119

Abu Hanifa Wa QIyam Insaniyya

أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه

Genres

ولعل أبا بكر نظر إلى قوله تعالى:

واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب . مع أن يعقوب هو وحده الذي كان الأب له، دون إسحاق وإبراهيم عليهم جميعا السلام؛ إذ كانا جدين. أما عمر ومن معه رضوان الله عليهم، فقد نظروا إلى الحقيقة، لا إلى المجاز؛ ولذلك نرى أن رأيهم الذي استند إليه ابن أبي ليلى والصاحبان هو الصحيح، والأولى بالاتباع، وهو الواقع فعلا فيما مضى وفي هذه الأيام.

وبعد، تلك صور من الخلاف بين الفقهاء في عصر أبي حنيفة، وقد تناولت كثيرا من أبواب الفقه ومسائله، وهناك صور غيرها لا يستطيع باحث حصرها، وقد ألفت فيها كتب عديدة ، ولكن رأينا فيما ذكرناه منها كفاية لإثبات ما نريد.

فقد رأينا فيها: لم كانوا يختلفون، وكيف كانوا يختلفون، وكيف كان يستدل كل منهم لما ذهب إليه مع تقدير رأي مخالفه واحترامه. كما رأينا ما كان للحديث والآثار وآراء الصحابة والتابعين من سلطان، وأن العرف كان له سلطانه أيضا، وإلى جانب هذا كان - رعاية في التيسير ورفع الحرج وبخاصة في المعاملات - له اعتباره وتقديره.

ولعلنا لمسنا من تلك الصور مقدار ما كان من حيوية للفقه والفقهاء في هذا العصر، ولعلنا نأخذ من ذلك عبرة وقدوة صالحة، فلا نرى حرجا في أن نخالف أسلافنا الأمجاد، وإن كانوا أعلى منا كعبا في الفقه والاستنباط، كما كان يختلف التلاميذ مع شيوخهم في ذلك العصر؛ فبهذا يتقدم الفقه، وبهذا يغدو حقا صالحا لكل زمان ومكان، ونجد منه حلولا لمشاكل هذا العصر وكل عصر.

وقد آن لنا أن ننتقل إلى الفصل الأخير من هذا البحث، وهو بيان أثر أبي حنيفة فيمن بعده من تلاميذه المباشرين، ومن كبار الفقهاء الآخرين ثم مآل مذهبه.

أثر أبي حنيفة ومآل مذهبه من بعده

قوة هذا الأثر

لا تزال كلمة الإمام الشافعي خالدة على الزمان، ولها دويها دائما في الأسماع، وهي: «الناس عيال على خمسة؛ من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق. ومن أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير. ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان. ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي.» ثم لا زلنا نذكر هذه الكلمة الأخرى أيضا: «من أراد أن يعرف الفقه، فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه.»

وقد يرى البعض أن في هذا مبالغة من الشافعي في تقدير أبي حنيفة وفقهه وأثره على من جاءوا بعده ولكن يبقى مع ذلك أنه يعبر عن الواقع إلى حد كبير؛ فإن أثر أبي حنيفة على تلاميذه المباشرين - وما أكثرهم! - وعلى من تلاهم من الفقهاء، وعلى كل من جاءوا بعدهم حتى اليوم، أثر واضح غير منكور. وهذا الأثر نلمسه من أقوال تلاميذه أنفسهم التي أثرت عنهم في هذه الناحية، ثم نلمسه بالرجوع إلى تراثهم الفقهي الذي وصلنا عنهم، ثم نلمسه في التراث الذي وصلنا عن الفقهاء المتأخرين عنهم في الزمن.

Unknown page