طبيعته. أتحب للطفل - مثلا - أن يبرأ من أوهامه، حتى لا يحسب العصا التي يركبها جوادا؟ وإذا كان لا بد للطفل من حياة الوهم، أفليس يكمن في كل إنسان راشد ذلك الطفل الذي كان؟
الأوهام - يا صاحبي - هي وجبات طهوناها لأنفسنا على أية صورة نشتهي. ماذا يكون مصير الإنسان إذا لم تكن في حياته أحلام؟ وإنني لأعني الأحلام بنوعيها؛ أحلام اليقظة وأحلام النوم؛ فكم من عاشق روى ظمأه في أطياف الحلم، وكم من مغلوب على أمره في الحياة الواقعة كان نصيبه في أحلامه دور الغالب الظافر.
ضحك صاحبي وأجاب: إنني لأعلم بأن صحراء الحياة إذا لم يتخللها واحات الوهم والحلم، لأصبحت جحيما قبل يوم الحساب. وهل الفن كله إلا وسائل يلوذ بها الإنسان إلى صور من أحلامه ليصحح بها ما يفسد الحياة الواقعة؟ كل ذلك مفهوم ومقبول، فلا ضير فيه إذا كان للحلم ساعته وللصحو الواعي ساعات. ومن ذا يوجه اللوم إلى مدام بوفاري لو أنها واجهت واقع حياتها معظم أحيانها، ثم خصصت حينا تسرح فيه بأوهامها؟
على أن ما هزني من الأعماق، فيما قرأته من القصة المزعومة، هو ظني بأن صديقنا - بعمق فكره ودقة تحليله - إنما يصور شعوبنا في جملتها، ولا يقصد إلى فرد بعينه. وإذا كان ذلك هو مرماه، كان الأمر عندي جديرا بأن أحضر إلى دارك، لنتعاون على التماس السبل، التي نحد بها من جنوح الناس نحو أوهام يصنعونها ليستدفئوا بها، حتى لا تنفرج بنا الزاوية.
لا ... لن أكسر مغزلي
لست على يقين بالظروف التي أحاطت بالإمام أبي حامد الغزالي، والتي ضاقت لها نفسه، حتى قال ضمن أبيات من الشعر هذا البيت، الذي لا يزال يتردد ذكره على ألسنة الناس، كلما أحس القائل ضيقا كالذي أحسه الغزالي، حين صادفه ما صادفه من جحود. والبيت المقصود هو الذي يقول فيه:
غزلت لكم غزلا دقيقا ولم أجد
لغزلي نساجا، فكسرت مغزلي
فإذا فرضنا أن دروسه التي كان يلقيها في الفقه وغيره، وهو بعد في بغداد لم يرحل عنها، هي بمثابة الخيوط التي غزلها «لهم» (ومن هم؟) فما هو «النسيج» الذي توقعه ولم يجده؟ وهل يشير بتكسيره لمغزله إلى أنه ترك التدريس يائسا من جدواه؟ إننا نعلم في تاريخ حياته، أنه تعرض في أزمة حادة من الشك، وذلك حين أدرك أنه إنما يلقي دروسه الدينية على صورة تقنع المؤمن، ولكن ماذا لو كان الذي يستمع إليه من غير المؤمنين؟ كيف يسوق له الحجة؟ وهنا ثقلت عليه المشكلة حتى تأزمت. ولم يجد لنفسه بدا من ترك بغداد، ليظل في تجوال، يرتحل فيه حينا، ويحط رحاله ليقيم حينا هنا أو هناك، حتى يهديه الله إلى جواب يقتنع به، على السؤال الذي كان قد طرحه على نفسه وعز عليه الجواب، فلما اهتدى إلى اليقين بإذن الله، عاد إلى بغداد صحيحا معافى.
أقول إننا نعلم ذلك عن الغزالي (واقرأ له في ذلك رائعته في كتابه «المنقذ من الضلال»، تقرأ فيه آية الأدب الفلسفي في تاريخ الفكر الإنساني جميعا)، لكن هذا كله لم يكن هو الدافع لضيقه الذي عبر عنه في بيت الشعر الذي أسلفناه، والذي يصرح في وضوح لا لبس فيه أن سبب ضيقه هذه المرة لم يكن مشكلة أقامها هو لنفسه ثم لم يجد لها جوابا، بل كان متعلقا بآخرين، قدم لهم غزله الدقيق، ولكنه لم يجد فيهم نساجا ينسجه، فأخذه يأس، وكسر مغزله. ولعل هذه الصورة تزداد عمقا، لو ذكرنا أن والد الغزالي كان «غزالا» (بتشديد الزاي) لحضور مهنة أبيه إلى ذهنه ساعة التصوير الأدبي، يذكرنا بسقراط حين تصور توليد الأفكار شبيها بنحت قطعة من الحجر لاستخراج التمثال الكامن فيها؛ فها هنا نراه يستعين بفن النحت الذي كان حرفة أبيه، وبالتوليد الذي كان حرفة أمه.
لكن لا علينا من ذلك، ولنعد إلى إمامنا الغزالي، الذي كسر مغزله حين لم يجد لغزله نساجا بين من قدم لهم ثمرة جهوده، لأقول إنني وإن كنت لا أزيد على حصاة ضئيلة إلى جانبه ذلك الجبل الشامخ، فقد تملكتني منذ زمن طويل، عادة أن أتمثل ببيت الغزالي كلما انتابتني لحظة يأس، لا أكون أنا مصدرها وباعثها، بل يكون الآخرون هم هذا الباعث وذلك المصدر، بما يسمعونني إياه من كلمات التثبيط والتهوين.
فكأنما سلط بعضنا على بعض، كلما نشط منا ناشط بما ظنه نافعا له وللناس، تصدى له من يطفئ جذوته - إذا استطاع - والأغلب أن يكون ذلك المتصدي ممن خلت يداه من أي شيء يتقدم به يوم الحساب. وكان آخر ما سمعته في هذا الباب، هو الحكم الذي ألقاه في سمعي من ألقاه، محاولا - بكل ما يتمتع به من لباقة حديث - أن يضع جهودي العلمية والأدبية كلها، التي امتدت على الزمان ما يزيد على خمسين عاما، في ركن معتم، تكاد لا ترى شيئا منه أبصار العابرين.
ولقد عرفت في نفسي على طول السنين، نمطا من السلوك يتكرر معي مرة بعد مرة، وهو نمط أوله ضعف شديد وآخره عزيمة أشد وأقوى؛ فلست أدري على وجه الدقة، ماذا كان العامل الرئيسي - أو العوامل التي كانت أكثر من عامل واحد - ذلك الذي صادف طفولتي، فشكلني فيما جاء بعد ذلك، تشكيلا جعلني ألوذ بالانزواء، كلما تلقيت من الأيام ضربة، حتى ولو لم تزد تلك الضربة على رفيف جناح من بعوضة متهافتة، لكنني كلما انطويت على نفسي مرة، خرجت من الانطواء أمضى عزيمة على مواصلة السير، يعينني على ذلك ما أنعم الله به علي من صدق مع نفسي وقناعة ترضى بالقليل. ومن هنا كان من أعسر العسر على أحد من عباد الله أن يلقاني أمامه باسطا له كف الضراعة، مهما بلغت قدرته على العطاء إذا أعطى، وعلى الإيذاء إذا آذى.
فلما لحق بي صاحبي على الطريق، ليسمعني عبارة التهوين والتصفير، مغلفة بغطاء فيه قليل من حلاوة تحد من مرارة المرمي، عدت إلى داري بطيء الحركات خافت الصوت. وكان أول ما استحضرته الذاكرة عندئذ، فصل ورد في «منطق الطير» لفريد الدين العطار، عنوانه «في وصف الاستغناء»، فلقد صور ذلك الصوفي العظيم طريق السالكين (والسالكون في هذه الحالة هم جماعة الطير) وديانا تتلاحق، فكلما قطع السالك واديا منها ظهر له واد آخر، ومن تلك الوديان واد يطلق عليه فريد الدين اسم «وادي الاستغناء».
نهضت من فوري، وأخرجت «منطق الطير» من خزانة الكتب، وحملت معي منظار التكبير، وبحثت في الكتاب عن وادي الاستغناء لعلي أتزود منه بزاد يشد من أزري، وقرأت وأرهفت خيالي ليجسد لي ما أقرؤه، فيجعله وكأنه واقع أعيش فيه؛ فها أنا ذا في الوادي أشعر بالريح عاتية في شدتها وسرعتها حتى تمحو كل شيء! فالبحار السبعة قد تضاءلت حتى صارت بركة صغيرة، والكواكب السبعة قد خفتت حتى لم يعد من نارها إلا ومضة ضوء، وذبل الزرع ومات، وتحولت النيران السبعة إلى أعمدة من ثلج. وها هنا ضعف القوي وقوي الضعيف، حتى أضحت النملة في قوة مائة فيل. وليس لأحد أن يسأل: كيف؟ ولماذا؟ فليس من بأس هنا أن تفنى مائة قافلة ليملأ حوصلته غراب واحد.
ليس في وادي الاستغناء فرق بين قديم وجديد؛ فها هنا تخنق الشهوات، فلا رغبة لراغب. ها هنا أستعيد كل ما رأيته في الدنيا، فإذا هو الحلم. إن ألوف الأنفس أراها تسقط في البحر اللامتناهي، فتبدو - جميعها - وكأنها قطرة واحدة من قطرات الندى. وأرى أفلاك السماء ونجومها تهوي ممزقة إربا إربا، فإذا هي - كلها - وكأنها ورقة واحدة سقطت من شجرة. لقد رأيت الكون كله وقد تحول إلى عدم، فهل رأيت أكثر من نملة عرجت لها ساق في جوف بئر؟ لقد بدا زوال العالم وكأنه حبة رمل واحدة طارت عن أرضها. البشر جميعا يفنون وكأنهم قطرة واحدة من ماء المطر. إنهم يصيرون ترابا وكأنه لم يحدث سوى أن سقطت شعرة واحدة من كائن حي، أو سقطت ورقة واحدة من شجرة تين.
ذلك هو وادي الاستغناء كما تصوره وصوره فريد الدين العطار. فهل يسعك أن تحيا فيه لحظة، دون أن تخرج من قراءتك وقد استصغرت كل شيء؟ لكنني لا أحب لنفسي مثل هذا الشعور إلا كما يجرع المريض دواءه ليشفى. إن الصغار العوابر من حياتنا تهز قلوبنا وتقلب أمعاءنا - كما فعلت معي العبارة الحلوة المرة التي صبها صاحبي في أذني ليؤذيني، فإن حدث ذلك، جاءت قراءة «وادي الاستغناء» أو ما يشبه علاجا شافيا، نعود بعده إلى حياتنا وقد اتخذ كل شيء نسبته الصحيحة؛ فالكبير كبير، والصغير صغير. ولو كان لدينا نقد ونقاد، لأقاموا بيننا الميزان، فعرفنا من منا يرحل وكتابه بيمينه، ومن يذهب عنا بغير كتاب.
ماذا تصنع أقلامنا إذا لم تجاهد حتى يعتدل على سنانها ترتيب القيم؟ ففي حياتنا قيم - هذا صحيح - لكن أسفلها قدرا موضوع بأعلاها، وأعلاها أنزلناه حتى بات أسفلها. ألم نرفع من شأن النفوذ والجاه والسلطان حتى جعلنا لها قمة القمم، ثم ألم نهبط بقيمة العمل حتى جعلناه أرضا تدوس عليها الأقدام؟ فماذا تصنع الأقلام إذا هي لم تغير عقولنا ونفوسنا، فتتغير هذه الأوضاع.
لقد قالت لي فتاة عربية وهي تحدثني عن أوضاع الحياة في وطنها: إن العربي الأصيل يترفع بحكم ميزانه الثقافي على أي عمل يؤديه بيديه، ويكل إلى غيره أن يؤديه له. قلت لها: هكذا كانت كل شعوب الدنيا في العصور الأولى؛ فهكذا كان اليونان أنفسهم، الذين اشتهروا في التاريخ بالوقفة العقلية التي تكاد تخلو من شوائب الانفعال، لكن تغيرت الشعوب مع تغير الحضارات، إلى الدرجة التي أصبح الحكم في أيدي من يعملون بالأيدي. وأما العربي فقد اختار لنفسه - فيما يبدو - ألا يتغير في قيمه مع تغير الظروف. فمن ذا ينقل العربي من أنفة كاذبة تريد الكلام ولا تريد العمل إلى وقفة أخرى يعكس بها المعايير، إلا الكاتب وقلمه؟
لا، لن أكسر مغزلي، وحتى ولو لم أجد نساجا لغزله. وتحضرني قصيدة للشاعر الإنجليزي وليم بليك، الذي عاش في فترة انتقال الحضارة من حياة الريف والرعي والزراعة، إلى حياة المدن والعلم الصناعة، وكان رومانسي النزعة، يؤثر المروج الخضر على مداخن المصانع، فصمم على أن يقاوم. وبماذا يقاوم؟ إنه لا يملك سوى شعر وقلم. إذن فبالشعر يقاوم وبالقلم. وفي قصيدة له عنوانها «ملتن» يقول ما معناه: لن أكف عن الجهاد بفكري، كلا ولا سيفي سيرقد خاملا في يدي ... حتى أرد بلادي إلى مروجها الخضراء.
وليس المهم هنا هو: من أجل أي شيء يجاهد الشاعر أو الكاتب، وإنما المهم هو أن يجاهد بفكره وقلمه ليحدث التغيير الذي يريد أن يحدثه.
وإني لأحمد الله أن كانت لي رؤية واضحة عشت على ضوئها حتى يومي هذا ما يزيد على أربعين عاما، وكانت هي مدار كتابتي طوال تلك الفترة، عارضا لها من زواياها المختلفة، دافعا عنها أباطيل الذين هاجموها دون أن يقرءوا في روية وفهم صحيح. وأستطيع أن ألخص موقفي في بضعة أسطر، فأقول إن حياة الإنسان الواعية تتبادلها نظرتان، لكل نظرة منهما لحظتها، ولكل لحظة مقوماتها؛ أما إحداهما فهي حين يكون الإنسان على صلة عملية أو علمية مباشرة بشيء من كائنات الواقع. وأما الأخرى فهي حين يخلو الإنسان إلى نفسه وإلى ربه، ليعلو على ذلك الواقع، إذا صح لنا أن نقول ذلك. فإذا ما كان الإنسان في لحظته العملية أو العلمية لم يكن له بد من أن يركن إلى التجربة المؤسسة على إدراك حواسه من بصر وسمع وغيرهما. وأما إذا كان في لحظته الثانية، فها هنا تكون الكلمة الأولى لقلبه ووجدانه.
وإن مثل هذه الرؤية المزدوجة، لتتفق أتم اتفاق مع ثقافة المصري التي تراكمت له عبر القرون؛ وذلك لأن المصري في حياته العملية صانع وزارع، وكان محالا عليه أن يمارس صناعته وزراعته، إلا إذا كان مرهفا حواسه للمادة الخارجية التي يعالجها؛ فهو لم يمارس صناعته في هواء، بل مارسها في حجر وحديد وذهب وبرونز؟ وهو كذلك لم يمارس زراعته في خلاء، بل مارسها على تربة حقيقة لها خصائصها المعينة عند الحرث والري وبذر البذور وجمع الحصاد.
لكن المصري لم يستغرق حياته كلها في صناعته وزراعته، بل هو إلى جانب ذلك - بل فوق ذلك، وقبل ذلك، وأهم من ذلك - يجاوز حدود الواقع المصنوع والمزروع، ليخلص الصلة بقلبه وبربه. ولقد تعددت الديانات خلال تاريخه الطويل، لكنها على تعددها ديانة يعبد بها خالقه، كما تعددت أشكال فنونه مع تعدد عصوره، لكنها كانت كلها فنونا يصب فيها مشاعره كما أحسها في نفسه.
فليس الجمع في حياة واحدة بين لحظتين تتبادلان السيادة، مسألة فلسفية نظرية وكفى، بل هي وصف للحياة كما نحياها، ولكن إذا كانت هذه المزاوجة بين عقل وحرمان هي ما يحياه الإنسان عامة، والمصري بصفة خاصة، ففيم العناء في الدعوة إليها، ثم لماذا تلقى المعارضة أحيانا؟ جوابي هو أن هذين الجانبين، على ضرورة وجودهما معا، إلا أنهما يتفاوتان طولا وقصرا مع المناخ الثقافي الراهن. وإنهما ليتعادلان في فترات القوة، ويختل بينهما ذلك التعادل في فترات الضعف. وظني هو أن مناخنا الحاضر قد اقتضى زيادة في طول الضلع الوجداني ، وانكماشا في الضلع العقلي والعملي. ومن هنا جاءت دعوتي إلى وجوب التوازن. ومن هنا أيضا جاءت المعارضة.
وعلى أية حال فهي وجهة نظر تستحق المتابعة والإلحاح، فإن اعترضني من يستخف بالمسألة وبجوابها، أسرعت بدوري إلى كسر مغزلي؟ اللهم لا. لن أكسر مغزلي؛ فالحياة - كما قال شوقي - عقيدة وجهاد.
كيف يولد طاغية
كان حوارا جميلا بيني وبين غلام يتوقد ذكاء في نحو السادسة عشرة من عمره، لكن ذكاءه يسبق عمره بسنوات. جاء ليسمر معي كما يجيء مع ذويه حينا بعد حين كلما جاءنا هؤلاء للزيارة. وأني لأفرح بقدومه فرحة الزميل يلتقي بزميله؛ فأنا أحب حديثه كما يحب هو حديثي وكأننا صنوان لا تفصل بينهما ستون عاما. فنحن إذا ما ربطت بيننا أواصر الحديث كنا بمثابة البرهان القاطع نقذف به في وجه من يتحدثون عن صراع الأجيال؛ فقد تكون الأجيال متصارعة في سائر الأرض. وأما في مصر فالأجيال موصول بعضها ببعض، تتعاقب كأنها الموجات المتلاحقة على سطح النيل وهو ينساب في جلاله ووقاره غير عابئ بفواصل السنين.
أما حب الفتى الذكي لحديثي فلأنني لا أسوق في عبارتي كلمة واحدة تشعره بأنه صغير يتحدث إلى كبير. ولماذا أفعل؟ إنه في الحق وإن يكن صغيرا في عمره فهو كبير في فكره. وأما حبي أنا لحديثه فلأنه قلما يجيء ووفاضه خال من اللمحات اللوامع يعرضها في براءة، وهي في حقيقتها لمحات تستوقف الفكر بغزارة مدلولها.
وكان آخر ما رواه لي من لمحاته تلك أن قال: كان عندنا في البيت قليل من مخزون الأرز، وفوجئت أمي ذات صباح أن بللا قد أصابه من ماء رشح به جدار الغرفة المرطوب، فأسرعت إلى نشره في الشرفة الخارجية ليجف بشمسها وهوائها، وطلبت إلي مراقبته، فجلست خلف زجاج النافذة بحيث يكون الأرز المنشور على مرأى مني، فما هو إلا أن حط عصفور على مقربة قريبة من الأرز. ولأمر ما وجدتني ألزم جلستي الساكنة أوثر أن أرقب العصفور كيف يسلك إزاء الغنيمة بل أن أحمي الأرز من اعتدائه. فلحظت يا عمي في العصفور أمرا عجيبا إذ أخذ العصفور يتلفت بحركة سريعة هنا وهنا قبل أن يقدم على التقاط الحب، كأنما أراد أن يستوثق من غيبة الرقيب، حتى إذا ما اطمأن بعض الشيء خطا خطوتين في حذر شديد وأصبحت حبات الأرز على ملقط منه، لكنه على ذلك تريث لحظة وراح من جديد يتلفت يمنة ويسرة وإلى الأمام. ولعله لم يجد حوله ما ينذر بالخطر فالتقط حبة واحدة بلقطة سريعة كادت تسبق بسرعتها سرعة البصر. ثم سكن لحظة وعاد يتلفت ليرى ماذا عسى أن يدهمه من أسباب. فلما لم يجد إلا الهدوء والأمان انكب على الأرز يلتهم منه ما ملأ حويصلته وطار.
قلت للفتى مداعبا ولماذا تركت العصفور ينهب من أرزكم ما شاء أن ينهب مع أنك قد جلست إلى جواره لترقبه وتحميه؟ فأجاب الفتى: وجدت في دراسة العصفور ما هو أغلى من بضع حبات الأرز. ولقد تعلمت كيف يبدأ المعتدي بالحذر والخوف حتى إذا ما أمن مغبة الاعتداء ملأته الشجاعة فأقبل على العدوان بكل قدرته وهو مطمئن آمن أو قل إنه كالمطمئن الآمن لا يحول شيء بينه وبين السير في شوطه إلى آخر المدى. لقد وجدت في هذا الدرس أتعلمه من العصفور متعة تفوق ألف مرة ما ضاع علينا من الأرز. ولو علمت أمي بالأرز الضائع وأنحت علي بلائمة أجبتها: لا عليك يا أمي أنقصي من نصيبي في الأرز ملعقة.
سألت الفتى الذكي قائلا: وماذا كان مضمون الدرس الذي تعلمته من العصفور والأرز؟ فأسرع الفتى بالجواب: هو أن سكوت صاحب الحق المنهوب سرعان ما يجعل الناهب صاحب حق في الاعتداء. ذلك على الأقل في عالم الطير. وقد يكون الأمر كذلك في عالم الحيوان بأجمعه. ولست أدري ماذا تكون الحال في عالم الإنسان.
قلت للفتى: ترى هل قرأت الكتاب الصغير الذي أعطيتك إياه منذ بضعة أشهر وفيه مجموعة من حكايات هندية؟ فقال الفتى: نعم قرأته. قلت له: حاول أن تتذكر حكاية منها عن أطفال وثعبان لنرى معا هل تدل الحكاية على شيء في هذا السبيل ...
انتفض الصبي واقفا وقفة ظافر منتصر وقال: نعم، نعم؛ فهي حكاية تحكي عن فقير هندي عابد انتبذ لنفسه مكانا مهجورا وهناك لحظ على مر الأيام ثعبانا ضخما كيف يتربص لفرائسه فقال له العابد الفقير لماذا لا تعلن التوبة من هذا الشر لتفوز بالرضا والسكينة؟ فاقتنع الثعبان بالنصح وتحوى في ركن من أرض خراب يأكل ما يقذف به إليه المارة. وذات يوم جاء أطفال يلعبون فما إن رأوا الثعبان ملتفا على نفسه جنب الحائط حتى أسلموا سيقانهم الصغيرة للريح. ثم عادوا في الصباح التالي ليجدوا الثعبان على ما رأوه به يوم أمس فتشجع منهم طفل وقذف الثعبان بحجر واحد وجروا جميعا فازعين. وكان اليوم الثالث وكان الثعبان على استكانته، فتشجع أكثر من طفل ورمى كل منهم أكثر من حجر. وهكذا اطمأن الأطفال مع الأيام أن ليس لعدوانهم ما يرده، فكانوا يمطرون الثعبان بوابل من الحجارة فذهب إلى حيث الفقير العابد وشكا إليه ما يلقى، فقال له الرجل: امض في استسلامك على أن تتحرك آنا بعد آن بما يخيف الأطفال ولك في ذلك ثواب هو أن يكفوا عن العدوان.
قلت للفتى: أرأيت أن الأمر في عالم الإنسان كما هو في عالم الطير والحيوان؟ إنها فطرة لا يلجمها إلا أن يصادفها من يضع لها الشكائم فتقف أمام المعتدي الذي لا يجد لاعتدائه رادعا فسيمضي في طريقه آمنا مطمئنا. وإن اللحظة التي يدرك فيها أن ليس لعدوانه رادع لهي اللحظة التي يتحرك في أحشائه الطاغية الكامن في فطرته. ألا إن الإنسان ليطغى إن رآه قادرا على الطغيان وهو آمن.
سألني الفتى في دهشة: ولكن هل هناك من الناس من يترك حقه نهبا لغيره وهو عامد؟ فأجبته: نعم يا ولدي هم يعدون بالملايين. ولولا هؤلاء لما شهد التاريخ طغيانا ولا طغاة. لماذا تركت أنت أرزكم ليملأ منه العصفور جوفه ويطير سالما غانما؟ قال الفتى فعلت ذلك حسبانا مني بأن المعرفة المكسوبة ترجع الأرز الضائع. فابتسمت له مشفقا وقلت: هي أعذار ينتحلها الخاسر حتى يوهم نفسه بأنه إنما ضحى بالقيمة الأدنى ليظفر بالقيمة الأعلى. لقد حدث لي يا بني لا أقول مرة أو مرتين أو عشر مرات بل هي مواقف لا أستطيع حصرها أن بدأت التعامل مع أطراف أخرى فيبدأ من أعامله بالحذر والحساب، لكن لا يلبث أن يدرك تهاوني في حقوقي فيسرع إلى انتهاز الفرصة ويمسك باللجام ويضع الشكيمة وإذا هو الطاغية قد ولد له الأمر والنهي والقيادة، فأقول لنفسي متعزيا: لقد تنازلت له عامدا التماسا لراحة البال واكتسابا للوقت الذي أفرغ فيه للعمل. إنها أعذار نتعلل بها يا بني لا تنفي أن يكون الطاغية قد أمسك بالصولجان. قال الفتى: أرى أن هذه حالات فردية في دنيا التعامل والأخذ والعطاء ليست هي ما تستخدم له كلمات الطاغية والطغيان أليس كذلك؟ قلت له: صدقت لكن لا فرق في الحقيقة؛ فالقاعدة التي أريد أن أضعها بين يديك هي أنه حينما فرط إنسان في حقه ظهر لذلك الحق طاغية يستبد به.
قال الفتى: ما زلت - يا عمي - في حيرة من الأمر لا أتصور كيف يضع المرء حبل العبودية حول عنقه بيديه ثم يسلمه إلى من يستبد به ويطغى. أجبته قائلا: إن الأمر ليسهل إدراكه إذا علمت أن الحرية حملها ثقيل على عواتق الناس. نعم إنك لترى الإنسان دءوبا في المطالبة بحريته في الفكر والعمل حتى إذا ما ظفر بها استسهل أن يدع الفكر والعمل لسواه؛ فأيسر عليه أن يأخذ الفكرة عن غيره جاهزة وأن يترك غيره ليضع له خطة العمل.
إنني أعلم عنك حبك للقراءة وسأذكر لك موضعين تجد فيهما شرحا مستفيضا لهذه الحقيقة في طبائع الناس؛ فرد من الناس أو شعب بأسره يسترخي لحظة عن تحمل تبعات حريته ومسئوليته، فيتولد له في ذات اللحظة مستبد يمسك بزمامه. وأما الموضعان اللذان أشرت إليهما فهما كتابان ستجدهما في مكتبة أبيك؛ أولهما الخوف من الحرية ومؤلفه أربك فروم، والثاني كتاب الجمهورية للفيلسوف اليوناني العظيم الذي لا بد أن تكون قد سمعت عنه.
ابدأ بجمهورية أفلاطون وإذا شئت اختصارا للزمن بسبب انشغالك بدروسك، فاقرأ الفصل الثامن فهو هناك يقدم تحليلا بلغ الغاية في الدقة والوضوح يبين به الخطوات المتدرجة التي تؤدي إلى ظهور المستبد في دنيا السياسة؛ ففي المجتمع الواحد قلة قليلة تختار السياسة عملا لها وهذه القلة بدورها تشبه ذكور النحل في الخلية بعضها يلدغ والآخر لا قبل له على ذلك فيتجمع العسل كله للادغين وتبقى أكثرية الشعب لا تدري في أمر السياسة أين الرأس وأين الذنب؛ لأنها تصفق كلما خطف أبصارها بطل؛ فها هنا يكون منبت الاستبداد والمستبد لأنه يتقدم لحماية تلك الأكثرية الغافلة يلقي عليها من البسمات ما تلين له القلوب فتقدم له الطاعة اختيارا. وفي هذا الموضع من مراحل التطور تتحقق أسطورة قديمة كانت شائعة معروفة عند اليونان وهي أسطورة من يأكل شيئا عن اللحم الآدمي ممزوجا بمختلف القرابين يتحول إلى ذئب يستمرئ شرب الدم ...
اقرأ يا بني هذا الجزء بعناية تعلم على وجه اليقين كيف ومتى يولد في الناس مستبد. وما دمت قد ذكرت لك مادة للقراءة فلا بد لي أن ألفت نظرك منذ الآن إلى آية كبرى ظهرت في عالم الفكر المصري المعاصر وعملاقها هو الراهب في محراب العلم الدكتور جمال حمدان، وذلك في مؤلفه الضخم شخصية مصر ظهر منه حتى اليوم جزآن ونحن موعودون بجزء ثالث. وأخيرا ضع هذا الكاتب ومؤلفه في ذاكرتك يا ولدي حتى يتاح لك أن تغترف منه العلم والصبر معا. إن أحدا منا لم يعد يستطيع أن يعد معالم الحياة المصرية في نهضتها الحديثة دون أن يذكر هرمها الأكبر وهو هذا المؤلف الجبار. وقد يكفيك الآن أن تقرأ فصلا واحدا يدور حول ما كنا نتحدث فيه وهو الفصل الثاني والعشرون وعنوانه «من الطغيان الفرعوني إلى الثورة الاشتراكية».
قال الفتى وقد هم بالانصراف: لقد كانت في حوار اليوم شموع مضيئة.
قلت مجيبا: لئن كانت الشموع من عندي فأعواد الثقاب التي أشعلتها كانت من عندك. وهكذا تتعاون في مصر أجيالها المتعاقبة أخذا وعطاء. إنه موقف حضاري خالد لمصر أكثره تعاون وأقله صراع.
قلم يتوب
عدت إلى أوراق كتبتها على فترات متباعدة، لأرى كم ثبت مني وكم تغير؟ فوقعت على صفحات كتبتها يوم الإثنين الثامن والعشرين من ديسمبر سنة 1953م، إثر زيارتي لمتحف الفن (المتروبوليتان) في نيويورك. وبعد أن أطلت الوقوف عند المعرض في القسم المصري، وهو أول ما يصادف الزائر، ويقع في عشر غرف متجاورة تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى، ختمت بقولي: «امتلأت اليوم زهوا، بقدر ما أفعمت حسرة على أن يكون هذا هو ماضينا المصري، ثم نملأ الدنيا صياحا بأننا عرب! إن عظمة الشعوب هي في فنونها وعلومها. وقد ترك المصريون هذا التراث الفني الضخم، الذي يملأ متاحف العالمين، فماذا ترى في المتاحف من آثار العرب؟ أفبعد هذا الماضي المصري المجيد، نلقي بكنوزنا في جوف البحر، ونغمض عنه أعيننا، ونصم آذاننا، لنقول للدنيا بأفواه تتساقط منها خيوط من لعاب البلاهة والخبل: نحن عرب؟»
ثم مضيت أنبش في أوراقي القديمة، فوقعت عيني على هذه الفترة من مقالة كتبت قبل اليومية السالف ذكرها بنحو عشرة أعوام، وهي فقرة أقول فيها: «إنني في ساعات حلمي، أحلم لبلادي باليوم الذي أتمناه لها؛ فإنما أصورها لنفسي وقد كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون (والإشارة هنا إلى شعوب أوروبا)، وارتدينا من الثياب ما يرتدون، وأكلنا كما يأكلون، لنفكر كما يفكرون، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون».
ومضيت مرة أخرى، أقلب أوراقي التي ملأت أركان الخزائن حتى لم يعد بها متسع لورقة أخرى تضاف، مضيت أقلب أوراقي تلك، أقرأ سطرا هنا وفقرة هناك، وصفحة كاملة حينا بعد حين، لكني هذه المرة أخذت طريقي مع الأيام متجها بها من ماض إلى حاضر، فإذا ببوادر القلق تأخذ في الظهور، وإذا بالحيرة تزداد حدة، وبالتساؤل يعلو صوتا ليقول: وماذا تكون قد صنعت يا أخانا، إذا أنت اكتفيت بأن تسلك نفسك أوروبيا مع الأوروبيين؟ ماذا تكون إضافتك للدنيا إذا ما جعلت من نفسك واحدا يضاف إلى كذا مليونا من أهل أوروبا؟
نعم، رأيت في أوراقي شكوكا تتقد جمراتها بين الأسطر كلما اقتربت مع تلك الأوراق من يومي هذا. ووجدتني في موضع ما أتجه إلى نفسي بلائمة كأني أعاتبها فأقول: أتكونين يا نفسي في أمسك على رأي، ثم تصبحين في يومك على رأي آخر؟ ألم تريدي بالأمس ألا تختلط مصريتك بشيء من عروبة؟ ولكني وجدت تلك النفس المتشككة يسارع إلى الجواب لنفسها فتقول: وماذا في أن أزداد تفكيرا فأتغير؟ إن إيمان المرء ليزداد بفكرته إذا ما جاءت بعد شك فاحص متعمق. لقد قيل للشاعر الأمريكي العظيم «وتمان»، وكان قد ناقض نفسه: لقد نقضت نفسك في الرأي، وقلت بالأمس ما نسخته اليوم. فأجاب: نعم، إنني أنقض برأي اليوم رأي أمس، فماذا في ذلك؟
ومع ذلك فلا أظنني في وقفتي الجديدة قد نقضت وقفتي الأولى؛ لأنني في الحقيقة لم أنسخها، بل أضفت إليها، فبعد أن كنت مخمورا بشيء اسمه ثقافة الغرب، جاءت صفحتي الجديدة لتقول: ثقافة الغرب مصقورة مع أصول الثقافة العربية. لقد تمنيت لأمتي فيما سبق أن تكون قطعة من الغرب، لكنني اليوم أريد لها أن تكون أمتي هي أمتي.
وماذا هي أمتي استدلالا من تاريخها؟ إنها أمة لبثت طول تاريخها يقظى لما يدور حولها، لا لتقف منه موقف الرفض، بل موقف من يأخذ ليقتدي. ولم يكن عجبا أن تأفل شمس أثينا فتتولى الريادة من بعدها الإسكندرية، وأن يبدأ المد العربي قديما في المدينة والبصرة والكوفة ودمشق وبغداد، ثم تنهض القاهرة لتستقطب كل هذا، ويمسك بالزمام في دنيا الثقافة بين جنبات الأزهر الشريف.
إن تاريخنا الثقافي أشبه شيء في صورته بالعمارة الإسلامية، حين يقام البناء على رقعة من الأرض معينة الحدود، حتى إذا ما صعد إلى الطابق الثاني برز بجوانبه، ليجيء هذا الطابق الأعلى أوسع رقعة من الطابق الأدنى، وكذلك يحدث في الطابق الثالث حين يرتكز على ما هو أدنى، ثم يبرز بجوانبه ليصبح أرحب ... وهكذا فعلنا في مراحلنا الثقافية، فنحن إذا انخرطنا في الثقافة العربية، لم نمح جذورنا الماضية، بل بنينا فوقها طابقا يرتكز على ذلك الماضي ثم يتسع.
لقد بينت في مقال نشرته منذ قريب، وجعلت عنوانه «العروبة ثقافة لا سياسة»، كيف أن عروبة العربي لا يصدر بها قرار، بل هي «ثقافة» نحياها، وليس في وسعنا إلا أن نحياها. وعلى غرار ما قاله أرسطو حين قال: إنك لا تستطيع أن تنقض الفلسفة إلا بفلسفة، فإني أقول: إنك لا تستطيع - وأنت مصري - أن تتنكر للعروبة إلا بالعروبة. وكيف يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك، ما دمت تسوق تمردك عليها بلغتها؟ وليست اللغة وسيلة تعبير وكفى (كما قد يظن) بل هي فوق ذلك عند أصحابها وسيلة «تفكير»؛ فقوالب التفكير عند من كانت لغته هي العربية غير قوالب التفكير عند من كانت لغته هي الفرنسية أو الإنجليزية أو غيرهما. ومن هنا استحالت الترجمة الكاملة من لغة إلى أخرى إلا على وجه التقريب. فلماذا تشترط اللغات الأوروبية أن يكون في كل جملة «فعل» ولا تشترط العربية ذلك؟ لماذا تضع اللغات الأوروبية قواعد دقيقة لتحديد لحظات العمر، مفرقة بين اللحظة الحاضرة، والماضي، وماضي الماضي، وكذلك المستقبل، ومستقبل المستقبل، ولا تعنى العربية بذلك التحديد، تاركة الأمر لكل متكلم وطريقته في البيان؟ لماذا تجعل اللغات الأوروبية الفاعل قبل الفعل، حلى حين تفضل العربية أن يكون الفعل قبل الفاعل؟ لماذا تضع بعض اللغات الأوروبية الصفة قبل الموصوف فتقول ما ترتيبه «بيضاء ورقة» وتضع العربية الموصوف قبل الصفة فتقول «ورقة بيضاء»؟ وهكذا وهكذا من الفروق التي قد يكون لها أول ولكن ليس لها آخر، وهي ليست بالفروق السطحية غير ذات الأثر في تشكيل طريقة التفكير، بل هي في صميم الصميم من عملية التفكير.
وما تقوله في اختلاف اللغات من حيث عمق التأثير في تكوين وجهة النظر وطريقة التناول، قل مثله في اختلاف الذوق وفي اختلاف القيم من حيث درجة أهميتها على الأقل، كما يتبدى ذلك كله في الفنون وفي أسلوب العيش بصفة عامة.
ربما توهمنا بأن العروبة (التي هي ثقافة متميزة بخصائص معينة) تمحى كلما دبت خصومة بين رجال السياسة في أقاليم الوطن العربي الكبير، لكننا لكي نرى الرؤية الصحيحة، فلننظر إلى الأمر من زاوية صناع الثقافة لا من زاوية صناع السياسة . فانظر كيف إذا نبغ شاعر في أي بلد عربي، استمع لشعره كل عربي ممن يتابعون هذا اللون من الأدب. وإذا شدا شاد بالغناء في مشرق أنصتت إليه الأسماع في مغرب. كان شوقي شاعرا للعرب جميعا، وكان طه حسين كاتبا للعرب جميعا، وكانت أم كلثوم شادية للعرب جميعا. وهكذا كلما نتجت ثقافة عربية رفيعة، سقطت أمامها الحواجز بين الأقاليم، وبرزت العروبة أمام الأسماع والأبصار كيانا واحدا موحدا.
لا، ليس المطلوب للعربي إذا أراد الترقي، ألا يكون عربيا، بل المطلوب أن يكون عربيا جديدا. المطلوب هو أن يظهر فينا «سندباد عصري» ليستأنف سيرة سندباد القديم بصورة جديدة. وقل ذلك في الطب والهندسة والفلسفة وفي كل فرع من فروع الأدب والفن والعلم والصناعة.
أخذت أقلب أكداس الورق التي تراكمت عندي حتى ضقت بها، لكنني خرجت من النظرات السريعة التي أدرتها فيما كتبته بعلمي - عن إيمان صادق دائما - وعلى فترات من الزمن متباعدة، أقول إنني خرجت من هذا كله بأن رأيت القلم الذي شطح ذات يوم في تطرفه نحو الغرب، قد عاد آخر الأمر إلى توبة يعتدل بها، فيكتب عن عروبة جديدة تكون هي الثقافة التي تصب جديدا في وعاء قديم، أو تصب قديما في وعاء جديد.
منطق الطير
لعب الطير بخيال الأسبقين من أسلافنا. ويكفي أن نجد فيما خلفوه لنا هذه الصور الثلاثة، التي أقامها على الطير ثلاثة من أعلام الفلسفة والفقه والتصوف، وأعني بها «رسالة الطير» لابن سينا، و«رسالة الطير» للغزالي، و«منطق الطير» لفريد الدين العطار. وبين الصور الثلاث تشابه شديد في التصور، رغم تباعد الفترات الزمنية بين الرجال الثلاثة؛ فظهرت أولاها في القرن العاشر (الميلادي)، وظهرت ثالثتها في القرن الثاني عشر. على أن ذلك التشابه بينها لم يمنع بالطبع أن يكون بينها من الاختلاف كذلك بما يتفق مع اختلاف النزعة عند الأعلام الثلاثة.
وأساس التصور في الحالات الثلاث هو أن تجتمع جماعة الطير من شتى صنوفها، ليدور بينها حوار حول ضرورة أن يبحثوا لها عن حاكم يتولى زمامها. وجماعة الطير في كل حالة تعرف من ذا يكون ذلك الحاكم، لكنها تعرف كذلك أن الطريق إليه مليء بالصعاب، ولا بد لمن يتصدى للرحلة أن يكون ماضي العزيمة قوي الروح، مؤمنا بما هو ساع في سبيله. ثم ينتهي الحوار بالعزم على خوض المغامرة، لكن عقبات الطريق إلى حيث الحاكم المنشود، تحول دون الكثرة من الطير أن تبلغ غاية المدى، فتسقط صرعى، أو منهوكة القوى. ولا يستطيع الوصول إلا قلة قليلة، صلبة الإرادة، قوية الإيمان.
وإنه لمما يلفت النظر، أن الطائر الحاكم، الذي كانت جماعة الطير في سبيلها إلى البحث عنه، والوصول إليه، هو مما تواضع العرف على أنه تصور يتعلق به الخيال، لكنه عسير أن يتحقق للإنسان مهما جد في السعي إلى بلوغه؛ فهو عند الغزالي «عنقاء»، وهو عند العطار طائر اسمه «سيمرغ». على أن ذلك الطائر المنشود، وإن يكن مستحيل الظهور، فهو يتصف «بالخلود».
ذكرت كل ذلك عندما هممت بقراءة شيء من «منطق الطير» لفريد الدين العطار (الترجمة العربية عن الفارسية للدكتور بديع محمد جمعة). ولقد نظم العطار موضوعه فيما يقرب من خمسة آلاف بيت من الشعر، وهو من أعظم ما كتبه المتصوفة المسلمون.
وقرأت، وقرأت ثم قرأت، وكنت كلما قرأت في «منطق الطير» مقالة أو حكاية (فقوام الكتاب «مقالات» تتخللها «حكايات») أحسست شعورين في آن واحد، لا أدري إن كانا متعارضين أو متكاملين؛ فمن جهة كنت أشعر بغزارة الوجدان الصوفي المكثف في العصور المتلاحقة. ومن جهة أخرى كنت أسمع هاتفا باطنيا يهتف بي قائلا: هذا بيت أقامه صوفي ليسكنه، أفلا يجوز لي - أنا الذي ورثت البيت - أن أجري فيه بعض التعديل لأسكنه بدوري؟
ولم أكد أطرح السؤال، حتى رأيت الموضوع قد اتسع أمامي، ليشمل هذه الحالة مع سواها من حالات؛ ففي كل مرة أقع فيها على رائعة من روائع تراثنا، مما أشعر معه أنه - برغم روعته الذاتية - يمكن أن يقرأ قراءة جديدة، تحتفظ للروح الأصلي بكل قوته، ثم تضيف إليه اتساقا مع ما يلزمنا في عصرنا؛ فها هنا (في «منطق الطير» للعطار) هيكل متين البناء، وهو في نفسه الهيكل الذي استخدمه من قبله الغزالي وابن سينا في «رسالة الطير» لكل منهما. والطير في الهياكل الثلاثة، والتي هي رموز ترمز لعباد الله، إنما كان مسعاها نحو ما يحقق لها وجودها في عصور أولئك الأعلام البارزين. فماذا لو أدخلنا على القصة تأويلا جديدا، ثم قرأناها قراءة جديدة على ضوء هذا التأويل، فإذا هي تحقق للقارئ في عصرنا وجوده كذلك؟
كيف؟ ذلك يكون بأن نجعل «العنقاء» أو «السيمرغ» اسما دالا على منجزات البحث العلمي، التي كلما تقدم بها السير نحو الأفق، انزاح الأفق إلى الوراء، وبهذا يظل العلم يسعى ويتحسن ويظل الطريق أمامه مفتوحا؛ فالمستحيل الذي يتضمنه معنى «العنقاء» أو معنى «السيمرغ» إنما هو في بلوغ نهاية يقال عندها: هنا انتهى العلم وأكمل ما يريد. والصعاب التي تعترض الطريق - كما صورها هؤلاء الأعلام في رحلة الطير كما صوروها - هي من الصعاب نفسها التي يلقاها العلماء الباحثون في ميادين بحثهم؛ فليست النتائج العلمية أو الكشوف العلمية مما تمطره السماء فنتلقاه بلا عناء، ولا هي مما يصادفه العلماء ملقى على قارعة الطريق.
إن عظمة الإنتاج الفني والأدبي، هي - على الأقل من بعض وجوهها - في قابليته للتأويلات الكثيرة؛ فهي كالكنوز التي كلما جمعت طبقة منها تكشفت وراءها طبقة أخرى. وليس الفن والأدب في ذلك شبيها بالعلوم لأن الصياغة العلمية (التي كثيرا ما تتخذ صورة رياضية) يشترط فيها ألا تحمل إلا معنى واحدا، ولا يجوز لها أن تؤول إلا على وجه واحد، لكن ما هكذا القطعة من الفن أو الأدب؛ فها هنا تتعدد الأبعاد وتكثر اتجاهات الرؤية، حتى ليصبح من الجائز أن تقول عنها إن لها «ظاهرا» كما أن لها «باطنا» وراء ذلك الظاهر.
فما الذي يمنع إذن أن نعاود قراءة تراثنا في كل عصر، ليكون له في كل مرة بعد جديد، أو معنى جديد؟ لماذا نضيق على أنفسنا مجال الرؤية إذا كان مجالها بطبيعته فسيحا متعدد الجنبات؟ وفي هذه التأويلات المتلاحقة مع تلاحق العصور، يصبح القديم جديدا دائما.
ما الذي يمنع - مثلا - أن نفهم «الأولياء» اليوم على أنهم هم «العلماء»؟
ويسمح لي القارئ بأن أعيد هنا مثلا سقته في مناسبة سابقة، وهو عبارة للهجويري الصوفي. يقول فيها عن الأولياء أنهم «ببركة حلولهم تمطر السماء، وبنقاء حياتهم ينبت الزرع من الأرض، وبدعائهم ينتصر المسلمون على الكفار.» فإذا نحن فهمنا من «الأولياء» معنى «العلماء» كما تفهم هذه الكلمة في عصرنا، تبدل معنى عبارة الهجويري السالفة ليصبح: «أنه بعلم العلماء تمطر السماء، حتى لو لم تكن الظروف الطبيعية مهيأة لنزول المطر، وذلك بقدرتهم على تركيب تلك الظروف المؤاتية، وبعلم العلماء ينبت الزرع من الأرض، حتى لو لم تكن لتنبت شيئا إذا هي تركت لطبيعتها، وذلك بتسميدها وباستخدام الوسائل التي باتت في مقدور العلماء، والتي مكنتهم لا من إنبات الزرع في الأرض الجدباء وحدها، بل مكنتهم من إنبات الزرع في الهواء وعلى سطح الماء ...»
فنظر كيف تبدل المعنى فأصبح وكأنه من صميم عصرنا، عندما فهمنا «الولاية» فهما جديدا، دون أن ننقص شيئا من روح اللفظ الأول، فما هذا الروح إلا مجموعة من الصفات الخلقية، كالصدق والإخلاص وغيرهما، مما كان معدودا من مقومات «الأولياء»، وهو بذاته اليوم معدود من مقومات «العلماء».
وعلى هذا الضوء أعود إلى «منطق الطير» لفريد الدين العطار. وأعيد القراءة، فإذا أنا في هداية جديدة، وأمام تعبئة روحية جديدة؛ فها أنا ذا أقرأ للهدهد خطابه الذي افتتح به جلسة الطير، ليقول لها عن نفسه: «لقد تحدثت مع سليمان كثيرا، وقضيت السنين أجوب البر والبحر، وأجتاز الوادي والقفر والجبل، حتى عرفت أين يكمن السر، لكني لا أستطيع السير وحدي سعيا إلى ذلك السر المكنون، فاصحبوني إليه تكونوا من الأصغياء.» قرأت ذلك، فترجمته لنفسي إلى لغة أفهمها وتنفعني، فما تخيلت ذلك الهدهد في خطابه إلى الطير إلا رائدا من رواد الكشف العلمي، يوجه الدعوة إلى زملائه العلماء، أن يتعاونوا تعاون أعضاء الفريق الواحد، لعلهم معا أن يكشفوا عن سر الكون أو أسراره.
أعدت القراءة إلى هذا الضوء الجديد، فانبثق في صدري حافز لم أكن قد شعرت بمثله في القراءة الأولى، التي وقفت بها عند سطح اللفظ كما ورد في نصوصه؟ فانظر - مثلا - إلى هذه الصورة التي وردت في سياق الحديث، وهي أن «السيمرغ» (وهو الحاكم الأعلى المنشود) قد بدأ دعوته إلى الطير فقذف بريشة واحدة وقعت على أرض الصين. فتخيلت الريشة مزخرفة بألوانها قد وقعت على أرض كانت دائما ترمز إلى البعد البعيد. فتصورت تلك الريشة المزخرفة التي أسقطها السيمرغ من جناحه دعوة للإنسان إلى السعي نحو المعرفة العلمية ونحو الإبداع الفني في آن واحد، مهما تكن الصعاب التي تعترض السالك على الطريق.
إنني في الحق لا أفهم كيف يكون الكتاب من الكتب مفيدا إلا أن يكون منطويا في ظاهره أو في باطنه على ما يحفز الإنسان في نهاية الأمر إلى عمل. والعمل المطلوب إنما تحدده بالطبع مسائل العصر ومشاكله؛ فلسنا نحاسب الأقدمين على عمل اهتموا بأدائه لضرورة شعروا بها من ظروف حياتهم، لكننا نحاسب المعاصرين ألف حساب على أعمال يشغلون بها أنفسهم وهي لا تحل للناس مسألة ولا تفض لهم مشكلة.
وبهذه الروح قرأت منطق الطير لفريد الدين العطار.
في سبيل يقظة عربية
درس نتعلمه من الأوائل
وقفة ثقافية وقفها أسلافنا العرب الأولون، كان ينبغي أن تستلفت أنظارنا اليوم، بسدادها وروعتها، لنتخذ منها نموذجا نحتذيه، في مسألة أشكلت علينا؛ إذ نقف من ثقافة الغرب حائرين، أو ندعي الحيرة باللسان والقلم، حتى إذا ما وجدنا أنفسنا في ميادين الحياة العملية، مضينا نأخذ عن القوم ثقافتهم لا نتراجع ولا نتردد؛ فكأنما نحس فجوة بين النظر والتطبيق، فمن الناحية النظرية نتوهم أن يفتك بعقولنا وقلوبنا، أما من الناحية العملية، فترانا كلما أردنا لأنفسنا حياة قوية، لم نجد أمامنا طريقا إلا أن نتسلح بسلاح الأقوياء، علما، وفكرا، وفنا، ونظما اجتماعيا؛ بحيث لا نبقي لأنفسنا من تراثنا إلا جانبا مما يسمونه ب «الأحوال الشخصية».
فما الذي أحدث فينا هذا الموقف المتردد بين الرفض والقبول، إزاء الثقافة الغربية، التي هي ثقافة العصر بغير منازع ؟ أحسب أن بعض السر يكمن في أن المصادفة التاريخية قد شاءت أن يكون صاحب الحضارة السائدة، هو نفسه الذي فرض علينا سلطانه، واستعمر بلادنا حينا طال هنا وقصر هناك. فلما أن استطاعت شعوبنا أن تتخلص منه، لتظفر باستقلالها، لم تستطع في الوقت نفسه أن تفصل بين المعتدي وثقافته، فرفضته جسدا وروحا، وأخذتها خشية بعد ذلك، أن تفتح أبوابها للجانب الثقافي وحده، فيدخل مع الثقافة حاملها، وتدور بنا العجلة مرة أخرى إلى الوراء.
ولهذا الدمج نفسه بين الرجل وثقافته، كان من الطبيعي أن الوطن العربي في مختلف أقطاره، بدأ جهاده السياسي في سبيل استرداد حريته من مستعمريه - وكانوا جميعا من الغرب - بحركات تدعو إلى إحياء الدين قويا في القلوب، وإلى إحياء التراث كله بصفة عامة، سواء أكان ذا مضمون متصل بالدين، أم كان تراثا في فروع العلم والأدب، اعتقادا منا بأن أول خطوة نحو الحرية هي خطوة نستعيد بها خصائصنا الثقافية، التي هي مقومات الشخصية المتميزة. أقول إن ذلك كان أمرا طبيعيا، طالما كنا في موقف الضعيف، غير الواثق بنفسه أمام الآخرين.
لكن تعالوا نلق نظرة خاصة فاحصة لموقف أسلافنا الأولين، خلال القرون الأربعة الأولى من التاريخ الإسلامي، على الأقل؛ فيلفت نظرنا موقفان يدعوان إلى التأمل والاحتذاء؛ أولهما موقفهم من عصر الجاهلية، وثانيهما موقفهم من الثقافات غير الإسلامية؛ اليونانية والفارسية والهندية؛ فهم في كلتا الحالتين قدروا بكل الثقة في أنفسهم، على ما لم نقدر نحن عليه، من حيث تحليلهم للمصدر الخارجي تحليلا يفرقون به بين ما يؤخذ وما ينبذ، ولم يتزمتوا عن خوف فينظرون إلى «الثقافة» المعينة ممزوجة بأصحابها ويخشون أن يمسوا فيها جانبا فتتسلل إليها سائر الجوانب.
أما عن موقفهم من العصر الجاهلي، فقد جاء الإسلام ليمحو كثيرا من مقوماته الأساسية، كالعصبيات القبلية والوثنية ومحاربة بعضهم بعضا على نحو يتعذر معه اتحادهم في أمة واحدة، وهكذا، لكن كان للعصر الجاهلي إلى جانب ذلك كله، شعر ، ولغة، وكرم، ونجدة، وشجاعة، وطائفة أخرى من خصال حميدة. فماذا صنع المسلمون الأولون حيال هذا المركب من خبيث وطيب؟ إنهم لم يخافوا؛ فلقد كانوا أصحاء أقوياء. فبينما رفضوا من الحياة الجاهلية جوانبها التي جاء الإسلام ليمحوها، لم يترددوا في أن يجعلوا من الشعر الجاهلي مرجعهم في اللغة، وفي كثير من معايير النقد الأدبي، ومرجعهم كذلك فيما ينبغي أن يمدح أو يذم. ومن هنا رأينا علماء اللغة ونقاد الأدب خلال القرون الأولى من تاريخ المسلمين قد شغلوا أنفسهم بجمع الشعر الجاهلي، واستخلاص الشواهد منه. فإذا قيل إن الشاعر الفلاني قد استخدم هذه اللفظة أو تلك، وهذا التركيب اللغوي أو ذاك كان في ذلك حسم قاطع عند اختلاف الرأي.
نعم كانت هناك مدرسة لغوية أخرى أرادت أن تقيم للغة أساسا من منطق العقل؛ بحيث يجوز في هذه الحالة للناقد أن يقول عن شاعر جاهلي إنه «أخطأ» لأنه انحرف عن قواعد العقل؛ أي إن معيار الصواب - عند هذه المدرسة - ليس هو أن يكون جاهلي قد قال لفظا معينا، بل إن معيار الصواب اللغوي مستقل عن الأشخاص وما استعملوه، قدماء كانوا أو محدثين، ولكن قيام مدرسة تحاكم أبناء اللغة العربية - من حيث الصواب والخطأ - على أسس من منطق اللغة ذاتها، لا فرق في هذه المحاكمة بين قدماء ومحدثين، لا يتضمن رفضا للشاعر الجاهلي من حيث هو جاهلي، بل الرفض منصب على جريان لغته مع قواعد العقل وعدم جريانها.
هكذا استطاع الأوائل أن يقفوا من التراث الجاهلي وقفة تحليلية، لا تقبل «بجملة» ولا ترفض «بالجملة»، بل تقبل جانبا وترفض جانبا. مثل هذه الوقفة التحليلية الواعية، وقفوها كذلك بالنسبة إلى الثقافة اليونانية عندما أرادوا نقلها إلى العربية؛ فها هنا أيضا لم يقبلوا بالجملة، ولم يرفضوا بالجملة، بل ميزوا بين ما يحسن نقله وما لا يحسن؛ فبينما نقلوا الفلسفة والعلوم نقلا أوشك أن يكون كاملا شاملا، برغم ما قد يظن وجوده من تناقض بين فلسفة اليونان وعلومهم، من جهة، وما تقرره الشريعة الإسلامية من جهة أخرى. أقول إنهم حين أقبلوا على هذا الجانب ينقلونه بلا حرج، امتنعوا عن نقل شيء من الأدب اليوناني، فلا هم ترجموا الشعر، ولا هم نقلوا الأدب المسرحي. وما زلنا نحن حتى اليوم نحاول تعليل امتناعهم ذاك، أهو امتناع بسبب ما امتلأ به الأدب اليوناني من أساطير عن آلهتهم، مما لا يصادف قبولا في نفوس المسلمين؟ أم هو امتناع صادر عن ثقة العربي بأدبه ثقة أقنعته بأنه لا كمال يرجى فوق كماله؟
تلك هي وقفة أسلافنا من ثقافات الآخرين، فلا هم كانوا عبيدا لها، ولا هم استكبروا عليها، بل وقفوا منها موقف العاقل البصير، يعرف ماذا يأخذ منها وماذا يدع، أفليس في هذا درس نتعلمه من الأسلاف؟
الفكر العربي من لغته
من أوهام الإنسان التي توشك أن تكون جزءا من فطرته ظنه بأن فكره شيء ولغته شيء آخر؛ حتى لتراه كثيرا ما يلجأ في تصوير العلاقة بين الفكر واللغة إلى التشبيه بالشراب والكأس، أو بالثوب والبدن، كأنما الفكر ينسكب في العبارة اللفظية كما ينسكب الماء في القدح، أو كأنما اللغة يمكن أن تتعرى عن الفكر فتكون كالجسد العاري، لا يكتسي إلا إذا لبس ثوبا من أفكار. ولهذا الظن الواهم عند الإنسان، تسمعه يقول عندما تصعب عليه العبارة: إن الفكرة في رأسي واضحة، لكنني عاجز عن التعبير.
وحقيقة الأمر هي ألا فكر عندي وعندك إلا ما قد ورد في لفظي ولفظك، لا زيادة هناك ولا نقصان هنا، بل وليس الأمر شيئين قد يتصلان وقد ينفصلان كما نشاء نحن لهما، بل الذي هناك هو شيء واحد، ألا وهو اللفظ ودلالته؛ فهو كالمصباح وضوئه، وكالزهرة وعطرها. فإذا وجدت غموضا في قول قاله لك قائل، فاعلم أن الغموض هو كذلك في فكره، والعكس صحيح كذلك؛ أي إنه إذا كانت الفكرة مضطربة في رأس صاحبها، فلا بد أن تجيء عبارته عنها بالدرجة نفسها من الاضطراب.
وذلك الذي نقوله عن «الأفكار» العقلية، لا ينفي قيام «حالات» في النفس، تظل حبيسة في الصدر لا تجد لفظا يخرجها، أو قد تجد لفظا ولكنه لا يفي بكل مضمونها، كحالات الحب والكراهية والغضب والرضا وما إليها. ومن هذا القبيل حالات عند المتصوفة أو عند العاشقين، يحسونها ولا يملكون التعبير عنها تعبيرا كاملا. وواضح أن أمثال هذه «الحالات» شيء، و«الأفكار» شيء آخر. ونحن هنا إنما نقصر حديثنا على «الفكر» العقلي دون سواه.
وفي ذلك أزعم أن فكر العربي كما يتبدى في لغته، مختلف في عمقه العميق عن فكر الغربي كما يتبدى في لغاته أيضا. وأسارع هنا إلى التنبيه بأن الفكرين إذا اختلفا في موضع فلا ينفي ذلك أن يكونا متفقين في عدة مواضع أخرى؛ لأنهما - بالفعل - متفقان في كثير من الوجوه، ولولا هذا الاتفاق لما استطاع العرب أن ينقلوا إلى لغتهم معظم الفكر اليوناني، وهو بمثابة الينبوع الذي انبثق منه الفكر الأوروبي في عصوره الوسطى والحديثة.
وسأقصر حديثي في هذه الكلمة على نقطة واحدة من نقط الاختلاف بين الفكرين، وهي نقطة أراها بالغة الأهمية في تصوير الوقفة العربية كلها، مستندا في ذلك إلى اللغة وما تدل عليه. وتلك النقطة التي أردت عرضها هي المقابلة بين «النظر» و«التطبيق»، أو قل بين النموذج العقلي من جهة، وأمثلته المادية من جهة أخرى، أو بعبارة ثالثة بين الفكر والواقع، وهما الطرفان اللذان يتمثل فيهما مذهبان من مذاهب الفلسفة الغربية، لو ترجمنا اسميهما إلى العربية ترجمة حرفية - كما يقولون - لجعلناهما «الفكرية» و«الشيئية»؛ فمذهب «الفكرية» يرى أن الحقائق كلها أفكار وليست أشياء في عالم المادة. على حين يرى مذهب «الشيئية» أن تلك الحقائق هي «أشياء» أولا قبل أن نصورها لأنفسنا بأفكار، لكن الناقل العربي حين ترجم هذين الاسمين إلى لغته، اختار لهما لفظتي «المثالية» و«الواقعية» وها هنا أجعل محور حديثي.
فألاحظ أول ما ألاحظ، أن الفرق البعيد بين الاسمين اللذين اختارهما الغربي لوجهتي النظر، والاسمين اللذين اختارهما الناقل العربي، إنما يصور فرقا جوهريا بين طريقة التفكير عند الغربي وعند العربي، ويهمنا الإشارة إلى ذلك الفرق وتوضيحه، ليرى العربي صورة عقله منعكسة على مرآة لغته.
فحين قابل الغربي بين «الفكرة» و«الشيء»، فقد كان في الوقت نفسه يقابل بين نموذج رياضي بالغ الكمال، وشيء في الطبيعة قد يقترب عن ذلك النموذج العقلي أو قد يبتعد عنه؛ ففكرة «المثلث» - مثلا - بأنه سطح مستو محوط بثلاثة خطوط مستقيمة، يستحيل أن تجد ما يطابقها تمام المطابقة في المثلثات المجسدة في أشياء الطبيعة؛ إذ مهما استوى السطح في تلك الأشياء، ومهما استقامت الخطوط، فلا بد أن يجيء دون الدقة التي للفكرة الرياضية عن المثلث. وما معنى ذلك؟ معناه أن العقل الغربي يضع نماذج نظرية كاملة، ليسعى الإنسان في دنيا الأشياء أن يقترب من تلك النماذج ما استطاع.
وأما حين يجعل العربي المقابلة بين «المثال» و«الواقع»، فذلك يعني أمرين؛ أولهما أنه في الحقيقة يقابل شيئا بشيء، لا فكرة بشيء؛ وذلك لأن لفظة «مثال» وجميع المشتقات العربية من كلمة «مثل» إنما تشير إلى أشياء في هذه الدنيا الطبيعية، ومن ذلك قولنا «تمثال» و«يتمثل» و«مثل بين يديه» و«ماثل أمامه» و«يضرب لكم الأمثال» أن يصور المعنى في تشبيه محسوس، وهكذا. فالمثال في معناه العربي هو الفرد الذي بلغ الكمال بالنسبة إلى بقية أفراد جنسه؛ فمثال الحصان هو حصان من لحم وعظم كغيره، لولا أنه بلغ الدرجة القصوى الممكنة. ومثال «الإنسان» فرد من الناس يجلس ويأكل وينام، ولكنه بلغ الدرجة القصوى الممكنة بين الأناس. وفرق بعيد بين أن تجعل النموذج الأعلى فكرة رياضية كاملة، وبين أن تجعل ذلك النموذج الأعلى فردا كائنا بالفعل كبقية الأفراد، ارتقى عنهم، ولكنه قد لا يخلو من نقص.
ذلك أحد الأمرين. وأما الأمر الثاني، فهو أن كلمة «واقع» - من الوقوع، أو الهبوط، أو السقوط - تحمل في طيها «قيمة»؛ إذ تحمل معنى الانحطاط والازدراء لما هو طبيعي. وإذن فالمقابلة بين «مثال» و«واقع» هي - أولا - مقابلة بين شيء وشيء، وهي - ثانيا - تنطوي على ازدراء للشيئين معا. ومعنى ذلك هو أن الفكر العربي كما وضع نفسه في هاتين اللفظتين، قد فصل فصلا تاما بين الطبيعة بكل ما فيها من كائنات أرقى وكائنات أحط، وبين العالم العقلي، فبات العقل عنده كيانا قائما وحده مستقلا ، ليس من شأنه أن يهدي الكائنات الأرضية إلى التسامي. وحقا إن النهضة الفكرية إنما تبدأ من النهوض باللغة وطرائق استخدامها.
رؤية صحراوية
كان من أعجب ما علمته عن طبيعة الصحراء وتأثيرها في الإنسان رؤية ورأيا، ملاحظات سمعتها نقلا عن رحالة اختراق الصحراء الأفريقية الكبرى. فمن ملاحظاته تلك، أنه إذا ما انبسطت تلك الأرض مستوية أمام المسافر، استحال على ذلك المسافر أن يعرف - فيما يشاهده في الأفق البعيد من معالم - أيها أقرب إليه من أيها؟ ... فأوضحت الفكرة لنفسي قائلا إن الأمر هنا شبيه بمن ينظر إلى أنجم السماء، فلا تدله العين وحدها أي النجوم أبعد وأيها أقرب، ولا بد - لمعرفة ذلك - من أجهزة فلكية، يستدل بها علماء الفلك على أبعادها.
وملاحظة ثانية استوقفت سمعي مما أورده رحالة الصحراء، وهي أن المعادن لا تصدأ مهما طال بقاؤها، وذلك لشدة الجفاف؛ فلقد رأى كوما من علب الصفيح الفارغة، وكان قد مر عليها أكثر من عشرين عاما ملقاة في مكانها، فما وجد عليها أثرا لصدأ يعتم بريقها تحت أشعة الشمس، وكأنها خرجت لتوها من مصانعها.
وقليل من هاتين الملاحظتين - إذا صدقنا - ينتهي بالتأمل إلى نتيجة ذات أهمية بالغة عند من تشغله الخصائص الثقافية التي تميز الشعوب. وتلك النتيجة هي أن ساكن الصحراء قمين أن يخلص من بيئته برؤية تميل به نحو إلغاء «المكان» و«الزمان» من حسابه؛ أي إنه - بعبارة أخرى - لا يعول كثيرا في أحكامه على تباعد الأمكنة، ولا على تفاوت الأزمنة، بعضها عن بعض. فما يصلح لمكان ما، يصلح لكل مكان آخر، وكذلك، ما يصلح لزمان معين، يصلح لكل زمان جاء قبله أو يجيء بعده. أو قل - بعبارة ثالثة - إن ساكن الصحراء يجاوز ببصره وبصيرته معا، حدود المفردات الجزئية، ليصل من ورائها إلى «المطلق» الذي لا يحده مكان ولا زمان، والذي لا يتحول ولا يتبدل.
والأهمية التي نعلقها على هذه النتيجة - إذا صدقت - إنما تكمن في كون الأمة العربية من أقصاها في المشرق إلى أقصاها في المغرب، إنما هي ساكنة صحراء. فإذا رأينا وديانها قد اخضرت بالزرع هنا أو هناك، فما تلك الوديان الخضراء بأكثر من «واحات» في قلب محيط صحراوي عظيم. وإذا كان هذا هكذا، كان من حقنا بالتالي - أن نزعم للأمة العربية تلك الخصيصة الإدراكية فتكون لها رؤية خاصة تميزها من سواها، ثم تأتي بعد ذلك تفصيلات الفكر العربي، والذوق العربي تفريعات من ذلك الأصل المبدئي العميق.
على أن مثل هذا القول ليس بذي فائدة تذكر، ما لم نستطع أن نفهم تراثنا العربي على ضوئه، فنزداد بجوهره وضوحا، وما لم نستطع كذلك أن نهتدي بضوئه في رسم الطريق الثقافي الذي يجب علينا السير فيه، لنظل عربا لهم خصائص العرب.
أما أن تفهم تراثنا على ضوء تلك الرؤية المتميزة بطيرانها فوق رءوس الجزئيات المحدودة - سواء كانت أشياء مكانية أم فترات زمانية - مستهدفة في طيرانها ذاك، وصولها إلى «المطلق» الذي لا يتجزأ في نقاط، ولا يتقطع في لحظات، فأحسب أن ذلك أمر وارد وقريب. فانظر أول ما تنظر إلى لغتنا العربية في أصولها وجذورها تجد تجمع مفرداتها عناقيد يبدأ كل عنقود منها إلى أصل ثلاثي «في معظم الحالات»، وكأنما هي في ذلك تسعى إلى جد كبير واحد يضم تحت جناحيه أفراد أسرته اللغوية كلها في مجموعة مترابطة. فإذا ما استوثق العربي من ذلك الجد الكبير، سهل عليه بعد ذلك أن يشتق منه الأولاد والأحفاد. وأعني أن الأهم هنا هو معرفة الأصل المجرد البسيط؛ لأنه هو الكفيل بتوليد الفروع التي تتناسب مع مختلف الظروف والمواقف والأشياء كلما استحدثت لنا الأيام منها جديدا.
وانظر بعد ذلك إلى الأدب العربي الخالد - شعرا ونثرا - لترى كيف ارتكز ذلك الأدب في صميمه على أساس الفكرة المطلقة المجردة؛ فهي عنده أجدى من تعقب التفصيلات الجزئية الكثيرة فإذا أراد الأديب العربي وصفا «للإنسان»، كان سبيله إلى ذلك الغوص إلى لباب حقيقته ليصوغها في عبارة مكثفة قليلة الألفاظ يسهل حفظها في الذاكرة كما يكثر دورانها على الألسنة. فهذا الإيجاز المركز الغزير، في رأيه، أدوم بقاء من أوصاف جزئية ينثرها كاتب روائي في مئات الصفحات، ليصور بها فردا واحدا من الناس. وربما جاز لنا أن نقول إن الأديب العربي الأصل، يستند في رؤيته على «البصيرة»، بينما يستند زميله صاحب التفصيلات، على «البصر» وحتى لو ساق لنا أديب عربي من القدماء فكرته فيما يشبه القصص حرص على أن يجيء ذلك القصص رامزا إلى حقائق مطلقة ومجردة.
وبعد ذلك فانظر إلى الفن التصويري عند العرب الأولين تجده في كثير من حالاته وحدات هندسية؛ أي وحدات رياضية، يراد بها ما يراد من التفكير الرياضي كله من وصول إلى حقيقة لا تتعلق بمكان معين بالضرورة، ولا بزمان معين بالضرورة؛ فحقيقة المثلث أو المربع أو الدائرة تظل حقيقة عقلية، حتى ولو لم تشهد الأرض على وجهها رسما واحدا لشكل من تلك الأشكال الهندسية. وفي المواضع التي لم يلجأ الفنان العربي فيها إلى الوحدات الهندسية ورسم نباتا أو حيوانا فإنه راعى إهمال التفصيلات؛ لأن هذه التفصيلات تتعلق «بأفراد»، والأفراد زائلون، وهو إنما ينشد تصوير المعاني العقلية في تجريدها وإطلاقها.
الرؤية الصحيحة مدارها الوصول إلى حق ثابت يدول على الدهر. فلماذا لا نستثمر هذه الرؤية الجادة العميقة في حياتنا الثقافية اليوم؟
رجع الصدى
في حياتنا الثقافية اليوم سؤال مطروح، تأتي عنه إجابات مختلفة من هنا، وهنا، وهناك، وهو: لماذا لا تنفذ الأمة العربية في حاضرها الراهن، إلى العالم الخارجي بفكرها وأدبها؟ إننا إذا استثنينا أمثلة قليلة، فلا نكاد نقع في بلاد الدنيا، من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، عن كاتب عربي، أو شاعر، أو فنان، قد شغل الناس بقضية فكرية تتحدى العقل، أو بضربة جديدة في دنيا الإبداع الأدبي والفني؛ بحيث وقف عندها النقاد تحليلا وتعليلا، ومن بعدهم أرباب الثقافة يتبادلون الإعجاب، أو يبدون الريبة أو السخط.
فلما طرحت السؤال نفسه الآن أمامي لأجيب - وقد حدث أن طرحته على نفسي مرارا قبل ذلك وحاولت الجواب - وثبت إلى ذهني صورة دون أن أستدعيها، وهي صورة مستمدة من أسطورة يونانية قديمة، الله أعلم متى قرأتها. وأعني أسطورة «اكو » (وقد أصبح اسم «اكو» كلمة في بعض اللغات الأوروبية ومعناها «الصدى»). ولقد كانت «اكو» في الأسطورة اليونانية القديمة، هي ربة الجبال، لكنها عرفت بين الأرباب بطول لسانها ولجاجتها، وكثرة معارضتها لأي شيء تسمعه من متحدث كائنا ما كان المتحدث. وأيا ما كان موضوع الحديث، فضاق الأرباب ذرعا بها، وحكموا عليها بعقوبة من جنس إثمها، ألا وهي أن تعجز «اكو» عن النطق بما هو جديد، وأن ينحصر نطقها في شيء واحد فقط، وهو أن تردد المقطع الأخير مما تسمعه. فلا هي باتت قادرة على المبادلة بقول جديد تعرضه على الآخرين، ولا قادرة على معارضة ما يجيء إليها من الآخرين معارضة متكاملة المعنى.
أقول إنني حين طرحت على نفسي السؤال الشائع في حياتنا الثقافية اليوم، وهو: لماذا لا نلحظ للأمة العربية في عصرنا وجودا ذا وزن في عالم الأدب والفكر؟ ثم هممت بمحاولة جديدة نحو جواب أقدمه، فاجأتني أسطورة «اكو» التي أوجزتها لك، فكأنما عرضت تلك الأسطورة نفسها علي، لعلي أجد فيها شيئا من الجواب المطلوب، وذلك هو بالفعل ما قد حدث! فلئن كانت الأمة العربية قد ملأت أسماع الدنيا في يومنا هذا كلما كان الحديث عن الاقتصاد، والتضخم، وكلما كان خوف من حرب عالمية يندلع لهبها من شرارة أولى تنقدح من الشرق الأوسط، فإن تلك الأمة العربية لا يكاد يكون لها أثر في عالم الفكر والفن والأدب، اللهم إلا ترديدات بتراء لمقاطع تخطفها من أقوال الآخرين اختطافا. فهي آنا تأخذها عن الغرب الحديث، وهي آنا آخر تأخذها عن آبائها العرب الأقدمين.
فما الذي قضى علينا بأن نقنع من دنيا الثقافة برجع الصدى؟ قد يكون ذلك لطبيعة المرحلة الحضارية التي نجتازها، والتي وجدنا أنفسنا فيها محاصرين بحضارتين لم نكن نحن العرب المعاصرين صناع أي منها؛ إحداهما ورثنا بعض آثارها من أسلافنا، والأخرى تهجم علينا من الغرب هجوما لا قبل لنا برده، ولا مصلحة لنا في رده، فأخذنا ننقل عن هذين المصدرين، نقلا لا نتريث فيه ولا نتدبر، كأنما نخشى أن يفوتنا قطار الزمن، فجعلنا نلهث وراءه بتلك الأجزاء المبتورة التي نزعناها نزعا من هذه الحضارة ومن تلك، وأوشكنا ألا نتقدم إلى الناس بشيء واحد جديد. إننا ننقل عن ذينك المصدرين كل ما نعلمه في مدارسنا وجامعاتنا من علم وفكر وفن. وننقل عنها ما نتمذهب به في السياسة والاقتصاد وسائر النظم؛ ولذلك ترانا، إذا اعترضت حياتنا مشكلة من أي نوع كانت، انقسمنا إزاء حلها قسمين؛ قسم يفتح دفاتر الأقدمين بحثا عن الحل، وقسم آخر يتصفح كتب الغرباء الغربيين بحثا عن الحل، وحتى ما قد يخيل إلينا أننا مبدعون فيه جديدا كفنون الأدب، وألوان الفن وبعض ما نعرفه من أفكار نقدية، فهو في صميمه محاكاة لنماذج اختارها المبدع من هنا أو هناك بحسب نزعته الثقافية، أهي تنزع به نحو تراث أسلافه، أم تميل به نحو العالم الخارجي؟
وقد يكون من الأسباب التي حالت بيننا وبين أن يعرف العالم شيئا عن القليل الذي نبدعه جديدا أننا نكتب باللغة العربية، التي تتعذر الترجمة عنها إلى لغات أخرى، فبدونا وكأننا فقراء فكر وأدب وفن، وما حقيقة الأمر إلا أن وسيلة نقلنا إلى الآخرين قد استعصى أمرها. وهي حجة كثيرا ما تقال التماسا لعذر يستر ماء وجوهنا، إنه لو كان لدينا الجديد القوي لانتشر عطره فواحا، وأقبل عليه الناقلون، وانظر إلى ما حدث في تاريخنا العربي القديم حين كان لنا الجديد نقدمه، فيسعى الساعون إليه من أنحاء أوروبا يتعلمون اللغة العربية من أجله، كما نتعلم نحن اليوم لغاتهم من أجل الحصول على ما يقدمونه من جديد كل يوم ...
إننا نكتب ونكتب، لكننا كمن يهمس بعضهم إلى بعض، لا لأن لغتنا عصية على الغرباء أو قل إن ذلك ليس هو السبب الأول والأهم، بل يجيء قبل ذلك ما أسلفت ذكره وهو أن ليس عندنا جديد، لماذا؟ أليس لنا - على الأقل - مشاعر الفرح والأسى؟ أليس لنا قلوب تنبض بالحب والكراهية كقلوب البشر؟ ألسنا نسخط ونرضى ؟ ألسنا أصحاب عقيدة دينية تعمر صدورنا؟ فلماذا لا نخرج هذا كله أدبا جديدا يود الغرباء لو طالعوه فطالعوا شيئا لم يألفوه؟ جواب ذلك عندي هو: نعم عندنا هذا كله، لكننا مصابون بازدواجية، الله وحده أعلم كم تنفرج زاويتها بين ما تظهره من أنفسنا وما تخفيه، فتقرأ لمن تقرأ له في كتابنا، فلا تدري أحقا هذا هو إيمانه أم إنه شيء يكتبه ليرضى عنه جمهور القارئين؟ كم من كتابنا وضع شكوكه على الورق؟ كم منها أفصح عن حقيقة حبه إذا كان من المحبين؟ إنني لأزعم - ورزقي على الله - بأن جزءا كبيرا مما تجري به أقلامنا كذب، ومن ثم فقدت كتاباتنا قوة جذبها.
لقد لبثت أمريكا منذ نشأتها وحتى منتصف القرن الماضي، قليلة الثقة بنفسها من الناحية الثقافية، وتنقل عن أوروبا فكرها وفنها، ثم صاح فيها عندئذ «أمرسون» صيحة كان لها دوي، أن آن الأوان لظهور ثقافة أمريكية خالصة، وقد كان. فهل لنا من يطلق في الأمة العربية اليوم مثل هذه الصيحة؟
حضارة الأخلاق
شهدت الإنسانية حضارات يزيد عددها على العشرين (إذا اخترنا بمقياس «توينبي» في دراسته للتاريخ)، وكان لكل حضارة فيها مذاق خاص، وإلا لما تميزت عن سواها. ولا بد أن تكون تلك الخاصة المميزة للحضارة المعينة هي التي عملت على نشأة تلك الحضارة وظهورها، وذلك عندما كانت تلك الخاصة المميزة في عنفوان قوتها، ثم لابد كذلك أن تكون تلك الخاصة نفسها عندما أصابها ضعف وفساد، هي علة اندثار الحضارة التي تميزت بها. وهذه كلها مقدمات أراها واضحة بذاتها، أو تكاد تكون كذلك.
ومن تلك المقدمات الواضحة، أنتقل بخطوة واضحة إلى ما أردت أن أقوله في هذه السطور، وهو أن الخاصة التي ميزت الحضارة الإسلامية من سائر الحضارات؛ هي أنها أدارت رحاها على محور «الأخلاق». فإذا كانت حضارات أخرى قد أرست قواعدها - في المقام الأول - على «الفن» أو على «العلم»، أو غير ذلك من أسس كالزراعة والتجارة أو الصناعة، فإن الحضارة الإسلامية قد اختارت «الأخلاق» أساسا لها.
على أننا في هذه التفرقة، لا يفوتنا أن الجوانب كلها قد تجتمع في كل حضارة على الإطلاق وذلك بمقادير تتفاوت هنا وهناك، لكننا هنا إذ نميز الحضارة المعينة بخاصة ما، فإنما نريد أن تكون تلك الخاصة - أكثر من سواها - ركيزة أولى يقام عليها البناء، وبناء الحضارة الإسلامية ركيزته «الأخلاق».
قف معي لحظة تتأمل فيها هذه الآيات الكريمة من سورة الفجر:
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد ... ؛ فأول ما يلفت النظر للوهلة الأولى، بل ويلفته للوهلة الثانية، والثالثة، والعاشرة، هو أن هذا العدد القليل من الآيات الكريمة قد أوجز لنا القول إيجازا بليغا، في ثلاث حضارات سبقت ظهور الإسلام - ضمن ما سبقه - وهي حضارات ثلاث تشابهت كلها في أنها جعلت «الفن» أساسا لصروحها، وإن اختلفت بعد ذلك في نوع الفن الذي اختارته كل واحدة منها؛ فقوم «عاد» الذين عاشوا حضارتهم فيما هو الآن الجزء الشمالي من الجزيرة العربية كانت براعتهم في بناء المدن، وأقاموا مدينة «إرم»، على نحو يذهل خيالك ذهولا إذا قرأت شيئا من تفصيلاته كما ذكرها المؤرخون؛ فهي مدينة قوامها قصور شوامخ، من ذوات الطوابق. وكانت طريقتهم في بناء الطوابق العليا أن يقيموها على «عمد»، والعمد بدورها تقام على أسطح الطوابق السفلى لا على الأرض، فكانت تلك العمد تبدو للقادم من بعيد وكأنها غابة كثيفة من الجذوع الصخرية العاتية. وصدق الله العظيم في وصفها بأنها
إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد .
وأما قبيلة ثمود فقد عاشت هي الأخرى في منطقة قريبة من موطن عاد، وكان مقرها واديا صخريا أوشكت حياة النبات وحياة الحيوان ألا تجد لها فيه موردا للنماء، فدارت براعتهم - أعني قبيلة ثمود - على فن النحت بصفة أساسية، وحتى بيوتهم نحتوها في صخور الجبال كالكهوف. وأخيرا يأتي ذكر فرعون وما اختارته حضارة مصر يومئذ من فن المسلات والمعابد (الأوتاد)؛ فليس هو فن المدن كما رأينا عند «عاد»، وليس هو فن النحت كما رأينا عند «ثمود»، لكنه فن المعابد وملحقاتها، وفيها ما فيها من قوائم ذات جبروت وشموخ .
هي إذن حضارات قامت على «فنون»، ولم يكن في ذلك ما يعاب لولا أنها قرنت فنونها تلك بطغيان، أعني أنها أقامت فنا عظيما في ذاته، لكنها لم تدعمه بأخلاق التعاطف بين الإنسان والإنسان.
الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد .
ونمضي في قراءة سورة الفجر، فنقرأ أمثلة من أخلاق السلوك التي أوزت حضارات الفنون السابق ذكرها، فهم لم يكونوا يكرمون اليتيم، ولم يكونوا يطعمون المسكين، وكانوا يأكلون التراب أكلا لما، ويحبون المال حبا جما.
وجاءت حضارة الإسلام لتكون أولا وقبل أي شيء آخر حضارة أخلاق، تعتمد على بناء الضمائر في الصدور، قبل أن تعنى ببناء مدينة في فخامة مدينة «إرم»، أو براعة يبدونها في تشكيل الصخر العصبي بيوتا وتماثيل، أو الارتفاع بأوتاد الهياكل والمعابد؛ فبالضمائر الحية التي ترسم لأصحابها كيف يكون التعامل الودود بين الناس، تطمئن النفوس. وإن سورة الفجر تختم آياتها بخطاب إلى النفس التي اطمأنت:
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي .
للحضارات الإسلامية أن تضيف إلى نفسها فنا، وعلما، وما شاءت أن تضيف، لكنها إذا لم تميز نفسها بركيزة الأخلاق، فربما بقيت «حضارة» لكنها لن تكون حضارة «إسلامية».
حقيقة المبادئ
لكلمة «مبادئ» في أحاديث الناس سحر خلاب. فإذا قيل عن فرد إنه ذو مبادئ، كان ذلك وحده كفيلا بمنزلة سامية عند السامع، دون أن يسأل هذا السامع عن تلك المبادئ ما هي؟ فالكلمة وحدها مكتفية بذاتها، كأنها وردة تفوح بعطرها. وأغلب ظني هو أن لهذه اللفظة العجيبة بسلطانها على عقول المتحدثين وقلوبهم، دورانا على ألسنة العرب، أكثر جدا مما أجدها جارية على ألسنة المتحدثين في أمم أخرى مما رأيت. وربما كان ذلك نتيجة لحقيقة حضارية تميز العرب عمن سواهم بعض التمييز، وهي أن الأولوية عند العربي لمبادئ الأخلاق. وقد تكون الأولوية عند غيره «للأشياء»، فإذا تعارض مبدأ أخلاقي معترف به، مع تحصيل مال أو عقار أو ما شئت، كان الرأي الحاسم عند العربي هو أن يحافظ على المبدأ وأن يضحي بما يتعارض معه. وقد تجد من أبناء الثقافات الأخرى ما يعكس هذا الترتيب؛ فاكتساب الأشياء يجيء أولا، ثم يبني المبادئ على هذا الأساس؛ بحيث يصبح معيار العمل الأخلاقي مقدار ما يترتب عليه من نفع.
أقول إنه ربما جاء سحر كلمة «مبادئ» في مسمع العربي، ناشئا عن كون تلك المبادئ مرتبطة أساسا بالحياة الخلقية، وناشئا بعد ذلك عن كون الحياة الخلقية في نظر العربي ذات أولوية على سواها. ولعلك تلحظ في لفظ «مبدأ» نفسها ما يدل على النقطة التي «نبدأ» منها السير، أو التي نبدأ منها التفكير. إنك حين تأخذ في مناشط حياتك اليومية، لا بد لك أن «تبدأ» من دارك ساعيا إلى حيث تسعى. وإذا ما هممت برحلة ترتحلها، كان محتوما أن «تبدأ» رحلتك من محطة القيام. وهكذا الأمر في رحلة الحياة بأسرها؛ فهي تريد منك مجموعة مبادئ، أي إنها تريد أسسا راسية راسخة بادئ ذي بدء، حتى يتاح لك أن تقيم عليها ما شئت من بناء.
لهذه المكانة المحورية التي تكون للمبادئ في تنظيم مسالك حياتنا جعلنا لها في أنفسنا هذا السلطان. وليس في هذه الوقفة الحضارية شيء يعاب، بل إنها لوقفة تدعونا إلى الزهو والفخار، لولا ما قد يترتب عليها - إذا ما ضاقت تلك المبادئ على مناشط الحياة الجديدة - من جمود يقعد بأصحابها عن ملاحقة التطور بالسرعة المطلوبة. ولشرح ذلك أقول:
لنترك الحياة العملية الآن جانبا. ولننظر إلى العلوم كيف تبنى على «مبادئ» لكي نرى الطريقة التي تجمع بها النظرة العلمية، بين ضرورة أن تقيم بنيانها على «مبادئ» دون أن تستعبد نفسها، فتلك المبادئ، وبعدئذ نستطيع أن نحاكي تلك النظرة العلمية، في مجال حياتنا العملية، فنجمع في ساحتها بين ضرورة المبادئ وإمكان تغييرها في آن معا.
ففي العلوم الرياضية، لا بد للعالم الرياضي أن يقدم بفكره حقائق يجعلها مسلمات لا تخضع للمناقشة؛ فهي بحكم افتراضها واجبة القبول، ومنها «نبدأ» تفكيرنا الرياضي لنستخرج به ما أمكن استخراجه من نتائج تترتب على تلك المسلمات. لكن ماذا لو وجدنا تلك النتائج غير ذات نفع لنا في دنيا التطبيق؟ هنا يعود الرياضي فيقدم لفكره مجموعة من مسلمات أخرى، ويستولدها نتائجها. وهكذا ترى أنه بينما وضع «المبادئ» الأولية شرط ضروري لحركة السير، فإن لنا حرية تغيير تلك المبادئ بسواها ابتغاء الوصول إلى ما هو أجدى.
وكذلك الأمر في العلوم الطبيعية؛ فها هنا أيضا يبدأ الباحث بما يسمونه «فرضا» أو «فرضية» يستخلصها الباحث من المعلومات الجزئية التي جمعها عن موضوع بحثه، ثم يستدل من تلك الفرضية ما استطاع استدلاله من نتائج صالحة للتطبيق على الواقع العملي. لكننا نسأل مرة أخرى: ماذا لو وجدنا تلك النتائج غير صالحة للتطبيق العملي؟ جواب ذلك هو: يعود الباحث إلى وضع فرضية أخرى عساها أن تجيء مواتية. فها هنا أيضا نرى جمعا بين ضرورة أن يبدأ السير من «مبدأ» هو الفرضية المقترحة من جهة، وإمكان استبدال غيرها بها إذا وجدناها غير ذات نفع لنا، من جهة أخرى.
ونعود الآن إلى حياتنا العملية وما تقوم عليه من «مبادئ»، لنقول إن الأمر في هذه الحالة لا يختلف - أو قل إنه لا يجوز أن يختلف - عن الأمر في ميدان العلوم بشطريها؛ الرياضي والطبيعي على حد سواء. بين أيدينا في الحياة العملية «مبادئ» ليس منها بد إذا أردنا لتلك الحياة أن تكون على هدى؛ فقد يكون المبدأ - مثلا - أنه إذا اصطدمت رغبة ما عند فرد معين برأي عام يخالفها، وجب الأخذ بالرأي العام على حسب الرغبة الفردية؛ فمبدأ كهذا من شأنه أن ينظم علاقات التعامل بين الناس في مجتمع واحد، تماما كما توضع القواعد لمرور السيارات في الطريق العام، كأن يقال - مثلا - للقادم من اليمين أولوية المرور، منعا لتصادم السيارات القادمة من جهات متعارضة.
لكننا نلقي السؤال نفسه الذي ألقيناه في مجال التفكير العلمي، ونقول ماذا لو وجد الناس بين أيديهم مبدأ سلوكيا لم يعد يصلح لظروف الحياة في عصرنا ؟ الجواب هنا هو نفسه الجواب هناك، وهو: إننا عندئذ نستبدل به مبدأ آخر يكون أكثر صلاحية. فافرض أن من مبادئنا في إكرام الضيف أنه إذا لم يكن الطعام المتاح كافيا لأهل الدار وللضيف معا وجب تقديمه للضيف، وعلى أهل الدار أن يبيتوا على الطوى، فهذا مبدأ كانت له ضرورة حياة مضت، ولم تعد ظروف حياتنا الراهنة تستلزمه، بل وربما لو ظل قائما أنتج الضرر، فلا ضير علينا إذا نحن أحللنا محله مبدأ آخر.
نعم، لا بد لتنظيم الحياة من «مبادئ»، لكن لا بد لتطوير الحياة من تغيير المبدأ المعوق للسير لنقيم مكانه مبدأ أصلح؛ فلا فرق من حيث المهمة التي تؤديها المبادئ في حياتنا، بين موقفنا منها في مجال العلوم وموقفنا منها في مجال الحياة العملية؛ ففي كلتا الحالتين هي ضرورة للبدء ولتنظيم السير، وفي كلتا الحالتين أيضا يجب تغييرها كلما رأيناها أضيق من أن تساير حركة الحياة. واليوم الذي يجعل الناس فيه لتلك المبادئ قداسة يحرم تغييرها هو نفسه اليوم الذي يقضون فيه على أنفسهم بالجمود والفناء.
ينقصنا منهج العلم
ما أسرع أن يخلط الناس بين شيئين، فيحسبوهما شيئا واحدا؛ أولهما: حصيلة الحقائق العلمية التي يحصلها الدارسون من ميادين العلوم المختلفة. وثانيهما: المنهج الذي بواسطته استطاع الإنسان أن يصل إلى ما قد وصل إليه من حقائق. أقول إنه ما أسرع أن يخلط الناس - حتى المتعلمون منهم - بين هذين الأمرين، فيظنوا أن من ظفر بأحدهما فقد ظفر بالآخر، فإذا امتلأت جعبته بالحقائق العلمية في ميدان معين، فلا بد أن يكون قد اكتسب المنهج العلمي في طريق النظر، وإذا أتيح له أن يدرس مبادئ المنهج العلمي، فلا بد بالضرورة أن يكون قد جمع في خزانته مجموعة من حقائق العلم. لكن حقيقة الأمر هي على خلاف ذلك؛ فقد يحدث أن يخرج الدارس بشيء من الحقائق العلمية، حفظها حفظا، دون أن يصبح المنهج العلمي طريقا ينتهجه في حياته العملية، وذلك هو ما نلحظه في الكثرة الغالبة من دارسي «العلوم» في جامعاتنا العربية. وكذلك قد يحدث أن يدرس الدارس «منهج البحث العلمي» دون أن يكون قد ألم بشيء من نتائج العلم، كما هي الحال في طلاب الفلسفة من جامعاتنا العربية أيضا.
وفي هذا الانفصام العجيب المعيب بين العلم من جهة ومنهجه من جهة أخرى، يكمن الداء الذي تولدت لنا منه ضروب من الأورام الخبيثة في حياتنا العقلية - أو قل حياتنا اللاعقلية - فكان لنا ما كان من بطء شديد في حركة التقدم مع حضارة عصرنا في ركضها السريع. ولو أخرجنا من جامعاتنا دارسي علوم يأبون النظر بغير منهج العلم، وأخرجنا - من ناحية أخرى - دارسي منهج البحث العلمي مصحوبا بمضمون حي من حقائق العلم، لكان لنا من دمج العلم ومنهجه في حياتنا شأن آخر.
وإنا لنذكر في هذا السياق من الحديث أن «العلم» لم يجاوز مجاله الأكاديمي ليتغلغل في حياة الناس العملية إلا منذ عهد قصير، حتى في أوروبا نفسها. أما قبل ذلك فكان من الجائز أن ترى الرجل الواحد نابغا في علم أو في أدب وفن، ثم تراه في الوقت نفسه - خارج حدود علمه أو فنه وأدبه - مؤمنا بالخرافة كأي إنسان آخر ممن لم يهبهم الله حظا من نبوغ؛ فقد حدث - مثلا - في إنجلترا إبان القرن السابع عشر أن تفشى الطاعون وأكلت النار في «الحريق الكبير» شطرا كبيرا من مدينة لندن، فاجتمع مجلس النواب لينظر في سر هذا الغضب الذي أنزله الله تعالى بهم! ثم لم يطل بهم البحث حتى وقفوا على ما ظنوه علة الغضبة الإلهية، ألا وهي - فيما توهموا - مؤلفات فيلسوفهم آنذاك «تومس هوبز»؛ فقضوا بجرمها علنا. ولما لم يحدث بعد ذلك طاعون ولا شبت حرائق، أيقنوا بأن زوال العلة قد أعقبه زوال المعلول.
فانظر إلى هذا التخريف يصدر من صفوة ممتازة في شعبها. ومتى كان ذلك؟ كان في عصر لم يكن بعيدا عن عصر «نيوتن» العظيم! وهكذا كان «العلم» في ناحية، و«منهج العلم» في ناحية أخرى. لكن هذه الفجوة سدت عندهم في عصرنا هذا؛ بحيث يندر أن نجد مثل هذا الخلط في تعليل الظواهر. بيد أني زعيم لك بأن مثل هذا الخلط في ربط المسببات بأسبابها ، أو بغير أسبابها، يوشك أن يكون هو النبرة السائدة في حياتنا الثقافية بكل أبعادها. ومن هنا تضيع معالم الطريق أمام أبصارنا، حتى لترانا نتجه إلى وراء، ونظن أننا إنما نسير إلى أمام.
إنه إذا كانت مجموعة الحقائق العلمية التي يحفظها أبناؤنا في المدارس والجامعات، بمثابة قطع من نفائس المعادن، فإن «المنهج» الذي أوصلنا إلى تلك النفائس هو بمثابة المنجم الذي نظل نستخرج منه النفائس بعد النفائس، وبغيره نجمد عند ما حصلناه، لا نزيد عليه كبيرة ولا صغيرة. ولكي تدرك طرفا من خطورة «المنهج» بالنسبة إلى ما ينتج عن استخدامه، أذكرك بحقيقة تلفت النظر في تاريخ الفكر عامة، والعلم خاصة؛ ألا وهي أنه كلما آن الأوان للبشرية أن تدخل مرحلة جديدة في تاريخها الفكري والعلمي، قيض الله لها فيلسوفا يبشر بمنهج جديد؛ فما هو إلا أن ترسخ أصول ذلك المنهج الجديد، وإذا بالفكر والعلم يتخذان لونا جديدا. حدث ذلك عندما اصطنع سقراط منهجا ميز ما بعده عما قبله؛ إذ جعل المدار هو استخراج المبادئ العقلية الثابتة، من جوف الآراء الكثيرة التي قد يعارض بعضها بعضا. وحدث مرة أخرى على يد ديكارت، عندما أراد أن ينتقل بالفكر - وبالعلم - من مرحلة الظن إلى مرحلة اليقين. وحدث ذلك مرة ثالثة، ورابعة. ولعل آخر ما بشر به فلاسفة المناهج هو ما أنتج لنا النظرية النسبية، التي تفرع عنها بعد ذلك ما تفرع ...
ولنا في تاريخ الفكر العربي أكثر من عبرة ترشدنا إلى أهمية «المنهج»؛ فأعلام الفقهاء تميزوا عن جمهور القضاة بأن كان لكل منهم منهج رسمه لنفسه ثم ترسمه. وأعلام النحاة كذلك تميزوا عن جمهور علماء النحو، بأن كان لكل منهم منهج في تحديد الصواب والخطأ. وهكذا قل في ميادين علم الكلام، وعلوم الكيمياء والرياضة وغيرها؛ فالفرق الحاسم بين الكبير والصغير في مجال الفكر العلمي هو اصطناع منهج يضعه الكبير ويتبعه فيه الصغير، وحياة الأمة العربية اليوم ينقصها أن تنظر إلى أمورها بمنهج العلم.
إحياء التراث وكيف أفهمه
عندما أخرج أبو حامد الغزالي كتابه «إحياء علوم الدين»، لم يرد لكلمة «الإحياء» أن تجيء على الغلاف زخرفا تبهر العين، أو أن تكون صوتا له في السمع إيقاع ثم يمضي فلا يترك وراءه أصداء تتردد في كل صفحات الكتاب، بل أراد أن يكون لاسم الإحياء معناه، وهو أن ترد إلى شريعة الإسلام «حياة» تتبدى في سلوك المسلمين، بعد أن كان نبضها قد خفق في القلوب، إلى الحد الذي أغرى طائفة من المتصوفة أن يجعلوا الشريعة في ناحية، والحقيقة في ناحية أخرى.
وعلى هذا الغرار نفسه، إذا ما أردنا اليوم «إحياء» للتراث، وجب أن يكون لهذه الكلمة «معنى»، بأن نخرج موروثنا الثقافي من غيبوبة ألمت به، ولا يكون ذلك بإعادة طبع كتاب اصفرت أوراقه، في كتاب ابيضت فيه تلك الأوراق، ثم نكتفي بذلك فنقول: «إحياء»!
وهل تحيا الدمية إذا ألبسناها ثوبا غير ثوب؟ ولن يغير من الأمر شيئا أن يضيف المحققون إلى الطبعة الجديد هوامش مثقلة برموزها، فيقولون إن هذه اللفظة المعينة قد وردت في النسخة الفلانية كذا، وفي النسخة العلانية كيت، فهذا كله عمل أكاديمي له قيمته، لكنه لا يحيي كائنا بعد موت.
وإحياء التراث لا يتحقق إلا إذا انتقل من كونه جملة مفردة تكتب أو تقال ليصبح غذاء لكائن حي متعين، فيجري في شرايينه دماء مع الدماء؛ بمعنى أن يتحول في نفسه إلى ضرب من الحساسية، يتذوق ما يتذوقه، وأن يفرز له مجموعة من القيم، يهتدي بها في قبول ما يقبله من أنماط السلوك. فالعالم المستشرق إذا ما حقق كتابا في التصوف الإسلامي - مثلا - وشرح غوامضه في هوامش تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه، ليس - بالضرورة - «يحيي» هذا النص الذي حققه ونشره؛ بمعنى أنه قد لا ينتهي من عمله هذا بأن يحيا حياة المتصوف صاحب النص؛ فالإحياء لا يكون إلا بالتحرر من قيود الزمن، لنجعل من الماضي حاضرا حيا متجليا فيما نأخذ وما ندع من شئون الحياة.
إحياء التراث هو أن يخرج قارئه ودارسه بروح يستمدها مما قرأ أو درس، ليبثها في حناياه، فإذا هو مصطنع لنظرة جديدة، من شأنها أن تعقد الأواصر بينه وبين السلف الذي أحيينا تراثه، حتى ولو وقف من مضمون إرثه موقف الناقد أو المتشكك. فإذا قرأت ديوان المتنبي قراءة إحياء، خرجت منه وقد سرت في عروقي كبرياؤه، ثم لا ينفي ذلك أن أقف منه موقف الناقد، المهم هو أن أعيد شيئا من حياة المتنبي في حياتي، أو قل إن المهم هو أن «أتقمصه» ولو إلى حين، وبعدئذ يترسب مني في نفسي ما يترسب ليبقى. ولو قرأت أبا العلاء المعري قراءة إحياء، لخرجت منه آخر الأمر بنظرة هي كنظرة الطائر التي تنظر إلى الأشياء من عل فتعرف نسبة بعضها إلى بعض، فلا يكبر في عيني صغيرها ولا يصغر كبيرها، بعد أن كنت قبل قراءته أنظر إلى تلك الأشياء نفسها نظرة الدود الزاحف على بطنه تعترضه الحصاة الصغيرة فيحسبها في حجم الكوكب التي لا تحده حدود.
اقرأ شيوخ المعتزلة قراءة إحياء، تخرج منهم إنسانا يعتد بإرادته الحرة، التي أسبغت عليه كرامة الإنسان؛ لأنها ألقت على كتفيه تبعات الإنسان. أو اقرأ أبا الحسن الأشعري قراءة إحياء، تجدك بعدئذ قد عرفت لعقلك حدودا، فعرفت ما له وما عليه؛ فله أن يذهب في التعقل إلى آخر مداه لا حرج عليه ولا قيد، لكنه إذا ما بلغ ذلك المدى بقيت أمامه بقية لا تدخل في نطاقه، فيحيلها إلى منطقة الإيمان.
لكن هذا القول نفسه يدلنا دلالة واضحة على أن ما كل موروث يجب إحياؤه بهذا المعنى. إنني عندما بلغت من الكتابة هذا الموضع وثبت إلى ذهني أسطر من خطبة الحجاج بن يوسف، حملونا على حفظها والإعجاب بها عندما كنا صغارا لا نميز في المحفوظ بين قول وقول؛ فكم مرة طلب مني أو من رفاقي في الدرس أن ننهض لنلقي في نغمة الخطباء قول الحجاج: «أنا ابن جلا، وطلاع الثنايا، متى أضع العمامة تعرفوني. إني - والله - لأرى أبصارا طامحة وأعناقا متطاولة، ورءوسا أينعت وحان قطافها، وإني أنا صاحبها، كأني أنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى ...»
فهل فتح المعلم يومئذ أبصارنا لننفر من صاحب هذا القول، حتى ولو كانت بشاعة معانيه لبست ثوبا لفظيا من حرير؟ هل أوحى لنا المعلم يومئذ بأن نتساءل في أنفة وعزة، ماذا تكره يا حجاج من الأبصار إذا طمحت ومن الأعناق إذا تطاولت؟ إن مثل هذا التراث من حقه أن يكون موضع درس عند علماء التاريخ السياسي، بل والتاريخ الأدبي، لكن ليس من حقه أن «يحيا» في نفوس قارئيه أو دارسيه.
إننا في موقفنا من التراث، ينبغي أن نتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض، فندرسهما معا، ولكن ندرس الأبيض ليحيا في سلوكنا، وندرس الأسود ليموت في ظلمته.
أفكار مغرضة
لست ممن يكيلون التهم جزافا على رءوس المفكرين الغربيين فيما يكتبونه عن الثقافة العربية في شتى عصورها؛ لأنني أعلم علم اليقين كم أفادنا أولئك المفكرون حتى في فهم أنفسنا، مضمونا ومنهجا. ومن أضخم الأفكار التي عرف بها نفر من قادة الفكر العربي في عصره الحديث، والتي كانت من أسباب سيرورة ذكرهم بين الناس، وسطوع أسمائهم على أقلام الكتاب، أفكار استعيرت في أساسها من هؤلاء المفكرين الغربيين؛ فهو إجحاف في الحكم أن نوجه تهمة التعصب العرقي أو الديني أو الثقافي إليهم جميعا، وفي جميع ما كتبوا. وواجب الإنصاف العلمي يقتضينا أن نأخذ كل فكرة من أفكارهم على حدة، لنميز على مهل بين الحق والباطل.
وبرغم هذه الحيطة كلها، وهذا الحذر العلمي كله، فقد رأيتني في حالات كثيرة أقف أمام ما أقرأه عنا مما يكتبه رجال الفكر في الغرب أحيانا، وقفة الذاهل المتعجب من العمى الذي يصيب به التعصب أولئك الناس حينا بعد حين، حتى ليقولوا من الرأي ما لا يجوز قوله من صغار الصبيان الذين لم يستقر لعقولهم منطق بعد. إنه «الغرض» يعمي ويصم. وحقا إن الغرض مرض كما يقول عامتنا في أحاديثهم الجارية.
وخذ أمثلة قليلة من كثير صادفته على تراكم الأيام.
إن من الحقائق المعترف بها، والتي يتعذر إنكارها حتى على الجاحدين، أن الفكر العربي قد اضطلع بدور نادر الحدوث في تاريخ الفكر البشري كله؛ ألا وهو تحطيم الحاجز العنيد الذي لبث قرونا طوالا يفصل بين حضارتين وثقافتين وطريقتين من الحياة ومن النظر؛ وأعني بهما بلاد الفرس وما وراءها تجاه المشرق، وبلاد اليونان وما وراءها تجاه الغرب، مما أجرى على الألسنة - بحق - تفرقة بين ما أسموه «شرقا» من جهة وما أسموه «غربا» من جهة أخرى، ومن الأولى قامت إمبراطورية الساسانيين، ومن الثانية قامت إمبراطورية البيزنطيين. وإننا لكثيرا ما نقرأ عن حروب الإسكندر الأكبر، التي اكتسح بها الرقعة كلها. إنه كان يمتلك الحروب رائدا في الثقافة الإنسانية، إلى جانب عبقريته العسكرية. والمراد بتلك الريادة الثقافية هو أنه أزال شيئا من الحاجز الحضاري الذي أشرنا إلى قيامه بين «شرق» و«غرب».
لكن ما صنعه الإسكندر الأكبر في هذا السبيل لا يكاد يذكر بالقياس إلى ما أدته في ذلك الفتوح الإسلامية وما صحبها بعد ذلك من فكر عربي، لأن الدمج لم يكتمل منه شيء على يدي الإسكندر الأكبر، بينما اكتمل على أيدي المسلمين، وأصبح في حدود الممكن، بل في حدود ما قد وقع بالفعل، أن نقلت الثقافتان اليونانية والفارسية إلى العربية، فالتقى الضدان المزعومان في تركيبة فكرية واحدة، هي التي صارت بعد ذلك تعرف بالثقافة العربية.
كل ذلك معروف ومعترف به. فمن ذا يلومني إذا قلت إنني وقفت والدهشة تملأني، حين وجدت مفكرا غربيا - بعد اعترافه بالدمج الفكري الذي صنعه العرب - عاد ليقول إن العرب برغم ذلك ظلوا «شرقا» لم يتأثروا بالصبغة الثقافية التي صنعوها بعقولهم. كيف كان ذلك يا مولانا؟ وهل صنع العربي تلك الصيغة الجديدة لتكون مجالا للهوهم، أم هم صنعوها ليصدروها لك وليحرموا أنفسهم مما صنعوه؟ وما كنا لنهتم بوصفنا «شرقا» لولا أنهم هناك، وفي مثل هذا السياق من الحديث، يقرنون صفة «الشرق» بصفات ذميمة، أقلها الطغيان.
وخذ مثلا آخر: قال قائل منهم إن الرقعة العربية صنعت للعالم طريقة الكتابة بالحروف الأبجدية (عظيم)، ونقلت الكتابة من فينيقيا إلى اليونان، حيث تطورت هناك (عظيم)، فنتجت عن ذلك نتيجة تلفت النظر (ماذا يا ترى؟) وهي أن العرب قدسوا ما هو مكتوب، كأنما عبدوا الأحرف التي صنعوها، على حين استطاع اليونان أن ينظروا إليها نظرتهم إلى أداة للفكر، لا نظرتهم إلى مقدس معبود! (الله أكبر!) فبدل أن يجعل ابتكار الطريقة بالأبجدية لمعة ذكاء نادر، ودليل إبداع حضاري ممتاز، راح صاحبنا يلتمس لنفسه طريقا يصل به إلى حرية الفكر عند اليونان وعبودية الفكر عند العرب، مستندا في ذلك إلى عبقرية العرب. أفرأيت أعجب من ذلك منطقا؟ مرة أخرى نقولها: حقا إن الغرض مرض، كما يجري على ألسنة الناس في حياتهم الجارية.
أسطح بغير أعماق
ليس من قبيل التشاؤم الأحمق، أن نقول عن «الأدباء» من رجال هذا الجيل، إنهم يحيون في أدبهم حياة على الأسطح لا تعرف الأعماق. ومن هنا نراهم وقد جاءوا عبثا على مسيرة الثقافة العربية أكثر مما جاءوا ليكونوا محركات لها نحو الأمام.
ليس من حق الكاتب - أي كاتب - أن يلقي بألفاظه على الورق دون أن يضمر لها في نفسه دلالات محددة، يخرجها إلى العلانية إذا ما طلب إليه تحديد معانيه. وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة لأي كاتب بصفة عامة، فإني أشعر أنه ألزم لي بصفة خاصة، لكثرة ما دعوت إلى ضرورة إلجام كلماتنا بمعانيها المحددة، حتى لا تشطح بنا إلى عالم الأوهام.
وها هنا جاءت لفظتان تريدان شيئا من التحديد قبل المضي في اتهام أبناء هذا الجيل بما اتهمناه؛ ألا وهما لفظة «السطح» ولفظة «العمق» حين يكون الحديث منصبا على أدب وفكر وثقافة. •••
ونقولها باختصار: إنه إذا كان ثمة من فكر أو أدب أو ثقافة بصفة عامة فلا بد أن يكون مدار الحديث آخر الأمر هو «الإنسان». وحتى إذا كان الموضوع مأخوذا من الطبيعة التي تحيط بنا، فإنما يأخذه الكاتب مأخذا يمس به حياة الإنسان من قريب أو من بعيد. وقد نستثني من هذا التعميم «العلوم» بنوعيها؛ العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية. ومع ذلك، فحتى هذه منسوبة إلى الإنسان مبدعها بوجه من الوجوه.
لكن لنقصر حديثنا على «الأدب» حتى لا يتشعب بين أيدينا بغير طائل ؛ فالأدب في أي شكل من أشكاله (الشعر، والقصة، والمسرحية، والمقالة حين تكون مقالة أدبية) أوله إنسان وآخره إنسان، لكن هذا الإنسان إذا كان سلوكه يظهر أمام الأبصار، فيسهل وصفه في الكتابة الأدبية؛ فإن وراء السلوك الظاهر دوافع تخفي عن الأعين، إلا عيني الأديب. ومعنى ذلك أن الوقوف عند الجانب الظاهر هو وقوف عند «السطح» والتماس ما وراءه في خفاء النفوس هو غوص إلى «العمق».
وواضح أن الأدب إذا كان من شأنه أن يغير قارئيه، فإنما يجيء هذا التغيير بكشفه عن الخبيء من أغوار النفس؛ فحياة القوم لا تتغير إلا إذا تغير ما بأنفسهم من الداخل، كما ينضبط سير عقارب الساعة بضبط تروسها.
والذي نفهمه هنا هو أن أدباء هذا الجبل، لا يكتبون ما من شأنه أن يغير أحدا، أستغفر الله، بل إنه يشد إلى الوراء؛ لأنهم لا يمسون بأقلامهم أوتار القلوب؛ لأنهم (وهذه نقطة لها أهميتها البالغة) لا يكادون يجعلون لأدبهم «شكلا» (أعني الفورم) وإذا خلا الإبداع الأدبي من شكله فهو لا شيء.
أقول ذلك وفي ذهني «الفورم» بأدق معانيه، والذي هو الطريقة التي ترتب بها أجزاء القطعة الأدبية، ترتيبا يخطو به القارئ خطوة خطوة إلى أن يصل إلى النتيجة المطلوب رسوخها في النفس. شكل القطعة الأدبية هو نفسه «فكرتها» وفكرتها هي شكلها. فإذا قلنا إن أدباء هذا الجيل تفوتهم طريقة البناء المؤدية إلى التأثير المطلوب، فقد قلنا بالتالي إن أدبهم يخلو من «الفكرة» كأنما هو لغو بغير مضمون. •••
لسنا نريد للشاعر أو للكاتب أن يعرض علينا «عملية مجردة» لأن هذه مجالها العلوم، لكننا نريد لكل إنتاج أدبي ذي قيمة أن يجسد أفكارا عامة في صور فردية جزئية لنراها بأعيننا فنتأثر. فمسرحية «أوديب» - مثلا - جسدت نظرية التحليل النفسي في موقف متعين، وبهذا فهي تبلغ من نفس القارئ أو المشاهد، مبلغا أعمق، مما تبلغه النظرية العلمية المقابلة لها عند الدارسين.
ومن جهة أخرى لا نريد للأديب أن يجعل الأفكار التي يجسدها في أدبه، عائمة على السطح حتى لا ينقلب الأدب إلى وعظ أخلاقي فينعدم تأثيره. إن معظم ما يكتبه كتابنا اليوم، وأعني الكتابة الأدبية، لا يثير في الناقد شهوة النقد؛ إذ ماذا يكون عمل الناقد إلا أن يقرأ لنا القطعة الأدبية من «أعماقها» التي تخفى عادة عن أعين عامة القراء، فإذا كان المكتوب سطحا تراه كل عين وليس له أغوار تحتاج إلى ناقد فاحص، ففيم يقوم النقد الأدبي؟
كثيرا ما أسأل نفسي: لقد بدأت نهضة الأمة العربية منذ أول القرن التاسع عشر؛ أي إنها بدأت قبل أن تبدأ النهضة في اليابان بنحو سبعين عاما، فلماذا يلكأ بها السير؟ ويكون جوابي كلما ألقيت السؤال هو: علتنا هي وقوفنا عند الأسطح، ولا نغوص إلى الأعماق.
علموهم تذوق الفن
كان أفلاطون في تصوره للدولة المثلى، قد حذف الفن من مقومات الدولة كما تصورها. وأظنه قد قصر مفهوم «الفن» في سياق حديثه على الشعر والتصوير. وكان مبرر الحذف عنده هو أن الشاعر أو المصور إنما يقدم لنا تصويرا لشيء ما، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الشيء نفسه أقرب إلى الصدق من صورته المرسومة له في كلمات الشاعر أو في خطوط المصور وألوانه، فما حاجتنا - إذن - إلى ذلك التصوير ما دام الشيء المصور قائما بين أيدينا وأمام أبصارنا؟ أيهما أولى بالنظر: شجرة الورد في بستانها، أم تصوير لتلك الشجرة بقلم الشاعر أو بريشة الرسام؟
على أن أفلاطون لم يكن ليرضى للإنسان أن يلتمس المعرفة الصحيحة في الأشياء نفسها، بل أراد له - إذا أراد معرفة صحيحة بشيء ما - أن يجاوز ذلك الشيء المحسوس إلى فكرته المجردة، كأن يجاوز شجرة الورد المحسوسة، إلى تعريفها العقلي. وإنه لتعريف يجاوز بدوره عقول أفراد الناس؛ لأنه إذا فني هؤلاء الناس جميعا، بقي التعريف العقلي لشجرة الورد، أو قل بقيت فكرتها، أو بقي نموذجها في عالم المعقولات؛ بحيث يخلقها الخالق مرة أخرى إذا شاء، كما خلقها أول مرة.
ومعنى هذا الذي قلناه هو أن تصوير الشيء المعين في دنيا الفن يبعد بنا عن الحق خطوتين؛ فهو - أولا - أقل صدقا من الشيء نفسه ، ثم هذا الشيء نفسه - ثانيا - أقل صدقا من النموذج العقلي الذي قد خلق على غراره. وعلى هذا الأساس أوصى أفلاطون بألا يكون في الدولة المثلى التي تنشد العلم الصحيح بالكائنات، شاعر أو مصور.
لكنه برغم موقفه هذا الرافض للفن، أصر على أن تكون الموسيقى جزءا أساسيا ضروريا من التعليم، منذ الطفولة الباكرة. لماذا؟ لأن دوام الاستماع إلى الموسيقى من شأنه أن يترك في نفس المستمع خصائص الموسيقى، التي من أهمها ذلك التناسب المحكم بين الأصوات، الذي لولاه لتحولت أنغامها إلى خليط صوتي تنفر منه الآذان.
وهنا نستطيع اليوم أن ندرك الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الفيلسوف عندما حذف الشعر والتصوير من دولته المثلى، لظنه بأن هذين الفنين إنما يصوران الأشياء كما هي؛ فالطائر طائر، والشجرة شجرة، وهلم جرا. لكن ماذا كان أفلاطون ليقول: لو أنه عاش بيننا اليوم؛ حيث الشعر إيحاء والتصوير تجريد؟ ألم يكن ليرى أن ما يبقى منهما في نفس المتلقي، هو نفسه الذي يبقى من الموسيقى؟ أعني: إدراك ما بين الأجزاء من تناسب محكم، ومن وحدة تضم تلك الأجزاء في كيان موحد، لولاه لأصبحت الأجزاء أشتاتا بغير معنى؟
وأخلص من هذه إلى النتيجة التي أريد عرضها، وهي ضرورة أن ندخل في تعليمنا لأبنائنا مقررات أساسية تفي بالتذوق الفني، على تعدد أنواع الفن واختلافها. إنني أرى العلاقة وثيقة بين «الهرجلة» التي تشيع في حياتنا - وأقصد حياة العربي في أي قطر من أقطار الوطن الكبير - أقول إني أرى العلاقة وثيقة بين الفوضى التي تفتت قوانا وتفكك أوصالنا، وبين حرماننا من نشأة يكون التذوق الفني مقوما من أهم مقوماتها؛ إذ يكاد يستحيل - في ظني - أن ينشأ ناشئ على إدراك ما في القطعة الفنية - كائنا ما كان منها - من تعاون بين أجزائها يوحدها ويحفظ النسب الصحيحة بينها، ثم يجنح بعد ذلك إلى الفوضى؛ فما الفوضى إلا امتناع الكيان الموحد، واضطراب النسب بين الأجزاء.
ثم أضيف ثمرة أخرى، نجنيها من أبنائها إذا ما أكسبوا القدرة على تذوق الفنون، وهي ثمرة أشرت إليها وألححت عليها في مناسبات كثيرة سابقة، وأعني بها الرابطة التي تربط العرب المعاصرين بالعرب الأسبقين، وهي رابطة في صميم الصميم من إحياء المجد العربي بإحياء تراثه؛ فليس إحياء التراث هو أن نقيم له هيكلا ثم نجلس في ظله لنستريح، بل هو أن تشرب روح ذلك التراث تشربا يسري به في الشرايين. كيف؟ بأن «يتذوق» الأبناء فنون الآباء؛ فقارئ البحتري - مثلا - إذا قرأه قراءة المتذوق، بمعنى أن يدخل في جلد الشاعر، ليرى بعينيه ويسمع بأذنيه، كان وكأنه البحتري في رؤيته للعالم وللناس وللأحداث من حوله. ومثل هذا الدمج الذي تحققه لنا لحظات التذوق الفني لتراث أسلافنا، هو في مقدمة العوامل الكفيلة للمعاصرين أن يجيئوا استمرارا للأقدمين في الروح والجوهر، وإن اختلفت بينهما بالضرورة تفصيلات العيش.
علموا أبناءنا كيف يتذوقون الفن بمختلف أشكاله، تعلموهم حب النظام، وجدية العمل، وتنسيق الوسائل مع الأهداف، وتنشئوهم تنشئة التهذيب والإحساس بالكرامة، ثم تعلموهم فوق هذا وذاك أي الطرق يسلكون ليستلهموا ماضيهم المجيد من أجل حاضر أمجد.
وللحياة أسلوبها
إنني أحب ألفاظ اللغة - واللغة العربية بصفة خاصة - حبا كثيرا ما يحملني على ترك ما أكون بصدد الكتابة فيه، حتى أتعقب لفظة بعينها: كيف جاءت، وماذا يحتوي جوفها من لباب. ولم يحدث أن تناولت لفظة بمثل هذا التشريح إلا وقد وجدت في حناياها رحلة عجيبة في أطوار التاريخ وتطوراته؛ فأرى عقل الجماعة التي صنعت تلك اللفظة صنعا؛ أقول إني أرى عقلها وهو يعمل، وأحس شعورها وهو ينبض، كلما لمحت لفتة جديدة في مسار اللفظة خلال الزمن وتغيراته.
وأذكر أني منذ أعوام طويلة - ربما بلغت الثلاثين عاما - أردت الكتابة في الخصائص المميزة ل «أسلوب» العقاد، لكنني ما كدت أستوي في جلستي، وأنشر الورقة، وأرفع القلم، حتى تحرك في رأسي شيطان اللفظة، فأثار في نفسي السؤال: من أين جاءت كلمة «أسلوب» هذه؟ إذا كان أصلها الثلاثي هو «سلب» بمعنى «سرق» أو مرادف من مرادفاتها، فماذا يا ترى العلاقة بين «الأسلوب» بمعناها الذي نعرفه لها، وهو السرقة؟
تركت مكاني وقصدت إلى حيث القواميس العربية المطولة، التي تعطيك الكلمة وأصولها وفروعها، وكأنها تقدم لك شجرة أنساب لأسرة عريقة الآباء والجدود، وظللت أتعقب معنى «سلب» إلى أن بلغت غايتي، وهي أن «أسلوب» الكاتب أو الفنان إنما سمي كذلك لأن صاحب هذا الأسلوب قد استطاع أن يستلب من نفسه كوامن سرها. لقد كانت النفس منطوية على خبيء من جوهرها، كأنها تحرص على أن يظل خافيا عن أبصار الناس، فجاء صاحب تلك النفس - إذا كان أيضا صاحب «أسلوب» - فانتزع من نفسه سرها، ونشره أمام الناس، على الورق أو غير الورق من وسائط.
وإذن فمن لا يكشف عن حقيقة نفسه فيما يبدعه من أدب أو من فن، كان غير ذي أسلوب. ولقد عادت إلى ذاكرتي الآن هذه القصة كلها، فتأملتها، ثم لم ألبث أن اتسعت أمامي رقعة المعاني المتلاحقة المترابطة، فقلت:
إننا في هذه المرحلة التاريخية التي تجتازها الأمة العربية، لفي أشد الحاجة إلى من يحلل لنا أصولنا الفكرية والأدبية والفنية، ليكشف لنا عن «أسلوبها»؛ أي ليكشف لنا عن جوهرها الكامن وراء ستائر التبصير المختلفة؛ فليس الأسلوب بمعناه الحقيقي الذي ذكرناه، بمقصور على أسلوب الكاتب الفرد أو الفنان الفرد. لا، بل ليست هذه الأساليب الفردية بذات خطر كبير. وإنما الأهم هو أن نعثر على الأسلوب العربي في عمومه؛ أسلوب الحياة، وأسلوب الثقافة، وأسلوب الحضارة، بالإضافة إلى الأسلوب الفني العام، بغض النظر عن خصائص الأفراد المبدعين، أو خصائص المجالات المختلفة في دنيا الفكر والفن.
وما ذلك الأسلوب العام الشامل إلا لعناصر ثبتت على الأيام؛ فلكل أمة جوانب تتغير مع موجات الزمن المتلاحقة، لكن لكل أمة كذلك من الركائز ما يثبت كأنه الطود الراسخ. فإذا وجدنا تلك الشوائب في الرؤية العربية، وجدنا بالتالي أسلوب العربي في وقفته من الكون ومن الإنسان.
فلقد يتعدد ويتنوع النتاج الحضاري والثقافي عند أمة عريقة كالأمة العربية، لكن الناقد البصير، يستطيع أن يلتمس خلال ذلك التعدد والتنوع، خيطا رابطا، فإذا ما وقع عليه، كان هو أسلوب الأمة في فاعليتها العقلية والوجدانية. وإننا نختصر زمن النهوض إذا نحن قدمنا للجيل الراهن من شبابنا حقيقة الأسلوب العربي في كل مناحي حياته. وعندئذ فقط لنا أن نتوقع من الموهوبين أن يقيموا بناءاتهم الفكرية والفنية على ذلك «الأسلوب» دون تكرار للموضوعات والمضمونات التي جاءت على ألسنة الأقدمين وأقلامهم وسائر مبدعاتهم في دنيا الثقافة والحضارة.
الأسلوب هو صاحبه - كما يقول الإنجليز - أي إنك إذا عرفت لأحد من الناس، أو لأمة من الأمم، أسلوبها في العيش وفي الصناعة وفي الابتكار ... إلخ، عرفت حقيقته؛ لأنه لا فرق بين الجانبين؛ فقد قال سقراط ذات مرة لرجل جلس مع سائر من أحاطوا بالفيلسوف، لكنه جلس صامتا، فقال له سقراط: كلمني يا هذا لكي أراك! وها هم أسلافنا قد تكلموا وتكلموا، وكلامهم مثبت في الصحائف. فلم يبق علينا نحن الأخلاف المعاصرين إلا أن نراهم من خلال ما قالوا وما صنعوا.
ديمقراطية الثقافة
الغموض في حياتنا الثقافية ضارب بسحبه الدكناء؛ فالرؤية مبهمة وشعاب الطريق أمامنا يختلط بعضها ببعض. ولا غرابة أن تتعثر الخطى ويتلكأ السير. وحتى الأفكار الرئيسية الكبرى، التي على هداها ترسم مخططات التنفيذ، قلما نظفر منها ولو بقليل من تحديد معانيها وتمييز معالمها. ونسوق في هذه الكلمة مثلا مما تجري به الألسنة بين قادة الحركة الثقافية في الوطن العربي عن «ديمقراطية الثقافة» ووجوبها.
فالغموض هنا غموض مركب، فلا «الديمقراطية» موحدة المعنى بين من يستعملون هذه الكلمة في مجالات الحياة المختلفة، ولا «الثقافة» محدودة التعريف في جميع استعمالاتها؛ فينتج عن ذلك أن تجيء عبارة «ديمقراطية الثقافة» في درجة غموضها حاصلا لضرب الغموضين. ومع هذا الغموض كله لم نجد أحدا ممن يعنون فينا بالتخطيط للثقافة العربية، يتردد ولو للحظة قصيرة، حتى تتبين له معالم المعنى.
ولهذا نقع في مفارقات كثيرة، أقل ما يقال فيها، إنها تحد من سرعة السير؛ فنحن نخلط هنا خلطا خطيرا بين معنيين؛ أحدهما هو الديمقراطية بمعنى المساواة الكاملة بين الأفراد، والثاني هو الديمقراطية بمعنى المساواة في «الفرص» المتاحة للجميع. فإذا أخذنا بالمعنى الأول في دنيا الثقافة، نتج لنا الرأي العجيب الذي يأخذ به كثيرون مضللون مع الأسف العميق، وهو أن يراعي في الإنتاج الثقافي أن يكون «للشعب». ومؤدى ذلك ألا يبدع المبدعون شيئا في الأدب أو الفن، إلا إذا كان في متناول أفهام الجماهير، أو - على الأقل - واضح وفاضح، لكنه برغم ذلك خلط شائع.
وأما إذا أخذنا بالمعنى الثاني، الذي هو أن تكون المساواة المطلوبة مساواة في الفرص المتاحة، نتج عن ذلك - في نهاية الأمر - أن تكون لكل درجة من درجات السلم الثقافي في أبناء الشعب ثقافتها التي تلائمها. فلا بد أن نقدم للشريحة العليا طعامها الفكري والفني، بنفس الضرورة التي نقدم بها للقاعدة العريضة من أبناء الشعب طعامها. لا، بل إني لأجازف فأقول إنه لو كان لإحدى المجموعتين أولوية منطقية على الأخرى، لكانت الأولوية لأفراد الذروة العليا في الحياة الثقافية؛ لأنهم هم الذين يعودون فينقلون تحصيلهم إلى من هم دونهم درجة أو درجات. وإلا فمن الذي يكتب الكتب، أو يذيع في الراديو والتلفزيون، موجها كتابته أو إذاعته لعامة الشعب، أو للأطفال أو لربات البيوت، ولغير هؤلاء وأولئك، إلا من الذي يكتب الكتب، أو يذيع في الراديو والتلفزيون، موجها كتابته أو إذاعته لعامة الشعب، أو للأطفال أو لربات البيوت، ولغير هؤلاء وأولئك، إلا من هم أقدر على العطاء الفكري؟
لقد كان في الأحكام النقدية التي أشاعها «تولستوي» فانتشرت بعد ذلك انتشارا واسعا، قوله بأن مقياس الأدب أو الفن هو أن يستطيع تذوقه أقل الناس تحصيلا وأكثرهم تحصيلا على حد سواء، وهو رأي، حتى إن أصاب، فصوابه مرهون بقيود تحدده. وإلا فقد يستطيع الإنسان من عامة الناس والإنسان من صفوة المثقفين على السواء أن يتذوقوا قطعة موسيقية أو لوحة، أو نغمة قصيدة من الشعر أو قصة أو مسرحية، لكن الرجل من الصفوة وحده هو الذي يعرف بعد ذلك كيف يحلل الناتج الأدبي والفني ليقع على أسباب الارتفاع وذلك أمر له أهميته؛ لأنه إذا عرف العلة، كان موفقا إلى صواب في أحكامه النقدية، وعلى هذا التوفيق يتوقف التمييز بين الجيد والرديء.
إنني كثيرا ما لحظت عند المناقشة في أهداف الحركة الثقافية (وخصوصا في اللجان التي تعقد لمثل هذا) خلطا بين نوعين من الإنتاج؛ إنتاج يراد به التسرية عن أنفس القارئين والمشاهدين، وإنتاج آخر يبدعه مبدعوه ليدوم على الزمن. وواضح أن ما يتطلبه النوع الأول من موهبة وقدرة يختلف اختلافا بعيدا عما يتطلبه النوع الثاني. وواجب الدولة (متمثلة في اللجان الثقافية التي أشرت إليها) هو أن تعنى بالنوعين معا لأن كليهما مطلوب.
ونقول واجب «الدولة»؛ لأنه قد أصبح أمرا محتوما على الدولة أن تعين الموهوبين على إنتاج المستوى الرفيع في الأدب والفن. وذلك بعد أن ذهب عهد رعاة هذا المستوى من خلفاء وأمراء ووزراء، وبعد أن أدت ظروف عصرنا إلى التبسيط والتسطيح (وبخاصة في وسائل الإعلام الثقافي) فلم يعد أمام أصحاب الموهبة الرفيعة إلا أن يعانوا بأموال الشعب عن طريق الدولة ولجانها.
الفكرة الأدبية
قد لا يصعب على القارئ أن يتصور المعنى المقصود إذا ما كان الحديث عن «الفكرة العلمية». وأما أن يدور حديثنا عن الفكرة الأدبية، فالأمر عندئذ يحتاج إلى شيء من التحديد والتوضيح فكلنا يعرف بعض الخصائص التي تميز الأفكار العلمية، على اختلاف صنوف العلم. فمن ذلك مثلا أن الفكرة العلمية لا بد أن تكون قابلة للتحقق من صدقها وذلك بإخضاعها لمبادئ المنطق وقواعده في استدلال النتائج الصحيحة من الشواهد المتاحة، وغير ذلك من الخصائص التي لا مجال لذكرها في هذا المقام.
وأما الفكرة «الأدبية»، فأصعب تحديدا وأعسر منالا. ومع ذلك فالأفكار الأدبية هي «الترمومتر» الذي نقيس به غزارة الحياة الثقافية في جماعة معينة من الناس. وإن كاتب هذه السطور ليتهم حياة الثقافة في الأمة العربية اليوم بضحالة مخيفة، وهي ضحالة أدت إلى كثير جدا مما نحن فيه من ضعف إدراك وسهولة انقياد. فإذا طلب من صاحب هذا الاتهام أن يقيم البرهان على صدق دعواه، لم يكن له من سبيل إلى ذلك سوى البحث فيما يكتبه الكاتبون العرب، عما يسمى بالأفكار الأدبية، حتى إذا لم يجدها أو وجدها هزيلة نحيلة كان له في هذا الضعف برهانه المطلوب.
وعند هذا الموضع من سياق الحديث لا بد من توضيح الفكرة الأدبية ما هي؟ فنقول:
أليس الأدب في عمومه يتخذ من «الإنسان» في فعله وانفعاله موضوعا له؟ ماذا يكون الشعر وماذا تكون القصة أو المسرحية، إلا أن تكون عرضا للإنسان فاعلا ومنفعلا؟ وحتى إذا التفت الأديب إلى جوانب الطبيعة فهو إنما «يؤنس» تلك الجوانب حتى لكأنها في وجدانه بشر من البشر، يفعل وينفعل، ويفرح ويحزن ... لكن الأديب وهو يرسم النسيج السلوكي بكل ما يكمن وراءه من حياة الوجدان، فهو إنما يقيم بناءه على «فكرة» يضمرها، وقل أن يفصح عنها. وبعدئذ تكون المهمة الأولى للناقد الأدبي، هي أن يستخرج ما قد أضمره الأديب من «فكر» في جوف عبارته التي أجراها شعرا أو قصة أو مسرحية. فإذا غزرت الحياة الثقافية غزرت معها تلك الأفكار السارية في مبدعات الأدب والفن. وأما إذا ضحلت تلك الحياة، جاء النقاد وألقوا شباكهم في الماء، فخرجت إليهم خالية أو كالخالية.
ما هي الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملن وأشفقن منها وحملها الإنسان؟ إنها هي حرية اختيار الأهداف، ثم حرية اختيار الوسائل التي يراها الإنسان محققة لأهدافه؛ فلقد رضيت ظواهر الطبيعة أن تسير وفق قوانين مطردة معصومة من الخطأ، لكنها في الوقت نفسه أحلت نفسها من الحياة الخلقية وما تستتبعه من تبعة الفعل. وأما الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي تركت له حرية الاختيار، وعليه تقع تبعة اختياره، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فإذا تصدى الأديب لهذا الإنسان يصوره شعرا أو نثرا، فإنما يصوره كائنا يختار ويفاضل بين الأهداف وطرائق السلوك. وبهذه المفاضلة والاختيار تتجلى «القيم» التي يسير بمقتضاها. وتلك هي «الأفكار» الدفينة التي تظل كوامن في النص الأدبي إلى أن يستخرجها ناقد ويعلنها. وأما إذا ضحلت الحياة الثقافية عند قوم، فقل أن يجد الناقد ما يستخرجه ليعلنه.
وعلى هذا الضوء اقرأ لفحول الشعراء وأعلام الأدب المسرحي أو القصصي، أو أدب الرسائل والمقامات وغيرها، تجد نفسك أمام «أفكار » كانت مستبطنة في البناء الفني، فإذا ما استخرجتها بالدراسة الفاحصة تبدت أمام عقلك جبارة قد تشغلك بعد ذلك أعواما وأعواما؛ أن تجاور الحب والحرب، أو قل تجاور الحب والموت عند الشعراء الأقدمين، يضعك أمام فكرة من هذه الأفكار. تقرأ «الأوريستيا» لأسخيلوس فتخرج بالحيرة أمام سؤال: أيهما أمعن في الجريمة، أن يقتل الإنسان أباه أم أن يقتل أمه؟ وهل للإجابة تعليل يتصل بالمبادئ البيولوجية نفسها؟ أو تقرأ «أوديت» لسوفوكليز، فتقع في متاهة الفكر العميق عن الصلة الحيوية التي تربط الولد بأمه. وتقرأ هاملت لشكسبير، فلا ينتهي بك التأمل الجاد فيما يجبر الرجل الذي صقلته الثقافة، من تردد لا يسمح له بالتسرع في الأحكام ما دامت مواقف الحياة الإنسانية بطبعها مبهمة معقدة مركبة ولا سبيل إلى الإلمام السريع بكل تفصيلاتها دفعة واحدة.
ماذا لو قرأت الجاحظ في «الرسائل» أو في «البخلاء» أو في غيرهما من روائع أدبه لترى كم يوحي لك فكر يظل يلاحقك دهرا لعله لا ينتهي؟ أو قرأت أبا حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» أو في «المقابسات»، فترى كم هي المسائل العقلية التي تثار في ذهنك فتثيرك؟ ولا أقول شيئا عن أبي العلاء، فأنت معه في بحر لجي من الخواطر الموحيات.
الفكرة الأدبية هي «حالة» تخرج بها من قراءتك لناتج أدبي، فتكسبك هذه الحالة الوجدانية التي خرجت بها منظارا جديدا قد تقبله وقد ترفضه، لكنه في كلتا الحالتين يتركك أوفر حياة مما كنت. فهل أنت واجد مثل ذلك فيما يكتبه أدباء يومنا، وإذا وجدته فبأي مقدار؟!
هل هما اثنان؟
يعظم العظيم ما استطاع أن يعظم، فما دام بشرا من البشر، فهو يصيب ويخطئ. وكلما اتسعت مع العظيم آثار المعرفة، زادت الأفكار التي يصيب فيها، وكذلك زادت الأفكار التي يخطئ فيها. ولست أنسى في هذا المجال من الحديث، المقدمة التي لم تزد على بضعة سطور، والتي قدم بها «أولفر جولد سمث» قصته «راعي ويكفيلد»، وهي المقدمة التي يوجه فيها الكاتب العظيم رجاءه الضارع إلى قارئ قصته والتي هي رائعة من روائع الأدب الإنجليزي، بأن يحاسبه القارئ على أساس ما قد أصاب فيه، قبل أن يحاسبه على ما أخطأ فيه.
أقول ذلك لأمهد به لما سوف أعرضه عن عظيم الأدب العربي الجبار، أبي العلاء المعري. فلئن لم يكن في الأدب العربي شاعر سواه، لحق لنا - نحن العرب - أن نفاخر به وحده آداب العالمين. ولقد سمعت العقاد ذات يوم يقول - والعقاد هو من هو في نقد الشعر - سمعته يقول عن قصيدة أبي العلاء «غير مجد في ملتي واعتقادي»: إنها أعظم ما عرفه شعر الدنيا قديمها وحديثها معا. وقد يكون في هذا الرأي شيء من الإسراف، لكنه برغم ذلك رأي لا يخلو من صواب.
وأقول بعد هذا التمهيد، إن لأبي العلاء المعري من التصورات، ما أقف إزاءها متسائلا: أحقا قال المعري ذلك؟ ومصدر تساؤلي هو الخطأ الواضح الذي أراه، ما يبعد به عن أن يكون من أقوال المعري صاحب البصيرة النافذة. ومن أمثلة ذلك بيت الشعر المشهور الذي ينسب إليه والذي يضاد فيه بين «العقل» و«الدين» إلى الحد الذي يفصل عنده بين رجل يحتكم إلى عقله، وآخر يحتكم إلى دينه، كأنما هما رجلان لا يلتقيان! وعلى ذلك فالناس في رأيه مجموعتان؛ إحداهما يغلب عليها «العقل» وإذن فهي بغير دين، والأخرى يغلب عليها الدين وإذن فهي بغير عقل:
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دين وآخر دين لا عقل له
وسؤالي الآن هو: هل هما اثنان أهل الأرض حقا، كما قال المعري؟
الخطأ في رأيي واضح، ولو كان هذا الخطأ مقصورا على المعري، لقلنا إنه شاعر أراد أن يجعل التضاد بين الجانبين حادا ليبرز الفرق أمام الأبصار، وقد لا يكون في حقيقة أمره مقتصرا في هذا الانقسام الفاصل بين الطرفين.
لكنه خطأ عميق الجذور واسع الانتشار، ودليل ذلك تلك الكراهية الشديدة التي ما ينفك جمهور الناس يبذرونها، إذا ما ذكر أمامهم تمجيد للعقل أو تعظيم للعلم الذي هو وليد العقل. لا فرق في هذه الكراهية العجيبة بين عامة الناس وبين من يسمون بجماعة المثقفين .
أقول إن الخطأ في رأيي واضح من عدة وجوه أولها وأهمها (من وجهة نظري) أن حقيقة الأمر الواقع ليست قسمة الطرفين - أعني العقل والدين - بين أهل الأرض؛ بحيث إذا ظفر أحدهم بنصيبه من العقل، ضاع عليه نصيبه من الدين أو العكس، إذا جاء نصيب أحدهم دينا فقد ضاع منه نصيبه من العقل. بل الصواب هو أن هذين الطرفين مهما يكن بينهما من تباين في الجوهر وفي المنهج؛ فهما يلتقيان معا في كل فرد من الناس. فكل إنسان عقل ودين معا، ثم يجيء الاختلاف بين الناس في الدرجة وحدها؛ فهناك من يقوى عنده جانب العقل ويضعف جانب الدين، وهناك من يقوى عنده جانب الدين ويضعف جانب العقل، وهنالك من يقوى عنده الجانبان معا، وهنالك من يضعف عنده الجانبان معا.
تلك واحدة، والأخرى هي أنه برغم اعترافنا بأن الدين قوامه «الإيمان» لا براهين المنطق العقلي، إلا أن ذلك لا ينفي إمكان إقامة تلك البراهين العقلية على صحة عقيدة دينية، من ناحية المنطق، بالإضافة إلى صحتها من زاوية الإيمان. وقصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، هي من آيات الفكر العربي، وخلاصتها أن ما يصل إليه العقل الصرف بالنسبة للعالم المحيط بنا إنما هو نفسه الذي نزل به الوحي فقبلناه إيمانا.
وثالثا، إن جانب الدين عند الإنسان - عقيدة وشريعة معا - هو دائما ميدان يعمل فيه الإنسان عقله ليستخرج منه النتائج التي تنظم له حياته العملية. ولو كان العقل والدين عنصرين متنافرين، يأبيان أن يجتمعا معا في صدر إنسان واحد، لما أمكن لأحدهما أن يقام على الآخر، كالذي نراه حين يقام فقه الدين على منطق العقل.
إنني لو كنت لأصحح القول المنسوب لأبي العلاء: «اثنان أهل الأرض ...» لقلت: جانبان قوام كل إنسان، عقل ودين معا.
طبقات ثقافية
هن طبقات ثقافية ثلاث، لست أدري كيف يمكن أن يضاف إليهن رابعة. كلا، ولا كيف تحذف منهن واحدة. فقولوا ما شئتم في دمج الناس جميعا في طبقة واحدة، في ميادين الاقتصاد، والاجتماع، ومن حيث الحقوق والواجبات، أقل لكم : إلا الحياة الثقافية، فقد أراد لها الله أن تتفاوت أقدارها في تلك الطبقات الثلاث.
أولاها، وأعلاها، طبقة يغلب أن تكون قليلة العدد جدا بالقياس إلى جمهور الناس، يميزها أنها تتعاقب الأفكار إلى مقوماتها الداخلية جزءا جزءا، ولا تطمئن لها نفس إلا إذا قام على كل فكرة برهانها؛ فهي جماعة ترفض أن يقال لها عن فكرة - كائنة ما كانت - إنها «بديهية» تفرض نفسها على العقل فرضا، أو إنها معصومة عن الخطأ لأي سبب من الأسباب. فإما أن يقام على الفكرة برهانها، وإما أن تنحى حتى يأتيها ذلك البرهان. وما البرهان؟ البرهان المطلوب هو أن ترد الفكرة إلى مصدرها، ثم ترد ذلك المصدر نفسه إلى مصدره، وهكذا دواليك، إلى أن يبلغ بها آخر شوطها؛ وعندئذ ستجد نفسك في إحدى حالتين: فإما أن تجد أن آخر الشوط إنما هو مجرد فرض فرضناه، وها هنا تعلم أن السلسلة كلها ظنون في ظنون، وإما أن تجد أن آخر الشوط هو لقطة بإحدى الحواس من ظواهر الكون المحيط بنا؛ وعندئذ تعلم أن الأفكار التي بين يديك هي من ذوات المضمون الحقيقي الذي يجوز الركون إليه في دنيا العمل.
تلك - إذن - هي عليا الطبقات الثقافية الثلاث، وأما الطبقة التي تتلوها فجماعة تقف من الأمر موقفا وسطا، فلا هي تتعنت في طلب البراهين العقلية على كل شيء، ولا هي في الوقت نفسه تقبل أن تمضي المشكلة المعروضة بغير برهان. ولكن كيف؟ إن ذلك الموقف الوسط يتحقق لها على الوجه التالي: تقول لها - مثلا - كلمة «عدالة» أو كلمة «حرية» أو ما شئت من هذه المجموعة الضخمة من المعاني، التي لا هي في دقة المصطلحات العلمية من جهة، ولا هي من كلمات الحياة العملية اليومية الجارية، من جهة أخرى. والعجيب في أمر هذه المجموعة من المعاني، أنها هي التي تكون عادة مصدر اعتراك واقتتال وتعصب وتحزب بين الناس. أقول: إنك تذكر معنى من هذه المعاني لأفراد الطبقة الثقافية الثانية، فيكاد يستحيل عليهم أن يسألوا: ما معناه؟ إذ هم يأخذون اللفظة مأخذ التسليم بأن معناها معروف، ولا محل للسؤال. ومن ذا يريد أن يسأل - من أفراد هذه الطبقة - إن كان للمساواة، أو للعدالة، معنى محدد أو لم يكن؟ هم - إذن - يقبلون الأمر قبولا لا يحيط به شك، لكن الذي يطالبون به هو ما إذا كان موقف معين، أو حالة بذاتها، مما يكفل للناس تلك المساواة أو العدالة. كأنما الشك عندهم منحصر في عملية التطبيق وحدها، لا في مضمون المعنى الذي يراد تطبيقه. ومن هنا تأتي الخلافات الحادة بين الناس في هذه الميادين، فتراهم يقتتلون فيما بينهم عن «الحرية» - مثلا - أو عن «الديمقراطية» دون أن يكون في مستطاع أحد منهم أن يحدد لك معنى هذا الذي يقاتل في سبيله.
وأما الطبقة الثقافية الثالثة فهي عامة الجمهور، التي كفاها الله شر السؤال وشر القتال؛ فلقد أراح أبناؤها أنفسهم من وجع الدماغ، فلا هم يريدون برهانا على الفكرة الأصلية، ولا هم يريدون برهانا على سلامة تطبيقها.
وعلى هذا الضوء اقرأ الآية الكريمة:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، ففيها إشارة إلى الوسائل الإقناعية الثلاث، التي تصلح للطبقات الثقافية الثلاث، كل بحسب استعداده وقدرته، وتلك الوسائل الثلاث هي: الحكمة، والجدل، والموعظة.
والحكمة هي طريق البرهان العقلي من المبدأ إلى المنتهى. والجدل هو التسليم بالمبدأ ثم طلب البرهان على المنتهى؛ أي على نتيجة معينة إنما تولدت عن ذلك المبدأ المسلم به، وأما الموعظة فهي تلجأ إلى التأثير بطريقة الخطابة وضرب الأمثلة، دون اللجوء إلى برهان عقلي يقام.
وإن نصيب أمة من التقدم الثقافي، يقاس بالنسبة العددية بين هذه الطبقات الثلاث. فإذا كثرت الفئة التي تصر على تحليل الأفكار الأساسية المتداولة، تحليلا يبين على وجه الدقة مضموناتها، ومصادر تلك المضمونات، كانت الأمة على درجة رفيعة من الوعي الثقافي. وأما إذا كثرت فئة الطرف الأدنى، وأعني أولئك الذين لا يؤرقهم أن يأخذوا المعاني في جملتها، بغير تطلع إلى تحديد محتواها الفكري، ومع ذلك تراهم يشقون حناجرهم بالهتاف لها أو ضدها، بل هم قد يسفكون دماءهم سفكا على معان لا يعرفون من حقائقها كثيرا ولا قليلا؛ أقول إنه إذا كثر في الأمة أمثال هؤلاء، كانت الأمة على درجة متواضعة من الوعي الثقافي. وبين الدرجتين: العليا والدنيا، درجة وسطى.
وإني لأتردد أن أذكر هنا ما يستطيع كل قارئ أن يلحظه في الأمة العربية بصورتها الراهنة، وهو: كم تكون النسبة العددية يا ترى بين هذه الطبقات الثقافية الثلاث؟!
حدود التسامح
منذ نيف وثلاثين عاما (1949م على وجه التحديد) طلبت مني الإدارة الثقافية بالجامعة العربية أن أضع تصوري للثقافة العربية المعاصرة، ما أركانها؟ وكان ذلك التصور مطلوبا بمناسبة مؤتمر ثقافي عربي انعقد عامئذ، وقد أريد له به أن يجمع مع مجموعة من الآراء في مجلد واحد.
وأذكر أنني أدرت فكرتي حول محور التوفيق بين العقل والحرية؛ فمن أبرز ملامح عصرنا أن للعلم الطبيعي المرتكز على أجهزة، مكانة عليا ومكانا فسيحا. والعلم قوامه منهج العقل بمنطقه الملزم، الذي لا يدع أمام الناس حرية في اختيار النتائج. وكيف يكون لنا اختيار والنتائج هي ما تنطق به الطبيعة ذاتها، حين أجبرناها على الإفصاح ببعض سرها؟ فلما شعر إنسان العصر بهذا القيد الملزم يثقل على صدره شيئا فشيئا؛ وذلك لأن تجارب العلم جاوزت ظواهر الطبيعة الجامدة إلى ظاهرة الحياة الإنسانية نفسها؛ أقول إن إنسان العصر حين شعر بقيد الحقائق العلمية تكتم أنفاسه، التمس حريته في مجال آخر، هو مجال الفنون ومجال القيم بصفة عامة، فترك لنفسه عنانها تضع الألوان والخطوط كما شاء له الهوى، وترص ألفاظ القصيدة من الشعر بلا ضوابط إلا ضوابط الشاعر الفرد، وهكذا. فإذا أرادت الثقافة العربية أن تعايش عصرها كان عليها أن تقسم نفسها بين علم يلتزم الحق الموضعي الذي لا اختيار فيه، وفن تطلق فيه الحرية الفردية لتبدع ما وسعها الإبداع، فلا يبقى علينا إلا أن نرسم الحدود الفواصل بين ما يخضع للقيد في مجال العلم، وما لا يخضع له بنفس المعنى في مجال الفنون.
والأمر في هذا التوفيق العصري بين ما يستلزم قيود العقل وما تباح فيه حرية المذهب والمزاج شبيه من حيث الشكل بالأمر في التوفيق الذي لجأ إليه أسلافنا العرب، عندما واجهوا ثقافة قوامها «عقل» جاءتهم من أوروبا أيضا (من اليونان) في صورة فلسفة وعلم، فأخذوا يوفقون بين نتاج العقل كما جاء إليهم، وبين الشريعة الموحى بها، أو هم حاولوا التوفيق بين العقل والنقل كما كانوا يقولون بمعنى أن يحاولوا قراءة كل من شريعة الإسلام وحكمة اليونان الواحدة بلغة الأخرى.
ولكن خطرة جديدة قد ألحت علي منذ حين، عندما وثبت إلى ذاكرتي تلك المشابهة الشكلية بيننا اليوم وبين أسلافنا؛ لأنه وإن كان مبدأ التوفيق بين طرفين، أحدهما «العقل» في الحالتين، هو حكم الموقف الثقافي عندنا اليوم وعند آبائنا في الماضي البعيد، إلا أنني رأيت فارقا جوهريا بيننا وبينهم، في سماحة صدورهم لاختلاف وجهات النظر، وفي ضيق صدورنا حتى لا تسمع إلا وجهة واحدة.
ولم يدعني هذا الخاطر الملح عن الفارق بين حاضرنا وماضينا، من حيث روح التعصب التي تستبد بحاضرنا، والتسامح الذي تميز به ماضينا؛ أقول إن الخاطر الملح لم يدعني حتى أتناول مفهوم «التسامح» بشيء من التحليل والتحديد، لكي تكون المقارنة أكثر وضوحا. فلم ألبث أن وجدت المفتاح في التفرقة - أو في الخلط - بين ما «يجب» قبوله في عالم الفكر وما «يجوز» رفضه أو قبوله؛ فبينما عرف الأقدمون كيف يفرقون بين المجالين، فكان لهم ما كان من التسامح، امتنعت علينا هذه القدرة اليوم، فحسبنا واجبا ما هو جائز، وجائزا ما هو واجب، فنتج لنا عن هذا الخلط ما نتج من تعصب وتطرف.
ولو اهتدينا إلى ما اهتدى إليه الأقدمون، لفرقنا بادئ ذي بدء بين ما هو «علم» وما هو «رأي». فأما الأول فملزم للجميع إلزاما لا مجال فيه لحرية الاختيار بين قبول ورفض. وأما الثاني فلكل أن يختار الزاوية التي ينظر منها ليكون له «رأي» أو «رؤية». في الحالة الأولى لا يتعدد الحق، فإذا صح حكم علمي معين، وجب أن يبطل كل حكم علمي يناقضه؛ كأن يصح الحكم بأن الأرض كروية الشكل، فلا يجوز لأحد أن «يختار» لنفسه القول بأنها مسطحة. وأما في الحالة الثانية فقد تختلف الآراء باختلاف المواقف واختلاف الثقافات، وليس من حق موقف ثقافي معين أن يكون حجة على موقف ثقافي آخر. فإذا اختار أديب أو فنان في بلد أوروبي شكلا خاصا لأدبه أو فنه، اختار أديب أو فنان عربي شكلا آخر؛ فليس أحدهما حجة على الثاني.
إلى هنا وأحسب أن الأمر واضح لا إشكال فيه، لكن ينشأ الإشكال الصعب حقا، حين نجد بين أيدينا موقفا نحس إزاءه بالإلزام وبالحرية في آن واحد؛ فهنالك في مجال الرأي درجات، يهبط بعضها إلى أن يكون لكل فرد حريته في الاختيار، كألوان الثياب التي يرتديها وصنوف الطعام التي يشتهيها، ولكن بعض تلك الدرجات قد يعلو حتى ليكاد يكون له وجوب المعرفة العلمية، مع أنه ليس منها، وذلك حين يدور الرأي حول «قيمة» عليا من القيم التي تواضع المجتمع على أن تكون ركائزه التي يعتمد عليها في قيامه واستمرار وجوده؛ فمثلا - بالنسبة للعربي - هل يجوز له أن يعبث باللغة العربية في أصولها وقواعدها وروحها؟ جوابي هو بالنفي القاطع، لا لأنه قانون من قوانين الفيزياء والكيمياء واجب الأخذ به، بل لأنه «قيمة» قومية عليا، بغيرها لا يكون عرب ولا عروبة. لكن قارن ذلك بسؤال آخر: هل يجوز للفنان العربي أن يشيد عمارته على غير الطراز العربي؟ جوابي هو بالإيجاب؛ لأن «القيمة» هنا تقع في مجال الاختيار.
حيث تكون الفكرة علمية واجبة القبول، يقع على صاحبها أن يؤيدها بالدليل العلمي الذي لا يبقي للشك مجالا. وأما حيث يكون الأمر «رأيا» أو جهة نظر من شأن من شئون الحياة، فها هنا يجوز الرفض ويجوز القبول. مع اعترافنا أن مجال الرأي ليس كله على درجة سواء؛ ففيه ما يوشك أن يكون قبوله وجوبا (داخل الأمة الواحدة) وفيه ما يقبل التفاوت بين الأفراد.
والطريق إلى روح التسامح في حياتنا، هو ما أن نميز بين ما يجب وما يجوز، فلا نضع أحدهما في موضع الآخر.
قسمة الحظوظ
حدثني صاحبي فقال : بينما كنت في الصيدلية واقفا أنتظر إعداد الدواء، غمرتني موجة من يأس مميت؛ وذلك أني نظرت خلال زجاج الباب إلى الشارع المزدحم بالسائرين، مشاة وراكبين، فتذكرت أعواما كنت فيها أخوض في زحمة الناس وحدي، قائدا لسيارتي مرة وماشيا مع المشاة مرات، ثم همست لنفسي قائلا: هل ترى أحدا من هؤلاء الألوف الذين يزحمون الطريق أصيبت عيناه بمثل ما أصاب عينيك؟ لكن هذه الهمسة لم تكد تبلغ آخر حروفها حتى دخل الصيدلية رجل علق عصاه البيضاء على مرفق ذراعه اليمنى، ومد ذراعيه متوازيين أمامه، يتحسس بهما الطريق داخل المكان، خشية أن يصطدم بشيء لا يراه.
ومضى صاحبي في روايته يقول: وعندئذ همست لنفسي مرة أخرى: يا سبحان الله! أبمثل هذه السرعة ترسل إلي السماء جوابا عن سؤالي؟ وعندئذ أيضا تذكرت بيتين لشاعر عربي قديم، يذكر فيها تفاوت الناس في الحظوظ، ضاربا لهذا التفاوت مثلا درجات الأبصار؛ ففيهم الأعمى الذي يقف من الإبصار عند درجة الصفر، وفيهم من يقف بين العمى والبصر عند درجة العشى، وفيهم من اكتمل عنده البصر سليما، وفيهم فوق هذا من هو ذو بصر حديد، يجاوز به الحدود القصوى إلى ما هو أبعد منها، وهاك ذينك البيتين اللذين قالهما الشاعر القديم:
سبحان من قسم الحظو
ظ فلا عتاب ولا ملامة
أعمى وأعشى، ثم ذو
بصر، وزرقاء اليمامة
وزفر صاحبي زفرة حرى، وقال: أبعد تلك القيود التي يفرضها علينا القدر، حظوظا مقسومة لنا، لا دخل لنا في قسمتها ولا إرادة، نسمع بين القائلين من يزعم للإنسان حرية يختار بها ما يريد وينبذ ما لا يريد؟
فوجدتني أسرع من البرق في رد صاحبي إلى صوابه، قائلا: لا، يا أخي، لا تخلط الأمور بعضها في بعض، كما يفعل معظم الناس، فلقد ضربت على الناس حدود، هذا صحيح، ولكنه صحيح كذلك أن الناس أحرار دخل تلك الحدود، فيما يفعلون وما يتركون. ولست أدري لماذا تميل بنا ثقافتنا - نحن العرب - نحو رؤية القيود التي تحدد خطانا، والتغافل عن المجال الفسيح الذي تركت لنا فيه حرية الفعل بلا حدود؟ اسمع يا صاحبي:
سأضرب لك مثلين يوضحان ألا تعارض بين قيود تفرض علينا، وحرية يحدها شيء داخل تلك القيود، وعلى هذا المجال الحر وحده، يكون الحكم على الأفراد بأنهم أحسنوا صنعا أو أساءوا. المثل الأول هو لعبة كرة القدم (أو أية لعبة تشاء) فهنالك قواعد فرضت على اللاعبين قبل البدء في اللعب، لا حيلة لهم فيها إلا أن يلزموا حدودها. وأما داخل حدود القواعد فلهم ما أرادوا من حركة ووقوف وقذف للكرة بأقدامهم هنا أو هناك، إلى قريب أو إلى بعيد. ثم يأتي حساب الفوز والهزيمة بناء على تصرفهم في ذلك المجال الحر.
والمثل الثاني الذي أسوقه للتوضيح، هو اللغة؛ فها هنا كذلك نتلقى لغتنا مقيدة بطائفة من قواعد تقيد استعمالنا إياها، فلا حيلة لنا إزاء تلك القواعد إلا قبولها ثم التصرف في حدودها؛ فليس لنا إلا أن نرفع الفاعل وننصب المفعول، وليس لنا إلا أن نرفع اسم كان وأخواتها وننصب الخبر، وأن نعكس هذا الترتيب بالنسبة إلى «أن» وأخواتها. لا، ولا اختيار لنا في أن نطلق اسم البقرة على القطة ولا فعل القيام على فعل القعود. فإذا كنت عربيا، فتلك هي لغتك بمفرداتها وقواعد تركيبهم أسلمها إليك الآباء لتسلمها بدورك للأبناء سليمة القواعد، نامية المفردات بقدر ما تنمو الحياة، لكن مفرداتها تظل على معانيها، وإلا لبطل أن يفهم حاضرون عن سابقين. قيود من قواعد مفروضة - كما ترى - وحدود من مفردات تحددت لها معانيها، ولكن هل يعني هذا أن حرية العربية قد انمحت؟ إن كل جملة ينطق بها عربي، منذ أول التاريخ إلى آخره، وفي كل رقعة من الأرض نطقت بلسان عربي، إنما هي برهان على أن الناطق بتلك الجملة قد مارس حريته إلى أقصاها في اختياره لما أراد من كلمات، ثم في تركيب تلك الكلمات على أي صورة شاء، داخل حدود القواعد. ولولا هذه الحرية في استخدام اللغة عند أبنائها، لما تفاوتت درجاتهم في جودة الصياغة، تفاوتا قد يعلو حتى نصبح أمام البحتري والمتنبي وأبي العلاء، وقد يهبط حتى نصبح أمام تخليط المجانين!
حرية الإرادة عند الإنسان - يا صاحبي - لا تتعارض مع قيود مقسومة لنا ومفروضة علينا، لا، بل إنها لتقتضي حتما أن يكون هنالك قيود، وإلا لاستحال علينا فهم الحرية كما ينبغي لها أن تفهم. لماذا؟ لأنك لا تستطيع أن تعامل إنسانا - كائنا من كان - في حياتك اليومية، إلا إذا كان لديك فرض مسبق، بأن ذلك الإنسان متماسك الشخصية، لا يتخبط في فعله ولا يهذي في لفظه. فإذا سألته سؤالا، وتوقعت منه أن يجيب وإذا نطق لك بالجواب، توقعت أنه يعني بالألفاظ معانيها المتعارف عليها، وإذا أعطاك هو سلعة توقع منك أن تدفع الثمن، وهكذا وهكذا. إنك إذا قرأت كتابا، كان المفروض عندك أن الرموز المرقومة على صفحاته، قد أراد لها مؤلف الكتاب أن تشير إلى المعاني نفسها التي تعلمت أنت في المدرسة أن تلك الرموز قد اصطلح عليها لتعيها. وإذن فلولا قيود وضعناها لأنفسنا في التعامل بكل أبعاده، لما كان في مستطاع أحد أن يعامل أحدا، أو أن يفهم عن أحد.
وإذا كانت العلاقة بين القيود والحرية بهذا الوضوح، فلماذا لبث السؤال مطروحا بين المفكرين وأبناء السبيل على حد سواء، وهو سؤال يسألون أنفسهم به: هل الإنسان مجبر الإرادة أو حر الإرادة؟ فأقول: إن السر في قيام السؤال يتحدانا طوال القرون بلا جواب يحسم الأمر، هو خلط خلطنا به بين «الروابط السببية» من جهة، والإلزام أو الإجبار أو القهر من جهة أخرى؛ فلا حرية لإرادة الإنسان إلا إذا كان ذا شخصية متماسكة الأفعال والأقوال بالروابط السببية التي تتيح للآخرين أن يتعاملوا معه وأن يتفاهموا، على أساس ما يتوقعونه، ولكن حرية الإنسان فيما يختار أو يترك تذهب كلها مع الهباء إذا جاءه الإجبار من خارجه، حتى وهو على الأرض المباحة له داخل الأسوار.
فلا عيب يا صاحبي، في حظوظ تقسم لنا، وتفرض علينا، لنكون بعد ذلك أحرار الإرادة داخل حدودها، لكن العيب هو في أن تقسم تلك الحظوظ، ثم يجيء من يفرض علينا أفعالا وأقوالا داخل حدودها، فنخسر الجلد والسقط كما يقال.
الكتاب أولا، والكتاب آخرا
الوسائل الثقافية كثيرة ومنوعة، ولكل منها خصائصها المميزة، التي قد يصدق عليها ما لا يصدق على سواها، برغم أنها جميعا تنخرط في حياة ثقافية واحدة وموحدة، كما تنخرط الخيوط المتعددة الألوان في رقعة واحدة من النسيج؛ فقد يقال عن الألحان في الموسيقى ما لا يقال عن الألوان في التصوير، أو عن الكلمات في التعبير الأدبي، ولكن تباين هذه الوسائل لا يمنع أن تكون جميعها أجزاء متكاملة في كيان واحد، هو الكيان الثقافي عند شعب من الشعوب.
على أن هذه الوسائل الثقافية - رغم تكاملها إحداها مع الأخريات - فهي ليست متساوية في أقدارها من حيث سعة الانتشار وعمق الأثر. وليس من شك في أن أداة «الكلمة» قد كانت في المقدمة بين سائر الأدوات، سعة انتشار وعمق وتأثير، وربما ساعدها على ذلك، أنها تجمع في طبيعتها كل الطبائع الموزعة على الوسائل الأخرى؛ ففيها النغم، وفيها التصوير، أو بعبارة أخرى هي تجمع بين فن التعبير وفن التشكيل في آن معا.
ولشرح ذلك أقول: إن العمل الفني - على إطلاقه - إما أن يكون ذا طبيعة زمنية؛ بمعنى أن القطعة الفنية لا بد لها أن يمتد استعراضها لدى المتلقي فترة زمنية معينة، كالمعزوفة الموسيقية، أو قصيدة الشعر أو الرواية، أو المسرحية؛ فهذه كلها أشياء لا تكفيها لحظة زمنية خاطفة، ليلم المتلقي بكل أجزائها دفعة واحدة، بل لا بد لها من فترة تمضي منذ يبدأ سماعها أو مشاهدتها إلى أن ينتهي. وإما أن يكون العمل الفني ذا طبيعة «مكانية»، وذلك عندما يكون معروضا كلية دفعة واحدة في رقعة مكانية واحدة، وعندئذ تكفيه اللحظة من المتلقي ليعلم كل ما هنالك، حتى ولو احتاج بعد ذلك إلى تحليل العناصر المكونة لها تحليلا متأنيا، وذلك هو الموقف بالنسبة إلى صورة، أو تمثال. ولقد اصطلحنا على أن نطلق على العمل الفني ذي الطبيعة الزمنية اسم «الفن التعبيري»، وعلى العمل الفني ذي الطبيعة المكانية اسم «الفن التشكيلي».
وكل وسيلة من الوسائل الثقافية إما تقع في مجال التعبير أو في مجال التشكيل، إلا «الكلمة» فهي تشكيل وتعبير معا، أو قل إنها مكانية وزمانية معا، مما يجعلها - كما أسلفنا - أوسع الوسائل انتشارا وأعمقها أثرا؛ فقد يسبق إلى وهم المتسرع، بأن الكلمة الواحدة المعينة، مثل قولنا «نهر» أو «صحراء» أو أية لفظة شئت، إنما هي كائن واحد في عالم الواقع، ذو شكل واحد وهوية واحدة، ولكن وقفة قصيرة من النظر والتحليل تظهر لنا فروقا شاسعة بين صور أربع في حياة الكلمة التي عددها واحدة؛ فهي في صورتها «المنطوقة» مصنوعة من موجات يهتز بها الهواء، وفي صورتها «المسموعة» ذبذبات في جهاز السمع، وفي صورتها «المكتوبة» كتلة من مادة - كالمداد أو الرصاص أو الطباشير - كأية كتلة مادية أخرى في الطبيعة، ثم هي في صورتها «المقروءة» ذبذبات في جهاز الإبصار. وواضح أن لكل من هذه الصور مميزاتها الخاصة. على أن هذه الصور الأربع - عادة - تقترن معا اثنتين اثنتين. فإذا كانت «منطوقة - مسموعة» كانت أدخل في مجال التعبير ذي الطبيعة الزمنية. وأما إذا كانت «مكتوبة - مقروءة» فهي عندئذ أدخل في مجال الفن التشكيلي ذي الطبيعة المكانية.
نقول هذا كله ليتهيأ به ذهن القارئ للمقارنة التي نجريها بين حياة الإنسان الثقافية عندما تكون وسيلتها الأولى هي «الكتاب»، وتلك الحياة عندما تكون وسيلتها الأولى إذاعة بالصوت وحده، أو بالصوت والصورة المرئية معا. ولماذا نقارن؟ لأن بيننا اليوم من أخذ يتساءل فيم عناء الكتابة والقراءة في عصر أصبحت فيه أشرطة التسجيل الصوتي بهذا اليسر كله وهذا الشيوع كله؟ فأجيبهم أنا كاتب هذه السطور بأنه لا ثقافة إلا إذا كان كتاب، أعني إلا إذا كانت كتابة وقراءة. لماذا؟
لأننا ننظر في حياة الناس الثقافية كلها، فلا نكاد نرى موقفا واحدا لا يتضمن الكتاب (أو قل «الكتابة») بطريق غير مباشر حتى وسائل التسجيل الصوتي نفسها، يندر جدا ألا تكون مسبوقة بنص مكتوب، قرأه قارئ ليتم التسجيل الصوتي. يضاف إلى ذلك أن عملية الكتابة والقراءة منطوية على خصائص ذات أثر في التكوين الثقافي ، مما نستحيل أن يتحقق لو اكتفينا بالصوت المسموع وحده؛ وذلك لأن العملية الرمزية التي تؤديها الحروف والكلمات والجمل - عندما تكون مكتوبة ثم مقروءة - تتضمن حركة عقلية لا تتوافر للإنسان إلا وهو في درجة عليا من درجات النماء والتطور. وأما الصوت وسماعه، في قدرة الطفل منذ العام الأول بل هي قدرة في طبيعة الحيوان. وحين يقول القائلون عن الإنسان إنه يتميز دون سائر الحيوان باستخدامه للرموز، فهم إنما يعنون رموز اللغة أول ما يعنون، ثم هم يشيرون في تلك الرموز اللغوية إلى الرموز المكتوبة المقروءة أول ما يشيرون؛ وذلك لأن عملية الكتابة (فالقراءة) فيها من التحليل والتركيب أكثر جدا مما تتضمنه من ذلك عملية النطق (فالسمع) ففي وسع الطفل ذي العامين أن يسمع جملة كاملة ثم ينطق بها دفعة واحدة، مع أن هذه الجملة نفسها لا تستطاع كتابتها إلا بعد إدراك تحليلي لكلماتها وحروفها؛ أي إنه لا بد من معرفة الأجزاء الأولية وطرائق تركيبها.
ونضيف إلى فاعلية العقل في عملية التحليل والتركيب أثناء الكتابة والقراءة فاعلية أخرى ليس لها ما يوازيها في التلقي عن طريق السمع إلا إلى حد ضئيل، وأعني بها ذلك الحوار الصامت الذي ينشأ بين القارئ والكاتب. وأما في حالة الاستماع إلى الإذاعة، فالسامع أقرب إلى واقف مر به قطار، أطل من نافذته راكب يتكلم، فإما سمعه ووعاه، وإما ضاعت منه الفرصة إلى الأبد.
ولم أقل شيئا عن المادة العلمية حين تكون متصلة ومستفيضة، وحين تكون مكتوبة في أرقام ومعادلات وإحصاءات وخرائط، وحين يكون الموضوع عن فن التصوير والنحت والعمارة، وحين يكون الكتاب معجما أو موسوعة أو أي مرجع آخر نلجأ إليه حينا بعد حين ... ولو كانت ثقافات الأقدمين في شرائط صوتية لا مدونة في كتب، فهل كان يمكن إحياؤها؟ إلا أن الكتاب الكريم «قرآن» وأولى آياته:
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم ... .
فلسفة الشهادة
شهادة ألا إله إلا الله هي الأصل الثابت في حياتنا الثقافية. الأصل الذي تتفرع عنه الفروع متداخلة متشابكة، هي من الشجرة العقلية بمثابة الجذع وجذوره، ثم تنبت الغصون وتنمو وتورق متجهة هنا وهناك ... إننا في عشرات السنين الأخيرة لم نفتأ باحثين عن هويتنا الفكرية حتى لا تبعثرنا عواصف العصر هباء ذات اليمين وذات اليسار. وتعددت محاولات أصحاب الرأي منا وكثرت فيها المنازعات كأنما نحن أمة شهدت النور لأول مرة بالأمس القريب. وأحسب أننا لو وقفنا بالنظر عند التفصيلات لظللنا ألف عام نبحث عن الهوية المستترة بغير جدوى؛ فالتفصيلات البادية على سطح الحياة الفكرية أشتات مفرقة لا تهدينا الهداية الواضحة إلى حقيقة نفوسنا. ويحتاج الأمر إلى جليل يضم هذه الأشتات المفرقة في وحدة واحدة تضمها معا، تكون لها بمنزلة الأم الولود، التي تنبثق من جوفها كثرة تبدو مختلفة العناصر فيما بينها، مع أنها كثرة يرتبط أفرادها بما ورثته عن أصلها الواحد، وما أصلها الواحد ذلك إلا شهادة ألا إله إلا الله.
فهي شهادة تدل - بين ما تدل عليه - على ثلاثة أركان دفعة واحدة، تكفي وحدها لإقامة هيكل ثقافي كامل، لو كسوناه لحما لأصبح حياة فكرية تحمل طابعا يميزها عن كثير مما عداها؛ فهي تدل على ذات إلهية مشهودة، وذات إنسانية شاهدة، ومجموعة من أفراد الناس تتم الشهادة في حضورهم. وعلى هذه الأركان الثلاث تترتب نتائج كثيرة من شأنها أن تتحد معالم الهوية الفكرية التي هي نحن على حقيقتنا الموروثة جيلا بعد جيل.
ليست العبرة هنا بلفظ ننطق به ويمكن أن ينطق به شريط مسجل عليه اللفظ ودارت به آلة التسجيل، ولكن العبرة هي في أن يتحول لفظ «الشهادة» إلى عالم من المعاني الحية نعيشها بعقول مدركة؛ فلو أننا جعلنا من كلمات الشهادة أبوابا نفتحها لندخل في الرحاب الفسيحة التي وراءها، لألفينا أنفسنا في تيار دافق من معان تتضافر وتتسق حتى ينشأ من دعائمها بناء فكري كامل متفرد بخصائصه. وعندئذ يتاح لنا أن نقول: هذا بيتنا الذي ينبغي أن نعيش في كنفه. فإذا نحن بين أهل الأرض أصحاب بيت أصيل.
قلنا إن شهادة ألا إله إلا الله تنكشف عن أركان ثلاثة على الأقل؛ أولها الذات الإلهية التي نشهد أن ليس ثمة من آلهة سواها. ولا تكاد تفتح هذا الباب حتى تجد نفسك أمام صفات كثيرة، هي صفات تلك الذات الإلهية التي نشهد بوجودها وهي صفات من طبيعتها أن تتوحد في نسق واحد، وإلا لما كان الموصوف بها ذاتا واحدة. ولست أظن - في حدود علمي بهذا المجال، وهي حدود ضيقة على كل حال - لست أظن في حدود هذا العلم القليل أن قد ظهر من المسلمين مفكر حاول أن ينسق هذه الصفات تنسيقا يبين وحدتها بحيث يكون واضحا للرائي أين الصفة الأشمل التي تتضمن سواها وأين الصفة الأخص والتي تجيء تفريعا عن غيرها. ولو قد كان بين أيدينا مثل هذا البناء المتسق لوجدنا أمامنا الخريطة السلوكية التي تميز المسلم وتحدد طابعه الأصيل. إننا - حتى صغارنا - نحفظ عن ظهر قلب أسماء الله الحسنى، ولكننا نسردها سردا، فتكون كل منها كالحبة المفردة. أما كل قيمتها الذاتية ففي توجيه السلوك، لكنها لا ترتبط مع غيرها بالرباط العضوي الذي يجعلها جميعا هرما واحدا من القيم العليا التي تصدر عنها حياة خلقية موحدة.
إننا نجد عند بعض الأقدمين - كالإمام الغزالي مثلا في «إحياء علوم الدين» - فرزا لهذه الصفات، واستخراجا لسبعة منها، يجعلها بالنسبة لغيرها صفات إيجابية ويقول إنها هي صفات الذات الإلهية، أو صفات «الثبوت» كأنما يريد أن يجعل بقية الصفات فروعا تنتج بالضرورة عن تلك الأصول. وتلك الصفات السبع عنده (وربما عند غيره كذلك) هي: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام ... على أن هذه نفسها، عند التحليل، يتبين أن بعضها يتضمن بعضها الآخر، فلا بد من صفة الحياة ليكون هنالك قدرة وإرادة وعلم، ولا بد للعلم بالشيء ولإرادة خلقه أن يجيئا لتجيء القدرة؛ أي جعل الشيء مقدرا بتقدير معين ...
إنني حين أشهد بوجود الذات الإلهية فإنني أشهد بذلك نفسه على ضرورة وجود العلم، والإرادة، والقدرة ... إلى آخر مجموعة الصفات التي تدل عليها أسماء الله الحسنى. وهذه المجموعة من الصفات هي لله تعالى على نحو مطلق بغير حدود، وهي كذلك للإنسان على نحو نسبي محدود؛ فلله تعالى العلم كله وللإنسان بعضه، ولله التقدير على إطلاقه وللإنسان تقدير محدود، وهكذا. ومعنى ذلك أن شهادة أن لا إله إلا الله هي بالتالي شهادة بضرورة أن تتحقق مجموعة من الصفات، بصورة كاملة في الإله وبصورة ناقصة في الإنسان؛ فمن لم يعمل على أن يكون في حياته عالما، مريدا، قديرا، مهيمنا، عزيزا، جبارا ... إلخ، كانت شهادته باللفظ دون المعنى.
وأما الركن الثاني الذي تتضمنه شهادة ألا إله إلا الله، فهو وجود الذات الإنسانية الشاهدة، وها هنا كذلك لا ينبغي أن نقنع بكلمة نلقيها في الحديث بغير حساب، بل لا بد من الوقوف المتأمل عند «الذات الإنسانية» هذه لترى متى يتحقق وجودها وكيف. إن أفراد الناس مهما تشابهوا في أبدانهم وفي طرائق سلوكهم، تشابها مكن العلماء من استخراج القوانين العلمية التي تتحقق في كل إنسان مهما يكن زمانه ومكانه؛ فمكن علماء الفسيولوجيا - مثلا - أن يحددوا أعضاء الجسم البشري ووظائفها، ومكن علماء النفس وعلماء الاجتماع من أن يصوغوا القوانين العلمية التي تحدد سلوك الإنسان فردا ومجتمعا؛ أقول إنه مهما يكن من أمر هذا التشابه أو التجانس بين أفراد الناس، فلن يكون الفرد الإنساني «ذاتا» إلا إذا بقيت له بقية يختلف بها عن جميع من عداه، وهي بقية لها كل الأهمية والخطورة لأنها هي التي تحدد هويته، وهي التي نعدها مسئولية أمام الله وأمام الناس. وهذا الجانب الفريد من كيان الإنسان هو الذي «يشهد» بألا إله إلا الله. وضيق المقام هنا يمنع من الإفاضة في هذه النقطة الجوهرية من طبيعة الإنسان، لكن لمسنا الإشارة السريعة بأن من شهادة ألا إله إلا الله تنبثق نظم اجتماعية وسياسية قوامها الاعتراف للأفراد بذوات مستقلة متفردة قائمة برءوسها.
ويبقى الركن الثالث المتضمن في «الشهادة»، وأعني به وجود الآخرين. ومرة ثالثة أقول إن الأمر لا يقتصر على لفظ نلفظه بالشفاه، بل لا بد أن يجاوز ذلك إلى معان نعيشها. وأترك لك تقدير الفرق الشاسع بين إنسان يتصرف كما لو لم يكن في الدنيا سواه، وإنسان يضع في اعتباره عند كل خطوة يخطوها وكل فعل يؤديه أن هنالك آخرين اعترف بهم ضمنا حين شهد ألا إله إلا الله. وهكذا تنشأ لنا عن أصل واحد ضرورات ثلاث؛ الحقيقة الدينية والفردية الإنسانية وروابط المجتمع.
خطان متعامدان نحو جامعة للشعوب الإسلامية والعربية
إنني في مجال الحديث عن جامعة الشعوب الإسلامية والعربية، لا أملك شيئا جديدا أضيفه، اللهم إلا توضيح الفواصل الغامضة بين الفكرتين؛ الإسلامية من جهة والعربية من جهة أخرى؛ فلقد صادفتني مواقف كثيرة، وجدت فيها ذاك الغموض شائعا على صور مختلفة، يحجب عن أصحاب النظر رؤيتهم الواضحة للجوانب الواصلة والجوانب الفاصلة بين الفكرتين؛ فكرة الوحدة الإسلامية وفكرة الوحدة العربية. وعلى غموض الرؤيا كثيرا ما يتولد غموض في خطوات العمل.
لا، لست أدعي في هذه الأسطر إضافة شيء جديد يغيب عن إدراك عامة الناس؛ فكل ما أبتغيه هو التوضيح، ويشجعني على ذلك مذهبي في أهم مهمة يضطلع بها الفكر، والفكر الفلسفي بصفة خاصة، والاتجاه التحليلي من ذلك الفكر الفلسفي بصفة أخص؛ أقول إن أهم مهمة يضطلع بها ذلك الفكر، هي أن يمسك مصباحا بيمناه، وعدسة مكبرة بيسراه، ثم ينظر إلى الأفكار الهامة المتداولة في أخطر مجالات الحياة، ليرى دقائقها الصغيرة، التي هي قمينة أن تفلت من أبصار الكثرة الغالبة، فيكون رجال الفكر في هذه الحالة بمثابة من أراد أن يرى في قطعة الخشب أليافها، أو من أراد أن يرى في الماء قد يتخيله الناس رائقا صافيا، ألوف الأعلاق والشوائب.
نعم، صادفتني مواقف كثيرة، رأيت فيها كيف تغمض الفواصل الفارقة، والروابط الواصلة بين المجالين ... الإسلامي والعربي؛ فقد كنت ذات عام قريب أحاضر طلاب الفلسفة في الملامح الرئيسية التي تميز بها الفكر العربي الحديث عند التقائه بالفلسفة الأوروبية إبان العشرات الأخيرة من القرن الماضي. وكان لا بد عندئذ أن نذكر جمال الدين الأفغاني وكتابه «الرد على الدهريين». ولم يكن الدهريون هناك إلا أصحاب مذاهب الفلسفة المادية في أوروبا خلال تلك الفترة. فسألني طالب قائلا: لماذا نتحدث عن الأفغاني وكتابه ، عندما يكون موضوع حديثنا هو الفكر العربي بعامة و«المصري» منه بخاصة؟ فاقتضاني الأمر عندئذ أن أوضح: متى يكون الفكر «الإسلامي» «عربيا» ومتى لا يكون؟ وأن الفكر الإسلامي في حالة الأفغاني هو في الوقت نفسه فكر عربي بالرغم من انتماء الأفغاني إلى أمة غير عربية.
وشيء كهذا حدث مرتين كنت في كل منهما ألقي محاضرة عامة في موضوع يتصل بفكرة العروبة فأجد من يوجه الأسئلة التي تدل على الخلط بين المجالين الإسلامي والعربي، لا بل إن المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق في كتابه الرائد «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» وجد من الضروري أن يبدأ بالنظر في مسألة أساسية هي ... أيكون الصواب تسميتها بالفلسفة «الإسلامية» أم تسميتها بالفلسفة «العربية»؟ وذلك لأن لكل من النظريتين أنصارا ومعارضين.
وكان أقرب ما حدث لي في هذا الصدد نقاش دار بيني وبين اساتذة أجلاء، على أثر محاضرة ألقيتها في المعهد المصري بلندن ذات يوم من صيف عام «1979م» وهنا أخذتني الدهشة عندما رأيت هؤلاء الأجلاء يجعلون من «الثقافة الإسلامية» و«الثقافة العربية» شيئا واحدا، ولم يستطيعوا قط أن يروا أن هاتين الثقافتين تتداخلان إحداهما في الأخرى لكنهما ليستا مترادفتين، بمعنى أن يكون جانب من الثقافة الإسلامية غير عربي، وجانب من الثقافة العربية غير إسلامي. إنهم لم يستطيعوا رؤية هذا الفارق. وكان يكفيهم أن يعلموا بأن المسلمين يبلغون نحو ثمانمائة مليون، ليس بينهم من المسلمين العرب أكثر من مائة وعشرين مليونا. وذلك فضلا عن وجود ديانات أخرى بين العرب.
وفي ظني أن غموض الرؤية يزول، أو يقل، إذا نحن صورنا الموقف بين الجانبين؛ الإسلامي والعربي، بخطين متعامد أحدهما مع الآخر؛ فهنالك خط أفقي، يتعامد معه خط رأسي. أما الأفقي منهما فهو يصور لنا مجال الأمة «العربية» فيما يربط أبناءها من صلات اللغة والاقتصاد والتاريخ والسياسة وما إلى ذلك من روابط تتصل بالعيش هنا على هذه الأرض. وأما الخط الرأسي فيصور لنا الجماعة الإسلامية على اختلاف أوطانها؛ إذ تلتقي كلها على دين سماوي واحد. ونقطة التلاقي بين الخطين تصور موقف العرب المسلمين، الذين يحيون «أفقيا» مع مواطنيهم العرب من غير المسلمين، ويحيون «رأسيا» مع إخوانهم المسلمين من غير العرب.
ويمكنك تصوير الحقيقة نفسها بدائرتين متداخلتين (لكنهما غير متطابقتين) فها هنا تجد أمامك ثلاثة أقسام؛ قسم أوسط يدمج الدائرتين معا في مساحة واحدة، وهؤلاء هم العرب المسلمون، وقسم جهة اليمين تنفرد به إحدى الدائرتين دون الأخرى، فليكن ذلك هو للمسلمين غير العرب، وقسم ثالث جهة اليسار، تنفرد به الدائرة الأخرى، فهو للفئة الثالثة، أعني العرب غير المسلمين.
ولقد كان لهذه الفواصل بين الجانبين أصداء قوية في التاريخ الإسلامي، حينما جاءت الدولة الأموية عقب عهد الخلفاء الراشدين، فجعلت مبدأها التمييز بين المسلم العربي، والمسلم من غير العرب (أي الموالي). ولقد كان من أمر تلك التفرقة ما كان من حركات «الشعوبية» و«الزندقة». ثم جاءت الدولة العباسية، وحاولت أن تغير من المبدأ بما يحد من خطورة تلك التفرقة. ولست في حاجة هنا إلى ذكر ما قد أدى إليه ذلك كله من عصبيات «اتفاقية» فهذا يتعصب للثقافة العربية الخالصة وذلك يتعصب لغيرها، أو على الأقل لمزيج منها ومن غيرها.
والنتيجة التي أردت الوصول إليها هي أننا - عند إقامة جامعة للشعوب الإسلامية والعربية - إنما نضع الأمور في نصابها الصحيح، إذا نحن أقمنا البناء على ركائز ثلاث، في صورة منظمات ثلاث تتفرع من الجامعة المنشودة؛ إحداها للمجال الذي تلتقي فيه العروبة مع الإسلام، وأخرى للشئون التي ينفرد بها الإسلام دون العروبة، وثالثة للشئون التي تنفرد فيها العروبة دون الإسلام؛ فتحقيق الأهداف مرهون دائما باستقامة السبيل.
من وحي الحياة الجارية
الصامتون والصائتون
من الناس صامتون ينتجون ولا يرتفع لهم صوت في المسامع، ومنهم صائتون يملئون الدنيا صياحا دون أن يضيفوا إلى حصيلة الإنتاج الحقيقية مثقال ذرة.
يقول «إدموند بيرك»: إذا مررت بحقل وسمعت عددا يعد على أصابع اليد الواحدة، من الصراصير، يملأ عليك الهواء بصوته القبيح، بينما ألوف الماشية العظيمة تمضغ طعامها في صمت، فلا تحسبن أن ليس في الحق إلا تلك الصراصير، وأنه ما دام صوتها يملأ الهواء فلا بد أن تكون كثيرة العدد، بل اعرفها على حقيقتها؛ فهي جماعة صغيرة ضئيلة نحيلة نطاطة، هي حشرات تصيح فتقلق بصياحها الكثرة العاملة في صمت.
ولو نال العاملون في صمت جزاءهم الحق، وخرج الصائتون المتطفلون ببطون فارغة، لما كان في الأمر عيب يعاب، لكن الخشية هي في أن ينهب هؤلاء حق أولئك، كما حدث لبنات الملك لير في رواية شكسبير: أراد الملك لير أن يقسم ملكه بين بناته الثلاث، فطلب منهن أن يعربن له عما تكن له صدورهن من حب، لتجيء الأنصبة متناسبة مع حجم الحب عند كل منهن نحو أبيها. فراحت الكبرى والوسطى منهن تسمعان الوالد من عبارات الحب ما لم تسمع بمثله أذن، فانتفخ الرجل زهوا، وخلع على كل منهما ثلث مملكته. ثم اتجه إلى الصغرى ليسمع ماذا تقول، فأجابت في ضبط للنفس وقصد في العبارة: أحبك كما تحب كل فتاة مخلصة أباها. فعاد يسألها: أهذا هو كل ما عندك نحوي؟ فأجابت: نعم هو كل ما عندي. فهاج وماج وقال لها: إذا كان هذا هو مقدار حبك لأبيك، فليس لك شيء عندي، وأمر بالثلث الباقي من مملكته أن يقسم نصفين، لتأخذ كل من الكبرى والوسطى نصفا يضاف إلى نصيبها الأول. ثم دارت الأيام، فإذا الكبرى والوسطى هاتان تتنكران للوالد المسكين، وتلقيانه شريدا. ولم تخلصه من محنته إلا البنت الصغرى التي نذرت حياتها للفضيلة الصامتة.
هكذا كانت الفجوة واسعة بين القول والعمل عند الابنتين الكبرى والوسطى، كما هي واسعة عند صراصير الحقل بين صوتها وحقيقة حجمها ونفعها. ومن الناس بيننا من يعيشون على مثل هذه الفجوة الواسعة بين صوتهم المسموع وإنتاجهم النافع. وأعجب منها فجوة أخرى في حياتهم، بين ما يسمرون به في أحاديثهم الخاصة لأصدقائهم وخلصائهم، وبين ما يعلنونه في المحافل حين تقام المنابر؛ فمن أيسر الأمور عليهم أن يرسموا الصورة على لون في مجالسهم الخاصة، حين يدور الكلام بينهم همسا، ثم يرسمونها على لون آخر حين يصبح القول جهيرا.
إنها مهارة تثير العجب ، لسرعة النقلة عندهم من خاص إلى عام. يقول علماء الطبيعة النووية إن الكهارب التي تدور حول نواة الذرة قد لا تثبت في مسارها على فلك واحد، بل ربما قفزت من فلك لها إلى فلك، دون أن تدرك الأبصار قفزتها. وشيء كهذه الخفة السريعة والبراعة البارعة، يتسم به الصاعدون من أصحاب الصراخ الأجوف. وإن هذه القدرة على التشكل الحربائي السريع عند هؤلاء، هي التي تضمن للحروبات طول البقاء ودوام الصعود.
ليس فصاما في الشخصية هو ما عند هؤلاء المنافقين؛ لأن المصاب بالفصام لا يدري أنه ذو وجهين. أما هؤلاء فيكذبون وهم عالمون بانهم كاذبون. ولقد جاءني ذات يوم أحد أبنائي الكثيرين؛ جاءني يشكو مما رآه، وكان اليأس قد دب في نفسه أو كاد، فقال: إن بعض من يخلصون للعمل لا يصعدون، وإن بعض من يصعدونهم هم الذين لا يخلصون، فماذا هو صانع؟ أجبته: اصنع ما يصنعه الصامتون المنتجون؛ فمن حسن الحظ أنهم هم الكثرة. وأما الصائتون الفارغون فلقد شاء لنا فضل الله أن يكونوا قلة تتوهج ثم تخبو في أقل من لمح البصر.
وكذلك أخلاق المدينة
أخلاق القرية التي ندعو لها، لنجعل منها نموذجا لسلوكنا، ضرورية لحياتنا، ولكنها وحدها لا تكفي؛ إذ لا بد أن تكملها أخلاق المدينة.
أخلاق القرية هي الأخلاق التي أفرزتها الحضارة الزراعية الريفية؛ فبمقدار ما نريد المحافظة على شيء من هذه الحضارة، تكون الحكمة في المحافظة على أخلاقها، لكن هنالك حضارة علمية صناعية جديدة نشأت، واتخذت المدينة موطنا لها، فنشأت تبعا لذلك مجموعة خلقية جديدة. ومحال على من أراد الدخول في العصر أن يحقق ذلك وأن يتنكر في الوقت نفسه لما تستلزمه حضارة الصناعة من قيم، وإلا وقع في تناقض يمزقه بغير جدوى.
بل إن الاتجاه العام الذي يسود عصرنا، هو تحويل القرية إلى مدينة (بالمعنى الحضاري) لا تحويل المدينة إلى قرية؛ فالأقرب إلى التصور في يومنا هو أن يتحول الفلاح إلى «عامل زراعي» - بكل ما تحمله كلمة «عامل» الآن من حقوق في الأجور والتأمينات والانتماء النقابي وغير ذلك - فذلك أقرب إلى التصور من تحويل عامل المصنع إلى حالة الفلاح كما كانت. لقد جاءت قيم الحضارة الصناعية لتبقى وتسود وليس لنا عن ذلك محيص. إنه ليقال إن قتل قابيل لأخيه هابيل هو رمز لزوال حضارة الصيد، وهي أول صورة حضارية في التاريخ، لتحل حضارة الراعي محلها. ولقد حدث بعد ذلك قتل آخر، حين أسلمت بداوة الرعاة نفسها إلى فلاحة الأرض. ثم تلا ذلك قتل ثالث - ما يزال في سبيله إلى إنجاز مهمته - وكان ذلك حين أعلنت الصناعة الحديثة قدومها لتأخذ مكان الزراعة. وليس معنى ذلك أن تختفي الزراعة من الوجود، بل معناه أن تتصنع باستخدام الآلات، ليصبح الحقل وكأنه مصنع ينتج الزرع. ولم تكن هذه التحولات كلها مجرد اختلاف في شواغل الناس، بل كان تحولا كذلك في أسس الأخلاق، لتكون لكل مرحلة أخلاقها.
إن من مزالق الخطأ عند الإنسان ألا يراعي التغير الذي يصيب معنى لفظة مع بقاء اللفظة على حالها. فإذا قلنا - مثلا - إن من أخلاق القرية «التعاون» بين أفرادها، كان واجبا علينا كذلك أن نتذكر بأن «التعاون» ركن من أركان الحضارة الصناعية كذلك، ولكن بعد أن تنظم فكرته تنظيما بحمله من العلوم. وهل كان يغنينا أن نبقي التعاون على صورته القروية العشوائية التي إن تناولت بعض جوانب الحياة الاجتماعية كالأفراح والمآتم، فقد فاتها أهم الجوانب التي تمس عملية الزراعة نفسها؟
أبناء القرية في تمسكهم بأخلاق الريف الزراعي، يعدون أنفسهم أسرة واحدة أو كالأسرة الواحدة، ومن هنا كان مصدر صلابتهم، لكنه من هنا أيضا هو مصدر التخلف الحضاري في بعض صوره؛ لأن ذلك الشعور الأسري هو في الأساس مصدر «المحسوبية»؛ فيكفي صاحب الحكم أن يعلم أن بينه وبين فلان تلك العلاقة الوثيقة، ليجعله محسوبا عليه، مما يلزمه إلزاما خلقيا أن يسانده ولو بغير حق، وهي مساندة غالبا ما يجيء ثمنها وهو أن يدين المحسوب لولي نعمته بالولاء، وهكذا ينسل المعنى الأول نتائجه الضارة، إذا قيست بمقاييس الحضارة القائمة.
العلاقة بين أفراد القرية قائمة على ما تقتضيه روابط الدم - أعني روابط القربى - فكثيرا ما يكون ذلك على حساب المصلحة القومية التي تجاوز القرية وأبناءها. ولقد جاءت حضارة العصر بنوع جديد من التجمعات البشرية، هو هذا الذي نراه عندما يجتمع ألوف العمال في مصنع واحد، بل ويسكنون عادة في حي واحد، مما أدى بالضرورة إلى علاقة اجتماعية من نوع جديد، هي العلاقة التي تمثل في النقابات. وسرعان ما يصبح الهدف المشترك - لا خدمة أسرة بعينها - بل خدمة حرفة صناعية معينة، وخدمة القائمين بها. وهنا تتغير معاني طائفة كبيرة من الألفاظ الخلقية، كالعدل والكرامة والتعاون ... إلخ.
ليس في أخلاق القرية مكان لدقة الزمن باعتبارها فضيلة؛ لأن حضارة الزراعة لم تكن تقتضيها؛ فأدق ما تعرفه من ذلك أن يقال: صبح وضحى وعصر ومغرب وليل؛ ولذلك نلاحظ في ابن القرية ضيقا إذا طالبته بتوقيت يلتزم الساعة والدقيقة. فإذا عرفنا أن دقة الزمن هي من الركائز الأساسية في الحضارة الصناعية القائمة، علمنا أن أخلاق القرية لم تعد تسعف - في هذا الجانب - من أراد المشاركة في حضارة عصره.
الدعوة إلى أخلاق القرية فيها رومانسية تشبع الخيال، لكننا ونحن ندعو لها، فلنتذكر حدودها وقصورها بالنسبة إلى هذا الزمان وحضارته.
منطق معكوس
إذا أردنا تلخيص المهمة المطروحة أمام لجنة المنابر، قلنا إنها البحث عن أفضل الطرق التي يتم بها اختلاف الرأي السياسي، أو - بعبارة موجزة دالة - هي أن يقول أعضاء اللجنة بعضهم لبعض: تعالوا نتفق على كيف نختلف!
لكن اختلاف الرأي لا يمكن حصره قبل وقوعه؛ لأنه اختلاف وثيق الصلة بالمشكلة المطروحة للحل وطبيعتها؛ فقد تكون المشكلة الطارئة مما يتفرع عن التطبيق الاشتراكي، وهنا يجيء اختلاف الرأي بين تطرف واعتدال، أو قد تكون المشكلة مما يتصل بالاتجاه العام في السياسة الخارجية، فيجيء اختلاف الرأي بين يمين ويسار، أو قد تكون خاصة بتنظيم الأسرة أو بقانون الأحوال الشخصية، فيجيء اختلاف الرأي بين جمود وتغير ... وهكذا؛ فليست المسألة مرتبطة في الأساس بأنواع العمل التي تؤديها الفئات المختلفة، بقدر ما هي مرتبطة بالطريقة التي يتجه نحوها الرأي في حل مشكلة بعينها، نشأت فعلا، ويتطلب الحل فعلا. فإذا كان الفلاحون، أو العمال - مثلا - على رأي واحد متجانس في طرائق الحل، فليس هناك ما يمنع أن يشترك معهم في الرأي غيرهم من سائر الفئات؛ بدليل أن حزب العمال في بريطانيا، فيه أعضاء لم يخرجوا من صفوف العمال، ولكنهم يشاركونهم وجهة النظر.
كان المنطق المستقيم يقتضي أن ترجأ هذه اللجنة أو ما يشبهها، فتنعقد بعد ظهور المشكلات لا قبل ظهورها؛ فنحن لا نعلم مقدما أنواع المشكلات القومية التي ستنشأ لنا على الطريق، والتي إذا ما نشأت فربما استدعت ضروبا من اختلاف الرأي لا سبيل إلى التنبؤ بها قبل وقوعها؛ وبالتالي فلا سبيل إلى تحديد «المنابر» المطلوبة. وإذا أردت مثلا قريبا، فخذ مشكلة المنابر نفسها؛ فمن ذا كان يتوقع - عندما أطلقت هذه الكلمة لأول مرة - كل هذا الخلاف في وجهات النظر؟
فإذا قيل: إن الاختلاف الذي نعنيه ليكون أساسا لإقامة المنابر، هو اختلاف «المبادئ الأساسية» نفسها، لا الاختلاف على حلول المشكلات التفصيلية التي تظهر آنا وتختفي آنا، كان في هذا القول ما ينقض الزعم الذي لا نمل من تكراره كل يوم، وهو أننا نعيش تحت مظلة التحالف بين الفئات. وماذا يعني هذا التحالف المزعوم إذا لم يكن يعني الاتفاق على المبادئ الأساسية المشار إليها، حتى وإن تعددت بعد ذلك آراء المواطنين في طريقة التطبيق - وأقول «التحالف المزعوم» - لأن لي رأيا في فلسفة التحالف هذه، ليس مكانه هنا، ولا زمان التعبير عنه هو الآن، حتى لا نزيد من بلبلة الفكر، ولدينا ولدينا منها الآن ما يكفينا.
إننا حين نجلس الآن لنرسم تصميما نظريا مسبقا لتشكل الحياة السياسية، كنا كمن يخطط تصميما لعمارة سكنية، دون أن يكون لديه العلم بظروف السكان، أو كنا كمن يعد القفص للصيد، دون أن تكون لديه الفكرة السابقة عن نوع صيده؛ فربما جاء فيلا لا يسع له القفص، أو جاء فأرا غير جدير بالقفص.
إن الشكل الذي يقام ليتناسب مع اختلاف الآراء لا بد أن «يفصل» على الأجسام القائمة بالفعل، وليس هو كالملابس الجاهزة نصنعها مقدما قبل أن نتبين أحجام الأجسام التي ينتظر أن ترتديها. ومن هنا رأينا الأحزاب في كل بلاد الدنيا التي يحسب حسابها، وفي جميع الحالات - حتى حالات الحزب الواحد - تنشأ استجابة لمواقف فعلية حدثت، واقتضت أن يقام لها شكل سياسي يناسبها؛ أي إن الشكل السياسي ينشأ «بعد» الموقف الفعلي لا «قبله». حتى اتحادنا الاشتراكي نفسه نشأ استجابة لتطور معين في مجرى الحوادث. وإلا فلماذا تحولنا من «هيئة التحرير» إلى «الاتحاد القومي» ثم إلى «الاتحاد الاشتراكي العربي»، إلا أن يكون هذا التحول نتيجة لما حدث لا مقدمة سابقة عليه؟ أما بعد هذا كله، فإني أقول إن مشكلة المنابر هذه إنما هي مشكلة خلقناها نحن، هروبا من الإعلان الصريح بقيام الأحزاب، ثم توهمنا أنها مشكلة حقيقية تتحدانا لحلها، كما كان يحدث لنا ونحن صغار حين كنا نعقد قطعة من خيط، ثم نتحدى أنفسنا بفكها دون أن نقطع الخيط. وهكذا فعلنا الآن: قلنا «منابر» داخل الاتحاد الاشتراكي، فلما تبين ما في الفكرة من غموض وتعقيد، شكلنا لجنة لتلتمس طريقة للخلاص، مع أن مواجهة الأمر مواجهة صريحة أمينة تنتهي بنا إلى أحد أمرين لا ثالث لهما:
فإما نظام ذو رأي واحد، كالنظام القائم الآن، دون أن نضحك على أنفسنا بوهم المنابر داخل هذا النظام، وإما أحزاب تنشأ نابغة من تكتلات الرأي الفعلية التي لا بد أن تحدث بعد أن يتبلور الاختلاف الناس في طريقة معالجتهم للمشكلات التي تنشأ على الطريق حينا بعد حين.
ساعات الفراغ
جمع من الشباب كان يلهو في يوم فراغه، طلب مني - بحكم الأستاذية أولا، وبحكم وشائح القربى بيني وبينه ثانيا - طلب مني كلمة هادية أعتصرها من خبرة السنين، فقلت لأولئك الشباب عفو الخاطر: عليكم بساعات الفراغ، لا تضيعوها مع الهباء؛ فكم في التاريخ من رجل عظيم صنعته ساعات فراغه أكثر مما صنعته ساعات العمل في حرفته. كان أديبنا الكبير توفيق الحكيم نائبا في الأرياف بحكم المهنة، وعندئذ قضى ساعات فراغه في كتابة «يومياته» عن تلك الفترة من حياته، فبقيت لنا يوميات الفراغ، وذهبت عنا أيام العمل.
إنك لتقرأ عن أعلام الفقه والفكر والأدب والفن، في تاريخنا وفي تاريخ غيرنا، فيذهلك العدد الضخم من بين هؤلاء، الذين كانت لهم أعمالهم التي يكسبون منها الرزق. وأما الفقه والفكر والأدب والفن الذي تركوه بعدهم ميراثا للإنسان، فقد كان حصيلة ساعات فراغ.
العمل المقدس قداسة العبادة نفسها؛ وذلك لأنه على العمل يتوقف الغذاء والكساء والمأوى، ومن هنا كان الإلزام وكانت الضرورة. وأما هواية الفراغ فمرهونة باختيارنا؛ ومن ثم جاءت خطورتها؛ لأن الإنسان قد يختار لنفسه أن يدع ساعات فراغه تمضي وكأنها لم تكن جزءا من الزمن. نعم إن المثل الأعلى هو أن يكون العمل محببا إلى النفس حتى لكأنه الهواية، وعندئذ يكون وقت العمل امتدادا لوقت الفراغ امتدادا لوقت العمل، لكن ذلك الدمج نادر الوقوع.
وفي عصر الصناعة هذا، ليس الخطر هو خطر الآلات تغزو حياة الإنسان، ولكن الخطر الأكبر هو الزيادة المطردة في ساعات الفراغ؛ فما لم ندبر للشباب أمر فراغهم، كما ندبر لهم أمور حياتهم العملية المهنية، ضاع عليهم الجزء الأكبر من حياتهم سدى، وضاع علينا ما يمكن أن يضيفوه إلى ذخيرتنا من فكر وفن وأدب؛ إذ الفراغ هو صانع الحضارات بما يقيمه لها من هذه الذخائر. وفي هذا السياق من الحديث نذكر قولة «جيته»: إن الجانب الذي يحتاج منا إلى رعاية هو هذا الجانب الذي قد يبدو وكأنه بغير نفع لنا. وأما الجانب من الحياة الذي لا شك فيه نفعه، وأعني جانب العمل، فذلك مضمون له أن يتولى رعاية نفسه.
لقد كانت القسمة واضحة - فيما مضى - بين هذين الشطرين من حياة الإنسان؛ فهذا وقت للعمل، وهذا وقت للفراغ، لكننا نلاحظ في عصرنا ظاهرة جديدة، وهي نشأة قسم ثالث بين الطرفين، وهو قسم «الفراغ العامل»؛ أي الفراغ الذي يملؤه أصحابه بأنواع الخدمات الاجتماعية المختلفة، لا لأنها خدمات مأجورة؛ فهي في معظم الحالات تطوع حر غير مأجور، بل لأنها طريقة يقبل عليها الناس بمحض اختيارهم ليقضوا بها أوقات فراغهم فيما ينفع؛ كأن يتطوع الشباب في عطلاتهم الصيفية بمحو الأمية ما استطاعوا، بتنظيف الطرق، بتنظيم المواصلات، بمقاومة الذباب وغيره من الحشرات التي كانت تكون لها الأولوية على البشر في مصادر الطعام والشراب، إلى غير ذلك من صنوف الخدمات، وهي الآن في تزايد مستمر في كل أقطار العالم المتحضر. وماذا تسمي أمثال هذه الجهود في ساعات الفراغ، إلا أن يكون ضربا جديدا من الحياة يقع بين الطرفين التقليديين؛ طرف العمل المهني المفروض، وطرف الفراغ المتروك للهوايات الفردية.
وأحب أن أضيف إلى هذا كله، أن العمل برغم قداسته وضرورته، ليس هو الذي يقدم للإنسان ما يبرر وجوده؛ لأنه إذ يعمل فإنما يعمل من أجل غاية؛ فهذه الغاية التي تكمن وراء العمل هي مبرر الوجود. وأما ساعات الفراغ وما تنقضي فيه من هوايات لأصحابها، أو من خدمات تؤدي للمجتمع ففيها هي نفسها ما يبررها. ومن غضب الله على إنسان أن يفقده الحس الحضاري في ملء فراغه؛ لأنه عندئذ سرعان ما يجد نفسه نهبا للسأم والملل والشعور بتفاهة الحياة وعبثها.
أختم بما بدأت به: عليكم بساعات الفراغ، لا تذروها مع الريح.
الشيطان الأخرس
الشيطان الأخرس - كما قيل - هو الساكت عن الحق، أو عما يظنه أمام ضميره أنه الحق. إنه لا يكفي أن تكون صادقا في كل ما تقوله، بل لا بد أن يضاف إلى ذلك واجب خلقي آخر، وهو أن تقول كل ما تعرف أنه الحق، لا سيما إذا كان هذا الحق مما يؤثر في حياة الناس من جوانبها الحيوية الهامة.
وإني لأشهد الله - أمام ربي وأمام ضميري وأمام الوطن - بأنني أعاني من قلق يستبد بعقلي وبقلبي، فلا يترك لي مهربا ولا مخرجا، وهو قلق من موجة تطغى على حياتنا الفكرية والشعورية طغيانا يزداد كل يوم قوة وصرامة، حتى لأخشى أن أقول عنه إنه طغيان أوشك أن يبلغ حد الإرهاب الفكري الذي لا يدع مجال الحرية في التعبير عن الرأي مفتوحا للجميع على حد سواء؛ فهو مفتوح على جميع مصاريعه لأصحاب جانب واحد من جوانب القول مغلق (بالضبة والمفتاح) أمام الجانب الآخر أو الجوانب الأخرى أو قل إنه يكاد.
وأما المجال الذي أعنيه فهو الخاص بالعودة إلى السلف في رسم الطريق الذي يراد لنا أن نسلكه في أكثر جوانب حياتنا حيوية وأهمية.
ففي عدد واحد من جريدة الأهرام - هو عدد الجمعة السابع والعشرين من فبراير - تناثرت مجموعة من الآراء، لو جمع بعضها إلى بعض، ارتسمت أمامنا صورة لما يراد لنا في حياتنا الفكرية وحياتنا العملية على السواء، أختار منها هذه الأقوال الثلاثة: (1)
ففي موضع من الصحيفة قيل إن النية متجهة إلى إدخال عقوبة قطع الأيدي والأرجل، وتحريم شرب الخمر أو المشاركة في صنعها أو بيعها، وتطبيق حد الإسلام وهو الجلد على المسلمين وحدهم، وإنه قد تقرر الاستعانة بالتشريعات القائمة في السعودية ... وبهذه المناسبة أذكر شيئين: أحدهما أنني في حديث لي مع المرحوم الشيخ حافظ وهبة الذي كان سفيرا للسعودية في لندن، سألته مستفسرا عن قطع الأيدي، من الذي يتولاه؟ هل يتولاه الجراحون في المستشفيات؟ فضحك وقال: لقد رفض الجراحون أن يتولوا هذا العمل؛ لأن مهنتهم - كما قالوا - تحتم عليهم وصل الأيدي المقطوعة، لا قطع الأيدي الموصولة، وإنما الذين يتولونه هم «الجزارون» (!) - كان هذا الحديث في لندن سنة 1946م.
وأما الشيء الثاني الذي أريد ذكره بهذه المناسبة، فهو دهشة أذهلتني ذات يوم، عندما كنت أقرأ عن الخوارج في صدر الإسلام، وغلظة أكبادهم إزاء من يظنونه خارجا على عقيدتهم؛ فأهون شيء عندهم هو القتل. وقد كان ذلك منهم على المسلمين وحدهم. ولقد حدث لواصل بن عطاء - بكل مكانته الدينية والفكرية - أن مر هو ونفر من أصحابه في أرض كان يعلم أن للخوارج فيها الكلمة العليا، فلما اعترضهم هؤلاء الخوارج في بعض الطريق، وخشي واصل أن يعدوه هو وأصحابه غير مسايرين لأوامر الدين كما فهموها أنكر عليهم حقيقة نفسه وزعم لهم أنه من أهل الذمة، فخلوا سيله، بل وأوصلوه هو وجماعته إلى الحدود سالمين، عملا بما أوصى به الدين لغير المسلمين، وماذا كان «واصل» ليصنع غير هذا في وجه المغالاة وضيق الأفق؟ (2)
وفي موضع آخر من الصحيفة، نشرت كلمة الأستاذ في إحدى كليات الأزهر يرد بها على فضيلة شيخ الأزهر فيما يخص غناء المرأة المسلمة، أهو حلال أم حرام. ولقد استهل الأستاذ كلمته بهذه العبارة: «كانت المرأة وما زالت سهما من سهام إبليس ...» ولا بد أن تكون لهذا الأستاذ أم، وربما كانت له كذلك بنات وأخوات؟ فبماذا يا ترى يجيب لو سألته: إذا كانت المرأة سهما أراد إبليس أن يرمي به الرجل ليضلله، أفليس الرجل سهما من سهام إبليس أراد أن يرمي به المرأة ليضللها؟ وإذا كان كذلك، أفيكون البشر جميعا على هذه الصورة الشيطانية الرهيبة؟ ألا نتقي الله في كرامة الإنسان، إذا لم يكن بنا رغبة في أن نتقيه في القيم الحضارية كلها؟ (3)
وفي موضع ثالث من الصحيفة نفسها، جاء في تقرير صحفي يصور به كاتبه ما حدث في مؤتمر الاقتصاد الإسلامي الذي انعقد في مكة، أن أحد أساتذة الاقتصاد قال للمؤتمرين إن إقامة اقتصاد إسلامي لا تكفيها الدراية بالفقه الديني وحده، بل لا بد كذلك من الإلمام بعلم الاقتصاد، فانفعل أستاذ من أئمة الدين - وهو مصري - قائلا: إن رجال الشريعة قادرون على أن يقولوا كلمتهم في كل شيء ... والعهدة في هذه العبارة على التقرير المنشور. وظني هو أن الأمر إذا بلغ بنا هذا الحد، فلا يكفي أن نقول إن السيل قد أغرق الربى؛ لأنه بذلك يكون قد أغرق مع الروابي قمم الجبال العالية. ولو كان الأمر كما قال القائل لوجب منذ الغد أن نغلق الجامعات جميعا ومراكز البحث، وغيرها مما يريد أن يبلغ شيئا من الحق، لا نبقي إلا على كلية الشريعة لأنها تعلمنا «كل شيء».
فقراء الأرض
لم أزعم يوما لنفسي ولا زعمت للناس أن لي في مجال السياسة بصيرة تعلو على بصائر العامة، لكني أقرأ ما يكتبه محترفو السياسة، فأجدني مطمئنا هنا أو قلقا هناك اطمئنانا وقلقا يصدران عن مجرد الشعور، ولا يصدران عن التعليلات العقلية الصارمة، فكأنني أدرك الحقائق السياسية بالوجدان لا بمنطق العقل. ومن يدري؟ فلعل ميدان السياسة كلها من أساسه ليس قائما على البرهان العقلي، بقدر ما هو قائم على استثارة المشاعر، وإلا فلماذا نسمع الرأي ونقيضه في آن واحد؟
على أني بمثل هذا الإدراك الوجداني في دنيا السياسة، أدركت ذات يوم - وكان ذلك منذ أكثر من ربع قرن - وعبرت عما أدركته في مقال كان عنوانه «شمال وجنوب»؛ أدركت أن رجال الفكر في أوروبا وأمريكا - أو رجال السياسة، لست أدري أيهما - قد شغلوا أنفسهم وشغلونا معهم أكثر مما كان ينبغي بقسمة العالم إلى شرق وغرب، بالمعنى القديم لهاتين الكلمتين؛ أي بالمعنى الذي يجعل أوروبا وأمريكا «غربا»، وأفريقيا وآسيا «شرقا» (إذ إن لهاتين الكلمتين الآن معنى جديدا، يجعل معنى «الغرب» أوروبا الغربية وأمريكا، ومعنى «الشرق» الروسيا وما يجري في فلكها)؛ أقول إنهم شغلوا أنفسهم وشغلونا معهم بقسمة العالم إلى شرق وغرب، وسكتوا وأسكتونا معهم عن قسمة أهم وأخطر، وهي القسمة إلى شمال وجنوب. فماذا تعني القسمة الأولى أكثر من الاختلاف في فلسفة الحياة وطرائق التفكير؟ وأما القسمة الثانية الخطيرة، أعني قسمة العالم إلى شمال وجنوب، فتمس عصب الحياة؛ ففي الشمال شبع وفي الجنوب جوع، وفي الشمال غنى وفي الجنوب فقر، وفي الشمال علم وفي الجنوب جهل، وفي الشمال قوة وفي الجنوب ضعف، وفي الشمال تقدم وفي الجنوب تخلف.
فقراء أهل الأرض هم أهل الجنوب؛ أمريكا الجنوبية، وأفريقيا، وجنوبي آسيا، ولا ينفي ذلك أن تقع الثروة البترولية الطارئة في هذه الرقعة من العالم؛ لأنها ثروة استخرجها لهم واستثمرها لهم أهل الشمال؛ ولأنها على كل حال ثروة إلى حين. وفقراء الأرض هم شعوب «العالم الثالث» - على وجه الإجمال - التي ظفرت باستقلالها السياسي من قبضة الشمال منذ عهد قريب. أفلا يتبادر إلى العقل سؤال: ماذا في الشمال أكسبه قوته وثراءه، وماذا في الجنوب أنزل به الضعف والفقر أو لا تكاد تطرح على نفسك السؤال حتى تجد جوابه: إنه العلم والصناعة في الشمال، وإنها الزراعة التقليدية في الجنوب، وهو جواب كاف وحده لرسم الخطة واتجاه السير، فإذا شئنا لحاقا كان المفتاح هو العلم والصناعة.
ومن هنا رأينا الشعوب التي ظفرت باستقلالها السياسي، قد سارعت إلى انتهاج سياسة التصنيع وسياسة التوسع في تدريس العلوم، وهذا هو ما فعلناه نحن، لكن الذي لم نفعله بعد، هو أننا لم نلحق بالعلم والتصنيع ما لا بد أن يلحق بهما من قيم جديدة، فأصبح العلم والصناعة عندنا واجهة تخفي وراءها قلوبا تفكر بالعلم ولا تؤمن بالتصنيع؛ فالصناعة الحديثة لا تختلف عن الزراعة التقليدية فقط في كونها تصنع الحديد والصلب والسيارات والثلاجات، على حين أن الزراعة تبذر البذور وتجمع الحصاد، لا بل إن هذا الفرق نفسه يستلزم تغييرا عميقا في العادات ووجهات النظر؛ فالإنتاج الصناعي يتطلب لم نألفها، ويتطلب حسما وحزما لم نتعودهما، ويتطلب نوعا من الإدارة لا نستريح له، وموضوعية في الحساب لم ننشأ على مثلها. كان فتحي زغلول قد ترجم لنا في أوائل القرن كتابا عنوانه «سر تقدم الإنجليز السكسونيين» فالتقدم الحضاري عندئذ كان «سرا» غير معلوم الأسباب حتى يكشفه كاتب كمؤلف الكتاب المذكور، انكشف عنه الغطاء؛ فالتقدم الحضاري هو علم وصناعة، وكل العوامل ما عدا هذين العاملين، قد تعطينا «حضارة» من نوع ما، لكنها لن تكون هي حضارة القرن العشرين.
أهي مصادفة - إذن - أن ترتفع أصوات المؤلفين حينا بعد حين في أوروبا وأمريكا، داعية شعوب العالم الثالث أن يحافظوا على حياتهم الزراعية ليحفظوا كيانهم؟ وكان آخر هذه الأصوات التي سمعتها، هو صوت لمؤلف نشر كتابا لتوه، عنوانه «فقراء الأرض» ومنه أخذت هذا العنوان.
العمل الفارغ
أنا مدين في هذا العنوان للأستاذ الدكتور محمد عصام فكري، أستاذ الأمراض الباطنية بجامعة الإسكندرية؛ فلقد أرسل إلي تعليقا على مقالة نشرتها منذ قريب، بعنوان «ساعات الفراغ»، قلت فيها إن من سمات عصرنا أنه قد جاوز المرحلة التي كان الناس فيها يفصلون فصلا حادا بين وقت العمل ووقت الفراغ؛ بمعنى أن هذا العصر قد خلق لنا كيانا ثالثا يجمع بين القسمين اللذين قد يبدوان وكأنهما ضدان لا يلتقيان، وذلك بأن خلق لنا ما أسميته في المقالة المذكورة باسم «الفراغ العامل»؛ أي الفراغ الذي لا يبدده صاحبه بلا جدوى، بل يعمل فيه عملا ينفعه وينفع الناس. ويدخل في هذا الباب ضروب الخدمات الاجتماعية غير المأجورة، التي نراها عند القوم ونعجب لسرعة زيادتها وكثرة تنوعها، فأرسل إلي الدكتور عصام فكري ليعبر عن حسرته للفارق البعيد في ذلك بينهم وبيننا؛ فبينما هم يملئون الفراغ بالعمل متطوعين، ترانا نحن نملأ ساعات العمل بالفراغ متهربين؟ فهناك فراغ عامل، وهنا عمل فارغ.
وربما ازدادت صورتنا في هذا الأمر بشاعة، إذا ما ألقينا نظرة إلى طريق التطور الحضاري: كيف كان؟ ففي المراحل البدائية لم يكن الناس يعرفون هذه التفرقة بين عمل وفراغ، إلى الدرجة التي تجعل «للعمل» كلمة خاصة في لغات القبائل المتخلفة، كما ينبئنا علماء الأجناس البشرية. وفيم يجعلون للعمل كلمة خاصة به، وهم لا يقسمون حياتهم هذه القسمة التي ابتكرتها أنماط حضارية أخرى لا شأن لهم بها؟ فليس عندهم هذا التوالي بين ساعات للعمل تعقبها ساعات للراحة بعد عناء؛ لأن هذه وتلك متداخلة في حياة عضوية واحدة.
ثم جاءت مرحلة أكثر تنظيما، ففصلت بين الفترتين لتكون فترة العمل للعمل وفترة الفراغ للفراغ، وهي الصورة التي ما زالت عالقة بأذهاننا إلى حد كبير. غير أن ظروف الحياة الصناعية في عصرنا - كما قلت - قد زادت من ساعات الفراغ زيادة حملت الناس على أن يفكروا في ملئها بصنف آخر من العمل، يغلب أن يكون إشباعا لهواية أو أن يكون خدمة للآخرين.
وأما نحن فقد زاد فراغنا أيضا، لا لأننا أدخلنا الصناعة إلى الدرجة التي تؤدي إلى هذه النتيجة، بل زاد فراغنا لسبب آخر، هو زيادة عدد العاملين عن القدر المطلوب لأداء العمل زيادة رهيبة، حتى لقد علمت - مثلا - أن إحدى مجلاتنا التي تصدرها الدولة، بها سبعون محررا، مع أنه كان يكفيها اثنان أو ثلاثة، فكانت النتيجة هي أن معظم هؤلاء السبعين لا تظهر وجوههم إلا يوم صرف المرتبات؛ لأنهم حتى إذا واظبوا على الحضور، فلن يجدوا أماكن لجلوسهم مجرد جلوس، فكان أن دمجنا نحن الفراغ بالعمل على نحو ما دمجت الشعوب المتقدمة، لكن الفرق هو أن هذه الشعوب تحاول أن تجعل الدمج عملا كله. وأما نحن فنحاول أن نجعل الدمج فراغا كله. على أني أعود فأكرر ما ذكرته في موضع آخر، من أن هذه «البلطجة» لم تصب إلى نسبة قليلة من الشعب، هي - لسوء الحظ - متركزة في «المتعلمين» الذين يوزعونهم بالألوف هنا وهناك، دون أن يكون لهم عمل يؤدونه، وإذا وجدوه حاولوا التملص منه.
ليست المأساة اقتصادية فحسب؛ فأنا أترك ذلك لرجال الاقتصاد، لكن للمأساة جانبا آخر يعنيني في المقام الأول، وهو ما أصاب «أخلاقيات» العمل من فساد يكاد يودي بها؛ فالأصل في الإنسان المتحضر هو أن يعمل مزهوا بأنه يعمل، لكننا نريد أن نجعل الأصل هو الفرار من العمل ما دامت الرواتب مضمونة في أوقاتها. إنه إذا كان العمل وأسلوب أدائه وطريقة النظر إليه، هو بمثابة المنظار الذي تنظر خلاله لترى روح الشعب على حقيقتها؛ أهو شعب جاد أم هازل؟ أهو شعب متفائل أم يائس؟ أهو شعب مسئول أم مستهتر؟ أهو شعب يحترم نفسه أم هانت عليه تلك النفس؟ أقول إنه إذا كان العمل وأسلوب أدائه وطريقة النظر إليه، هو بمثابة الترجمة الذاتية للشعب، فلست أدري ماذا يكون حكمنا على أنفسنا؟
لقد كان «برنولد برخت» هو الذي سأل قائلا: في العشية التي فرغ معها العمل في إقامة سور الصين العظيم، أين ذهب البناءون؟! وله حق في السؤال؛ لأن هذا السور الهائل، لا بد أن يستوعب لبنائه ألوف الألوف من العاملين، فأين يذهب هؤلاء في اللحظة التي يتم عندها العمل؟ وكان أن أجاب أحد الأذكياء عن السؤال بقوله: إنهم يبدءون في ترميم الأجزاء الأولى من السور، ما دامت فترة طويلة قد انسلخت منذ بدئ ببنائها؛ فأخلاقيات العمل تقضي على العاملين بأن ينشئوا، وألا يكفوا عن صيانة ما أنشئوه، ذلك إذا بقيت للعمل أخلاق !
الفنون في مناهج الدراسة
عندما تجتمع جماعة منا لتخطيط مناهج الدراسة في مراحل التعليم المختلفة، فهي بمثابة من جلس ليفكر في الصورة التي يراد للجيل الآتي أن يصاغ في إطارها؛ فمن شأن الجيل الحاضر دائما أن يأخذه القلق بالنسبة إلى الجيل الذي يليه، وليس في ذلك غرابة؛ إذ إن الجيل الحاضر هو الوالد، والجيل الآتي هو الولد، فأين هو الوالد الذي لا يؤرقه مصير ولده؟!
والحياة تيارها دافق، يأتي موجها في كل جيل بشيء جديد، فإذا أراد الناس لأنفسهم أن يكون لهم فاعلية الحياة وتجددها، تحتم عليهم في كل مرحلة من مراحل الطريق، أن يحققوا لأبنائهم شيئين في وقت واحد؛ أولهما أن ينشأ هؤلاء الأبناء على جديد عصرهم، والثاني هو أن يكونوا على وعي بماضيهم الذي جاء لهم من أصلابه هذا الجديد. وإن أحد هذين الوجهين لا يكفي وحده؛ لأن انحصار الأبناء في عصرهم فقط يجعلهم كالذي يقرأ القصة من فصلها الأخير، وانحصارهم في عصور آبائهم فقط، يجعلهم كالذي وقف عند الفصول الأولى من القصة، ولم يتابعها إلى ختامها.
كل ذلك معروف ولا جديد فيه، ولكني أردت هنا الإشارة إلى نقطة يخيل إلي أن الأنظار لم تتجه إليها بالقدر الكافي، برغم أهميتها وخطورتها في تحقيق الوجهين اللذين ذكرناهما، وتلك هي أننا ونحن نخطط لمناهج الدراسة، نتجه بثقلنا نحو جانب «المعلومات» التي يحصلها الطالب متمثلة في مواد الدراسة المختلفة، ونهمل - أو نكاد نهمل - جانب «الفنون» مع أننا إذا ما أغفلنا الفنون فقد أغفلنا التربية الوجدانية كلها، وكانت الصورة التي نرسمها للجيل التالي ناقصة إن لم تكن شائهة كذلك.
إننا نكاد نقتصر في جانب الفنون على الفن «الأدبي» من شعر ونثر، وقد نضيف أحيانا مادة «الرسم»، لكنني في الحقيقة أريد شيئا آخر؛ فتحصيل «المعلومات» المتمثلة في مختلف المواد الدراسية، يدور معظمه على وصل الطالب بعصره الراهن من ناحيته العقلية وحدها. وإلى هنا لا اعتراض لنا على شيء؛ لأن دراسة علوم العصر أمر محتوم، بل ربما كان أمرا له الأسبقية على كل ما عداه، إذا كان في جوانب التربية المتكاملة أسبقيات.
لكن ما نعترض به هو - أولا - أن العصر ليس علما كله، بل هو علم وفن، ومحال على الإنسان أن يتنفس هواء زمنه بتحصيل علومه دون أن يتذوق فنونه، تذوقا لا يشترط فيه قبول تلك الفنون بحذافيرها؛ لأن رفض الرافض لا بد أن يسبقه دخوله في رحاب تلك الفنون على أساس من التربية الفنية المنظمة في المدارس والجامعات. ولقد شهدت من أساتذة جامعاتنا - ودع عنك طلابها - من لا يكاد يعلم حرفا من ألف باء الفنون في عصرنا؛ موسيقى أو تصويرا أو شعرا أو نثرا. ولست أدري كيف يجوز لأحد أن يدعي بأنه مساير لعصره، وهو لا يميز في فنون ذلك العصر رأسها من ذيلها.
على أن النقطة الأهم، هي أننا بحكم موقفنا الحضاري، نواجه مشكلة الجمع بين الماضي والحاضر؛ فلو كنا أمة بغير حضارة سابقة، لأخذنا حضارة العصر بعلومها وفنونها كما هبطت علينا، لكننا أصحاب تاريخ، فكيف نصب هذا التاريخ في قلوب شبابنا ليصبح الماضي حيا في عروقه؟ إننا نلجأ في هذا - أحيانا - إلى إدخال شيء من «علوم» آبائنا في مناهج الدراسة، ولكن «علوم» الآباء لا تحقق لشبابنا ما نريده لهم؛ فلو اكتفينا - مثلا - بأن نعرض على هؤلاء الشباب علم الكيمياء كما هو عند جابر بن حيان، أو علم الطب كما هو عند ابن سينا، لتعرضوا لخطر المقارنة بين علم قديم وعلم جديد. وعندئذ لا يشفع للعلم القديم أن يقال للدارسين إن العالم الفلاني كان أول من اكتشف كذا أو أول من اخترع كيت.
لا، ليس الإنتاج «العلمي» للأقدمين هو أفضل الطرق لربط شبابنا بحضارة آبائهم، ولكنه الإنتاج «الفني» الذي يحقق هذه الغاية على أكمل وجه مستطاع. وعندما أقول ذلك، فلا يكفيني أن يوضع للدارسين كتاب في تاريخ هذا الفن أو ذاك، ليحفظه الطلاب كما يحفظون سواه. ولو فعلنا ذلك واكتفينا به، لما كان هناك فرق بين فن وعلم؛ لأن كلا منهما عند الطالب قد تحول إلى «كتاب» وإنما المراد هو المواجهة المباشرة من الطالب للأثر الفني أيا كان نوعه، ثم تدريبه على الدخول فيه ليدمج نفسه بالقيم المتجسدة فيه، فيعيشها كما عاشها مبدع ذلك الأثر عند أول خلقة. وقد نستعيض عن الآيات الفنية في الزخرفة وغيرها، بصورة متقنة تكون موضع الدراسة وهي الفكرة التي كانت عند «مالرو» وهو يضع كتابه «متحف في صور».
نعم، إننا نهيئ المواجهة المباشرة بين طلابنا وفنون الآباء، مقتصرين في ذلك على ما يدرسونه من نماذج أدبية هنا وهناك. ولو أحسنت دراسة تلك النماذج لنعمنا بشيء من الطمأنينة، لكننا نعرف أن هذه الدراسة الأدبية تنتهي بالأكثرية العظمى من الدارسين إلى «كراهية» ذلك التراث الفني، وبهذا ينقلب الأمر علينا؛ فما أردناه أن يكون جزءا من حياتنا النابضة، يصبح مدعاة للسخرية؛ وذلك لأن دراسة الأدب عندنا قلما تدخل بالطالب إلى قلوب مبدعيه، لتأخذهم المشاعر نفسها التي أخذت هؤلاء المبدعين حين أبدعوا. مع أننا لو أدخلنا الدارس في صميم الفن الذي يواجهه، لعاش ماضيه في أسمى لحظاته، وبذلك يتحقق لنا الوصل المنشود بيننا وبين أسلافنا.
حديقة الهانم
المواثيق والبيانات وحدها لا تصنع مجتمعا اشتراكيا، حتى لو بلغت صفحاتها عشرات الألوف، وحتى لو وضعت كلمة «الاشتراكية» في كل صفحة مائة مرة، وإنما الذي يصنع المجتمع الاشتراكي هو أن ينزع الناس من صدورهم ضميرا ليضعوا مكانه ضميرا جديدا يملي عليهم من بواطن أنفسهم طرائق السلوك في المجتمع الجديد. إن البطاقة الملصقة على زجاجة الدواء لم تلصق في مكانها ذاك ليظل المريض يردد كلماتها، بل هي هناك لإرشاده إلى الطريقة التي يشرب بها الدواء. ولو اكتفى المريض بقراءة ألفاظ البطاقة ألف مرة كل يوم، لما فعل الدواء فعله المطلوب؛ لأنه إذا كان تكرار الكلمات ذا شأن في عهود السحر، فإنه حين انقضت تلك العهود انقضى معها سحر الكلمات.
والذي أزعمه هنا هو أن الاشتراكية ما زالت واقفة عند حدود اللفظ، لم تتحول بعد إلى سلوك تمليه الضمائر. وهاك حادثة حدثت من رجل كان في منصب مسئول في حينه، زمانها كان منذ بضع سنين، وكان مكانها مكتبا من مكاتب الدولة، وأشخاصها رجلين؛ أحدهما قوي النفوذ قليل العلم، والثاني كثير العلم ضعيف النفوذ، الأول كانت شخصيته في ضخامة جثمانه، على غرار ما كانت قوة شمشون في شعره، وأما الثاني فكان ممن هذبهم العلم إلى درجة الوداعة؛ فقد كان يحمل الدكتوراه في علوم الزراعة. وسأشير في هذا الحوار باسم «عنتر» إلى الرجل الأول، وباسم «الدكتور» إلى الرجل الثاني.
ذات صباح دق التليفون في مكتب الدكتور، وكان عنتر هو المتكلم.
عنتر :
أهو أنت الدكتور؟
الدكتور :
نعم هو أنا.
عنتر :
حديقة منزلي سيئة التنسيق، ذابلة النبات، وأريد لها الإحياء.
الدكتور :
حسنا ما أردت.
عنتر :
اذهب من فورك إلى هناك وستعطيك «الهانم» تعليماتها بما يراد منك أن تفعله.
الدكتور :
ماذا تقول؟ ومع من تتحدث؟
عنتر :
أنت تسمع ما أقول، وأنا أعرف مع من أتحدث.
الدكتور :
أقل ما أرد به عليك هو أن أضع سماعة التليفون، وأغلق في وجهك طريق الكلام.
ومضت بعد ذلك دقائق، والدكتور يكاد يرتعش من هول المفاجأة، وبعدها ظهر عنتر في بهو المبنى. ودون أن يلتقي الرجلان وجها لوجه، أخذ يصيح بصوت يهز الجدران، مقسما بالله أن يؤدب هذا المتمرد، ولن تمضي أيام حتى يعلم من هو؟ ومن أنا؟ ... وكنا نحن المشاهدين السامعين نعرف أن الفرق بين الرجلين هو أن أحدهما كان من أهل الثقة، وأن الثاني كان من أهل الخبرة، بكل ما في ذلك من أبعاد.
ولست أعلم منذ ذلك التاريخ - وهو في الحق تاريخ بعيد - ماذا استطاع عنتر أن ينزله بالدكتور من عقاب جزاء عصيانه؛ وذلك أني كنت زائرا عابرا لا يعنيه أن يتابع الحدث إلى نتائجه الأخيرة.
صحيح أن اشتراكيتنا لم تكن عندئذ قد انقضى عليها وقت يمكنها من الرسوخ في أنفس المواطنين، لكن عشر سنوات مرت بعد ذلك، فحدث أن صدر قرار جمهوري لوزير سابق أن يعين أستاذا بإحدى كليات الجامعة، وأظنه لم يكن قبل ذلك أستاذا، فكان أول ما لفت أنظارنا أن الوزير السابق لم يعجبه أن يقدم نفسه إلى عميد الكلية التي سيعمل بها؛ لأنه قد أصبح في رأي نفسه أعلى من ذلك قدرا، فجعل لقاءه مع رئيس الجامعة ، ثم ما هو إلا أن أصدر رئيس الجامعة أمرا بأن تعد للوزير السابق غرفة خاصة، تؤثث بأثاث جديد، في الوقت الذي كان سائر زملائه من الأساتذة يزدحمون في غرفة واحدة. ولم يلبث الأمر أن بلغ بالأستاذ الوزير، أو الوزير الأستاذ، حد المأساة أو المهزلة - لست أدري أيهما - حين أرسل سكرتيره الخاص ذات يوم ليلقي محاضرته بدلا منه!
وأذكر أني أدركت يومئذ شبها عجيبا بين قاعة المحاضرات - وسكرتير الوزير السابق يلقي فيها المحاضرة نيابة عن سيادته - وبين حديقة الهانم.
جوائز الدولة
جوائز الدولة التي أعنيها، هي تلك التي تقدمها الدولة رعاية منها للفنون والآداب والعلوم - سواء كانت علوما اجتماعية أم علوما في مجال الطبيعة والرياضة - والحق أن الدولة في هذه الرعاية تضطلع بواجب نبيل لست أعرف دولة أخرى تؤديه بمثل السخاء الذي تؤديه به الدولة عندنا.
لكن يبدو أن فكرة هذه الجوائز قد يكتنفها شيء من الغموض في أذهاننا. إنها لم تكن تبدو بهذا الغموض كله في أول الأمر؛ إذ كان من الواضح للجميع أنها جوائز مخصصة للإنتاج الفعلي الذي ينتجه رجال الفن أو الأدب أو أصحاب الدراسات والتجارب العلمية الخالصة. فمن لم ينشر له فن أو أدب أو دراسة علمية، لم يكن موضعا للعرض في هذا المجال الخاص. وبعد ذلك فللدولة وسائلها الأخرى الكثيرة التي تعلن بها عن تقديرها لأصحاب الخدمات القومية الجليلة، كالأوسمة والمناصب والرواتب الاستثنائية وغيرها. فافرض مثلا أن جنديا أحسن الأداء في ميدان القتال، فهو بالطبع يستحق تكريم الدولة، لكنه لا يرشح لجائزة من جوائز الفنون أو الآداب أو العلوم.
ومصدر الغموض - فيما يظهر - هو الخلط الشائع فينا شيوعا واسعا وعجيبا، بين أن يكون الرجل مذكور الاسم مرموق المكانة لأي سبب من الأسباب، وبين أن نجعله صاحب حق في أي شيء يختاره لنفسه أو نختاره له، كأنما يكفي الإنسان أن يكون ذا منصب ضخم ليكون بعد ذلك أديبا إذا أراد، فنانا إذا شاء، عالما من علماء الاجتماع أو علماء الرياضة والطبيعة لو أحب، وهو خلط واضح في الترشيحات التي تتقدم بها الهيئات صاحبة الحق في الترشيح لجوائز الدولة كل عام؛ إذ كثيرا جدا ما ترشح الهيئة رئيسها لجائزة الدولة التقديرية حتى ولو لم تعرف له المطابع قبل ذلك كتابا أو بحثا دارت به عجلاتها، أو لم تعرف له معارض الفن صورة أو تمثالا من صنع فرشاته أو إزميله.
إن من أهم ما تحققه جوائز الدولة في ميادين الفن والأدب والعلم، هو الاعتراف بأن الفائز قد أنتج في هذه الميادين نفسها شيئا ذا قيمة في ذاته، ثم هو ينفع الناس. وأود هنا أن أضغط على كلمة أنتج وعلى عبارة «ينفع الناس»، وفي هذا تختلف جوائز الدولة كما نفهمها اليوم، عما كان يخلعه الأمراء والوزراء في الزمن القديم على الشعراء والعلماء؛ لأن الأمير أو الوزير من هؤلاء كان يخلع خلعته على من شاء بغير حساب من جمهور الناس. وأما اليوم فالذي يعطي هم «الناس»، فإذا أراد الناس أن تخصص جائز للفنون - مثلا - وجب ألا تعطى إلا لرجل من رجال الفن بما أنتجه في مجاله مما لقي تقدير الخبراء.
جوائز الفنون والآداب والعلوم لم تخصص لمن ظفر بشهرة في أي مجال آخر، وكذلك ليست هي وسائل الشهرة أو مال حتى في المجالات التي خصصت لها؛ فمن المفارقات التي تلفت النظر أن الجوائز الكبرى - عندنا وعند غيرنا - لا تجيء في أكثر الحالات إلا بعد أن يصبح أصحابها في غير حاجة إلى شهرة أو مال. إنها - كما قال عنها برناردشو - كطوق النجاة نعطيه لمن نجا بالفعل واستقر على شاطئ الأمان، لكن يبقى «الاعتراف» وأهميته في حياة الفرد وفي حياة المجتمع على حد سواء. ولعل أهم معنى من معاني هذا الاعتراف، هو الإشارة الضمنية بأن الناس يريدون للفائز أن يطمئن على حريته في إنتاجه الفني أو الأدبي أو العلمي على نحو ما كان ينتج، وأن يطمئن كذلك على راحته المادية إن كانت تنقصه.
فالإنتاج الفعلي في الميادين التي تعطى فيها جوائز الدولة أمر محتوم، وبغيره تبطل الحكمة في منحها. وبالطبع ليس هناك ما يمنع من التوسع في الجوائز لتشمل أي ضرب من ضروب النشاط، حتى إذا كان ذلك النشاط «موقفا» معينا اتسم فيه صاحبه بالشجاعة والنزاهة. نعم، ليس هناك ما يمنع مثل هذا التوسع، لكن موضع المؤاخذة هو أن تكون الجائزة موجهة في الأصل إلى رجال البحث العلمي - مثلا - فنوجهها نحو إلى أصحاب «المواقف» المتسمة بالشجاعة والنزاهة، أو نوجهها إلى أصحاب المناصب ذات النفوذ، أو إلى أصحاب الأسماء التي لمعت لأسباب أخرى غير الإنتاج الفعلي في الميدان المعين المقصود. لكن هذا الخطأ في التوجيه عند ترشيح الأسماء للجوائز كثيرا ما يحدث، مما يقتضي - في ظني - أمرين؛ أولهما أن يعاد النظر في طريقة الترشيح، وثانيهما أن تصاغ شروط الجوائز صياغة تزيل عنها أسباب الغموض.
عن الدراسات العليا
الدراسات العليا في جامعاتنا قائمة على غير أساس، وسائرة إلى غير هدف. وحتى إذا كان هذا الحكم ليس صحيحا على إطلاقه، فلا شك أنه صحيح على الأعم الأغلب.
فهي قائمة على غير أساس؛ لأن الأمر متروك فيها لكل طالب على حدة، يقرر مع أستاذه موضوع بحثه الذي يعتزم القيام به للحصول على الماجستير أو على الدكتوراه، كأنما هذا الطالب كائن منعزل يعيش في فلاة وليس معه إلا الأستاذ الذي يكلف بأن يلتقي به آنا بعد آن، التقاء الله أعلم بمدى نفعه ومدى جديته. ويكفي أن نذكر هنا أنه قد يحدث للأستاذ الواحد أن يشرف على خمسين طالبا من طلبة الدراسات العليا، بل هنالك حالات زادت فيها حالات الإشراف العلمي عند الأستاذ الواحد على الخمسين. ولك أن تحسب كم دقيقة يستطيع أن يقضيها مثل هذا الأستاذ مع كل طالب، وبأي تركيز يمكنه الاضطلاع بمهمته.
وبسبب هذه العزلة الغريبة التي يعيشها الطالب في بحثه، تطالعنا الصحف كل يوم بموضوعات الماجستير أو الدكتوراه التي تعرض على لجان الامتحان هنا وهناك من أرجاء جامعاتنا، فإذا بنا نقرأ عن موضوعات ما أنزل الله بها من صلة تربطها بأي وجه من وجوه حياتنا؛ وبالتالي فهي لا تسهم في حل مشكلة واحدة من مشكلاتنا . ولعل القارئ لا يعلم أنه بمجرد عرض الرسالة المعينة على لجنة للامتحان، كان محققا أن تنجح، وكان شبه محقق أن يجيء نجاحها «مع مرتبة الشرف»؛ لأن أمرها في هذه الحالة لم يعد أمر طالب وبحثه، بل يدخل في الموقف عنصر هام، هو كرامة الأستاذ الذي قيل عنه إنه أشرف على البحث. وإني لأتصور أن ما أنجزه الباحثون في هذه الدراسات قد يعد بالألوف، ثم أتصور أن هذه الألوف تنتهي مهمتها بانتهاء الإعلان بأنها نجحت مع مرتبة الشرف. وأما أن نسمع بعد ذلك أنها - أو أن بعضها - قد رسم لنا طريقا لمعالجة هذه المشكلة الفعلية أو تلك من مشكلات واقعنا الذي نحياه، فذلك إن لم يكن معدوما فهو شبه معدوم.
ومن أجل هذا زعمت أن دراساتنا العليا تقوم على غير أساس. وأما الأساس السليم الذي كان ينبغي أن تقام عليه فهو أن تكون هنالك أولا المشكلة التي يراد حلها بأمثال تلك البحوث، ثم تكون هنالك هيئة عليا من علماء الجامعات تتولى تحليل هذه المشكلة إلى جوانبها الفرعية الداخلة في نشأتها وكيانها ثم في علاجها. وعندئذ يكون كل جانب من هذه الجوانب موضوعا لبحث يقوم به طالب من طلبة الدراسات العليا. وقد لا تكون جونب المشكلة الواحدة مما يتم بحثه في قسم واحد من كلية واحدة، بل قد تتنوع تلك الجوانب حتى ليستوجب تنوعها ذاك أن يضطلع بدراستها طلاب من أقسام مختلفة، وربما من كليات مختلفة وجامعات مختلفة؛ وحيث يفرغ هؤلاء جميعا من بحوثهم، كل في الجانب الذي خصه من المشكلة، يمكن عندئذ أن تضم الرسائل لا لتوضع - كالتحف في مخزن الآثار - بل لتوضع في تكامل بعضها مع بعض يجيب عن السؤال الواحد الكبير الذي كان بادئ ذي بدء مطروحا للبحث.
إن أهم المشكلات التي نراها مطروحة أمامنا اليوم - وهذا على سبيل المثال - مشكلة ربط القوانين بالشريعة الإسلامية، فمن الذي من حقه أن يجيب إذا سألنا أنفسنا: كيف يتحقق ذلك؟ أليس للباحثين في الشريعة نفسها مجال، وللباحثين في القوانين مجال، وللباحثين في أوضاع المجتمع كما هي قائمة بالفعل مجال؟ فماذا لو قامت هيئة جامعية عليا بتحليل المسألة إلى أكبر عدد مستطاع من عناصر، ثم وزعت تلك العناصر على طلبة الدراسات العليا بإشراف أساتذتهم؟ وفي هذه الحالة سيشترك في الجواب طلبة من كلية الشريعة وطلبة من كليات الحقوق وطلبة من أقسام الاجتماع وعلم النفس في كليات الآداب.
خذ مثلا آخر. افرض أن البحث المطلوب خاص بالأمراض المتوطنة في إقليمنا، فهل تظن أن المشكلة تنتهي بنا إلى حل كامل وشامل إذا انفرد بها باحثون من علماء الطب؟ أليست عادات الناس في سلوكهم اليومي قد تفسد على علماء الطب كل نتائجهم العلمية؟ وإذن فلا بد من تقسيم الموضوع إلى أكثر من تخصص واحد، وأكثر من كلية واحدة.
بهذا التخطيط العلمي الدقيق يكون التعاون بين التخصصات العلمية في مجال الدراسات العليا، ثم بهذا التعاون تتوحد الأهداف لما يضطلع به الباحثون في تلك الدراسات. ولست أتصور كيف تكون العلاقة بين الجامعة والمجتمع إلا على هذه الصورة؛ فللمجتمع مشكلاته، وللجامعة الباحثون الذين يقدمون لتلك المشكلات حلولها العلمية الصحيحة.
الحروف والكلمات
قرأت بعض ما كتبه نقاد الفن في لندن، تعليقا على ما قد شهدوه من معروضات الفن الإسلامي هناك، بمناسبة المهرجان الإسلامي الذي أقيم أخيرا في العاصمة البريطانية، فكان مما عجبت له اتفاق هؤلاء النقاد - برغم اختلافهم - على نقاط رئيسية تلفت النظر، وهي نقط أبدت في نفسي فكرة آمنت بها منذ حين بعيد، وهي أن أقوى رباط ثقافي يمكن أن يربط أبناء اليوم بأجداد الأمس هو الفن؛ لأن اللحظة الفنية الواحدة إذا عاشها مبدعوها في الماضي، ثم عاشها متذوقوها في الحاضر التقى المبدعون الأوائل بالمتذوقين الأواخر على وجدان واحد.
وها أنا ذا أقرأ لنقاد الفن ذوي المكانة المرموقة في لندن، لمحات مضيئة نافذة إلى الأعماق، زادتني إيمانا بما كنت أعتقد في صوابه، كما زودتني بعلم ما لم أكن أدركه في فننا الإسلامي. ولقد كنت أقرأ ما كتبه هؤلاء النقاد فأشعر بالزهو يملأ نفسي كلما انتقلت من سطر إلى سطر ؛ لأن كل سطر مما كتبوه جاء مفعما بشعور الدهشة لروعة ما تقع عليه أبصارهم، معترفين بأنهم كانوا يظنون قبل رؤية اليوم، بأن روعة الفن الإسلامي مقتصرة على وسائل «الديكور» الداخلي من جهة، وعلى فن العمارة من جهة أخرى، فإذا هم يرون كنوزا تتلوها كنوز. والأمر - كما قال أحدهم - خلاصته أنه كما تدفق البترول في الأرض العربية الإسلامية، فتغيرت صورة الأرض وأهلها فجأة، فكذلك جاءت معروضات الفن الإسلامي في تنوعها وفي تكاملها فتغيرت فجأة في أذهان المشاهدين صورة الماضي الثقافي للعرب والإسلام؛ بحيث بات واضحا أنه ماض جدير بالتأمل والدرس والتقدير.
على أنني لم أكتب هذه الأسطر لأزهى بماض هو ماضينا الذي عرفناه فقدرناه، وربما جهله الآخرون فلم يقدروه إلا حين عرفوه، وإنما أكتب هذه الأسطر لأشير إلى سمة في الفن الإسلامي كانت أبرز مما استرعى الانتباه عند هؤلاء النقاد، وهي سمة ينفعنا ذكرها وتأكيده؛ لأنها تصلح لهدايتنا في قضيتنا الثقافية الكبرى التي هي: كيف نعيش عصرنا ونعيش ماضينا في آن معا؟
وتلك السمة البارزة هي ظاهرة «الكتابة العربية» وكيف تغلغلت في نتاج الفن الإسلامي كله تقريبا؛ فالسيادة في هذا الفن هي للحرف والكلمة والعبارة، تراها منقوشة هنا محفورة هناك، مزخرفة هنا وهناك. ولما كانت آيات القرآن الكريم هي الشائعة في ذلك الإبداع الفني، اكتسب الفن المستعين بها قداسة من قداستها. فإذا كنت من المسلمين المؤمنين أعطاك المعنى بعدا دينيا عميقا تضيفه إلى التذوق الفني. وإذا لم تكن - كهؤلاء النقاد - شعرت بمحض ذوقك الفني كأنما القطعة الفنية بين يديك قد جاءت فيضا من السماء، ولم تكن مجرد صناعة بشرية أخرجتها مصانع الفن وصاغتها أصابع الفنان.
إن النقاد متفقون فيما بينهم على شعورهم «بالوحدة» التي تربط كل الروائع المعروضة برباط يجعلها جميعا فنا واحدا، يتسم بروح واحدة، مع أن تلك الروائع قد جمعت من نتاج أزمان متباعدة على مسافة ألف وأربعمائة عام، كما جمعت من أماكن متباعدة تباعد الصين عن إسبانيا. فكيف أمكن - برغم هذا التباعد الشاسع في الزمان وفي المكان معا - أقول كيف أمكن برغم هذا التباعد الشاسع أن تتوحد الروح الفنية توحدا يجعلك لا تخطئ الحكم بأن ما أمامك هو فن إسلامي، صغرت القطعة المعروضة أم كبرت، قرب تاريخ إنتاجها أم بعد؟ كيف أمكن - هكذا تساءل أحد هؤلاء النقاد - أن يتجانس فن نتج في قصر إمبراطور مغولي في أطراف الصين، مع فن نتج في خيمة بدوي في الصحراء العربية؟ الجواب عند هؤلاء النقاد جميعا هو: إنه عنصر الكتابة العربية التي اتخذها الفنان المسلم سمة رئيسية في إبداعه الفني. فإذا تفاوتت القيمة المادية بين قطعة كانت في قصر إمبراطور المغول، وقطعة كانت في خيمة البدوي، فبين الاثنتين سمة مشتركة، هي نماذج الكتابة العربية الداخلة في التصميم الفني، لا سيما إذا كانت تلك الكتابة - ويغلب أن تكون - آيات من القرآن الكريم. إنه حيثما سارت «الكلمة» الإسلامية، لفظا ومعنى وكتابة (والكتابة هي التي تعنينا هنا لأنها العنصر المنظور؛ ومن ثم فهي العنصر المستخدم في التشكيل الفني) أقول إنه حيثما سارت «الكلمة» الإسلامية تفاعلت مع عناصر الفن السائدة في الإقليم المعين، وباتت جزءا لا يتجزأ من فن ذلك الإقليم. ومن هنا جاءت تلك الوحدة العجيبة التي ربطت الفن الإسلامي كله بروح واحدة مميزة.
الفن الإسلامي هو التعبير القوي عن الطاقة البصرية عند المسلمين وقد تجسدت وتجلت أمام المشاهدين. فإذا كان من أهم ما يميز هذا الفن بساطة التكوين في الشكل العام، ثم الثراء الغزير في تفصيلات الأجزاء الداخلة في ذلك الشكل العام، فهكذا الإسلام نفسه: بساطة منطوية على غنى. وبمثل هذا التذوق الفني يمكن لأبناء اليوم أن يندمجوا مع آباء الأمس، فلا يضيع عليهم ماض، ولا يفلت منهم حاضر.
لنا رسالة
صادفتني إحصائية عن الكتب العربية التي ترجمت إلى لغات أخرى خلال العشرين عاما الممتدة من سنة 1948م إلى سنة 1968م، فعلمت منها أن عدد الكتب التي ترجمت من العربية إلى غيرها خلال تلك المدة قد أوشك على ألفين؛ ألف منها في الأدب، ونصف ألف في الدين، ونصف الألف الباقية في شتى الفروع الأخرى من علوم وفلسفة وقانون وتاريخ. ومما يلفت النظر أن اللغات الأخرى التي ترجمت إليها كتبنا العربية، تشمل كل بقاع الأرض تقريبا؛ ففضلا عن اللغات الأوروبية الرئيسية كلها، تجد عددا كبيرا من اللغات الآسيوية والإفريقية.
إذن فالكتاب العربي مقروء في أرجاء العالم، حتى وإن يكن مقروءا على نطاق ضيق، أضيق جدا مما كان ينبغي، لكن الأمر الهام الذي سرعان ما يشغل الذهن هو هذا: ترى هل كانت تلك المادة التي نقلت عنا إلى الآخرين مما يمكن في مجموعه أن يحمل وجهة نظر خاصة بنا؛ بحيث تعرف بنا ونعرف بها؟ وإن هذا السؤال نفسه لينقلنا إلى سؤال أسبق منه، هو: ماذا عساها أن تكون رسالتنا إلى الدنيا المعاصرة لو كانت لنا رسالة؟
رسالتنا الثقافية إلى عالم اليوم، إنما يوحي بها ما ينقص هذا العالم برغم تقدمه العلمي الواثب بخطوات الجبابرة، بل إنه نقص بسبب ذلك التقدم العلمي وما أنتجه في علاقات الناس بعضهم ببعض من نتائج رهيبة؛ فهي رسالة إنسانية قبل أي شيء آخر وبعد كل شيء آخر. وإنها لرسالة - فوق كونها تسد نقصا في حضارة العصر - فهي هي الرسالة التي يمليها علينا تراثنا بكل جوانبه.
لقد كانت ساعة من أنفع الساعات التي قضيتها قارئا. وأعني بها الساعة التي طالعت خلالها تقريرا موجزا مكثفا عما أنتجه الأدباء والمفكرون في أرجاء العالم خلال العام الماضي - عام 1975م - فإذا به نتاج يثير الفزع؛ ففي إيطاليا كان من أبرز الحوادث في دنيا الأدب والفكر، أن كاتبا أخذ يطارد بمقالاته وقصصه نزعة العنف الفظيع الذي ساد الشباب، فقتله الشباب! وهنا لم يفت كاتب التقرير أن يقول إن فوز الشاعر الإيطالي مونتالي بجائزة نوبل قد أحدث شيئا من التوازن في حياة إيطاليا الثقافية. وفي فرنسا قدم لنا كاتب التقرير صورة عجيبة من فقدان الثقة فقدانا تاما بين جيل الشباب من الأدباء وجيل الشيوخ، حتى لقد اضطرت سلطات الأمن أن تحيط المكان الذي اجتمعت فيه لجنة المحكمين في جائزة جونكور بقوة ضخمة من رجال الشرطة لحراستهم من جموع الشباب الغاضب. في الولايات المتحدة كان أهم ما أنتجه الأدباء والباحثون فيما يخص حياة الناس الجارية، كتبا خاصة بالحياة الجنسية - سوية أو منحرفة - وقصصا أو كتب تدور كلها حول الرعب والاختطاف والاغتيال والدمار. وقال صاحب التقرير عن ألمانيا الغربية إنها لم تنتج خلال العام شيئا ذا بال، اللهم إلا كتبا يقص فيها مؤلفوها ذكرياتهم الخاصة أو شيئا من التاريخ بصفة عامة. وأما الاتحاد السوفيتي فقد اكتفى صاحب التقرير بذكر قصتين قال عنهما إنهما كانتا أشيع الكتب هناك، وكلتاهما تدور حول التكافل الاجتماعي. وختم الكاتب تقريره بكلمة عن الصين قائلا إن أهم ما صدر عندهم كتاب موجه إلى الشباب يرشدهم إلى طريق الصحة في حياتهم إبان تلك الفترة من العمر.
فلو لخصنا الحصاد الأدبي في العالم خلال سنة 1975 - بناء على هذا التقرير الصحفي الموجز الذي أشرت إليه - لقلنا إنه كان حصادا مداره محوران هما الجنس والعنف! وأما ما عدا ذلك من نوازع الإنسان فلم يظفر عندهم باهتمام. ولكي نتصور كيف أصبح الناس في حضارة السرعة الملهوفة يتجاهل بعضهم بعضا، ننقل صورة رواها مسافر من أستراليا نقلا عن الصحف، وهي أن شيخا تقدمت به السن رئي جالسا على مقعد في جانب الطريق، رأسه ينحني على صدره، وذراعه ملتفة حول ظهر المقعد. وشاءت المصادفة أن يقف أمامه أحد المارة، وربت على كتفه، راجيا إياه أن يشعل له سيجارته، فإذا بجسم الرجل يسقط مكوما ... كان ميتا على مقعده ليومين كاملين، لم يأبه به أحد من المارة في الطريق المزدحم.
الذي ينقص حضارة العصر هو التراحم بين الناس، وليس من شأن الحياة الصناعية أن تخلق هذا التراحم المطلوب، أفلا نجعله نحن محورا لرسالة ثقافية نؤديها؟!
في غرفة الامتحان
وضعوني في غرفة أرقب فيها الطلاب إبان محنتهم، فكنت عندئذ أقرب إلى الشيء يوضع حيث يراد له مني إلى الإنسان يختار لنفسه ما يريد، لم يكن يطلب مني أكثر من جهاز يبصر، وكان رقم الغرفة التي وضعت فيها ثلاثة عشر.
كان من حقي أن أتشاءم لرقم الغرفة، ولكني آثرت ألا أفعل؛ فهذا عدد لا خصوبة فيه ولا مرونة، إنه لا ينقسم إلا على نفسه، إنه لا ينتصف ولا يثلث ولا يتربع أو يتخمس، إنه كالأرض اليباب أو كالصخرة الصلعاء لا تنبت شيئا. ألا ما أبعد الفرق - في ذلك كله - بينه وبين جاره السابق عليه في سلسلة العدد، وهكذا قد يبعد الفرق بين الجار والجار ... كان من حقي - إذن - أن أتشاءم لرقم الغرفة، لكني آثرت ألا أفعل، عسى أن يكون تفاؤلي يمنا على الطلاب في محنتهم.
واستقر الطلاب في أماكنهم، وجلست أمامهم أدير فيهم البصر رقيبا. ما أكثر ما وقفت في هذا «المدرج» بعينه محاضرا، وما أكثر ما راح الطلاب يرقبونني من مقاعدهم وأنا على خشبة المسرح. وقد شاء الله للممثل على المسرح أن ينقلب متفرجا، ولجمهور النظارة أن يصبحوا هم الممثلين؛ ففي هذه الدنيا يوم لك ويوم عليك.
ألقيت نظرة على الأسئلة التي جلس الطلاب يجيبون عنها في عسر أو في يسر. وخلال الأسئلة تصورت نوع المادة المدروسة، فقلت في نفسي يا سبحان الله! اللهم حوالينا ولا علينا، رباه ماذا يكون الفرق في مثل هذا «العلم» بين من يعلمون ومن لا يعلمون؟ إن هؤلاء وأولئك لا يستوون بحكم منك، فاغفر لي اللهم إن ظننتهم في مثل هذه الحالة يستوون. إن العلم لا يكون شيئا إذا لم يكن أداة نغير بها العالم على النحو الذي نريد، ولكن كيف يمكن لمثل هذه المعرفة التي راح الطلاب يسكبونها على الورق بعد أن حفظوها عن الورق، كيف يمكن لها أن تكون أداة في دنيا العمل والنشاط؟ إن فرانسس بيكن حين صاح في أول النهضة الأوروبية قائلا: «العلم قوة» كانت صيحته تلك نذير ثورة كاملة شاملة؛ فلم يعد كل «كلام» يقال علما من العلم بمعناه الصحيح، بل أصبح الشرط هو أن يكون الكلام أداة صالحة نستخدمها في تسيير الطبيعة كما نشاء لها أن تسير ، لكن هؤلاء الطلاب قد حفظوا ما ليس يغير من أوضاع الدنيا شيئا، وإذن فهم لم يتعلموا شيئا.
ما زلت جالسا أدير البصر في الطلاب رقيبا، وكانت فوق رأسي ساعة مدلاة من السقف، تدق دقة خفيفة في نصف الدقيقة وفي تمامها، فانصرفت من دخيلة نفسي إلى الزمن أرقبه. إن نصف الدقيقة الواحد لا يكاد يمضي، فاللهم ألهمني الصبر على ثلاثمائة وستين فترة من هذه الفترات الطوال! جعلت أتسلى بعد كل ما يكن عده داخل نفسي وخارجها على السواء، فوجدت أني أتنفس ست مرات ونصف مرة في الفترة بين الدقتين، والفترة طولها نصف دقيقة، وتتبعت ضربات القلب كما هي واضحة في «الوش» الذي لم ينقطع عن أذني اليمنى خلال العشرين عاما الأخيرة من حياتي. تتبعت ضربات القلب عدا فوجدتها تزيد على الأربعين بضربتين أو ثلاث في فترة بين الدقتين، وتركت دخيلة نفسي فجأة إلى ما يحيط بها. لكن حمى العد ما فتئت متشبثة بانتباهي فرحت أعد ألواح الزجاج في النوافذ، أعدها في النافذة الواحدة وفي مجموعة النوافذ، ثم أعد الطلاب لا أكتفي في ذلك كله بالعد مرة أو مرتين، بل جعلت أعود فأعيد عشرات المرات، حتى مللت ذلك كله فتركت مقعدي وأخذت أسير رائحا غاديا من جدار الغرفة إلى جدارها. وعادت حمى العد، فعددت الخطى التي أخطوها في نصف الدقيقة فوجدتها تسع عشرة خطوة لا تنقص ولا تزيد.
ودقت ساعة الجامعة نصف الساعة، اللهم رحماك! ألم يمض من الوقت إلا السدس بعد كل هذا الذي فعلته من حساب وعد وقعود وقيام؟ كيف إذن نمضي بقية الأسداس؟! هذا هو الفرق البعيد بين الزمن كما يقع في نفوسنا والزمن كما تقيسه الآلات الحاسبة، بل هذا هو الفرق بين الذات الشاعرة وبين الحقيقة الخارجية الواقعة. إنني في نصف الساعة الذي انقضى من محنتي قد عشت دهرا بأكمله من سأم وملل، ولا شأن لي بالساعات وعقاربها أو ثعابينها؟ هل تذكرين أيتها الساعة الجامدة كم مرة استأنيت منك المسير فلم تنصتي لرجائي، وذهبت تديرين عقربيك في مثل اللمح بالبصر، وإذا ساعاتك تمضي سراعا، وإذا نشوة اليوم لم تزد عندي على دقائق معدودات؟ وها أنا ذا أستحثك السير فتبطئين عامدة ... كلا، لا شأن لداخل النفس بخارجها، فهذا عالم وذلك عالم آخر.
عدت إلى مقعدي أرقب من الطلاب قمم رءوسهم، لا تزال الرءوس كثة الشعر لم تنحلها الأيام بعد، لم يكن بينها إلا رأس واحد فيه قليل من صلع، صاحبه متقدم في سنه نوعا ما لعله منتسب، أو هو كذلك على التحقيق؛ لأني حين طلبت إليه ما طلبت إلى سواه أن يكتب في القائمة رقم جلوسه واسمه، كتب الاسم على هيئة التوقيع، فقلت له: بل اكتب اسمك كاملا واضحا، فقال: لكني هكذا أوقع الشيكات! ... هي بالبداهة شيكات يوقعها نيابة عن غيره لا أصالة عن نفسه. إنه في الحقيقة يختلف نفسا عن كل من عداه؛ فقد لمحت فيه حيرة من يجد فجوة بين شعوره الداخلي ومحيطه الخارجي؛ فلا شك أنه ينطوي داخل نفسه على شعور بأهمية مكانته، وينظر إلى الخارج، فإذا هو جالس كسائر الطلاب على دكة من خشب يؤدي الامتحان، وأمامه من جيء به ليحرسه بنظراته خشية أن يسطو على علم غيره بغير حق.
نعم جلست أتفرس هذه الرءوس المنكبة على الورق. ترى ماذا تضم هذه الرءوس غير النتف المتناثرة التي يرسمها أصحابها على الورق عن فهم أو غير فهم؟ إن كل جسد من هذه الأجساد بئر، الله أعلم بغزارة مائه أو ضحالته. إن كل جسد من هذه الأجساد لفيفة مطوية ستظل تنبسط مع الأيام شيئا فشيئا، كل وحدة منها تظهر ما تبطنه في طيها من قدرات، وعندئذ ستتسع الهوة بين هؤلاء الذين يجلسون اليوم زملاء ... لكن لا، اللهم اغفر لي الزلل إذا زللت؛ فإني أقلب بصري في وجوه هؤلاء الشبان، وعددهم ثمانية عشر، فلا ألمح في واحد منهم بوادر همة عالية أو ملامح قدرة تشذ عن المألوف، لست أرى في عيني واحد منهم بريق التوثب ... وشاءت المصادفة أن يكون هؤلاء الشبان جميعا ذوي لون متقارب، هو أشبه شيء بماء النيل في فيضانه، لعلهم لم يجدوا من وقت الصباح فسحة تكفي لغسل وجوههم، فجاءوا بها على نحو ما رأيتها مغطاة بطبقة من غبار.
هذا الطالب الذي يجلس هناك في قمة «المدرج» ترى ما الذي عكس على وجهه مظاهر الانكسار والذلة؟ أهي قسماته التي لم يرد لها الله وسامة؟ أهو فقره البادي على ثيابه؟ لا، قد يكون ذلك وهذا، لكني أرى الآن - إذا اقتربت منه - أرى يدين هما أعجب ما رأيت من أيد؛ فقد اضطرب فيهما لون البشرة اضطرابا عجيبا؛ بقع بيضاء تداخلت فيها بقع حمراء كحمرة النحاس، والجلد فضفاض على عظام الأصابع، كأنما هي القربة التي اتسعت جوانبها على محتواها، ليته وجد من رعى له صحة يديه؛ ففي ذلك وحده ما قد يخلق منه رجلا عزيز النفس قوي الإيمان.
ودخل الخادم فجأة يحمل أكوابا من الشاي، اللهم إن كان ما في هذه الأكواب هو الدواء الشافي أو الشهد المصفى، لأبيته على نفسي من هذا الخادم القذر. كان يرتدي سترة على جلباب، أو إن شئت فقل إنه كان يرتدي ما قد كان في التاريخ الغابر سترة وجلبابا، وأرجح الظن أنه كان حافي القدمين، ليست حاله تلك ذنبا من ذنوبه ولكنها دلالة على سوء حظه، ومهما يكن من أمره فقد أقبل الطلاب على أكوابه. واستوقف نظري طالب أخذه التردد في صورة تبعث على الضحك أو على الرثاء لست أدري، فقد أخذ يمد ذراعه ويقبضها ثم ينصرف إلى قلمه وورقه، ثم يتلفت خلفه ليرى أين بلغ الصعود بحامل الأكواب.
وبقي من الزمن أقل من ساعة، وأخذت ترد لي الأوراق المنتهية، فحلا لي أن أقطع البقية الباقية في ضروب شتى من الملاحظات. سألت نفسي: من ذا يا ترى يكون أول راحل من هؤلاء؟ ومن ذا يكون آخر راحل؟ ولم أخطئ الحساب؛ فقد بدرت من أحدهم حركة خفيفة كالتي تبدر من الراكب في السيارة العامة حين يعتزم النزول في المحطة التالية. ولم يلبث هذا أن رحل، ثم رأيت آخر يفكر كمن لا يفكر، فقلت : سيكون هذا صاحب الدور، وقد كان.
نعم، هنالك وجوه تفكر كمن يفكر وأخرى تفكر كمن لا يفكر، الفرق بعيد بين قسمات الوجه حين يكون في الرأس محصول وبينها حين يكون الرأس أجوف فارغا. أخذت أتفرس هذه وتلك. وانتهيت إلى نتيجة لا أدري إن كانت تصادف قبولا عند علماء النفس، وهي أن الفرق لا يكون في تغضن الجبين ولا في حركات الرأس ولا في الجلسة المؤرقة، بقدر ما يكون في نظرة العين. العين تفضح المستور. نظرة المفكر المليء عميقة مليئة. وأما نظرة زميله الخاوي فضحلة الغور، كأنما هي تنظر ولا ترى.
دقت الساعة تمام الثانية عشرة فجاءت دقاتها ختام محنتي!
الثورة الرابعة التي جعلت «الجامع» جامعة!
كن ثورات ثلاثا اجتمعن في ثورتنا الكبرى، فجاءتهن ثورة رابعة؛ فقد ضمت ثورتنا حتى اليوم ثورات ثلاثا؛ هي الثورة الوطنية التي حررنا بها أرض الوطن من المستعمر والدخيل، والثورة القومية التي استهدفنا بها تحطيم الحواجز المصطنعة التي تجزئ القومية العربية الواحدة، والثورة الاجتماعية التي أزلنا بها الفوارق بين المواطن وأخيه، فتساوى الإخوة على مبدأ من الديمقراطية والمشاركة والتعاون. وها هي ذي ثورتنا الرابعة قد جاءت تحطم الازدواج الثقافي الكريه الذي كان يفصم حياتنا العقلية شطرين يعيشان في عصرين، كأنما نحن أمتان لا أمة واحدة.
كان أملا يراودنا نتطلع إليه تطلع اليائس من بلوغه، فإذا هو عند العزيمة الماضية والإرادة المصممة حقيقة واقعة. وما أملنا ذاك إلا أن يستعيد الأزهر مجده الماضي، فيصبح جامعة تساير عصرها الراهن بعلمه وعمله، كما كان طوال تاريخه يساير عصره دائما، فلما أرادت له العهود السود أن يتخلف، فيسير الزمان من حوله وهو ساكن في مكانه لا يريم، ظنت الظنون أن هذه هي طبيعة الأزهر: أن يقنع من العلوم بتاريخها الماضي. وأما حاضر العلوم فلا شأن له بها ولا شأن لها به؟ وحقيقة الأمر هي أنه اكتفى في القرون الأخيرة من تاريخه بجانب واحد من الجوانب الكثيرة التي تأتلف معا فيما اصطلح على تسميته بالجامعة، وترك بقية الجوانب بغير مسوغ معقول . ولو استعملنا الاصطلاحات الجامعية الحديثة لقلنا إنه قصر نفسه على ما يساوي كلية واحدة، ثم أراد أن يكون بهذه الكلية الواحدة جامعة، فوقع التناقض بين الوسيلة والهدف.
لقد كنا ونحن في الخارج نفاخر أهل الثقافة هناك قائلين إن لنا جامعة هي أقدم جامعات العالم، لكننا كنا إذ نقول ذلك نظهر للناس حقيقة ونخفي حقيقة أخرى في أنفسنا على أسف وحسرة. كنا نظهر حقيقة العمر المديد الذي طال عشرة قرون على وجه الزمن، لكننا كنا نخفي أنه في الحقيقة لم يعد في عصره الأخير يؤدي مهمة الجامعات كاملة. وكنا نتساءل: ما ضرنا لو وصلنا مجدا طارفا بمجد تليد؟ أيجوز لأصحاب العقيدة التي تفرق بين الدين والدنيا هناك أن ينشئوا من الجامعات لرجال الدين ما يخرج قساوسة أطباء ومهندسين وعلماء، ولا يجوز ذلك لنا، نحن أصحاب العقيدة التي لا تفرق بين دنيا ودين؟!
لقد تغيرت فكرة الجامعة في العصر الحديث تغيرا عميقا يصل إلى الجذور، وليست هي بالفكرة الثابتة المتحجرة كما قد يحسب الحاسبون! فقد كانت الفكرة في الجامعة أن تقتصر على الدراسات الأكاديمية النظرية وحدها، حتى أصبحت هذه الدراسات هي طابع التعليم الجامعي في أوروبا؟ فلما أن تطلبت الحياة المتطورة دراسة عملية، أخذوا ينشئون لها «معاهد» و«مدارس» تقوم إلى جانب الجامعات، حتى لا يدخل الجامعة إلا ما هو لصيق بطبيعتها النظرية، وبهذا اتسعت الفجوة شيئا فشيئا بين الفكر النظري والعمل، وهي نتيجة محتومة لبداية تاريخية اجتماعية، كان الشعور الطبقي عندها يفرق بين أرستقراطية مفكرة، وشعب عامل؛ فلا أبناء العلية الممتازة يدنسون أيديهم بالعمل، ولا أفراد سواد الشعب يقبعون في دورهم ليتمتعوا بفراغ الفكر المتأمل.
كانت الجامعات القديمة - إذن - حين تقصر نفسها على الدراسات الأكاديمية النظرية وحدها، متأثرة بالازدواج الاجتماعي الذي كان يجعل الناس طبقتين؛ عليا ودنيا، للأولى فكر وللثانية تطبيق، إلى أن جاءت النهضة الحديثة وأخذت تشتد رسوخا وتعمق جذورا، فسادت وجهة جديدة للنظر، ألا وهي أن الفكر والعمل وجهان لشيء واحد؛ فالفكرة التي لا تلتمس سبيلها إلى التطبيق العملي لا يقال عنها إنها فكرة نظرية فحسب، بل يقال إنها ليست فكرة على الإطلاق؛ فليس من الفكر ما ليس يتحول على يدي صاحبه قوة وعملا، وكذلك العمل الذي لا يصدر عن مخطط نظري فكري إنما يكون خبطا عشوائيا ولا يستحق أن يسمى عملا بمعناه الصحيح.
وبزوال هذا الفارق الزائف بين الفكري النظري والعمل، أخذت بالتالي تزول الفكرة القديمة عن مهمة الجامعة. ولم تعد الجامعة - كما كانت - حرما مقصورا على الدراسات الأكاديمية النظرية، بل دخلتها شيئا فشيئا جوانب التطبيق من طب وهندسة وزراعة وتجارة وغير ذلك من فنون العيش. وإن تكن هناك بقية عتيقة ما زالت باقية في الأذهان التي تعيش على الماضي وتغض النظر عن العصر الحاضر وما جاء به من تطور وتغيير؛ فما نزال نرى بسمات السخرية على الشفاه عندما يقال إن على الجامعة أن تدخل في مناهجها أعمالا تقتضيها الحياة العملية؛ لأن الساخرين ما زالوا يرون الدراسة الجامعية دراسة لأسفار ونصوص، وكل ما عدا ذلك دخيل مرذول.
ولعلنا نلقي أمام هؤلاء شعاعا من الضوء، إذا نحن أضفنا لهم حقيقة شاملة عن تطور التربية كلها - جامعية وغير جامعية - في العصر الأخير، مؤداها أن يتغير محور الدراسة؛ فبعد أن كان المحور هو الموضوع المدروس، أصبح المحور هو الشخص الدارس. نعم كان التعليم كله إلى ما قبل القرن العشرين يجعل موضوع الدراسة هو الأساس، وعلى الدارسين أن يشكلوا أنفسهم وحاجاتهم حتى تلائم ذلك الموضوع. أما اليوم فالأمر على نقيض ذلك تماما في فلسفة التريبة؛ إذ نقول: هذا شخص معين يعيش في الظروف الفلانية ويحتاج في حياته إلى كذا وكيت من الوسائل. إذن فلتعمل المدرسة أو المعهد أو الجامعة على أن تزوده بما يقتضيه عصره وحياته؛ أي إن المدرسة أو المعهد أو الجامعة عليها أن تغير من نفسها عصرا بعد عصر حسب حاجات الدارسين، وليس العكس هو الصحيح.
إنه لمن ضلال الرأي أن تقول إن مهمة الجامعة هي كذا بغض النظر عن العصر الذي يحيط بالجامعة؛ فلو سألتني: ما مهمة الجامعة في رأيك؟ لسألتك بدوري: في أي عصر؟ لأن الجامعات أدوات تساير عصورها؛ إذ هي أدوات تربية وتعليم. وكيف نربي وكيف نعلم ما لم يكن الهدف الذي من أجله نربي ونعلم واضحا، وهل ثمة من هدف إلا أن ينشأ الناشئ ليعيش حياته على أكمل وجه، بأن يواجه حاجات العصر بما تقتضيه؟ أم يريدون للعازف أن يعزف لحنا لم تخلق لسمعه الآذان؟
إن أوجب واجبات الدولة الديمقراطية أن تهيئ لبنيها فرصا متكافئة في الحياة، وليس من تكافؤ الفرص أن أزود أحد المواطنين بما يشق به طريق العمل الناجح، وأن أترك زميله أعزل فيخرج إلى ميدان الحياة عاجز اليدين فلا عمل - بمعنى العمل الصحيح - ولا إنتاج، وبالتالي فلا كسب ولا ازدهار، فيكون بين المواطنين تفاوت محتوم في مستوى العيش، ولا فخر للمواطن الأول إلا أنه دخل التعليم الجامعي من باب، ولا عيب في المواطن الثاني إلا أنه دخل ذلك التعليم نفسه من باب آخر. ومن حق المواطنين جميعا على الدولة الديمقراطية أن تنفتح الأبواب كلها أمامهم على حد سواء بتدبير محكم حتى لا يضل السائرون سواء السبيل.
إننا إذ نتمنى لجامعاتنا الأمنيات، فإنما نتمنى أن يكون لكل جامعة منها طابع يميز أبناءها إلى الحد الذي تعرف به أن فلانا لا بد أن يكون متخرجا في جامعة القاهرة وفلانا الآخر لا بد أن يكون قد تخرج في جامعة الإسكندرية؛ لأن الأول موصوف بكذا وكذا في وجهة نظره إلى الحياة، وأما الثاني فموصوف بكيت وكيت. ولقد كان الأزهر بين جامعاتنا كلها فريدا في امتيازه بهذا الطابع الذي يطبع به أبناءه، وهو عندي من علامات النجاح في قيام الجامعات بمهمتها؛ فيكفي أن يقال لك إن فلانا تخرج في الجامعة الأزهرية لتتصور على الفور نمطا من وجهة النظر وطريقة في الحكم على الأشياء والمواقف، وشبكة من القيم يزن بها الأمور.
وليس من الخير - بطبيعة الحال - أن تسلب معهدا ميزته هذه، في الوقت الذي تتمنى فيه لبقية المعاهد أن يكون لكل منها طابعه المميز من حيث وجهة النظر الثقافية التي يخلعها على بنيه، لكننا إذ نود للجامعة الأزهرية أن تحتفظ بميزتها تلك في طبع خريجيها بطابعها الفريد، نتمنى مخلصين أن يحدث تغير في الجوهر والأساس؛ فبدل أن يتميز ابن الأزهر بنظرة سلفية خالصة، تلوي عنقه إلى الماضي وحده، وتخفي عنه الحاضر والمستقبل معا، نريد له أن يربط ماضينا بحاضر ومستقبل، وليكن في هذا الربط طابعه الذي يختلف به عن سواه.
ولقد حرص قانون الأزهر الجديد على هذا المعنى؛ إذ نص على أن جامعة الأزهر تقوم على حفظ التراث الإسلامي بدراسته وتجليته ونشره، كما تهتم ببعث الحضارة العربية والتراث العلمي والفكري والروحي للأمة العربية، وتزويد العالم الإسلامي والعربي بالعلماء العاملين، وتوثيق الروابط الثقافية والعلمية مع الجامعات والهيئات العلمية الإسلامية والعربية والأجنبية. ولو تحقق هذا النص تحققا كاملا، وأخرجت لنا الجامعة الأزهرية علماء عاملين يربطون ماضينا بحاضر في شتى نواحي العلم والعمل، لما كان هذا القانون الجديد شيئا أقل من ثورة جارفة في حياتنا الثقافية كلها.
قضبان الضوء
الدنيا تتسع أمام عينيك أو تضيق بحسب النظرة التي تنظر بها إليها؛ فقد تنتقل في ربوعها شرقا وغربا وأنت كالمكفوف الأصم لا ترى منها ولا تسمع إلا هوامشها وحواشيها، فتصبح دنياك ضيقة على رحابة آفاقها، وقد يقتصر مقامك على رقعة يسيرة منها، كأن تقضي حياتك كلها في قرية صغيرة، ولكنك تقضيه مفتوح العينين مرهف الأذنين، فإذا تلك القرية الصغيرة عالم زاخر بالخيرات والحقائق.
كنت أسير وجماعة من الرفاق في طريق ريفي فوقفنا ننظر، لا تلك النظرة الفارغة الخالية التي تنفتح فيها العين ولا ترى، لكنها النظرة التي تحاول أن ترى ما حولها. وبدأنا بالألوان التي تقع عليها أبصارنا عندئذ، فكم لونا ترى؟ يا الله! إن هذا وحده ليقتضيك عمرا بأسره؛ فيكفيك أن تنظر إلى شجرة واحدة تتفحص فيها ظلال اللون؛ فقد تقول متسرعا إنه لون واحد هو الأخضر مثلا! لكن انظر، انظر، انظر في هذا اللون الأخضر نفسه كم درجة ترى منه؟! إنها عشرات، إنها مئات؟ فكلما انحرف شعاع الضوء قيد شعرة تغيرت على أوراق الشجر ألوانها وظلالها؟ وهل من الحق أن ليس في الشجرة إلا درجات من لون أخضر؟ انظر، انظر إلى هذه الزهرات المتناثرة، إلى هذا الجذع، إلى هذه الفروع! خذ زهرة واحدة وانظر، وستنفق الساعات قبل أن تلم بألوانها إلماما شاملا كاملا دقيقا، ودع عنك أجزاءها التي منها تتكون، فذلك وحده عالم آخر؛ فإن لي صديقا فنانا قد يهم برسم ورقة واحدة من أوراق شجرة، أو يرسم قطعة صغيرة من أحد فروعها، فإذا هو ينفق في ذلك، لا أقول ساعات، بل ينفق أياما طوالا؛ لأنه كلما أمعن النظر وجد من التفصيلات الدقيقة ما يود ألا يضيع منه شيئا، حتى إذا ما فرغ من الرسم دهشت كيف كانت هذه الغزارة كلها في إحدى وريقات شجرة أو في قطعة من فرع! إنها غزارة تهولك وتروعك، لا بكثرة عددها فحسب، بل بما بينها من تناغم حتى ليخيل إليك أنك إزاء لحن موسيقي تجاوبت نبراته.
ذهل الرفاق ونحن في ذلك الطريق الريفي ننظر إلى الأشياء من حولنا تلك النظرة؛ فقد كنا نحسب أننا سنبدأ بإحصاء الألوان لننتقل منها إلى إحصاءات أخرى. وإذا بالألوان من حولنا، بل بألوان شجرة واحدة تستنفد نهارنا ونعود إلى ديارنا وقد بقيت منها بقية؟ لكن هل ترى أننا قد عدنا إلى ديارنا كما تركناها؟ أم إننا عندنا أغزر خبرة وأخصب علما بإحدى شجرات الريف؛ فما بالك لو أخذنا يوما بعد يوم ننظر بمثل هذه النظرة الفاحصة إلى ثمرة القطن وسنبلة القمح وعود الذرة أو القصب وشجرة التوت وشجرة الجميز، ما بالك لو أخذنا ننظر بمثل هذه النظرة الفاحصة إلى الذر والحشر، إلى الماشية والغنم، إلى النهر والجدول، إلى أحجار الأرض وأجرام السماء، إلى الناس في صلاتهم يتوادون ويتغاضبون؟!
وتلك هي نظرة العلم ونظرة الفن على اختلاف الهدف بين العالم والفنان. فأما العالم فيبدأ بهذه المشاهدات الدقيقة، يرصد الأشياء ويسجلها، لعله يتصيد من بينها تشابهات مطردة؛ فكلما وقع منها على اطراد كان ذلك بمثابة كشف لواحد من قوانين الطبيعة! وما خبرة السنين التي تعلم الفلاح متى يبذر الحب ومتى يروي الأرض وكيف يحرث ومتى يحصد إلا تعميمات قد وصل إليها بعد مقارنات كالتي حدثتك عنها في رصد الأشياء من حوله والأحداث. وإن الناس ليتفاوتون فيما بينهم تفاوتا بعيدا في هذه القدرة على لمح القوانين المطردة التي تجري على سننها الأشياء؛ فلا غرابة أن تجد تاجرا ناجحا وآخر مخفقا، مع أن الدنيا أمامهما على السواء، وقد تكون الأحداث التي تقع في حياتهما هي نفس الأحداث، لكن أحدهما ينفذ إلى الطريقة التي تجري بها الأمور، على حين يظل الآخر ينظر ولا يرى.
وأما الفنان فهو الذي تستوقفه الأشياء التي نظنها نحن مكررة مألوفة، فإذا به يراها جديدة أو كالجديدة، ألم أحدثك عن الشجرة وألوانها؟ فكم مرة مررت بشجرة وحسبت أنك إنما تمر على كل شيء معهود مألوف؟ لكن قف وقفة الفنان وانظر نظرته، تجد الشجرة «جديدة» حتى ولو كنت قد مررت بها ألف مرة في حياتك الماضية. إننا كثيرا ما ننظر إلى صورة رسمها فنان، فترى فيها ضروبا من اللون تحسب أنها من عند الفنان وليس في الطبيعة مثلها، لكن لا إنها هناك ولكنك نظرت إلى الأشياء نظرة المتعجل فرأيتها رؤية سطحية عابرة، وفاتك كل ما فيها من خصوبة وغزارة. إن طاغور - الشاعر الهندي العظيم - ليروي لنا خبرا من حياته طريفا؛ إذ يقول إنه كان ذات يوم يسير مع صديق له من أهل الصين في شوارع مدينة بكين، وإذا بهذا الصديق الصيني يصيح بغتة كأنه المبهوت لشيء عجيب رآه: «انظر! هذا حمار!» وكان الحمار الذي أشار إليه الصيني حمارا كسائر أفراد نوعه، لكن لا، وألف مرة لا. لقد فكر طاغور عندئذ بنفسه قائلا: إن من ينظر إلى هذا الحمار - مثلا - مهملا كل الخصائص الفردية التي تميزه من سائر أشباهه، بحيث يضمه مع سواه في فئة واحدة، فقد فاته أن ينظر إلى الدنيا نظرة الفنان. أتظن أن الفنان إذ يرسم على لوحته حصانا فهو يرسم هذا الكائن في عمومه رسما ينطبق على أي حمار ؟ كلا، بل إن ما يجعل رسمه فنا هو أنه يلقط الخصائص الفريدة التي تجعل من هذا الفرد المعين فردا متميزا مما عداه. وإن فرحة الإنسان بالدنيا ونشوته بالطبيعة سرها هذا الوقوف عند الأفراد لذواتهم - سواء كان هؤلاء الأفراد من الأناسي أو من أفراد الحيوان أو النبات. فالفرق بعيد بين أن تدرس خصائص القط بصفة عامة في كتاب مدرسي، وبين أن يكون عندك قط معين معلوم تعنى به وحده دون سائر القطط؛ ففي الحالة الأولى ستزداد علما فقط، وأما في الحالة الثانية فستزداد حبا وفرحة ونشوة. وهكذا كلما وقفت عند مفردات الأشياء لذاتها - لا لمجرد النفع الذي تبتغيه منها - اتسعت رحاب نفسك واشتدت الأواصر بينك وبين الطبيعة التي تعايشها وتعايشك.
وإذا كانت صلتك بقط معين تقربه من قلبك ومن شعورك، وتزيدك غبطة به ومحبة له، فماذا تقول لو كانت صلاتك بالناس من حولك على هذا الأساس نفسه؛ على أساس الوقوف عند أفرادهم بما فيه من سرور وحزن، فتعنى بأمورهم مشاركا لهم في السرور وفي الحزن على السواء، حاملا معهم أعباءهم لو كانوا ذوي أعباء. إنك عندئذ تنظر إلى الناس نظرة الفنان، وهي نظرة أقرب إلى نبضة القلب وخفقة الفؤاد وهزة النفس منها إلى «معلومات» تحفظها في كتاب. ألا ما أكثر من يعيشون حياتهم وكأنهم مروا منها على قفر يباب؛ لأنهم نظروا إلى الأحياء والأشياء من حولهم نظرة المنتفع لا نظرة الفنان؛ فما لم تكن هذه الشجرة - مثلا - تعطيهم الظل وتقدم لهم الثمرات، فما لهم ولها؟ وما لم يكن هذا الإنسان يتوسط لهم في قضاء حاجاتهم وتيسير منافعهم فكأنما هو بالنسبة لهم عدم أو شر من العدم، لكن حياة كهذه إن أغنت الجيوب فلن تغني النفوس ولن تعمر القلوب بالحب؛ حب الإنسان للإنسان وحبه للطبيعة كلها بما فيها ومن فيها على السواء.
وإذا كانت هذه الغزارة كلها وهذه الخصوبة كلها عند أطراف أناملنا، نأخذها من الدنيا إذا شئنا، فما الذي يحول دون ذلك؟ يحول دونه، أننا نضع أنفسنا بأنفسنا في سجون من الصدور الضيقة، ثم نزعم أن السجون قد فرضت علينا. وهنا نقص على القارئ قصة طريفة نختم بها المقال: أراد غلام ريفي ذكي ذات صباح أن يطلق مجموعة الخراف من حظيراتها، ففتح لها الباب، لكن الخراف ظلت واقفة لأن كبشا كبيرا وقف في مقدمتها ولم يتحرك، فلبثت وراءه ساكنة لا تتحرك. وعجب الغلام. وعن له أن ينظر إلى الدنيا بعيني ذلك الكبش ليرى إن كان ثمت ما يراه فيمنعه من الحركة. ووضع الغلام رأسه ملاصقا لرأس الكبش ونظر، فإذا عمود من الضوء - ضوء الشمس التي أشرقت لتوها - قد امتد من الباب وعلقت به ذرات التراب المثارة من أرض الحظيرة، فبدا كما كان حاجزا من مادة صلبة، فيوهم الرائي أنه سياج يحول دون السير ويمنع من الحركة، لكنه سياج من ضياء!
فاخرج من سجن نفسك إلى الطبيعة وإلى الناس من حولك. وكن على يقين أن الحوائل الموهومة التي تصدك عن السير والحركة كثيرا ما تكون قضبانا من الضوء.
دفاع عن المعقول
أحب - كعادتي - أن أبدأ بتحديد لمعاني الكلمات التي أستعملها، حتى يضيق مجال الخطأ بقدر المستطاع. والكلمة التي تريد التحديد هنا هي كلمة «المعقول» (وبتحديدها يتحدد معنى اللامعقول كذلك) فمتى يكون الكلام معقولا؟
إنه لمن حسن الحظ أن نجد العلاقة وثيقة بين معنى هذه الكلمة في استعمالها المألوف، وبين معناها في أصلها اللغوي؛ لأن هذه العلاقة الوثيقة بين المعنيين تلقي من الضوء ما يكفي لتحديد المطلوب؛ فالأصل اللغوي هو أن «تعقل» الدراسة بمعنى أن تقيدها بقيد، فلا تنساب على غير هدى. وكذلك «العقل» في استعمالنا المألوف لهذه الكلمة هو «القيد» ألذي يقيد به الكلام فلا ينساب كما اتفق، بل يتجه في خط معلوم ليحقق غاية منشودة. وبهذا يكون «المعقول» معقولا لأنه مقيد بالهدف المقصود، ومقيد بالخطى التي من شأنها أن تبلغ ذلك الهدف؛ فحيث لا خطى تتتابع على نحو يحقق نتيجة، لا يكون عقل ولا يكون معقول. وعلى هذا الأساس نفسه يكون اللامعقول سيرا كما اتفق وبغير هدف معلوم. والقيد الأكبر الذي نفرضه على أنفسنا حيث يكون عقل، ونتحلل من حيث لا عقل، هو قيد «الحق»؛ فليس «الحق» من صنعنا، لكنه مفروض علينا من خارج ذواتنا. فإذا ما التزمناه فيما نكتب أو فيما نقول كان الكلام «معقولا» - أي مقيدا بالواقع الحقيقي - وأما إذا لم نلتزمه كان لنا أن نقول أو أن نكتب ما نشاء ولا حرج.
والأمر لا خلاف عليه حين يكون موضوع الحديث هو ظواهر الطبيعة؛ فالمجنون وحده هو الذي يحدثك عن الشجر - مثلا - حيث لا شجر، أو هو الذي يحدثك عن قيام الشيء الواحد في مكانين في وقت واحد. لكن الخلاف في وجهات النظر يبدأ حين يكون موضوع الحديث هو «الإنسان»؛ فها هنا قد تجد من يقول إن للإنسان طبيعة لا تلتزم منطق العقل. ألا تراه في أحلامه وفي أساطيره كيف يتحدث عن أشياء تقبلها نفسه «اللامعقولة» مهما رفضها العقل وتنكر لها؟ وها هنا أيضا قد يسأل أعداء العقل فيقولون: كيف نلتمس «العقل» في الأدب والفن، والعقل من طبيعته التجريد والتعميم، على حين أن الأدب والفن من طبيعتهما الخبرة الفردية الفريدة المباشرة التي لا تجريد فيها ولا تعميم؟
وجوابنا - نحن أنصار العقل - هو أن الفن والأدب مقيدان بنفس القيود التي يتقيد بها الإنسان وهو في مجال العلوم الطبيعية. وأعني بها قيود «الحق» كما هو قائم وواقع؛ فالعلوم الطبيعية من جهة، والفن والأدب من جهة أخرى، كلاهما مقيد «بالصدق» في القول؟ وكل ما بينهما من اختلاف هو أن هذا «الحق» أو هذا «الصدق» مباشر في حالة العلوم وغير مباشر في حالة الأدب والفن؟ أعني أنك في الحالة الأولى تجد الحق مصوغا في صياغة مجردة، قد تكون على صورة المعادلات الرياضية، أو على صورة الأحكام العامة الشاملة. وأما في الحالة الثانية - حالة الفن والأدب - حيث المضمون متفرد فريد، فتحتاج إلى تفريغ القطعة الأدبية أو الفنية من مضمونها العيني. وإذا بك أمام شبكة من علاقات مجردة، تبين لك حقيقة الطبائع البشرية في فاعليتها وفي تفاعلاتها. وعندئذ لا يكون فرق - من حيث التقيد بالحق - بين علم وفن.
واستعرض تاريخ الأدب الخالد ما شئت، تجد أن ما قد ضمن له الخلود هو التزامه «الصدق» أو «الحق »، وهو لا يلتزم هذا الصدق إلا إذا أمكن أن يطبق عليه مقياس خارجي لا حيلة لنا فيه لأنه مفروض علينا، وهو مقياس الطبيعة كما هي قائمة، سواء في ذلك الطبيعة الجامدة أو الطبيعة الحية.
وأما إذا انتجت أدبا ثم فرضت فيه بادئ ذي بدء أنه «لا معقول»، فأقل ما يقال فيه عندئذ أن محاولة التفسير قد امتنعت واستحالت؛ لأن كل تفسير «عقل». أفليس من التناقض - إذن - أن يتناول النقاد قطعة أدبية قيل فيها إنها «غير معقولة» - أي غير مقيدة بقيد الخطى وقيد الهدف - ويحاولون أن يبينوا لنا فيها «المغزى» و«المعنى» و«الغاية» و«الهدف»؟ كلا، إنه لا نقد إلا فيما يقبل التحليل، ولا يقبل التحليل إلا ما ينطوي على عناصر من شأنها أن تتماسك في خط واحد، نعرف كيف نسير به ليوصلنا إلى نهاية معلومة. وواحدية الخطة وواحدية الهدف «عقل». نعم قد يكون في «اللامعقول» «سحر»، بل إن «السحر» بمعناه الحرفي هو محاولة الوصول إلى نتائج من غير مقدماتها الضرورية؛ فنقرع الطبول - مثلا - لينزل المطر، أو نضع في جيب المريض ورقة مكتوبة بالطلاسم ليزول المرض. وإذن فكل سحر هو لا معقول، ومقلوب هذه القضية هو أن في بعض اللامعقول سحرا. أقول نعم قد يكون في اللا معقول سحر يفتننا، ولكن من ذا الذي قال إن الأديب العظيم يكتب ليسحر؟! لا ليست هذه هي مهمة الأديب العظيم، بل مهمته هو أن يصوغ «الحق» في بناء من اللفظ إن يكن ذا طابع فريد في مضمونه الفني، فوراءه حقيقة مجردة عن الطبيعة الإنسانية قد تجسدت فيه؛ فحتى لو أراد الأديب أن يجسد في أدبه الجانب اللامعقول من الإنسان، فهو إنما يفعل ذلك بطريقة معقولة.
أما بعد، فقد اجتاحت أوروبا، وما تزال تجتاحها، موجة تعلي من الجوانب اللامعقولة من الإنسان، ولعلها موجة خلقتها هناك ظروف، من أهمها أنهم شبعوا «عقلا» حتى أتخموا ؛ فللعلوم الطبيعية هناك سلطان أي سلطان! والعلوم كلها عقل صرف، ولو اقتصر أمرها على الطبيعة الجامدة لما ضاقت النفوس، لكن محاولات كثيرة تأخذ في الانتشار، تبتغي إخضاع الإنسان نفسه لتلك العلوم! وقد لا يكون في ذلك خطأ، لكنه على كل حال مما يضايق الناس في عواطفهم؛ ولهذا كله ثار الثائرون هناك يهتفون بسقوط «الفكر» وبحياة «العاطفة»؛ العاطفة لا معقولة، إذن فعلينا بما يحقق للعاطفة نشوتها، وللفرد وجوده. ألم يكشف لنا فرويد عن حقيقة عجيبة، وهي أن الإنسان ليس حيوانا «عاقلا» كما كان يقال عنه منذ أقدم العصور وأنه مسير باللاشعور، أي باللاعقل، ففيم التمسك بالقديم بعد أن ظهر بطلانه؟ لكنني أعتقد أن جزءا كبيرا من هذا الاتجاه مرجعه إلى اليأس من العقل أن يحقق لهم السعادة. إنه كلام ما أظنه يقال لو أن حضارتهم في مثل الأمل الذي كانوا يحسونه في عصر التنوير - مثلا - أو في النصف الأول من القرن الماضي. إن الأسباب نفسها التي جعلت فلاسفة الحضارة عندهم (مثل شبنجلر وتوينبي) يقولون إن حضارة الغرب في طريقها إلى الأفول، هي نفسها الأسباب التي تدفع الأدباء إلى الانتكاس إلى كهوف اللامعقول فرارا من العقل.
وأعتقد كذلك أننا لسنا في مثل هذه الظروف نفسها؛ فهنالك نسبة عكسية بين خيبة رجائهم وازدهار الرجاء عندنا؛ لأن ما قد خيب رجائهم هو بعينه الذي أفسح أمامنا الأمل. هم يفقدون ما يملكون ونحن نملك ما كنا نفقد! هم شبعوا «عقلا» و«علما»، ونحن نعب الرشفة الأولى (وأقصد في حاضرنا مهما يكن من أمر ماضينا) فما أظن أن ما يلقي الصدى في أنفسهم هو ما يلقي الصدى في أنفسنا؛ لأن الحالة النفسية مختلفة هناك عنها هنا. على أن إيماني شديد بأن اللامعقول حتى وإن وجد رواجا مؤقتا هناك، فهو إلى زوال سريع؛ لأنه يفقد سبب الخلود الذي لا سبب سواه وهو أن يكون «العقل» - أي القيد بالهدف وطريقة السير إليه - هو أداة الخلق أولا، ومعيار النقد ثانيا.
إنني لأعترف بأنني تمتعت أيما متعة بمسرحية توفيق الحكيم الجديدة «يا طالع الشجرة»، لكنها كانت متعة المسحور.
هيكل البناء
وجدتها عبارة ذات أبعاد وأعماق، تضع أصابعنا على موضع من مواضع العلة في بنائنا الفكري، وتلك هي العبارة التي وقعت عليها في سباق ورقة التطوير التي تقدمت بها وزارة التعليم، لتكون محورا، قد ينتهي بنا إلى إصلاح الآلة التعليمية الضخمة في بلانا؛ فهي تقول:
لقد نجح التعليم - إلى درجة ما - في تغيير مواقع الأفراد، الذين أتيحت لهم فرص الحصول عليه، لكنه - فيما يبدو - لم ينجح بنفس الدرجة في تغيير مواقع المجتمع، ودفعه على طريق التنمية الشاملة.
ولو أردنا أن نجسد المعنى المقصود في صورة محسوسة، لقلنا إننا كمن يسكن دارا تداعت من القدم جدرانها، وصدئت فيها أنابيب المياه وصنابيرها، وتشققت أبوابها ونوافذها، ثم أردنا الإصلاح، فأخذنا نغير مواضع بعض الأثاث، فما كان غرفة للطعام جعلناه غرفة للجلوس، ونقلنا بعض أدوات المطبخ إلى غرفة النوم، وبعض ما كان في الحمام إلى المطبخ، ثم نظرنا فإذا الدار لم تزل هي الدار:
يسيل الماء من الأنابيب والصنابير، ويدخل الغبار من الأبواب والنوافذ، ويتساقط من الجدران طلاؤها فتتعرى.
إننا خلال قرن كامل من الزمن قد لبثنا نغير «مواقع الأفراد» - كما تقول ورقة تطوير التعليم - فنجعل هذا طبيبا بعد أن لم يكن، وذلك مهندسا، والثالث مدرسا أو محاسبا أو رجلا من رجال القانون، فينتج عن ذلك - بالضرورة - حركة انتقال في عناصر الطبقات، فيعلو من لو ترك بغير تعليم لكان أدنى، أو يدنو من مكان أعلى. وفضلا عن هذا الضرب من تغيير المواقع بين الأفراد، فقد نتجت كذلك نتيجة أخرى أهم وأعظم، وهي أن توافرت لدينا أعداد ضخمة من الكفايات الفنية، في الطب والهندسة والتعليم والاقتصاد والقانون، وغيرها من أبواب التخصص المهني، وهي حقيقة لا ينكرها إلا مكابر جحود.
ومع ذلك التغيير، فقد لبث المجتمع على حاله، أو أوشك أن يكون. فكانت لنا هذه المفارقة العجيبة التي أشارت إليها ورقة التطوير؛ إذ وقع في حياتنا الفكرية والعملية ما لم يكن في الحساب أن يقع، وأعني أن فئة من الأفراد تغيرت إلى أعلى وإلى أمام، أما المجتمع في جملته، فيوشك أن يكون الآن في الموقع الحضاري نفسه الذي كان فيه منذ مائة عام، فكيف حدث ذلك ولماذا؟
أما كيف؟ فلعلنا في حاجة إلى مزيد من التوضيح، لنزداد فهما وتصورا للمعنى المقصود. حين نقول (مع وزارة التعليم) إن أفرادا كثيرين قد غيروا مواقعهم بسبب تعليمهم، لكن المجتمع في جملته - بما فيه هؤلاء الأفراد أنفسهم - لم يتغير إلا قليلا، فيقول: إن أهم معيار نقيس به درجة التغيير الذي أصابه مجتمع، هو مدى مشاركته في حضارة عصره وثقافته. وأظن أنه مهما اختلف الرأي في مميزات هذا العصر: ماذا عساها أن تكون؟ فثمة اتفاق شامل على أن النظرة (العلمية) إلى شئون الحياة (المادية) هي من أهم ما ينطبع به العصر. وإذا قلنا النظرة العلمية فقد قلنا بالتالي اصطناع منهج العلم، الذي من أركانه الأساسية أن يكون المعول على شهادة الحواس التي يتحقق لنا صوابها بالوسائل التي هي أبجدية العمل عند العلماء، وألا يكون المعول قط على أوهام الخرافة وضلالات الأحلام. فإذا وجدنا اليوم ما كان قائما بالأمس من تلك الأوهام أو الضلالات، قلنا إن المجتمع لم يتغير؛ لأنه لم يخط في عصره إلا خطو السلحفاة.
كنت أستطيع أن أسوق مثلا على تلك الأوهام أو الضلالات. قلنا إن منذ وقت غير بعيد، وهي أن رجلا من «المتعلمين» قد لحظ في بيته علامات من تحريك قطع الأثاث وتحطيم الأواني وما إلى ذلك، مما أيقن معه أنه لا بد أن تكون العفاريت في حالة حرب معه، فذهب يشكو إلى الشرطة! فهل حاولت الشرطة أن ترده إلى الصواب؟ لا، بل أيقنت معه بما أيقن، وأخذت تفكر في خطة تقهر بها هؤلاء العفاريت! نعم كنت أستطيع أن أسوق أمثلة كهذا المثل، على مقدار ما يحيط بحياتنا من أوهام الخرافة، فتبعدنا عن علمية النظر، لكنني أؤثر ذكر ما هو أهم وأدعى إلى القلق، وأعني قادة الفكر فينا وما ينشرونه.
ولست أريد أن أسمي أحدا بذاته، لكنني أقول على سبيل التعميم ما لست أشك في صوابه، ولا أتجنى به على أحد، وهو أن هؤلاء القادة الأعلام، ما ينفكون يشككون الناس في العلم وقيمته، بل هم ما ينفكون يبثون في روع الناس بأن الإنسان مخلوق ضعيف عاجز، فإذا هو اعتمد على عقله في فهم أمور دنياه، فإنما يعتمد بذلك على قشة واهنة. وإذا كان هذا هو ما يكتبونه ويذيعونه يوما بعد يوم، فماذا نتوقع من جمهور الناس إلا أن يغوصوا في الوهم إلى أذقانهم، فيظل المجتمع حيث هو، لا يخطو ليجتاز عتبة عصره، ليكون من أبنائه. وقف المجتمع حيث كان، «فلا اقتحم العقبة» التي تحول دون تحرره من أوهام نفسه، ليثق بنفسه وبعقله وبعلمه، إنسانا كما أراد له الله أن يكون.
وأما لماذا وقف المصري دون العقبة لا يقتحمها، فذلك لعلة أراها واضحة، وهي أن «علماءنا» لا يريدون هم أنفسهم أن يصدقوا علومهم، إلا وهم في معامل البحث العلمي، لكنهم إذا ما فرغوا من ذلك، تركوا «منهج» العلم في الأدراج، وانطلقوا مع الجمهور العريض فيما هو فيه. وكم من «عالم» جامعي رأيته وهو في إجازة من منهج العلم، يؤكد لك أن الشيخ الفلاني قد مد يده في الهواء فإذا هي ترتد إليه مليئة بما أراد من فاكهة أو مال أو من أي ممتنع آخر من الأشياء، ويؤكد لك أن الشخص الفلاني قد استطاع أن يعبر نهر النيل ماشيا بقدميه فوق الماء، «وبالأمارة» حدث هذا ساعة الفجر عند ضاحية إمبابة، وكان الرجل سماكا اضطر إلى عبور النهر ولم يملك الوسيلة، ففتح الله عليه لتقواه، وكان ما كان من مشي على الماء! هكذا! قال لي - أنا كاتب هذه السطور - زميل جامعي ذات يوم. نعم، إنك قد تسمع من رجال العلم أنفسهم في مجتمعنا العجب، تسمع منهم حكايات عن أبناء الجن وبناته، وعن أرواح الموتى كيف تستحضر، وعن أشباح القبور كيف تروح وتغدو، فماذا - إذن - يبقى لجمهور الناس من ثقة في العقل وفي العلم وفي الإرادة البشرية، وفي قدرة الإنسان على صنع المعجزات؟
وإنه ليذهلك كما كان يذهلني، لما كنت أجده في خطابات ترد إلي ممن تخرجوا في كليات علمية، كالطب والهندسة والعلوم ، يراجعني فيها أصحابها كلما دعوت إلى التزام منطق العقل في الشئون العامة، محتجين دائما بأن العقل الإنساني محدود عاجز. فيا سبحان الله! أليس هذا العقل المحدود العاجز هو نفسه الذي نهتدي به في المشروعات الصناعية وعلاج المرضى وبناء الجسور وغيرها؟ فلماذا لا يكون هو نفسه منطق العقل الذي نتخذه أداة في حل مشكلاتنا السياسية والاجتماعية وما يدور في فلكها؟ إلا أن علة العلل هي أن متعلمينا يدرسون العلوم في المدارس والجامعات، لكنهم يدرسونها بنصف إيمان.
ونسأل أنفسنا لماذا لم يتغير المجتمع برغم الجهود الجبارة التي تبذل في التعليم؟ (والسائل هو وزارة التعليم نفسها)، والجواب أمامي واضح، وهو أننا إذا علمنا من علمناهم، لم نحرص على أن يكون العلم مقرونا بمنهجه؛ بحيث يصبح ذلك المنهج عمادا للحياة العامة في شتى أوضاعها. ومن أجل هذه الثغرة البشعة في أسلوب التعليم، استطاع المتعلم أن يفصل بين العلم ومنهجه، فنراه يحيا حياة علمية بمنهج العلم في مكان، ثم يحياها بغير منهج العلم في مكان آخر، فينتج الوهم عندئذ وينتج التخريف؛ ولهذا لم يعد عجيبا أن ينطفئ العلم في مجتمعنا، فيصبح علما بغير نور يهدي.
وإذا نحن تعمقنا الأمر إلى أعمق جذوره، وجدنا أن البناء الفكري الذي نقضي حياتنا بين جدرانه، قائم على هيكل ذي ثلاث درجات، وموضع الإنسان منها في الدرجة الوسطى، تعلوه السماء في الدرجة ثم تتلوه الأرض، أو قل الطبيعة بأسرها. ولقد خيل للإنسان وهو في موضعه ذلك، أنه إذا اتجه إلى السماء بقلبه، كان عليه أن يدير ظهره إلى الأرض وما عليها، وأما إذا اختار أن يتجه بعنايته نحو الأرض، كان في ذلك إغفال منه نحو السماء. وبعبارة أخرى، فإن الإنسان لا يستطيع الشخوص ببصره نحو السماء ونحو الأرض في آن معا، لأنه إما أولى وإما آخرة، إما دنيا وإما دين، كأن الطرفين ضدان لا يجتمعان في إنسان.
هكذا أقيم لنا البناء الفكري في القرون الثلاثة المظلمة، التي سبقت مولد نهضتنا الحديثة. ونسوق مثلا يصور لنا هذه النظرة العجيبة، ذلك الموقف حين أخذ العلماء الفرنسيون الذي صحبوا نابليون في حملته على مصر يعرضون أجهزتهم العلمية على جماعة من الشيوخ، مستهدفين في ذلك أن يلقوا الروع في نفوسهم إذ هم يرون من العلم الجديد ما لم يكن لهم به عهد، ففاجأهم شيخ بسؤال: هل منكم من يستطيع أن يكون معنا هنا، وفي بلاد المغرب في آن واحد؟ فدهش العلماء الفرنسيون للسؤال الذي يطلب المحال، لكن الشيخ أنبأهم بأن أهل الخطوة من المؤمنين يستطيعون ذلك، فأين - إذن - علم الفرنسيين من علم المؤمنين؟
هكذا كان الوهم الذي عشناه. وأخشى أن يكون هو نفسه الوهم الذي نعيشه اليوم، وهو أن للمؤمنين علما، وأن لغير المؤمنين علما آخر؛ فللأولين دين، وللآخرين دنيا، ولا اجتماع بين الطرفين، فكان ما كان من ازدواجية عند جمهورنا وعند علمائنا على السواء، وهي الازدواجية التي جعلت التعليم في مدارسنا بغير علم، أو جعلت العلم بغير منهج، أو جعلت التنوير بغير نور، فكنا كأولئك الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.
إن مجتمعنا ليتغير بالتعليم «كما تريد له وزارة التعليم في ورقة التطوير» إذا عالج المتعلم مشكلات الحقل والمصنع وديوان الحكومة والشركة والمؤسسة والبيت وكل منحى من مناحي الحياة بالطريقة ذاتها التي وجدها متمثلة في العلوم كما درسها في المدرسة أو في الجامعة، أعني أن يتخرج المتعلم وفي رأسه «منهج» علمي يلتزمه في العلم وفي غير العلم من شئون دنياه.
وإن مجتمعنا ليتغير مع ازدياد عدد المتعلمين، إذا ما أخرجنا المتعلم وقد آمن بأن العمل الجاد المنتج عبادة، وليس هو بالمعلم المؤمن المتعبد، إذا لم يجعل من علمه أداة لإسعاد الناس. واختصارا فإن المجتمع يتغير على أيدي متعلميه، إذا استطاعت المدارس والجامعات أن تعدل من هيكل البناء الفكري الذي ورثناه من مرحلة الظلام؛ بحيث تردنا إلى ما كانت عليه الحال عند أسلافنا إبان عزهم. وعندئذ يجد المتعلم أن عبادة ربه تتضمن النظر الفاحص في الأرض، وأن العلم والعمل به عبادة يقتضيها الإيمان بالدين.
لقطات على الطريق
حق العزلة
يتحدث الناس عن حقوق الإنسان حديثا لا ينقطع، وتنعقد من أجل ذلك مؤتمرات وتصدر قرارات. ولست أعتزم القول في هذه الحقوق إن كان الحديث عنها من قبيل الجد أو المزاح، وإنما الذي أريد أن أثبته هنا هو أن هنالك حقا عزيزا على قلوب أناس يعدون بالمئات إن لم يعدوا بالألوف، وهو حق لا أحسبه مذكورا في قائمة الحقوق الإنسانية التي يدور عليها الحديث وتدور حولها المناقشات، وأعني به حق الإنسان في أن يخلو إلى نفسه حينا بعد حين، فيكون من حقه أن يجلس وحده ساعة أو بعض ساعة، لا يزعجه فيها أحد من قريب أو من بعيد، وأقصد بالبعيد هنا ما يصلون إليه عن طريق التليفون.
وإني لأزداد استمساكا بهذا الحق لمن أراده لنفسه، كلما رأيت المجتمع الحديث ممعنا في سيره نحو أن يحول أفراده إلى قوائم من أرقام؛ فالفرد الواحد بنسبة إلى أولي الأمر في المجتمع هو من ولد في التاريخ الفلاني، ويحمل بطاقة شخصية رقمها كذا، ويسكن منزلا نمرته كيت، وطوله كذا ووزنه كيت، ورقم تليفونه كذا... إلخ. أقول إنني كلما رأيت إمعانا في هذا الاتجاه الرقمي الحديث، أشفقت على ذاتية الفرد أن تتفكك إلى مجموعة منوعة من أعداد ولا شيء غير ذاك، وازددت بالتالي مطالبة للإنسان بحق الخلوة إلى نفسه ليتصل هو بذاته اتصالا مباشرا إذا كان سائر الناس لا يريدون منه إلا جانب الأرقام والأعداد.
وإني لأسأل: ماذا كانت تكون حال البشرية كلها لو لم يتح لطائفة من الأفراد أن يخلوا إلى أنفسهم؟ كم نبيا جاءته الرسالة في خلوته؟ كم عالما وكم فيلسوفا لمعت في رأسه الفكرة وهو في عزلته، بل قد تكون هذه العزلة أحيانا في غيهب السجن! إن ثمرات الحضارة الإنسانية هي في الأعم من نتاج أفراد تهيأت لهم العزلة وكانت لهم القدرة فتفاعلت هذه مع تلك تفاعلا أنتج. ورحم الله الإمام الشافعي الذي كان يطفئ السراج ليضيف إلى عزلته وهو يفكر ظلمة تساعده على تركيز فكره، حتى إذا ما نضجت الفكرة في رأسه أضاء سراجه وخطها على الورق ، ثم عاد فأطفأ السراج ليستأنف تأملاته.
عقد اللؤلؤ
كنت قد قرأت منذ أعوام نبأ في الصحف عن أميرة نزحت عن بلدها وضاقت بها موارد الرزق، فراحت تبيع حبات اللؤلؤ من عقدها حبة بعد حبة، مستبدلة بما تبيعه منها حبات من زجاج رخيص، لا تفرق العين العابرة بينها وبين اللؤلؤ النفيس، وانتهى الأمر بها إلى عقد كله من حبات الزجاج تلفه حول عنقها وتنشرها على صدرها، لكنها لم تزل في أعين الناس هي الأميرة نفسها ذات العقد اللؤلؤي الثمين. وأحسبها لو أقسمت للناس أن عقدها من زجاج رخيص لما صدقوها ولظنوا بها التواضع المحمود، كما لو أقسمت لهم سيدة من أوساط عباد الله شاءت لها الصدفة أن تتزين بلؤلؤ أصيل أن لؤلؤها أصيل لما صدقوها ولظنوا بها الافتراء والغرور!
عيون تنظر ولا ترى
ترى كم كنت أعلم عن دنياي لو أن القائمين على تربيتي قد علموني كيف أرى؟ فما عرفت إلا منذ قريب أن العينين قد تكونان مفتوحتين شاخصتين، ولا تكفلان لصاحبهما رؤية مليئة خصبة مترعة. أقول إني ما عرفت ذلك حق المعرفة إلا حين زرت صديقا فنانا يعيش من داره البعيدة الفريدة في خلوة هي أشبه شيء بصوامع الزاهدين. زرت ذلك الصديق الفنان في محرابه النائي عن ضجة المدينة وصخبها، فوجدته قد فرغ لتوه من صورة لجذع نخلة قائم أمام داره، ونظرت إلى جذع النخلة فلم أر فيه إلا جذعا أجرد، ثم حولت نظري إلى الصورة فإذا هي عالم غزير بما فيه من تفصيلات ودقائق، وكلما ركزت بصري في أجزائها راعني هذا التناغم العجيب بين خيوط الألياف كأنما هي ديباجة نسجتها أصابع مسحورة. يا إلهي! أتكون هذه الأنغام كلها في ذلك الجزع المبتور العادي، الذي لو نظرت إليه وحدي - بغير هداية الفنان إلى محتواه - لما رأيت فيه إلا عقما وجدبا؟ وكأنما أراد صديقي أن يزيدني عجبا على عجب، فجاءني بصورة أخرى لقوقعة مما نركله بأطراف أقدامنا إذ نغوص بها في رمل الشاطئ، ونظرت فإذا في القوقعة الخالية الخاوية ما في جذع النخلة الجديب الأبتر؛ دقائق وتفصيلات الله أعلم بمداها والفنان أبصر بانسجامها واتساقها ... تلك هي الطبيعة في خصوبتها وثرائها، لو أن لنا عيونا تنظر لترى.
وذكرت لنفسي عندئذ أشياء كثيرة مما كنت قرأته ولم أفهمه كل الفهم، فذكرت الأديب الإنجليزي تشسترتون - وكان يقيم في بلده باترسي - إذ زاره صديق فوجده على أهبة السفر، فسأله: إلى أين الرحيل؟ فأجابه الأديب: إلى باترسي! فقال الزائر ضاحكا: لكنك في باترسي. فأجابه الأديب: نعم، لكن «الإلف» قد أعماني عن رؤية تفصيلاتها؛ ولذلك أنوي أن أسافر إليها مارا بباريس وروما وبرلين؛ فبالمقارنة تتفتح عيناي لما قد عميت عن رؤيته من روائع بلدي الذي أعيش فيه وكأني لا أراه ... فليتني - وأنا أقيم في القاهرة - أسافر إلى القاهرة مارا بهذه وتلك من أجزاء الأرض، على نحو ما سافر تشسترتون من باترسي إلى باترسي ليراها على حقيقتها.
وكذلك ذكرت فيما ذكرت قصة قرأتها عن فنان إيطالي كان صدره يضيق كلما مر في الأحياء المتواضعة من بلده؛ إذ لم تكن تقع عيناه هناك إلا على بشاعة هنا وفقر هناك، ثم خطر له ذات يوم أن ينظر في تلك الأحياء بعين الفنان التي تستخرج الصور، فهالته خصوبة لم يتوقعها، في كل خطوة يخطوها صورة يثبتها على اللوحة فإذا هي آية من الروائع. وإنه لكثير ما يعن لي أن أستفيد بهذا الدرس في حدود قدرتي، فأسير في شوارع القاهرة ناظرا إليها بالعين التي تستخرج الصور التي تستوقف النظر، فعندئذ أرى كنزا نفيسا مما يزخر به هذا البلد من نفائس، حتى الأشياء التي قد تكون منا موضع النقد حينا بعد حين، تنظر إليها بعين تشبه عين الفنان، فإذا هي باعثة على النشوة الجمالية التي ليس بعدها نشوة: هذه العربة الصغيرة يجرها حمار ضئيل، وقد حملت هرما من البطيخ الأخضر الزاهي، وجلس على البطيخ طفل صغير، بينما سار أبوه ممسكا بزمام الحمار ، لافتا رأسه إلى الخلف يبادل وليده الضحكات. هذه المرأة التي حملت على رأسها حملا كبيرا من أعواد الذرة الجافة، حتى لقد اختفى رأسها كله وجذعها في جوف الأعواد ولم يظهر منها إلا أسفل جلبابها الأسود؛ ماذا أقول؟ إنك لو نظرت بالعين التي ترى، إذن لرأيت الأرض قد تبدلت غير الأرض، ووجدت في كل شيء وفي كل حي خصوبة وجمالا.
ملائكة بغير أجنحة
لبثت أزاميل النحاتين عصورا طويلة تصور الملائكة على هيئة الطفولة المجنحة. ولم يكن النحاتون عندئذ يصورون بتماثيلهم أشكال الملائكة بقدر ما كانوا يجسدون مثلا عليا كانت قائمة في عصورهم. فمن هذه المثل العليا تجتمع شفافية الطفولة وبراءتها مع طموح يرقى بصاحبه إلى عنان السماء على أجنحة كأجنحة الطير، إلا أنها بالبداهة أجنحة الخيال الطامح؛ فلقد قيل إن الإنسان في سلسلة الكائنات إنما يقع حلقة وسطى بين كائنات عاقلة بغير أجساد من ناحية، وكائنات حيوانية بغير عقول من ناحية أخرى، وهو وحده الذي يشارك الأعلى بعقله ويشارك الأدنى بحيوانية جسده؛ ولهذا اختلفت وجهة النظر إليه: أنجعله أدنى الكائنات العاقلة منزلة؟ أم نجعله أرقى الكائنات الحيوانية؟ ... وكأنما أراد النحاتون الأقدمون أن يعلوا بالإنسان إلى الطبقة الأولى ويخلصوه من الزمرة الثانية، فكان منهم هذا التجسيد لشفافية الطفل مقرونة بخفة الطير.
حتى جاءنا فنان معاصر فنحت تمثالا من طراز جديد، يشير به إلى تماثيل الملائكة التقليدية، ولكنه يتحرر من قيود التقليد فيها، ليبدع صورة جديدة قيل إنها تجسيد للمثل العليا في عصرنا هذا؛ فقد استبدل بالطفل التقليدي غلاما، ثم بتر الجناحين، ولم يكد يعرض تمثاله هذا حتى تلقفته المصانع لترمز به إلى روح العصر الجديد، فتراه - مثلا - قائما على مقدمات السيارات الحديثة، ليطير مع السيارة، أو لتطير معه السيارة، ولكنه طيران «على الأرض»، وهنا أكبر الخلاف بين الجديد والقديم.
هذا هو نموذج الشباب الطامح في منتصف القرن العشرين. إنه يغامر بخياله في صناعة أو تجارة أو ما شاء أن يغامر به فيه، على أن يجيء الخيال مقيدا بما يصح أن يلتمس طريقه إلى الواقع الملموس؛ فلم يعد يجديه اليوم أن يبرأ من طبيعة شبابه الناضج ليرتد إلى براءة الطفولة التي هي براءة الصفحة الخالية من كل ترقيم، ألا ما أبعد الفرق بين طموح وطموح! ما أبعد الفرق بين طامح يطير بخياله وهو مقعد، وطامح يشق بخياله هذه الأرض ويحلق به في أجواء الفضاء أو يغوص في أغوار الماء، فإذا هذا الخيال الملجم بواقعية التطبيق قد انقلب قطارا منسابا على الأرض، أو صاروخا مارقا في السماء، أو غواصة تنفذ من تحت أطباق الجليد ... ذلك هو روح العصر كما صوره «بروجل» في تمثاله الذي يطلقون عليه «أكاروس».
الفكر المغامر
وما دمنا بصدد مغامرات الطامحين في صورتيها القديمة والحديثة، فإنا لنذكر عبارة كبيرة الدلالة قالها «مل» وهو يكتب لنفسه سيرة حياته؛ إذ قال: «قد تنعكس الغرفة الفسيحة على أفق العقل فتفسحه.» قال هذا تعليقا على ميله الشخصي إلى الغرفات الفسيحة، وضيقه بالغرفات الضيقة. ويخيل إلي أنها عبارة خصبة مليئة بالمعاني؛ فليس يقتصر الأمر - في رأيي - على غرفة تنفسح أو تضيق فينفسح معها أفق التفكير أو يضيق، بل إن الأمر ليجاوز هذا إلى ما هو أهم وأوسع: أيمكن للإنسان أن ينتج فكرا نافعا وهو حبيس، مهما تكن «الزنزانة» التي حبس فيها؟ فقد تكون «زنزانته» هي التقاليد التي ربما كانت نافعة لعصرها ولم تعد لعصرنا، وقد تكون هي التعصب الذي يحصر ناظريه في خط واحد، مع أن أرض الله واسعة الفضاء مليئة بخطوطها، ثم قد تكون «زنزانته» العاتية الجبارة - كما كانت «زنزانتي» - هي الحذر خشية الزلل.
نعم لك أن تحذر وتحاذر، على شرط ألا يكون ذلك على حساب الحياة الخصبة المليئة المنتجة؛ فبغير التجارب لا حياة، وبغير التعرض للخطأ لا تجارب. أتدري كيف كانت خطوة الانتقال في الفكر التي انتقل بها العالم مما يسمونه العصور الوسطى إلى ما يسمونه العصور الحديثة؟ كانت هي هذه؛ فقد كان طابع التفكير في العصور الوسطى أن يجيء محكما في سلامة استدلاله؛ بحيث لا يجوز لمفكر أن يقول شيئا لم يكن موجودا قبل ذلك في مقدمات موروثة، وبهذا يضمن سلامة الطريق وسداد الخطى ... وهذا صحيح، ولكنه يضمن كذلك لصاحب هذا التفكير أن يظل مغلقا في المعروف، بغير أمل في أن ينطلق إلى معرفة جديدة؛ فلا سبيل إلى معرفة جديدة بالعالم إلا إذا انطلقت تبحث عن جديد لم يكن معلوما مذكورا. لكن هذا البحث عن الجديد هو نفسه الباب المفتوح الذي يدخل منه الخطأ كما يدخل منه الصواب ... فلا عليك من قليل من خطأ إذا امتزج بكثير من صواب، هكذا قال رواد النهضة، فكان قولهم فاتحة عصر فكري جديد ... ولعل خير ما يمثل عصرا كهذا هي الرحلة التي قام بها كولمبس قبيل ذلك العصر نفسه؛ فهي رحلة تفتح النوافذ لكشف جديد، لكنها في الوقت نفسه تفتحها لخطر قد يقضي على الكاشفين ... إنها المغامرة في الفكر وفي العمل، هي التي صنعت لنا الدنيا كما نراها ... كانت الآلهة - في الأسطورة اليونانية - تريد أن تحتفظ لنفسها بالنار والنور، بحرية العمل وحرية الفكر، ولو رضي الناس وآثروا العافية على القتال لظلوا حتى اليوم في دياجير الكهوف، لكون «برومثيوس» أراد أن يقبس لنفسه قبسا، ولقي في سبيل مغامرته أحر العذاب، غير أنه وجد العذاب أرخص مما يدفعه المغامر من ثمن ليضيء الطريق لنفسه وللناس.
النفوس وما تخفي
أدار كاتب مسرحي إسباني في القرن السابع عشر هو «دي جيفارا» إحدى مسرحياته حول فكرة طريفة، استعارها منه الأديب الفرنسي «ليساج» في القرن الثامن عشر، ليجعلها مدارا لمسرحيته «الشيطان الأعرج»، مؤداها أن عالما من علماء الفلك قد استطاع أن يأسر ماردا في قمقم، حتى جاءه طالب شاب فأخرجه من أسره، فحمله المارد إلى برج، وعاونه بقوة الشياطين على أن سلط بصره على أسقف المنازل فإذا هي تنزاح عن مواضعها، بحيث ينظر الطالب الشاب إلى ما يدور تحتها، فكأنما انكشفت له عوالم فيها من العجائب ما لا رأت عين ولا سمعت أذن، وهاله الفرق الشاسع بين الناس فيما يظهرون والناس فيما يخفون ويبطنون.
ولقد استعرت بدوري هذه الفكرة «الشيطانية» لأزيح «أسقف المنازل »، بل لأزيح جدران الجماجم عن رءوسها، وأعري جلود الأجسام عن نفوشها. واقتصرت في ذلك أول الأمر على فئة قليلة من الناس ، هم أصحاب القلم، فيا بعد المسألة بين ما يضمرون وما يكتبون فرق بعيد، بعد ما بين الأرض والسماء - ما بين يكتبه الكاتب إذا رضي وما يكتبه هذا الكاتب نفسه إذا سخط. واسترسلت مع نفسي في التفكير طوال عصور التاريخ الفكري حتى انتهيت إلى هذا السؤال: ترى كم كان يتغير وجه التاريخ لو رضي أصحاب القلم ونزلت الطمأنينة على نفوسهم؟ فلو كانت أحداث التاريخ الكبرى قد حدثت بعد أن مهدت لها أقلام الكاتبين، فهل كانت هذه الأحداث نفسها تحدث لو كان أصحاب الأقلام قد وجدوا في حياتهم اللقمة السائغة والفراش الوثير والمنزلة العالية والكلمة المسموعة؟
أغلب الظن أن صاحب القلم - في حالات كثيرة جدا - يسير بقلمه في هذا الاتجاه أو ذلك، تبعا لما قد حرم منه أو أغدق عليه من مكانة في عصره. ولعل نابليون لم يبعد كثيرا عن الصواب حين قال: «إن الكبرياء الجريحة - كبرياء أصحاب الفكر الذين مهدوا بأقلامهم لقيام الثورة الفرنسية - هي التي صنعت تلك الثورة، ولو وجد هؤلاء من المكانة لأنفسهم ما كانوا يشتهون، لدارت أقلامهم على وجه آخر.» وفي هذا الصدد نفسه يقول «ثوروا»: «عقيدتي هي أن ما يحزن أصحاب القلم ليس هو عطفهم على المظلوم والمحروم، بقدر ما هو ألم شخصي يحز في نفوسهم من إهمال الناس لهم، ولو وصفوهم حيث يريدون لأنفسهم، وأغدقوا عليهم العطاء، لم يعد المظلوم في أعينهم مظلوما ولا المحروم محروما.»
ونصيحتي للقارئ إذا ما تناول كتابا يحمل في جوفه فكرة لصاحبه، قبل أن يسأل: من كتب هذا الكتاب وماذا كتب؟ أن يسأل: لماذا كتب ما قد كتب؟
كواهل العظماء
للعظماء كواهل قوية عريضة تتحمل تبعات أعمالهم العظيمة. إن صاحب الرسالة العظيمة الذي يجهر في قومه بالحق - أو بما يعتقد أنه الحق - قمين أن يثير الكراهية والغضب في نفوس أصحاب السلطان الذين يريدون لسلطانهم الدوام والثبات؛ ولهذا قل أن يمضي صاحب الرسالة العظيمة في نشر رسالته دون أن يتعقبه المتعقبون بالوقيعة والأذى، حتى ينتهي أمره إلى محاكمة تعرف نتيجتها قبل البدء فيها، وعندئذ يلمع جوهره النفيس، بدل أن تنطفئ شعلته كما أريد لها أن تنطفئ. ودونك محاكمات العظماء فاقرأها لتسمع بأذنيك ما ينطق به هؤلاء في لحظات محنتهم:
كان غاندي يعتنق مذهبا يحرم قتل الكائنات الحية بكافة أنواعها؛ ولذلك فعندما وجه الدعوة إلى بني وطنه أن يقفوا من الحكومة الهندية «الإنجليزية» موقف العصيان المدني، كان حريصا كل الحرص ألا يلجأ الناس في عصيانهم إلى العنف وسفك الدماء، ولكن الناس عندما استجابوا لدعوته لم يستطيعوا التحكم في أنفسهم على النحو الذي أراده لهم زعيمهم، ففتكوا وذبحوا وأراقوا من الدماء ما أراقوا ... ورغم براءة غاندي الواضحة، ألقي عليه القبض، ووجهت إليه تهمة إثارة الناس، حتى اقترفوا ما اقترفوا من ألوان العنف في ثورة 1921م، فبماذا أجاب غاندي؟ هل حاول التنصل والتماس النجاة؟ كلا، بل حمل التبعة على كاهله القوي بروحه وإن لم يكن القوي بالعظم والعضل، وأجاب النائب العام بعبارة تستحق الخلود؛ إذ قال: «إنني أؤيد النائب العام العلامة فيما ألقاه على كتفي من لوم بمناسبة الحوادث التي وقعت في بمباي ومدارس وشاروي وشورا؛ لأنني كلما فكرت في هذه الحوادث تفكيرا عميقا وتدبرت أمرها ليلة بعد ليلة، تبين لي أنه محال علي التخلي عن هذه الجرائم الشنعاء. إن النائب العام العلامة على حق لا شبهة فيه حين يقول إنني باعتباري رجلا مسئولا، وباعتباري كذلك رجلا قد ظفر بقسط من التعليم لا بأس به، كان ينبغي علي أن أعرف النتائج التي تترتب على كل فعل من أفعالي. نعم فلقد كنت أعلم أنني ألعب بالنار، وأقدمت على المغامرة، ولو أطلق سراحي لأعدت من جديد ما فعلته ...
لقد أردت أن أتجنب العنف، وما زلت أريد اجتناب العنف؛ فاجتناب العنف هو المادة الأولى في قائمة إيماني، وهو كذلك المادة الأخيرة من مواد عقيدتي، لكن لم يكن لي بد من الاختيار، فإما أن أخضع لنظام الحكم الذي هو في رأيي قد ألحق ببلادي ضررا يستحيل إصلاحه، وإما أن أتعرض للخطر الناشئ عن ثورة بني وطني ثورة غاضبة هوجاء ينفجر بركانها إذا ما عرفوا حقيقة الأمر من بين شفتي. إني لأعلم أن بني وطني قد جاوزوا حدود المعقول أحيانا، وإني لآسف لهذا أسفا شديدا؛ ولذلك فإني أقف هنا لأتقبل - لا أخف ما تفرضونه من عقوبة، بل لأتقبل أقسى ما تنزلونه بي من عقاب - إنني لا أطلب الرحمة، ولا أتوسل إليكم أن تخففوا عني العقاب؛ فقد فعلت ما يبدو لي أنه أسمى ما يجب على المواطن أداؤه.»
وأحسب قارئي على علم بموقف سقراط في محاكمته التي انتهت بموته؛ إذ طلب إليه أن يسترحم قضاته، لكنه لم يزد إلا إصرارا على رسالته، وإلا إباء بأن يقف من القضاة موقف الضعيف الضارع، وقال فيما قاله:
إذا كان الرجل خيرا في ناحية من نواحيه، فلا ينبغي له أن يتدبر أمر حياته أو موته، ولا يجوز له أن يهتم إلا بأمر واحد، وذلك أن يرى هل هو فيما يعمل مخطئ أو مصيب، وهل يقدم في حياته خيرا أو يقدم شرا. أترى - إذن - أن الأبطال الذين سقطوا في طروادة لم يحسنوا صنعا؟ فذلك ابن ثيتسي الذي استصغر الخطر وازدراه حينما قرنه بما يثلم الشرف.
حرمة الحياة الخاصة
إنني كلما قرأت شيئا في صحيفة سيارة يكشف عن الجوانب الخاصة من حياة إنسان، عجبت أن يكون هذا حقا مشروعا لأصحاب الصحف، فلا يكون في القانون ما يردعهم، كأنما الأمر من التوافه التي لا تستحق عناية القانون! نعم إني لا أنكر أن في الإنسان رغبة طبيعية تحفزه إلى استطلاع الجوانب الخاصة من حياة الناس، ومن هنا كان لما ينشر في هذا أحسن الوقع عند القراء، ولكن في الإنسان رغبة طبيعية كذلك تحفزه إلى السرقة والقتل، ولولا ذلك لما جاءت الشرائع والقوانين تنهى عنهما. وإذن فليست الرغبة الطبيعية عند القارئ بالمبرر الكافي لضرورة إشباعها.
وإني لأنقل إلى القارئ عبارة أقتبسها من مقالة كتبها «فوكنر» القصصي الأمريكي المعروف؛ إذ قال: «منذ عشرة أعوام أو نحوها، أنبأني ناقد أديب معروف، هو من أصدقائي الخلص ومن ذوي المكانة الثابتة، أن مجلة أسبوعية مصورة عريضة الثراء واسعة الانتشار، قد عرضت عليه مبلغا كبيرا من المال ليكتب عني مقالا، لا عن مؤلف أو أكثر من مؤلفاتي، بل عني أنا بوصفي مواطنا فردا له حياته الخاصة، فقلت له: «لا.» وحذرته أن يكتب عن حياتي الخاصة حرفا واحدا؛ فعقيدتي هي أن مؤلفات الكاتب وحدها هي التي تقع تحت طائلة الجمهور، يناقشونها ويبحثونها ويكتبون عنها ما شاءوا؛ لأن كاتبها قد أباح لهم ذلك ضمنا حين قدم كتبه للنشر وتقاضى عنها الثمن، فلم يعد أمامه بد من قبول ما يريد الناس أن يقولوه وأن يفعلوه في تلك الكتب، من الثناء عليها إلى إحراقها بالنار. وأما حياته الخاصة فملكه الخالص؛ فمن حقه أن يدفع عن جوانبه الخاصة من أراد العبث بها، لا بل إنه من واجب الناس أن يعاونوه على ذلك؛ لأن حرية الأفراد لا تصان إلا إذا كانت حرية الفرد الواحد تنتهي عند النقطة التي تبدأ عندها حرية فرد آخر.»
ألا إنه لإهدار لكرامة الإنسان أن يتحول الإنسان عند أصحاب الصحف إلى سلعة تباع وتشترى؛ فبديهي أن الصحيفة التي تخوض في الحياة الخاصة لكاتب أو فنان، لا تفعل ذلك تمجيدا لأدبه أو فنه، وإلا لكفاها أن تعرض ذلك الأدب أو الفن، ولكنها تخوض في تلك الحياة الخاصة لأنها تجارة رائجة ربحها وفير وعائدها غزير.
متعة الحديث
إن أمتع ما يمتعني في الحياة هو حديث يجري مع صديق أو أصدقاء، نعلو فيه إلى ذروة يتحول عندها إلى فن بديع؛ هو الفن الذي يسوق به الإنسان مشاعره الدفينة في عبارة نقية واضحة، فإذا المشاعر التي بدأت عند صاحبها إحساسا مبهما غامضا قد تحولت بالحديث إلى قول معقول مفهوم؛ فالعلاقة قوية وثيقة بين العقل والنطق، حتى لقد سمي الإنسان بالحيوان الناطق حين أرادوا وصفه بأنه الحيوان العاقل. «في البدء كانت الكلمة» وأول الآدمية كان الكلام.
وإنما تذكرت متعة الحديث عندما ذكرت سقراط؛ هذا الفيلسوف الذي ارتفع بفن الحديث إلى أوج رفيع؛ فلم يكن حديثه لهوا ولا لغوا، لكنه كان الأداة التي يولد بها الحقائق من ضمائر حامليها؛ ففي جوف الإنسان ذخيرة من حكمة ومعرفة، تظل مبهمة في كمونها حتى يجيئها المحدث البارع فيخرجها على لسانه لفظا صريحا واضحا. إنني مؤمن - مع وايتهد - بالحديث وقيمته، وهو يقول عن نفسه في أواخر حياته: «لو أخرجت نفسي عن دائرة المعرفة التي أكتسبها من الكتب، والتي كان لا بد منها لأداء مهنتي، وجدتني قد لقيت أكثر ما لقيت من تهذيب عن طريق الحديث الجيد الذي طالما أسعدني الحظ أن أحظى به مع الأصدقاء.»
كان الحديث أول أداة عرفها البشر في نقل ثقافته، وسيظل أداة لا مندوحة عنها إلى أبد الآبدين؛ فماذا يساوي الكتاب المسطور إذا لم تقرأه قراءة من يتحدث إلى مؤلفه حديث المتدبر المتفهم الناقد الذي يوافقه هنا ويعارضه هناك؟ وماذا تساوي القطعة الفنية إذا لبثت تحدق فيها بعينيك دهرا كاملا دون أن تحكي لنفسك وكأنما تحدث نفسك عن مواضع الجمال فيها؟ حقا إن الإنسان - كما قيل - هو بأصغريه: قلبه ولسانه؛ فبالقلب يشعر، وباللسان يفصح عما قد شعر به. ولو اقتصر الأمر على قلب يشعر، لما عرفت الدنيا رسالة لرسول ولا فكرة لمفكر، ودع عنك إنسانا بغير قلب يخفق أو لسان ينطق؛ فهو والجماد سواء.
دعهم على سجيتهم
وهل تحب لغيرك ما تحب لنفسك؟ نعم، لو كان غيرك هذا في مثل ظروفك ظرفا بظرف، ولكن هيهات أن يتشابه اثنان! وما دامت الظروف اختلفت، فلم يعد من الخير لغيرك أن تحب له ما تحب لنفسك.
كان والدي يحب لي - وأنا الطفل الصغير - ما يحب لنفسه وهو الرجل الذي تقدمت به السن، ومن هنا كانت غلطته الكبرى في تربية أبنائه. كان وقورا فأحب لي أن أكون وقورا مثله. ولما كانت طبيعة الطفل تأبى الوقار، فقد فرضه علي فرضا وأرغمني عليه إرغاما، فلا بد أن يكون قد أطفأ في نفسي الناشئة ما كان عساه أن يذكو لو ترك على طبيعته حرا، فنصيحتي للكبار ألا يحبوا لصغارهم ما يحبونه لأنفسهم.
وأذكر بهذه المناسبة كتابا إنجليزيا كتب للأطفال، عنوانه «الريح في الصفصاف»، كتبه «كنث جراهام» سكرتير بنك إنجلترا. وقدم المؤلف لكتابه هنا بمقدمة تستوقف النظر لما أورده فيها من تحليل لوجهة نظر الأطفال إلى آبائهم وأولي أمرهم من الكبار؛ فهؤلاء الكبار هم - في نظر أطفالهم - مصابون بالجنون والعته، تعوزهم أبسط قواعد المنطق السليم؛ فالأطفال يتعجبون إذ يرون مقاليد أمورهم قد ألقيت في أيدي هؤلاء الكبار المرضى بفقر الدم، البطاء في حركتهم ونشاطهم، المغلولين إلى مقاعدهم، السجناء في بيوتهم، الذين استبدت بهم عاداتهم يكررونها في غفلة تكرارا مطردا مملولا. ولطالما يعجب الأطفال: بأي عقل في الدنيا يفضل الكبار قبوعهم في ديارهم وأمامهم متع الحياة وملاذها، كتسلق الأشجار والخوض في برك الماء؟ وإذا كانوا قد فقدوا الصواب فيما يختص بأنفسهم، فليتركوا الأطفال وشأنهم يغوصون في هذه المتع والملاذ.
ويستطرد الكاتب في مقدمة كتابه فيقول: إن دنيا الحيوان أقرب إلى فهم الطفل من هؤلاء الكبار؛ فالطفل يرى في تصرف الفأر - مثلا - سلوكا أقرب إلى العقل السليم من تصرف أبيه وأمه؛ ولذلك يمتعه أن يرقب الحيوان وأن يحاكيه أكثر مما يمتعه أن يرقب والديه وأصدقاءهما من الكبار؛ فمدار شخصية الطفل - وكذلك الفأر - أن يجمع بين المغامرة والمأوى الآمن، كالذي يحب أن يجول في الغابة المجهولة الثنايا، على شرط أن يظل قادرا على العودة إلى الطريق المؤدية إلى منزله، وكذلك الفأر، يحب لنفسه المأوى الآمن في جحره، فيخرج إلى مغامرته ثم يعود.
فلنحب لأطفالنا، لا الذي نحبه لأنفسنا، بل الذي تحبه طبائعهم.
اتجاه العدوى
إذا نظرنا إلى الحياة نظرة متشائم، قلنا إن من أعجب أمورها أن العدوى تتجه في سيرها من الخبيث إلى الطيب ولا عكس؛ فالمريض يعدي السليم بمرضه، أما السليم فلا ينقل صحته إلى المريض بالملامسة، والفاكهة المعطوبة تعدي جارتها السليمة، على حين أن السليمة لا تزيل عن المعطوبة عطبها، وكذلك قرين السوء يعدي بالغواية قرينه الطيب حتى يحيله سيئا مثله ، ولكن يندر أن يحمل القرين الطيب صاحبه الفاسد على التطهر من فساده.
لكن هذه - كما قلت - نظرة متشائم. ولو التمسنا في الحياة جوانب خيرها، لوجدنا كذلك أن الطيب يؤثر في الخبيث حتى يصلحه. وهؤلاء هم أصحاب الرسالات الإصلاحية جميعا، ومن بينهم الرسل والأنبياء أنفسهم، يظهرون برسالاتهم في أوساط تأباها وتتنكر لها، لكن الداعية إلى الحق إذا ما ثبت واشتدت عزيمته، انهار صرح الباطل شيئا فشيئا، وإذا النافرون من الدعوة الصالحة هم أنصارها الأوفياء.
وما لنا نذهب بعيدا إلى الأمثلة الكبيرة الضخمة، والأمثلة الصغيرة قريبة منا تملأ الحياة كل يوم؟ فقد عرفت رجلا قوي الشخصية، رفيع الخلق، جاد النظرة، لا يسف في القول، ولا يخرج عن حدوده إذا ضحك، فكان هذا الرجل إذا ما وفد على جماعة من معارفه وهم يتبذلون في القول ويسفلون بالعمل ويقهقهون للتافهة ويتندرون بالسخيف ويمزحون في رقاعة وتسكع؛ أقول إن هذا الرجل كان إذا وفد على هذه الجماعة من معارفه، حولهم من حال إلى حال، كأنه لمسة الساحر. إنه لم يكن ينهر أحدا؛ فذلك لم يكن من حقه، ولعله لو فعل لذهب عنه وقاره واستباح نفسه لشرهم، ولم يكن يزجر أحدا باللفظ أو باللحظ، بل كان ينخرط معهم في الحديث لتوه غير متكلف ولا متصنع، فإذا الجماعة تتأدب في حديثها وفي سلوكها، وتعلو في مزحها وترق في ضحكاتها، كأنما كل فرد منها يقول لنفسه في طوية نفسه: ماذا أقول وكيف أسلك حتى أقع من نفس هذا الرجل موقع القبول والرضى؟ إنها العدوى قد عكست طريقها المألوف، فاتجهت في سيرها من الطيب إلى الخبيث.
كنت أتحدث بالأمس إلى طالب من أبناء أسرتي جاء لتوه من الريف ليلتحق بالجامعة، فأخذ يقص علي قصة اغترفها من واقع حياته، وهو يضحك لما فيها من صورة فكهة. قال: كنا جماعة من التلاميذ، نسكن في بيوت متقاربة من شارع واحد، وقد بدأنا عامنا الدراسي بلعب كثير وعمل قليل، لكن أحدنا - وهو تلميذ في السنة الأولى الثانوية - أخذته الهمة وراقبناه من النوافذ وهو ساهر على كتبه حتى منتصف الليل، وهنا أخذت النخوة ثالثهم الذي كان في الثالثة الثانوية، وهكذا أخذت المصابيح في النوافذ يرقب بعضها بعضا ويحفز بعضها بعضا، كأن أصحابها في «مزاد» يتسابقون في ساعات السهر، حتى انتهى الأمر بهم جميعا أن يبيتوا الليل بطوله منكبين على الكتب، لا يأوي منهم أحد إلى مخدعه إلا مع أشعة الشمس عند الشروق.
فقلت له: إنها يا بني العدوى، عدوى الطيب في الخبيث فيصلحه. وتمتمت لنفسي: ما أصدق الفيلسوف «كانت» حين قال: كن كاملا في عالم ناقص، يكمل العالم على مدى الزمن.
النجم الدءوب
أظنه «جيته» هو الذي قال عن نفسه إنه كنجوم السماء، تسير في غير عجلة، لكنها تسير سيرا دءوبا لا يعرف السكون. وبهذه العبارة نفسها أجيب طالبي الذي أرسل إلي يسألني كيف أتيح لي أن أخرج حتى اليوم أكثر من ثلاثين كتابا تقع في عشرة آلاف صفحة، فأنا أسير في عملي سيرا وئيدا لكنه دءوب. هل يعلم صاحب السؤال أنه لو كتب في اليوم الواحد صفحتين كان له في آخر العام مجلد ضخم من جزأين؟
هذا الدأب الوئيد الذي لا يعرف السكون هو الطابع الذي يميز الحياة النامية في شتى صورها: فانظر إلى الشجرة كيف تنمو. إنها لا تكتمل نماء بين عشية وضحاها، بل تسير في طريق النماء قليلا قليلا حتى ليستحيل على أي عين أن تدركها متحركة في نموها، لكنها تدأب دأبا موصولا، فإذا هي الشجرة الوارفة الظليلة. وانظر إلى الإنسان تنمو مداركه من ألفاظ قليلة يتمتم بها حتى يصبح الرجل الناضج صاحب العلم الغزير والخبرة الواسعة، بل انظر إلى دخيلة نفسك: إلى هذه الأنفاس شهيقها وزفيرها تتعاقب الهوينا تعاقبا لا يقف إلا مع نهاية الحياة. إنني لو استثنيت أمثلة قليلة من الطبيعة كالسيل الدافق في عجلة وكالمطر المنهمر في سرعة الملهوف، وكالعاصفة الهوجاء، جاز لي أن أقول إن الطبيعة بأسرها تكره التسرع ولا ترضى عن السكون؛ فهي تفضل لظواهرها أن تسير في بطء سيرا دءوبا ... فحبذا لو سار الإنسان في حياته العملية على غرارها.
حياة على عجل
أقمت فيما أقمت به من مدن الولايات المتحدة الأمريكية، بمدينة «سياتل» في أقصى الشمال الغربي . وهناك في تلك المدينة العظيمة الواقعة على شاطئ المحيط الهادي، وجدت من علامات الثراء الضخم والعمل الدائب الذي لا يفتر ولا يكل، ما لم أجد له في غيرها مثيلا. لكنني لم أكد أستقر في ذلك البلد النابض بالحياة، المفعمة جيوبه بالمال، المليئة دوره وطرقاته بالنشاط والعمل، حتى تبينت أن مدينة «سياتل» هذه تتميز بأعلى نسبة في الانتحار! فكيف كان ذلك؟
سألت صديقا من أبناء الأرجنتين استوطن تلك البلاد لعشر سنوات مضين، وكان زميلا لي في الجامعة، أحاضر أنا في الفلسفة، ويحاضر هو في علم الطبيعة، وكنت آنس إلى صحبته وأستمتع بحديثه الذي كان يتقطر خبرة ويتفجر حكمة، سألته: «كيف تعلل ارتفاع نسبة الانتحار في هذا البلد الناجح؟» فقال: «إن الكثرة الغالبة من هؤلاء المنتحرين شباب جاء وافدا من شرقي الولايات المتحدة باحثا عن النجاح، فظل يزحف غربا متنقلا من بلد إلى بلد، فكلما أخطأ النجاح في بلد تركه وسار غربا، حتى إذا ما بلغ أقصى الغرب في مدينة «سياتل» الواقعة على المخيط، ثم أخطأ النجاح أيضا، لم يجد أمامه ناحية الغرب إلا المحيط يلقي بنفسه في لجته!»
وهنا انتقل بنا الحديث عن فكرة «النجاح» هذه، التي هي وليدة هذا العصر الصناعي، وإلى أي حد كان لها أبلغ الأثر على حياة الأمريكي الذي خلقها، فزعزع بها قيمة من قيم الحياة القديمة، وأعني بها قيمة الانتماء إلى موطن إقليمي معين؛ فما أسهل عليه أن يشد رحاله من بلد إلى بلد، ومن ولاية إلى ولاية، ليضرب بخيامه حيث الكلأ كما كان البدو يفعلون، وكل الفرق هو أن السيارة قد حلت محل الجمل. وإنها لمصادفة موفقة أن تسمى السيارة بهذا الاسم الذي كان قديما يطلق على قافلة الجمال؛ لأن المهمة الرئيسية في كلتا الحالتين واحدة.
فكرة وأداتها؛ أعني فكرة «النجاح» وأداة تحقيقها هي «السيارة» التي ينطلق بها الأمريكي هو وأسرته ضاربا في الأرض حتى يحقق نجاحه المنشود. أقول إن هذه الفكرة وأداة تنفيذها هما اللتان قد طبعتا الأمريكي على التجوال الذي لا يستقر في مكان واحد إلا ريثما يدوم له النجاح فيه؛ فيندر جدا أن تجد البيت الواحد يسكنه من الأسرة الواحدة جيلان متعاقبان؛ فالبيت الذي يسكنه الوالدان قل أن يكون هو نفسه البيت الذي يسكنه البنون في الجيل الثاني؛ لأن ارتحال هؤلاء البنين يوشك أن يكون أمرا مؤكدا، والمزرعة والواحدة لا تظل في ملكية مزارع واحد أكثر من عشر سنوات في المتوسط، كما يدل الإحصاء.
كانت الحياة في الدنيا القديمة سائرة على حكمة الضرب بالجذور في مكان مستقر ثابت. وإن أمثالنا السائرة لتكشف عن مثلنا العليا؛ فنقول نحن: «من فات قديمه تاه.» ويقول الإنجليزي: «إن الحجر المتدحرج لا يجمع الطحلب.» إشارة منهما إلى أن النجاح يستلزم البقاء في مكان واحد، ويقول الفرنسي بلسان باسكال: «أساس متاعب الإنسان مغادرته لغرفته.» ثم جاءت الدنيا الجديدة فأقامت حياتها على حكمة جديدة، وهي أن يحيا الإنسان حياة من تحتها عجلات سيارته تدور ولا تكف عن دورانها، متنقلة بصاحبها من بيت إلى بيت، ومن ولاية إلى ولاية ... فلئن كانت حياة البدوي القديم حياة على جمل، فحياة الأمريكي الجديد حياة على عجل.
غرور
والحديث ذو الشجون؛ فلقد ذكرت لك ذلك الأستاذ الأرجنتيني بخبرته الواسعة وحديثه الطلي. وأذكر الآن أني سألته مرة: «إلى أي حد ترى الشعب الأمريكي حريصا على العفة الجنسية؟» ذلك أني قد رأيته من أشد الناس محافظة، فقال: «إن الأمر ليختلف هنا اختلافا شديدا من إقليم إلى إقليم، والتعميم في الحكم على الشعب كله محال.» ثم سكت قليلا وابتسم واستطرد يقول: «على أني سأروي لك قصة في حياتي الشخصية هنا في مدينة «سياتل»، فقد توثقت أواصر الصداقة الحميمة بيني وبين طبيبة، حتى لقد كنت أزورها كل يوم معين من أيام الأسبوع باطراد لا يتخلف، فراودتني فكرة الزواج، ولبثت شهورا كلما عزمت أحجمت، وكلما أحجمت مرة عزمت مرة، كأنما الأمر كله متوقف على قرار أصدره أنا . وأما هي فلم أشك لحظة في أنها إنما تنتظر صابرة حتى أنطق لها بهذه الكلمة المرتقبة الحاسمة: «أريد الزواج منك يا فلانة .» وأخيرا حزمت أمري وجمعت شجاعتي، وذهبت إليها في موعدي المضروب من كل أسبوع، ولم تكد تستقر بنا الجلسة ويستطرد بيننا الحديث، حتى عرضت الزواج حاسبا أنها ستكون لحظة النشوة الكبرى في نفسها. ويا ما أشد دهشتي عندما أجابت بالرفض في صراحة حاسمة، فسألتها والصدمة توشك أن تفقدني صوابي: «كيف؟ ألم يختبر أحدنا الآخر شهورا عديدة، فإذا بيننا من اتفاق الطبع وانبساط النفس ما يندر أن يتحقق بين رجل وامرأة؟ إنني كما تعلمين مضرب عن الزواج مصمم على العزوبة الدائمة، فإذا وجدتني قد عرضت ما عرضته عليك، فما ذلك إلا لأنني وجدت فيك «إنسانة» رأتني أنسب الرجال.» فنظرت إلي ساخرة وقالت: «هذا غروركم أيها الرجال، تحسبون أن أمر الاختيار مرهون بكم، وأما المرأة فقبولها مؤكد مضمون. ألا فاعلم يا سيدي أنك كما قررت لنفسك العزوبة فكذلك قد قررتها لنفسي، وكما أردت التمتع بي يوما من كل أسبوع، فكذلك قد أردت التمتع بك يوما من كل أسبوع. على أني أضيف إليك الآن ما لم تكن تعلمه، وهو أن لكل يوم من بقية أيام الأسبوع صديقا سواك!»»
الجائع يحلم بالعيش
أحسب أنه لم يعد بين القراء قارئ واحد لم يسمع بما ذهب إليه فرويد في علم النفس من فروض؛ إذ فرض أن السلوك الإنساني كله منبعث عن رغبات جنسية مكبوتة، حبست في أعمق أعماق النفس مذ كان الإنسان رضيعا يغتذي من صدر أمه إلى آخر ما هو معلوم.
ولست أنسى في هذا الصدد قصة طريفة كان قد قصها علينا في جامعة لندن أستاذ يحاضرنا عن نظرية فرويد هذه؛ إذ نصحنا بألا نبالغ في التشيع لها، قائلا: لقد حدث لي أن زادت نسبة الأشياء التي أفقدها ولا أدري أين فقدتها؛ فمفاتيح مكتبي تضيع إلى حيث لا أدري أين ضاعت، ونقودي تختفي إلى حيث لا أعلم كيف تختفي، فقلت لنفسي وأنا العليم بالنفس وأسرارها: لماذا لا تتناول نفسك بالتحليل لترى أين تكون العقدة التي تؤدي إلى هذه الظواهر كلها؟ وأخذت أسجل أحلامي في النوم واليقظة وأحللها، وأفكر في هذا وأفكر في ذاك، وقبل أن أنتهي إلى نتيجة علمية من بحثي هذا، لاحظت فجأة أن جيوب سراويلي مخرقة ولم تكن زوجتي معي لتصلحها. وإذن فالمفاتيح التي ضاعت والنقود التي اختفت قد تسللت كلها من هذه الخروق، فلا عقدة ولا أحلام تريد التحليل والتشريح.
وإنما أقول هذا كله لأسوق للقارئ رأيا طريفا وقعت عليه لناقد ينقد نظرية فرويد هذه، فيقول: إنما قال فرويد ما قاله عن الجنس المكبوت؛ لأنه يعيش في نوع من الحضارة تفرض القيود على العلاقة الجنسية، في الوقت الذي لا تكاد تفرض قيدا على الطعام لوفرته. ولو فرضنا أن الأمر قد انعكس بحيث وجدنا نوعا آخر من الحضارة يفرض القيود على الطعام لقلته، ثم يترك العلاقة الجنسية حرة بغير قيد يحدها، إذن لقال فرويد عندئذ إن العقدة التي ينبعث منها السلوك الإنساني هي عقدة الرغبة في الطعام. ويقال إن أستاذة إنجليزية في الأجناس البشرية قرأت هذا النقد الطريف، فشدت رحالها فورا إلى قبيلة بدائية تعلم عنها قلة الطعام ووفرة الجنس، وجعلت همها أن تجمع طائفة من أحلام النوم وأحلام اليقظة التي يحلم بها أفراد تلك القبيلة، فإذا هما يدوران أساسا حول الطعام، كيف يجدونه في أحلامهم ليشبعوا ما لم يتيسر لهم إشباعه في عالم الصحو. وإذا كان كذلك، فالعبرة إذن هي بما ينقص الناس من حاجات، وهذا النقص يختلف من ظروف إلى ظروف. وكدت أقول إن صاحب المثل القائل: «الجائع يحلم بالعيش.» قد كان له من صدق النظر ما كان لفرويد.
ألا ما أكثر ما يستوحي الإنسان حقيقة نفسه ثم إنه إنما يصف بذلك حقيقة العالم.
الكلمة الولود
الكلمات كالكائنات الحية، منها العقيم ومنها الولود؛ فمن الكلمات ما تنطق بها وكأنك لم تنطق بشيء؛ إذ ينزل الكلام على تراب الأرض كالحصاة الضئيلة لا يهتز لها يابس ولا ماء، ولكن منها ما لا يلبث أن تنفرج عنه الشفتان حتى يطير مع الهواء في أرجاء الأرض والسماء كأنه من عتاة الطير، وهو لا يكاد يهبط بأرض حتى يبيض ويفرخ، إلى أن تمتلئ بنسله عقول الناس ونفوسهم كلاما وكتابة وتعليقا وشرحا واتفاقا على الرأي هنا واختلافا هناك.
لقد صدق من قال إن آلاف الآلاف من الكتب التي تملأ رفوف المكتبات في أرجاء البلاد، تدور كلها حول عدد قليل جدا من الكتب الأصيلة، قد لا يجاوز عددها عشرة، لكنها كانت كتبا ولودا، كل حبة منها تلد ألف حبة ... بل قد يكون الكتاب الواحد منها أساسا لحضارة بأسرها تظلل الناس قرونا بعد قرون؛ فهذا هو الإنجيل وهذا هو القرآن، كتابان هما محوران لحضارتين. إنك تستطيع أن تقول عن الفكر العربي من أوله إلى آخره إنه بمثابة التعليق والشرح على القرآن الكريم؛ فالفقه واللغة والتاريخ والفلسفة والسياسة والأدب كلها قد جعلت القرآن أساسها ومدارها. وتستطيع كذلك أن تقول عن جزء كبير جدا من الفكر الأوروبي إنه أيضا بمثابة التعليق والشرح على الكتاب المقدس. وحسبك خمسة عشر قرنا - من القرن الأول بعد الميلاد إلى القرن السادس عشر - لم تكد تعرف أوروبا خلالها إلا فكرا يجعل هذا الكتاب أساسه ومداره. ودر ببصرك إلى الشرق الأقصى تجد كتابين أو ثلاثة هي التي شغلت الأذهان وملأت النفوس بين ملايين البشر ولعدة قرون من الزمان.
ألا ما أبعد الفرق بين كلمة وكلمة وبين كتاب وكتاب! إن التفكير كله بشتى ألوانه ومختلف درجاته - إبان العصر الواحد - كثيرا ما تلده أم واحدة جاءت على صورة كتاب واحد أنتجته قريحة عبقري واحد! فانظر إلى عصرنا مثلا - وأعني المائة سنة الأخيرة - إلى كتاب داروين «أصل الأنواع»، وكم أنتج من علم وفلسفة وتاريخ وسياسة؛ فنوشك منذ صدور هذا الكتاب في منتصف القرن الماضي ألا نجد مفكرا واحدا لا يتناول موضوعه - مهما يكن موضوعه - من وجهة نظر «تطورية»، فكيف «تطورت» المادة؟ وكيف «تطور» المجتمع؟ وكيف «تطورت» الدولة؟ وكيف «تطور» الأدب والفن؟ بل كيف «تطورت» العقائد على اختلافها؟ ... فإلى هذ الحد البعيد يكون الكتاب الواحد مدارا لعصر فكري بأسره.
وأنتقل الآن بالفكرة إلى دائرة أضيق، فأذكر هذه العبارة البارعة القوية التي أوردها أبو حيان التوحيدي على لسان فيلسوف لم يذكر اسمه، فقال: «إذا نازعك إنسان فلا تجبه، فإن الكلمة الأولى أنثى وإجابتها فحلها، وإن تركت إجابتها بترتها وقطعت نسلها، وإن أجبتها ألقحتها؛ فكم من ولد ينمو بينهما في بطن واحد.» يريد القائل أن يقول إن المعارك الكلامية الحامية كثيرا ما تتولد عن الكلمة الأولى، فتظل تلد النتائج، تلو النتائج، حتى تكبر المعركة ويستفحل أمرها. وإنه لمن الأسرار العجيبة التي نراها في لغتنا العامية أن نرى كلمة «تلقيح» بذاتها تستخدم في وصف الكلام الذي يقوله صاحبه تعريضا بآخر مما يكون من شأنه إثارة الخلاف بل ونشوب القتال.
أرسل فيليب المقدوني - أبو الإسكندر الأكبر - رسالة يتوعد بها أعداءه في إقليم لاقونيا، جاء فيها: «إذا استوليت على لاقونيا، فسأسحق أهلها سحقا.» فأجابه اللاقونيون بكلمة واحدة من الكلمات التي قد تلد حربا ضروسا؛ إذ أجابوه بكلمة: «إذا.»
أخلاق الحيوان
قال لي صديق وهو بمعرض المقارنة بين الكلب والقط، إن في الكلب ودا خالصا وفي القط أنانية، فإذا قفز الكلب إلى حجر سيده كان ذلك حبا في سيده، أما إذا وثب القط إلى حجر سيده كان ذلك التماسا للدفء. ثم تشعب الحديث بيننا في أخلاق الحيوان، وعجبنا أن نجد شتى الخصائص الخلقية - حسنها وقبيحها - متمثلة في صنوف الحيوان، كأنما جاءت هذه الصنوف المتباينة نماذج تعرض أمام الأنظار خصائص الأخلاق في أصفى صورها؛ فالذئب غادر، والحمل وديع، والثعلب مراوغ، والكلب ألوف، والصقر جبان، والغراب مغرور، والقرد خبيث، والليث شجاع، والفيل حقود ... وهكذا.
لكنه هو الإنسان، الذي أراد أن يخلع نفسه على سواه، لكي يرى نفسه متمثلا في كل من عداه وما عداه.
التعاون فطرة
قال حافظ إبراهيم يصف عدم تعاون المصريين: «المصري والمصري كشعبتي المقراض، لا يلتقيان لشيء إلا افترقا.» ومثل هذا القول يردده كثيرون، وحسبنا نظرة يسيرة عابرة إلى أصول مجتمعنا، لنرى بطلان هذه الدعوى ؛ إذ نرى «التعاون» جذرا أصيلا من جذور هذا المجتمع، نؤديه بغير تكلف ولا تصنع؛ لأنه تعبير عن روحنا وفطرتنا.
وإنما جابت برأسي هذه الفكرة عندما ذهبت إلى قرية ريفية منذ قريب لأقوم بواجب العزاء في مصاب ألم بصديق، فما أقبل وقت الغداء ثم ما أقبل وقت العشاء، حتى رأيت «الصواني» خارجة من كل باب، تعاونا من أهل القرية على استضافة الغرباء؛ وعندئذ عادت بي الذاكرة إلى طفولتي وشبابي، عندما كنت أقضي إجازات الصيف مع جدتي في الريف، فتذكرت عشرات الأمثلة الدالة على تأصل روح التعاون في أهل القرية بفطرتهم؛ فإذا خبزت واحدة من سكان الحارة خبزت معها الباقيات، وإذا جلست الواحدة لتفتل «الشعرية» جلس معها الباقيات يفتلن معها حتى تفرغ من هذه المهمة الدقيقة الطويلة؛ هذه تستعير الإبرة من تلك، وتلك تستعير قليلا من سكر أو ملح من هذه. يمرض الولد في بيت فينهض أهل الحارة عن بكرة أبيهم للمعونة؛ فجار يذهب مسرعا إلى «البندر» ليشتري الدواء، وجارة تكرس يومها لأداء واجبات الدار من تنظيف وطهو للطعام كي تخلو أم المريض لرعاية مريضها. وإذا قلنا مع القائل إن الحياة قوامها ثلاثة أحداث هامة، هي: الولادة، والزواج، والموت، فانظر إلى هذه الأحداث الثلاثة بالذات كيف يتعاون لها أهل الريف؛ فهل تلد والدة إلا وساكنات الحارة جميعا خادمات لها معينات؟ وهل يتزوج فتى أو فتاة إلا والفرحة تملأ سكان الحارة جميعا كأنما الفتى أو الفتاة عندئذ فتاهم جميعا أو فتاتهم؟ ثم هل يموت من سكان الحارة عضو إلا والمأتم مأتم الجميع؟ ... انظر إلى فكرة «النقوط» النابعة من فطرتنا الأصيلة، وهل هي إلا نظام للتأمين الجماعي بأدق معناه؟ فدافع «النقوط» إنما يدفع «بوليسة التأمين» أقساطا لهذه الأسرة وتلك، حتى إذا ما جاءته الظروف التي يلقى عليه العبء ثقيلا، تدفق عليه «النقوط» راجعا إليه متجمعا في مبلغ يسد الطارئة.
إلا أن الدعوة اليوم إلى «التعاون» إنما هي دعوة إلى فطرة فينا وليست بغريبة عنا كما يقول المتشائمون. وإني لأعود إلى عبارة حافظ إبراهيم نفسها : «المصري والمصري كشعبتي المقراض لا يلتقيان لشيء إلا افترقا.» فألاحظ أنها ترد على نفسها بنفسها؛ لأن شعبتي المقراض حين يفترقان بعد لقاء ، فهما يفترقان بعد أداء المهمة التي التقيا لأدائها، وهذا هو التعاون في لبه وصميمه.
الأرانب العفاريت
قصة شهدت حوادثها منذ ثلاثين عاما ولا أزال كلما ذكرتها أغرق في الضحك؛ ففي ليلة مقمرة من ليالي الصيف، أخذنا نسمر في الحقل إلى ما بعد منتصف الليل، ابن عمتي - وهو مالك الأرض - وصديق له ريفي وأنا. وفي هداة الليل؛ حيث يجيئك صرير السواقي من بعيد مرة ومن قريب مرة، والضفادع تنق هنا وهناك وفي كل مكان نقيقا موصولا لا مقطوعا ولا ممنوعا، والجنادب تغني لها كأنما هي البطانة الموسيقية، والبعوض يلسعني ولا يلسع زميلي، أو قل إنه كان يلسعني فأفصح عن لسعاته آنا بعد آن، ويلسع الزميلين فلا يفصحان.
ومضينا في السمر، أحدثهما عن القاهرة ويحدثانني عن الريف. وما إن جاء ذكر الأشباح والعفاريت، حتى كنت أنكر أنباءها وأسخر، وينكر معي ابن عمتي ويسخر. وأما صديقه الريفي فقد راح يؤيد قصة بقصة، ويشهد على صدق روايته برواية أخرى. وكان كلما زادنا من أمرها نبأ، زدناه من سخرنا سخرية، وكانت هذه السخرية في رأيه كالكفر سواء بسواء. أننكر ما تراه الأعين وتحسه الأيدي؟ إن العفاريت لتظهر للناس في ألف صورة، وكل أهل القرية يعلمون علم البصر الذي لا يخطئ أنها - مثلا - كثيرا ما تظهر على هيئة الأرانب في الليالي المقمرة بصفة خاصة، وهي أكثر ما تظهر على هذه الصورة في المنطقة المحيطة بالمسجد.
وتشعب الحديث بعد ذلك، حتى إذا ما بلغنا من السمر غايته في ساعة متأخرة من الليل، نهضنا والضحك يملأ أفواهنا، والفرحة تشيع في نفوسنا، وسرنا الهوينا في طريق العودة، فما إن مررنا بالمسجد - وهو في مدخل القرية - حتى أراد منا من أراد أن يقضي حاجة في «ميضة» الجامع! ولا نكاد ندخل في الفناء المكشوف، حتى نرى الأرانب البيضاء الناصعة جماعات تلمع في ضوء القمر، فبسمل صديقنا الريفي وحوقل واستعاذ بالله من الشياطين، ونظر إلينا نظرة مليئة بالمعنى والتقريع. وأما ابن عمتي وأنا فقد لمعت في رأسينا فكرة واحدة في لحظة واحدة ، كأن كلينا كان يفكر برأس أخيه، وهي أن نمسك من هذه الأرانب ما استطعنا، وبدأنا الطراد من فورنا حتى أمسكنا من الأرانب أرنبين، وعدنا ممسكين بهما كأنما نحن رجال الشرطة قد قبضوا على مجرم خطير ووضعنا الأرنبين في «حلة» كبيرة واربنا غطاءها وثبتنا الغطاء بحجر ثقيل، وانصرفنا إلى مخادعنا.
وصحونا مبكرين نتسلل إلى «الحلة» ننظر خلال فتحة الغطاء، فإذا الأرنبان هناك كما وضعناهما، لولا أن على وجهيهما علائم ذلة وانكسار. وأمرنا أن يذبح الأرنبان وأن يطهيا. كان منهما غداؤنا أمام شهود، وألححنا على صديقنا الريفي أن يأكل، لكنه - مع ذلك كله - أبى أن يدخل في جوفه شيئا من لحم الشياطين.
كيف يكتب الأديب
تلك كانت سذاجة الريف كما شهدتها ثلاثين عاما. وأعود بك خمسين عاما وراء ذلك لأطلعك على صورة رائعة بارعة، كتبها أديب مصري مطبوع عن سذاجة الريفي الذي لم يكن عندئذ قد أصاب شيئا من التعليم. وأما الأديب فهو عبد الله النديم، الذي كتب تحت عنوان «محتاج جاهل في يد محتال طامع» في أول عدد من مجلته «التنكيت والتبكيت» التي أصدرها في السادس من شهر يونيو عام 1881م؛ قال النديم:
احتاج أحد الزراع لاستدانة مائة جنيه، فقصد بعض التجار، وطلب منه المبلغ، فجرت بينهما هذه الحكاية بحضور أحد النبهاء.
الزارع :
عاوز مية جنيه بالفرط يا سيدي.
التاجر :
فرط المية عشرين كل سنة.
الزارع :
اعمل اللي تعمله.
التاجر :
شيل من المية عشرين، يبقى كام؟
الزارع :
لهو أنا كاتب؟ شوف يفضل كام.
التاجر :
يبقى سبعين.
الزارع :
يا دوب كده.
التاجر :
دلوقت صار لي مية جنيه، ضم عليهم عشرين واكتب الكمبيالة.
الزارع :
اكتب، وخد الختم أهو. (ويعود الفلاح بعد بضعة أشهر ومعه عشرة قناطير قطنا، وعشرة قناطير سمسما، وعشرون إردبا من القمح، وثلاثون إردبا من الفول، وأربعون إردبا من الشعير.)
الزارع :
تعالى بقى نتحاسب.
التاجر :
عشرون جنيها للقطن وعشرة جنيهات للقمح، وثمانية للسمسم، وعشرون للفول، وعشرون للشعير؛ يبقوا كام؟
الزارع :
كام؟!
التاجر :
يبقوا أربعين جنيه، اطرحهم من المية وعشرين اللي عليك يفضل كام؟
الزارع : (؟)
التاجر :
يفضل تسعين، حط عليهم فايدة المية عشرين، يبقوا 115 جنيه، وبتقول عاوز كمان ثلاثين جنيه، يبقى المجموع مية وستين جنيه، يبقى نكتب الكمبيالة بمية وستين جنيه وخمسين قرش.
الزارع :
لا، مية وستين بس، الخمسين قرش جت منين؟
التاجر :
أجرة حسابي وكتابتي الكمبيالة.
الزارع :
معقول.
أما بعد، فقد كان التاجر أجنبيا يقيم في مصر، وهكذا كانت حالة الجاليات الأجنبية التي قال المستعمرون بعدئذ إنهم جاءوا ليحموا مصالحهم من إجحاف المصري الظالم! ثم هكذا كانت حالة الفلاح الذي قال عنه الطغاة يوما إن التعليم يفسده! لكن هكذا كان يكتب رواد الحركة المصرية في مصر منذ ثمانين عاما! إيقاظا للرقود وتنبيها للغافلين، وكان في طليعة أولئك الرواد الأديب الموهوب عبد الله النديم.
باب النجار المخلع
أنا من الذين يؤمنون إيمانا قويا بما في الأمثال السائرة من صدق ونفاذ؛ لأنها خلاصة خبرة طويلة لشعب بأسره، لكنني كذلك كثيرا ما أقف إزاءها وقفة تحليلية أحاول بها أن أفهمها على الوجه الصحيح، حين أجدها في ظاهرها لا تتسق مع الواقع. أريد أن أقول إنني كلما وجدتني مختلفا في الرأي مع المثل السائر، رجحت أن يكون المثل هو الصحيح، وأنني أنا المخطئ، وعندئذ أحلل لأفهم معناه المقصود.
فمن ذلك قولهم إن «باب النجار مخلع»، وهذا ظاهره أمر غير معقول، فلماذا يكون؟
الحق أن باب النجار لا يكون مخلعا إلا إذا كان نجارا ناجحا! هكذا فسرت المثل وعلى هذا النحو أزلت عنه غموضه الظاهر؛ وذلك أن العامل الناجح مشغول بعمله المنتج عن النظر إلى ما لا ينتج؛ فلو وجد النجار فراغا من وقته لالتفت إلى بابه يصلحه، لكن فراغه هذا لا يتوافر له إلا إذا قل زبائنه.
أتعلم كيف جاءني هذا التفسير؟ جاءني من زيارتين زرت بهما طالبين من أقربائي وهما في غمرة الاستعداد للامتحان. أما أحدهما فقد رأيته غارقا إلى أذنيه في العمل؛ فالكتب والأوراق حوله في غير انتظام. حييته فكاد لا يجد من نفسه الدافع إلى رد التحية؛ لأنه مشغول. وسألته سؤالا عابرا: هل أعددت لنفسك جدولا تنظم به طريق العمل؟ فقال وكأنما يسخر من هذه العقلية التي شاخت: جدول؟ ليس لدي من الفراغ ما أكتب فيه الجداول.
وتركته وذهبت إلى زيارتي الثانية، فإذا صاحبنا الثاني جالس إلى مكتب مرتب منظم، وأمامه ورقة ومسطرة وفي يده قلم: ماذا تصنع يا بني؟ فأجاب: أسطر جدولا للمذاكرة.
فعدت إلى داري وقد ازددت للطبيعة الإنسانية فهما، وانتهيت بيني وبين نفسي إلى حكم عن الطالبين: أيقنت من نجاح الأول وشككت في نجاح الثاني، وأهم من ذلك أنني رأيت موضع الصواب في قولهم: «باب النجار مخلع»، لكنني أضفت إلى المثل كلمة توضحه، فأصبح عندي: باب النجار الناجح ...
Unknown page