وخرجنا من عنده إلى جريدة السياسة. ولم يكن الدكتور هيكل رئيس التحرير موجودا هناك تلك الليلة، فقصدنا إليه في اليوم التالي، ورحب بما عرضناه عليه، وبدأنا تدريبنا، لكنه لم يمض على هذا التدريب أسبوعان حتى أراد لنا الدكتور هيكل شيئا آخر، وهو أن نعاونه على إخراج كتيبات صغيرة تباع مع الصحف بأثمان رخيصة، كل كتيب منها يبسط موضوعا يتصل بتاريخنا. ولقد خصص لكل منا موضوعا يجمع له مادته، وكان نصيبي هو أسطورة سميراميس. ونفذ المشروع، وصدر الكتيب الأول في موضوع لا أتذكره، لكننا أسرعنا إلى البحث عن أسمائنا في المقدمة كما وعدنا، فلم نجد لها ذكرا، وكان امتحان العام قد اقترب، فانصرفنا إلى ما هو أجدى.
القارئ الكاتب
اختلفت حياتي الثقافية خلال الثلاثينيات عما كانت عليه في العشرينيات اختلافا بعيدا؛ فبعد أن كنت في العشرينيات قارئا وكفى؛ بحيث لم أكد أكتب حينئذ إلا بضع صفحات، أصبحت في الثلاثينيات قارئا كاتبا.
في شهر يناير من سنة 1933م ظهرت مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات؛ فما إن صدر العدد الأول منها حتى انفتح أمامي الميدان الذي أنظم فيه نشاطي في دنيا الثقافة، بعد الفراغ من شواغل مهنتي؛ فما هو إلا أن أخذت أرسل المقالات تباعا بالبريد، والرسالة تفسح لي صدرا رحبا. ولكن فيم كانت تلك المقالات بوجه عام؟ كانت فصولا في أعلام الفلسفة الغربية، يغلب أن تختص كل مقالة منها بفيلسوف؛ فهذه مقالة عن برجسون، وتلك عن نيتشه، والثالثة عن شوبنهاور، وهلم جرا.
هكذا كان نصيبي من الثقافة أول الأمر هو نصيب السمسار الذي يتوسط بين صاحب السلعة وشاريها، أو قل إن نصيبي لم يزد على ما يؤديه عارض الأزياء؛ فالأزياء التي يتولى عرضها على الناس لا هي من نسجه وصنعه ولا هي من حقه فيملكها ليرتديها. على أن ذلك النصيب المتواضع، كان يؤرقني حتى في تلك المرحلة الباكرة، فانتهزت فرصة عدد ممتاز أراد صاحب الرسالة إخراجه بمناسبة عيد الهجرة - وهو تقليد حميد جرى عليه بعد ذلك كل عام - ودعاني للكتابة فيه؛ إذ كتبت مقالة ألهمتني الهجرة فكرتها، فقلت إنه لا بد لروحي الحبيسة في أفكار الآخرين أن تهاجر إلى حيث يكون فكرها المبتكر الأصيل. واستعرضت موقفي صادقا صريحا، فإذا أنا أقرأ ثم أقرأ، وأتلون بما أقرأ كأني دودة زاحفة على ظهر الأرض تسعى؛ فتصفر إذا حبت فوق الرمال، وتخضر إذا زحفت فوق الحقول. كنت أقرأ للشكاك فأشك، ثم أقرأ للمؤمنين فأومن. هذا كتاب متشائم أطالعه، فإذا أنا الساخط الناقم، وذلك كتاب متفائل فإذا أنا المستبشر الفرح الطروب.
وضربت لنفسي في تلك المقالة الأمثلة لعلي أهتدي بهديها؛ ضربت مثلا بالإمام الغزالي الذي قرأ واستوعب ليلقي دروسه ويؤلف كتبه فيما قرأ واستوعب، لكنه وقف بغتة يحاسب نفسه حسابا بلغ من عسره أن نالت من الغزالي العلة بما نالت، ولم يشفه منها إلا أن استمع إلى وحي نفسه، فهجر بغداد حيث كان يقيم ويعلم، إلى حيث ينطلق العقل في دنيا التأملات.
وكذلك ضربت لنفسي مثلا بالأديب الروسي تولستوي، الذي غاص في أغوار الفكر ما غاص، وانتهى به الأمر إلى اضطرب وحيرة، حتى لقد أفرغ مكتبته من كل ما فيها إذ رآه من الأباطيل. لقد قرأ تولستوي للفلاسفة الأعلام جميعا؛ قرأ لأفلاطون، وكانط، وشوبنهاور، وباسكال، لكنه الآن قد تبين أن أفكار هؤلاء الفلاسفة إنما تكون واضحة ودقيقة، حيثما تبعد عن مشكلات الحياة المباشرة، أما في ميادين هذه الحياة، فإنها لا تهدي الحائر سواء السبيل.
ولكن هل ردعتني تلك الثورة النفسية؟ إنها لم تردع، ومضيت فيما كنت ماضيا فيه، من قراءة لهذا وذاك من كبار المفكرين؛ لأكتب فيما بعد عما قرأته؛ فكأنما الكتابة والقراءة كانتا عندي يومئذ جانبين لشيء واحد. وحدث ذات مساء أن زرت صاحب الرسالة في مكتبه، ولم أكن قبل ذلك قد زرته، مكتفيا بالبريد أنقل به مقالاتي إليه. وكان مكتب الأستاذ الزيات صاحب الرسالة عندئذ غرفة من شقة كانت تستأجرها لجنة التأليف والترجمة والنشر - وكان الزيات أحد أعضائها - فقدمني إلى من كان موجودا هناك من أعضاء اللجنة، وكان منهم رئيس اللجنة الأستاذ أحمد أمين، فرحبوا بي ترحيبا أكثر مما كنت أراني جديرا به، من علماء أجلاء، ومن أدباء ذائعي الشهرة والصيت.
لم يمض على ذلك اللقاء الأول بضع دقائق، حتى دعاني الأستاذ أحمد أمين إلى ركن في بهو الدار كان خاليا. وبعد أن أعاد على مسمعي ثناءه وتقديره لما كان قرأه لي من مقالات نشرتها مجلة الرسالة، عرض علي أن أشاركه في إخراج كتب عامة تشرح تاريخ الفلسفة ومعانيها شرحا يزيل عنها الغموض، ويقربها من جمهور القارئين.
فرحت بالعرض فرحة شديدة. وكان ذلك في صيف 1934م؛ فلم تمض بضعة أشهر إلا وقد أكملت الكتاب الأول من سلسلة الكتب المقترحة، وجعلنا عنوانه «قصة الفلسفة اليونانية»، ارتكزت فيه على كتاب في الموضوع للدكتور ستيس، لكني بالطبع أطلقت لنفسي حرية العرض والشرح والتأويل، ثم ما هو إلا أن طبع الكتاب، فكان الباكورة الأولى لما أراده لي الله، منذ ذلك الحين وإلى يومي هذا من حياة التأليف. وبعد عام واحد - وكنت منذ يوم اللقاء الأول قد دخلت لجنة التأليف والترجمة والنشر عضوا - بعد عام واحد ألحقت بالكتاب الأول كتابا من جزأين عن «قصة الفلسفة الحديثة». وكان ارتكازي هذه المرة على كتاب في الموضوع للمؤلف الأمريكي «ول ديورانت».
Unknown page