ثم جاء كتشنر، فأعاد سياسة كرومر، ولكن في فجاجة العسكري وغشومته. وعاد الخديوي إلى موقف المعارضة والمعاكسة للإنجليز.
ولو سئلت عن الفرق في القاهرة بين 1905 و1945 لقلت إن نبض القاهرة قبل أربعين سنة كان أبطأ، كما أن الإيقاع كان شرقيا في كل شيء تقريبا. فكان الناس يمشون أكثر مما يركبون. وكانت المدينة متجمعة متكتلة في رقعة صغيرة لم تستفض بعد إلى صحراء هليوبوليس أو إلى الضفة الغربية من النيل. وكنا في الملابس نعبر طور الانتقال. فإني أذكر أني لبست قفطانا بحزام وأنا تلميذ بمدرسة الأقباط في الزقازيق، وكنت في العاشرة من العمر. ثم لبست أيضا وأنا في الثانية عشرة بذلة رمادية من طراز الريدنجوت. أما نساؤنا وآنساتنا فبقين كلهن إلى سنة 1919 يتخذن البراقع والحبرات.
وكنا نقضي ليالي السرور عند الشيخ سلامة حجازي. والحق أن هذا الرجل كان ممثلا بارعا، ولكنه لم يكن يمثل قدر ما يغني؛ فقد وجد إقبالا عظيما على أغانيه فكان التمثيل عنده ملحقا بالغناء. وظني أنه كان يفعل هذا مضطرا؛ لأن كفاءته المسرحية كانت عظيمة جدا. ولا بد أنه كان يتألم لأن الجمهور لا يقدرها بل يؤثر عليها الغناء.
وكانت هناك إلى جنب مسرح الشيخ سلامة ملاه أخرى كانت غاية في الفحش، حيث كانت الراقصات يقمن بحركات وإيماءات هي في صميمها محاكاة غير فنية للتعارف الجنسي، محاكاة فاحشة رخيصة دنسة متهتكة. وقد اضطررنا بعد سنة 1922 إلى إلغاء هذا الرقص. ولكن بعض الأغاني القديمة الفاحشة لا تزال تغنى إلى أيامنا هذه.
وشرعنا - بعد ذلك بسنوات - نحس الوجدان المسرحي، وندرك معنى الدرامة ومغزاها، مما ترجمه فرح أنطون ومما مثله جورج أبيض من الدرامات عن اللغة الفرنسية.
أول وجداني الذهبي
كنت في سنة 1903 تلميذا في السنة الأولى الثانوية قد تركت بلدتي الزقازيق ورحلت إلى القاهرة؛ إذ لم تكن في تلك السنين مدارس ثانوية إلا ثلاث في القاهرة والإسكندرية. وكانت سني إذ ذاك نحو 15 أو 16 سنة، فشرعت أقرأ الجرائد اليومية وأشتري مجلتي «المقتطف» و«الجامعة» وأسأل عن الكتب. ولم تكن هناك مجلات أسبوعية. وبقيت الحال كذلك إلى أن أنشأت أنا أول مجلة أسبوعية في 1914 وهي «المستقبل».
وعرفت «المقتطف». وكان اهتدائي إليه من المصادفات البديعة التي أعانتني على التثقيف الذاتي. وكنت أشتري الأعداد القديمة - بل أحيانا الأعداد الجديدة - من الإدارة، على غلاء ثمنها، وألتهمها من الغلاف إلى الغلاف، وعندما عدت إلى الزقازيق وجدت في بيت صديق لي بقرية قريبة من الزقازيق نحو مائة عدد من هذه المجلة، فاستعرتها وقرأتها جميعها. وكان يحرر «المقتطف» في تلك السنين الدكتور يعقوب صروف. وكانت بؤرة اهتمامه الذهني في ذاك الوقت نظرية التطور التي كان يسميها نظرية النشوء والارتقاء؛ ولذلك لم يكن يخلو عدد من بحث هذه النظرية.
وفي مجتمعنا المصري كثير من الكظوم التي ترهق الذهن بالقيود والسدود. وكان الإيمان بنظرية التطور نوعا من التفريج والانتقام؛ ولذلك وجدتني في ذلك الوقت داعية متحمسا لهذه النظرية في البيت والمدرسة وفي كل مكان آخر. وشعرت كأني ممتاز بهذه النظرية. فبعثني هذا إلى التوسع فيها، وعرفت لذلك الدكتور شبلي شميل، وكان رجلا كبير الذكاء محدود المعارف. فكان يعتمد على الحجة المنطقية أكثر مما يعتمد على البينة العلمية. وفي الوقت الذي كان يعتمد فيه «المقتطف» على البينات العلمية وينقل أقوال البيولوجيين في أوروبا عن هذه النظرية، كان شبلي شميل ينافح عنها ويدعو إليها بقوة المنطق . ولكن يجب مع هذا أن نذكر فضل شبلي شميل في أنه نقل إلى العربية كتاب بوخنر في المادية العلمية. والحق أن هذه النظرية كانت رؤيا جديدة لشاب مثلي لم يكد يخرج من طور الصبا، كما كان شبلي شميل بجرأته وذكائه شخصية فذة لها قوة الإيحاء والتوجيه في نفسي.
ولكن مع ذلك لم يستطع «المقتطف» ولا شبلي شميل تكوين مدرسة فكرية؛ لأن الركود الذهني كان عاما كما كان الشرق بقواته التاريخية الساحقة يخيم علينا بل يحط علينا بكلكله. فلم يكن المجتمع المصري وقتئذ يجيز لنا أن نبوح ونعلن عن سرائرنا. فكنا لذلك أفرادا متفرقين نناقش هذه الأفكار والآراء في همس متسترين أو في استحياء يشبه الاعتذار إذا صادفنا غرباء. وكثيرا ما كنت أجد أن الحجة تنتقل من الرأس إلى الذراع، فأسارع إلى التسليم وأعلن صحة العقائد والتقاليد وكذب الآراء والعلوم؛ لأن المنكرين كانوا في العادة أكبر مني سنا وأضخم جسما ...
Bog aan la aqoon