زقاق المدق
زقاق المدق
زقاق المدق
زقاق المدق
تأليف
نجيب محفوظ
زقاق المدق
1
تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري. أي قاهرة أعني؟ .. الفاطمية؟ .. المماليك؟ السلاطين؟ علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار؛ ولكنه على أية حال أثر، وأثر نفيس. كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة كرشة تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا إلى قدم باد، وتهدم وتخلخل، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذي صار مع كرور الزمن عطارة اليوم والغد ...!
ومع أن هذا الزقاق يكاد يعيش في شبه عزلة عما يحدق به من مسارب الدنيا، إلا أنه على رغم ذلك يضج بحياته الخاصة؛ حياة تتصل في أعماقها بجذور الحياة الشاملة، وتحتفظ - إلى ذلك - بقدر من أسرار العالم المنطوي. •••
Bog aan la aqoon
آذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق في غلالة سمراء من شفق الغروب، زاد من سمرتها عمقا أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب على الصنادقية، ثم يصعد صعودا في غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن، وتحف بالجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهي سريعا - كما انتهى مجده الغابر - ببيتين متلاصقين، يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة.
سكنت حياة النهار، وسرى دبيب حياة المساء. همسة هنا وهمهمة هناك: يا رب يا معين. يا رزاق يا كريم. حسن الختام يا رب. كل شيء بأمره. مساء الخير يا جماعة. تفضلوا جاء وقت السمر. اصح يا عم كامل وأغلق الدكان. غير يا سنقر ماء الجوز. أطفئ الفرن يا جعدة. الفص كبس على قلبي. إذا كنا نذوق أهوال الظلام والغارات منذ سنوات خمس، فهذا من شر أنفسنا.
بيد أن دكانين - دكان عم كامل بائع البسبوسة على يمين المدخل وصالون الحلو على يساره - يظلان مفتوحين إلى ما بعد الغروب بقليل. ومن عادة عم كامل أن يقتعد كرسيا على عتبة دكانه - أو حقه على الأصح - يغط في نومه والمذبة في حجره، لا يصحو إلا إذا ناداه زبون أو داعبه عباس الحلو الحلاق. هو كتلة بشرية جسيمة، ينحسر جلبابه عن ساقين كقربتين، وتتدلى خلفه عجيزة كالقبة، مركزها على الكرسي ومحيطها في الهواء، ذو بطن كالبرميل، وصدر يكاد يتكور ثدياه، لا ترى له رقبة، فبين الكتفين وجه مستدير منتفخ محتقن بالدم، أخفى انتفاخه معالم قسماته؛ فلا تكاد ترى في صفحته لا سمات ولا خطوط ولا أنف ولا عينان، وقمة ذلك كله رأس أصلع صغير لا يمتاز عن لون بشرته البيضاء المحمرة. لا يزال يلهث ويشخر كأنه قطع شوطا عدوا، ولا ينتهي من بيع قطعة بسبوسة حتى يغلبه النعاس. قالوا له مرات: ستموت بغتة، وسيقتلك الشحم الضاغط على قلبك، وراح يقول ذلك مع القائلين، ولكن ماذا يضيره الموت وحياته نوم متصل؟!
أما صالون الحلو فدكان صغير، يعد في الزقاق أنيقا، ذو مرآة ومقعد غير أدوات الفن. وصاحبه شاب متوسط القامة، ميال للبدانة، بيضاوي الوجه، بارز العينين، ذو شعر مرجل ضارب للصفرة على سمرة بشرته، يرتدي بدلة، ولا يفوته لبس المريلة اقتداء بكبار الأسطوات!
لبث هذان الشخصان في دكانيهما، في حين أخذت الوكالة الكبيرة المجاورة للصالون تغلق أبوابها وينصرف عمالها، وكان آخر من غادرها السيد سليم علوان، يرفل في جبته وقفطانه، فاتجه صوب الحانطور الذي ينتظره على باب الزقاق، وصعد إليه في وقار، وملأ مقعده بجسمه المكتنز، يتقدمه شاربان شركسيان. ودق الحوذي الجرس بقدمه فرن بقوة، وانحدرت العربة ذات الحصان الواحد إلى الغورية في طريقها إلى الحلمية. وأغلق البيتان في الصدر نوافذهما اتقاء البرد، ولاحت أنوار المصابيح وراء خصاصها، وكاد المدق يغرق في الصمت، لولا أن مضت قهوة كرشة ترسل أنوارها من مصابيح كهربائية، عشش الذباب بأسلاكها، وراح يؤمها السمار. هي حجرة مربعة الشكل، في حكم البالية، ولكنها على عفائها تزدان جدرانها بالأرابيسك، فليس لها من مطارح المجد إلا تاريخها، وعدة أرائك تحيط بها. وعند مدخلها كان يكب عامل على تركيب مذياع نصف عمر بجدارها. وتفرق نفر قليل بين مقاعدها يدخنون الجوز ويشربون الشاي. وعلى كثب من المدخل تربع على الأريكة رجل في الخمسين يرتدي جلبابا ذا بنيقة موصول بها رباط رقبة مما يلبسه الأفندية، ويضع على عينيه المضعضعتين نظارة ذهبية ثمينة! وقد خلع قبقابه على الأرض عند موضع قدميه، وجلس جامدا كالتمثال، صامتا كالأموات، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، كأنه في دنيا وحده.
ثم أقبل على القهوة عجوز مهدم، لم يترك له الدهر عضوا سالما، يجره غلام بيسراه، ويحمل تحت إبط يمناه ربابة وكتابا. فسلم الشيخ على الحاضرين، وسار من فوره إلى الأريكة الوسطى في صدر المكان، واعتلاها بمعونة الغلام، ثم صعد الغلام إلى جانبه، ووضع بينهما الربابة والكتاب. وأخذ الرجل يهيئ نفسه، وهو يتفرس في وجوه الحاضرين كأنما ليمتحن أثر حضوره في نفوسهم، ثم استقرت عيناه الذابلتان الملتهبتان على صبي القهوة سنقر في انتظار وقلق. ولما طال انتظاره، ولمس تجاهل الغلام له، خرج عن صمته قائلا بصوت غليظ: القهوة يا سنقر!
والتفت الغلام نحوه قليلا، ثم ولاه ظهره بعد تردد دون أن ينبس بكلمة، ضاربا عن طلبه صفحا. وأدرك العجوز إهمال الغلام له، ولم يكن يتوقع غير ذلك. ولكن جاءت نجدة من السماء، إذ دخل في تلك اللحظة رجل وقد سمع هتاف العجوز ولاحظ إهمال الصبي، فقال للغلام بلهجة الآمر: هات قهوة الشاعر يا ولد.
وحدج الشاعر القادم بنظرة امتنان، وقال بلهجة لم تخل من أسى: شكرا لله يا دكتور بوشي!
فسلم الدكتور عليه، وجلس قريبا منه. وكان الدكتور يرتدي جلبابا وطاقية وقبقابا. هو دكتور أسنان، إلا أنه أخذ فنه من الحياة بغير حاجة إلى ممارسة الطب أو أية مدرسة أخرى. اشتغل في بدء حياته تمورجيا لطبيب أسنان في الجمالية؛ ففقه فنه بحذقه وبرع فيه. وقد اشتهر بوصفاته المفيدة، وإن كان يفضل الخلع غالبا كأحسن علاج. وربما كان خلع الضرس في عيادته المتنقلة أليما موجعا؛ إلا أنه رخيص؛ بقرش للفقراء وقرشين للأغنياء (أغنياء المدق طبعا)، فإذا حدث نزيف - وليس هذا بالأمر النادر - اعتبر عادة من عند الله؛ وترك منعه أيضا لله! وقد ركب للمعلم كرشة صاحب القهوة طقما ذهبيا بجنيهين بغير زيادة. وهو يدعى في الزقاق والأحياء القريبة بالدكتور، ولعله أول طبيب يأخذ لقبه من مرضاه.
جاء سنقر بالقهوة للشاعر كما أمر الدكتور، فتناول الرجل القدح وأدناه من فمه وهو ينفخ ليطرد حرارته، وراح يرشف منه رشفات متتابعات حتى أتى عليه، ثم نحاه جانبا. وذكر عند ذاك فحسب سوء سلوك صبي القهوة معه، فحدجه بنظرة شزراء وتمتم ساخطا: قليل الأدب.
Bog aan la aqoon
ثم تناول الربابة يجرب أوتارها، متحاميا نظرات الغضب التي أطلقها عليه سنقر، وراح يعزف مطلعا، لبثت قهوة كرشة تسمعه كل مساء عشرين عاما أو يزيد من حياتها، وأخذ جسمه المهزول يهتز مع الربابة، ثم تنحنح وبصق وبسمل، ثم صاح بصوته الغليظ:
أول ما نبتدي اليوم نصلي على النبي.
نبي عربي صفوة ولد عدنان.
يقول أبو سعدة الزناتي ...
وقاطعه صوت أجش دخل صاحبه القهوة عند ذاك يقول: هس ... ولا كلمة أخرى.
فرفع بصره الذابل عن الربابة فرأى المعلم كرشة، بجسمه الطويل النحيل ووجهه الضارب للسواد وعينيه المظلمتين النائمتين، فنظر إليه واجما. وتردد قليلا كأنه لا يصدق ما سمعت أذناه. وأراد أن يتجاهل شره، فاستدرك منشدا:
يقول أبو سعدة الزناتي ...
ولكن المعلم صاح به مغيظا محنقا: بالقوة تنشد؟! ... انتهى ... انتهى! ألم أنذرك من أسبوع مضى؟!
فلاح الاستياء في وجه الشاعر، وقال بلهجة ملؤها العتاب: أراك تكثر من «الكيف»، ثم لا تجد من ضحية سواي!
فصاح المعلم في غضب وحنق: رأسي صاح يا مخرف، وأنا أعلم ما أريد، أتحسب أني آذن لك بالإنشاد في قهوتي إذا ما سلقتني بلسانك القذر؟!
Bog aan la aqoon
فخفف الشاعر من لهجته مستوهبا عطف الرجل الغاضب، وراح يقول: هذه قهوتي أيضا. ألست شاعرها لعشرين عاما خلون؟!
فقال المعلم كرشة وهو يتخذ مجلسه المعتاد وراء صندوق الماركات: عرفنا القصص جميعا وحفظناها، ولا حاجة بنا إلى سردها من جديد. والناس في أيامنا هذه لا يريدون الشاعر، وطالما طالبوني بالراديو، وها هو ذا الراديو يركب، فدعنا ورزقك على الله.
فاكفهر وجه الشاعر، وذكر محسورا أن قهوة «كرشة» آخر ما تبقى له من القهوات، أو من أسباب الرزق في دنياه، بعد جاه عريض قديم. وبالأمس القريب استغنت عنه كذلك قهوة القلعة. عمر طويل ورزق منقطع، فماذا يفعل بحياته؟! وما جدوى تلقين ابنه البائس هذا الفن وقد بار وكسد؟! وماذا يخبئ له المستقبل، وماذا يضمر لغلامه؟! اشتد به القنوط، وضاعف قنوطه ما لاح في وجه المعلم من الجزع والإصرار، فقال: رويدك يا معلم كرشة، إن للهلالي لجدة لا تزول، ولا يغني عنها الراديو أبدا ...
ولكن المعلم قال بلهجة قاطعة: هذا قولك، ولكنه قول لا يقره الزبائن، فلا تخرب بيتي. لقد تغير كل شيء!
فقال الشاعر في قنوط: ألم تستمع الأجيال بلا ملل إلى هذه القصص من عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟
فضرب المعلم كرشة على صندوق المركات بقوة وصاح به: قلت: لقد تغير كل شيء!
وتحرك عند ذلك - لأول مرة - الرجل الجامد الذاهل، ذو الجلباب والبنيقة ورباط الرقبة والنظارة الذهبية، فصعد بصره إلى سقف القهوة، وتنهد من الأعماق حتى خال المستمعون أنه يزفر فتات كبده، وقال بصوت كالمناجاة: آه تغير كل شيء. أجل كل شيء يا ستي! كل شيء تغير إلا قلبي فهو بحب آل البيت عامر.
وطامن رأسه ببطء، وهو يحركه ذات اليمين وذات اليسار، في حركات أخذت في الضيق رويدا رويدا حتى عاد إلى موضعه الأول من الجمود، وغرق مرة أخرى في غيبوبة. ولم يلتفت إليه أحد ممن اعتاد أحواله إلا الشاعر، فقد توجه إليه كالمستغيث وقال له برجاء: يا شيخ درويش، أيرضيك هذا؟
ولكنه لم يخرج من غيبوبته ولم ينبس بكلمة. وهنا قدم شخص جديد تعلقت به الأنظار في إجلال ومودة، وردوا تحيته بأحسن منها. كان السيد رضوان الحسيني ذا طلعة مهيبة، تمتد طولا وعرضا، وتنطوي عباءته الفضفاضة السوداء على جسم ضخم، يلوح منه وجه كبير أبيض مشرب بحمرة، ذا لحية صهباء، يشع النور من غرة جبينه، وتقطر صفحته بهاء وسماحة وإيمانا. سار متمهلا خافض الرأس، وعلى شفتيه ابتسامة تشي بحبه للناس وللدنيا جميعا، واختار مجلسه على المقعد التالي لأريكة الشاعر. وسرعان من رحب به الشاعر وبثه شكواه. ومنحه السيد أذنه عن طيب خاطر وهو يعلم بما يكربه، وكان حاول مرارا أن يثني المعلم «كرشة» عما اعتزمه من الاستغناء عنه دون جدوى. ولما انتهى الشاعر من شكواه طيب خاطره، ووعده بأن يبحث لغلامه عن عمل يرتزق منه، ثم غمر كفه بما جادت به نفسه وهو يهمس في أذنه: «كلنا أبناء آدم، فإذا ألحت عليك الحاجة فاقصد أخاك، والرزق رزق الله، والفضل فضله.» وزاد وجهه الجميل بعد هذا القول تألقا، شأن الكريم الفاضل يحب الخير ويصنعه، ويزداد بصنعه رضا وجمالا. كان يحرص دائما على ألا يفوته يوم من حياته دون صنع جميل، أو ينقلب إلى بيته ملوما محسورا. وإنه ليبدو لحبه الخير ولسماحته كما لو كان من الموسرين المثقلين بالمال والمتاع، وإن كان في الواقع لا يملك إلا البيت الأيمن من الزقاق وبضعة أفدنة بالمرج. وقد وجد فيه سكان بيته - المعلم كرشة في الطابق الثالث، وعم كامل والحلو في الطابق الأول - مالكا طيب القلب والمعاملة، حتى إنه تنازل عن حقه في الزيادة التي قررها الأمر العسكري الخاص بالسكن فيما يتعلق بالطابق الأول رحمة بساكنيه البسيطين، فكان رحمة حيث حل وحيث يقيم. وقد كانت حياته - وبخاصة في مدارجها الأولى - مرتعا للخيبة والألم. فانتهى عهد طلبه العلم بالأزهر إلى الفشل، وقطع بين أروقته شوطا طويلا من عمره دون أن يظفر بالعالمية، وابتلي - إلى ذلك - بفقد الأبناء فلم يبق له ولد على كثرة ما خلف من الأطفال. ذاق مرارة الخيبة حتى أترع قلبه باليأس أو كاد، وتجرع غصص الألم حتى تخايل لعينيه شبح الجزع والبرم، وانطوى على نفسه طويلا في ظلمة غاشية. ومن دجنة الأحزان أخرجه الإيمان إلى نور الحب، فلم يعد يعرف قلبه كربا ولا هما. انقلب حبا شاملا وخيرا عميما وصبرا جميلا. وطأ أحزان الدنيا بنعليه، وطار بقلبه إلى السماء، وأفرغ حبه على الناس جميعا؛ وكان كلما نكد الزمان عنتا ازداد صبرا وحبا، رآه الناس يوما يشيع ابنا من أبنائه إلى مقره الأخير وهو يتلو القرآن مشرق الوجه، فأحاطوا به مواسين معزين، لكنه ابتسم لهم، وأشار إلى السماء وهو يقول: «أعطى وأخذ، كل شيء بأمره، وكل شيء له، والحزن كفر.» فكان هو العزاء. ولذلك قال عنه الدكتور بوشي: «إذا كنت مريضا فالمس السيد الحسيني يأتك الشفاء، وإذا كنت يائسا فطالع نور غرته يدركك الرجاء، أو محزونا فاستمع إليه يبادرك الهناء.» وكان وجهه صورة من نفسه، فهو الجمال الجليل في أبهى صوره.
أما الشاعر فقد رضي بعض الرضا، ووجد شيئا من العزاء، وتزحزح تاركا الأريكة، وتبعه الغلام وهو يلم الربابة والكتاب. وشد الرجل على يد السيد رضوان الحسيني، وحيا الجلوس متجاهلا المعلم كرشة، ثم ألقى نظرة ازدراء على المذياع الذي كاد العامل يفرغ من تثبيته، وأعطى يده للغلام فجره إلى الخارج، وغابا عن الأنظار. ودبت الحياة مرة أخرى في الشيخ درويش، فأدار رأسه نحو الجهة التي اختفى فيها الذاهبان، وتأوه قائلا: ذهب الشاعر وجاء المذياع. هذه سنة الله في خلقه. وقديما ذكرت في التاريخ وهو ما يسمى بالإنجليزية
Bog aan la aqoon
History
وتهجيتها:
H i s t o r y .
وقبل أن يختم تهجية الكلمة جاء عم كامل وعباس الحلو بعد أن أغلقا دكانيهما. ظهر الحلو أولا، وقد غسل وجهه ورجل شعره الضارب لصفرة، وتبعه عم كامل يتبختر كالمحمل، ويقتلع قدميه من الأرض اقتلاعا. وسلما على الحاضرين، وجلسا جنبا لجنب، وطلبا الشاي، ولم يكونا يحلان بمكان حتى يملآه ثرثرة.
قال عباس الحلو: يا قوم، اسمعوا: شكا إلي صديقي عم كامل، قال إنه عرضة للموت في أية لحظة، وإنه إذا مات فلن يترك ما يدفن به.
فقال بعض الحاضرين متهكما: أمة محمد بخير.
وقال البعض الآخر: إن له لتركة من البسبوسة تكفي لدفن أمة بأسرها.
وضحك الدكتور بوشي، وخاطب عم كامل قائلا: لا تفتأ تذكر الموت، وتالله لتدفننا جميعا بيديك.
فقال عم كامل بصوت بريء كالأطفال: اتق الله يا شيخ، أنا رجل مسكين.
واستطرد عباس الحلو قائلا: يا قوم، عزت علي شكاة عم كامل، ولبسبوسته فضل علينا جميعا غير منكور، فابتعت له كفنا احتياطيا ، واحتفظت به في مكان حريز لساعة لا مفر منها، (والتفت إلى عم كامل قائلا): هذا سر أخفيته عنك، وها أنا أعلنه على الملأ ليكونوا علي شهودا.
Bog aan la aqoon
فأبدى الكثيرون عن اغتباطهم، متصنعين الجد، ليجوز الكلام على عم كامل المشهور بسرعة تصديقه، وأثنوا على مروءة الحلو وكرمه، وقالوا: إن هذا صنيع خليق به نحو الرجل الذي يحبه ويساكنه شقة واحدة، ويشاطره العيش كأنه من لحمه ودمه. حتى السيد رضوان الحسيني ابتسم راضيا، مما جعل عم كامل ينظر إلى الشاب في سذاجة ودهشة ويقول متسائلا: أحق ما تقول يا عباس؟!
فقال الدكتور بوشي: لا يداخلك الشك يا عم كامل، لقد علمت بما يقول صاحبك، ورأيت الكفن بعيني رأسي، وهو كفن قيم وددت لو يكون لي مثله.
وتحرك الشيخ درويش للمرة الثالثة فقال: حظ سعيد، الكفن سترة الآخرة يا كامل، تمتع بكفنك قبل أن يتمتع بك. ستكون طعاما مريئا للدود، فيرعى في لحمك الهش مثل البسبوسة؛ فيسمن وتصير الدودة كالضفدعة، ومعناها بالإنجليزي
Frog
وتهجيتها:
F r o g .
وصدق عم كامل، ومضى يسأل الحلو عن نوع الكفن ولونه وعدد أدراجه، ثم دعا له طويلا، وانبسط وحمد الله. وارتفع عند ذاك صوت فتي آتيا من الطريق يقول: مساء الخير.
واتجه صاحبه إلى بيت السيد رضوان الحسيني. كان القادم حسين كرشة ابن المعلم كرشة صاحب القهوة. فتى في العشرين في مثل لون أبيه الضارب إلى السواد؛ ولكنه ممشوق القوام، تدل ملامحه الدقيقة على الحذق والفتوة والنشاط، كان يرتدي قميصا من الصوف الأزرق وبنطلونا خاكيا وقبعة وحذاء ثقيلا، تلوح على سيماه مظاهر نعمة المشتغلين بالجيش البريطاني. وكان ذاك ميعاد عودته من «الأرنس» كما يسمونه، فرمقه الكثيرون بعين الإعجاب والحسد، ودعاه صديقه الحلو إلى القهوة؛ ولكنه شكره ومضى إلى حال سبيله. •••
ساد الظلام الزقاق إلا ما ينبعث من مصابيح القهوة فيرسم على رقعة من الأرض مربعا من نور تتكسر بعض أضلاعه على جدار الوكالة. ومضت الأنوار الباهتة وراء خصاص نوافذ البيتين تنطفئ واحدا في إثر واحد. وأكب سمار القهوة على الدومينو والكومي؛ إلا الشيخ درويش فقد أغرق في ذهوله، وعم كامل مال رأسه على ثدييه وراح في سبات. وظل سنقر على نشاطه، يحمل الطلبات ويرمي بالماركات في الصندوق، والمعلم «كرشة» يتابعه بعينين ثقيلتين، وهو يستشعر في خمول ذوبان الفص في جوفه ويستنيم إلى سلطنة لذيذة. وتقدمت جحافل الليل، فغادر السيد رضوان الحسيني القهوة إلى بيته. وتبعه بعد قليل الدكتور بوشي إلى شقته في الدور الأول من البيت الثاني. ثم لحق بهما الحلو وعم كامل. وأخذت المقاعد تخلو تباعا، حتى انتصف الليل فلم يبق بالقهوة إلا ثلاثة: المعلم والصبي والشيخ درويش. وجاء نفر من المعلمين أقران المعلم «كرشة»، وصعدوا جميعا إلى حجرة خشبية على سطح بيت السيد رضوان، وتحلقوا المجمرة، وبدءوا سهرة جديدة لا تنتهي حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وخاطب سنقر الشيخ درويش قائلا برقة: انتصف الليل يا شيخ درويش.
فانتبه الشيخ إلى صوته، وخلع نظارته بهدوء وجلاها بطرف جلبابه، ثم لبسها من جديد وسوى رباط رقبته ونهض قائما، واضعا قدميه في القبقاب، وغادر القهوة دون أن ينبس بكلمة، يخرق السكون بضربات قبقابه على بلاط الزقاق. كان السكون شاملا، والظلمة ثقيلة، والطرق والدروب خالية مقفرة، فترك لقدميه مقوده، حيث لا دار له ولا غاية، وغاب في الظلمة. •••
Bog aan la aqoon
كان الشيخ درويش على عهد شبابه مدرسا في إحدى مدارس الأوقاف، بل كان مدرس لغة إنجليزية! وقد عرف بالاجتهاد والنشاط، وأسعفه الحظ أيضا فكان رب أسرة سعيدة. ولما أن انضمت مدارس الأوقاف إلى وزارة المعارف، سويت حالته ككثيرين من زملائه غير ذوي المؤهلات العالية، فاستحال كاتبا بالأوقاف، ونزل من الدرجة السادسة إلى الثامنة، وعدل مرتبه على هذا الأساس. كان من الطبيعي أن يحزن الرجل لمصيره حزنا عميقا، وثار ثورة جامحة ما وسعته الثورة، يعلنها حينا، ويكتمها - مقسورا مغلوبا على أمره - أحيانا. ولقد سعى كل مسعى، وقدم الالتماسات، واستشفع الرؤساء، وشكا الحال وكثرة العيال، دون جدوى. ثم سلم للقنوط بعد أن تحطمت أعصابه أو كادت. واشتهر أمره في الوزارة كموظف كثير التبرم والشكوى ، عظيم اللجاج والعناد، سريع التأثر، لا يكاد يمضي يوم من حياته دون شجار أو اصطدام، كبير الاعتداد بنفسه والتحدي للآخرين. وكان إذا شجر بينه وبين آخر خلاف - وكثيرا ما يحدث - تعالى استكبارا، وخاطب خصمه بالإنجليزية، فإذا اعترض الرجل على استعمال لغة أجنبية دون موجب، صاح به في ازدراء شديد: «تعلم أولا ثم خاطبني!» وكانت أنباء شجاره وعناده تتصل برؤسائه أولا بأول، وكانوا يتسامحون معه؛ عطفا عليه من ناحية، وتحاميا لشره من ناحية أخرى، ولذلك اطردت حياته دون عقاب يذكر إلا بعض الإنذارات، وخصم يوم أو يومين. ولكنه ازداد بكرور الأيام صلفا، حتى تراءى له يوما أن يحرر خطاباته المصلحية باللغة الإنجليزية ففعل. وكان يقول في تسويغ ذلك إنه موظف فني لا كغيره من الكتاب. وتعطل عمله مما دعا مديره لمعاملته بالحزم والقسوة، ولكن المقدر كان أسرع من حزم المدير، فطلب الرجل يوما مقابلة وكيل الوزارة، ودخل درويش أفندي - كما كان وقتذاك - حجرة الوكيل في تؤدة ووقار، وحياه تحية الند للند، وبادره قائلا بثقة ويقين: يا سعادة الوكيل، لقد اختار الله رجله.
فطلب إليه الوكيل أن يفصح عما يريد، فاستدرك قائلا بوقار وجلال: أنا رسول الله إليك بكادر جديد.
هكذا ختمت حياته بالأوقاف. وهكذا قطعت صلته بالهيئة الاجتماعية التي كان واحدا منها. هجر أهله وإخوانه ومعارفه إلى دنيا الله - كما يسميها - ولم يستبق من آثار الماضي جميعا إلا نظارته الذهبية. ومضى في عالمه الجديد بلا صديق ولا مال ولا مأوى. ودلت حياته على أن بعض الناس يستطيعون أن يعيشوا في هذه الدنيا المتقيحة بمرارة الكفاح بلا مأوى ولا مال ولا معين، ثم لا يجدون هما ولا كربا ولا حاجة. لا جاع يوما ولا تعرى ولا شرد. وانتقل إلى حال من السلام والطمأنينة والغبطة لا عهد له بها. وإذا كان قد فقد بيته فالدنيا جميعا صارت بيتا له، وإذا كان قد حرم مرتبه فالتعلق بالمال قد انقطع عنه، وإذا كان قد خسر الأهل والأصدقاء فالناس جميعا انقلبوا له أهلا. يبلى الجلباب فيأتيه جلباب جديد، ويتمزق رباط الرقبة فيجيئه رباط جديد، ولا يحل مكانا حتى يرحب به ناسه. وبحسبه أن يفتقده المعلم كرشة نفسه - على ذهوله - إذا غاب عن القهوة يوما. ومع ذلك فلم يكن يأتي شيئا مما يعتقد فيه العامة من المعجزات والخوارق وقراءة الغيب؛ فهو إما ذاهل صامت، أو مرسل القول كما يحب، لا يدري أنى يكون موقعه من النفوس. بيد أنه رجل محبوب مبارك، يستبشر الجميع بوجوده بينهم خيرا، ويقولون عنه: إنه ولي من أولياء الله الصالحين، يأتيه الوحي باللغتين العربية والإنجليزية.
2
نظرت إلى المرآة بعين غير ناقدة، أو بالأحرى بعين تتلمس مواضع الرضا، فعكست المرآة وجها نحيلا مستطيلا، فعل الزواق بخديه وحاجبيه وعينيه وشفتيه الأعاجيب. وجعلت تعطفه يمنة، وتعطفه يسرة، وأصابعها تنسق ضفيرتها، مغمغمة بصوت لا يكاد يسمع: «لا بأس، جميل، وأيم الله جميل.» والحق أن هذا الوجه قد طالع الدنيا ما يقارب الخمسين عاما، والدنيا لا تدع وجها سالما نصف قرن من الزمان. أما جسمها فنحيل، أو جاف كما تصفه نسوة الزقاق، وأما الصدر فأمسح، بيد أن فستانا حسنا يستره. هذه هي الست سنية عفيفي صاحبة البيت الثاني بالزقاق، حيث يسكن الدكتور بوشي طابقه الأول، وفي ذلك اليوم كانت تأخذ أهبتها لزيارة الشقة الوسطى التي تقيم بها أم حميدة. ولم يكن من عادتها الإكثار من زيارة أحد، وربما لم تكن تدخل هذه الشقة إلا أول كل شهر لتحصيل الأجرة، إلا أن باعثا جديدا دب في أعماق نفسها جعل زيارة أم حميدة من الواجبات الهامة. وهكذا غادرت شقتها، ونزلت السلالم، متمتمة برجاء: «اللهم حقق الآمال»، ودقت بكفها المعروقة، ففتحت لها حميدة واستقبلتها بابتسامة الاستقبال المتصنعة، وقادتها إلى حجرة الضيوف، ثم ذهبت تدعو أمها. كانت الحجرة صغيرة، بها كنبتان من الطراز القديم متقابلتان، وفي الوسط خوان باهت عليه نافضة سجاير، وأما أرضها فمفروشة بحصيرة. ولم يطل بالمرأة الانتظار، فسرعان ما جاءت أم حميدة مهرولة وقد غيرت جلباب البيت، فسلمتا بشوق، وتبادلتا قبلتين، وجلستا جنبا لجنب، وأم حميدة تقول: أهلا ... أهلا ... زارنا النبي يا ست سنية.
كانت أم حميدة ربعة ممتلئة في الستين؛ ولكنها معافاة قوية، جاحظة العينين، مجدورة الخدين، ذات صوت غليظ قوي النبرات، فإذا تحدثت فكأنها تزعق، وهو سلاحها الأول فيما يشجر بينها وبين الجارات من نزال. ولم تكن مرتاحة للزيارة بطبيعة الحال؛ لأن زيارة تقوم بها صاحبة الملك أمر قد تسوء عواقبه، وقد ينذر بالخطر. ولكنها وطنت النفس على أن تلبس لكل حال لبوسها؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وإنها على كلتا الحالتين لقادرة. وكانت بحكم وظيفتها - خاطبة وبلانة - عميقة الملاحظة، كثيرة الكلام؛ بل كانت لسانا لا يكف ولا يمسك، ولا يكاد تفوته شاردة أو واردة عن شخص من شخوص الحي أو بيت من بيوته، فهي مؤرخة راوية لأخبار السوء - على الغالب - ومعجم للمنكرات. وأرادت كعادتها أن تتسلى بالكلام فراحت ترحب بالضيفة، وتطنب في الثناء عليها، وتروي لها نتفا من أنباء الزقاق والأخبار المجاورة: أما علمت بفضيحة المعلم كرشة الجديدة؟ هي كسابقاتها، وقد اتصل الخبر بزوجه فتعاركت معه ومزقت جبته. وحسنية الفرانة ضربت زوجها جعدة أمس حتى بض الدم من جبينه. والسيد رضوان الحسيني الطيب الورع زجر زوجه زجرا شديدا، لماذا يعاملها هذه المعاملة - وهو الرجل الطيب - إن لم تكن شريرة خبيثة! الدكتور البوشي احتك بفتاة صغيرة في المخبأ في آخر غارة، وضربه رجل محترم. كريمة الماوردي تاجر الخشب فرت مع خادمها وبلغ أبوها القسم. طابونة الكفراوي تبيع عيشا مخلوطا سرا ... إلخ ... إلخ.
أصغت الست سنية عفيفي بأذن غير واعية؛ لأنها كانت مشغولة بالأمر الذي جاءت من أجله. وقد صدقت نيتها على أن تطرق الموضوع الذي طال اختماره بنفسها مهما كلفها الأمر. بيد أنها نازعت المرأة الحديث حتى تتهيأ لها فرصة مواتية، وقد تهيأت هذه الفرصة حين سألتها أم حميدة قائلة: وكيف الحال يا ست سنية؟
فعبست قليلا وقالت: الحق أني تعبة يا ست أم حميدة!
فرفعت أم حميدة حاجبيها كالمنزعجة وقالت: تعبة؟! كفى الله الشر!
وأمسكت ست سنية ريثما تضع حميدة - وكانت دخلت الحجرة في هذه اللحظة - صينية القهوة على الخوان وتعود من حيث أتت، ثم قالت بامتعاض: تعبة يا ست أم حميدة! أليس من المتعب تحصيل أجور الدكاكين؟ تصوري وقوف امرأة مثلي أمام رجل غريب تطالبه بالأجرة ...
Bog aan la aqoon
وقد خفق قلب أم حمدة لسيرة الأجور؛ ولكنها قالت بنبرات أسيفة: صدقت يا ستي، كان الله في عونك.
ولم تفتها ملاحظة هامة فتساءلت: لماذا تكثر المرأة من ترداد هذه الشكوى؟ وذكرت أنها أعادتها على سمعها مرات! بل ذكرت أن هذه ثاني أو ثالث مرة تزورها في غير أول الشهر. وخطر لها خاطر عجيب دهشت له بحكم وظيفتها، وكانت في أمثال هذه المسائل خاصة، ذات فراسة لا تجارى، فصممت أن تسبر الزائرة من وراء وراء، فقالت بخبث: هذا أحد شرور الوحدة. أنت امرأة وحيدة يا ست سنية؛ في البيت وحدك، وفي الطريق وحدك، وفي «الفراش» وحدك، ألا قطعت الوحدة.
وسرت الست سنية بحديث المرأة الذي كأنه يلبي خواطرها، وقالت وهي تخفي سرورها به: وما عسى أن أصنع؟ أقاربي ذوو أسر، وأنا لا أرتاح إلا في بيتي، والحمد لله الذي أغناني عن الناس جميعا.
وكانت أم حميدة تلحظها بمكر، فقالت فاتحة آخر الأبواب: الحمد لله ألف مرة، ولكن بالله خبريني لماذا قضيت على نفسك بالعزوبة هذا الدهر الطويل؟!
فخفق فؤاد الست سنية، ووجدت نفسها وجها لوجه حيال ما تريد، ولكنها تنهدت بإنكار وقالت بتأفف متكلف: حسبي ما ذقت من مرارة الزواج!
كانت الست سنية عفيفي قد تزوجت في شبابها من صاحب دكان روائح عطرية، ولكنه كان زواجا لم يصادفه التوفيق، فأساء الرجل معاملتها، وأشقى حياتها، ونهب مالها، ثم تركها أرملة منذ عشرة أعوام. ولبثت أرملة طوال تلك الأعوام لأنها - على حد قولها - كرهت حياتها الزوجية.
ولم يكن هذا القول مجرد كذب تداري به إهمال الجنس الآخر لها، فقد كرهت الحياة الزوجية حقا، وفرحت باسترداد حريتها وأمنها، وظلت على نفورها من الزواج وفرحها بحريتها عهدا طويلا، ثم أنسيت تلك العاطفة بكرور الزمن، ولم تكن تتردد عن تجربة حظها من جديد لو تقدم لطلب يدها طالب. وجعلت تراود الأمل حينا بعد حين، حتى طال به الأمد، فغلبها القنوط، وصرفت نفسها عن مراودة الآمال الكواذب، ووطنت النفس على الرضا بحياتها كما هي. ولما كان من الضروري أن يوجد في حياة الإنسان شيء تنعقد حوله آماله، شيء يقرر لحياته قيمة ولو وهمية أو سخيفة، فقد وجدت ضالتها كذلك. ومن حسن الطالع أنها لم تكن مما ينتقص امرأة عازبة مثلها، فأولعت بالقهوة والسجائر واكتناز الأوراق المالية الجديدة. وقد كانت في الأصل تميل قليلا نحو الحرص، وكانت من العملاء القدماء لصندوق التوفير، فجاءت الهواية الجديدة تؤكد ذاك الميل القديم وتقويه وتتقوى به. وكانت تحتفظ بالأوراق الجديدة في صندوق عاجي صغير أخفته في أعماق صوان ملابسها، ووزعتها رزما من ذوات الخمس والعشر، تتسلى بمشاهدتها ومعاودة عدها وترتيبها. ولما كانت الأوراق خرساء لا كالنقود المعدنية، فقد أمنت الأخطار، ولم يدر بها أحد من شطار المدق على شدة حساسيتهم. وجدت في حياتها المالية عزاء، وانتحلت منها اعتذارا لعزوبتها، وقالت لنفسها: إن أي زوج خليق بأن ينهب أموالها كما فعل الزوج المرحوم، وبأن يضيع عليها في غمضة عين ثمرة الأعوام الطوال، ومع ذلك فما كاد يتسرب إلى قلبها الإيحاء بفكرة الزواج حتى تناست الأعذار والمخاوف جميعا. وكانت أم حميدة المسئولة عن هذا التحول العجيب، سواء عن قصد أو عن غير قصد، بما قصته عليها مرة من تزويجها لأرملة عجوز؛ ففكرت في الأمر على أنه ممكن التحقيق، وسرعان ما استولى على إرادتها، فتدافعت إلى طاعته لا تلوي على شيء. ظنت يوما أنها نسيت الزواج؛ فإذا بالزواج أملها المنشود الذي لا يغني عنه شيء من مال أو قهوة أو سجائر أو أوراق مالية جديدة! وجعلت تتساءل في جزع: كيف ضاع ذاك العمر هباء؟ كيف قطعت عشرة أعوام حتى شارفت الخمسين وحيدة؟! وقالت: إن هذا هو الجنون، وحملت زوجها المرحوم تبعته، وصممت على أن تكفر عنه اليوم قبل الغد إن أمكن.
وأصغت الخاطبة إلى تأففها المتصنع بفطنة واستهانة وقالت لنفسها: «لا يجوز علي مكرك يا مرة.» ثم خاطبتها بلهجة تنم عن لوم: لا تغالي يا ست سنية، إذا كان حظك الأول قد خاب فالزيجات السعيدة تملأ المشارق والمغارب.
فقالت الست سنية وهي تعيد قدح القهوة إلى الصينية شاكرة: لا ينبغي لعاقل أن يعاند الحظ إذا تجهم.
فاعترضتها أم حميدة قائلة: ما هذا الكلام يا ست العاقلات؟! كفاك وحدة، كفاك.
Bog aan la aqoon
فدقت المرأة صدرها الأمسح بباطن يسراها وقالت بإنكار مصطنع: يا خبر! أتريدين الناس على أن يرموني بالجنون؟! - أي أناس تعنين؟ إن أكبر منك يتزوجن كل يوم.
فتضايقت من «أكبر منك» وقالت بصوت منخفض: لست من الكبر كما تظنين ... لعن الله الهم. - ما قصدت هذا يا ست سنية، وما أشك في أنك ما زلت في حدود الشباب، ولكنه الهم الذي تلتحفين به مختارة.
فارتاحت الست؛ ولكنها كانت لا تزال مصرة على تمثيل دور من يساق إلى قبول الزواج بلا تعمد ولا رغبة، فتساءلت بعد تردد: ألا يعيبني أن أقدم على الزواج الآن بعد ذلك العهد الطويل من العزوبة؟!
فخاطبت أم حميدة نفسها قائلة: «لماذا قصدتني إذا يا مرة؟» ثم خاطبت الست قائلة: كيف يعيبك ما هو شرع وحق! أنت ست عاقلة شريفة، والكل يشهد لك بذلك، والزواج نصف الدين يا حبيبتي، وربنا شرعه حكمة، وأمر به النبي عليه الصلاة والسلام.
فقالت سنية بإيمان:
صلى الله عليه وسلم . - كيف لا يا حبيبتي! نبي عربي ويحب عبيده!
وكان وجه الست سنية قد تورد تحت قناع الأحمر، وثمل فؤادها سرورا، فقالت وهي تستخرج سيجارتين من علبتها: ومن يرضى بالزواج مني؟
فثنت أم حميدة سبابة يسراها، ولصقتها بحاجبها، وقالت باستنكار: ألف رجل ورجل.
فضحكت الست بمجامع قلبها وقالت: رجل واحد يكفي ...
فقالت أم حميدة بيقين: الرجال جميعا يحبون الزواج في أعماقهم، ولا يكاد يشكر الزواج إلا المتزوجون، وكم من رجل عازب راغب عن الزواج، ما إن أقول له: «عندي عروس لك!» حتى تدب في عينيه اليقظة، ويغلبه الابتسام، ويسألني في لهفة لا تخفى: «حقا! ... من؟! ... من؟!» الرجل يريد المرأة ولو أقعده الكساح، وهذه حكمة ربنا.
Bog aan la aqoon
فهزت الست سنية رأسها في ارتياح وقالت: جلت حكمته! - نعم يا ست سنية، لذلك خلق الله الدنيا. كان في وسعه أن يملأها رجالا فحسب، أو نساء فحسب، ولكن خلق الله الذكر والأنثى، ومنحنا العقل كي نفهم مراده، فلا محيد عن الزواج.
فابتسمت الست سنية عفيفي وقالت برقة: كلامك كالسكر يا ست أم حميدة! - حلى الله دنياك، وآنس قلبك بالزواج الكامل.
فتشجعت الست وقالت: إن شاء الله، وبفضلك. - أنا امرأة - بحمد الله - مباركة. زيجاتي لا انفصام لها. ياما عمرت بيوتا، وأنجبت أطفالا، وأسعدت قلوبا. فليكن اعتمادك على الله وعلي. - جزاؤك لن يقدر بمال.
فقالت أم حميدة في سرها: «لا ... لا يا مرة، ينبغي أن يقدر بمال، وبمال كثير. هلمي إلى صندوق التوفير وأعطيني، وكفاك تقتيرا.» ثم قالت بلهجة رزينة شأن رجال الأعمال إذا فرغوا من المقدمات وطرقوا الهام من الأمور: أظنك تفضلين رجلا متقدما في السن؟!
لم تدر الأخرى بماذا تجيب؟! لم تكن تطمع في الزواج من شاب، ولا كان الشاب بالزوج الذي يناسبها، ولكنها لم ترتح إلى «متقدم في السن» هذه، وكان تدرج الحديث قد خلطها بأم حميدة فآنست إليها، واستطاعت أن تقول وهي تضحك لتداري ارتباكها: أصوم وأفطر على بصلة!
فضحكت أم حميدة ضحكة عالية رنت رنينا مزعجا، وازدادت اطمئنانا إلى نفاسة الصفقة التي هي بصدد عقدها، ثم قالت بخبث: صدقت يا ست، والحق أن التجارب دلتني على أن أسعد الزيجات ما كبرت الزوجة فيها الزوج، ولكم يناسبك رجل في الثلاثين أو يزيد قليلا.
فتساءلت المرأة في قلق: وهل يوافق؟ - يوافق ويوافق! أنت سيدة جميلة وغنية! - سلمت من كل سوء!
فقالت أم حميدة وقد لبس وجهها المجدور هيئة الجد والاهتمام: أقول له سيدة نصف، ولا ولد لها ولا حماة، أدب وكمال، صاحبة دكانين بالحمزاوي وبيت ذي طابقين بالمدق.
فابتسمت الست وقالت تصحح لها ما حسبته هفوة: بل ذلك ثلاثة طوابق.
ولكن الأخرى قالت معترضة: اثنان فحسب؛ لأن الطابق الثالث الذي أسكنه لن تقبضي إيجاره مدى حياتي!
Bog aan la aqoon
فقالت الست سنية في سرور: لك عيناي يا ست أم حميدة! - سلمت عيناك، ربنا يهيئ ما فيه الخير.
فهزت رأسها الأخرى كالمتعجبة وقالت: يا للعجب! جئتك لمجرد الزيارة فانظري كيف انتهى بنا الحديث؟ وكيف أغادرك في حكم المتزوجات؟!
فجارتها أم حميدة في ضحكها كالمتعجبة أيضا، وإن راحت تقول لنفسها: «يا مرة احتشمي، أتحسبين أن مكرك يجوز علي؟!» ثم قالت: إرادة ربنا! أليس كل شيء بأمره؟!
وعادت الست سنية عفيفي إلى شقتها مسرورة فرحة؛ بيد أنها حادثت نفسها قائلة: «إيجار شقة مدى الحياة! يا لها من امرأة جشعة.»
3
ودخلت حميدة الحجرة عقب مغادرة الست سنية لها. كانت تمشط شعرها الأسود تفوح منه رائحة الكيروسين، فنظرت أم حميدة إلى الشعر الفاحم اللامع تكاد تجاوز ذؤاباته المسترسلة ركبتي الفتاة، وقالت بأسف: واحسرتاه! كيف تدعين القمل يرعى هذا الشعر الجميل؟!
فبرقت عينان سوداوان مكحلتان بأهداب وطف، ولاحت فيهما نظرة حادة صارمة، وقالت الفتاة بحدة: قمل؟! والنبي، ما وجد المشط إلا قملتين اثنتين! - أنسيت يوم مشطتك من أسبوعين وهرست لك عشرين قملة؟!
فقالت بغير مبالاة: كان مضى على رأسي شهران بلا غسيل.
ثم اشتد ساعدها في التمشيط وهي تجلس جنب أمها. كانت في العشرين، متوسطة القامة، رشيقة القوام، نحاسية البشرة، يميل وجهها للطول، في نقاء ورواء، وأميز ما يميزها عينان سوداوان جميلتان، لهما حور بديع فاتن، ولكنها إذا أطبقت شفتيها الرقيقتين وحدت بصرها تلبستها حالة من القوة والصرامة لا عهد للنساء بها! وقد كان غضبها دائما مما لا يستهان به حتى في زقاق المدق نفسه. وأمها على ما اشتهرت به من القوة تتحاماها ما استطاعت. قالت لها يوما وهما تتسابان: «لن يلم الله شعثك برجل، فأي رجل يرضى بأن يضم إلى صدره جمرة موقدة؟!» وكانت تقول في مرات أخرى: إن جنونا لا شك فيه ينتاب ابنتها حين الغضب، وسمتها لذلك «الخمسين»، باسم الرياح المعروفة. ومع ذلك كانت تحبها كثيرا؛ وإن كانت في الحقيقة أمها بالتبني. كانت الأم الحقيقية شريكة لها في الاتجار بالمفتقة والمغات، ثم شاطرتها شقتها بالزقاق في ظروف سيئة، وأخيرا ماتت بين يديها تاركة طفلتها في سن الرضاع، فتبنتها أم حميدة، وعهدت بها إلى زوج المعلم كرشة القهوجي فأرضعتها مع ابنها حسين كرشة، فهي أخته بالرضاعة.
مضت تمشط شعرها الفاحم منتظرة كالعادة أن تعلق أمها على الزيارة والزائرة، ولما طال الصمت قالت الفتاة: طالت الزيارة، فيم كنتما تتحدثان؟
Bog aan la aqoon
فضحكت أمها في سخرية وتمتمت: خمني؟!
فقالت الفتاة وقد اشتد اهتمامها: طلبت رفع الإيجار. - لو فعلت لخرجت محمولة على أيدي رجال الإسعاف، ولكنها طلبت خفضه؟
فصاحت حميدة: هل جنت؟ - أجل جنت؛ ولكن خمني.
فنفخت الفتاة وهي تقول: أتعبتني!
فأرعشت المرأة حاجبيها، وقالت وهي تغمز بعينها: صاحبتك تروم الزواج!
فتولت الفتاة الدهشة وقالت: الزواج! - أجل، تريد شابا. أسفي عليك من شابة عاثرة الحظ لا تجد من يطلب يدها!
فحدجتها الفتاة بنظرة شزراء، وقالت وهي تضفر شعرها: بل أجد كثيرين، ولكنك خاطبة فاشلة تريدين أن تداري فشلك. وماذا بي مما يعيب؟ ولكنك كما قلت امرأة فاشلة، يصدق عليك المثل القائل: «باب النجار مخلع».
فابتسمت أم حميدة قائلة: إذا تزوجت الست سنية عفيفي فلا يصح لامرأة أن تيأس!
ولكن الفتاة رمتها بنظرة غاضبة وقالت بحدة: لست أجري وراء الزواج، ولكنه يجري ورائي أنا، وسأنبذه كثيرا. - طبعا! أميرة بنت أمراء!
فتغاضت الفتاة عن سخرية أمها وقالت بنفس اللهجة الحادة: أفي هذا الزقاق أحد يستحق الاعتبار؟
Bog aan la aqoon
ولم تكن الأم في الواقع يداخلها خوف على الفتاة من البوار، ولا تشك في جمالها، ولكنها كانت كثيرا ما تثور بعجبها وغرورها. فقالت باستياء: لا تسلقي الزقاق بلسانك، إن أهله سادة الدنيا! - سادة دنياك أنت، كلهم كعدمهم، اللهم إلا واحدا به رمق جعلتموه أخي!
وكانت تعني حسين كرشة أخاها بالرضاعة؛ فهال أمها الأمر وقالت بلهجة انتقاد واستياء: كيف تقولين هذا؟ ما جعلناه أخا، وما نملك أن نصنع أخا ولا أختا، ولكنه أخوك بالرضاعة كما أمر الله!
فغلبتها روح المجون وقالت عابثة: ألا يجوز أن يكون قد رضع من ثدي، ورضعت أنا من الآخر؟
فلكمتها أمها في ظهرها وصاحت بها: قاتلك الله!
فغمغمت الفتاة بازدراء: زقاق العدم! - أنت تستحقين موظفا قد الدنيا! - فتساءلت بتحد: هل الموظف إله؟
فتنهدت الأم قائلة: آه لو تخففين من غلوائك!
فقلدت لهجة أمها قائلة: آه لو تنصفين ولو مرة في العمر! - آكلة شاربة ثم لا تشكرين. أتذكرين كيف أطلقت علي لسانك الطويل بسبب جلباب!
فقالت حميدة بدهشة: وهل الجلباب شيء يهون؟! ما قيمة هذه الدنيا بغير الملابس الجديدة؟! ألا ترين أن الأولى بالفتاة التي لا تجد ما تتزين به من جميل الثياب أن تدفن حية؟!
ثم امتلأ صوتها أسفا وهي تقول مستدركة: آه لو رأيت بنات المشغل! آه لو رأيت اليهوديات العاملات! كلهن يرفلن في الثياب الجميلة. أجل ما قيمة الدنيا إذا لم نرتد ما نحب؟!
فقالت الأم باستياء: أفقدتك مراقبة فتيات المشغل واليهوديات عقلك، وهيهات أن يهدأ لك بال!
Bog aan la aqoon
فلم تعبأ بقولها، وكانت انتهت من تضفير شعرها، فاستخرجت من جيبها مرآة صغيرة، ثبتتها على مسند الكنبة، ثم وقفت أمامها منحنية قليلا لترى صورتها، ثم غمغمت بلهجة تنم عن الإعجاب: آه يا خسارتك يا حميدة! لماذا توجدين في هذا الزقاق؟! ولماذا كانت أمك هذه المرأة التي لا تميز بين التبر والتراب؟!
ثم دلفت من النافذة الوحيدة في الحجرة التي تطل على الزقاق، ومدت يديها إلى مصراعيها المفتوحين وجذبتهما حتى لم يعد يفرج بينهما إلا مقدار قيراطين من الفراغ، وارتفقت النافذة ملقية ببصرها إلى الزقاق، متنقلة به من مكان إلى مكان، قائلة، وكأنما تخاطب نفسها في سخرية: مرحبا يا زقاق الهنا والسعادة. دمت ودام أهلك الأجلاء. يا لحسن هذا المنظر، ويا لجمال هؤلاء الناس. ماذا أرى؟! هذه حسنية الفرانة جالسة على عتبة الفرن كالزكيبة؛ عينا على الأرغفة وعينا على جعدة زوجها، والرجل يشتغل مخافة أن تنهال عليه لكماتها وركلاتها. وهذا المعلم كرشة القهوجي متطامن الرأس كالنائم، وما هو بالنائم. وعم كامل يغط في نومه، والذباب يرقص على صينية البسبوسة بلا رقيب. آه! وهذا عباس الحلو يسترق النظر إلى النافذة في جمال ودلال، ولعله لا يشك في أن هذه النظرة سترميني عند قدمه أسيرة لهواه، أدركوني يا هوه قبل التلف. أما هذا فالسيد سليم علوان صاحب الوكالة، رفع عينيه يا أماه وغضهما، ثم رفعهما ثانية .. قلنا الأولى مصادفة، والثانية يا سليم بك؟! رباه هذه نظرة ثالثة! ماذا تريد يا رجل يا عجوز، يا قليل الحياء؟! مصادفة كل يوم في مثل هذه الساعة؟! ليتك لم تكن زوجا وأبا؛ إذا لبادلتك نظرة بنظرة، ولقلت لك: أهلا وسهلا ومرحبا. هذا كل شيء، هذا هو الزقاق، فلماذا لا تهمل حميدة شعرها حتى يقمل؟! .. أوه .. ها هو ذا الشيخ درويش قادما يضرب الأرض بقبقابه!
وهنا قاطعتها أمها في سخرية: ما أحق الشيخ درويش أن يكون زوجا لك!
فلم تلتفت إليها، ورقصت لها عجيزتها وهي تقول: يا له من رجل مقتدر. يقول إنه أنفق في حب السيدة زينب مائة ألف، فهل يبخل بعشرة آلاف؟!
ثم تراجعت فجأة كأنها ملت موقفها، وعادت إلى المرآة ملقية إليها نظرا فاحصا، وتنهدت، وهي تقول: يا خسارتك يا حميدة!
4
في الثلث الأول من النهار يكتنف الزقاق جو رطب بارد ظليل، لا تزوره الشمس إلا حين تشارف كبد السماء فتتخطى الحصار المضروب حوله. بيد أن النشاط يدب في الأركان منذ الصباح الباكر، يفتتحه سنقر صبي القهوة فيهيئ المقاعد ويشعل الوابور، ثم يتوافد عمال الوكالة أزواجا وأفرادا، ثم يلوح جعدة حاملا خشبة العجين، حتى عم كامل نفسه يشغل في هذه الساعة بفتح الدكان وتناول الإفطار عن النعاس! وكان عم كامل وعباس الحلو يتناولان إفطارهما معا، فتوضع بينهما صينية عليها طبق المدمس والبصل الأخضر والخيار المخلل. وكان مزاجاهما في الأكل مختلفين؛ فالحلو سريع يلتهم رغيفه في دقائق معدودات، أما عم كامل فبطيء يمضغ اللقمة في أناة حتى يكاد يذيبها في فمه، وكثيرا ما يقول: إن الطعام المفيد يهضم في الفم أولا، ولذلك فالحلو ينتهي من طعامه، ثم من احتساء الشاي وتدخين الجوزة، والآخر ما يزال يمضغ ويقضم البصل، ولذلك أيضا فلكي يأمن تعدي الحلو على نصيبه يشق الفول بلقمة شطرين، ولا يسمح للشاب بتجاوز حده! وعم كامل - رغم جسامته وضخامته - لا يعد أكولا وإن كان يلتهم الحلوى بشراهة. وهو حلواني ماهر، ولكنه لا يفرغ ما يتمتع به من فن إلا في الطلبات الخاصة التي يوصي عليها أمثال السيد سليم علوان والسيد رضوان الحسيني والمعلم كرشة. وطار في ذلك صيته حتى جاوز المدق إلى الصنادقية والغورية والصاغة. ولكن رزقه على قد عيشته البسيطة دون زيادة، فلم يكن كاذبا حين شكا إلى عباس الحلو أنهم لن يجدوا بعد وفاته ما يدفنونه به. وقد قال - ذلك الصباح - مخاطبا الحلو بعد أن فرغا من طعامهما: قلت إنك ابتعت لي كفنا، وهو صنيع تستحق عليه الشكر والدعاء، ولكن ما قولك في أن تنزل لي عنه الآن؟
فتعجب عباس الحلو الذي كاد ينسى الكفن كما تنسى عادة الأكاذيب، وسأله: وماذا تريد أن تفعل به؟!
فقال الرجل بصوته الرفيع الذي يحاكي أصوات الغلمان: أنتفع بثمنه! ألا تسمع ما يقال عن ارتفاع أثمان الأقمشة؟
فضحك الحلو وقال: أنت رجل ماكر على رغم ما تتظاهر به من سذاجة؛ بالأمس شكوت أنك لن تجد ما تكفن به بعد موتك، فلما أعددت لك الكفن تريد أن تنتفع بثمنه! ولكن هيهات أن تنال ما تريد، لقد ابتعت الكفن لأكرم به جثتك بعد عمر طويل إن شاء الله.
Bog aan la aqoon
فابتسم عم كامل في ارتباك وقال: هب أن العمر قد امتد بي حتى تعود الحالة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، ألا نكون قد خسرنا ثمن الكفن الغالي؟! - وهبك تموت غدا؟!
فقطب عم كامل وقال: لا قدر الله!
فقهقه الحلو ضاحكا وقال: عبثا تحاول أن تثنيني عما اعتزمت، سيبقى الكفن في حرز حريز حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وعاوده الضحك فضحك طويلا حتى شاطره الرجل ضحكه، ثم قال الشاب معاتبا: يا لك من رجل لا ترجى منه فائدة! هل استفدت منك مليما واحدا في حياتي؟! مطلقا. ذقنك جرداء لا تنبت، وكذلك شاربك. رأسك أصلع، وليس بهذه الدنيا الواسعة التي تدعوها جسمك شعرة واحدة أنتفع بحلقها! سامحك الله.
فابتسم عم كامل قائلا: جسم نظيف طاهر لن يشق على أحد غسله.
وقطع عليهما الحديث صوت يشبه العواء، فنظرا إلى داخل الزقاق فرأيا المعلمة حسنية الفرانة تنهال على زوجها جعدة بالشبشب، والرجل يتقهقر أمامها لا يملك لها دفعا، وصراخه يعلو حتى طبق الآفاق، فضحك الرجلان، وصاح عباس الحلو مخاطبا المرأة: العفو والرحمة يا معلمة!
ولكن المرأة لم تمسك حتى ارتمى جعدة عند قدميها باكيا مستعطفا. ولبث عباس ضاحكا، وهو يقول لعم كامل: ما أخلق جسمك بهذا الشبشب حتى يذوب شحمه!
وظهر عند ذاك حسين كرشة قادما من البيت في سرواله وقميصه وقبعته. كان ينظر في ساعة معصمه، تياها فخورا، وعيناه الصغيرتان الحاذقتان تمتلئان زهوا. وقد حيا صديقه الحلاق، ومضى إلى الكرسي داخل الصالون وجلس عليه ليحلق شعره في يوم عطلته. وقد نشأ الصديقان معا في زقاق المدق، كما رأيا نور الدنيا في بيت واحد، بيت السيد رضوان الحسيني، بيد أن عباس الحلو رأى هذا النور الدنيوي قبل صاحبه بثلاثة أعوام. وكان الحلو في ذلك الوقت يعيش في حضانة والديه، قبل أن يعرفه عم كامل ويشاطره شقته بخمسة عشر عاما. وقد قطع الصديقان الطفولة والصبا معا. وآخى بينهما الحب والمودة، وظلا على صداقتهما حتى بعد أن فرق بينهما العمل، فاشتغل عباس صبي حلاق بالسكة الجديدة، وعمل حسين صبيا في دكان دراجات بالجمالية. وقد تباينت أخلاقهما منذ البدء، ولكن لعل تباينهما هذا كان من أهم الأسباب التي أبقت على صداقتهما ومودتهما. كان عباس الحلو - ولا يزال - شخصا وديعا، دمث الأخلاق، طيب القلب، ميالا بطبعه إلى المهادنة والمصالحة والتسامح، أقصى ما يطمح إليه من فنون اللهو اللعب السلمي، أو ارتياد القهوة لتدخين الجوزة ولعب الكومي، مع نفور من اللجاج والشجار، ودراية في اتقائهما بالابتسامة الحلوة و«الله يسامحك يا عم.» وكان يحافظ على صلاته وصومه، ولا تفوته صلاة الجمعة في سيدنا الحسين. أجل أهمل الآن بعض هذه الفرائض، لا عن استهتار ولكن عن كسل، وما زال يحافظ على صلاة الجمعة وصوم رمضان. ولم يكن من النادر أن يتحرش به صاحبه حسين كرشة، ولكنه كان إذا شد صاحبه أرخى، فلم تصله قبضته القاسية قط. وعرف إلى ذلك بالقناعة والرضا، حتى إنه واصل عمله «صبيا» عشرة أعوام كاملة ولم يفتح دكانه الصغير إلا منذ خمسة أعوام، ومنذ ذلك التاريخ وهو يحسب أنه نال أرفع ما يطمح إليه. وقد ملأت هذه الروح القنوعة الراضية نفسه، فنطقت بها عيناه البارزتان الهادئتان، وجسمه البدين، وطابع المرح الذي لا يفارقه. أما حسين كرشة فكان من شطار الزقاق، مشتهرا بالنشاط والحذق والجراءة، بل هو معتد أثيم إذا دعا الداعي. وقد اشتغل بادئ أمره في قهوة أبيه، ولكنهما لم يتفقا، فهجرها وعمل بدكان الدراجات، ولبث بها حتى اندلع لهيب الحرب فالتحق بخدمة المعسكرات البريطانية، وبلغت يوميته بها ثلاثين قرشا - نظير ثلاثة قروش في عمله الأول - غير ما يسميه «أكل العيش يحب خفة اليد» فارتفعت حاله، وامتلأ جيبه، ورفه عن نفسه بحماس فائر لا يعترف بالحدود؛ فتمتع بالثياب الجديدة، وغشي المطاعم، وأكثر من أكل اللحوم التي هي في حسبانه طعام المحظوظين، وارتاد السينمات والملاهي، وعاقر الخمر، ورافق النساء، وربما أخذته نشوة كرم فدعا رفاقه إلى سطح البيت حيث يقدم لهم الطعام والنبيذ والحشيش. وفي نشوة من نشواته - كما يحكى عنه - قال لبعض مدعويه: «في بلاد الإنجليز يسمون من كان مثلي في بحبوحة العيش باللارج (Large) ، ولما كان مثله لا يعدم حاسدين فقد دعوه بحسين كرشة اللارج، ثم حرفت فيما بعد إلى حسين كرشة الجراج!»
أمسك عباس الحلو بالماكينة وأقبل على رأس صاحبه بهمة ونشاط، يصلح من أطرافها دون مساس بالشعر المفلفل الذي يكاد يقف من فظاظته وخشونته. ولم يكن يخلو من شعور بالحزن يساوره كلما التقى بذلك الصديق القديم. أجل ما زالا صديقين؛ ولكن الحياة تغيرت بطبيعة الحال، فلم يعد حسين كرشة يواظب على قضاء سهراته بقهوة أبيه كما كان يفعل في الأيام الخالية، مما دعا إلى ندرة اجتماع الصديقين. ولم يخل الأمر من عاطفة حسد تخامر فؤاد الحلاق كلما ذكر الهوة الواسعة التي تفصل بينهما. بيد أنه في حسده - كما هو في حياته - وديع عاقل لا يتهور ولا يتورط في خطأ، فلم ينل صاحبه بلفظ سوء، وكأنه يغبطه ولا يحسده، وربما قال لنفسه معزيا: «سوف تنتهي الحرب يوما، ويعود حسين إلى الزقاق معدما كما خرج منه.»
وجعل حسين كرشة - بثرثرته المعهودة - يحدث صاحبه عن حياة «الأورنس» والعمال والمرتبات والسرقات وما يحدث بينه وبين الإنجليز من نوادر ومداعبات! وعما يكنه الجنود لشخصه من الحب والإعجاب، قال:
Bog aan la aqoon
قال لي الأونباشي جوليان مرة: إني لا أفترق عن الإنجليز إلا في اللون! وكثيرا ما نصحني بالاقتصاد، ولكن الساعد (وهناك حرك ساعده في زهو) الذي يربح النقود في أثناء الحرب خليق بأن يربح أضعافها في زمان السلم. ومتى تظن الحرب تنتهي؟! لا يغرنك هزيمة الطليان، فأولئك لا حساب لهم في الحرب، ولسوف يحارب هتلر عشرين عاما، والأونباشي جوليان من المعجبين بشجاعتي، ويثق في ثقة عمياء، وبفضل هذه الثقة يسرحني في تجارته الواسعة من تبغ وسجائر وشوك وسكاكين وملاءات أسرة وجوارب وأحذية .. دنيا!
فتمتم عباس الحلو متفكرا: دنيا!
فألقى حسين على صورته في المرآة نظرة متفحصة وقال: أتدري أين أذهب الآن؟ .. إلى حديقة الحيوان. أوتدري مع من؟ .. مع بنت كالقشدة والشهد (وقبل الهواء قبلة ذات وسوسة) وسأنطلق بها هناك إلى أقفاص القرود.
وقهقه عاليا، ثم استدرك: أراهن على أنك تتساءل: لماذا القرود؟ وهذا طبيعي من إنسان مثلك لم ير إلا قرد القرداتي. فاعلم يا حمار أن القرود في حديقة الحيوان تعيش جماعات في أقفاص، وهي كبيرة الشبه بالإنسان في صورته وسوء أدبه، تراها تتغازل وتتحاب في علانية مكشوفة، فإذا سقت الفتاة إلى هنالك تفتحت لي الأبواب!
فتمتم الحلو وهو يكب على عمله: دنيا! - النساء علم واسع لا تحذقه بمجرد شعرك المرجل.
فضحك الحلو ونظر إلى شعره في المرآة، وقال بصوت منكسر: أنا رجل مسكين!
فحدج صورته في المرآة بنظرة حادة وتساءل متهكما: وحميدة؟!
فخفق قلب الحلو بعنف لأنه لم يكن يتوقع سماع هذا الاسم المحبوب، وتمثلت لعينيه صورتها، فتورد وجهه، وغمغم وهو لا يدري: حميدة! - أجل حميدة، بنت أم حميدة!
ولاذ الحلاق بالصمت وقد لاح في وجهه الارتباك، وراح الآخر يقول بحدة: يا لك من رجل خامل معدوم الحياة، عيناك نائمتان، دكانك نائم، حياتك نوم وخمول. أعياني إيقاظك يا ميت. أتحسب أن هذه الحياة خليقة بتحقيق آمالك؟! هيهات، ولن ترزقك مهما سعيت بأكثر من لقمتك.
فلاح التفكير في العينين الهادئتين وقال متكدرا بعض الكدر: الخيرة فيما اختاره الله.
Bog aan la aqoon
فقال الشاب ساخرا: عم كامل، قهوة كرشة، الجوزة، الكومي؟!
فقال الحلو في حيرة: لماذا تهزأ بهذه الحياة؟ - أهي حياة حقا؟ .. هذا الزقاق لا يحوي إلا موتا، وما دمت فيه فلن تحتاج يوما للدفن، عليك رحمة الله.
فسأله الحلو بعد تردد وإن كان يدري ما الآخر قائله: وماذا تريدني أن أفعل؟
فصاح به الفتى: طالما أخبرتك، طالما نصحتك، اخلع رداء هذه الحياة القذرة الحقيرة، أغلق هذا الدكان، اهجر هذا الزقاق، أرح عينيك من جثة عم كامل. وعليك بالجيش الإنجليزي. الجيش الإنجليزي كنز لا يفنى. هو كنز الحسن البصري، ليست هذه الحرب بنقمة كما يقول الجهلاء، ولكنها نعمة النعم، لقد بعثها ربنا لينتشلنا من وهدة الشقاء والعوز. على الرحب والسعة ألف غارة وغارة ما دامت تقذفنا بالذهب. ألم أنصحك بالالتحاق بالجيش؟ وما زلت أقول لك: إن الفرصة سانحة. حقا هزمت إيطاليا ولكن ألمانيا باقية، ووراءها اليابان، وسوف تطول الحرب عشرين عاما. أقول لك للمرة الأخيرة إنه توجد أماكن شاغرة في التل الكبير. سافر!
واستيقظ خيال الحلو، واضطرمت عواطفه حتى وجد صعوبة في امتلاك عنانه وإتقان عمله. لم يكن ذلك نتيجة لكلام حسين الراهن فحسب؛ ولكنه نتيجة لإلحاحه المتواصل كلما قابله. كان بطبعه قنوعا، عزوفا عن الحركة، هيابا لكل جديد، مبغضا للأسفار، ولو ترك وشأنه ما اختار عن المدق بديلا، ولو لبث فيه مدى الحياة لما مله ولا فتر حبه له. ولكن طموحه صحا بعد سبات، وكان كلما دبت فيه الحياة امتزج في نفسه بصورة حميدة، أو لعل حميدة هي التي أيقظته وبعثته بعثا جديدا، فكان طموحه وصورتها المحبوبة شيئا واحدا لا يتجزأ. وعلى رغم هذا كله خاف أن يبوح بذات نفسه، وكأنما أراد أن يفسح لنفسه وقتا للتدبر والتفكير، فقال متظاهرا بالإحجام والإباء: السفر ابن كلب!
فضرب حسين الأرض بقدمه وصاح به: أنت ابن ستين كلبا. السفر خير من زقاق المدق، وخير من عم كامل! سافر وتوكل على الله. أنت لم تولد بعد. ماذا أكلت؟ ماذا شربت؟ ماذا لبست؟ ماذا رأيت؟ صدقني أنك لم تولد بعد.
فقال عباس متأسفا: من المحزن أني لم أولد غنيا. - من المحزن أنك لم تولد بنتا! لو ولدت بنتا لكنت من بنات الدقة القديمة، حياتك في البيت وللبيت، لا سينما ولا حديقة الحيوان، حتى ولا الموسكي الذي ترتاده حميدة في العصاري.
فضاعف ذكر هذا الاسم من ارتباكه، وآلمه أن ينطق به صاحبه مستهينا ساخرا كأنه لفظ تافه لا يثير مكامن القلوب، وقال مدافعا عن فتاته: أختك حميدة فتاة كريمة الأخلاق، ولا يعيبها أن تروح عن نفسها بالمشي في الموسكي. - أجل؛ ولكنها فتاة طموح ما في ذلك من شك، ولن تحظى بها حتى تغير ما بنفسك.
وعاوده قلبه الخفقان العنيف، والتهب وجهه احمرارا، وذابت نفسه وجدا وقلقا وانفعالا. وكان انتهى من حلق رأس الشاب، فراح يمشطه دون أن ينبس بكلمة، وفكره لا يستريح من اضطرابه. ثم نهض حسين كرشة وأعطاه نقوده. وقبل أن يغادر الدكان اكتشف أنه نسي منديله، فرجع مسرعا إلى البيت وجعل يتابعه بعينيه من موقفه، فلاح لعينيه مرحا نشيطا سعيدا، وكأنه يرى فيه هذه الصفات لأول مرة. «لن تحظى بها حتى تغير ما بنفسك.» صدق حسين بلا ريب، إنه يعيش عيشة الكفاف، ولا يكاد يتمخض كدح يومه عن رزق ذلك اليوم، فإذا أراد أن يبني عشه في هذه الأيام العسيرة، فلا معدى عن فتح جديد. إلام يقنع بالأحلام والتمني وهو قابع هامد مغلول اليد والإرادة؟ لماذا لا يجرب حظه ويقتحم سبيله كما يفعل الآخرون؟! «فتاة طموح»، هكذا يقول حسين، وإن كان هو لا يدري شيئا على وجه التحقيق، وربما كان حسين أدرى بها، لأنه - عباس - اعتاد أن يراها بعين الحب الحالمة الخالقة. وإذا كانت فتاته طموحا فلا معدى له عن أن يكون طموحا كذلك. ولعل حسين يحسب غدا - وقد ابتسم لهذا الخاطر - أنه أيقظه من سباته وخلقه خلقا جديدا، ولكنه يعلم دون الناس جميعا أنه لولا ذاك الشخص المحبوب ما استطاع شيء أن ينزعه من قناعته الوديعة المستسلمة. وشعر عباس في هذه اللحظة الفاصلة من حياته بقوة الحب وسلطانه وسحره العجيب. ولعله أحس - إحساسا غامضا لا يرتقي لمرتبة الوعي والفكر - بقدرة الحب على الخلق والتعمير، فموضع الحب من نفوسنا هو مهبط الخلق والإبداع والتجديد. ولذلك خلق الله الإنسان محبا، وترك مهمة تعمير الوجود أمانة في رعاية الحب. وقد تساءل الفتى في وجده وانفعاله: لماذا لا يسافر؟ ألم يعش في هذا الزقاق حوالي ربع قرن من الزمان؟! فماذا أفاده؟ إنه زقاق لا يعدل بين أهله، ولا يجزيهم على قدر حبهم له. وربما ابتسم لمن يتجهمه وتجهم لمن يبتسم له، فهو يقتر عليه الرزق تقتيرا، ويغدقه على السيد سليم غدقا، وعلى كثب منه تتكدس رزم الأوراق المالية حتى ليكاد يشم عرفها الساحر، في حين أن راحته لا تقبض إلا على ثمن الرغيف، فليكن سفر، وليتغيرن وجه الحياة.
جرى فكره هذا الشوط البعيد، ولبث واقفا أمام دكانه ينظر إلى عم كامل وقد مضى يغط غطيطا والمذبة في حجره، ثم سمع وقع أقدام خفيفة آتيا من أعلى الزقاق، فتحول إليه فرأى حسين كرشة عائدا في خطوات واسعة. واستمر به الانفعال والقلق، ونظر إليه كما ينظر المقامر إلى كرة الروليت الدائرة، حتى حاذاه وأوشك أن يفوته، فوضع يده على كتفه وقال له بقوة وعزم: حسين، أريد أن أحدثك في أمر هام.
Bog aan la aqoon
5
العصر!
عاد الزقاق رويدا رويدا إلى عالم الظلال: والتفت حميدة في ملاءتها، ومضت تستمع إلى دقات شبشبها على السلم في طريقها إلى الخارج. وقطعت الزقاق في عناية بمشيتها وهيئتها لأنها تعلم أن أعينا أربعا تتبعها متفحصة ثاقبة، عيني السيد سليم علوان صاحب الوكالة، وعيني عباس الحلو الحلاق. ولم تكن تفاهة ثيابها لتغيب عنها؛ فستان من الدمور وملاءة قديمة باهتة، وشبشب رق نعلاه، بيد أنها تلف الملاءة لفة تشي بحسن قوامها الرشيق، وتصور عجيزتها الملمومة أحسن تصوير، وتبرز ثدييها الكاعبين، وتكشف عن نصف ساقيها المدملجتين، ثم تنحسر في أعلاها عن مفرق شعرها الأسود ووجهها البرنزي الفاتن القسمات، وكانت تتعمد ألا تلوي على شيء فتنحدر من الصنادقية إلى الغورية، ثم إلى السكة الجديدة فالموسكي .. حتى إذا غابت عن الأعين الثاقبة علت شفتيها ابتسامة، وراحت تنهب الطريق الزاخر العامر بعينيها الجميلتين. هي فتاة مقطوعة النسب، معدمة اليد، ولكنها لم تفقد قط روح الثقة والاطمئنان. ربما كان لحسنها الملحوظ الفضل في بث هذه الروح القوية في طواياها، ولكن حسنها لم يكن صاحب الفضل وحده، كانت بطبعها قوية، لا يخذلها الشعور بالقوة لحظة من حياتها. وكانت عيناها الجميلتان تنطقان أحيانا بهذا الشعور نطقا يذهب بجمالها في رأي البعض، ويضاعفه في رأي البعض الآخر. فلم تفتأ أسيرة لإحساس عنيف يتلهف على الغلبة والقهر، يتبدى في حرصها على فتنة الرجال، كما يتبدى في محاولتها التحكم في أمها، ويتعرى في أسوأ مظاهره في ما يشتجر بينها وبين نسوة الزقاق من شغب وسباب وعراك، حتى أبغضنها جميعا، ورمينها بكل سوء. وربما كان من أغرب ما رميت به أنها تبغض الأطفال، وأنها بالتالي متوحشة محرومة من نعمة الأنوثة، وهذا ما جعل امرأة المعلم كرشة القهوجي - أمها بالرضاعة - تتمنى على الله أن تراها أما ترضع الأطفال في كنف زوج جبار يبيتها بالضرب ويصبحها بالضرب! مضت في سبيلها مستمتعة بنزهتها اليومية، مرددة الطرف في معارض المتاجر المتعاقبة. كانت تهوى مشاهدة المعروضات النفيسة من الثياب والآنية، فتثير في نفسها الطموح المتلهفة على القوة والسيطرة أحلاما ساحرة. ولذلك تركزت عبادتها للقوة في حب المال على اعتبار أنه المفتاح السحري للدنيا، المسخر لجميع قواها المذخورة. فجل ما كانت تعرفه عن نفسها أنها تحلم بالمال ؛ المال الذي يأتي بالثياب وبكل ما تشتهيه الأنفس. وعسى أن تتساءل: أيمكن يا ترى أن تبلغ يوما ما تتمنى؟! لم تكن الحقائق لتغيب عنها، ومع ذلك فهي لا تنسى قصة فتاة من بنات الصنادقية، كانت فقيرة في الأصل مثلها، ثم أسعفها الحظ بزوج ثري من المقاولين، فانتشلها من وهدتها، ونقلها من حال إلى حال، فماذا يمنع القصة أن تتكرر، والحظ أن يبتسم مرتين في هذا الحي؟ ليست دون صاحبتها جمالا، والحظ الذي لعب دوره في حياة الأخرى يستطيع أن يعيده مرات ومرات دون عناء أو خسارة. بيد أن هذا الطموح كان يضطرب في دنيا ضيقة تنتهي عند حدود ميدان الملكة فريدة، لا يدري عما وراءها شيئا، ولا عما تحويه هذه الدنيا الواسعة من أناس وحظوظ، ولا كم منهم يلقى خيرا وسعدا، وكم منهم يتردد مثلها حائرا لا يعلم لنفسه مرسى. فعلى كثب من هذه المنطقة رأت صويحباتها من عاملات المشغل قادمات، فهرعت نحوهن وقد تخلصت من جميع أفكارها، وابتسمت أساريرها، وسرعان ما سلمن وأخذن في تافه الأحاديث، وهي تتفحص وجوههن وثيابهن بأعين ناقدة، ذاهبة نفسها حسرات على ما يتمتعن به من حرية وجاه. أولئك فتيات صغيرات من أهل الدراسة، خرجن بحكم ظروفهن الخاصة البائسة وظروف الحرب عامة عن تقاليدهن الموروثة، واشتغلن بالمحال العامة مقتديات باليهوديات. ذهبن إليها مكدودات هزيلات فقيرات، وسرعان ما أدركهن تبدل وتغير في ردح قصير من الزمن؛ شبعن بعد جوع، وكسين بعد عري، وامتلأن بعد هزال، ومضين على أثر اليهوديات في العناية بالمظهر وتكلف الرشاقة، ومنهن من يرطن بكلمات، ولا يتورعن عن تأبط الأذرع والتخبط في الشوارع الغرامية. تعلمن شيئا واقتحمن الحياة. أما هي فقد فوت عليها عمرها وجهلها ما يمرحن فيه من فرص. وها هي تتمسح بهن والحسرة ملء حناياها، غابطة حياتهن المرهفة وثيابهن المزركشة وجيوبهن العامرة. كانت تضاحكهن في صفاء كاذب والحسد يأكل قلبها، ثم لا تتردد عن نهشهن - ولو على سبيل الدعابة الساخرة - لأقل هفوة، فهذه فستانها قصير معدوم الحياء، وهذه ذوقها سقيم، وتلك عيناها تزوغان من التحديق في الرجال، والرابعة كأنها نسيت أيام كان القمل يزحف على رقبتها كالنمل؟ كان هذا اللقاء بلا ريب من بواعث تمردها الدائم، ولكنه كان كذلك أكبر تسلية لها في يومها الطويل المفعم تبرما وعراكا، ولذلك قالت يوما لأمها وهي تتنهد: حياة اليهوديات هي الحياة حقا!
فانزعجت أمها وقالت: إنك من نبع أبالسة، ودمي بريء منك.
فقالت الفتاة إمعانا في إغاظتها: ألا يجوز أن أكون من صلب باشوات ولو عن سبيل الحرام؟!
فهزت المرأة رأسها وقالت ساخرة: رحم الله أباك بائع الدوم بمرجوش!
سارت وسط صويحباتها تياهة بجمالها، مدرعة بلسانها الطويل، يلذها أن الأعين تمر بهن مر الكرام وتستقر عليها دونهن. ولما انتصف الموسكي أو كاد لاحت منها التفاتة إلى الطريق فرأت عباس الحلو يسير متأخرا عنهن قليلا وعيناه تلحظانها بتلك النظرة المألوفة، وتساءلت عما دعاه إلى ترك دكانه في هذه الساعة على غير عادة: هل تبعها عمدا؟ ألم يعد يقنع برسائل النظر؟ كان على فقره متأنقا كأكثرية أهل فنه، فلم يضايقها ظهوره، وقالت لنفسها: إن أية واحدة من صاحباتها لا تطمع في زوج خير منه، وكانت تجد نحوه شعورا غريبا معقدا، فهو من ناحية الشاب الوحيد في الزقاق الذي يصلح لها زوجا، وهي من ناحية أخرى تحلم بزوج على مثال المقاول الغني الذي حظيت به جارتها في الصنادقية، فهي لا تحبه ولا تتمناه، وفي الوقت نفسه لا تقطعه، ولعلها تسرها نطراته المشوقة! وكان من عادتها أن توصل الفتيات حتى نهاية الدراسة ثم تعود بمفردها إلى الزقاق، فسارت بينهن وهي تسترق النظر. فلم تعد تشك في أنه يتبعها عامدا، وأنه ينوي أن يخرج عن صمته أخيرا. ولم تخطئ ظنونها، فما كادت تودع آخر الفتيات وتدور على عقبيها حتى انحدر نحوها من الطوار، في خطوات مضطربة ووجهه ينطق بالانفعال، وقاربها حتى حاذاها، ثم قال بصوت متهدج: مساء الخير يا حميدة.
فالتفتت نحوه كالمنزعجة وكأنها بوغتت بظهوره مباغتة، ثم قطبت وأوسعت خطاها دون أن تنبس بكلمة، فتورد وجهه؛ ولكنه عاد يقول بصوت ينم عن العتاب: مساء الخير يا حميدة.
وخافت إن هي لازمت الصمت مع هذا الخطو الحثيث أن ينتهيا إلى الميدان المأهول قبل أن يقول ما يريد، وكانت راغبة في سماعه، فقالت في لهجة تنطق بالاستياء: يا للعار! جار وتفعل كالغريب!
فقال عباس بلهفة: بل جار حقا، ولا أفعل كالغريب، أحرام على الجار أن يتكلم؟
Bog aan la aqoon
فقالت عابسة: نعم، الجار يحمي جارته؛ لا أن يهاجمها!
فقال الشاب بصدق حار: أنا جار أعلم واجبات الجار، ولم يخطر ببالي قط أن أهاجمك - لا سمح الله - بيد أني أريد أن أحدثك، ولا عيب أن يحدث الجار جارته! - كيف تقول هذا؟! أليس من العيب أن تتعرض لي في الطريق، وتعرضني للفضيحة؟
فهاله قولها وقال بأسف: الفضيحة؟! .. معاذ الله يا حميدة. صدري طاهر، ولا يكن لك إلا الطهر وحياة الحسين، وستعلمين أن كل شيء سينتهي بما أمر به الله، لا بالفضيحة، فأصغي إلي قليلا، أريد أن أحدثك عن أمر هام، ميلي بنا إلى شارع الأزهر بعيدا عن أعين الذين يعرفوننا.
فقالت باستياء متصنع: بعيدا عن أعين الناس؟! ما شاء الله! .. دمت من جار طيب حقا!
وكان قد تشجع بمنازعتها إياه الحديث، فقال بحرارة: ما ذنب الجار؟ .. أيموت قبل أن يبوح بذات نفسه؟!
فقالت بسخرية: ما أطهر كلامك!
فقال عباس بلهفة وشت بإشفاقه من اقتراب الميدان المأهول: طاهر النية وسيدنا الحسين، لا تسرعي هكذا يا حميدة، ميلي بنا إلى شارع الأزهر، أريد أن أقول لك كلمة هامة، ينبغي أن تصغي إلي، أنت تعلمين ولا شك بما أريد أن أقوله، ألا تعلمين؟ ألا تشعرين؟ قلب المؤمن دليله!
فقالت كالغاضبة: لقد جاوزت حدك، كلا ... كلا ... دعني. - حميدة ... أنا أريد أن ... أنا أريدك ... - يا للعار! دعني وإلا فضحتني أمام الخلق.
وكانا قد بلغا ميدان الحسين، فمرقت من جانبه إلى الطوار الأيسر وحثت خطاها على عجل، ثم انعطفت إلى الغورية وهي تبتسم ابتسامة خفيفة. كانت تعلم ما يريد قوله كما قال، ولم تنس أنه الفتى الوحيد الصالح لها في الزقاق ، وقد قرأت في عينيه البارزتين آي الحب كما قرأتها مرارا من نافذتها في الماضي القريب، ولكن هل حرك ذلك جميعه قلبها الجحود؟ أما حالته المالية التي تعلم عنها الشيء الكثير فلا يمكن أن تحرك فيها ساكنا، وأما شخصه فوديع تنم عيناه عن القناعة والخضوع، مما يجعله خليقا بأن يرتاح إليه فؤادها المغرم بالسيطرة، بيد أنها وجدت نحوه - رغم ذلك - نفورا لم تدر له سببا. ماذا تريد إذا؟ ومن يرضيها إذا لم يرضها هذا الفتى الوديع الطيب؟! لم تهتد لجواب بطبيعة الحال، وقد عزت نفورها منه إلى فقره! والظاهر أن حبها السيطرة كان تابعا لحبها العراك لا العكس، فلم تهش للمسالمة، ولم تفرح بظفر هين سهل المنال. وكان قلبها ما يزال في غفوته لم يستبن بعد رغائبه، فملأها شعورها المبهم الغامض حيرة وقلقا.
ونكص عباس الحلو عن ملاحقتها خيفة الأعين، فتراجع مفعم الفؤاد خيبة وحسرة، ولكنه كان أبعد ما يكون عن اليأس. قال لنفسه وهو يسير متمهلا غافلا عما حوله: إنها بادلته الكلام طويلا، ولو قصدت صده ونبذه ما منعها ولا أعيتها الحيلة، فهي لا تكرهه، ولعلها تتدلل شأن الفتيات جميعا، ولعله الحياء الذي جعلها تقطع عليه سبيل التودد بالفرار. فكان أبعد الناس عن اليأس، بل راح يستسلم لمغازلة الأمل وتوثب للكرة التالية. وقد سكر قلبه برحيق نشوة ساحرة لم يكن له عهد بمثلها من قبل. كان محبا صادقا ملتهب العاطفة، وكان يشعر حيال نظرتها النافذة الجميلة بخضوع كلي، ولذة لا حد لها، وحب لا يبيد. أجل كان كأمثاله من الفتيان مولعا بالنساء عامة؛ ولكنه كان كالحمام يحلق في السماء ويطوف بأطرافها ثم يقع في النهاية على برجه ملبيا صفير صاحبه، فهي دون النساء جميعا أمله المنشود. أجل لم تعد مخاطرته خائبة، وتفتحت له أكمام الأحلام عن زهر الآمال؛ فعاد منتشيا مسرورا بحبه وبشبابه. ولما عرج إلى الصنادقية صادف الشيخ درويش قادما من ناحية الحسين، فالتقيا عند مطلع الزقاق، وأقبل على الشيخ يريد أن يصافحه تبركا، ولكن الشيخ أشار نحوه بسبابته محذرا، وحملق في وجهه بعينيه الذابلتين وراء نظارته الذهبية وقال: لا تمش بلا طربوش! احذر أن تعري رأسك في مثل هذا الجو، في مثل هذه الدنيا، فمخ الفتى يتبخر ويطير، وهذا أمر معروف في المأساة ومعناه بالإنجليزية
Bog aan la aqoon
Tragedy
وتهجيتها:
T r a g e d y .
6
وكان المعلم كرشة قد شغل بأمر هام، ومن النادر أن ينصرم عام من حياته دون أن يشغل نفسه بمثل هذا الأمر؛ على ما يسببه له من الكدر والتنغيص، بيد أنه كان رجلا مسلوب الإرادة، لم يترك له الحشيش من إرادته نفعا. ومع ذلك كان، على خلاف الأكثرية من تجار هذا الصنف، في حكم الفقراء، لا لأن تجارته غير نافقة، ولكن لأنه كان مبذرا - في غير بيته - يبعثر ما يربحه، وينثر المال بلا حساب، جاريا وراء شهواته، خصوصا هذا الداء الوبيل.
وعندما آذنت الشمس للمغيب غادر القهوة دون أن ينبئ سنقر عن طيته، مرتديا عباءته السوداء، متوكئا على عصاه العجراء، ينقل على مهل خطواته الثقيلة! ولا تكاد تدل عيناه المظلمتان المختفيتان تقريبا وراء جفنيه الغليظين على أنه يحسن رؤية طريقه، وكان قلبه يخفق! والقلب يخفق ولو شارف صاحبه الخمسين، ومن عجب أن المعلم كرشة قد عاش عمره في أحضان الحياة الشاذة، حتى خال لطول تمرغه في ترابها أنها الحياة الطبيعية. هو تاجر مخدرات اعتاد العمل تحت جنح الظلام، وهو طريد الحياة الطبيعية وفريسة الشذوذ، واستسلامه لشهواته لا حد له ولا ندم عليه ولا توبة تنتظر عنه. بل إنه ليظلم الحكومة في تعقبها لأمثاله، ويلعن الناس الذين جعلوا من شهوته الأخرى مثارا للازدراء والاحتقار، فيقول عن الحكومة: «إنها تحلل الخمر التي حرمها الله، وتحرم الحشيش الذي أباحه! وترعى الحانات الناشرة للسموم، في حين تكبس «الغرز» وهي طب النفوس والعقول.» وربما هز رأسه آسفا وقال: «ما له الحشيش!» «راحة للعقل وتحلية للحياة، وفوق هذا وذاك فهو مدر للنسل!» وأما شهوته الأخرى فيقول بقحته المعهودة: «لكم دينكم ولي دين!» ولكن إيلافه شهواته لا يمنع من أن يخفق قلبه كل مطلع هوى جديد. وقد سار متمهلا في الغورية ومستسلما لخواطره، يتساءل والأمل ملء فؤاده: «ماذا يا ترى وراءك أيها المساء؟» وعلى رغم انهماكه في خواطره كان يحس بالدكاكين على الصفين إحساسا غامضا، ويرد بين الفينة والفينة تحيات بعض أصحابها من معارفه. وكان يسيء الظن بهذه التحيات وأمثالها، ولا يدري إن كانت لمحض السلام أم أن وراءها من الغمز واللمز. فالناس لا يريحون ولا يستريحون، ويتلقفون المثالب بأفواه نهمة جشعة، ولطالما قالوا فيه وأعادوا، فماذا أفادهم التشهير؟ لا شيء! وكأنه ولع بتحديهم فراح يجهر بما كان يسره. وهكذا مضى في سبيله حتى اقترب من آخر دكان على يساره فيما يلي الأزهر، فاشتد خفقان قلبه وتناسى تحيات الناس التي أثارت سوء ظنه، وانبعث من عينيه المنطفئتين نور خافت شرير، وراح يدنو منه بفيه الفاغر وشفته المتدلية، وجاز عتبته. دكان صغير يجلس في صدره شيخ عجوز وراء مكتب صغير، ويستند إلى أحد رفوفه المكدسة بالبضائع، بائع متسربل بالشباب اليافع، ما إن رأى القادم حتى استقام ظهره، وتلقاه بابتسامة البائع اللبق، وارتفع الجفنان الثقيلان لأول مرة، واستقرت العينان على الشاب، ثم حيا برقة، ورد الشاب التحية في لطف، وقد أدرك لأول وهلة أنه يرى هذا الرجل للمرة الثالثة في ثلاثة أيام متتابعات، وقد تساءل: لماذا لا يبتاع ما يريد مرة واحدة؟!
وقال المعلم: أرني ما عندك من جوارب.
فأحضر الشاب أنواعا منها وبسطها على «طاولة» المحل، وأخذ المعلم يتفحصها وهو يخالس النظر إلى وجه الشاب، والشاب لا يخفى أمره عليه، وقد دارى ابتسامة كادت ترتسم على ثغره. وتعمد أن يطيل الفحص والتقصي، ثم قال للشاب بصوت منخفض: لا تؤاخذني يا بني فبصري ضعيف، هلا اخترت لي لونا مناسبا بذوقك الجميل!
وسكت لحظات يتفرس في وجهه، ثم أردف وهو يرسم ابتسامة على شفته المتدلية: كوجهك الجميل.
فأراه الشاب الجميل نوعا متجاهلا إطراءه، فاستدرك الرجل قائلا: لف لي ستة.
Bog aan la aqoon