Acdad Wa Bina Insan
الأعداد وبناء الإنسان: العد ومسار الحضارات الإنسانية
Genres
ما حدث بعد ذلك كان سابقة من نوعه؛ كما كان غير متوقع على الإطلاق، ذلك أن النوع البشري كان يواجه صعوبة كبيرة، ويواجه تهديدا حقيقيا للغاية بالانقراض. وبالرغم من أن بعض أنواع الرئيسات الأخرى قد غادرت أفريقيا مصادفة، لينتهوا بعد ذلك بصورة أساسية في إقليم حيوي استوائي آخر، فقد بدأ أسلافنا عملية الاستكشاف الإرادي والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم. وعلى مدار فترة التجوال في أنحاء العالم، التي استمرت لعشرات الآلاف من السنوات، إلى أن وصل البشر إلى حافة أمريكا الجنوبية قبل ما يقرب من 14000 عام، تمكنا في النهاية من التأقلم مع جميع البيئات الموجودة في العالم تقريبا. لقد تفوقنا في المنافسة مع بعض الأنواع الأخرى في بيئات قاسية مثل التندرا السيبرية، وأدغال تسمانيا، وصحراء أتاكاما، ومعظم البيئات البيولوجية التي تقع فيما بينها. والسجل الأثري يوضح تقدمنا، وباختصار، فقد تكيف البشر على التكيف. وهذا التكيف المستحدث كان سيصبح محالا بدون اللغة والثقافة، وهما السمتان الأبرز لنوعنا.
8
لا تزال أصول نشأة اللغة والثقافة محل جدال كبير، ووفقا لأعمال العديد من العلماء في مجال علم الإنسان، فإن الثورة اللغوية والثقافية لدى البشر قد نتجت بصورة كبيرة عن اعتمادهم على التعاون بدرجة أكبر. وقد كان لهذا الاعتماد جانبان: الجانب الأول هو أن البشر كانوا مجبرين على التعاون للتفوق في المنافسة مع الأنواع الأخرى، وأما الجانب الثاني فهو أن بعض المجموعات المحددة من البشر قد اعتمدت على شكل أكثر تقدما من التعاون، عند التنافس مع مجموعات أخرى من البشر. ويدعم هذا التفسير حقيقة أن البشر ينزعون إلى تحري التعاون مع غيرهم من أفراد النوع البشري، بينما لا يبدو أن مهارة اللغة متأصلة في شفرتهم الوراثية على وجه التحديد. إن أطفال البشر الذين يفتقرون إلى بعض الوظائف الإدراكية الأعلى التي تتمتع بها بعض الأنواع الأخرى من القردة العليا، يتميزون بملاحظتهم الدقيقة لأنشطة التعاون المحتملة مع أفراد آخرين. يبدو لنا إذن أن تأصل التعاون في البنية الأساسية البشرية قد كان، على الأقل، مؤشرا مهما على التحول من أنظمة التواصل البدائية القائمة على الإشارات، التي كانت تستخدمها القردة، إلى أنظمة التواصل الأقوى القائمة على الحديث، والتي استخدمها البشر. وبعبارة أخرى، فإن ما يجعلنا كائنات لغوية هو ليس أننا مزودون فطريا بمجموعة مهارات لغوية محددة، بل أننا قادرون على التعاون، وأننا ننظم وفقا لمبادئ جماعية مهاراتنا الإدراكية، التي يتمتع بالعديد منها أنواع أخرى من القردة الأقل ترابطا. يبدو أن هذا التحرك نحو التعاون كان له دور محوري في مسيرة حياتنا الإدراكية؛ إذ نتج عنه ذلك التحول في نظام التواصل، الذي أسهم في أن يجعلنا بشرا على وجه التحديد. لم يكن لوجود اللغة أن يصبح ممكنا دون تركيزنا على التعاون، وما يتصل به من الانتباه الذي بدأنا في توجيهه لفهم أفكار الآخرين ونواياهم. وأيا كانت أصولها، فلا شك بأن اللغة قد أعادت تشكيل خبرتنا البشرية، ومكنتنا من التفوق قبل مغادرة أفريقيا وبعدها.
9
إن اللغة تشكل طريقة تفكيرنا، وهي تسهل أيضا بعض أنواع عمليات التفكير غير اللغوية. والفائدة الأكبر من ذلك، هي أنها تتيح لنا أشكالا جديدة من التعاون، وتتيح للبشر أن ينقلوا ما توصلوا إليه من حلول للتحديات البيئية إلى بقية أفراد جيلهم والأجيال التالية كذلك. فالكلمات التي هي قنوات الأفكار، أدوات إدراكية تتيح للأفراد تسجيل حلولهم لتلك المجموعة الكبيرة والمتنوعة من المشكلات الحديثة التي تواجههم حين يدخلون بيئات جديدة، والإفصاح عنها. لقد أتاح اختراع اللغة للبشر أن يتوصلوا إلى الأفكار التي تدور في عقول غيرهم من البشر، وأن ينقلوها بكل سهولة، دون أن يضطروا إلى إنتاج أفكار جديدة باستمرار. وقد أتيحت الفرصة لوجود تأثير ترس السقاطة الثقافي العابر للأجيال، الذي ذكرته في الافتتاحية. إننا نظل قادرين على التكيف جيدا على بيئاتنا الحالية، حتى في البيئات الحضرية في العالم الحديث، بفضل الأفكار التي نقلت إلينا من عقول الآخرين منذ طفولتنا، عن طريق اللغة؛ فاللغة وغيرها من الممارسات الثقافية الرمزية تتيح لنا تخزين الأفكار والوصول إليها بسهولة، ومنها الأفكار التي تمكننا من النجاة بأنفسنا وبثقافتنا.
10
رغم أن قصة ظهور اللغة قد ضاعت مع مرور الزمن، أو ربما ظلت عالقة في غبش السجل الأثري بعيدة المنال، فما من خلاف على أهميتها، مثلما أوضحنا هنا؛ فمن الجلي أن الكلمات وغيرها من التمثيلات الرمزية، كانت بمثابة أدوات ناجعة، وربما هي أعظم أدوات قد امتلكناها على الإطلاق. غير أنه لا تزال هناك مجموعة متفرعة من هذه المجموعة من الأدوات اللفظية، وهي الأدوات الإدراكية المتمثلة في الأعداد، والتي أدت دورا مميزا للغاية في تشكيل الإنسانية منذ هجرتها من أفريقيا، بل حتى قبل الهجرة من أفريقيا على الأرجح. وقد مكنتنا هذه المجموعة الفرعية من الأدوات اللفظية، من رؤية الكميات واستخدامها بطرق جديدة. وكما ناقشنا بالفعل، فقد مكنتنا هذه الأدوات المحددة التي نتحدث عنها، من إدراك الوقت بطرق جديدة كذلك. وعلاوة على ذلك يقترح هذا الكتاب أيضا أن هذه الأدوات العددية قد أدت إلى بدء تطور الزراعة والكتابة، ثم أدت بطريقة غير مباشرة إلى تطور جميع التقنيات التي انبثقت عن هاتين الظاهرتين الأخيرتين. إن هذه الأدوات قد غيرت خبرتنا الإدراكية والسلوكية إلى الأبد.
الكميات في الطبيعة، والأعداد في عقولنا
في كثير من الأحيان تكون وظيفة الكلمات هي تسمية الأشياء أو الأفكار الموجودة مسبقا؛ فكلمة «باندا» مثلا تسمي نوعا محددا من الثدييات، وهذا النوع موجود بالفعل، بصرف النظر عن وجود الاسم، غير أن الكلمات تشير أحيانا إلى مفاهيم لا توجد إلا بوجود الكلمات المعنية. فلنتأمل ذلك في ضوء الألوان؛ إننا نتفاعل دائما مع الجزء المرئي من طيف الضوء، وهو جزء ضئيل من نطاق الأمواج الكهرومغناطيسية، وهذا الطيف المرئي من الضوء مستمر دون أي فواصل مادية محددة؛ ولذا فما من نقطة محددة على طيف الضوء تفصل بين الأخضر والأزرق بدقة. ولهذا السبب تتخلى العديد من اللغات عن استخدام مصطلحات مثل «أخضر» «وأزرق»، وتستخدم بدلا من ذلك كلمة للفئة اللونية «أخضرق». بالرغم من ذلك، فإن متحدثي بعض اللغات كالإنجليزية يشيرون إلى هذا التباين اللوني على الدوام، ومن ثم يؤسسون فرقا أوضح بين «الأخضر» «والأزرق»؛ فهم يستخدمون الكلمات للتواصل بشأن أجزاء من طيف الضوء يمكن التمييز بينها على وجه التقريب، غير أنها تفتقر إلى وجود حدود واضحة. وبعض متحدثي اللغات الأخرى، يقسمون طيف الضوء بطرق مختلفة؛ فمتحدثو لغة البيرينمو في نيو غينيا على سبيل المثال يستخدمون المصطلح «وول» والمصطلح «نر»، اللذين يميزان بين جزأين من طيف الضوء، يشار إليهما في الإنجليزية بمصطلح واحد هو «الأخضر». وهذه الاختلافات فيما بين اللغات، تؤثر في كيفية إدراك المتحدثين بها للألوان وتذكرهم لها، تأثيرا طفيفا لكنه أكيد. ومعنى هذا باختصار أن مصطلحات الألوان ليست مجرد أسماء لمفاهيم موجودة مسبقا عن الألوان، ويتشاركها جميع البشر، بل هي تبعث إلى الوجود أيضا مفاهيم أكثر تحديدا للألوان.
11
Unknown page