واكفهر وجهها، وتناهى بها الجزع، وقالت بلهجة تشي بالملل: هذه حياتي، هذه النهاية التي لا مهرب منها، نحن الآن غريبان، وكلانا ينكر صاحبه، لم يعد بوسعي الرجوع، ولن تستطيع مهما قلت أن تغير من الواقع شيئا، وحذار أن تغلظ لي القول، فلست على حال أملك معها السماحة أو العفو، وإني لأقر بعجزي حيال حظي ومصيري، ولكني لا أحتمل أن يضاعف لي إنسان الكرب بالغضب والزجر. انسني، واحتقرني كما تشاء، واتركني بسلام.
ما هذه بفتاته! أين منها حميدة التي أحبها وأحبته؟ يا عجبا؟ ألم تحبه حقا؟ ألم تلصق شفتيها بشفتيه على بسطة السلم؟ ألم تدع له يوم الوداع وتعده باستشفاع الحسين لإجابة الدعاء؟ .. فمن تكون هذه الفتاة؟ ألا تستشعر ندما؟ ألم تلنها إثارة من حنان قديم؟ وأوشك أن يغضب مرة أخرى لولا إشفاقه من غضبها، فتنهد تنهد المغيظ المقهور وقال: إنك تحيرينني، وكلما أصغيت إليك تضاعفت حيرتي، لقد عدت بالأمس من التل الكبير فدهمني الخبر الأسود على غرة، أتعلمين ماذا دعاني لهذه العودة؟! .. (وأبرز علبة القلادة وأراها إياها) .. عدت بهذه هدية لك، وكان في نيتي أن أعقد عليك قبل أن أرجع إلى البلد.
وألقت على العلبة نظرة صامتة. وفي أثناء ذلك وقعت عيناه على الهلال الماسي والقرط اللؤلؤي فتراجعت يده بالعلبة إلى جيبه، وتناهى به الضيق فسألها بحدة: ألا تأسفين على هذه النهاية؟!
ولمعت عيناها بخاطر غامض بث في نفسها يقظة محمومة، فقالت بلهجة حزن مصطنعة: أنت لا تدري كم أني شقية!
فاتسعت عيناه في دهشة وريبة، وقال بألم بالغ: يا للشقاء يا حميدة! .. لماذا أصخت لنداء الشيطان؟ .. كيف هانت عليك حياتك الشريفة؟ .. كيف نبذت الحياة الطيبة والأمل المرتقب من أجل (وهنا تحشرج صوته) .. مجرم آثم وشيطان رجيم؟! .. هذه جريمة لا تغتفر.
وكانت حمى ذلك الخاطر لا تزال تلهم أفكارها، فقالت بلهجتها الأسيفة الجديدة: إني أؤدي ثمنها من لحمي ودمي.
وازدادت دهشته، وخالطها ارتياح غامض سرورا بالشقاء المزعوم الذي اعترفت به، ولكنها لم تنكسر عن حدتها اعتباطا، كانت أفكارها تتوارد بسرعة جنونية في إلهام شيطاني، خطر لها أن تحرضه على الرجل الذي هرس قلبها بقسوة وسخرية، وأملت أن تجعله أداة انتقامها وهي بمأمن من عوادي الشقاء، ورقت نظرة عينيها وهي تقول بصوت ضعيف: لست إلا شقية يا عباس، لا تؤاخذني على سوء قولي فقد أفقدني الشقاء وعيي. إنكم جميعا ترونني عاهرة فاجرة. والحق أني شقية بائسة، خدعني الشيطان الرجيم كما دعوته بحق، لا أدري كيف أذعنت إليه، ومع ذلك فلست أنتحل لنفسي عذرا، ولا أطمع أن أسألك العفو، فإني أعلم أني مذنبة، وها أنا ذا أدفع ثمن جريرتي النكراء. اعف عن غضبي الذي أهاجته كلماتك العادلة، وأبغضني واحتقرني ما شاءت لك نفسك الطاهرة الكريمة، واشمت بي فلست في حاضري إلا ألعوبة رخيصة في يد من لا يرحم، يطلقني في الطرق ويستغل شقائي بعد أن استلبني أعز ما أملك. إني أمقته، أمقته بكل ما في من شقاء ومهانة هما من غرسه، ولكن هيهات أن أجد لي منه مهربا!
أذهله حديثها الشاكي عن نفسه، وراعته نظرة الشقاء تغشى عينيها، فنسي المرأة المتنمرة التي كادت تفتك به منذ برهة قصيرة، وأهابت به رجولته أن يغضب، فزمجر صائحا: يا للشقاء يا حميدة! إنك شقية، وإني شقي، كلانا شقي بفعل هذا المجرم. أجل، لا أستطيع أن أنسى أنك أخطأت خطأ أثيما، وأن هذا الخطأ يحول بيننا إلى الأبد، ولكن بينا يشقى كلانا بهذا الخطأ، إذا بالمجرم الأول مطمئن سعيد كأنما يسعد بشقائنا، فلا كانت الحياة إذا أنا لم أحطم رأسه!
وشعرت بالارتياح فنكست بصرها قبل أن يفضحها، وكانت سرعة انزلاقه إلى شباكها فوق مطمعها، وارتاحت بصفة خاصة إلى قوله: «هذا الخطأ يحول بيننا إلى الأبد.» فأمن قلبها أن يجرجره الانفعال إلى حد العفو عنها، والسعي لاستردادها، وما كانت تحلم بهذا كله. أما الحلو فاستدرك يقول عابسا راغبا: لا ارتاح لي بال قبل أن أحطم رأسه وأهشم عظمه! أجل، لا أستطيع أن أنسى أنك فررت معه، ولا أنهم رأوك تسيرين في صحبته، فلا أمل من أن نجتمع مرة أخرى، لقد فقدت حميدة التي أحببتها إلى الأبد، ولكن يجب أن يشقى المجرم بما أشقى كلينا، خبريني أين أجده؟
فقالت وعقلها في تفكيره أسرع من لسانها في نطقه: لا سبيل لك عليه اليوم، ولكن تعال يوم الأحد ظهرا إذا شئت فتجده في الحانة عند أول هذه العطفة، ولن تجد مصريا سواه فيها، فإذا التبس عليك الأمر أشرت إليه بعيني .. ولكن ماذا تنوي أن تفعل به؟
Bog aan la aqoon