وأطرق عزت في حزن وإكبار: أي والله، ترك رجلا. أنا تحت أمرك يا بني، افعل ما تراه. - تجد لي وظيفة. - غدا تتسلم عملك. - شكرا يا عمي. •••
لم يحس يسري ولم تحس نادية من الفاجعة إلا ظلالا ضئيلة، فقد علما أنهما لن يريا أباهما من بعد، ورأيا الحزن القاتل يخيم على البيت الكبير. ثم رأيا البيت الكبير ينكمش إلى شقة صغيرة. ثم رأيا الخدم يتضاءلون ويختفون الواحد منهم بعد الآخر، فاختفى سائق السيارة مع السيارة نفسها، وتناقص الخدم والخادمات فلم يبق إلا الحاجة زينب التي تقوم على تربيتهما والتي كانت حاضنة لأمهما وهي طفلة، وبشير أغا الذي كان عبدا ثم نال حريته وأبى نيلها وظل مع جدهما ثم مع أبيهما، ثم ها هو يظل معهم بعد أبيهم، فهو لا يعرف بيتا غير بيتهم، وقد كان في أخريات أيام همام لا يعمل شيئا، ولكنهما يريانه في هذه الأيام وفي هذه الشقة الصغيرة يقوم بكل عمل يمكن أن يقوم به. وشيئا آخر أحساه، أصبح خيري فجأة ذا أهمية لم تكن له في البيت الكبير، ورأياه يصدر أمرا عجبا له أول الأمر ثم ما لبث أن أصبح طبيعيا على الأيام، فقد أصبحت الحاجة زينب في الشقة الصغيرة طباخة وتركت أمر رعايتهما، وأصبح كل منهما يقوم بشأن نفسه ما وسعه الجهد.
رأيا هذا وأحساه، ولكنه لم يصل إلى أعماق نفسيهما، فالوفاء صغير عند الأطفال والنسيان كبير. عجبا ولعلهما ضاقا بالبيت بعض الشيء، ولكن ما أسرع ما وجد يسري أصحابا بدل الصحاب وما أسرع ما شغلته المدرسة التي لم يصبها في هذا الانقلاب الكبير تغيير، فهي هي مدرسة المنيرة لا تزال.
وأما نادية فقد بدأت تذهب للمدرسة، وكان هذا تغييرا جديدا على حياتها، لم تدر إن كانت له صلة باختفاء أبيها أو بالنقلة من بيت إلى بيت، أم لا صلة هناك.
واستطاع عزت أن يستقدم للشقة الجديدة أثاثا من البيت الكبير، وقد وجد من الدائن ترحيبا، فقد أكبر هذا الدائن خيري الذي قدم كل ما يملك سدادا للدين ولم يهرب شيئا. وأراد عزت أن يأخذ المكتبة إلى الشقة، ولكن خيري أبى، فقد أصبح يكره هذه المكتبة التي لم تشهد في بيتهم إلا مصرع أبيه، ولكنه أخذ الكتب جميعا وجعل منها هوايته.
واستقر الأثاث الفخم في الشقة الصغيرة يشهد ما يشهده أصحابه من فقر بعد غنى، وعسر بعد يسر، وضيق بعد سعة. لم يفكر خيري ولم تفكر أمه أن يبيعا الأثاث ليستبدلا به رخيصا غيره، فقد كان الأثاث يحمل ماضيا للأسرة، ومهما تكن في هذا الماضي من مرارة إلا أنه قطعة منهم، تحن لها النفس، وإن أمض النفس أن تذكره.
استقرت الحياة بالأسرة، ومهما يكن الحال الذي استقرت عليه إلا أنه استقرار خير من الضياع. وجاهدت الأم نفسها وأعانها كبرها، فاستطاعت أن تظل دائما الست الكبيرة الهادئة المطمئنة، إن حزنت فلزوجها، وإن بكت فعلى فقيدها، ولم تذكر عزا مضى ولا غنى زال ولا رفاهية ذوت، وإنما تذكر زوجا كريما ورجلا رجلا، وركنا ظل إلى أن مات ركنا. وفي هذه المعاني عاش خيري، واستطاب أن يرى نفسه عماد بيت، والتذ بشعوره بأنه يجاهد من أجل أمه أن تعيش كريمة وأخيه أن يتم تعليمه وأخته أن تتثقف حتى يرضيهم ربهم بمن يضمها إلى بيته فقيرة ذات أصل وثقافة وجمال.
وكانت أسرة عزت تكثر من زيارتها للشقة الصغيرة. وكانت سميرة هانم ترد الزيارات في ثقة بالنفس وهدوء، فقد أكرمها الله بولد أبقى على كرامتها أن تهان وعلى يدها أن تمد. فهي إن شكرت عزت، فإنما تشكر الوفاء لم يشبه عطاء، والرعاية لم تخالطها الصدقة، فهي بعد مثلها مثل إجلال لا تقل عنها شيئا، فأمر غناها وفقرها لا شأن له بصلاتها بقريباتها وصديقاتها ما دامت لا تحتاج إليهن في فقرها كما كانت لا تحتاج إليهن في غناها.
لا شأن لواحدة منهن أنها كانت تأتي إليهم بالسيارة، وأصبحت تأتي بعربة أجرة يجرها حصان أو اثنان، ولا شأن لواحدة منهن أنها كانت ترجع إلى البيت الكبير فأصبحت ترجع إلى الشقة الصغيرة، ومن تشأ منهن أن تزورها فبيتها بيتها، كبيرا كان أو صغيرا.
وبهذا التفكير الواثق المطمئن كانت تزور من يزورها من قريباتها وصديقاتها، شيء واحد جد على علاقتها بالناس، أقلعت عن زيارتها للفقيرات من قريباتها، فقد أخجلها أن تذهب إليهن دون أن تحمل ما تعودت أن تحمله لهن مما يعين على الحياة. ورفضت أيضا أن تبدأ صديقة أو قريبة من مثيلاتها لم تبدأها بالزيارة، فقد رأت إحجامهن ترفعا منهن لا يقابله عندها إلا ترفع مثله. •••
Bog aan la aqoon