الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
Bog aan la aqoon
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
Bog aan la aqoon
ثم تشرق الشمس
ثم تشرق الشمس
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
صعد همام بك الأزميرلي إلى الطابق الأعلى من منزله، وابتسامة فرحانة تشيع في وجهه كله، وكانت زوجته سميرة هانم تجلس في البهو الذي تعودت أن تنتظره فيه. وما لبثت ابتسامة زوجها أن ترقرقت على وجهها، وأحس الزوجان الكبيران فرحة مشرقة بينهما؛ فقد عاشت سميرة هانم مع زوجها السنوات الطوال لم تلقه يوما حين عودته إلا بهذه الإشراقة، وعاش هو معها يطيب نفسا بلقائها وبكل شيء تقوم به، فلم يكن غريبا إذن أن تطفر السعادة بينهما عند اللقاء. ولكن همام بك كان يحمل لزوجته في يومه هذا هدية أراد أن يشفعها بهذه الابتسامة التي صحبته في طريقه إلى الطابق الأعلى من منزله.
جلس الزوج إلى كرسيه وأخرج من جيبه ورقة مطوية وأعطاها زوجته، ولم يزد على قوله: مبروك يا ستي.
وأخذت الزوجة الورقة وقد شاع في وجهها فرح مستطلع، وفتحت الورقة وهي تقول: خيرا.
ثم لم تنتظر الإجابة، بل راحت تقرأ الورقة التي تبينت فيها أول ما تبينت أنها ورقة رسمية عليها أختام وتوقيعات كثيرة، ثم ما لبثت أن تجهم وجهها هونا وقالت لزوجها: ما هذا؟ - ماذا؟ ألم تعرفي؟ - ما الذي جعلك تفعل هذا؟
وفهم الزوج مبعث غضبها، وازداد بهذا الغضب فرحا وازداد به حبا لزوجته وإعجابا، وقال وفي صوته رعشة: عشرون فدانا، قصدني صديق أن أشتريها منه بدل أن يشتريها منه غريب لا يعرفه، ورأيت أن أكتبها باسمك، ولم أشأ أن أخبرك حتى أسجل الشراء في المحكمة المختلطة.
Bog aan la aqoon
وقالت سميرة هانم وقد اختلج وجهها، وطفرت إلى عينيها دموع حبستها أن تسيل خشية من إغضاب زوجها الذي يريد رضاءها: ومن قال لك إني أريد أرضا أو فدادين؟ - وماذا يغضبك في هذا؟ - يغضبني أنني لا أريد منك إلا أنت، أنت وحدك، وتفكيرك في كتابة أرض لي تفكير لا أحب أن يجول في ذهنك؛ لأني لا أحب أن يجول في ذهني، أنت غناي كله، وما كنت أحب أن تظهر رضاءك عني في أرض. تكفيني منك ابتسامة رضا، ويغنيني في حياتي أن أراك مرتاحا في بيتك وبين أولادك. - الله يبقيك يا سميرة.
وكادت الدموع تطفر إلى عيني الرجل، ولكن رجولته ما لبثت أن تغلبت، وما لبث هو أن غير موضوع الحديث: أين الأولاد؟ - خيري ويسري ما زالا في المدرسة. - تقولين خيري ويسري في المدرسة وكأن يسري أصبح تلميذا كبيرا مثل خيري.
وعادت الابتسامة هونا إلى وجه سميرة هانم وهي تقول: لو رأيته وهو يغالب النوم مصمما أن يسهر مثلما يسهر أخوه عاجزا في الوقت نفسه أن يغالب رأسه المائل وجفونه المقفلة، وكلما صحت به أن يقوم للنوم انتفض لحظات معارضا، ثم ما يلبث رأسه أن يعود إلى الميل وجفونه إلى الانطباق. - أرجو أن يصبح مثل أخيه في المذاكرة. - خيري، الله يحميه. - الحمد لله، فيه البركة، لا أذكر أنني طلبت منه أن يذاكر أبدا. - الحمد لله، ناجح دائما، ولكني يا همام بك غير مرتاحة لاستذكاره خارج البيت في هذه الأيام. - لماذا؟ إنه يذاكر عند محسن ابن عمه، والبكالوريا محتاجة لتعاون الطلبة. - نعم أعرف، ولكن هل يا ترى يقدمون إليه حاجته من طعام وشاي وقهوة كما نفعل هنا؟ - بيت عزت مفتوح.
وابتسم همام ابتسامة تخفي معنى ما، أو لعلها تبين عن ذلك المعنى وهو يقول: ولعل هناك يا ست سميرة من يهتم بشأنه أكثر مما تفعلين، أين نادية؟ - في حجرتها. - ناديها تجلس معنا.
وقبيل أن تقوم سميرة هانم تأتي الخادمة لتنبئ البك أن صديقه فواز بك في الطابق الأسفل ويريد أن يلقاه، ويقوم همام بك إلى صديقه، وتعود سميرة إلى الورقة تقرؤها، ثم ما تلبث دمعات لها أن تسيل؛ فقد كانت هذه الورقة تجسم لها الخوف من يوم تحتاج فيه إلى ريع أرض، ويومذاك ما الأرض وما المال، بل وما الدنيا جميعا إذا فارقها زوجها؟ هذا العطوف الطيب السمح الذي يحول بينها وبين هموم الحياة، لا كان ذلك اليوم، لا كان.
الفصل الثاني
انتهى اليوم الدراسي في مدرسة الخديوي إسماعيل، وخرج التلاميذ. وكان خيري مع جماعة من إخوانه يعرفون أن عليه أن يذهب إلى مدرسة المنيرة لينتظر أخاه يسري ويصحبه إلى البيت، فرافقوه الطريق، ولكن محسن عزت لم يشأ أن يصحبهم وقال لخيري: لا بد لي أن أذهب إلى البيت، فقد تركت أختي الصغيرة مريضة، وأريد أن أطمئن عليها.
وقال خيري في لهفة شفوق: من؟ فايزة؟ - نعم. - مسكينة! وهل تتحمل المرض؟ طيب اذهب أنت وسألحق بك.
وانفصل محسن عن الجماعة، فساروا إلى مدرسة المنيرة، ولما بلغوا بابها كان لا يزال أمام انصراف تلاميذها بضع دقائق، وظل خيري ورفاقه أمام الباب يتحدثون ، ولكن نجيب كامل صديق خيري المقرب أحس الجزع الذي يعانيه خيري، فقال له في صفاء: إن شئت فاذهب أنت إلى محسن، وسأصحب أنا يسري إلى البيت. - أترى ذلك؟ - وما البأس؟ - أخشى أن يجزع يسري لغيابي، سأنتظره حتى يخرج ثم أذهب أنا إلى محسن. ولكن وحياة والدك يا نجيب احرص على يسري في الطريق؛ فهو كثير الحركة لا يهدأ. - ألا أعرف يسري؟ لا تخف يا أخي. - واحذر أن تدخل به في مظاهرة. - مظاهرة؟ آه، أظنها الآن بلغت عابدين.
وقال صلاح الفولي: بهذه المناسبة ألا تعرف ماهية هذه المظاهرة يا خيري؟ - هل يمر يوم من غير مظاهرة؟ حزب الوفد وحده كان يقيم المظاهرات كل يوم في وزارة محمد محمود، فما بالك والوفد اليوم مع الأحرار الدستوريين، المظاهرات كل ساعة، هل مر علينا يوم في وزارة صدقي من غير مظاهرات؟ - يا أخي، وكأن الرجل معجون من حديد، صلب، كأن المظاهرات تخرج لتحيته. - المهم أن تحافظ على يسري يا نجيب، احذر منه. - لا تخف.
Bog aan la aqoon
وتدخل صلاح الفولي في الحديث سائلا خيري: قل لي يا خيري، هل محسن ابن عمك مباشرة؟ - تقريبا. - لا أفهم، ما معنى تقريبا؟
فقطع نجيب الحديث قائلا: هل تمت شجرة عائلة خيري عندك ولم يعد ينقصها إلا صلة خيري بمحسن؟!
واغتاظ صلاح فقال في حدة: يا أخي ما شأنك أنت، هل سألك أحد؟
وقبل أن يجيب نجيب دق الجرس، وما هي إلا بضع دقائق حتى انفرج باب المدرسة عن أفواج التلاميذ، وقد تباينت جسومهم وأعمارهم تباينا شديدا؛ فهذا طويل فارع الطول، وهذا نحيل ضئيل لا يكاد يبين في الحشد الذي يجاهد للخروج من الباب، وآخر سمين مفرط السمن. وبينهم من يتعهد شاربه في اعتزاز، وبينهم من يتعهد طربوشه في تأنق، ومنهم من لا يعتز بشيء أو يهتم بشيء إلا أن يخرج من المدرسة وينفتل إلى بيته، أو إلى الرفاق الذين ينتظرونه عند بيته. وبين التلاميذ من ينتظره خادمه، وبينهم من ينتظره ذووه، ومنهم من لا ينتظره أحد، ولا فارق ثمة عندهم بين هذا وذاك، فكلهم في هذا الرحاب سواء.
وتكسر فيهم غرور الثراء
وزهو الولادة والمنصب
بيوت منزهة كالعتيق
وإن لم تستر ولم تحجب
ويظهر يسري وعينه إلى المكان الذي تعود أخوه أن ينتظره فيه. فيقصد إليه في غير ترحيب ولا ضيق، غير ملتفت إلى هذه الابتسامة التي أشرقت على وجه خيري حين رآه. فما كان يفهم لها معنى، إلا أنه كان فرحا على أية حال أن خرج من المدرسة ليستقبل البقية الباقية من يومه في لعب ومرح.
وطلب خيري إلى أخيه أن يسير مع نجيب حتى البيت، وطلب إليه أيضا أن يكلمه في التليفون عند عمه عزت بك ليطمئنه على وصوله، فوعده يسري بالطاعة. وانصرف هو ونجيب وبقية الرفاق وعين خيري تصاحبهم حتى حاد بهم الطريق، فانصرف هو إلى بيت صديقه وقريبه محسن.
Bog aan la aqoon
كانت فايزة طفلة في سنتها السادسة، ضحكة البيت المرحة الطروب. إليها يلجأ الأب إن ضاق بالسياسة التي يعمل في ميدانها، وإليها تلجأ الأم كلما وجدت من بيتها فراغا، وحولها يجلس محسن وخيري كلما ضاقا بالمذاكرة. كانت فايزة عند محسن أخته الحبيبة الضاحكة، وكانت عند خيري كل هذا وشيئا آخر أكثر من هذا وأعز، كانت وسيلته إلى وفية؛ فحولها كانوا يجلسون كلما عن لهم أن يتركوا المذاكرة حينا، وحولها كانت تصاحبهم وفية تلهو معهم وتفتح لأختها الصغيرة موضوعات الأحاديث التي تظهر لثغتها، وبين الضحكات الصاخبة تلتقي عيون صافية، وقلوب شغفها الحب الطاهر، ومنعها الحياء أن تبين عن حب بها زاخر موار.
هي وفية أمل الصبا والشباب، كانت الطفولة تجمعهما في الملعب، ثم استقبلا الشباب معا فنزل بينهما ستارا رقيقا دقيقا عنيفا لا يلين؛ فالخلوة بينهما لا تتاح، واللقاء بينهما بمقدار، والعيون حولهما رواصد، والرقيب عليهما عتيد، يحسانه في دعوة الأم لوفية إن طال بقاؤها في الغرفة، ويحسانه في نظرة محسن العاتية إذا علت ضحكة لها، ويحسانه أول ما يحسانه في نفسيهما التي تحول بينهما وبين الانطلاق الذي كانا يمرحان فيه حين كانت الطفولة تظلهما. وهما مع ذلك يحمدان الشباب، ذلك الوافد الجديد؛ ففي بريقه عرفا معنى هذا الخفق العنيف الذي كان يزحم صدريهما ولا يدريان له سببا، وفي هذا الخفق عرفا الحياة، وفي هذا الستار الذي أسدله الشباب عرفا الحب، وفي هذا الرقيب الذي حل بهما عرفا لذة ناره. إنهما يحمدان الشباب ويحمدان ما فرضه عليهما من قيود، فهي قيود لم تستطع على شدتها أن تمنع العين أن تلتقي بالعين، والابتسامة أن تلاقيها ابتسامة، والإشراقة أن تستقبلها إشراقة. وحول فايزة كانت تلتقي العيون والابتسامات والإشراقات.
وهكذا جزع خيري لمرض فايزة جزعا شديدا، فذهب إلى منزلها يريد أن يطمئن عليها، ويرجو من صميم قلبه ألا يطول هذا المرض. واستقبله البيت في وجوم صاخب؛ فالخدم مشغولون بتنفيذ الأوامر التي لا ينقطع لها سيل، والجميع حول سرير فايزة يحيطون بها في إشفاق وخوف، ينتظرون الطبيب أن يفرغ من فحصه. وصعد خيري إلى الطابق العلوي، وحين عرف بوجود الطبيب مكث خارج الغرفة ينتظر. ولم يطل به الانتظار وإن أحسه هو طويلا، وخرج الطبيب ومعه وفية، وسارع خيري إلى وفية يسألها عما قال، فطمأنته في ابتسامة تكاد تشرق. وهدأت نفسه بعض الشيء، ودخل الغرفة وراح يضحك فايزة مقلدا طريقة نطقها للحديث، وهي تضحك في ابتسامة واهنة، وعمه عزت بك يحاول أن يضحك ليهون على زوجته إجلال ما كانت تنوء به من خوف شديد من هذه الحرارة المرتفعة التي تعانيها ابنتها.
ولم يطل خيري مقامه، بل سرعان ما طلب إلى محسن أن يؤجلا المذاكرة إلى الغد. وما أسرع ما ارتاح محسن لهذا الطلب! وخرج خيري من الغرفة، وقبل أن يصل إلى السلم التقى بوفية مرة أخرى، فطالعته منها ابتسامة عذبة. وسؤال هامس ناغم لم يزد على كلمة واحدة حملت معها معاني نعم بها قلبه أي نعيم. - خارج؟
وفي هناءة غامرة أجاب: أجلنا المذاكرة إلى الغد. - وماله. ولماذا لا تبقى معنا قليلا؟ - أنتم مشغولون بفايزة، وأنا أريد أن أذهب إلى البيت لأطمئن على يسري؛ لأني لم أوصله اليوم. - لماذا؟ - كنت مشغولا على فايزة فأرسلته مع أحد أصحابي، وطلبت إليه أن يكلمني هنا بالتليفون، ولكنه لم يتكلم، وأخاف أنا أن أتكلم ويكون حضرته في الشارع يلعب دون أن يري وجهه لنينا فتشغل لغيابه. - طيب يا سيدي، نشكرك. - علام الشكر؟ - على اهتمامك بفايزة. - أنت لا تعرفين كم هي عزيزة علي يا وفية، فايزة عندي مثل نادية تماما.
وأوشك أن يستطرد في حديث عن المكانة التي تشغلها فايزة في قلبه، بل أوشك أن يبين لها مكانة هذا البيت جميعا في نفسه، ولعل أملا متهافتا داعبه أن يحدثها عما لها هي في نفسه، واهما أن عينيه ووجهه هذا المشرق وذلك الضياء الذي يشع من خلجاته جميعا لم ترو لها حديث نفسه كاملا، لم تخف منه خافية، أوشك خيري ثم وقف به إيشاكه عندما ارتفع صوت إجلال هانم من حجرة فايزة: يا وفية! - نعم يا نينا.
وقبل أن يرتفع صوت إجلال هانم مرة أخرى ليدعو وفية، كان خيري قد استأذن وكانت هي قد همست في إعزاز: مع السلامة.
نزل خيري يثب السلم وثبا عنيفا، سريعا متلاحقا، ولكنه مع ذلك أهون من ذلك الوثب الذي أخذ قلبه يخفق به داخل ضلوعه فرحا بهذا الحديث الصغير الكبير الذي مهدت له الصدفة. لقد كاشفته بحبها في طلبها إليه أن يبقى، وكاشفته بحبها في نظراتها الحالمة الوادعة الرضية، وكاشفته بحبها في نغمات صوتها الهامسة الحالمة، وكاشفها هو بحبه فيما رواه عن مكانة فايزة من قلبه، وفي إشفاقه عليها وفي مسارعته إلى بيتهم مرسلا أخاه مع صديق. لقد تكاشفا بالعيون والوميض، والكلام يدور من بعيد كما يدور العابد حول معبوده المقدس ويكبره أن يلمسه. لم يقل أحبك وإن قالها ألف مرة، ولم تقل أحبك وإن كان قد سمعها منها ألف ألف مرة، لكم يحبها، ولكم يطيب له أن يقول في نفسه، ولكم تحبني.
الفصل الثالث
بلغ خيري البيت وقصد من فوره إلى حجرة يسري وفتحها، فوجده يلهو ويلعب على الأرض، فقال له في شيء من عنف شفوق: لماذا لم تكلمني يا أخي؟ - والله نسيت يا آبيه. - نسيت؟ ألا تقدر خوفي عليك؟ - ومم تخاف؟ هل أنا صغير؟ - طيب يا سيدي، أنا غلطان!
Bog aan la aqoon
وأقفل الباب وذهب إلى أمه ينبئها بمرض فايزة، واستقبلت الأم النبأ في شيء من الإشفاق سائلة عن نوع المرض، ثم قالت لابنها إنها ستزورهم بمجرد عودة أبيه لتستأذنه وتستقل سيارته في زيارتها. ثم دار بينهما الحديث بعد ذلك في نواح شتى، ولكن الأم لاحظت أن الابن فرح طروب يجاهد عينيه ووجهه ألا تفضح ما يموج في قلبه من هناءة ورضا. وشاءت الأم أن تظهر لولدها أن ما يبذله من جهد قد نجح، وأنها لم تلحظ السعادة التي يعيش فيها.
ولكن غريزة المرأة الأم لم تمهد لها المضي فيما تشاء، فإذا هي تجذب الحديث جذبة عنيفة إلى ناحية لم يكن خيري يتوقع أن ينحرف إليها الحديث، قالت الأم في هدوء: خيري! - نعم يا نينا. - لماذا لا نخطب لك؟ - ماذا؟ - لماذا لا نخطب لك؟ - أنا تلميذ ولا أزال في البكالوريا. - وماله؟ - كيف؟ - أنت تلميذ مستقيم، نخطب لك، وحين تتخرج تتزوج. لم لا؟ - ولكن يا نينا. - ماذا؟ - لا يا نينا، هذا غير معقول. - أترى هذا؟ - والله أظن لو انتظرنا قليلا. - ولماذا ننتظر؟ - والله أمرك. - قد لا تنتظر العروس التي تريدها.
وانتفض خيري في حيرة ذاهلة: ماذا؟ العروس التي أريدها؟ أي عروس؟
وقالت الأم في سخرية رحيمة: وفية. - نينا. - نعم. - هل قلت إني أريدها؟ - إنك يا ابني تقول هذا كل يوم، كل دقيقة، كل مذاكرة مع محسن، وكل عودة من عند محسن، المصيبة أن الأولاد دائما يظنون أن آباءهم وأمهاتهم سذج، وأنهم يستطيعون أن يضحكوا منهم.
وتشرق نفس خيري وتعلو وجهه حمرة يجاهد أن يخفيها فيخفق جهده، ولا يجد شيئا يقوله آخر الأمر إلا: على كل حال يا نينا لا بد أن ننتظر قليلا. - طبعا، حتى تنال البكالوريا.
ويتلعثم خيري وهو يقول: نعم، وتشفى فايزة. - ماذا؟ تشفى فايزة! وهل مرضها خطير يا ابني؟ - أبدا، ولكنها مريضة على كل حال. - مرض بسيط وستشفى منه طبعا قبل دخولك الامتحان بوقت كبير. - إن شاء الله، أقوم أنا أذاكر قليلا. - قم يا بني، ربنا يوفقك، أليس عندك مدرس اليوم؟ - نعم، سيأتي حامد أفندي، وكان مفروضا أن يأتي محسن ليأخذ الدرس معي؛ ولذلك سأؤجل الحصة اليوم. - وهل سيعطي يسري درسه؟
وضحك خيري وهو يقول: إن حامد أفندي مدرس ممتاز، وهو يدرس ليسري من أجل خاطرنا فقط. - أليس مدرسا في مدرسته؟ - مجرد سوء حظ، إنما الحقيقة أنه فوق مستوى الابتدائي بكثير. وقد طلب إلي أن أرجو عمي عزت ليرقى إلى الثانوي. - وهل كلمته؟ - نعم، ووعد بأن يتكلم له. - ربنا يوفق الجميع يا ابني. - على الله، أقوم أنا.
وقام خيري إلى مذاكرته، ولكن أي مذاكرة؟ لقد داعب حديث أمه أملا كان يهفو إليه وما كان ليتوقع أن يأتي إليه هكذا من قريب، لم يكن ينوي المذاكرة في يومه هذا، أما وقد أصبحت المذاكرة هي طريقه إلى وفية فهو سيذاكر اليوم، وكل يوم، وكل ساعة، ولكن أي مذاكرة يطيقها اليوم؟ عيناه في الكتاب وخاطره مشغول يجمح به إلى هواه الذي كان بعيدا فأصبح وهو لا يمنعه عنه إلا هذا الكتاب، فيعود إليه هنيهات، ثم يتركه. وهكذا كانت مذاكرته كحسو الطائر، يشرب مهما يشرب، فلا يصيب من الماء إلا رذاذا أو أقل من الرذاذ.
الفصل الرابع
كان حامد أفندي عبد الكريم يقيم مع أمه الست مريم وأخته دولت في شقة متواضعة على رغم أنفها في الدراسة، أما أبوه فقد تركهم لا يرد جوعهم إلا معاش ضئيل، استطاع حامد أن يزيده بعض الشيء بوظيفة حصل عليها كان يعمل بها بعد الظهر. واستطاع أن يجمع بين الوظيفة والمدرسة حتى يحصل على دبلوم المعلمين، وأصبح مدرسا للغة الإنجليزية والجغرافيا والتاريخ بمدرسة المنيرة الابتدائية. وقد كان حامد مثابرا في المذاكرة، حتى لقد استطاع أن يحصل على مكان كريم بين زملائه المتخرجين في دفعته، ولكنه كان بلا وساطة؛ فلم يستطع أن ينال إلا هذا المكان بمدرسة المنيرة. وهكذا ما كاد يعرف أن لأهل يسري صلة بذوي السلطان حتى بذل غاية جهده أن تتصل أسبابه بيسري. وقد نجح جهده وأصبح المدرس الخصوصي ليسري ولخيري أيضا. ولم يضع وقتا كثيرا، فإنه ما لبث أن طلب إلى خيري أن يكون شفيعه إلى عزت بك، ليشفع له في الوزارة، وقد اتسعت الآمال أمام عينيه منذ ذلك اليوم وأصبح يحلم بالترقية إلى المدارس الثانوية، حتى لقد قصد في يومه هذا إلى الوزارة ليعرف الأمكنة الخالية بمدارس القاهرة الثانوية، ولكن أبحاثه قادته إلى سبيل آخر لم يكن ليفكر فيه؛ فلقد أبلغه زميل له بالديوان العام أن الوزارة في سبيلها إلى إرسال بعثة إلى إنجلترا في العلوم الاجتماعية، وأن المرشحين لهذه البعثة من المتقدمين في دفعته. وقد أبلغه زميله أيضا أنه يستطيع أن يسافر في هذه البعثة إذا هو عثر على وساطة كبيرة ذات نفوذ في الوزارة. وهكذا عاد حامد إلى بيته والآمال تزحم نفسه أن يفوز بهذه البعثة، أربع سنوات قابلة للزيادة في إنجلترا، ومن هناك يستطيع أن يدور بالعالم أجمع. إنجلترا، أي أمل ضخم هذا، وأي مستقبل عريض ينتظره عند عودته، وما له لا يسعى وأي ضير في ذلك؟ ليجعل هدف البعثة بديلا عن هدفه القديم من ترقيته إلى المدارس الثانوية. قد تعترض أمه، ولكن أي أم لا تعترض على غياب ابنها أربع سنوات عنها؟ ولو أطاع الناس جميعا أمهاتهم لما نال أحد دكتوراه ولظلوا قابعين بجانب أمهاتهم فلا يصيبون من العلم إلا هذه الدرجة التي نالوها. وقد يضيق الحال بأمه بعض الشيء، ولكنها تعودت أن تكتفي بالمعاش، فلتعتمد عليه هذه السنوات. ولكن دولت كبرت وكثرت طلباتها، ولكن ما البأس بأمه وأخته أن تحتملا الضيق هذه السنوات القلائل ثم يعوضهما عنها بالعيش الرغيد؟ وماذا عليه لو قبل زواج دولت من فهمي الفهلوي، ولكن كيف؟!
Bog aan la aqoon
وكان حامد قد بلغ منزله حينئذ وانتبه إلى السلم؛ فقد عوده حرصه على الحياة أن ينتبه إلى السلم كلما أوشك أن يصعد، فجميع الباقي من درجاته متآكل لا يسمح إلا بأطراف القدم أن تستقر عليه. كما تعود ألا يعتمد على الدرابزين. وكم عود الفقر حامد من عادات؛ فقد عودته ملابسه القديمة مثلا أن يتأنى في مشيته وحركاته حتى لا يشتد الاحتكاك بها فتبلى البقية الباقية منها. وقد ظن كثير من الناس أن هذا البطء في المشي والحركة وليد كبر يعتمل بنفسه، ويعلم الله، ويعلم حامد، أنه لولا الفقر لتحرك مثل سائر الناس. وهكذا كان حامد دقيقا في تفكيره حريصا كل الحرص على ماله ونفسه.
بلغ حامد السلم وصعده في تأن وفي تفكير يبذله كلما ترك درجة إلى أخرى. وحين بلغ شقته فتح الباب فوجد أمه جالسة في البهو، ويجلس إلى جانبها فهمي الفهلوي وقد انهمك كل منهما في حديث أخذ بمجامع تفكيرهما كل مأخذ. وكانت الجملة التي بلغت أذن حامد عند فتحه الباب: أنا أعجبك جدا يا ست أم حامد.
وأنقذ حامد أمه من الإجابة وهو يقول: أهلا وسهلا، كيف حالك يا أسطى فهمي؟ - معدن يا حامد أفندي، معدن والحمد لله، ماشية، الدكان يكسب خمسين قرشا يوميا على الأقل. - ربنا يزيد ويبارك. - أنا والله لا أعرف ما الذي لا يعجبك في. - لماذا يا أخي - لا قدر الله - أنت تعجب السلطان. - يا أخي العفو، كل مناي أن أعجبك أنت فقط. - ربنا يهيئ الخير يا أسطى حامد. - الخير بيدك أنت يا سي حامد أفندي. - شربت القهوة؟ - شربناها والحمد لله، أستأذن أنا. - ولماذا العجلة؟ - الدكان وحده، البركة فيك يا ست أم حامد، فقد يرضى علينا الأستاذ، سلام عليكم.
وشيعته همهمة من حامد وأمه أشبه ما تكون برد لتحيته، وما كاد فهمي يغلق الباب حتى قالت الست مريم: والله إنه ابن حلال.
فقال حامد محاولا أن يغير الحديث: وهل قلت إنه ابن حرام؟ - فما عيبه؟ - يا ستي اتركي هذا الموضوع. - ولماذا أتركه؟ رجل يا بني ويستر على أختك. - وهل هي بائرة؟ - لا قدر الله، ولكني لا أرى فيه عيبا. - كيف هذا يا أمه؟ أين هو منا؟ - يا ابني العظمة لله، أليس هو فهمي ابن الحاج سيد الفهلوي الذي كان صديق أبيك العمر كله؟ - يا أمه الدنيا تتغير . - ولكن النفوس يا بني لا تتغير. - كل شيء يتغير. - إلا النفوس الحلوة يا ابني، لم تكن هكذا أبدا، يا ابني، فهمي ابن حلال ونعرفه، نعرفه وهو طفل صغير، وسيكون لدولت كأخيها، لماذا ترفض؟ - أنا لا أزوج أختي من عامل! - وإذا كانت هي تقبله؟ - أنا لا أقبل. - وماذا ينتظر لها؟ - واحد متعلم. - وماذا يفعل بها المتعلم؟ هل تراها نالت الشهادات. - إنها تقرأ وتكتب، وعلى كل حال لا يهم، فالمتعلم سيطلبها من أجلي أنا. - وهل سيتزوجك أنت هذا المتعلم، المتعلم يريد المتعلمة مثله أو الغنية، ونحن والحمد لله لا علم ولا مال، اقبل فهمي يا حامد يا ابني، من يعرف؟ لعله أحسن من غيره. - لا يا ستي، أنا لا أقبل أن يعيرني زملائي بأني زوجت أختي من شخص جاهل، عامل. - يا ابني مصلحة أختك أهم من أقوال زملائك. - أنا أدرى بمصلحتها، وعلى كل حال هي ما زالت صغيرة، صغيرة جدا. - يا ابني هذا حرام، في أيامنا كانت البنت لا تصل الحادية عشرة إلا وهي متزوجة. - اسمعي، فعندي خبر مهم. - خير، اترقيت؟ - لا، لا. - خطبت؟! - أليس في ذهنك إلا الزواج؟ - وماذا أهم من الترقية إلا الزواج؟ - بعثة.
وضربت أم حامد على صدرها في ذعر: ماذا؟
بعثة.
لمن؟
لك!
أجننت؟ - سؤالك عجيب، لمن تكون البعثة إن لم تكن لي؟ - وتتركني أنا وأختك يا حامد؟ - كم سنة فقط، وأعود الدكتور حامد عبد الكريم. - دكتور؟! ألست مدرسا؟ - نعم، دكتور في التدريس. - وتتركنا يا حامد؟ - أليست مصلحتي هي أهم شيء عندك؟ - طبعا. - هذه هي مصلحتي.
Bog aan la aqoon
وتطرق الأم وبوادر دمعات تبدو في عينيها وتفيض، وتجاهد لسانها كل جهد لتقول: ما تراه يا ابني.
وما تكاد تقول هذا حتى يقول حامد محاولا أن يبعث إلى نفسها بقية من أمل: على كل حال المسألة لم تتأكد بعد. - ربنا يعمل ما فيه الخير يا ابني. - أين دولت؟ - ذهبت عند خالتك وصفية لتساعدها في خياطة بعض الملابس. - خالتي؟ منذ متى كانت وصفية خالتي؟ - ماذا جرى يا حامد؟ كلامي لم يعد يعجبك، طول عمرك تنادي وصفية بيا خالتي. - كلام فارغ! ولماذا تذهب إليها دولت؟ ألم تجد إلا دولت لتساعدها؟ - وماله يا ابني؟ - النهاية، الغداء جاهز؟ - جاهز يا ابني، دقيقة واحدة حتى أعده لك.
ويدخل حامد إلى حجرته، وما تلبث دولت أن تجيء. فتاة تخطو نحو شبابها الأول، سمحة الملامح، بريئة الوجه، ملفوفة القوم، ريانة العود غضة، ساذجة النظرات ساجية، ذات عينين سوداوين، فيهما حلاوة الشباب الباكر المتطلع إلى المستقبل في تعجل لا ريث فيه ولا مهل، رشيقة الحركة عن طبيعة مواتية في غير كلفة ولا افتعال. وكان وجهها في إشراقه أشبه بالمرآة الصافية لا يخفي نأمة عن نفسها إلا بدت آثارها عليه في وضوح أبين من الكلام. ذات شعر كث غزير ناعم، ولكنها كانت تقيد كثرته العارمة في ضفيرة كبيرة تلفها في إحكام، ثم تغطيه بوشاح تربط عقدته خلف ذقنها، فيزيد ذقنها وضوحا وجمالا. لم يكن في وجه دولت من عيب إلا هذه الأرنبة النافرة في أنفها، ولعل بعض الناس يرون فيها جمالا، أو بلورة لجمال دولت. وقد كانت دولت تحب أخاها حبا عارما، فيه إجلال يستره أن يبين، فقد كان يمثل أمامها العلم والمال والسيطرة، وهي أمور تفقدها جميعا فقدانا تاما. وقد كان كذلك يمثل أمامها حياتها التي تحياها، فقد كانت بغيره خليقة أن تضيع في الزحام وهي بلا سلاح إلا هذه الصبابة الضئيلة التي تصيبها أمها كل شعر كمعاش لأبيها. وهكذا كانت دولت تجد في أخيها كل شيء تفقده كما كانت تجد فيه نفسه كل شيء تملكه.
دلفت دولت إلى البهو فوجدت أمها تضع الأطباق على المائدة، فهمست وكأنها تخفي جرما: هل جاء حامد؟
فأجابتها أمها في صوت متردد بين الهمس والجهر: من زمان.
وعادت دولت تسأل هامسة: أسأل عني؟ - نعم. - وماذا قلت له؟ - الله! ألا ينتهي هذا التحقيق؟ وماذا يمكن أن أقول؟! قلت المكان الذي ذهبت إليه. - هل غضب؟ - وما شأنك أنت ما دمت أنا التي أمرتك أن تذهبي؟ ادخلي هاتي الأكل، بلا مسخرة.
وامتثلت دولت لأمر أمها، وأقبلت الأسرة تأكل صامتة أفواهها، صاخبة عقولها، يضج في داخل كل منهم زحام من الآمال والمخاوف والظنون. فأما رب الأسرة فمفكر في هذا الباب الجديد الذي أومأ إليه صديقه بالديوان العام، يكبر الأمل في نفسه حتى ليكاد يصبح حقيقة مجسمة يعيشها بكاملها، فهو يتخيل نفسه في لندن ذاتها، ويمتد به الخيال ويمتد حتى ليرى نفسه أستاذا في الجامعة يرتدي روبها ويحاضر طلبتها في سمته المترفع ويده في جيبه. وبلا وعي يضع يده في جيبه فتهوى إلى الفضاء، فقد ارتدى الجلباب، ولم يكن للجلباب جيب، فيصحو وقد اضمحل الأمل وذوى حتى ليكاد يضرب عنه صفحا، مكتفيا بأن يصبح مدرسا في المدارس الثانوية. ولكن لماذا يضيع الفرصة؟ ولا يزال بآماله يتأرجح بينها حائرا راغبا حينا في الأمل الكبير من الدكتوراه، راغبا عنه حينا آخر خشية أن يخذله الديوان، وهو مع تفكيره العميق يطحن الأكل طحنا غير شاعر بما يأكل، وإنما هو يحرك فكيه حركة وانية واثقة، وعيناه في شرود، وذهنه يتجول بين لندن والمدارس الثانوية بالقاهرة.
وأما أمه فمفكرة هي أيضا في هذه المشكلة الجديدة التي أضافها ابنها إلى مشكلة زواج دولت، فهي تفكر فيما سيئول إليه حالهما إن سافر ابنها، وكيف تدبر أمرها بالمعاش الضئيل الذي تركه لها زوجها. وحين تضيق بها السبل يذهب بها التفكير إلى ما قد يستدعيه الحال عندئذ من أن تعمل، ثم ما يلبث أن يردها عن هذا التفكير علمها بكبر سنها وجهلها بالعمل خارج بيتها جهلا تاما. وما تلبث أن تدير بذهنها فكرة أخرى، لماذا لا تعمل دولت؟ وتنظر إلى دولت فتجدها ذاهلة هي الأخرى تقلب النظر بين أمها وأخيها وقد ران عليهما هذا الصمت المطبق.
كانت دولت حائرة لا تدري ماذا تقول، فهي إن نظرت إلى أخيها طالعتها منه هذه النظرة الذاهلة تنبعث من عينيه العميقتين وقد ازدادت ملامح وجهه الدقيقة صرامة وقوة. ثم ما تلبث أن تجد أساريره قد استرخت هونا ولكن إلى حين، فما هي إلا خلجة عين حتى تعود إليه الصرامة والإصرار. وهي إن نظرت إلى وجه أمها الذي كسته الأيام ترهلا وطيبة، والذي عرفت فيه الرضا المذعن والاستسلام الهادئ وجدته وقد غشيته كآبة وتفكير، فهي ذاهلة عما حولها، لا تكاد تحس بأحد ولا بشيء. ويصخب عقل دولت حائرا بين الظنون والتخمين، فهي تفكر في أمر وتكاد تؤكد أنه سبب هذا الصمت الذاهل الحيران، ثم ما تلبث أن تنفيه لتفكر في سبب آخر ما يلبث أن يتداعى كسابقه، وهي حائرة لا تدري ماذا تقول أو تفعل إلا أن تلوك الطعام كما يفعل أخوها وكما تفعل أمها، غير دارية من أمرهما أمرا. ولا يزال ثلاثتهم في شرودهم هذا الذاهل حتى ينتهوا من طعامهم صامتين. ويقوم حامد إلى حجرته شأنه كل يوم، وإن كان في يومه هذا قد عزم على أن يستبدل بالنوم كتابة مذكرة بحالته لتقدم إلى مراقبة البعثات.
وتذهب الأم إلى الشباك تطل منه على الحارة، بينما تقوم دولت بتنظيف المائدة.
Bog aan la aqoon
تظل الأم رانية إلى الحارة. الدكاكين مقفلة، والطريق خال إلا من متأخر يروده منهوكا عجلا يريد أن يسارع بالعودة إلى داره فيعوقه تعب النهار، فالهمة بادية في عينه وإن قصرت قدماه عن همته، وتطول الجلسة بمريم، ويبدأ التجار والصناع في العودة إلى محالهم. وتكثر الأرجل الضاربة في الحارة، ويتجمع أصحاب المحال في أماكنهم التي تعودوا التجمع فيها، وترتفع أصوات بالتحايا وأخرى بالنكات وأخرى بالضحك وأخرى بالزجر يلقيه كل رئيس عمل إلى عماله مظهرا سيطرته عليهم. وترتفع أعين إلى الشبابيك، وتتابع أعين أجسام المارات، وتعلو بين الحين والحين تكبيرة لله أريد بها وجه الشيطان، أو مصمصة شفاه أريد بها إعلان غزل. ولا تعدم الحارة صوت حاج فيها يزع الغاوين وينصحهم بالاحتشام، فيلقونه بالصمت حينا أو بالقول الرضي الخجلان حينا آخر.
ويخيل لمريم أن باب بيتها قد فتح وأقفل، ولكنها لا تعنى بالالتفات إلى الباب، فقد كانت بتفكيرها المضطرب في شغل شاغل. وما يلبث ابنها حامد أن يبدو في الطريق في مشيته البطيئة المليئة بالعظمة، تلك العظمة التي لا تتفق وجسمه القميء الضئيل أو وجهه الدقيق القسمات، يرين عليه الجد والعمل من طول ما تعود الجد والعمل، فعينان غائرتان عميقتان، ووجنتان لاصقتان بأسنانه، وفم مطبق لا ينفرج، وطربوش لاصق برأسه في ميل لا يختلف في يوم عن يوم حتى ليحسب من يراه أنه لا يخلعه في ليل أو نهار، فإنه من العسير أن يتأتى لأحد بالغة ما بلغت دقته، أن يظل طربوشه في وضع واحد لا ينحرف عنه قيد شعرة، إلا إذا كان لا يخلعه.
ويسير حامد في طريقه بطيئا كما عهدته الحارة، عظيما كما عهده أهلها. وتراه أمه يرفع يده بالتحية للقوم الجلوس، وتسمع تحيته التي عهدتها وتعودت أذنها أن تلتقطها من بين الأصوات الصاخبة، تلك التحية الواهنة النغمة الأنيقة المخارج. ورأت مريم القوم يجيبون تحية ابنها، وتفيق على أصواتهم من سرحتها، فأصواتهم اليوم غيرها بالأمس، كانوا يحتفون بابنها إذا مر وحيا، ولكنهم اليوم يردون تحيته وكأنهم يقومون بواجب فرضه عليهم القرآن الكريم من رد التحية بأحسن منها. بل إنهم حتى لا يردونها بأحسن منها ولا بمثلها، إنما هي همهمة لا تكاد تبارح شفاههم إلا لتسقط في الطريق قبل أن تبلغ الأذن، فما تعي الأذن منها إلا طنينا. وتدرك أم حامد أن فهمي قص على إخوانه من أهل الحارة إباء حامد أن يزوجه دولت، وتدرك الأم أن أهل الحارة أحسوا كبر حامد من رفضه هذا، فهم ساخطون يفرجون عن سخطهم في هذه النغمة المتخاذلة التي أجابوا بها تحية حامد. ويدرك حامد هذه المعاني ولكنه لا يعنى بها إلا هنيهة، ثم ينصرف بتفكيره وجسمه أيضا إلى هذا الأمل الذي يسعى طريقه إليه.
الفصل الخامس
ظل خيري في مذاكرته تلك التي لا تغني، يقرأ لحظات بذهن شارد، ثم يرفع رأسه عن الكتاب ليفرغ للشرود فراغا كاملا، ثم يعود شاردا إلى الكتاب مرة أخرى. وهكذا حتى وجد حامد أفندي واقفا على رأسه يلقي عليه التحية في ود ظاهر وإشراق: السلام عليكم.
ويفيق خيري تماما إلى أستاذه ويقف ليحييه، ويسأل حامد: وأين محسن، ألم يأت بعد؟ - والله أخته الصغيرة مريضة، وقد اتفقنا أن نؤجل الدرس إلى الغد. - أهي مريضة إلى هذا الحد؟ - لا، ولكن رأيته مشغول الخاطر، فاعتقدت أنه لن يكون صالحا للدرس اليوم. - ما هذا الكلام يا أخي؟ لقد اقترب الامتحان. - نعم صحيح، ولكن أخته عزيزة عليه جدا. - أعتقد أن المذاكرة ستشغله عن التفكير في مرضها. - أترى ذلك؟ - طبعا. - نطلبه في التليفون ليأتي. - ولماذا لا نذهب إليه نحن، فنطمئن على أخته من جهة و...
وقاطع خيري أستاذه في لهفة: فكرة، هيا بنا.
وهكذا وجد اقتراح حامد نفسا متوثبة لتنفيذه، وقد كان خيري خليقا أن يكون هو المقترح، ولكن من أين له الذهن الذي يداور ويخلق المعاذير وهو فارغ لتوه من هذا الحديث الخطير الذي دار بينه وبين أمه؟ لقد كان مشغولا عن وفية بها، كان مشغولا عن خلق المعاذير للذهاب إليها بالتفكير في زواجه منها.
أما حامد فقد كان شغله الشاغل أن يلقى عزت بك، وأن يجعل رجاءه لديه لندن بدلا من المدارس الثانوية، والتقت من حامد وخيري الرغبتان وإن اختلفت الدوافع وتباينت الأسباب. •••
كان محسن جالسا إلى أخته فايزة لا يرفع نظره عنها، وهي مغمضة العينين بلا حديث ولا مطالب إلا أنفاسا تتردد متسارعة. وقد جلس أفراد الأسرة الآخرون حولها شأنهم شأن محسن، لا يتكلمون، وإنما أصبحوا جميعا عيونا لا تميل عن طفلتهم الحبيبة. وجاءت الخادم تنبئ محسن أن خيري وحامد ينتظرانه في الطابق الأسفل، وحاول أن يستدعي خيري ليعتذر إليه ولكن أباه قال له: لماذا لا تنزل؟ انزل أنت فأختك بخير، وسألحق بك أنا أيضا بعد قليل.
Bog aan la aqoon
ويصدع محسن بأمر أبيه، وينزل إلى أستاذه وقريبه. ويسأل خيري في لهفة عن صحة فايزة، كما يتظاهر حامد بهذه اللهفة نفسها، ويلقي خيري على محسن ذلك النقاش الذي دار بينه وبين حامد والذي أدى إلى مجيئهما. وما يكاد خيري ينتهي من الحديث حتى يدخل عزت بك فيسلم عليهم، فيقوم حامد في احتفاء كبير ويتقبل السلام في احتفاء أكبر، ثم يسأل في إشفاق وحزن يبدو صادرا من أعمق أعماق نفسه: سلامة الست الصغيرة.
ويقول عزت بك في أدب رقيق: إن شاء الله خير، أنا على موعد غدا يا أستاذ حامد مع وزير المعارف لأرجوه في مسألتك.
ويقول حامد في أدب شديد منتهزا الفرصة في مهارة: ألف شكر يا سعادة البك، الحمد لله أن سعادتك لم تذهب بعد. - لماذا؟ هل تمت المسألة؟ - أبدا! ولكني عرفت اليوم أن هناك بعثة من دفعتي ستذهب إلى لندن، وأنا من أوائل الدفعة، فإذا أمكن أن تزكيني سعادتك لأرشح في هذه البعثة تكون سعادتك قد أديت لي جميل العمر. - بكل سرور يا أخي، هل كتبت مذكرة بهذا الشأن؟ - نعم، ها هي ذي.
وكأنه كان على موعد مع هذا اللقاء الذي هيأته له ظروف متضافرة من مرض فايزة وعدم خروج عزت، ثم من رغبة عزت أن يطمئنه على المسعى الذي رجاه فيه ونزوله إليه، ظروف متنافرة تجمعت خيوطها من كل منحى في الحياة تمهد له هذا اللقاء وتتيح له أن يقدم المذكرة إلى عزت شخصيا بلا وسيط من خيري أو محسن.
ويخرج عزت عائدا إلى ابنته. ويعود الأستاذ مشرقا مرحا إلى تلميذيه فلا يلقيانه بهذا المرح، فأما محسن فمشغول بأمر أخته، وأما خيري فمشغول بأختي محسن جميعا. ويدرك حامد أن لا فائدة ترجى من الدرس في يومهم هذا، ويصبح الدرس الذي كان مهما لديه غير ذي قيمة الآن، فقد أتى له المجيء إلى محسن بالفوائد التي كان يرجوها منه، وأصبح الامتحان الذي كان قريبا لا يحتمل تأجيل درس أمرا يسهل التغلب عليه. وهكذا اقترح في جرأة: لنؤجل الدرس اليوم، فإني أراكما مشغولين بفايزة.
ويقول محسن: والله أنت محق يا أستاذ، أنا لا أستطيع أن أركز ذهني في شيء اليوم.
ويرى خيري أن أمنية حامد قد تحققت دون أن تتحقق أمنيته هو، فيسارع قائلا: أتنتظرني دقائق يا أستاذ حتى أرى فايزة وأعود؟
ولكن حامد تواقا إلى أن يخلو بالطريق ليفكر وحده في أعقاب هذا اللقاء الذي تم بينه وبين عزت، فهو يقول: ولماذا العجلة يا أخي؟ على مهلك أنت، وأستأذن أنا.
ويفرح خيري بهذا الاقتراح ويقول: أترى ذلك؟ - نعم، فنحن ذاهبان من طريقين مختلفين، أستأذن أنا، السلام عليكم.
ويخرج حامد، ويصعد خيري ومحسن إلى الطابق الأعلى فيجدان الأسرة كما هي في غرفة فايزة. ويلقي خيري نظرة على المريضة، ثم يخرج إلى البهو ويتبعه محسن، فيقول له: ادخل أنت عند أختك، وسأنتظر أنا أمي هنا، فهي قادمة لترى فايزة، وسآخذ أنا السيارة إلى البيت.
Bog aan la aqoon
ويحاول محسن أن يجلس معه فيهدده إن فعل أن يترك البيت، فلا يجد محسن مناصا من طاعته. •••
يبقى خيري منفردا لحظات، ثم ما تلبث وفية أن تخرج إليه وتعجب لوجوده، فما كانت تعلم أنه ما زال بالبيت. تلقي إليه ابتسامة وتذهب إلى الخدم تأمرهم أن يعدوا مشروبا ساخنا لأختها، ثم تعود إلى خيري فتجلس إليه.
يرنو خيري إليها طويلا حائرا لا يدري كيف يبدأ الحديث، وتظل هي تنتظر أن يفرج شفتيه عن أي كلام، حتى إذا يئست قالت: لماذا لم تدخل؟
وأفاق خيري دهشا يسأل: أين؟ - عند فايزة. - آه، كيف هي الآن؟ - الحرارة مرتفعة. - بسيطة إن شاء الله، وفية. - هه.
وحل الصمت بينهما مرة أخرى، ثم عاد خيري يقطعه قائلا في نفس النغمة الملهوفة التي ناداها بها: وفية.
وتطلق وفية «هيه» ممدودة، كأنما خيل إليها أنه لن يسمعها إذا هي لم تمدها، وإن تكن قد صحبتها بابتسامة عذبة، ويتحفز هو مرة أخرى وهو يقول: وفية هل ... هل ... - هيه، هل ماذا؟
ويومض في ذهنه باب آخر يستطيع أن يدخل منه إلى الحديث الذي يريد، فيقول: هل تعرفين ماذا قالت لي نينا اليوم؟
وازدادت الابتسامة إشراقا في وجه وفية وهي تقول: وكيف أعرف؟ - هل تستطيعين أن تحزري؟
وابتسمت وفية وهي تقول: اذكر لي رأس الموضوع على الأقل.
ولم يكن خيري يتوقع هذا السؤال، فحار ماذا يقول إلا أن يردد في محاولة للتفكير: رأس الموضوع، رأس الموضوع. - نعم، فيم كان حديثكما؟ - حزري. - اذكر لي الموضوع، وسأحزر التفاصيل.
Bog aan la aqoon
وتومض الكلمة المناسبة في ذهن خيري فيقول: نجاحي، إذا نجحت ... - تشتري لك سيارة.
ويضحك خيري قائلا: لا، لن تشتري لي شيئا. - إذن ... - إذن ستقدم لي أعظم أمل في حياتي. - ماذا؟ ما هو هذا الأمل؟ - قولي. - يا أخي أنا أسلم بغبائي، قل لي، ماذا قالت لك؟
وتعود اللعثمة إلى خيري عاجزا كل العجز أن يكمل، راغبا في إنبائها رغبة تأخذ عليه مشاعره، وبين العجز والخجل والرغبة يرتبك خيري وتكاد تدرك وفية، ويجمع خيري بعض شجاعته ليقول ثالثة في حيرة وارتباك: وفية هل ... وفية ...
وقبل أن يكتمل الكلام ليكون شيئا مفيدا يرتفع صوت الخادم معلنا قدوم سميرة هانم، وتقوم وفية قائلة: عمتي.
وتنزل السلم لتستقبلها، ويظل خيري في مكانه ينتظر أمه حائرا لا يزال، لا يدري أيفرح أن طالت بهما الجلسة بعض الشيء فاستطاع أن يومض بما في نفسه ومضا لا يكاد يبدد ظلاما، أم يلوم نفسه هذه الخجلى دائما والمترددة العاجزة التي لا تستطيع أن تترك لسانه وشأنه ليقول مرة - ولو واحدة - ما لا بد أن يقال.
وتصعد أمه وهو في حيرته لا يزال، وقبل أن تقول أمه شيئا يسارع هو قائلا: أتسمحين لي بالسيارة أصل بها إلى البيت وأعيدها؟
وتقول الأم: ولماذا لا تنتظر حتى نذهب معا؟ - أريد أن أذاكر.
وتبتسم الأم، فقد أصبح للمذاكرة أسباب قوية تصل إلى أعماق الفؤاد وهي تدري، ومن خلال ابتسامتها تسمح له بالسيارة.
وفي الطريق يعود خيري إلى تفكيره، ترى أفهمت وفية أي وعد بذلته أمه إن هو نجح، لقد فهمت، وإلا فما هذه الغلالة الوردية الرقيقة التي كست وجهها، ويريد أن يعود إلى لوم نفسه ثم ما يلبث أن يثوب، ماذا تراني كنت قائلا؟ أحبك؟! ألا تدري؟ إذن كنت أسألها أتحبينني؟! ألا أدري؟ وهل يرضى لي حيائي أو حياؤها أن أقول أو تقول، هو الحب ما بيننا يقوله الضياء الذي يحيط بنا إذا التقينا، واللهفة التي أحسها وتحسها إلى هذا اللقاء، كيف أقول؟ كيف تقول؟ أتراني أقبل أن تقول لي أحبك؟ لا، أم تراها تقبل أن تسمعها مني؟ إنما حبنا أعظم من أن تعبر عنه كلمة مهما تكن خالدة بعيدة الأصول في الزمان الماضي، باقية على كل زمن مستقبل. ولكن الهوى العذري بيننا، ولكن التقدير الذي أكنه لها، ولكنه التقاليد التي ربينا أنا وهي في ظلها، كل هذا يمنعها ويمنعني أن تقول أو أقول. ألا ما أجمل أن تجمعنا جملة واحدة، أنا وهي، اهدئي إذن يا نفسي، فهكذا أنت، وما كنت لأكلفك أمرا لم تتعوديه، إنها تعلم، ولم يبق إلا أن أذاكر، لا شيء إلا أن أذاكر، ألا ما أهون العقبة التي تقف بي دونها، وأفاق خيري من تأملاته على صوت السائق وهو يقول: خيري بك، خيري بك، سأتأخر عن الست. - ماذا؟ هل وصلنا؟ - منذ نصف ساعة. نحن هنا يا خيري بك من نصف ساعة.
ويبتسم خيري وينزل من السيارة. الابتسامة تعلو شفتيه، وأفكار كثيرة كلها باسمة تدور في ذهنه، وفي قلبه.
Bog aan la aqoon
الفصل السادس
لم يكن همام بك ينتظر زائرا في يومه هذا، ولا كان مرتبطا بموعد، ولا كان راغبا في الذهاب إلى المقهى. وتذكر أنه منذ زمن بعيد لم يخرج مع زوجته إلى مكانهما المفضل بجانب الأهرام، فقد كانا يريان في الذهاب إلى ذلك المكان نزهتين لا واحدة، نزهة الطريق ونزهة الجلسة.
وظلت سميرة هانم تعين زوجها في ارتداء ملابسه حتى أتمها، وخرج إلى غرفة الجلوس ينتظر زوجته أن ترتدي ملابسها هي الأخرى. ولم ينس قبل أن يتركها أن يطلب إليها أن تعجل حتى لا يفاجئهما زائر غير منتظر. لم يكد همام بك يستقر في كرسيه حتى قدمت إليه الخادم تنبئه أن فواز بك في الطابق الأسفل ينتظره.
وقام همام بك من فوره وذهب إلى زوجته ينبئها بقدوم الزائر، وكأنه خشي أن تكره قدوم صديقه أو تكره صديقه، فطمأنها أنه سيصحبها إلى النزهة الموعودة عند خروج فواز. ولم تكن سميرة هانم في حاجة إلى هذا الوعد لتخفي غضبها عن زوجها، فإنها لم تتعود أن تظهره على غضبها، وإن كانت لا تحب في حياتها شيئا قدر حبها للخروج مع زوجها، وما أندر ما كانت تخرج مع زوجها.
فواز بك نافع، صديق همام بك منذ كانا طفلين، ورثا الصداقة عن أبويهما اللذين كانا صديقين أيضا. وقد جمعت الأعمال المشتركة بين الصديقين فتوطدت بينهما الصلات، ثم جمعت بينهما الأزمات فوقفا دونها يدا واحدة وقلبا واحدا، يخشى كل منهما على صاحبه ما يخشى على نفسه. وقد ضاربا معا في البورصة وخسرا فيها كل شيء. ثم جاهدا حتى استردا ما خسرا. وحينئذ توقف همام عن المضاربة ناظرا إلى أولاده مشفقا أن تلتهم المضاربة ما لم يصبح حقا له وأصبح حقا لأولاده. أما فواز فقد صمم على المضي في المضاربة فصارت حياته سلسلة من الصعود والهبوط، فهو إما في قمة الجبل أو في حضيض الهاوية. ولم يستطع يوما وهو في قمة الجبل أن ينظر إلى الحضيض في خشية فيكف، فقد أصبحت المضاربة تسري مع دمه لا يستغني عنها، أو يستغني عن دمه نفسه.
ولم يمنع توقف همام عن المضاربة ومضي فواز فيها صداقتهما أن تظل كما هي. وكثيرا ما حاول فواز أن يغري صديقه بصفقة يراها رابحة، ولكن همام كان قد أقلع وما كان ليعيده إلى البورصة إغراء مهما يكن جامحا. بل لم تكن تغريه تلك الذكريات التي كان يستعيدها صديقه أمامه، أيام كانا والفقر يطل عليهما بوجهه الكالح الشاحب الكئيب، ثم ينشب فيهما أظفاره الضاربة المرنة فما تند عن واحد منهما أنة أو آهة، وإنما يلقيان الفقر والغنى معا بذلك الوجه الجامد تعود الأحداث سعيدها وشقيها، فسيان عندهما فقر أو غنى. هكذا كانا يبدوان للناس وإن أحرقت الخسارة كبديهما، وإن زلزلت قلبيهما، ولكنهما لا يظهران أحدا على ما تنطوي عليه جوانحهما من حريق أو زلزال، كبرا منهما وتعاليا على الأحداث. لقد كانا نوعا من الرجال ينشب أظفاره في الزمن فلا يطيق الزمان أن يطيح به.
لم يكن إغراء الذكريات ليجدي في جذب همام إلى المضاربة ثانية. وقد كان يجهد في دفع الإغراء الذي ينتابه من ذكريات الفقر جهدا أشد عنفا مما يبذله في دفع إغراء فواز إياه بالربح الوفير. فقد تجد الذكريات مسارب إلى النفوس يعجز عن العثور عليها المال بجلاله وسلطانه.
حتى لقد هم همام يوما أن يعود إلى المضاربة فما وقف به إلا ابن عمه عزت الذي يرى في البورصة مقبرة لأموال الكرام ولكرامتهم معا. وقد ألح على همام حتى ثناه عن هذه المحاولة فلم يعد إليها ثانية.
أما فواز فقد كان يرى في المضاربة عملا طبيعيا له، فهو يقامر فيها بأمواله جميعا، فإن لم تكف عمد إلى صاحبه وطلب إليه أن يضمنه لدى من يقرضه مالا. وما كان همام يتردد لحظة إذا قصده صديقه. ولم يكن فواز في هذا جائرا على صديقه، فقد كان يرى فيما يفعله أمرا طبيعيا لا يفكر في غيره. ولم يكن همام يضيق بطلب صديقه وإن ساورته الخشية، إلا أنها خشية لا تزيد في خاطره على همسة، ما تلبث أن تزول في دوامة الصداقة والأخوة والنجدة التي تزخر بها نفسه.
كان فواز جالسا في مكتب صديقه ينتظر نزوله، ولم يطل به الانتظار، فسرعان ما بدا على باب الحجرة محييا تحية الأخ الهينة العميقة.
Bog aan la aqoon