مقدمة
تمهيد
1 - نورماندي
2 - ولادة وليم
3 - سفر روبرت إلى الأرض المقدسة
4 - ملك وليم في نورماندي
5 - الزيجة
6 - الأميرة «أما»
7 - الملك هارلود
8 - التأهبات
Bog aan la aqoon
9 - اجتياز البوغاز
10 - معركة هستن
11 - عصيان البرنس روبرت
12 - الخاتمة
مقدمة
تمهيد
1 - نورماندي
2 - ولادة وليم
3 - سفر روبرت إلى الأرض المقدسة
4 - ملك وليم في نورماندي
Bog aan la aqoon
5 - الزيجة
6 - الأميرة «أما»
7 - الملك هارلود
8 - التأهبات
9 - اجتياز البوغاز
10 - معركة هستن
11 - عصيان البرنس روبرت
12 - الخاتمة
تاريخ وليم الظافر
تاريخ وليم الظافر
Bog aan la aqoon
تأليف
أسعد خليل داغر
مقدمة
الحمد لله الذي ليس لسوابغه حصر ولا لنوابغه عد، كما أنه ليس له بداءة فتؤرخ ولا نهاية فيوضع لها حد.
أما بعد، فلما كان فن التاريخ من أجل المنافع للإنسان، وأفضل الذرائع لتدرجه في مرقاة الحضارة والعمران؛ لأنه مشكاة تنقشع لديها دياجير القدمية عن محيا الحوادث في غابر القرون والأجيال ومرآة تنطبع عليها تصاوير الوقائع الماضية كأنها في زمان الحال، فتمرح في حلباته ضوامر النواظر، وتسرح في فلواته غزلان الخواطر؛ لاجتناء يانع الفضائل من أجارع المفيدات المرشدات، واجتناب فواقع الرذائل من صوادع المنذرات الموعدات، ولما كان تاريخ وليم الظافر، الملقب بالقاهر، من أجلها نفعا، وأعظمها في النفوس وقعا، رأيت أن ألم به بعض الإلمام إفادة للقراء الكرام والسلام.
تمهيد
إن الشهرة التي حازها هذا البطل المقدام، والأسد الضرغام، كانت بافتتاحه بلاد الإنكليز عنوة، واستيلائه على مقاطعاتها، واستوائه على عرش ملكها. وهذا كله يعرف في التاريخ بغلبة النورمان - سكان نورماندي - الذين منهم وليم الظافر.
على أن الأسباب التي مهدت سبيل الجلوس على العرش الإنكليزي لم تكن مجرد القوة الحربية فقط؛ لأنه كان له في العرش حق ادعاه على ملكها، وحمل عليه طالبا تحصيله على ما سيأتي معنا إن شاء الله.
الفصل الأول
نورماندي
Bog aan la aqoon
إن نورماندي وطن وليم الظافر هي مقاطعة في غاية الخصب والجمال، موقعها الجغرافي في شمال فرنسا على ملاصقة المضيق الإنكليزي، ومساحة عرض هذا المضيق نحو مائة ميل، وأما تخمه الجنوبي الذي منه القسم الشمالي من نورماندي، فمؤلف من سلسلة هضاب قائمة تجاه البحر تخرقها مصاب أنهر تجري من داخل البلاد، وتصب في تلك الثغور التي كانت تصلح أن تكون مرافئ تلتجئ إليها السفن، لولا أن الرياح الشمالية الغربية يكثر هبوبها عليها بعنف شديد، فتثير الأمواج متلاطمة وتغادرها مضاحل
1
بما تجر إليها من الرمال والحصى والأخشاب المتكسرة، وبعكس ذلك تخمه الشمالي من جهة بلاد الإنكليز؛ فإن المرافئ هناك رحبة سهلة المدخل أمينته تقي المراكب من الرياح والأنواء؛ ولهذا الاختلاف الطبيعي في جانبي هذا المضيق تأثير عظيم يظهر بالنظر إلى سكان الجانب الواحد منه، فإنهم وإن يكونوا هم وسكان الجانب الآخر من أصل واحد وجنس واحد، فهم على اختلاف من القوة والإقدام على المخاطر والأسفار البحرية.
أما وحدة النسل في هذين الشعبين - أعني الإنكليز وسكان شمالي فرنسا - فهي لأن هذين المكانين أخضعا لجيل من الناس يدعون «سكان نافيين» وهم أخلاط من النرويجيين والدانماركيين وغيرهم من بلدان البلتيك، وقد لقبوا حينئذ بالشماليين، والذين حلوا بلاد الإنكليز دعوا دانيين (نسبة إلى دانمارك) مع أنه لم يكن منهم في الحقيقة من بلاد الدانمارك إلا الجزء القليل فقط، على أنهم تسلسلوا من أصل واحد، ونالوا وحدة الصفات من حيث الشجاعة وشدة البأس والجرأة على ارتكاب المخاطر. وهذا كله لا يزال أخلافهم يمتازون به في العصر الحاضر.
أولئك خرجوا في تلك الأيام جمهورا عظيما على عمارات قرصانية، ومخروا في عرض الأوقيانوس الجرماني إلى الأبحر البريطانية يقتحمون المصاعب، ويركبون الأخطار استكشافا لأرض جديدة ذات خصب وكلاء ليحلوها، وكانوا في غضون ذلك يظهرون ذات القوة والشجاعة، ويكابدون عين هذه الأهوال في صيد حيتان المحيط الباسيفيكي، والحمل على بلاد الهند واغتنام كنوز غناها، والتبحبح بنعيم ثروتها، ومثل ذلك أيضا في الاندفاع للدوران حول نصف الكرة لاستخراج الذهب من كاليفورنيا. أجل إن الزمان تغير والأحوال استحالت، ولكن النوع باق كما كان، والروح هي هي من عهد النشأة وستظل كذلك إلى آخر الزمان.
أما اسم المقاطعة نورماندي فمأخوذ من النورثمان (أي الشماليين) الذين اغتصبوها من الإفرنس؛ فإنهم دخلوها من البحر على نهر السين الذي يجري من داخل البلاد كما يرى على الخارطة، ومخروا فيه بمراكبهم حتى استقرت أقدامهم في قلب تلك المقاطعة، وكان حلولهم فيها بضعة أجيال قبل ابتداء تاريخنا هذا، وقد تولى إدارة الحكم فيها سلسلة من الأمراء كانوا سلاطين مطلقي الإرادة إلا قليلا، ودعوا أمراء (دوكاث) نورماندي.
فالأمير الأول الواضع أساسها، والرافع نبراسها مقدام الغارة في الاستيلاء على هذه الإمارة كان بطلا من الشمال، مغوارا وفارسا بين الرجال كرارا، عريقا بالبربرية، ولصيقا بجانب الوحشية يدعى «رولو» وكثيرا ما يلقب في التاريخ برولو الداني (الدانماركي).
هذا نشأ في نروج، واستلم زمام القيادة بالإرث، ولما شب وبلغ أشده وشب معه حب الغزوات والفتوحات جمع إليه عصابة من الرجال الأشداء، وخرج بهم للقرصانية واللصوصية حتى روع البلاد، وهلع قلوب العباد، فجلاه الملك إلى خارج المملكة.
على أن هذا الجلاء لم يكن ليثني عزمه عن اجتراح هذه الكبائر والجرائم، بل زاده إقداما وتنشيطا، فجمع إليه كل قواته وانطلق بعمارة يمخر في الأوقيانوس الجرماني نحو شواطئ بريطانيا، وكان في ذلك الوقت في جوار تخم إسكوتلاندا الشمالي الغربي سلسلة جزر موحشة كانت ملجأ للقرصان واللصوص، فجعلها رولو مقرا له؛ حيث انضم إليه فيها عصابة أخرى من الأشقياء الذين بعضهم هربوا إليها من طائلة ما كان لهم في إثارة الشغب والفتن، والبعض الآخر في تبعة ارتكاب المعاصي واجتراح المحارم.
أولئك مالوا إليه لما أنسوا فيه من شدة البأس والشجاعة، وتألبوا حوله وأجمعوا على جعله قائدا عليهم، أما هو فلما رأى ازدياد قوته عقد النية على حشد جيش جرار والإقلاع نحو الجنوب، لعلهم يدفعون إلى بلاط طيبة الأرض خصبتها؛ فيغتصبوها ويستعمروها.
Bog aan la aqoon
فوافقوه على رأيه، وأعدوا الزاد والمهمات وأقلعوا لا ينحون مكانا مخصوصا، بل يسيرون إلى حيث يجدون موضعا يناسبهم للاستيطان، فيلقون فيه عصا الرحيل، ويتخذونه محلا للمقيل، فدخل نهر السين حائرا خائفا من قوة العدو البحرية هناك، على أنه حالا رأى إمكان تغلبه على هذه الصعوبة؛ إذ قد أسعده الحظ بعدم وجود قوة كافية للعدو لتصده، فاجتاز حتى جاء روان، فبلغ ذلك شارل ملك فرنسا، الملقب بالبسيط، فأخذ يجمع الجيوش ويحشد القوات تأهبا لملاقاته، على أن رولو تمكن من الاستيلاء على روان، وتوطيد قدمه فيها قبلما استطاع شارل أن يخرجه بالقوة، ومع أنها كانت حصينة، فرولو زادها منعة وحصانة، فإنه حالا شرع في ترميم الحصون وتكبيرها، وبنى بيوتا للزاد، وأقام المعاقل والأبراج من كل جهة، ومجمل القول أنه جعلها من أمكن المراكز الحربية التي يتعذر على العدو أخذها.
ثم انتشبت بينهما حرب طويلة كان فيها النصر لرولو، وذلك زاده افتخارا وتعظيما، فإنه ضايق الملك شارل حتى أركن للفرار، فتأثره من مدينة إلى مدينة، ومن ساحة إلى أخرى حتى استولى على قسم كبير من شمالي فرنسا، ونظم له حكومة مستقلة تحت إدارته رغما عن اجتهاد الملك شارل في صده وطرده، ولم يزل ينازله ويظفر به حتى حصره ضمن باريس، وعندها اضطر شارل أن يكف عن قتاله، ويسعى في الصلح والسلام معه.
فطلب رولو أن تعطى البلاد حوالي نهر السين ملكا له ولأتباعه، فلم يرد شارل أن يفلت من يده هذا القسم الكبير، بل ارتضى أن يكون إمارة مستمرة تحت سلطانه ورولو يتولاها كدوك معترفا بسيادة ملك فرنسا عليها.
فقبل رولو بذلك؛ لأنه كان قد طال عليه زمان الحرب، ومل الطعن والضرب زهاء الثلاثين سنة، وكان من شروط الصلح بينهما: أن «جسيل» ابنة شارل تعطى زوجة لرولو، وأن رولو يتنصر، ويقدم الطاعة لشارل علانية أمام الرؤساء والأعيان - كما كانت العادة في تلك الأيام - وهكذا ترتب للصلح ثلاثة شروط؛ أولها: تقديم رولو الطاعة لشارل، وثانيها: تنصره، وثالثها: اقترانه بجسيل ابنة شارل، وكلها واحد من حيث غايتها؛ أعني خضوع ذلك الأمير المقيد السلطة (أي رولو) لسيادة ذلك الملك المطلق السلطان (أي شارل).
ولما جاء وقت إتمام الشرط الأول، وغص المشهد بالأمراء والضباط والقواد؛ أنف رولو أن يخضع لحكم ذلك الشرط على العادة المألوفة في ذلك العصر، أي أن يركع أمام الملك ويضم يديه إحداهما إلى الأخرى بين يدي الملك علامة الخضوع، ويقبل رجل الملك ضمن خف ثمين، وقد شق عليه على الخصوص القيام بالقسم الأخير من هذا الشرط؛ أعني تقبيل الرجل.
على أن هذه العادة لم تكن غريبة في تلك الأيام، فإن البابا كان قد أوجبها على أحد الملوك قبل ذلك العهد بمائة سنة، ولكن تقبيلها كان يسهل على من يتنازل لها من حيث النظر إلى الصليب الموضوع عليها، والفكر بأنه قبل علامة آلام المسيح وموته لا رجلا بشرية.
أما رولو فتمنع عن تقبيل رجل الملك شارل، وعد هذا الفعل حطة في شأنه، وتنزيلا من علو قدره، ولكن ارتضى أن يقوم في ذلك أحد رجاله عوضا عنه، فتقدم ذلك الرجل إلى رجل الملك ورفعها بعنف وخشونة، بحيث كاد يقلب الملك عن مجلسه إلى الوراء، وهذا أحدث بين الحاضرين ضحكا شديدا.
ثم بعد أيام قليلة احتفل عماد رولو في كنيسة روان بغاية التجلة والإكرام، وعقد اقترانه بجسيل، واستحالت قلاقل الحروب التي كابدها نيفا وثلاثين سنة إلى سكون وراح في ظلال المسرات والأفراح، وتولى منصب الإمارة (الدوكية) باقي حياته بالأمان والسلام والحكمة والتقدم حتى صيرها من أغنى إمارات أوربا، وخلف فيها شيئا كثيرا من معدات الارتقاء للذين خلفوه بعد موته.
ويظهر أن الذي حدا رولا ورجاله على اختيار هذه المقاطعة دون غيرها إنما هو إمكان الدخول إليها من الخليج الإنكليزي على نهر السين، وكثرة غناها، وشدة خصبها؛ لأنها معدودة في كل زمان جنة فرنسا، وحينما يأتيها السياح في الوقت الحاضر ينظرون إلى حسن مواقعها، وبهجة مناظرها بعين العجب والاندهاش.
وظلت سلسلة أمراء نورماندي من رولو متصلة الحلقات إلى وليم مدة مائة وخمسين سنة بدون انقطاع، والبلاد في بحر هذا الوقت كانت ترتقي في معراج التقدم والنجاح، وتزداد غنى وثروة فضلا عن الازدياد في عدد السكان، والسير في سبيل الحضارة والعمران بقدر ما كانت تسمح به ظروف ذلك الزمان. ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أن سكانها الأصليين هاجروا منها، بل ليعلم أنهم لبثوا فيها يتعاطون الفلاحة والرعاية عند أسيادهم النورديين، لكنه على تمادي الأيام اختلط النوعان أحدهما بالآخر، بحيث صار تمييزهما في الوقت الحاضر يتعسر أو يتعذر.
Bog aan la aqoon
هوامش
الفصل الثاني
ولادة وليم
قلنا أن رولو اتخذ مدينة روان عاصمة إمارته، وجعلها غاية في المنعة والحصانة، بحيث صارت العظمى في مقاطعة نورماندي، ولا تزال كذلك في الوقت الحاضر، على أنها لم تبق مركزا للخلافة في عهد الأمراء الذين خلفوا رولو، فإن الأمير روبرت أبا وليم - وهو السادس في السلسلة الدوكية - غادرها واتخذ قلعة كبيرة في فاليس مقرا لإمارته، وتلك القلعة كانت مبنية على أكمة تبعد قليلا عن المدينة، وقد مضى عليها عهد طويل وهي مهجورة متروكة صلقعا بلقعا، على أن أطلالها ورسومها لا تزال إلى الآن تشهد على عظمتها الغابرة، وشهرة رفعتها الدابرة، بل لا تزال محط ركاب السياح المتقاطرين إليها من جميع النواحي؛ ليشاهدوا مولد (مكان ولادة) ذلك البطل القاهر والملك الظافر.
أما تلك الهضبة المبنية عليها القلعة، فكانت تنتهي من إحدى جهاتها بأحادير صخرية، ومثلها من جهتين أخريين، بحيث كان يتعذر على العدو الصعود إليها من هذه الجهات الثلاث المحاطة بالأحادير والأجراف، وأما جهتها الرابعة فكانت كذلك من حيث التحدر والعلو، ومنها المدخل بطريق كثيرة التعاريج تخرج من المدينة إلى القلعة، وكان الموصل بينهما محصنا على الجانبين بخندق وجسر يوضع عند المرور ويرفع بعده، وعلى كل من جانبي بوابة القلعة برج حصين زيادة في المنعة، وفي الوادي بين المدينة والقلعة نهر صغير يجري وينعطف دائرا على حضيض تلك الهضبة، فيحيط بها إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر، أما دار القلعة فكانت محصنة بسور كثيف غاية في القوة والمتانة، وداخله أبنية كثيرة عديدة متفرقة منها: كنيسة وبرج مربع الشكل مبني من حجر أبيض، وقيل: إنه لا يزال باقيا للآن غير منهدم فيه شيء، وعلى أربع جهات السور مراقب أو أبراج كان يقضي فيها الخفراء أدق الخفارة نهارا وليلا احتسابا من مفاجأة الأعداء، وكانت تلك المراقب تطل على بر شاسع وسهل واسع، وحقول مزينة بأنواع الأشجار، ورياض مرصعة بالأنوار والأزهار، تدبجت فيها الألوان هذا أبيض وذاك أخضر وذلك أحمر، وتأرجت منها الأطياب هذا ورد وذاك نرجس وذلك مسك أذخر، وبينها مجاري أنهر صافية يترقرق عذبها على ذياك العقيق، بما يذكرك العذيب والعقيق، ويسيل لجين مائها على در حصبائها، ويطيب القلب باعتلال هوائها:
لله روض في أبيطح غابة
آسادها صرعى عيون ظبائه
فلجينه من مائه، والعطر من
أرجائه، والدر من حصبائه
وقد مر بنا أن أبا وليم روبرت كان السادس في سلسلة الإمارة، وعليه يكون وليم خلفه السابع، ولما كان من غرض راوي الحوادث إفادة القارئ فائدة تاريخية، فضلا عن تسليته بما يتنزل لديه منزلة قصة؛ رأينا أن نأتي إلى حادثة ولادة وليم على طريق تاريخ موجز عن كل حلقات السلسلة الدوكية من رولو إلى وليم.
Bog aan la aqoon
وإننا لنشير على القارئ أن يستوعب هذه الخلاصة التاريخية بملء الاعتناء والمبالاة، علما بأن الأسباب الحقيقية التي قادت وليم إلى بلاد الإنكليز يتعذر إدراكها بدون الوقوف على بعض الحوادث المهمة التي تعلق بالأمراء أسلافه قبل ولادته، ولا سيما بالأميرة «أما» ابنة الأمير الثالث، كما سيأتي معنا بالخلاصة الآتية، فإن تاريخ حياتها الغريب الحوادث له علاقة شديدة مع الأسباب التي جرت وليم إلى ذلك الافتتاح الخطير، والظفر العظيم الكبير؛ ولذلك لم نر بدا من سرده بالتفصيل حتى إننا أفردنا له فصلا مخصوصا في كتابنا هذا.
خلاصة تاريخية عن الأمراء النورماندية
وأولهم: رولو من سنة 912ب.م-917:
إن رولو نفي من بلاده نروج نحو السنة 870، وبعد سنين قليلة أتى فرنسا، ولم تستقر قدمه فيها ولا تهيأ له عقد صلات السلام مع ملكها شارل والجلوس على تخت الإمارة النورماندية إلا سنة 912، وكان إذ ذاك قد طعن في السن وتقدم في الأيام، فظل خمس سنوات يعتني في إصلاح شئون الإمارة وإحكام أمورها، ثم استقال عن منصبه وخلف ابنه عوضا عنه، وطلب أن يصرف باقي حياته تحت ظلال الراحة والسلام، ومات سنة 922، أي في السنة الخامسة من استقالته.
الثاني: وليم الأول من 917-942:
هو ابن رولو، تولى الإمارة خمس سنين قبل وفاة أبيه، وقضى فيها نحو خمس وعشرين سنة بالنجاح والأمن، وقتل غدرا من عصبة سياسية تآمرت على اغتياله سنة 942.
الثالث: رتشرد الأول من 942-996:
وكان ابن عشر سنين حين غدر بأبيه، فصلاه ملك فرانسا حربا عوانا، فاضطر أن يستنجد أهل الشمال ويدعوهم إلى مساعدته، فلبوا دعوته على أنهم حملوه أخيرا أثقالا لا تنقص عن أثقال عدوه الأول الذي استنصرهم عليه، ولما تصعب عليه إجلاؤهم عن بلاده، وإرجاعهم من حيث أتوا؛ رأى أن يصطلح مع ملك فرنسا، وبهذا تمكن من طردهم في الحين، وردهم على أعقابهم منكوصين.
وكانت له بنت جميلة تدعى «أما» هذه اكتسبت شهرة عظيمة، ونالت مقاما رفيعا، وحصلت ذكرا خطيرا في عصرها كما سيأتي معنا في أحد الفصول - إن شاء الله - ومات رتشرد سنة 996 بعدما حكم 54 سنة.
الرابع: رتشرد الثاني من 996-1026:
Bog aan la aqoon
هو ابن رتشرد الأول، وإذ كان أبوه مثقلا بأحمال الحروب مع سلطانه ملك فرنسا مدة ملكه؛ احتاط هو أيضا بالمعارك المستمرة مع أتباعه سادات إمارته وأشرافها، فأرسل يدعو الشماليين لإغاثته كما فعل أبوه، وفي أيامه كانت نار الحرب منتشبة بين السكسونيين والدانيين، فجاء أثلرد مقدام الحزب الأول وزعيمه إلى نورماندي، وهناك تزوج بالأميرة «أما» أخت الدوك رتشرد الثاني - وسيأتي معنا تفصيل نتائج هذا الاقتران - ثم مات رتشرد هذا سنة 1026 عن ابنين: رتشرد وروبرت، وكان وليم الظافر ابن أصغرهما وولد قبل وفاة رتشرد الثاني بسنتين.
الخامس: رتشرد الثالث من 1026-1028:
هذا خلف أباه في الإمارة؛ لأنه كان الأكبر، أما أخوه روبرت فكان إذ ذاك في رتبة بارون، وكان عمر ابنه وليم «وهو الذي تلقب أخيرا بالظافر» سنتين، وكان ميالا كل الميل لأخذ مكان أخيه في الإمارة نظرا لما كان مفطورا عليه من الطمع في الشهرة وحب الارتقاء في سلم السيادة، فاغتنم الفرص واستعمل ما أمكنه من الوسائط في تقصير أيام أخيه، حتى مات فجأة موتا مجهولا يحمل البعض على الظن في أنه كان مسموما، على أنه لم يقم عليه دليل قاطع، وكان ذلك بعد توليه الإمارة بسنتين.
السادس: روبرت من 1028-1035:
هذا خلف أخاه بعد موته كما تقدم معنا، وقد حدته محبة الذات والشهرة على استخدام كل قوة إمارته في مساعدة ملك فرنسا على إخضاع أخيه الأصغر الذي كان يسعى في ذات مشروع روبرت المتقدم ذكره، فأتت مساعدته الملك هنري بنتائج حسنة، وقدرته على قمع عصيان أخيه وكبح جماحه، وجعلته يشعر بالشكر والممنونية لروبرت على هذا الصنع الجميل، ويظل كل أيام حياته مستعدا لإجابة كل مطالبه ومقترحاته، ثم مات روبرت سنة 1035 حين كان وليم ابن إحدى عشرة سنة.
أما ولادة وليم فكانت في غاية البساطة والحقارة مع أنه كان - كما لا يذهب من فكر القارئ - ابن أحد أولئك الأمراء «الدوكات» الذين تولوا مقاطعة نورماندي بكمال السطوة الملوكية والسيادة الباذخة، فإن أمه لم تكن زوجة روبرت أبيه، بل كانت في بدأتها بنتا حقيرة ابنة دباغ من فاليس، ولم يكن أبو وليم حين تزوجها قد تسنم غارب الإمارة، واقتعد متن السيادة، بل كان عندئذ بارونا عند أبيه حتى إنه لم يكن من المحقق أنه سيصير دوكا؛ لأن أخاه الأكبر ولي العهد كان لا يزال حيا، أما كيفية تعرفه (روبرت) بابنة الدباغ هذه، فكانت على الوجه الآتي.
بينما كان روبرت راجعا من سفارة أرسله إليها أبوه لقي بعضا من بنات الفلاحين يغسلن على شاطئ النهر، وكن جميعهن حافيات متسترات بثياب عبث بها الخلق والرثاثة، وكان بينهن بنت دباغ تدعى «أرلت» هذه أسرت ذلك البارون الشاب بجمالها، فرمقها بعين الانذهال والولوع حين مر بهن؛ لأنها كانت حسنة الطلعة جميلة العينين زرقاويتهما، وقد لاحت على وجهها تباشير اليمن والسعادة.
وكانت عوائد تلك الأيام - كما في وقتنا الحاضر - لا تبيح لمن كان شريفا رفيعا أن يتزوج بنت فلاح، وعليه فلم يكن يسوغ لروبرت أن يتخذ أرلت زوجة له، على أنه لم يكن يصده شيء عن أن يأتي بها إلى قصره ويسكنها معه؛ إذ لا يحرم ذلك سوى ناموس الله، وهذا قلما كان الدوكات والأمراء في الأجيال المتوسطة يعيرونه جانب الالتفات والمراعاة، حتى إنه إلى هذا اليوم لا يزال مهملا في البلدان التي ما برحت تحت سيادة الدوكات والأمراء الذين لا يجرون من السنن والشرائع إلا ما يرونه وفق مرغوباتهم وطبق أميالهم.
وبناء عليه فحالما بلغ روبرت القلعة أنفذ رسولا من قبله إلى القرية إلى أبي أرلت يوعز إليه أن أرسل ابنتك إلي، فأسقط ذلك الأب بيده حيرة لا يدري ماذا يفعل، وقيل: إنه كان له أخ راهب أو ناسك، وقد صرف معظم حياته منقطعا للتزهد والتبتل إلى الله في صومعة بقرب فاليس، فأرسل يستدعيه ليستشيره في هذا الشأن، فأشار عليه أن يمتثل أمر الأمير ويجيبه على طلبه كيف كان، وإذ ذاك ألقى ذلك الدباغ المسئولية على عاتق أخيه، وتسلح بمشورته، وسر قلبه بانفتاح هذا الباب الذي قدر لنفسه ولكل عائلته الولوج منه إلى ديار الرفعة والنجاح بواسطة التقرب من ذلك الأمير الخطير، وبادر في الحال إلى تحلية ابنته وتزيينها وتهيئتها كخروف إلى الذبح؛ ليرسلها إلى فاليس.
وهناك أفرزت لها غرفة داخل القلعة ذات كوى وشبابيك تطل منها على الحقول والغياض في السهول الريانة الجميلة، وقد أحبها روبرت محبة شديدة خالصة، وبالغ في إكرامها وإعزازها، ولا سيما بعدما ولدت له وليم.
Bog aan la aqoon
أما وليم فكان محبوبا جدا من أبيه، وبعد ولادته بسنتين مات أبو روبرت، وخلفه أخوه الأكبر، أي رتشرد الثالث الذي لم يمض عليه سنتان صرفهما بالحروب معه حتى لحق بأبيه، وخلا الجو له فتولى دست الإمارة في القلعة، وأصبح حاكما على كل مقاطعات نورماندي ومدنها.
وكان وليم إذ ذاك ابن أربع سنين، وقد لاحت على وجهه تباشير النشاط، وبرقت أسرته بأنوار الجمال، وأخذ يزداد إقداما وبراعة، ولم يحتقره أبوه أو ينكره كما كان المنتظر والمظنون، بل كان يفتخر جدا بأن يجلس ويشاهد حركات ألعابه الغريبة، ويقر جهارا بأنه أبوه وهو ابنه، وبالحقيقة أن وليم كان محبوبا عند جميع من كانوا في القلعة، ولما صار ابن خمس أو ست سنوات أولع شديدا بلعب العسكرية، فكان ينظم الأولاد رفقاءه جيشا صغيرا ويسحبهم حول القلعة بغاية الترتيب والتهذيب، وذلك أكسبه الجراءة والبسالة، ونفخ فيه روح العزم والنشاط، وربى فيه منظر الوقار والرزانة، بحيث بات مالكا زمام أمور عشرته ومتسلطا عليهم، فكان في يده الحل والعقد في كل ألعابهم ومشاجراتهم ومحاوراتهم وسائر شئونهم، ومجمل القول أنه نال ميزة رقته بكل سهولة إلى الدرجة التي كانت تطلبها ظروف أبيه، أعني كونه ابن حاكم نورماندي كما صار يدعى حينئذ. وبعد مضي بضع سنين عقد روبرت النية على زيارة الأرض المقدسة، ولم يبعثه على ذلك الإخلاص في الدين والتعمق في التقوى، بل حب الشهرة والحصول على البركة والعظمة اللتين ينالهما كل ملك أو أمير يزور أو يحج إلى تلك الأماكن، ولا ريب أنها كانت على روبرت سفرة طويلة مخطرة جدا. ولربما نشأ الاعتقاد بنوال البركة والعظمة بالسفر إلى الأرض المقدسة من النظر إلى ما يكابده المسافر من الأتعاب والمخاطر برا وبحرا، ولا سيما في تلك الأيام.
وكان من عادة الملوك والأمراء أنهم قبل خروجهم للسفر يقيمون معتمدا من قبلهم يكلون إليه رئاسة الأحكام وتدبير شئون المملكة في غيابهم، ويشيرون إلى من يخلفونهم في الملك إذا لم يرجعوا سالمين.
وعليه فلم يعزم روبرت على السفر حتى تشاغلت أفكار الناس وتضاربت في أمر الخلافة ومن ستعهد إليه؛ لأن روبرت لم يكن بعد قد تزوج (شرعيا) وبالنتيجة لم يكن له ابن يخلفه، وقد كان له أخوان وعم وبعض أقارب، وجميع أولئك تنازعوا طلب الخلافة، وانبرى كل منهم يستميل إليه الضباط والقواد وكبار المأمورين، ويمهد لنفسه طريق الاستيلاء على منصب الإمارة بينما كان روبرت نفسه يسعى سرا في تسمية وليم الصغير ولي عهده، على أنه لم يفه بكلمة في هذا الشأن، بل بذل جهده في تعظيم أهمية ابنه في عيون الجميع، وتشهيره في سائر الأمور.
وكان وليم يتدرج في مدارج نباهة الشأن، ويترقى في مراقي النبالة والبسالة والحزم والإقدام؛ من جمال في المنظر، ووقار في المعشر؛ حتى أصبح معزوزا محبوبا من كل الأمراء والضباط وسائر الأشراف الذين كانوا يجتمعون به كثيرا في قصر أبيه، وبعض الأحيان كان يزورهم إلى قلاعهم وحصونهم في موكب والده.
أخيرا عقد الدوك روبرت مجلس شورى من كل الأسياد والأمراء وجميع كبار بلاده وأشرافها؛ للبحث في أمر سفره إلى البلاد المقدسة، فأتوا من كل أنحاء نورماندي وكل منهم محفوف بمظاهر التجلة والتكريم، ومصحوب بفرقة من الرجالة والفرسان مدججين بآلات الكفاح والجلاد، وغارقين بالحديد والفولاذ، ولما التأم المحفل أعلن لهم روبرت قصده وعزمه على السفر، فقام واحد من الحضور - يلقب غاي كونت برغندي - وخاطبه بما يأتي: «إني حزين لأسمع أن الدوك ابن عمي ينحو هذا المنحى؛ لأني أوجس خوفا على سلامة البلاد في غيابه حين تصبح كل أحوال الحكومة ونظاماتها والأمراء والأسياد والضباط والعساكر بدون رأس».
فأجابه روبرت: «كلا، ليس الأمر كذلك؛ لأني عازم أن أخلف لكم حاكما عوضا عني» قال هذا وأشار نحو الغلام الجميل وليم الذي كان بجانبه وقال: «عندي هذا الغلام الصغير الذي - وإن يكن الآن قاصرا - لي ثقة به أنه سينمو بنعمة الله شيئا فشيئا، وأترجى منه رجلا شجاعا حكيما، فأسلمكم إياه مذ الآن وأبيح له حق الاستيلاء على دوكية نورماندي وريثا لي بمعرفتي وإرادتي، وهو ذا قد أقمت الآن دوك برتاني ليحكم على نورماندي باسمي إلى حين رجوعي، وإن لم أرجع فباسم وليم ابني حتى يدرك ويبلغ سن الرشاد» فأسقط جميع الحضور حيرة واندهاشا من جراء هذا التعيين والانتخاب، وأصبحوا على بكرة أبيهم ينازعون العجب العجاب، أما ألان دوك برتاني أحد المتنازعين الخلافة فطفح قلبه سرورا من حصوله على شرف هذه الوكالة التي دعي إليها على حين غفلة؛ لأنه كان يفضل في تلك الظروف الحكم باسم غيره على الحكم باسمه نظرا لما كان يتهدده من المخاطر والمشاق، لو فرضنا أنه استطاع أن يغتصب لنفسه الحكومة المطلقة.
وأما المنازعون الآخرون «أي: طالبو الملك لأنفسهم» فلم يعودوا يستطيعون أن يفوهوا ببنت شفة، وأما باقي الحضور فسرهم أن سمعوا خبر تمليك وليم غاية السرور، وإذ ذاك رأى الدوك روبرت أنه تهيأ له إتمام ما كان يرغبه، فعمد إلى وليم وأقامه على ذراعيه وقبله وأداره صوب الجمهور، فحدق وليم نظره فيهم، وشخص إلى عددهم الحربية بعين النشاط والزكن، وعندئذ خروا جميعهم أمامه بيانا لطاعتهم له حسب عادة تلك الأيام، وقطعوا عهدا على أنهم يعملون على الخضوع له بالأمانة والإخلاص، وقد رأى روبرت أنه ليس من الحكمة أن يترك ابنه تحت مناظرة المنافسين والمناظرين في نورماندي، وعليه أخذه معه إلى باريس وهو ذاهب في طريقه إلى أورشليم، واستودعه بلاط هنري ملك فرنسا الذي عقد جلسة خصوصية للنظر في أمر قبوله، فجلس في بهرة المحفل محفوفا بالوزراء والأمراء وسائر كبار دولته، ولما جاء الوقت المعين دخل الدوك روبرت لابسا حلة السفر وقابضا على يد ابنه وليم، وهو محاط بحاشيته وخواصه الذين أزمعوا أن يرافقوه في سفره، وسار إلى حيث سلطانه الملك هنري جالس، وخر عند قدميه علامة الخضوع والانقياد، وأمر ابنه وليم أن يفعل كذلك، فاستقبل الملك هنري وليم بمزيد الاحتفاء والإكرام بأن أخذه إليه واحتضنه، ووعد أن يسكنه قصره ويبذل غاية جهده في الاعتناء به مدة غياب أبيه.
فأعجب جلساء الملك بجمال وليم، وحسن طلعته، ونباهة شأنه، وما لاح على ساطع محياه من لوائح الحذق والنبل وتباشير العظمة والوقار مع أنه لم يكن حينئذ سوى ابن تسع سنوات.
الفصل الثالث
Bog aan la aqoon
سفر روبرت إلى الأرض المقدسة
وبعد أن قضى روبرت مدة ليست بطويلة في باريس دخل قصر ملكه هنري يستأذنه بالانصراف، وودع ابنه وليم وخرج في رجاله للذهاب إلى أورشليم، وقد لاقى في سفرته هذه صعوبات شديدة، ومخاطر عديدة لا محل للإتيان على ذكرها هنا من حيث خروجها عن موضوع هذا التاريخ الذي هو الابن وليس الأب، ومهما يكن من سفره بصفة زائر وحاج فقد كان بغاية البهرجة والإجلال، وبعدما عاج برومية لقضاء بعض أغراض تتعلق بسفره خلع عنه ثياب السفر، ولبس حلته الدوكية وجاء القسطنطينية، وهناك بالغ في إظهار غناه وعظمته، فإنه حينما دنا من المدينة امتطى بغلا مرخما (أي مزينا بأفخر زينة) وله النعال من ذهب عوضا عن الحديد، وكانت تلك النعال غير محكمة الالتصاق بالحوافر، بقصد أنها تهتز في سير البغل فتسقط على الأرض فيلتقطها جمهور المتفرجين، وغاية ما هنالك أن يندهش الأهلون وتحار أفكارهم بوفرة غنى الراكب، وعظمة ثروته، ثم غادر الأستانة واتجه نحو الأرض المقدسة، ولم يخل له الجو في تلك السفرة من تقلبات الزمان وصروف الحدثان، فإنه أصيب فيها بمرض خبيث تركه يعاني الألم الشديد ردحا من الزمان إلى أن تعافى قليلا، بحيث أرجعت له بعض القوة وأصبح قادرا على أن يستأنف المسير محمولا في سرير؛ لأنه لم يستطع الركوب ولا المشي - ولم تكن بعد اخترعت المركبات - فرتبوا ستة عشر عبدا يتبادلون حمله أربعة أربعة.
وفي ذات يوم التقى روبرت وقومه برجل نورماندي راجع إلى بلاده من زيارة الأرض المقدسة، هذا سأل روبرت إذا كان يريد أن يرسل معه شيئا إلى نورماندي، فأجابه: «لا شيء سوى أن تقول للأهل هناك أنك صادفتني على طريقي إلى أورشليم محمولا بأربعة عشر عبدا».
ثم جاء روبرت أورشليم وقضى فروض الزيارة، وخرج منها قاصدا بلاده، على أنه ما عتم بعيد ذلك أن شاع في باريس خبر موته على الطريق، وظهر في بادئ الأمر أن ذلك مشكوك في صحته أو مكذوب فيه، وظل الناس بين مكذبين ومصدقين إلى أن تحقق الخبر، وظهر صدقه بين الجميع وانتشر، وإذ ذاك طفق إخوة روبرت وأبناء عمه وغيرهم من ذوي قرباه يتهيئون لاغتصاب الإمارة، كل يطلبها لنفسه وينازع فيها الآخرين كأنهم نسوا ما أقسموا به لروبرت من العمل على طاعة وليم بأمانة وإخلاص، وأخذ كل منهم يجهد نفسه في تحصيل إكليل الخلافة له، وكان وليم في أثناء ذلك في باريس وهو ابن إحدى عشرة سنة فقط، حيث كانت تصرف العناية التامة في تهذيبه وتثقيفه، وقد وكلت المناظرة في تعليمه العلوم الحربية إلى معلم ماهر يدعى ثيرولد، فسر هذا المعلم سرورا عظيما بنجاح تلميذه وتقدمه، ولا سيما في تمرينات ركوب الخيل المختلفة الأساليب، المتنوعة الأضرب - حسب اصطلاحات تلك الأيام - وقد هذبه في استعمال الأسلحة المختلفة كالقسي والنبال والحراب وسمر الرماح وبيض الصفاح إلى غير ذلك من أدوات الجلاد والكفاح، ومرنه في لبس عدد الحرب الفولاذية التي كانوا يلبسونها في تلك الأيام اتقاء مضارب العدو من مثل الخوذة أو الطاسة والدرقة والدرع وغيرها.
فبين وليم يأخذ عن أستاذه في باريس هذه الفنون الحربية تأهبا للاستواء على عرش الإمارة، إذ قام في نورماندي عدد عديد من المنافسين والمناظرين، وتهيأ كل منهم للسبق في ميدان المنازعة، وكان أشدهم جهادا وأبذلهم جهدا في ذلك أمير أرك - وكان اسمه وليم أيضا، ولكن لكي يتميز عن الدوك وليم الشاب ندعوه أرك - وإذ إنه كان أخا روبرت ادعى بأن حق الخلافة إنما هو له من وجه أن أخاه لم يخلف ولدا شرعيا، وعليه حشد كل قواته وجمع كل رجاله وتأهب لفتح البلاد والتسلط عليها.
ومما لا يذهب من بال القراء أن روبرت قبيل سفره إلى أورشليم عهد الوكالة في الإمارة ليد ألان، وفوضه الحكم باسمه إلى حين رجوعه، وإن لم يرجع فباسم ابنه وليم؛ حتى يشب ويبلغ سن الرشاد وتوجد فيه الأهلية ليحكم على كل هاتيك البلاد، فلما بلغ ألان ما صارت إليه البلاد بشيوع خبر موت روبرت من الاضطرابات والقلاقل، وأن أرك عازم على اغتصاب الإمارة عنوة إن لم تسلم إليه باللين؛ أمر حالا بتشكيل لجنة من كبار الحكومة الذين بمساعدتهم كان يدبر شئون الوكالة، ولما تنظمت تلك الجلسة تحت رئاسته همى سيل البحث من سماء الأفكار وابلا مدرارا، وأجمع الجميع برأي واحد على قبول الدوك وليم خليفة بعد أبيه روبرت، وأخذوا من تلك الساعة يقضون باسمه، ولما أخطروا بقدوم الأمير أرك متأهبا لمصادمتهم واغتصابهم قضيب الملك؛ بادروا في الحال لملاقاته على طريق التأهب والاستعداد، وهكذا هبت نيران الحرب تتقد من تحت رماد السلام بما كان يهب عليها من رياح البغض والخصام.
وقبلما اشتعلت بين الفريقين نار الحرب ودارت رحى الطعن والضرب، جاء نورماندي الأمراء الذين كانوا مع روبرت، وكانوا على جانب عظيم من رفعة الشأن وعلو الكلمة وشدة النفوذ، حتى إن كلا الفريقين المتهيئين للقتال تمنى لو أنهم يكونون من حزبه؛ لأنهم فضلا عن اقتدارهم على المساعدة المادية لهم استطاعة عظيمة على الإسعاف الأدبي أيضا؛ لأن سياحتهم هذه الطويلة المحفوفة بالمخاطر والأتعاب أكسبتهم اعتبارا ووقارا في عيون الشعب الذي كان ينظر إليهم بعين الاحترام وفوق ذلك؛ لأنهم انتخبوا من كل أطراف الإمارة لمرافقة روبرت في تلك الزيارة، وقضوا تلك السفرة الطويلة تحت تجشم الأخطار والمشقات، وظلوا يقومون في خدمة أميرهم والسهر عليه إلى أن أدركته المنية، وكل ذلك مما كان يحدو الشعب على عدهم أخلص أصدقاء روبرت، وأصدقهم حبا له؛ فلأجل هذا ولأسباب أخر أضربنا عن ذكرها كان الشعب يتوقع النصر والفوز للفريق الذي يسعده الحظ بانضمام أولئك الأمراء إليه.
أما هم فحالما بلغوا نورماندي اتحدوا مع الفريق النازع لمبايعة وليم رغما عن اجتهاد الفريق الآخر في استمالتهم إليه، فأدخلهم ألان في ديوانه، وعلى الفور عقدوا مجلسا للبحث في شأن إحضار وليم من فرنسا وعدمه، فذهب البعض منهم إلى إبقائه في فرنسا من وجه أنه لا يزال صغيرا، وليس في وسعه أن يأتيهم بأدنى مساعدة في ساحة الوغى سوى أنه يكون معرضا أكثر منهم للأسر أو للقتل، وعليه ارتأوا أن يظل في الوقت الحاضر في باريس تحت حماية الملك هنري.
أما البعض الآخر فذهب بالعكس وصرح بوجوب الإتيان به، واحتج بأن وجوده في نورماندي وإن كان صبيا في سن المراهقة يؤثر في قلوب أتباعه نشاطا وانتعاشا، ويحدث في جميع جهات الإمارة ميلا إليه شديدا، وانتباها نحوه جديدا؛ حتى يرى أهل القلوب اللينة من نعومة أظفاره وعجزه عن القيام بطلب حقه محاميا يحتج عنه أيما احتجاج، ويجد ألوف من الشعب من ريعان حداثته، وجمال صورته، ووضاء طلعته حاديا يسوقهم إلى طاعته، وسحرا يجذبهم إلى محبته، مع أنهم كانوا ينسونه ولربما ينفرون عنه إذا بقي في باريس، وفوق كل ذلك من يقدر أن يضمن سلامته عند الملك هنري، ولربما هذا الملك ذاته يطلب حق الاستيلاء على عرش الإمارة النورماندية، فيولي عليها أحد المقربين إليه، ويحجر على وليم في أحد قلاعه، ويتركه هناك أسيرا غير مهان من حيث المعاملة، ولكن يقطع الرجاء من إطلاقه ونجاته، أو أنه يدس له سما مميتا يذهب بحياته.
فصدق الأكثرون على هذا الرأي واستصوبوه، وعليه أنفذ ألان علما للملك هنري به يطلب إرسال وليم إلى نورماندي، فأبى إرساله متصعبا متمنعا، فاضطرب الحزب الوليمي وأشفق من تحقق الظن في طلبه حق الاستيلاء والسيادة، فاستأنف طلب وليم بمزيد اللجاجة والإلحاح، وبعد مداولات ومخابرات عديدة ومعاهدات متنوعة بين ذلك الحزب والملك هنري أجاب هذا طلبهم، وسمح لوليم بالرجوع لبلاده وهو إذ ذاك في سن الثانية أو الثالثة عشرة.
Bog aan la aqoon
فخرج من باريس مخفورا بالرسل الذين أنفذهم ألان للإتيان به، وحامية قوية من الجند سارت في حراسته على الطريق ومعه معلمه الحربي ثيرولد، وهكذا جاء قصر ألان على جناح السلام والأمان، وكان لحضوره في نورماندي وقع عظيم كما كان في حسبان الذين ارتأوا ذلك - كما سبق الإلماع إليه - وقد حرك في قلوب الأكثرين عوامل الميل نحوه، فسر الجنود سرورا لا مزيد عليه بأن رأوا قائدهم الصغير مالكا زمام الملاحة، قابضا على عنان النشاط وسدة العزم منذ الصغر؛ ولا سيما لأنهم أبصروا منه في ركوب الخيل فارسا مجربا، إذ كان مغرما أشد الغرام في ركوبها منذ طفوليته، أما الآن وقد تهيأ له الحصول على أجودها وأكرمها، وأخذ عن أستاذه ثيرولد كل ما يتعلق بأساليب فن الركوب وطرائقه، فلا نعجب من أن نرى منه على ظهر الجواد قلة من القلل يجري في ميدان السباق بأسرع من وميض البرق أو جري البراق، ويدخل ساحة الحرب من أبواب تقضي بالعجب العجاب، وحوله الأمراء والأعيان والرجالة والفرسان ينظرون إلى كراته وغاراته، ويكبرون من لباقة خطراته ورشاقة حركاته، ويتوسمون طالع النصر والظفر في طالع جبينه الأنور، ويتلون في فرقان محياه:
إنا أعطيناك الكوثر ، وعلى هذه الكيفية كنت ترى وليم عند قومه، وقومه من قدومه في يومه.
وأما قيادة الجيش وأزمة الأحكام فلم تزل في يد ألان يجريها باسم وليم - كما سبقت إليه الإشارة - على أن وليم نفسه لم يعدم قوة النفوذ والسلطان، والأخذ بمجامع القلوب، بل ألان أيضا رأى أن إتيان وليم زاد كلمته علوا، وسطوته تعزيزا، وأحكامه نفوذا، ومع كل ذلك فالبلاد كانت لم تزل بعيدة عن الطاعة والانقياد هاجرة مضاجع الراحة والسكينة؛ لأن أمير أرك وغيره من طلاب الإمارة تحصنوا في قلاعهم، وجمع كل رجاله إليه وجاهر في العصيان على الحكومة الوليمية، ولا يخفى على القارئ أنه في تلك الأيام كانت كل مقاطعة من البلاد تحت سلطة أمير مستقل في ذاته، فكان يجلس في قلعته متحصنا بقواته، متمنعا بسطوة رجاله وهو حر مطلق الأمر فعال لما يريد، يجري أحكامه في البلاد على نمط الاستبداد الشديد، وينفذ قضاءه على العباد بقضيب من حديد. وكانت نيران القتال بين أولئك الأمراء مستمرة الاشتعال، كل منهم يتعدى تخوم الآخرين، ويعيث مفسدا أخذا بثأر له عندهم، أو تأديبا لهم على إساءة بدت منهم أو أنه توهمها فيهم، وكانت تلك الاضطرابات والانقلابات في إبان ثورانها حين رجوع وليم من باريس، وما برح شرها يزداد تفاقما، وخطبها هولا واشتدادا حتى عمت البلاد، وبلت العباد بالويل والخراب، وتعذر على الحكومة الوليمية أن تعود تميز بين أعدائها وأصدقائها، فإنه حدث مرة أنها أصدرت أمرا باسم وليم لأمير إحدى المقاطعات توعز إليه أن اجمع رجالك وتعال إلينا؛ فإننا في حاجة إليك في أمر ذي بال، أما هو فما كان منه إلا أن أجابها بما يأتي: عندي كثير من المشاغب والفتن التي تضطرني أن أقوم في إخماد نارها، وتصدني عن تلبية أمر آخر.
وما مر على وليم نحو من سنتين في نورماندي وحكومته أشبه شيء بدفة في البحر تتقاذفها الأمواج، حتى زاد طينه بلة حادث جديد من الملك هنري نفسه، فإنه لما كان وليم ابن خمس عشرة سنة، وذلك بعد إتيانه من باريس بسنتين أو ثلاث، أرسل إليه الملك هنري يدعوه إلى ملاقاته في بلدة تدعى أفركس بين باريس وفاليس؛ لكي يقدم له رسوم الطاعة المفروضة على دوكيته، فداخل مشيري وليم ريب من جهة ذهابه وعدمه، على أنهم أخيرا أجمعوا على وجوبه، وهكذا أعدت التأهبات اللازمة وركب وليم بمزيد الاحتفاء والعظمة لملاقاة سلطانه.
فاستغرقت هذه المقابلة بين وليم وملكه بضعة أيام، وكان لوليم قلعة في جنوبي دوكيته على متاخمة أملاك هنري، واسمها تلير يتولى حراستها ضابط أمين متقدم في الأيام يدعى دي كرسين، هذا أقامه روبرت أبو وليم على حراسة تلك القلعة، وأمده بحامية من الجند، فأخذ الملك هنري يتشكى إلى وليم بخصوص القلعة وقال: إن حراسها دائما يشنون الغارة على تخومه، ويبلون تلك الأطراف بالسلب والنهب، فأجابه وليم مظهرا مزيد حزنه وأسفه أنه سوف يتولى بنفسه البحث عن هذا الشأن، حتى إذا تحقق صدقه بادر في الحال إلى كبح جماحهم وقمع تعديهم، فأجابه الملك هنري: «هذا ليس كافيا، بل أعطني تلك القلعة فأدكها إلى الحضيض فتصبح ركاما مركوما» فساء في عيني وليم هذا الطلب، وإذ إنه كان قد تعود العمل على طاعة الملك هنري من نعومة أظفاره:
لكل امرئ من دهره ما تعودا
رأى ذاته مضطرا أن يجيب سؤاله هذا، وفي الحال أصدر أمرا في تسليمها مكرها.
فلما بلغ دي كرسين ذلك الأمر رفضه وأبى القيام بموجبه، محتجا بأن تلك القلعة سلمت لمناظرته على عهد الدوك روبرت حاكم نورماندي، وعليه فهو يرفض تسليمها لسلطة أخرى أي كانت، ولما وقف وليم ومستشاروه على هذا الجواب اغتاظوا غيظا شديدا، عالمين أن مقاومة الملك هنري في مثل تلك الظروف لا تجديهم نفعا، بل بالحري ترتد عليهم نكالا من حيث إن وليم كان عندئذ في حوزته وتحت قبضة سلطانه، فاستأنفوا إرسال الأوامر للقائد دي كرسين بأكثر إلحاح وأشد لجاجة في تسليم القلعة، فامتثل لأمرهم أخيرا وسلم مفاتيحها، وانسحب منها هو ورجاله، وإذ ذاك أجيز لوليم أن يرجع لبلاده، ولم تلبث القلعة أن دكت إلى الأرض وتركت أثرا بعد عين.
على أن هذه الحادثة آلت إلى زرع العداوة بين الحكومتين الفرنسية والنورماندية، وطوت القلوب على الضغينة والحقد، حتى إنها انتهت بشبوب حرب عوان افتتحت بأن زحف الملك هنري بجيشه على نورماندي، وطفق يفتح المدن، ويخرب القلاع، ويهدم الحصون والمعاقل، ويعمل السيف في رقاب من لم يطيعوه ، ويضرم النار في مساكن من راموا أن يقفوا في وجهه ويصدوه، وما زال يتقدم في نورماندي بين افتتاح وإخراب حتى جاء قلعة فاليس ومد عليها مطمار الحصار، فانخلعت إذ ذاك قلوب الوليميين وخارت قواهم، وأسقطوا قنوطا وفشلا لما رأوا من تعاقب الخطوب ومعاكسة الأحوال، على أنهم ما لبثوا أن نهضوا بعزيمة شديدة، واتحدوا على الذب والدفاع عن بلادهم، وتأهبوا لرفع الحصار عن فاليس، وإجلاء عساكر هنري عنها بعدما كانوا قد أحاطوا بها من كل جانب، وشددوا عليها الحصار وكادوا يفتتحونها لولا أن وليم تداركها وفل جيوش الأعداء مدحورين مذعورين. وتفصيل ذلك أن الملك هنري رشا حاكم القلعة، فوعده أن يسلمه مفاتيح الأبواب ويدخله إليها ظافرا منتصرا، وبينما هما يسعيان في تدبير هذه الخيانة قدم وليم بفرقة من النورمان الشجعان، وانطبقوا على معسكر هنري، وغاروا على المحاصرين كالأسود الكاسرة، فلما أبصرهم أهل المدينة فرحوا وتهللوا، واستبشروا بحلول الفرج وزوال الضيق، وكادوا يطيرون سرورا حالما رأوا فارسهم المدافع وليم الظافر قادما لإنقاذهم، وحينئذ تذكروه يوم كان ولدا صغيرا يلعب حول أسوار تلك القلعة، وألان جاء يرد الأعداء عن مسقط رأسه بهيئة تولي الناظرين عجبا واندهاشا، فلعبت في أعطافهم راح الابتهاج والفرح، ورفعوا أصوات التأهيل والترحاب بقدومه، أما ذلك القائد الخائن فلم يجاز على خيانته بالقتل حسب شريعة تلك الأيام، بل خلعت عنه ثيابه الرسمية وضبطت أملاكه وأخلي سبيله.
وهكذا استظهر وليم على عدوه الملك هنري، وازداد قوة ومنعة، على أن عمه أمير أرك كان لا يزال مجاهرا في العصيان عليه، وقد ساعدته التقادير بانشغال وليم بالقتال مع الملك هنري حتى خلا له الجو، فنهض من زاوية التربص، وشرع يجمع رجاله متأهبا لاستئناف المشاغب والفتن وشن الغارات إذلالا للحكومة الوليمية، وسعيا في إسقاطها وقلبها، فجمع إليه عصابته، وتحصن في قلعته أرك - وهي إلى الشمال من نورماندي على متاخمة البحر، ولا تزال أطلالها ورسومها إلى هذا اليوم - وكان هذا الأمير قد بنى في أعلاها برجا حصينا يلتجئ إليه مع نفر من رجاله عند مسيس الحاجة.
Bog aan la aqoon
فزحف إليها وليم برجاله وخيم حولها، وحصر العصاة ضمنها، أما الملك هنري الذي كان لا يزال باقيا على مقربة من نورماندي، فأخذ يتهيأ بجيشه ليأتي إلى نجدة الأمير أرك.
فلما أحاط وليم علما بقدومه ترك قسما من عسكره في محاصرة القلعة، وخرج في القسم الآخر لملاقاة الملك هنري، وانتهى الأمر بقتال عنيف دارت فيه الدائرة على الملك هنري، وحاز وليم الشاب انتصارا مجيدا.
وبيان ذلك أنه كان على الملك هنري أن يسير بجيشه في واد طويل ضيق مظلم إلى جهة قلعة أرك، فجر عساكره في مجاهيل ذلك المضيق وهم في غاية النظام والإحكام، وكان مقدم ذلك الجيش مؤلفا من كماة غارقين في الحديد، متسلحين بالأقواس الحربية والحراب والرماح وأنواع أخر من الأسلحة التي اشتهر استعمالها في ذلك العهد، ثم عقب هذه الفرقة حاملو الأثقال من خيام ومئونات ومهمات أخر حربية، ثم جاء بعدهم الخدام من طباخين وساقة مركبات وفعلة وغيرهم من الذين أتوا لإعداد الضروريات حلا وترحالا، وبعدهم دخلت فرقة القلب وفيها الملك يتقدمها مخفورا بحرسه الملوكي، ثم تلاها مؤخر الجيش.
ولما بلغ وليم أن الملك هنري زاحف إليه بذلك الجيش الكثيف ارتأى في الحال أن يكمن له في الطريق، ويجره إلى تيه سحيق، يعجل فيه اخترامه، ويوصل إلى كل هاتيك الأنحاء انهزامه، وعليه انتخب من رجاله النورمانديين أبطالا مجربين، وكماة بكل ضروب الأسلحة مدججين، وساقهم إلى مضيق وأمرهم بالاختباء على جانبيه بين الأدغال والغابات، وأوعز إلى فرقة أخرى أن تتقدمهم لملاقاة جيوش هنري وتفتح معها القتال، ثم تنكسر قدامها متقهقرة بترتيب، بحيث يتوهم الملك هنري أن هذه كل حامية وليم وقد ولت الأدبار، وأركنت إلى الفرار، فيطمع في أنه حازها ويتأثرها وهي تنكفئ نحو ذلك المضيق، حتى إذا ما تعقبها هنري بكامل جيوشه، وأصبح هو وكل عساكره في بطن ذلك الوادي طلعت عليه تلك الأسود الكامنة في غاباتها من الوراء، وانهالت على طلائعه كالقضاء، وارتدت إليه تلك الأبطال من الأمام، بعد إذ تظاهرت بالانهزام.
وهكذا تسنى لوليم بهذه المكيدة الاستظهار على هنري والفتك به، ورده ورجاله على أعقابهم مدحورين منكوصين، فإن مقدم جيوش هنري انخدع بانكسار الفرقة النورماندية أمامه، وظنها أيضا أنها كل عسكر العدو فصغرت في عينيه، وسهلت الظفر لديه؛ ولذاك غار عليها بملء الغيرة والحمية، واتصل نبأ هذا الهجوم إلى كل أقسام جيش هنري، فهاجوا وماجوا وأرغوا وأزبدوا وأبرقوا وأرعدوا، واندفعوا يتزاحمون نحو عدوهم الهارب أمامهم حتى سالت بهم تلك الأرض وارتجت من صخب أصواتهم بالطول والعرض، وما فتئوا بين دفاع وازدحام في ذلك المضيق على بعضهم البعض، وطفقوا يموجون فيه ويخطرون، ويطلبون الأعداء ولا ينظرون، وبينما هم كذلك انطبق عليهم الكمين من الوراء انطباق القدر، ورجع إليهم المنهزمون وانصبوا انصباب المطر، ومطرتهم سماء المنون بسهام ورماح وحراب لا تبقي ولا تذر، حتى انطرح منهم في الحال مئات، وتمنى الأحياء بينهم لو سبقوا الأموات، وما برحوا يخرون صرعى المنون في تلك الوهاد، ويرون عدد ضراغم النورمانديين الخارجة من عرنها في تكاثر وازدياد حتى زهقت من جميعهم الأرواح، وتيقنوا حلول الأجل المتاح، فأخذوا يتدافعون ويلتطمون ويزحمون بعضهم بعضا، ويدوسون بعضهم بعضا لعلهم يجدون إلى الحياة سبيلا، أو ينقعون من ماء النجاة غليلا، حتى سقطت موتاهم في تلك القفار طعاما لطيور السماء ووحوش الفلاة، وفر أحياؤهم لا يلوون إلا على الخزي والعار وهم يقولون: النجاة النجاة.
وبالجهد قدر الملك هنري أن يلم شعث رجاله الطوال الأعمال الذين تفرقوا تحت كل كوكب في هاتيك الأنحاء، فظل أكثر من يومين ينشدهم بين النجاد والوهاد، حتى جمعهم شرذمة قليلة العدد، وخيم بهم في بقعة صغيرة.
ومهما يكن في نبأ هذا الانتصار من العجب والانذهال، فهو دون الطفيف في جانب النظر إلى اتضاع وليم وكرم أخلاقه وصدق عاطفته؛ لأنه وهو معدي عليه أولا، وظافر قاهر آخرا بادر في الحال وقدم لملكه هنري رقيم الطاعة، يفصح فيه عن أسفه على ما جرى، ويبين له استمراره على الرضوخ له، وحسبانه ملكه وسلطانه، واستعداده للقيام بكل ما يندبه إليه من المهام والأعمال إصلاحية كانت أو دفاعية، واتكاله عليه في شق عصا العصاة، وإرغام أنوف البغاة العتاة، على أن وليم وإن أقر باحتياجه إلى إمداد سلطانه، فقد تعلم منذ نعومة أظفاره أن يعول على ذاته، ويحك جلده بظفره؛ ولهذا ما عتم بعد أن خبت نيران الحرب بينه وبين هنري أن زحف على قلعة أرك، وحالا افتتحها عنوة، وعفا عن أميرها. وتلك كانت خاتمة الثورات، وأرك آخر الثورة.
وعندها ركب وليم راجعا لفاليس منتصرا مظفرا تخفق فوق رأسه أعلام النصر والغلبة، وتسير أمامه مواكب العز والاحتفاء، وهكذا جلس على عرش الإمارة يدبر الأحكام بالسلام، وطائر الأمن والمسرة يشدو فوق الربوع النورماندية بأطرب الأنغام.
الفصل الرابع
ملك وليم في نورماندي
Bog aan la aqoon
ثم مضى على وليم منذ تربع على دست الإمارة يدير شئونها تحت ظلال الأمن والسلام إلى وقت حمله على بلاد الإنكليز زمان طويل ينيف على العشرين سنة، وكان في غضون هذه المدة مشغولا في إدارة الأحكام، بيد الإتقان والإحكام، ومنصرف العناية نحو تشييد المعاقل وإقامة الحصون والقلاع، وبناء المدن والقرى والضياع، والتنكيل بأهل الفساد والعدوان، وقطع دابر الشقاق والعصيان، وسن الشرائع والقوانين المدنية في كل البلاد، وتنفيذ الأوامر على وجه الحق والسداد، وقد اعترك في ميدان حياته جملة من فرسان الحوادث، ونازلها بثبات نستصغر لديه كبار الكوارث، وها نحن الآن نأتي على واحدة منها تبصرة للقارئ وذكرى.
وهي أنه عقدت ذات يوم مؤامرة على اغتياله والفتك به سرا، وكان مقدام هذه الغارة وإصبع تلك الإشارة عمه المدعو «غي أف برغندي» وأما هتك ستارها وكشف أسرارها فتم بواسطة ظريف كان في بلاط وليم بصفة ماجن، أي رجل يتعاطى الهزل كأبي نواس عند هارون الرشيد، وكان المجان في تلك الأيام غاية في الكثرة، بحيث لم يخل قصر كل ملك أو أمير من واحد أو أكثر منهم، وكان بعضهم لا يمتازون عن المجانين من حيث الغرابة في التصرف والهجنة في الأخلاق، والتناهي في الحمق والبلاهة، وبعضهم متناولين من العته والخبل على الأقل نصفه، وكنت تراهم يعتورون الغريب إلى نهايته في الملابس ، ويدركون الزخرفة غايتها في الزينة على اختلاف الألوان، وتضارب أنواعها، ويلبسون البرانس والقلانس (العراقي والطواقي)، ويعلقون الرخوت (الأجراس) المختلفة الأنواع، ويجلسون في المحاكم آخذين بأطراف المجون والمزاح، وكان اسم ماجن وليم «غالت».
أما غي أف برغندي وأتباعه فانقطعوا إلى قلعة منفردة موحشة على متاخمة نورماندي، وهناك طفقوا يجتمعون لأجل استتمام مقاصدهم وتسديد مكائدهم، وحشد رجالهم وتعزيز قواتهم تحت ليل الاحتيال والدهاء، في ظلام الغموض والخفاء، وقبلما تهيأ لهم إتمام مكيدتهم حدث أن وليم خرج للصيد إلى قفر يجاورهم في عصبة من حاشيته، وكان غالت الماجن بينهم.
فلما بلغ غي وأتباعه المغتالين قدوم وليم إلى تلك الأطراف أجمعوا على إنفاذ مؤامرتهم، والاستئثار به عند رجوعه، وعليه انسحبوا من مخابئهم بين محاجئ الصخور واحدا واحدا لكي يدفعوا عنهم مظنة التآمر، وأتوا مدينة تدعى بايكس ينتظرون فيها رجوع وليم، وهناك عقدوا مؤامراتهم السرية، وارتأوا الآراء النهائية، ثم بعثوا بعصبة من رجالهم إلى مفارق الطرق التي كانوا يتوقعون مرور وليم فيها، وأوعزوا إليهم أن يتعهدوه بعين الضبط والانتباه، ويسدوا دونه كل أبواب النجاة، وهكذا أتوا على آخر إجراءاتهم بطريق التستر والخفاء، وجعلوا يقطعون بتحقق أمانيهم بلا مراء، والله من وراء ما كانوا يعملون.
فحدث أن بعضا من أتباع وليم سبقوه في الرجوع، ومن جملتهم الماجن غالت، وقدموا أبايكس يوم حلتها إقدام أولئك المغتالين، أما أهل تلك المدينة فلم يعلموا شيئا من أمر أولئك الثائرين؛ لأنه كثر حينئذ تردد العساكر إلى بلدتهم فرسانا ومشاة، فلم يستطيعوا أن يفرقوا بين أصدقاء وليم وأعدائه، أما غالت فبعدما طاف في أنحاء تلك البلدة، ورأى فيها عددا عديدا من الضباط والجنود التي لم يعرفها من رجال أميره، وجد في ذلك ما يستميله للانتباه، ويدعوه للملاحظة، فشرع يراقب حركات أولئك الغرباء بملء الفطنة والذكاء، ويصغي إليهم على حين كان يتظاهر بعدم الإصغاء، لعله يصيب منهم كلاما كانوا يخاطبون بعضهم بعضا به وهم متجمعون فرقا هنا حشد وهنالك اجتماع، أو سائرون في الشوارع مثنى وثلاث ورباع، حتى توفق بآرائه السديدة ، ودقة ملاحظاته العديدة، إلى هتك ستار المؤامرة وكشف حجاب المكيدة، وعلى الفور خلع عنه برنسه وأجراسه ولباسه، وخرج يعدو ملتهبا بنار السرعة في التفتيش على وليم ليقص عليه الخبر، وينذره بدنو الخطر، فاهتدى إليه في قرية تدعى «فالنجس» وكان وصوله إليها ليلا، فاندفع نحو المخدع، حيث كان وليم نائما، مزاحما الحراس مدافعا الخدم الذين لم يبدوا في وجهه إلا بعض الممانعة لسبب تعودهم عليه، وتحققهم سماح وليم له في كل وقت بالمثول لديه، ثم نادى بأعلى صوته موقظا أميره من سباته، مخبرا إياه بشدة الخطر الذي دنا من حياته، أما وليم فلم يصدق غالت في بادئ الأمر؛ إذ لم ير سببا لهذا الخوف كله، على أنه ما لبث أن اقتنع بصحة كلام ماجنه، وأيقن بصدق إنذاره، فنهض يلبس ثيابه بيد السرعة، ولم يأتمن أحدا على نفسه في تلك الساعة شأن الملوك والأمراء حين اكتشافهم للمكائد المنصوبة لهم؛ إذ لا يعودون والحالة هذه يعرفون المخلصين لهم ليتكلوا عليهم، وهكذا ذهب وليم بنفسه وأسرج حصانه بيده وركبه، وخرج يبذل في شاكلته المهماز، ويرد صدور الأرض على الأعجاز.
وبالحقيقة إن باب النجاة الذي خرج منه كان أضيق من سم الخياط؛ لأنه في وقت إسراع غالت إليه في فالنجس قدم المغتالون إلى تلك القرية نفسها، ومدوا عليها مطمار الحصار، وكانوا على أهبة الهجوم على محلة وليم للإيقاع به في ذات الساعة التي خرج فيها طالبا الفرار موليا الأدبار، حتى إنه لم يبعد قليلا في عدوه إلا طرق أذنيه صوت وقع الحوافر على الطريق خلفه، وصليل أسلحة العساكر من الأعداء الذين لما رأوه أركن إلى الهزيمة خرجوا يتأثرونه ليوردوه حتفه، فارتأى أن يسرع في التعريج من أمامهم إلى غاب كثيفة يختبئ فيها، ويتركهم يذهبون يطلبونه من حيث لا يجدونه، فأقام في ذلك المخبأ برهة قصيرة، ثم خرج منه متحرزا، ولم يجسر أن يعمل على المسير في الطريق العمومية مع أن الوقت كان ليلا، بل اعتسف منها في القفار المهجورة والمسالك المجهولة التي انتهت به أخيرا إلى شاطئ البحر، وعند فلق الصبح مر بقصر كبير، وعلى حين لم يكن يخطر بباله أن يرى أحدا في وقت كهذا استوقفه بغتة منظر رجل في بوابة القصر مدججا بسلاحه، تلوح على وجهه سمات الانتظار - وقد كان بالحقيقة منتظرا حصانه - فتعرف وليم حالا، وخاطبه بلسان الاندهاش قائلا: «أليس من العجيب أن تكون أنت هذا الرجل يا سيدي الدوك وليم؟» فقد أعجبه جدا أن يرى أمير نورماندي وحاكمها خارجا في وقت كهذا، أو في حالة كهذه وحيدا معيبا وثيابه غير مرتبة من جراء السرعة التي كان فيها حين لبسها، وجواده منقطع النفس، وعليه من الغبار ستار كثيف، وهو على وشك السقوط عياء وتعبا، فلما رأى وليم أن قد شق ستر الخفاء عن محيا أمره لم يعد له ندحة عن أن يقص لذلك الرجل قصته، وظهر إذ ذاك أن هذا الرجل كان هاربرت أحد الثائرين المتواطئين على اغتيال وليم.
وقد انفرد في ذلك القصر لهذا القصد، ولأمر يريده الله رجع عن تلك الغاية وقال لوليم: «ما من داع يدعوك إلى الخوف، علي نجاتك وسوف أسعى في إنقاذ حياتك كأنها حياتي» قال هذا وأهاب ببنيه الثلاثة الذين كانوا من الأبطال المجربين والشجعان المنتخبين، وأوعز إليهم «أن اركبوا خيولكم وكونوا على أهبة السفر» ثم أدخل وليم قلعته، وسعى بإحضار ما تسنى من الأطعمة والأشربة سدا لجوعه الشديد، ونقعا لظمئه الذي لم يكن عليه من مزيد، ثم خرج به إلى عرصة الدار، حيث أراه الفرسان الثلاثة راكبين مستعدين لأن يرافقوه، وفرسا كريما من جياد الخيل مسرجا له فامتطاه، وأمر هاربرت بنيه أن يوصلوا وليم إلى فاليس على جناح السرعة والأمان، وأوصاهم أن لا يستطرقوا الطرق العمومية، ولا يمروا على مدينة أو قرية في الطريق، وهكذا أطاعوا الأمر وذهبوا به على نحو ما أوصاهم أبوهم إلى فاليس، وفي صباح ذلك اليوم بعد خروج وليم من قلعة هاربرت، جاءها مطاردوه يفتشون عليه، وسألوا هاربرت عما إذا كان رآه مارا من هناك، فأجابهم بالإيجاب وامتطى في الحال جواده ، وأشار لهم أن يتبعوه ليدلهم على الطريق التي سار فيها وليم، وألح عليهم في الإسراع لعلهم يدركونه قبل أن يتوارى عنهم في أحد المخابئ، أو يصل حيث يتعذر عليهم متابعته، فحثوا الركاب بجد يفوق الحد وهاربرت يسير أمامهم، ويعدهم أنهم سوف ينالون مرامهم، ولكنه إذ ذهب بهم في غير الطريق التي اتخذها وليم كانوا يبتعدون عنه أكثر فأكثر.
وأخيرا رأوا أن لا فائدة من تأثره فانكفأوا مع هاربرت راجعين إلى قلعة تحت راية الحبوط والإخفاق، في وقت وصول وليم وبني هاربرت الثلاثة إلى فاليس بسلام.
وإذا ذاك رأى أولئك الثائرون أنه يستحيل عليهم البقاء تحت غاياتهم المستترة بذيل الخفاء والغموض، وتيقنوا أنهم أصبحوا عرضة لخطر هجوم وليم عليهم بعساكره، وإهلاكهم عن آخرهم، فلم يعد لهم والحالة هذه بد من إجراء أمرين؛ وهما: إما الهزيمة على جناح السرعة، أو المجاهرة بالعصيان، فأجمعوا على الثاني، فدارت بينه وبينهم حرب عوان دارت فيها الدائرة عليهم، ورجع كيدهم إليهم، إذ نازلهم فأصاب منهم كل مضرب، واستظهر عليهم ففرق شملهم تحت كل كوكب، وأكثرهم سقطوا بين يديه أسرى، فأذاقهم من مر القصاص ما جعلهم للغير عبرة وذكرى، وكان من جملة ما قاصهم به أنه ارتأى أن يصنع تذكارا لانتصاره هذا، بأن يمد طريقا عموميا في البلاد على الخط الذي سار فيه يوم كان هاربا من وجه أعدائه مع أولاد هاربرت، ويكلف الأسرى العصاة إنشاءه.
وقد أتى هذا المشروع بفائدة عظيمة لذلك القسم من البلاد؛ لأن طرقها القديمة كانت في غاية الصعوبة على السالك فيها بسبب تراكم الأوحال عليها؛ نظرا لانخفاض أرضها وانغمارها بالمياه في أكثر فصول السنة حتى كنت تراها كلها مستنقعات، وهكذا أخذ أولئك العصاة يشتغلون في تمهيد تلك الطريق السلطانية مكابدين الأتعاب والمشقات حتى أكملوها، فكانت خير مشروع حصل في ذلك العهد، فتطرقتها أبناء السبيل، وانطلقت ألسن سكان ذلك القطر على وليم بالثناء الجميل والشكر الجزيل، وما برحت آثار تلك الطريق إلى هذه الأيام شاهدة لوليم بحسن الصنيع، وسائقة له الرحمة والرضوان من ألسن الجميع.
Bog aan la aqoon
وكانت مساكنهم قلاعا عظيمة مبنية على تلال رفيعة، ومهما يكن من حسن آثارها الباقية لهذا اليوم، فقد كانت غاية في عدم الترتيب والنظام، وكنت تراهم في غاية الفرح والابتهاج يوم كانوا يرون بعض أصدقائهم مسرعين إلى الالتجاء عندهم من وجه الأعداء، أو حينما يصقلون أسلحتهم ويعدونها استعدادا للخروج في أخذ ثأر أو شن غارة، وأما في وقت السلام فكنت تراهم بغاية الكدر والانكماش، ويصعب علينا في هذه الأيام أن نتصور فراغ تلك القلاع والحصون من وسائط الراحة وأسباب الأمنية، فإنها كانت مبنية - كما تقدم الكلام - في أماكن يتعذر الصعود إليها، وتلك الصعوبة الطبيعية من جراء الموقع كانت تزداد منعة وصعوبة، بواسطة الأسوار والأبواب والمعاقل والحفر والأبراج والجسور التي كانت ترفع بعد المرور عليها، فالأبواب كانت عبارة عن كوى في الحيطان على علو عشر أو خمس عشرة قدما من الأرض، ولها المرافئ تدلى من الداخل، فيصعد عليها الأصدقاء والأصحاب، أما من داخل تلك القلعة فكانت الأرض مرصوفة بالحجارة، والحيطان عريانة، والأغمية (السقوف) معقودة من حجارة غليظة، والغرف صغيرة بعضها فوق بعض طبقات متتابعة، وكانت على صغرها كالقبور والسراديب المظلمة لا يزينها شيء من شبابيك أيامنا الواسعة المبهجة التي فضلا عن فائدتها في إدخال النور إلى داخل البيت تمتع الناظر منها بالإطلال على المناظر الجميلة والمشاهد البديعة، ولم يكن كتب في تلك المساكن الموحشة، لا أثاث سوى الأسلحة، ولا مسرات غير المسكر والطيش بملاهي الأعياد والمواسم.
ولم يكن أمراء ذلك العهد وكبراؤه يستطيعون أن يشغلوا نفوسهم بأمر مفيد، فلم يروا شيئا أشهى إليهم من الحرب، وكانوا يشيحون بوجوه باسرة عن جميع وسائل الدأب وطرق السعي، فحراثة الأرض وتربية المواشي ومعالجة الصنائع والمعامل والمتاجر وغيرها من الذرائع التي يتوخاها الإنسان لنفع بني نوعه كانت بالكلية غير معروفة عندهم، بل محتقرة لديهم، ولك أن تستدل على صحة هذا القول من النظر إلى الباقين من ذريتهم في الوقت الحاضر، فإنهم حتى في نفس إنكلترا ينظرون هذا النظر، ويرتأون هذه الآراء، فبنوهم الأصغرون ينخرطون في سلك العسكرية البرية أو البحرية، ويصرفون حياتهم بالقتل والإفساد وبدون خجل، تحت ظلال الكسل وارتكاب القبائح والرذائل، وأما أن يتعاطوا للعمل سببا من أسبابه الحقيقية التي عليه يتوقف مجد إنكلترا وعظمتها، فذلك عندهم وصمة وعار أبديان؛ فالشاب الشريف منهم يخدم كأدنى الشعب في سفينة حربية، ويقبل على خدمته أجرة بدون أن يحتسب ذلك حطة لقدره، ولكن أن يبني سفينة حربية ويؤجر عليها يعده تعريا من شرفه، وسقوطا من رتبته.
وبالنتيجة فقد كان السلام للأمراء والأشراف في عصر وليم مدعاة القلق، ومجلبة السأم والضجر، فلم يكن يستكن لهم مضجع ولا يهنأ عيش بدون إصلاء نار الحرب وشهود مواقع القتال، وذلك لا ريب في أنه كان من جملة البواعث التي كانت تدفع الأمراء إلى المؤامرة على وليم، وشق عصا الطاعة له.
على أنه كان لهم سبب جوهري لمقاومته في حق الملك، وهو أنه كان يشق عليهم أن ينظروا من رجل كوليم واطئ النسبة، بل خسيسها ومرذولها من حيث الأم، وارثا لخلافة عظيمة كدوقية نورماندي، وقد اعتاد أعداؤه أن يقذفوه ويشنعوه بألقاب مستهجنة يشتقونها من مصادر حوادث ولادته، ومع أنه كان صبارا على الأذى، وكريما يعفو عن إساءة الآخرين، كانت تلك الإهانات المطبوعة على ذاكرة والدته كحمة تلسعه في جلده، وتستثير كمين ضغنه، ودفين حقده، وتحيي فيه روح الغل والكشاحة، ويؤيد ذلك هذه الحادثة - وقد وردت في أكثر تواريخ وليم المكتوبة - اتفق في أحد حروبه أنه زحف في البلاد لمهاجمة قلعة حصينة، كانت فضلا عن مناعة أسوارها وحصونها الطبيعية محصنة بحامية قوية كثيرة العدد، ولعظم ثقة هذه الحامية بشدة قوتها وكثرة عددها جردت إذ سمعت بقدومه فرقة لملاقاته، ليس لكي تفتح معه حربا جهارية، بل بقصد أن تكمن في الطريق وتفاجئ مقدمة جيشه على حين غفلة وهو غير حاذر عدوا قريبا، وبعيد عن نجدة باقي العساكر.
ولكنهم لم يجدوا كما عهدوا، فإنهم في الحال ذعروا من مكمنهم، ونكصوا على أعقابهم هاربين أمام وليم ورجاله الذين تأثروهم على الأعقاب، وبالجهد استطاعت تلك الفرقة أن تصل القلعة وترفع وراءها الجسور، وتوصد خلفها الأبواب في وجه المطاردين قبل أن أدركها وليم ومد عليها بعساكره مطمار الحصار.
أما حامية القلعة فامتعضت من خيبة تلك الفرقة امتعاضا، وملئت صدور عسكرها على إخفاق مسعاهم انكماشا وانقباضا، وقد أحفظهم أن تلك الفرقة لم تفشل في سعيها فقط، بل دحرت أمام عدوها لا تلوي إلا على الخزي والعار، ولم تنج من فتكه إلا بعد شق النفس، وقد تعقبها موقعا فيها الفضيحة والذل والانكسار، ولكي يسلوا سخيمتهم، ويميتوا ضغنهم، ويردوا على وليم الكيد الذي كادهم به صعدوا إلى أعالي الحصون والأسوار، ومن هناك أطلوا عليه وطفقوا يرمونه بأعلى أصواتهم بألفاظ الشتائم والمسبات، ويقذفونه بالإهانات والتعييرات حتى إذا فرغت منهم حياض الشتائم، ولم تبرد شيئا من غليل الضغائن والسخائم، عمدوا إلى مشترى ما استطاعوه من الأدم «جمع أديم وهو الجلد الأحمر المدبوغ» ومآزر الحور «السختيان» وغيرها مما له علاقة بصناعة الدباغة، وأخذوا ينشرون بأيديهم على مرأى وليم وعساكره، وهم يجهدون بأصوات التهكم والاستخفاف كأنهم يذكرون وليم بجده أبي أمه الدباغ، حتى أوغروا صدره حردا واحتداما، وغادروا مراجل السخط تضرم في قلبه إضراما، واضطروه أن يشير في الحال إلى فرقة من رجاله بهجوم شديد، فكروا كر الصناديد، واندفعوا بقوة التحمس ينقضون انقضاض البواشق، وينشبون نشب الصواعق، وإذ لم يقع في أيدهم أحد من حامية القلعة المنظمين داخلها استعاضوا عنهم بمن وجدوه من القلعة خارجها، وأتوا بهم أسرى بين يدي وليم، فأمر في الحال أن يمزقوا قطعا قطعا، ويرموا بالمقاليع الكبيرة من فوق الأسوار إلى داخل القلعة.
وفي أثناء هذه المدة التي يحيط هذا الفصل بتاريخ حوادثها في فترة الحروب النورماندية التي كان وليم يتمتع بسلامها وسكونها بعض الأحيان، حدث أن هنري ملك فرنسا عصت عليه بعض مقاطعاته، فخرج وليم بجيش من النورمانديين يشد أزره في إخضاعهم، فسر هنري في البداءة وشكر لوليم على هذه الأريحية والمساعدة في إبان الاحتياج إليها، لكنه ما عتم أن غمطها، وأخذ ينظر بعين الغيرة والحسد إلى ما حازه وليم من علو الشهرة ورفعة الشأن وهو بعد لدن الإهاب غض الشباب غير متجاوز الأربع والعشرين سنة، ويده تدبر حركة القيام بكل شيء بمزيد السرعة وغاية النشاط والدقة، فكان يشهد معامع القتال، ويخوض المعارك بعزم أسود الدحال، ويدير الحصار بإرشادات تحير العقول، وشجاعة تخور لديها عزائم الأبطال، حتى استمال إليه قلب كل إنسان، وأصبح موضوع مدح أبناء ذلك الزمان سوى الملك هنري، فإنه طوى قلبه على البغض له والحسد، إذ وجد أنه قد خلفه بل سلبه حق الاعتبار والاحترام الذي كان يناله من الشعب، وأمسى لديه أهون من النقد، وأذل من بيضة البلد.
وكان يظهر من بعض الحوادث الخصوصية شجاعة لوليم تقضي على عساكره بالعجب والاستغراب، وتحدوهم على الهتاف بأصوات الاستجادة والاستحسان، وهذه كانت تشاهد منه في الغالب عند إقدامه على صفوف الأعداء، أو نجاته من مطاردين تفوق كثرتهم الإحصاء، وقد كان لحسن الحظ وسعد الطالع يد في توليد هذه النتائج ربما أطول من يد القوة والشجاعة، ولعل حسن حظ الجندي في تلك الأيام كان على مدحه باعثا لا يقل عن باعث قوة عضلاته وشجاعة قلبه، وبالحقيقة إن هذا الاعتبار في محله، وهو حق لا ريب فيه؛ لأن قوة الذراع وبرودة الشجاعة بل ضراوتها وغيرهما من مسببات الكر والإقدام في ساعات الحروب هي صفات أخلق بالوحوش منها بالناس؛ لأننا إنما نستحسنها في الأسد أو النمر، ولكننا نحكم بشجبها ولعنها حينما يستعملها الإنسان ضد أخيه الإنسان منساقا بفجور البغض ودعارة الانتقام.
وإليك واحدة من طرف نجاح وليم الخارق العادة؛ وهو أنه أراد مرة أن يتجسس أعداءه، فذهب مصحوبا فقط بخمسة أمراء من حرسه الخاص حتى أشرفوا على معسكر العدو، وفي زعمهم أنهم غير مراقبين، ولكن وقعت عليهم العين في الحين، وانتقي اثنا عشر من الفرسان المعدودين وأنفذوا للإيقاع بهم على الطريق، فسارت هذه الفرقة وكمنت لهم في مكان كان لا مندوحة لهم عن المرور به، حتى إذ دنوا منه طلعت عليهم، وأمرتهم أن يسلموا قبل أن يتكلموا؛ لأن الستة أمام الاثني عشر لا ترى غير الفرار سبيلا، وليست المقاومة تجديها فتيلا، على أن عزة النفس وثبات القلب في وليم أبيا إلا الإقدام والهجوم على الكمين، فهز رمحه وقومه، وهمز جواده وأقحمه، حتى صار قدام مقدم الفرقة فابتدره بطعنة أكبته على الحضيض، ووهبته أن يسر إلى الأرض مركاس الجريض، ثم أعادها على من تلاه، فصرعه مجندلا على قفاه، وعند ذلك اقترب إليه حرسه الخمسة مكبرين متحيرين.
وكان قد نما خبر الواقعة إلى جنوده، فعدا لإغاثته نخبة من أبطاله المجربين، أما العشرة الذين سلموا من فرقة الكمين، فأركنوا إلى الفرار ووليم وحرسه يجدون في تأثرهم، فأدركوا سبعة منهم وشدوا وثاقهم، والثلاثة الباقون لم يستطيعوا لحاقهم، فرجع وليم ورجاله بالأسرى يطلبون الخيام، وفي طريقهم التقوا بالملك هنري يتقدم ثلاثمائة رجل من عسكره مسرعا إليهم، وإذ ذاك كان لوليم من رؤية نفسه راجعا منصورا، ومن استماعه حرسه الخمسة يقصون أخبار بسالته وثبات جنانه في ذلك الخطر، ومشاهدته جميع القواد والعساكر يضجون بأصوات تعظيمه - أسباب جوهرية تحمله على العسكر براح الابتهاج، وتبعث بالملك هنري على تجرع ما من دونه المر الأجاج.
Bog aan la aqoon
وعلى هذا المنوال كان وليم يعصم لذاته علو المكان ونفوذ السلطان، وينكل بأهل البغي والعدوان، ويدوس شوكة التمرد والعصيان، حتى دانت له المصاعب وذلت رقاب المتاعب، فقام يدير شئون إمارته ويدبر أحوالها بيد الحكمة والدراية على طريق الحق والسداد، ثم وجه نظره نحو التدويخ والافتتاح، وضاقت عليه نورماندي فنزع إلى التوسع بغيرها، وفي غضون ذلك تزوج، ولما كانت حوادث زيجته لا تخلو من الغرابة آثرنا أن نجعلها موضوعا للفصل القادم.
الفصل الخامس
الزيجة
من جملة المسائل الهامة التي تعرض لمتسلط عظيم في قيامه بمهام سلطته الإرثية مسألة زواجه، فإن منازعيه وهم لا يرون بعد له ولدا لا يفتئون يخفون له المكائد، وينصبون الأشراك مترصدين لاغتصابه حق تلك السلطة فرصة تعيقه عن صدهم من نحو مرض أو حرب وغيرهما، واعتبار هذا الخطر كان أقرب توقعا وأشد هولا في عيني وليم الذي كان مزاحموه يحتجون سرا وعلنا أن حقهم في التربع على دست الإمارة أعظم من حقه حيا، فكم بالأحرى ميتا! وذلك كان باعثا كبيرا على جعل الأفكار تهجر مضاجع الراحة والسكون، والخواطر تحمل برياح القلق والتشويش في سائر أنحاء نورماندي، فالواسطة الفعالة إذا في تسكين جأش الأفكار أن يكون لوليم ولد؛ ولذا أصبحت زيجته قضية عظيمة الأهمية، وفي الحقيقة إن المقربين إليه من أمراء وقواد كانوا يلحون عليه غاية الإلحاح في قضاء هذه المسألة، من وجه أن إتمامها يكون زينا يطفو على وجه تلك الهواجس والبلابل، ويبيت دونها ودون أهواء الخواطر أعظم حائل، وعليه أخذ وليم يفتش على زوجة.
وظهر أخيرا أنه ليست مصلحة السياسة التي كانت تدعوه إلى ذلك فقط، بل الحب أيضا وجد عاملا في قلبه، وحداه على تحري البحث والاستقصاء، وبالواقع أن تلك التي أطلق نحوها ناظر الطلب كانت جديرة بالحب، ألا وهي أميرة من أجمل وأفضل أميرات أوربا في ذلك الزمان، ابنة أمير عظيم كان متسلطا على بلاد فلندرس شرقي نورماندي على شواطئ الأوقيانوس الجرماني الجنوبية، وكان أبوها الملقب بأمير فلندرس حاكما مطلق السلطان، وقائدا لقوة حربية عظيمة، وكان لعائلته من باذخ الشرف وعلو المكانة وعظمة الاعتبار ما لأعظم عائلة بين أمراء أوربا وأسيادها، وكانت تتصل برابط الزيجة بعائلة إنكلترا الملوكية، حتى إن متيلدا ابنة هذا الأمير التي اختارها وليم زوجة له كانت بموجب جداول أنساب ذلك العصر متسلسلة على خط مستقيم من ذات الملك ألفرد العظيم، ذلك ما عظم شأنها على الخصوص في عيني وليم وكبر لديه فائدة الاقتران بها، على أنه كان في المسألة نسبة عصبية أقامت عائقا في طريق إتمامها، وهي أن أبا متيلدا كان ينتسب أيضا إلى النورماند كما إلى سلالة الإنكليز بنوع يجعل متيلدا ووليم ابني عم، وإن كان عن كلالة وليس لحا، وهذا وجه الصعوبة والاضطراب في هذه القضية.
أما متيلدا فكانت أصغر من وليم بسبع سنين، وقد نشأت في قصر أبيها واتسع نطاق شهرتها وحلق طائر صيتها في الجمال والفضل، ولا سيما في صناعة التطريز التي كان لها شأن عظيم في تلك الأيام التي صنعت فيها المنسوجات الملونة بغية تعليقها على حيطان الغرف المزخرفة في قلاع العظماء وقصور الملوك لتستر عري حجارتها، وكانت في أول عهدها بسيطة، ثم ترقت حتى صارت حواشيها تطرز بأنواع مختلفة، واتخذتها النساء أخيرا شغلا لهن في ساعات الفراغ، بل وسيلة ينفس بها لبعضهن كرب النفس من طول الحصر والتحجب داخل القلاع والحصون، فكن يطرزن كثيرا من الملاء «جمع ملاءة» لأغراض تختلف بين التعليق في الغرف والإهداء إلى الصديقات، أما شهرة متيلدا في هذا النوع من الشغل فكانت واسعة وشاسعة، وقد قيل: إنه كثيرا ما كانت هذه الأعمال الباعث تحصيلها على النساء أيام الصبوة بالتعب والمشقة تترك بعد زواجهن نسيا منسيا؛ وذلك كان ليس لأنهن لا يعدن يجدن من لذة في مزاولتها، لكن تراكم الأشغال المنزلية من جهة، وحفظ أشغال الحياة الزوجية وما يخالطها من الحزن والكدر غالب الأحيان من جهة أخرى كانت تحول دون تفرغ قلوبهن للتسلية واللهو بأعمال العزوبة، على أنه لم يكن الحال كذلك مع متيلدا.
وربما عدنا إلى الكلام على هذا التطريز عند ذكر الوقائع التي صنع لكي يدل عليها ويشير إليها، أما الآن فنرجع إلى قصة الزيجة ونقول: إن المخابرات بشأن الزواج كانت تجري بين الأمراء والأميرات على طريقة رسمية بواسطة مبعوثين وسفراء ونواب كثيري العدد، وكان من صالحهم الخصوصي أن تلقى العراقيل في طريق إتمامها تذرعا إلى نيلهم بذلك منافع ذاتية، وفضلا عن هذا كله تبين حالا أن في المسألة موانع أخر صعبة تتهدد نجاح مساعي وليم المتعددة؛ منها كراهة الأميرة وعدم ميلها بالكلية لإتمام ذلك، ولقائل يقول: كيف استطاعت أن تبغض وليم وهو رجل طويل النجاد، دامي المناصل، جميل الطلعة، نبيه الشأن، طائر الصيت في الشجاعة والإقدام والظفر في معامع الحروب، ومستجمع جميع الصفات التي من شأنها أن تجذب نحوه أميال أميرة في ذلك العهد؟
نعم، ولكن متيلدا رفضت الاقتران به بناء على أسباب تتعلق بولادته، فلم تقدر بوجه من الوجوه أن تعتبره خليفة شرعيا له حق وراثة دوكية نورماندي، إذ إنه مع استوائه على عرش إمارتها كان معدودا لدى قسم كبير من الأمراء والسادة مغتصبا ليس إلا، وإذ ذاك فهو عرضة في كل حين للقلب والجلاء عن بلاده عند أدنى طارئ يطرأ عليه، وبكلمة نقول: إن مركزه وإن كان رفيعا فهو متقلقل وغير ثابت، وحقه في طلب الارتقاء إلى ذروة المجد والشرف مبهم، بحيث لا يسوغ لمتيلدا تسليم أمرها إليه، وعليه كان جوابها على التماسه رفضا مطلقا، على أن هذه الأسباب الظاهرة التي بنت عليها متيلدا عدم قبولها ورفضها الاقتران به لم تكن الأسباب الحقيقية الجوهرية، وإنما الباعث السري كان ميلها إلى شخص آخر، وهو شاب سكسوني كان ملك إنكلترا قد أرسله إلى بلاط أبيها سفيرا، واسمه برترك هذا بقي في قصر أمير فلندرس مدة تمكنت متيلدا فيها بواسطة محافل الطرب ونوادي الأنس التي أقيمت لأجل إكرامه من الاجتماع به، والوقوع على محبته، وكان جميل الطلعة فائق الملاحة، ومن بيت عريق في الشرف والوجاهة في إنكلترا وإن كان دون بيت متيلدا في فلندرس، على أنها إذ شعرت أنه يوجس خوف التقرب منها بداعي ما يتصوره فيها من رفعة الشأن والسمو على رتبته ومكانته، رأت من الواجب عليها أن تتذرع إلى تنشيطه وإنهاضه بكشف مكنونات قلبها، وهتك سرائر حبها، فطارحته حديث الوجد والغرام، وعرضت بذكر تباريح الصبابة والهيام، فوجدته لنكد الطالع خليا لم يكن بهواها مشغولا، وصاحيا لم تستطع إليه راح الوجد وصولا، حتى إنه بعد أن قضى الفرض الذي أرسل لأجله استأذنها في الانصراف بمزيد البرودة، وغادرها من حيث لا يدري مسلوبة القلب مفئودة.
وكما أن أحلى خمرة قد تتحول إلى أحمض خل هكذا أحر محبة تصير حين حئولها الكلي إلى أمر بغض، فالبغض حال في قلب متيلدا إلى غيظ، واحتدام الغيظ إلى تعطش تتلظى ناره بحب الانتقام، لم يعد في قلبها أدنى أثر للحادث الأول، ولكنها ما كانت قط لتنسى أو تصفح عن سقوطها في يد نفسها يأسا وفشلا، وتعفو عن ثقل الهون الذي تحملته، وقد أتاح لها الزمان بعد ذلك أن انتقمت من برترك في إنكلترا انتقاما شديدا، وسامته أمر العقوبة والقسوة التي عرته من رفعته ومكانته وعزة نفسه، وهبطت به أخيرا إلى ثرى رمسه.
وفي أثناء ذلك وهي مشغولة بهذا الشاغل لم تجد لها ولا ريب قلبا يصغي إلى ملتمس وليم، ولم ير من يلوذ بها أدنى أهمية لمعرفة السبب الحقيقي الذي حال دون قبولها، لكنهم شعروا بقوة الموانع التي تقف ضد وليم من حيث دنو عائلة أمه، وكونه مغتصبا لعرش الإمارة اغتصابا، ثم إن صلة القرابة بين متيلدا وبينه كانت مانعة أيضا، وباعثة على الحيرة والارتباك، فإن نسبة أحدهما للآخر كانت تمنع اقترانهما بموجب قوانين الكنيسة الكاثوليكية، وعليه أنفذ وليم وفدا إلى رومية لأجل حل هذه الصعوبة، وذلك فتح بابا جديدا للارتباك والتأخر؛ فإن السلطة الباباوية كانت تغتنم الفرص في مثل هذه الحادثة للحصول على ما يعود على الكنيسة بالخير والنفع، فلا ترخص بالاقتران قبل قيام الزوجين بأداء (التحليلة) من مثل بناء دير أو معبد أو متصدق أو غير ذلك مما تنتفع بريعه بدون التفات إلى سواه، وإذ لم يكن لذلك الوفد من داع خصوصي يبعثه على تعجيل إتمام المسألة وجد لنفسه مندوحة للتمتع بمشاهدة مناظر رومية البديعة، ورأى أنه يطيب له المكث فيها بصفة وفد ملوكي على مزيد الاحتفاء والتكريم، ووليم ذاته كان يعاق من وقت إلى آخر عن الإلحاح عليهم بداعي ما كان يعرض له من الأشغال بالحروب الخارجية، أو الانهماك بتسكين الثورات الداخلية، وهكذا لأسباب عديدة ظهر أن القضية غاية في الإشكال، وربما لا يهتدى إلى طريقة حلها.
Bog aan la aqoon
وبالحقيقة لم يكن رجل غير وليم يستطيع أن يصبر على هذه الصعوبات المتنوعة؛ لأنه مر عليه - على ما قيل - سبع سنين قبلما أدرك من مرامه نتيجة، والحادثة التالية تروى عن شدة ثبات وليم بغرابة تفوق التصديق، وذلك أنه بعدما مرت السنون على المخابرات المتتابعة، والموانع المتوالية صادف وليم متيلدا في شوارع بروغوس إحدى مدن أبيها، ولم يعلم بالتفصيل كل ما حدث بينهما في أثناء ذلك الاجتماع، ولكن في ختامه حمي غضب وليم على متيلدا لداعي ما أبدته نحوه من النفار والانقباض حتى لطمها أو دفعها بعنف، فأسقطها على الأرض، وقيل: إنه لطمها على دفعات متوالية وغادرها مطروحة مهشمة، وسار مسرعا وهو يلتهب غيظا ويحتدم حنقا. نعم إن المنازعات الحبية كثيرا ما تكون وسائل لجعل المتنازعين أقرب إلى بعضهما بعدها منهما قبلها، ولكن منازعة حبية مخيفة كهذه تعتبر نادرة جدا، على أنه ما عتمت هذه المنازعة على شدتها أن أعقبت بمصالحة تامة، ومنها أخذت الموانع تزول شيئا فشيئا من طريق الاقتران الذي تم سنة 1053.
وقد احتفل به في إحدى قلاع وليم على تخوم إمارته كما كانت العادة في تلك الأيام للأمراء والملوك أن يقيموا عقد زفافهم في ذات مقاطعاتهم، فشيعت متيلدا بملء البهرجة والاحتفال مصحوبة بوالديها ورهط عظيم من الحامية والحرس رجالا ونساء راكبين خيولا كريمة مسرجة بأجمل السروج، يسيرون في عرض البلاد كجيش في غاية الانتظام، بل بالحري كفرقة منتصرة ظافرة تسير في حماية ملكة، وهكذا أنزلت متيلدا في القلعة على مزيد الرحب والتأهل، وظلت أفراح ذلك الزفاف أياما تضيء أنوارها في سماء البلاد النورماندية، وكان لباس كل من وليم ومتيلدا في ذلك اليوم جميلا فاخرا، وعلى الخصوص كان على كل منهما ملاءة تتألق بأغلى الحلي وأنفس الجواهر، وقد بقيت ملابسهما الثمينة بجواهرها الكريمة مكنوزة في كنيسة بأيو الكبيرة خمسمائة سنة.
وبعدما انقضت مدة الأفراح المعينة في قلعة أوجي حيث عقد الاقتران، خرج وليم وعروسه تحفهما الأمراء والكبراء والقواد والعساكر إلى مدينة روان، وهناك جلس ذانك الزوجان يتجاذبان أطراف الرفاء، ويأخذان بأسباب المسرة والصفاء، وقد توفرت لمتيلدا ذرائع الرغد ووسائط العظمة، فكان لها نخبة من جياد الخيل مسرجة على الدوام ومعدة لركوبها، ناهيك عما جهز لها من الأكسية الفاخرة والأثواب الجميلة الموشاة كلها بالحلي والجواهر، وأقيم على خدمتها من الحرس، وقد عينت فرق الفرسان المنخوبة للركوب معها من مكان إلى آخر، وبالإجمال كانت محاطة بكل دواعي الاحتفاء والتجلة - الاحتفاء والتجلة ولكن ليس الراحة والسلام؛ فإنه كان لوليم عم يدعى ماتجر، رئيس أساقفة روان، وكان على جانب عظيم من نفوذ الكلمة وقوة السلطة، ومعلوم أن مسرة أقرباء وليم كانت أن لا يتزوج؛ لأن زيادة الترجيح في انتقال تاجه إلى وريث من صلبه كانت تضعف آمالهم المستقبلة بالاستيلاء عليه، وتسقط أهمية شأنهم الحاضرة، وعليه عارض ماتجر هذه الزيجة وبلغ جهيداه في إحباط مساعي إتمامها، وصرح بعدم جوازها من وجه القرابة بين وليم ومتيلدا، وقد اتخذ لنفسه حق المعارضة في ذلك من وجه أنه رأس الكنيسة في نورماندي، وإذ كان الزفاف قد احتفل به قبل انتهاء المخابرة بشأنه في رومية، أصدر ماتجر حرما لوليم ومتيلدا وشجب زواجهما الذي لم يكن قانون الكنيسة ليجيزه.
وقد كان الحرم في عهد متيلدا أمرا هائلا، فالشخص المحروم كان يجتنب من الناس، ويعتبر أنه ملعون من السماء، وعلى فرض أنه أمير كبير كوليم كان ذات شعبه يبتعد عنه، ولا يعود يلبي دعوة إغاثته والمحاماة عنه، وقد كان ممكنا لحاكم مطلق كوليم أن يثبت قليلا تجاه هذه الصعوبة لولا أنه تحقق ازدياد شدة وطاءتها عليه، وتفاقم خطبها لديه بواسطة خرافات الشعب المار ذكرها، وأحس منه وخيم العاقبة، وعليه رفع دعواه إلى البابا، واجتهد بإلغاء الحرم هناك بواسطة راهب أنفذه إلى رومية يدعى لنفرنك، وجهزه بالوسائل المؤدية إلى إبطال الحرم وإبداله بالبركة على الوجه الآتي؛ وهو أن البابا يمنح (الحلة) ويثبت الزواج ويبطل حكم الحرم الذي أصدره رئيس الأساقفة ماتجر، بشرط أن وليم ينشئ متصدقا لأجل مائة فقير، ويبني ديرا للرهبان ومتيلدا ديرا للراهبات، فناب الراهب لنفرنك عن الزوجين بالتوقيع على هذه العهدة.
وهكذا أزيل الحرم واعترف كل سكان نورماندي بشرعية الزواج، وأقبل وليم ومتيلدا على إنجاز ما وعدا به، فقاما يلاحظان بناء الديرين بأنفسهما، وقد اختارا لهما مكانا في مدينة كاين على متاخمة نورماندي من الشمال، وهي ذات موقع حسن في منخفض فسيح عند ملتقى نهرين يحيط بها من كل ناحية سهول مخصبة في غاية الجمال، وكانت محصنة بالأسوار والأبراج من عهد أسلاف وليم أمراء نورماندي، وكان الدير المبني على اسم وليم كبيرا جدا، وقد أنشئت داخله قلعة سامية كثيرا ما سكنها وليم ومتيلدا في أيامهما المستقبلة، ومع أن أسوار مدينة كاين وحصونها قد أصبحت اليوم ركاما مركوما، فكثير من أبنية ذينك الديرين لا يبرح قائما يساور بواعث الاضمحلال والفناء، وينازعها الخلود والبقاء، على أن هذا الباقي منها لم يعد مستعملا لما بني له، لكنه لا يزال محفوظا فيه اسمه الأصلي، وكثيرون من السياح والزائرين يحجون إلى تلك البقايا القديمة، ويحنون بملء الشوق إلى ما يتبينونه بواسطتها من مجد بانييها الخالي، ويكرمون هذا التذكار الجليل الباقي لهما إلى هذا اليوم.
ثم قضى وليم ومتيلدا ما شاء الله من الزمان في صفاء العيش ونعيم البال، وأول مولود رزقاه كان ذكرا، وذلك بعد زواجهما بسنة، فدعاه وليم باسم أبيه روبرت، ثم رزقا بعده عدة أولاد، وكانت أسماؤهم روبرت ووليم روفوس وهنري وسيسيليا وأغاثا وكونستانس وإدالا وإدالايد وغندرد، فوقفت متيلدا حياتها على تربيتهم وتهذيبهم بأمانة ومحبة والديتين، حتى إن أكثرهم عاشوا وخلدوا لهم في صفحات التاريخ آثارا مأثورة، وأسماء بالشهرة مذكورة.
وقد تسنى لوليم أن نال ما كان مطمح أبصاره، ومبعث أشغال أفكاره، ألا وهو الاتحاد مع حكومة فلندرس التي كان يتولاها حموه أبو متيلدا، فصارت الحكومتان كأنهما واحدة بداعي ذلك الرباط الطبيعي (الزواج) الذي جمعهما إلى وحدة متينة في القوة والنفوذ والعظمة، بحيث أصبحت كل منهما ظهيرة الأخرى ونصيرتها عند مسيس الحاجة، وإن يكن قد حدث فيما بعد ذلك ما خيب أمل وليم من هذا الاتحاد وعاد عليه بخلاف المنتظر؛ وذلك أنه لما أخذ وليم يتأهب لمهاجمة إنكلترا أرسل إلى بالدون أخي امرأته متيلدا (الذي كان حينئذ أميرا على فلندرس عوضا عن أبيه) يطلب منه إعداد قوة يمده بها، أما بالدون فهاله هذا الطلب، وأوجس منه خوف الإقدام على خطر عظيم كهذا، فأرسل إلى وليم يطلب منه معرفة النصيب الذي يعينه له من بلاد الإنكليز إذا ضافره على تدويخها ، فاستدل وليم من هذا الاشتراط العاجل على تغير قلب ابن عمه عنه، وعدم ركونه إليه، وإذ ذاك أخذ رقا وطواه - بدون أن يكتب فيه شيئا - على هيئة كتاب وكتب على ظاهره ما معناه:
أما النصيب الذي أرسلت تطلبه
من البلاد التي في الحرب نغنمها
فانظر إلى داخل التحرير حيث ترى
Bog aan la aqoon
عنه التفاصيل تتلوها فتفهمها
وفي الحال أنفذ إليه هذه الرسالة الفارغة مع رسول، فلما رآها بالدون اندفع بمزيد من الاهتمام إلى استلامها وفضها بشوق فائق، لكنه أسقط في يده اندهاشا حين وجدها خاوية خالية، وبعدما قلبها ظهرا لبطن بغية الوقوف على تفاصيل نصيبه استطلع الرسول طلع الأمر، فأجابه: «المراد منها كما أنه ليس فيها شيء كذلك أنت لا يكون لك شيء».
على أنه مهما يكن من الفتور الذي أصاب الصلات على أثر هذه الحادثة، لم تلبث أن عادت العلاقات إلى متانتها، ورجعت المياه إلى مجاريها، ونال وليم شيئا من مساعدة حكومة فنلدرس حين حمل على إنكلترا.
الفصل السادس
الأميرة «أما»
لم يكن في الحسبان - حتى في نفس الوقت الذي نؤرخ الآن حوادثه - أن أميرا مثل وليم يهاجم مملكة عظيمة كإنكلترا واسعة الأطراف قوية الجانب بالنسبة إلى إمارة نورماندي لو لم يكن لدى وليم حجة ولو على سبيل الادعاء، أما حجته فكانت أنه هو الوريث الأصيل لعرش إنكلترا، وأن الملك الذي تربع على دست مملكتها في زمان مهاجمته لها كان مغتصبا؛ ولكي يفهم القارئ طبيعة هذا الطلب ومبدأ هذه الحجة رأينا من الضروري أن نبسط الكلام قليلا عن تاريخ «أما».
فمن مراجعة سلسلة أمراء نورماندي المثبتة في الفصل الثاني من هذا التاريخ، يظهر أن «أما» كانت ابنة رتشرد الأول، وقد اشتهرت في ريعان صباها بحسن صورتها وجمال منظرها حتى كانت تدعى لؤلؤة نورماندي، وقد تزوجت بأحد ملوك إنكلترا المدعو أشرلد أيام كانت تلك البلاد مجروفة بسيول حرب أهلية بين حزبي السكسون والدانمارك، وكان فيها سلسلتان مختلفتان من الملوك تتنازعان السيادة، وتتزاحمان إلى الاستيلاء على قضيب السلطنة المطلقة، وفي تلك الحرب الدائمة كان السكسون ينتصرون تارة والدانمارك أخرى، وأحيانا يقيم كل من الحزبين لنفسه هيئة حاكمة، ويناصب الآخر في التملك على أقسام مختلفة من تلك الجزيرة الكبيرة العظيمة، وهكذا اتفق أنه كان في إنكلترا في وقت واحد يقوم ملكان يساور كل منهما الآخر ويناظره في السطوة والحكم - ملكان وعاصمتان وإدارتان - لشعب واحد قضى عليه نكد الطالع أن يرزح تحت أثقال المطامع، ويكابد ويلات الحروب الناتجة عنها.
وكان أشرلد أحد ملوك السكسون، وعندما اقترن بأما كان أرملا في سن الأربعين وله من امرأته الأولى أولاد من جملتهم ابن يدعى أدموند، وهو شاب نشيط الهمة قوي العزم صار فيما بعد ذلك ملكا، وكان من جملة ما قصده أشرلد باقترانه بأما أن يعزز جانبه ويزيده مناعة بضم النورمانديين إليه؛ لأن أعداءه الدانمارك نورمانديون أيضا، فحذرا من أن حكومة نورماندي تمدهم بالقوة والرجال سبق إلى التقرب منهم، وعقد معهم زواجا مكنه من اكتساب قرابتهم ومساعدتهم إياه على أعدائه.
فنجح فيما قصد واستنهض رتشرد أبا زوجته إلى شد أزره، لكنه لم ينصر على الدانمارك، بل بالعكس استظهروا عليه وضايقوه حتى اضطروه أن يفر إلى نورماندي بزوجته وابنيه، وكان اسماهما إدوارد وألفرد، فاستقبله رتشرد الثاني أخو أما بلطافة فائقة لا يستحق شيئا منها، ولم يكن بالأمر الغريب أنه طرد من مملكته؛ لأنه لم يكن على شيء من تلك الصفات العقلية السامية التي تؤهل الإنسان للحصول على قوة الغلبة والحكم، بل كان كبقية الظلام الخاملين يضحي الحكمة على مذبح الشراسة والقساوة، ويسرف بالقوة في طريق الجور والاعتساف ضد أعدائه، وحالما تزوج بأما أشعر بعظم القوة التي توهم الحصول عليها بداعي تلك الزيجة، فمنى الدانمارك بمجزرة هائلة في يوم معين بواسطة مؤامرة سرية أهلك فيها منهم خلقا كثيرا، فاشتد البغض ونما الحقد بين الحزبين، حتى إن الذين تلقوا منه أوامر إتمام هذه المذبحة الدموية أنفذوها بقساوة وحشية تشيب لهولها الأطفال.
فمن جملة فظائعهم فيها أنهم طمروا النساء في حفر إلى أوساطهن، وأطلقوا عليهن الكلاب فمزقت أجسادهن العريانة وأماتتهن ألما ووجعا ، ومن عجيب ما اتفق في تاريخ هذه الحرب الأهلية أن الملك ألفرد الملقب بالعظيم لما حارب الدانمارك في إنكلترا، وذلك قبل زمان أشرلد بمائة سنة عاملهم في استظهاره عليهم بمزيد الرقة وكرم الأخلاق، وبهذه السياسة تغلب عليهم في النهاية، أما أشرلد فبخلافه سامهم أشد القساوة، وكانت النتيجة في الختام أنه بعثهم على التألب ضده والخروج عليه طلبا للانتقام والأخذ بالثأر، حتى جلوه - كما تقدم الكلام - من إنكلترا بمزيد الخزي والخجل والعار، وكما مر بنا استقبله رتشرد ابن حميه بما لا يوصف من الترحاب والتأهيل جبرا لخاطره المكسور، وإكراما لشقيقته أما وولديها، وقد كانت رغبة أما في الاقتران بأشرلد موقوفة به على حب الشهرة والطمع بنوال المجد حين تصبح ملكة إنكلترا، وهذا ما يحكم به عليها كل قراء تاريخها من مجرد اطلاعهم على سيرة حياتها التالية.
Bog aan la aqoon
أما الآن فساءها إخفاق مساعيها وخيبة آمالها؛ إذ وجدت نفسها أنها عوضا عن أن ترفد بواسطة زوجها، وترتقي إلى ذروة السعادة التي عللت نفسها بالحصول عليها، أصبحت مضطرة أن تنكفئ راجعة إلى وطنها السابق مستعبدة، وقد أضاقت إلى حملها على بيت أبيها حمل زوجها وولديها، وقد زاد طينتها بلة، وأضاف إلى ذلها ذلا موت أبيها، وتقلص اعتبارها، وانحطاط مكانتها لدى أخيها الذي ليس عليه حق شرعي أن يعولها، مع أنه لم يقصر في إكرام كل منها وزوجها وولديها.
وكانت تلك الحروب التي قضت على أشرلد بالفرار إلى نورماندي لا تزال قائمة على قدم وساق حتى مالت كفة النصر نحو السكسون، وتوفي على أثرها ملك الدانمارك الذي استولى على العرش بعد جلاء أشرلد، فاسترجع السكسون قوتهم السابقة وأرسلوا يطلبون أشرلد ليكون ملكا عليهم، بشرط أنه يغير سلوكه القديم في الحكم والإدارة، أما هو فكان مع أما بغاية التلهف لإعادة مجدهما الغابر على أية طريقة كانت؛ ولهذا ما أبطأ أن رجعا إلى لندن حيث بايع الحزب السكسوني أشرلد الملك ثانية.
أما الحزب الدانماركي فلم شعثه وقوى ضعفه وأقام له ملكا يدعى كانيوت، ثم شبت نار القتال بين هذا الملك الجديد وأشرلد، أما كانيوت فكان رجلا حاذقا فهيما وغاية في الشجاعة والإقدام بعكس أشرلد، فإنه رغما عن جميع مواعيده ظل متناهيا في الخمول والبلادة، وآية في القساوة والجبن، وبالحقيقة إن ابنه أدموند الذي من امرأته الأولى كان أقدر منه على مقاومة كاينوت نظرا لما حصله من الفطنة والذكاء، واشتهر به من القوة وثبات القلب حتى إنه ساد على أبيه في بعض الاعتبارات، ومنها أنه في غضون تلك الاضطرابات سخط الملك أشرلد على أحد أشراف مملكته لأسباب، فحكم عليه بالقتل، وزاد على هذه الفظاعة أن نفى أرملته المسكينة وهي في ريعان صباها وجمالها إلى أحد الأديرة، فذهب ابنه أدموند إلى الدير وأطلقها واتخذها له امرأة، فبواسطة وقوع هذه المعاكسة بين الملك وابنه الذي كان أكبر قواد جيوشه أصبح أمل ثباته أمام كانيوت الدانماركي ضعيفا.
وفي الواقع كانت الأحوال تزداد سوءا وتعاسة، وأما تتجرع من وقت إلى آخر غصص القهر والكدر، وتنذر نفسها بتفاقم الويل وتعاظم الخطر، حتى توفي أشرلد سنة 1016، وبموته امتلأت كأس شقاوتها، وانطمست معالم سعادتها، إذ لم يكن لأحد من ولديها إدوارد وألفرد حق التملك عوضا عن أبيهما، بداعي أن أدموند ابن امرأة أشرلد الأولى كان أكبر منهما، وكانا كلاهما أصغر من أن يركبا الأهوال ويشهدا المعارك؛ ليجعلا لهما مكانة واهتماما في عيون الشعب، ثم إن أدموند نفسه إذ كان مزمعا الآن أن يصير ملكا لا يسر بتقدمهما، ولا يرى لهما إكراما، ولا يعتبرهما ووالدتهما سوى مقاومين له، وبالاختصار رأت أما أن مقامها في إنكلترا أصبح محفوفا بالمخاطر، فهربت بولديها مرة ثانية، وجاءت بمزيد اليأس والفاقة تطلب لهما ملجأ في بيت أخيها في نورماندي، وقد أمست الآن أرملة وولداها يتيمين، وكانا غلامين صغيرين وأكبرهما إدوارد الذي تعلقت به آمال التقدم، وتحولت إليه مطامح الترقي، كان هادئا رزينا تلوح عليه بعض مخايل الشجاعة، وتنبثق من محياه أنوار تؤذن بنيط الأمل بتوقع شيء من الإقدام منه على كبار الأمور وعظائمها.
ولكن أخاه أدموند أصبح الآن ملكا في غلواء شبابه وإبان شجاعته وثباته، وعليه أدلة ترجح أنه سيعيش ويعمر طويلا، وعلى فرض مفاجأة كارث يعجل اخترامه ويودي بحياته، فليس من رجاء لأما أنها تعود لمجدها المنصرم وعزها الفائت بداعي أن أدموند كان متزوجا، وله ابنان فيخلفه أحدهما بعد وفاته، فمن كل جهة نرى أن نكد الطالع قد قدر لأما أن تصرف باقي حياتها مع ولديها بالذل والفاقة والإهمال، على أنه «وبينما العسر إذ دارت مياسير»، فإن النهاية كانت بالخلاف كما سيجيء، فإن أدموند لم يملك أكثر من سنة حتى اغتيل فجأة، وفي مدة تلك السنة كان يرى أن كانيوت الدانماركي أخذ في التغلب عليه والاستيلاء على إنكلترا قسما بعد قسم، فجرد جيوشه وخرج لمحاربيه، وقبل شبوب نيران القتال بينهما أرسل أدموند يسأل كانيوت هدنة، ويطلب منه العدول عن سفك دماء العساكر إلى المبارزة بينهما، فأبى كانيوت قبول هذا؛ لأنه دونه جثة وقوة أعضاء، لكنه ارتأى طرح المسألة أمام لجنة تشكل من أمراء وقواد الحزبين، وكان الأمر، وفي الختام قسمت البلاد بين الملكين، واستبدلت الحرب بنوع من السلم، وبعد هذه العهدة بقليل قتل أدموند.
فأسرع كانيوت بدون إمهال واستولى على كل المملكة محتجا بأنه من جملة المعاهدة بينهما أن المملكة تستمر منقسمة بين الملكين ما دام كلاهما في قيد الحياة، وعند موت أحدهما يخلفه الآخر في التولي على قسمه، فلم تقم حجته هذه لدى قواد السكسون، لكنهم وجدوا نفوسهم لا يقوون على مقاومته؛ لأن ابني أشرلد من أما كانا لا يزالان قاصرين عن الإقدام على القيادة، وبني أدموند كانوا أطفالا، فلم يكن من فيه الأهلية ليصير زعيم السكسون وقائدهم العام، فالتزموا والحالة هذه أن يطووا كشحا عن تمحلات كانيوت ودعاويه الفارغة ولو إلى وقت قصير، وعليه رأوا من الحكمة أن يتغاضوا مسامحين في حقوق بني أدموند برهة يسيرة، ووكلوا إليه المناظرة عليهم حتى يبلغوا أشدهم، وفي الوقت ذاته سمحوا له أن يبقى متوليا بنفسه زمام الحكم على كل البلاد.
فقام كانيوت يدبر شئون الأحكام، ويعمل على اتساع نطاق نفوذه بغاية الضبط على وجه السداد والإنصاف، متعمدا في سائر الأحوال والطرق صيانة حقوق السكسون وامتيازاتهم بنوع لا يجعل بينهم وبين الدانمارك أدنى فرق، وكان يخشى على حياة بني أدموند عنده، لكن السياسة التي اختطها للسير والتصرف خولت السكسون راحة واطمئنانا من نحوهم، وبالواقع لم يسئ إليهم بل أرسلهم إلى بلاد الدانمارك لكي ينسى أمرهم على التمادي، ولعله أراد بذلك أنه إذا دعت الحاجة يدبر هناك طريقة سرية لهلاكهم، وكان لديه سبب آخر يحدوه على وقايتهم ويحول دون اغتيالهم، وهو أن هلاك بني أدموند لا يميت حق السكسون في الملك، بل يحوله إلى ابني أما في نورماندي اللذين يترقبان الفرص للقيام على منازعته واغتصابه الملك، فكان من باب الحكمة أن يبقى أولاد أدموند أحياء، ويجلبوهم إلى حيث يأمن الاهتمام بهم.
أما احتسابه من جهة ابني أما فكان على غير طريقة، فإنه لكي يسقط حقيهما في الملك ويضعف قوتهما ارتأى أن يطلب الاقتران بوالدتهما، وبذلك يجعل عائلتهما تحت قبضة يده، ويحول دون قيام أصدقائها النورمانديين ضده، وبناء عليه طلبها، وهي لشدة طمعها في استرجاع مقام عظمتها السابق كملكة إنكلترا أجابت طلبه بلا تردد، وإن العالم ليدينها على تزوجها للمرة الثانية بمنازع أشد وعدو ألد لزوجها الأول، ولكن لم يكن ذلك ليهمها البتة، بل قصارى ما احتفلت به أن تكون ملكة سواء كان زوجها سكسونيا أو دانماركيا، فاستاء ابناها من هذا الاقتران وبذلا جهدهما في منعه، ولم يصفحا لوالدتهما عن ارتكاب هذا الإثم الفظيع، ولا غفرا لها تدنيها لتضحية صالحهما وحقهما، وقد ملأهما غيظا ونكاية ما تقرر في عهدة الزواج من أن وراثة الملك بعد كانيوت تكون لمن يولد له من أما التي ما لبثت أن ودعت نورماندي وابنيها، وشخصت إلى إنكلترا حيث احتفل بزفافها إلى كانيوت بغاية التجلة والاحتفاء، وخلا لها الجو مرة أخرى في أن تعود ملكة الإنكليز.
وقد اقتضت الضرورة الآن أن تجتاز بكلمات وجيزة مدة عشرين سنة من الزمان وهي تحيط بوقت ملك كانيوت الذي كان غاية في النجاح والسلام، وفي خلال هذه المدة كان أبناء أما لا يزالان في نورماندي، وقد ولد لها ابن آخر في إنكلترا دعي كانيوت باسم أبيه، لكنه يعرف في التاريخ باسم هارديكنيوت - وهذه الزيادة كلمة سكسونية معناها قوي - وكان لكانيوت وزير شهير يدعى غودون، وهو رجل سكسوني واطئ النسب، وله في تاريخ حياته قصة غريبة لا محل لإيرادها هنا، لكنه كان ممتازا في الحذق والدهاء وسائر الصفات السامية، وفي وقت موت كانيوت كانت له الأسبقية على جميع رجال الدولة في الوجاهة والنفوذ، أما كانيوت فلما حضرته الوفاة ووجد أن شمس حياته قد مالت به إلى الغروب.
وأنه من الضروري أن يرتب أمر الخلافة رأى أن الأحوط له السعي في إخراج معاهدته مع أما السابق ذكرها من القوة إلى الفعل، على أن هارديكنيوت الذي بموجب تلك المعاهدة يحسب خلفا له كان عندئذ ابن ست أو سبع عشرة سنة، وبالنتيجة قاصرا عن إدارة أحكام المملكة، وبناء عليه أوصى بالملك لابن أكبر يدعى هارلود رزقه قبل اقترانه بأما، وهذا كان مبعث انشقاق جديد، ومدعاة قلق حديث؛ لأن ميل السكسون وكذلك أصدقاء أما كان نحو هارديكنيوت، بينما كان الدانمارك يميلون لهارلود. أخيرا انتصر غودون لجانب هذا الأخير، فتثبت هارلود على العرش، وتركت أما وجميع أولادها الذين ولدوا لها من أشرلد وكانيوت في زوايا الإهمال والنسيان.
Bog aan la aqoon
فهذا التغيير الفجائي الذي طرأ على أما لم يكن ليرضيها البتة، فلبثت في إنكلترا وقد ساءها جدا أن ترى زوجها الثاني قد خان عهده معها، ونكث بوعده لها من جهة عهد الخلافة لمن يولد لهما جديدا، وكما أنه أغفل ابنه المولود له منها، وقدم عليه ابنه المولود له سابقا، هكذا هي أيضا تركت الاعتناء بأمر هارديكنيوت، وطفقت تسعى سرا بين السكسون في تقديم ابنها إدوارد وترشيحه للعرش، حتى إذا رأت نفسها أنها مهدت له السبيل اللازم بعثت برسالة إلى ابنيها في نورماندي مفادها: أن الشعب السكسوني لم يعد يستطيع الصبر على تحامل الحكومة الدانماركية وجورها، ومن رأيها أنهم (أي السكسون) مستعدون لخلع الطاعة الدانماركية متى وجدوا لهم زعيما وقائدا، وعليه طلبت منهما أن يأتيا لندن للمداولة معها بهذا الشأن.
وقد أشارت عليهما أن يحضرا بطريقة سلمية بسيطة متجنبين كل ما من شأنه أن يثير القلاقل، ويوقظ ساكن البلابل، فلما وقفا على كتابها ارتضى أكبرهما إدوارد أن يذهب إلى لندن، لكنه أحب أن أخاه ألفرد يقدم على هذه المهمة إن أراد، فأجابه ألفرد إلى ذلك. وفي الواقع إن هذين الأخوين كانا على اختلاف عظيم في المنازع والمشارب؛ فإدوارد كان هادئا رزينا متأنيا، وأما ألفرد فكان حاد الطبع طموح النظر، وعليه وطن الأصغر نفسه على ركوب أخطار السفر، والأكبر عول على البقاء في نورماندي، وكانت النتيجة من ذلك شرا وبلاء، فإن ألفرد خالف مشورة والدته وساق معه جيشا من النورماند وقطع بهم البوغاز زاحفا نحو لندن، فجرد عليه هارلود قوة عظيمة اعترضته في الطريق فحاصرته وأخذته وجميع من معه أسرى، ثم حكم عليه بقلع عينيه.
لكنه ما عتم أن مات بعد صدور ذلك الحكم الهائل بسبب ما اعتراه منه آلام الحمى، ناهيك عن تأثير القهر والسقوط في يده خيبة وفشلا، فهربت أما إلى فلندرس، وأخيرا مات هارلود وخلفه هارديكنيوت الذي لم يحكم إلا وقتا قصيرا حتى مات أيضا غير مخلف ورثاء للملك، وإذ كان في ذلك الوقت أولاد إدموند بن أثلرد الأكبر في هنكاريا، وأمرهم على نوع ما منسي ظهر جو الخلافة كأنه خال من منازع لإدوارد بن أما الأكبر الذي كان باقيا في نورماندي لا يبدي حراكا، وبموجبه صرح به ملكا، وذلك سنة 1041، وظل مالكا نحو عشرين سنة، وقد صاقب ابتداء ملكه وقت تربع وليم الظافر على دوكية نورماندي، ولا ريب أن إدوارد كان قد تعرف بوليم في أثناء وجوده في ذلك الوقت الطويل في نورماندي، وقد زاره وليم أيضا إلى إنكلترا بعدما صار عليها ملكا.
ومما لا ريب فيه أيضا أن وليم اعتبر نفسه وارثا لإدوارد من وجه أنه لما كان ليس لإدوارد من أولاد وإن كان متزوجا؛ يكون الأمراء النورماند أقرب أنسبائه، وقد ادعى أن إدوارد وعده بأنه يوصي له بحق الملك بعد وفاته، وكانت أما قد شاخت وتقدمت في الأيام، وانكسرت فيها شوكة قوة الطمع في الشهرة وحب الرئاسة التي تسلطت عليها في ماضي حياتها؛ لأنه كان لها زوجان وابنان كل منهم ملك إنكلترا، لكنها عندما تناهت بها الأيام وأدركها الانحلال رأت نفسها صرعى الشقاق وتعاسة الحال.
ولم يكن ابنها لينسى جريمتها الفظيعة التي ارتكبتها في هجرها له ولأخيه، واقترانها بمن كان ألد عدو لهما ولأبيهما، وإنفاذها لما تعهدت به يوم زفافها إلى كانيوت من حرمانهما الوراثة الملكية، وفضلا عن ذلك تخلت عنهما بمزيد الإهمال وعدم الاكتراث في أيام زوجها كانيوت، بينما كانت هي نفسها عائشة معه في لندن على سعة الرغد ورحب الأبهة والعظمة، وقد شكاها أيضا بأنها كانت تقلب جفنيها ناظرة إلى موت أخيه ألفرد؛ ولذلك أصدر أمرا بمحاكمتها في هذه الدعاوى العريضة على النار، وتلك طريقة كانوا يمتحنون بها المتهمين بالجنايات والجرائم، بأن يضعوا على أرض كنيسة قطعا من حديد محمية إلى درجة البياض وعلى بعد معين بين بعضها البعض، ويشيروا إلى المشكو عليه بالمشي عليها بقدمين حافيتين، معتقدين بأنه إن كان بريئا فالعناية الإلهية ترشد خطواته، وتقيه من مس قطع الحديد فيجتازها آمنا، وإن كان مجرما يحترق.
وقد نقل عن رواة حوادث ذلك الوقت أن أما حكم عليها بهذا الامتحان في كنيسة ونشستر الكاتدرائية؛ لمعرفة ما إذا كانت عالمة بقتل ابنها، وسواء صدقت هذه الرواية أو لا فليس من ريب في أن إدوارد حكم عليها بالسجن في دير ونشستر، حيث أكملت أيامها متجرعة غصص الذل والهوان.
ولما رأى إدوارد أن الموت صار منه قريبا على الأبواب أخذ يهتم في أمر الخلافة، وكان لها وريث من أخيه إدموند الذي يذكر القارئ أن كانيوت نفى أولاده إلى بلاد الدانمارك ليتخلص من منازعتهم له، وهذا الخلف كان لا يزال حيا في هنكاريا واسمه إدوارد، وهو الخليفة الشرعي للعرش، ولكن قد صرف حياته متغربا بعيدا عن وطنه، وفي الوقت ذاته كان الأمير غودون - الذي مر الكلام على نهوضه من بيت سكسوني دني الشان إلى أعلى مقام في المملكة - قد أحرز سطوة مكينة ونفوذا بينا، فظهر بهما أمنع جانبا من ذات الملك، وقد مات أخيرا لكن ابنه هارلود الذي تأسله بالبسالة والإقدام وثبات الجنان خلفه في القوة، وتراءى كما ظن إدوارد أنه يطمح في المستقبل نحو اغتصاب العرش.
وكان إدوارد يكره غودون وعائلته كرها شديدا، وصار الآن يتخذ كل الاحتياطات التي تكفل له إحباط مساعي ابنه هارلود في الجلوس على تخت الملك، وعليه أرسل يطلب حضور ابن عمه إدوارد من هنكاريا؛ ليرشحه للملك من بعده ويخذل هارلود، فجاء بعائلته وكان له ابن يدعى إدغر، ولكنه لسوء الحظ لم يلبث أن توفي بعد حضوره إلى إنكلترا بقليل، وابنه إدغر بعد صغير لا فائدة من قيام الحكومة باسمه؛ إذ لا تستطيع الثبوت ضد هارلود، فلما رأى ذلك الملك إدوارد وجه أفكاره نحو وليم حاكم نورماندي الذي كان أقرب نسيب إليه من جهة أمه، وتحقق أنه يكون أفعل وسيلة لتخليص الملك من السقوط في يدي هارلود المغتصب، وعلى أثر ذلك قامت مصادرات عديدة ومناضلات مختلفة، فكان هارلود يفرغ جعب الجد والسعي في الحصول على الخلافة، وإدوارد ينضي مطايا المساورة والمقاومة في منعه عنه وتحويله إلى وليم النورماندي، وكان النفوذ في البداءة لهارلود وفي النهاية لإدوارد ووليم.
الفصل السابع
الملك هارلود
Bog aan la aqoon