ويستدير عزت إلى خيري ليقول له: أسرع باستدعاء الدكتور.
وينظر همام إلى خيري، ويجد أخيرا وسيلة أخرى ليفهم بها عزت ما يريد، فهو يشير إلى خيري ثم يشير إلى عزت ويكرر الإشارة مرات ومرات لا يقف عنها حتى يقول عزت: من عيني يا همام، من عيني يا أخي، لا تخش شيئا، أنت بخير. وتراح أنفاس همام اللاهثة ويطمئن أنه أبلغ أخاه الصديق ما يريد، ويستسلم لمرضه في إذعان مطمئن، ويهدأ لسانه إلى مستقر، لقد أدى الأمانة، فليحملها من أودعها يديه، وإنها لأيد أمينة، إنها أيدي عزت، إنه ابن عمه، أخوه، صديقه.
الفصل الثالث عشر
انفجار شريان في المخ، انفجار الحياة. شريان، صغير أو كبير لا يهم، لقد انفجر وكانت الحياة معلقة بهذه الخيوط الرفيعة التي تجري فيها الدماء، ولم تحتمل الخيوط الحياة، فانفجرت فمات. مات همام كأي إنسان يموت، لم يرحم الموت أنه أراد أن ينقذ صديقه، ولم ترحم الحياة أنه اندفع إلى غمار المخاطرة من أجل الصداقة. لا، لم يراع الموت ولم تعطف الحياة، شأنهما دائما يغبيان المروءة ولا يحفلان بالرجولة، سيان عندهما شقي مات وهو يتسلق بيتا ليسرق، أو رجل رمى بنفسه إلى البحر لينقذ واحدا من أبناء الحياة. الموت يستقبل كلا الاثنين وتصدف الحياة عن كليهما.
حلت الكارثة بالبيت الكبير، وكان أكبر الرجال فيه هو ذلك الشاب الذي يريد أن يستقبل الحياة، فأبت الحياة أن تستقبله. ونزلت النازلة بأمه سميرة هانم، فهي من الخطب في هلع آخذ حزين مر، وهي من النازلة في يقظة كاملة تريد أن تواجه هذه الجديدات التي تطالعها بها حياة جديدة من الفقر وهي لم تعود الفقر، ومن العسر قد كانت للآخرين يسرا.
وتقدم عزت يجاهد بأقصى جهاده أن يبقي عليهم البيت، ولكن خيري أبى في عزم واثق. - ماذا نفعل بالبيت يا عمي؟ سيكون ثمنه دينا علينا، وأولى بنا أن نواجه الموقف بغير حرص على المظاهر.
وقالت الأم: ومن يخدم هذا البيت الكبير؟ وأين لنا بما يكفي خدمه والعيش فيه. بل أينا لنا بالقلوب التي تستطيع العيش تحت سقف كان يظل كبيرنا وكنا ننعم في بره؟
وقال خيري: لا تخش علينا من كلام الناس يا عمي. فقد عاش والدنا غنيا ومات فقيرا، ولكنا نشرف بفقره ونعتز به أكثر من اعتزازنا بغناه. لقد أراد أن ينقذ صاحبه فأصابتهما الفاجعة.
وقال عزت: يرحمهما الله، مات كلاهما من الصدمة، على كل حال يا خيري أنا معجب بهذا الكلام الذي أسمعه منك، وكل رجائي أن تعوض أنت ما فاتكم من غنى وتلتفت إلى المذاكرة. - سأعمل يا عمي. - تعمل؟! فيم؟ - سأتوظف. - بالبكالوريا؟ - نعم. - وتترك التعليم العالي؟ - سأحاول أن أذاكر من الخارج. - يا ابني الحالة لا تستدعي هذا. - كيف؟ - أمك عندها العشرون فدانا التي كتبها لها أبوك. - وماذا تفعل العشرون فدانا في هذه الأزمة يا عمي؟ أنت أدرى، قنطار القطن بثلاثة جنيهات. - إنها تكفي ولا شك، سأشرف عليها أنا. - بل لا يا عمي، أعفني. - ماذا؟ - لا نستطيع. - ماذا؟ - أكثر الله خيرك وأبقاك، أما هذا فلا نقبله. - ما هو هذا الذي لا تقبله؟ - لا نقبل الصدقة يا عمي عزت. - صدقة؟! - نعم صدقة، صدقة كريمة تحاول كل جهدك أن تغلفها بخلقك السامي، ولكن لا نستطيع. - يا بني، لا صدقة هناك. - نحن نعلم حبك لأبي، ونعلم أنه أودعنا أمانة في عنقك، وكل أملنا أن ترعانا بإشرافك، أما مالك فحرام علينا. - يا خيري لا تقل هذا. - إنك لا ترضى أن تقبل الصدقة يا عمي عزت، لم يصل بنا الحال إلى هذا. - وأين الصدقة في إشرافي على أرضكم؟ - الصدقة في أن تقدم لنا من أموالك ما نحتاج وتدعي أن ما تقدمه إلينا إنما هو من نتاج الأرض، وأنا لا أقبل هذا، وأمي أيضا لا تقبله.
وجرت دمعات على خد الأم الوالهة وهي تقول: يرحمك الله يا همام، تركت والله رجلا وإن كان صغيرا.
Bog aan la aqoon