Acdad Wa Bina Insan
الأعداد وبناء الإنسان: العد ومسار الحضارات الإنسانية
Genres
π .
1
لا يزال بعض الخلاف قائما بشأن ما إذا كان هذا التناظر مقصودا أم أنه أمر عرضي فحسب قد جاء نتيجة للتناظر الكلي للهرم ودقة البناء. أما ما لا يوجد خلاف بشأنه، فهو أن هذا الهرم إنجاز استثنائي وخالد للمعماريين والعمال القدامى. لقد صمد كأعلى بناء صنعه البشر على مدار ما يقرب من أربعة آلاف عام، وذلك إلى أن اكتملت كاتدرائية لنكولن في إنجلترا عام 1311. لقد كان الهرم مقبرة للفرعون المصري خوفو منذ أن اكتمل إنشاؤه قرابة العام 2540 قبل الميلاد؛ فهذا البناء المذهل قديم للغاية حتى إنه قد ظل من أماكن الجذب السياحي على مدار آلاف السنين حتى الآن. إن إنشاءه قد استلزم تخصيص نسبة كبيرة من السكان للعمل فيه، وهم الذين أنشئوه، مثله في ذلك كغيره من الآثار العظيمة والمقابر والمباني. لقد احتل مركزا محوريا في ثقافتهم، مجسدا لأساطيرهم ومعززا العديد من القيم الروحية. إن تشييد هرم خوفو وغيره من الأهرامات، قد أسهم في تشكيل حياة المصريين القدماء، بل إنه لا يزال يؤدي دورا بارزا في حياة الكثير من المصريين المعاصرين الذين ينتفعون من السياحة بعد بنائه بأربعة آلاف وخمسمائة عام.
إن الأمر لا يتطلب الكثير من التأمل حتى ندرك أن البناء، كغيره الكثير من إنجازات البشرية في آلاف الأعوام القليلة الماضية، لم يكن ليصبح ممكنا بدون الأعداد والرياضيات؛ فالمشروعات الكبيرة التي يتعاون فيها عدد من الثقافات، التي تسهم بدورها في تشكيل تلك الثقافات من خلال حلقة استجابة مادية اجتماعية، عادة ما تتوقف على الرياضيات. ولن يختلف أحد على أن الرياضيات قد سمحت بازدهار بعض المظاهر الواضحة من الثقافة المادية، مثل هرم خوفو وغيره من المباني الضخمة. في هذا الفصل، سوف نستكشف عددا قليلا من هذه الطرق التي غيرت بها الأعداد خبرات البشر اليومية في معظم الثقافات. إضافة إلى هرم خوفو، توجد العديد من الأمثلة الأقل وضوحا والأكثر انتشارا، في مظاهر الثقافة المادية والرمزية التي ابتكرت من خلال الأعداد أو أصبحت ممكنة بسبب وجودها؛ فمنذ فترة طويلة ونحن نعترف بأن الرياضيات مؤشر مهم للعمارة والتصنيع، وتقدم العمليات الطبية والعلمية وما إلى ذلك. وبالرغم مما يحمله هذا الاعتراف العام من مزايا، فيمكننا أن نقول إنه يعكس قصر نظرنا التاريخي؛ إذ إننا عادة ما نركز على التطورات الحديثة نسبيا في الرياضيات الغربية، التي نتج عنها العديد من الإنجازات في مجالات الهندسة والعلوم. أما هنا، فنحن نولي تركيزا أكبر على عمق تاريخي أبعد، وعلى الدور التأسيسي الذي لعبته الأعداد في بناء الممارسات الثقافية التي أعادت تشكيل الخبرة البشرية، بعيدا عن دورها في الرياضيات المتقدمة. ربما يكون الأمر الأكثر أهمية، هو أن الأعداد قد جعلت من الثورات الزراعية أمرا ممكنا، وما يرتبط بها من اختراع أنظمة الكتابة في أجزاء مختلفة من العالم، وفي مراحل مختلفة من التاريخ. فلم تتطور الممارسات الرياضية المعقدة في بلاد الرافدين والصين وأمريكا الوسطى، إلا بعد أن وفرت الثورات الزراعية الفوائض الغذائية، التي أتاحت وجود طبقات من الأشخاص المدربين على استخدام الرياضيات في هذه المناطق. بالرغم من ذلك، فقبل هذه التطورات، لم يكن ظهور الأنظمة العددية سابقا على الزراعة والكتابة بشكل عرضي؛ ففي واقع الأمر كانت هذه الأنظمة العددية هي الأساس الذي بنيت عليه هذه الحضارات الكبيرة، ومنها الحضارة التي شيدت هرم خوفو. ولسنا نزعم هنا أن الأنظمة العددية المعقدة تتمخض دوما عن اتساع الرقعة الزراعية أو أنظمة الكتابة، بل نزعم أن استخدام مثل هذه الأنظمة كان معيارا ضروريا لانبثاق مثل هذه الظواهر. وفيما يلي سأقدم بعض الأدلة التي تدعم هذا الرأي.
الأعداد ونمط الإعاشة
إننا نرشح خبرتنا من خلال ما تعلمناه وشاركناه من معتقدات وقيم وأدوات ورثناها من المحيطين بنا، وذلك بطرق لا شعورية في معظم الأحوال. أي إننا نرشح خبرتنا من خلال ثقافتنا الأصلية. إن جميع عناصر حياتنا تقريبا تتأثر بهذا الترشيح؛ ماذا يعني لك الزواج؟ حسنا، يتوقف هذا على ثقافتك الأصلية؛ ففي بعض الثقافات يعني الزواج أن يكون لك أكثر من شريكة، وفي ثقافات أخرى يعني الزواج الارتباط بشريكة واحدة فقط. أحيانا يكون الزواج بعقد مدى الحياة، وأحيانا لا يحدث هذا. في تجاربي الشخصية في ثقافات مختلفة، شهدت زواج مراهقين عمرهما اثنا عشر عاما، وزواج أنثى عمرها أحد عشر عاما من ذكر عمره أربعون عاما، وزواج رجل واحد بعدة نساء، وزواج امرأتين في الخمسين من عمرهما، إضافة إلى غير ذلك الكثير من ترتيبات الزواج. وفي كل من هذه الثقافات التي التقيت فيها بأفراد في هذه الزيجات، كانت ترتيباتهم تبدو طبيعية للغاية بالنسبة إليهم، بالرغم من أنها تبدو شاذة جدا في بعض المجتمعات في العالم. إن هذه الترتيبات تعكس بعض الاختلافات الأساسية في مفهوم الطفولة بين ثقافات العالم أيضا. وليس هذا مجالا لذكر الطرق التي تؤسس بها الثقافات حياتنا الاجتماعية، لكن إذا كانت الثقافات تحدد مفهومنا عن الطفولة والزواج، فلن يقع خارج نطاقها من جوانب الحياة إلا عدد قليل. ومثلما ذكرت سابقا، فإن المكون اللغوي للثقافة يمكن أن يؤثر في كل شيء، بداية من كيفية تفكيرنا في الزمان والمكان، إلى التمييز بين فئات الألوان، وأحيانا يكون ذلك بشكل مستمر (وإن كان خفيا). موجز القول أن خبرتنا الإدراكية والسلوكية تعد نتيجة لعوامل تتعلق بالثقافة بطريقة أو بأخرى. وهذه العوامل تتضمن الأعداد التي تستخدمها مجموعات محددة من الأشخاص.
مثلما رأينا، فإن مصطلحات الأعداد يكون لها تأثير على التفكير العددي الأساسي؛ إذ تمكننا من اكتساب المهارات الأساسية لتمييز الكميات، ويمكن استخدام هذه المهارات بعد ذلك في تأسيس علم الحساب. إضافة إلى هذا، يبدو أن المهارات الأساسية لتمييز الكميات وعلم الحساب، تسمح بوجود ما يرتبط بها من تغييرات ثقافية، أو تسهل من وجودها على الأقل، مثل تلك التغيرات المرتبطة بنمط الإعاشة. وبهذا، فقد تشكل تلك التغييرات مصدر ضغط على أفراد ثقافات محددة في أن يزيدوا من تطوير مخزونهم من مفردات الأعداد، وأن يصقلوا استراتيجياتهم الحسابية. وبعبارة أخرى: يبدو أن هناك علاقة تكافلية بين الأعداد والجوانب غير اللغوية من الثقافة؛ إذ إن كليهما يتوقف على الآخر، على مدار الأجيال. ويتضح جزء من هذه الأدلة التي تدعم وجود هذه العلاقة التكافلية، من خلال دراسة العلاقات العالمية بين العناصر السلوكية في الثقافة، وبين اللغة العددية.
إن أحد الأمور المذهلة بشأن الأعداد (من منظور متعدد الثقافات) هو النطاق الواسع لتنوعها، ويتضح هذا التنوع في المعلومات التي عرضناها في هذا الكتاب. ويجدر بنا أن نشير إلى أن معظم جوانب المعنى لا تتنوع بهذه الدرجة الكبيرة فيما يتعلق بنطاق التعبير عنها في لغات العالم. فعلى سبيل المثال، في حالة مصطلحات الألوان، نجد تنوعا بالفعل فيما يتعلق بكيفية ترميز لغات العالم لدرجات الألوان، لكن هذا التنوع ينحصر في نطاق عدد مصطلحات الألوان الأساسية، وعادة ما تمتلك اللغات ما يتراوح بين ثلاثة مصطلحات وأحد عشر مصطلحا للألوان الأساسية. وينطبق الأمر نفسه على مصطلحات العواطف، وحتى الروائح قد ثبت أنها تتنوع بطرق مشابهة، إضافة إلى مجموعة متنوعة من فئات المفاهيم. أما حين يتعلق الأمر بمفاهيم الكميات، فإن اللغات تختلف بدرجة أكبر في عدد الكلمات التي تستخدمها، في ترتيب الحجم، على المقياس الأسي. وهذا لا يعني أنه لا توجد قواعد في كيفية بناء تعبيرات الأعداد، وهو لا يعني أيضا أن معاني مصطلحات الأعداد ليس لها حدود. فبالرغم من أن مقدار مفردات الأعداد يختلف اختلافا كبيرا بين اللغات، نظرا إلى أن نطاق الكميات التي يمكن تسميتها غير محدود، فإن ترجمة هذه المفردات عادة ما تكون مباشرة للغاية؛ فالكلمة التي تعبر عن العدد 6 في أي لغة من اللغات، يشير تعريفها إلى التعبير عن ستة أشياء على وجه التحديد. وهو أمر منطقي؛ فالأجسام المادية كمياتها منفصلة، أي إنها ترد في مجموعات منفصلة. وعلى العكس من ذلك، نجد أن ألوان الطيف الضوئي المرئي تمتزج مع بعضها. ونتيجة لهذا، ولعوامل أخرى، فإن الدلالات المادية التي تعبر عنها مصطلحات الألوان غالبا ما تختلف بعض الشيء من لغة إلى أخرى (راجع الفصل الأول)؛ إذ إن هذه المصطلحات تقسم الضوء المرئي بأشكال محددة، لكنها متباينة. وعلى العكس من ذلك، فإن معنى كلمة مثل «خمسة» يظل ثابتا بين اللغات بشكل عام.
مع ذلك، فنظرا إلى أن «النطاق» الذي يمكن أن تتنوع فيه الأعداد المنطوقة بين الثقافات منقطع النظير، فثمة أهمية خاصة لأن نستكشف العلاقة بين أنظمة الأعداد وغيرها من العوامل الثقافية. لقد انشغل العديد من الباحثين باستكشاف العلاقة بين الأعداد والثقافة على مدار سنوات، وسوف نناقش هنا أحد أهم النتائج التي توصلت إليها هذه الأعمال البحثية، وهي إظهار العلاقة بين أنواع أنظمة الأعداد وبين أساليب الإعاشة. وقد قدمت الأعمال الحديثة بعض الأدلة على وجود ارتباط يمكن تمييزه بوضوح بين الأنظمة العددية البسيطة (التي توشك أحيانا ألا تكون موجودة على الإطلاق)، وبين أسلوب الإعاشة القائم على الصيد وجمع الثمار. وعلى العكس من ذلك، توضح هذه الأعمال وجود علاقة بين أنظمة العيش الزراعية وبين أنظمة الأعداد الأكثر تعقيدا.
2
Unknown page