وعلى ذلك ما لبث البابا وكرادلته أن حقوا دعوى وليم، وأقاموا مطالبه، فأرسل له الحبر الأعظم فوق إجازة الاستيلاء على إنكلترا راية وخاتما، أما الراية فكانت مصنوعة بكل إتقان وإحكام، على أن قيمتها لم تنحصر في زخرفتها وكلفتها، بل بالبركة الفائقة التي تضمنتها من قبل قداسة مرسليها، وأما الخاتم فكان من ذهب وفيه الماسة عظيمة الثمن، على أن كلا الذهب والماس الذين فيه كانا فقط عبارة عن وسيلة لحفظ وإكرام شيء أثمن منهما وأكرم، وهذا الكنز المذخور كان شعرة من رأس بطرس الرسول - ذخيرة مقدسة ذات اعتبار عجيب، وثمن لا يقدر غريب.
ولما جيء بالإجازة «المنشور» والراية والخاتم إلى نورماندي كان لها وقع عظيم عمومي؛ لأن التصديق على هذه الحملة بقوة كهذه سامية من رأس الكنيسة الذي أكثر الناس ينظرون إليه بملء التجلة والاحترام، كان كختم على حق الشروع فيها، وتوقع الظفر والانتصار، وعندها لم تبق من صعوبة في إعداد الرجال وذخر المال، والتأهب للحرب والقتال، وقد أصبح كل لهفان متعطشا لمقاسمة المجد وكسب أحسن الجزاء.
ولما رأى وليم الأمور مطردة مجرى النجاح والتحسين أنفذ بلاغا إلى الزعماء والمقدمين في المقاطعات حوالي نورماندي، به يدعو الأمراء والعساكر وجميع أصحاب الإقدام من كل درجة إلى الاتحاد معه، والانضمام إليه، وهذا أحدث تيقظا وانتباها عموميين، فتسابق إلى خدمته كثيرون من أهل الجراءة والبسالة، وانهالت عليه موارد الرجال والخيول والإسعافات انهيال الأمطار، وأصبح حديث مهاجمة إنكلترا والاشتراك في الحملة عليها ملء أفواه الجميع، وشغلا شاغلا عند الرفيع والوضيع، وسالت الطرق والشوارع بالأمراء والجنود، بعضهم فرسان منفردون، وبعضهم جماعات كبيرة أو صغيرة، قادمون إلى نورماندي لعرض الخدمة والتطوع لأجل هذه المهمة.
كل ذلك ووليم يقتبل الجميع بمزيد الترحاب والتأهيل، ويعد الكل بالمكافأة الحسنى والخير الجزيل متى دخل إنكلترا وأصاب في محاربته هارلود غلبة ونصرا، فكان يعد هذا بالدراهم وذاك بالغنائم، وذلك بوظيفة لا يكون له فيها مزاحم، حتى نفس الكهنة وخدام الكنيسة، فقد وعد كلا منهم بمكافأة كريمة وجائزة نفيسة، وهؤلاء لم يقصروا في مقاسمة العوام المساعدة والاهتمام، فإن واحدا منهم أعد سفينة وسلحها بعشرين رجلا على شرط أن يسام مطرانا على أبرشية غنية في إنكلترا حينما يستوي وليم على عرشها.
وبينما كانت هذه الاستعدادات جارية على قدم وساق داخل البلاد كانت المين البحرية وسائر المدن على الشواطئ والتخوم النورماندية مظهرا لتأهبات بحرية حربية، فكنت ترى معامل السفن مشغولة ببناء المراكب والزوارق، بعضها لنقل الرجال، والبعض لحمل الذخائر والمون، وبعضها قوارب صغيرة لأجل قطع الأنهر وإخراج العساكر إلى البر على الشواطئ الصلخة (حيث الماء قليل)، وكذا الحدادون وصانعو الأسلحة كانوا منهمكين على الدوام في طبع البيض الحداد، ومد السمر المداد، وتهيئة سائر العدد الحربية كالخوذ والدروع، بينما كان عدد عديد من الرجال ينقلون على حيوانات النقل تلك المعدات من المعامل إلى السفن، وحالما فرغ وليم من هذه الإجراءات رأى أنه باق أمامه خطوة رابعة قبل الإقلاع إلى إنكلترا، وهي استشارة ملك فرنسا وطلب مساعدته، وكان اسمه حينئذ فيليب، فذهب إليه بنفسه، فوجده في قصره سنت جرمنس ، وهناك بعد تأدية فروض الخضوع والاحترام أطلعه على مقاصده، وطلب منه الاستحسان والإمداد واعدا إياه بأن يملك إنكلترا كما ملك نورماندي تحت سيادة حكومة فرنسا.
فلم يصوب فيليب هذا المشروع، وسأل وليم على من يترك إدارة دوكيته مدة غيابه للسعي وراء مملكة أخرى، وبعد الافتكار أجابه أنه مرزوق بحسن الحظ زوجة حكيمة، وشعبا أمينا، فيمكنه تسليم أمر الإدارة إليهم إلى حين رجوعه.
فظل فيليب مصرا على عدم استحسانه هذا العزم من وجه أنه مخيف ومخطر، ونصح لوليم بالعدول عنه والاقتناع بحالته الحاضرة، وفي النهاية عقد مجلس شورى وألقى مسألة وليم للبحث، وكان من خلاصة المداولة تخطئة وليم ورفض المساعدة له، أما وليم فودع فيليب وخرج بعدما قال له: «كان في عزمي أن أحكم على إنكلترا معترفا بسيادتك لو نلت منك عونا وإسعافا، وأما الآن فقد عدلت لأنك أبيت تلبيتي؛ لأني إنما أشعر بالمكافأة لأولئك الذين يساعدونني».
وعاد وليم إلى نورماندي حيث وجد أن الاستعدادات قد أخذ فيها مدة غيابه بوافر الغيرة والنشاط، ومن ثم شرع في تدبير الأمر الأخير الذي كان عليه أن يتناول الاهتمام به قبل خروجه على إنكلترا، وهو تعيين أمر الحكم في غيابه، فعول على وضع زمام القوة العالية في يدي زوجته، وعين في الوقت ذاته نخبة من مأموري الملكية والعسكرية على شكل مجلس نواب يساعدونها في تنفيذ الأحكام والمشورات والإفادات، ويدبرون تحت عنايتها مهام الحكومة، وهكذا دعيت إلى وظيفتها بلقب «نائبة دوك» بباهر التجلة والاحتفاء في مشهد حافل بكبراء البلاد، وفي ختام الحفلة قال لها وليم بعدما فوضها بالحكم والإدارة: «ولا تحرمينا من الانتفاع بصلواتك وصلوات كل سيدات محكمتك لكي ترافقنا بركة الله وتنجح مساعينا» وأرى أنه لم تعد لدينا ضرورة - كما في الماضي - تدعونا إلى اتهام وليم بالرياء والادعاء في اعترافه بالاتكال على العون الإلهي في الأهوال الشخصية والسياسية التي كان عازما على مباشرتها، ويرجح أنه كان يعتقد بإخلاص أن ميراث التاج الإنكليزي كان من جملة حقوقه، ومن الواجب عليه بذل القوة لأجل تحصيله ؛ ولذا أقدم على تتميم الاستعدادات بما لا مزيد عليه من العزم والهمة، حتى غادر البلاد كلها قائمة قاعدة بالتأهبات، وبينما كان الأهلون على مزيد الثقة بأن هذا المشروع قد صدق عليه بأمر سماوي إذا به قد تثبت بظهور غريب، وتجل عجيب حدث قبيل الإقلاع من الشواطئ النورماندية، وذلك بأن ظهر نجم مذنب
1
كبير معترض في عنان الجو له - حسب تقرير الراصدين - ذنبان، فاتخذه الناس دليلا ينبئ باتحاد نورماندي وإنكلترا مملكة مزدوجة تظهر للعالم بغاية المجد والبهاء.
Bog aan la aqoon