هوامش
الفصل التاسع
اجتياز البوغاز
وأخيرا اجتمعت العمارة التي أعدت لاجتياز البوغاز بمهمات الحملة عند مصب نهر صغير يدعى ريف، وذلك في أواخر شهر أيلول سنة 1066، وتاريخ هذه الحادثة - غلبة النورمان - يتذكره جيدا طلبة علم التاريخ؛ إذ هو من جملة حوادث التاريخ الشهيرة، وكان لتألب العمارة في مصب ذلك النهر وحشد الجيوش على عرض شاطئه مظهر عظيم شديد التأثير، فالعمارة البحرية المؤلفة من السفن والبوارج والقوارب والزوارق المغشية وجه المياه، وصفوف الخيام الطويلة المضروبة تحت الكهوف على الشاطئ، وفرق الفرسان الغارقة بالفولاذ، وجموع العساكر المنهمكين بنقل الذخائر والمؤن والآخذين بالاستعدادات الأخيرة ذهابا وإيابا تأهبا للإقلاع، وجماهير الألوف من المتفرجين كانوا دائما يروحون ويجيئون، والدرك نفسه المستوي بعدة الكفاح على جواد الجلاد محاطا بالخفراء والضباط والقواد.
كل هذه وغيرها من المظاهر الباهية العظيمة التي يكثر تجليها في مثل هذه الظروف كانت باعثة للنظر على الانبهار بأنوار ذلك المشهد الحافل بالبهجة والبهاء والافتخار، ومعلوم أن جمع هذه القوات العظيمة من الرجال والمراكب، وإكمال ما يتبعها من الاستعدادات المتنوعة تهيئا للإقلاع كان قد استغرق وقتا ليس بقصير، حتى إذا تم كل شيء وكان ذلك في أواخر أيلول - كما مر الكلام - حان وقت نوء الاعتدال، وأصبح الإقلاع متعذرا؛ لأنه ما عتم أن توالى عصف الأرياح، وهياج الأنواء مصحوبة بالتغيرات الجوية مدة أسابيع عديدة، وقد تخلل هذه الأنواء فترات من الصحو انقشعت فيها الغيوم وظهرت أشعة الشمس، على أنها لم تكن كافية لأن تحل العمارة من قيود الانحصار، وتطلق لها سراح الإقلاع بداعي قصر مدتها، وعدم تمكن البحر فيها من الرجوع إلى حالة الهدوء والسكون؛ لأن تياراته المتعالية كانت تظل على عجيجها وهياجها متلاطمة متدافعة على الشاطئ، ومتساقطة على كثبان الرمل في مصب النهر محطمة السفن الواقفة في طريقها، والمعرضة لانكسارها، وكانت فترة الصحو لا تلبث أن تنقطع بهبوب الأرياح، وتعاظم الأنواء، وإنشاء السحب في عنان السماء، وإذ ذاك توقف السفن على مراسيها، وتلف شرعها، وتطوى أعلامها، وتدار من نحو المقدم إلى جهة العاصفة بوجه العبوسة والغضب، وينكفئ الناس على الشاطئ إلى الخيام، والمتفرجون يرجعون إلى بيوتهم ريثما وليم وضباطه يبقون يراقبون مرور السريع بمزيد القلق وعظيم الاضطراب.
وبالواقع كان لوليم أسباب جوهرية تبعثه على إيجاس الخوف من عاقبة هذا النوء الطويل المستديم في طريق مشروعه؛ لأن الإبطاء في الإقلاع كان بحد ذاته موجبا للحذر وانشغال البال من حيث إن فصل الشتاء كان على الأبواب؛ لأنه كان بعد مرور شهر واحد يصبح اجتياز البوغاز بتلك العمارة أمرا بعيدا جدا، هذا فضلا عن أن الرجال الذين يقلعون بحملات مخيفة مظلمة كالتي عزم عليها وليم كانت نفوسهم وقواهم عرضة للاشتداد والانسحاق، خاضعة لعوامل التغيرات العظيمة الفجائية، ومفعولة بقوة أقل الطوارئ الطفيفة الصغيرة، ولا شيء أفعل في نفوسهم في مثل تلك الظروف من ظواهر الجو، وقد أدرك وليم أن آثار حمية رجاله وغيرتهم كانت آخذة في الاختفاء تحت أطباق السحب المتكاثفة، ومسرعة في الانمحاء في مجاري السيول الجارفة، وكانت شعائر القنوط والخمول التي نبهها فيهم ذلك العاصف تزداد فيهم تعمقا وانتشارا بقوة الحس المشترك، فكنت تراهم لا يشغلهم شاغل سوى توقع المخاطر والأهوال، والتسلي أثناء مراقبة سير الغيوم وتلاطم الأمواج بانتظار الرزايا والمعارك ونتائج الاندحار، وغير ذلك من الأمور المخيفة المظلمة التي تذهب ببسالة الجندي، وتحدوه على اليأس والجزع.
ولم تكن تصورات المصائب والشدائد منحصرة فيما ذكر فقط؛ لأنه مع أن معظم العمارة كان باقيا على مصب النهر، وفي أمن من العواصف والأنواء، فكثير من المراكب كان خارجا عنه معرضا لها، فمن قطع جيء بها مؤخرا إلى ذلك المرسى أو طرادات أرسلت إلى بعض الثغور المجاورة لقضاء بعض الحاجات المتعلقة بالاستعدادات، أو سفن كان لنواخذتها «جمع ناخذة بمعنى قبطان» شجاعة ممتازة حملتهم على التعرض للمخاطر بدون داع، فأكثر هذه المذكورات حطمتها الأمواج، وقطعت أوصالها التيارات، وقذفت ببقاياها مع جثث نوتيتها الغرقى إلى الشاطئ، وقد هالت الناظرين رؤية تلك الجثث المنتفخة المهشمة والمطمور نصفها في الرمل كأن البحر حاول أن يخفي عن العيون منظر تلك الجرائم التي ارتكبها، فأصدر وليم الأوامر المشددة للإسراع في جمع تلك الجثث ودفنها سرا بحال وجودها، على أنه رغما عن هذه التحوطات لم تلبث أنباء هذه الأرزاء أن انتشرت في سائر أطراف المعسكر مكبرة مجسمة، وكان الخوف والرعب يزدادان كل يوم استيلاء على الأفكار، وينذران بتوقع المكاره وانتظار الأخطار، فعول وليم على الإقلاع عند أول فرصة ممكنة، وذلك لم يكن طويلا، فإن الطقس تغير، وفي الحال هبت ريح جنوب لطيفة عارضت انقلاب الأمواج على الشواطئ الفرنسية، وعليه أصدرت الأوامر في الإقلاع، فهدمت الخيام ونقلت الذخائر إلى السفن، وحشدت العساكر في القوارب إلى المراكب، وازدحمت أقدام المتفرجين على الشاطئ أفواجا أفواجا، ونشرت القلع وأخذت الميناء تسيل بحركات تلك القطع متأهبة للاجتياز، ومستعدة للمخر في عباب البوغاز، على أن البحر ما كان إلا كالأفاعي، ومعلوم القول:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها
عند التقلب في أنيابها العطب
فإن ذلك التعبير المستحب ما كان إلا مجرد خدعة واحتيال وفخ أخفى للوقوع في أشراك الرزايا والأهوال؛ لأنه ما أبطأ أن عادت الرياح إلى عصفها الشديد، والسحب إلى تلبد ما عليه مزيد، وبعد أن قطعت العمارة مسافة مائة ميل تحت جهد الخطر والعناء اضطرت على الرجوع إلى مرفأ سنت فالري طلبا للوقاية والالتجاء، فساء ذلك وليم ولكنه اتخذ هذا التأخر وسيلة للتزود ببعض القوات الأخيرة، ومواصلة العاصمة ومتيلدا.
Bog aan la aqoon