وهجم الرجل عليه فحالت دونه المرأة القانطة، وتلقت لكماته على صدرها ووجهها، حتى كف الرجل وهو يصرخ: اغرب عني بوجهك الأسود! ولا تعد أبدا، سأفرض أنك مت واندلقت في الجحيم.
جرى الفتى إلى حجرته، وتناول البقجة، ونزل السلم وثبا، وقطع الزقاق لا يلوي على شيء، وقبل أن يعدل إلى الصنادقية بصق عليه، وهتف بصوت مرتعش من الحنق: غر .. انجحر، لعنة الله عليك وعلى أهلك.
15
سمعت الست سنية عفيفي طرقا على الباب ففتحته، فرأت - في فرح لا يوصف - وجه أم حميدة يطالعها بصفحته المجدورة، وهتفت من الأعماق: أهلا وسهلا بالحبيبة.
وتعانقتا عناقا حارا - أو هكذا بدا على الأقل - وقادتها إلى حجرة الاستقبال وهي تأمر الخادم بصنع القهوة، وجلستا على كنبة متلاصقتين، واستخرجت من علبة سيجارتين، وجعلتا تدخنان في انبساط وسرور. وكانت الست سنية تكابد آلام الترقب والانتظار مذ وعدت أم حميدة بالبحث لها عن زوج. ومن عجب أنها صبرت على العزوبة أعواما طوالا، ولكنها لم تستطع مع فترة الانتظار - على قصرها - صبرا. واعتادت في هذه الفترة أن تتردد على زيارة أم حميدة دون انقطاع طويل، والمرأة لا يخفى عليها من أمرها شيء، وما انفكت تعدها وتمنيها، حتى أيقنت الست سنية أن المرأة تسوف وتماطل حتى تظفر منها بأكبر نفع مرجو. ومع ذلك كانت معها جوادة كريمة، فأعفتها من دفع إيجار الشقة، وتنازلت لها عن عدد من كوبونات الكيروسين، ونصيبها من الأقمشة الشعبية، غير صينية بسبوسة كلفت عم كامل بصنعها لها. ثم آذنتها المرأة بخطبة عباس الحلو لابنتها حميدة! وتظاهرت الست سنية بالسرور، ولكن الخبر وقع من نفسها موقعا مقلقا، وتساءلت: ترى هل تضطر إلى المساهمة في تجهيز الفتاة لعرسها قبل أن تجهز نفسها؟! هكذا تنازعها الخوف من أم حميدة والتودد إليها طوال فترة الانتظار. وقد جلست لصقها تسترق إليها النظر بين آونة وأخرى متسائلة عما عسى تتمخض عنه زيارتها هذه: وعود وأماني كالعادة، أم البشرى التي يتلهف قلبها عليها؟! وراحت تداري اضطرابها بشجون الحديث، فكانت - على غير المألوف - المحدثة، وأم حميدة المنصتة. تكلمت عن فضيحة المعلم كرشة، ومغادرة ابنه حسين لبيته، وانتقدت أم حسين في تصرفاتها الفاضحة التي تحاول بها تقويم سلوك زوجها الشاذ، ثم تدرج الحديث إلى عباس الحلو، فأثنت عليه قائلة: أنعم به من شاب طيب! سيفتح الله عليه ويرزقه، ويمكنه من تهيئة الحياة السعيدة لعروسه التي تستأهل كل خير.
وابتسمت أم حميدة عند ذاك وقالت: الشيء بالشيء يذكر، اعلمي أني حاضرة اليوم لأخطبك يا عروس!
وخفق فؤادها بعنف، وذكرت كيف حدثها قلبها بأن زيارة اليوم خطيرة، وبأن المرأة تطوي صدرها على سر تضن به إلى حين، وتورد وجهها، وجرى في عوده الذابل ماء شباب، ولكنها تمالكت نفسها وقالت في حياء مصطنع: واخجلتاه! ماذا تقولين يا ست أم حميدة؟!
فقالت المرأة وقد افتر ثغرها عن ابتسامة ظفر وارتياح: أقول إني حاضرة لأخطبك يا ست الناس! - حقا! يا له من أمر خطير! أجل أذكر ما تم الاتفاق عليه، ولكن لا يسعني إلا أن أضطرب، وأن أخجل أيضا، واخجلتاه!
فجارتها أم حميدة في تمثيلها وقالت محتجة: حاشا الله أن تخجلي لغير ما عيب أو نقيصة، ولكنك تتزوجين على شرع الله وسنة الرسول.
فتنهدت الست سنية تنهد من يدفع إلى التسليم على غير إرادته، وقد رن قول الأخرى لها «ستتزوجين» رنينا حلوا محبوبا في أذنيها. أما أم حميدة فقد أخذت نفسا طويلا من سيجارتها، وهزت رأسها هزة الثقة والاطمئنان وقالت: موظف.
Bog aan la aqoon