وإني أعزو إلى «المقتطف» هذه النزعة العلمية التي لازمتني طوال حياتي الماضية، كما أعزو إليه هذا «الأسلوب التلغرافي» الذي أكتب به والذي يظن كثيرون أنه من اختراعي. وكان الدكتور يعقوب صروف لا يعرف التزاويق بل كان في الأغلب لا يتذوق الجملة الفصيحة أو الكلمة الناصعة أو العبارة المتلألئة أو سائر تلك الألاعيب الصبيانية التي كان الكتاب يرفعون من شأنها إلى قبيل الحرب الكوكبية الأولى.
وكان يرافق هذا الوجدان العلمي بالنظر المادي وجدان أدبي آخر شرع يغمرني ويبسط لي آفاقا جديدة. ذلك أننا في تلك السنين أي حوالي سنة 1905 أو 1906 لم نكن نعرف من معنى الأدب سوى القواعد الجامدة للبيان والبلاغة التي نحفظها عن ظهر قلب في جمود أو كراهة. ولكنا كنا نتذوق شيئا من الجمال الفني في مقالات اللواء ومصباح الشرق. وكنا نقرأ كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي أو كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع. والواقع أن أسلوب الأول يخالف أسلوب الثاني؛ فإن الماوردي مسهب غير ململم أو محبوك في حين أن ابن المقفع موجز رصين مضبوط. ولذلك كانت رؤيا جديدة بل إلهاما جديدا أن أعرف مجلة «الجامعة» لفرح أنطون. ثم اقتنيت مؤلفات هذا الكاتب العظيم، فرأيت دنيا جديدة من الأدب الأوروبي لم نكن نعرف عنها شيئا من قبل. وقد مس هذا الأدب أوتارا في نفوس جميع قارئيه في الشرق العربي؛ لأن هذه الدنيا الجديدة من الأدب الأوروبي كانت تختلف - لا بل تناقض - ما تعلمنا من أدب عربي؛ ذلك لأن الأدب العربي - كما كنا نعرفه في ذلك الوقت - كان أدب السلطة والتقاليد والعقائد. ولكن الأدب الأوروبي - أو بالأصح الفرنسي - الذي نقله إلينا فرح أنطون، كان أدب الثورة والتمرد، أدب العقل الذي يحس والقلب الذي يعقل، أدب فولتير وروسو وديدرو وبرناردان دواسان بيير. وكان جميع هؤلاء مجاهدين يكافحون استبداد الملوك والأمراء واستبداد العقيدة وسلطان التاريخ.
وكنا نحن في مصر في حال اجتماعية وسياسية تحملنا على الترحيب بهذا الأدب، ففتحنا له قلوبنا، لا بل تفززنا وتمردنا. وكان هذا الأدب هو الذي هيأ فرنسا التهيئة الذهنية للثورة الكبرى. ويبدو لي الآن أن فرح أنطون لم يكن على جهل بما يعمل. فإنه خرج من لبنان حوالي سنة 1900 وكان هذا القطر يغط في ركود تاريخي آسن، وقد خيمت عليه الدولة «العثمانية» ومنعت عنه النور إلا بصيصا يتلقاه الشباب في كلية بيروت الفرنسية أو الجامعة الأمريكية. ودرس فرح أنطون الفرنسية وتشبعت نفسه وذهنه بآدابها. فلما رحل إلى مصر وجد شيئا من الحرية، ولكنه أدرك أن الظلام الذي كان يشكوه لبنان هو نفسه الظلام الذي تشكوه مصر مع فرق في الدرجة فقط. فعمد إلى هؤلاء المؤلفين الفرنسيين الذين ذكرت أسماءهم ينقل عنهم أو يستلهمهم في كل ما يكتب. ومن هنا كانت جدته وطرافته لي بل لجميع قرائه؛ فإن «المقتطف» لم يكن يعنى بالأدب. وكان «مصباح الشرق» جريدة أدبية يصدرها المويلحي، ولكن لأدب العرب فقط. أما الجامعة فانفجرت بيننا تنير وتشير وتثير؛ أي تنير عقولنا، وتشير إلى مبادئ ومناهج رتبها أدباء فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر. وكان يحس أننا في حاجة إلى هذه المبادئ والمناهج؛ ولذلك أثارنا بترجمة قصة الثورة الفرنسية لألكسندر دوماس. ولا أعرف واحدا يقظا في تلك السنين لم يقرأ هذه القصة ولم يتغير بها وبسائر مؤلفات فرح أنطون.
وكان جديرا بهذه المؤلفات أن تحدث حركة رومانسية ابتداعية في الأدب العربي، ولكنها للأسف لم تحدث. فإن خلاصتها أن الإنسان حسن مسالم، ولكن المجتمع سيئ يحمله على الرذائل. وما كان أبدعها من فكرة لمثل أمتنا في مثل ذلك العصر أي حوالي 1905 أو 1906. فإن هذه الفكرة كانت جديرة بأن تختمر وتبعث النشاط الذهني في جميع القراء، كما تبعث وجدانا أدبيا جديدا ينضج ويتوالد في شتى الأفكار والآراء.
ولعلي محتاج هنا إلى أن أشرح ماذا أقصد إليه من الاتجاه الرومانسي في الأدب؛ فإن الأدب يمكن أن يقسم من ناحية المزاج والاتجاه وقواعد التفكير واللغة بأنه أدب كلاسي اتباعي أو أدب رومانسي ابتداعي. وليس أحدهما خيرا من الآخر، ولكنهما مختلفان. وفي فترة ما تحتاج الأمة إلى النزعة الاتباعية في حين أنها في فترة أخرى قد تحتاج إلى النزعة الابتداعية.
فالنزعة الاتباعية تقتضي العناية بالماضي والجري على أساليب السلف والتقيد بالنصوص في قواعد التفكير واللغة. ففولتير اتباعي، وطه حسين في كتابه عن المعري اتباعي، والعقاد في كتبه عن رجال الإسلام الأولين اتباعي، وقس على هذا.
والنزعة الابتداعية تقتضي الخيال أكثر من التقيد بالنصوص. وهي تجنح إلى التحلل من النص والقاعدة؛ ولذلك كان روسو ابتداعيا كما أن طه حسين في «الأيام» ابتداعي، وكذلك توفيق الحكيم ابتداعي في معظم ما يكتب.
ونحن محتاجون إلى النزعتين، ولكنا في مصر أكثر احتياجا إلى النزعة الابتداعية؛ لأنها في النهاية نزعة التجديد واقتحام المستقبل.
وكان فرح أنطون فيما ألف ونقل رومانسيا ابتداعيا، بل إن أول الكتب التي نقلها عن الفرنسية كان كتاب «إميل» لجان جاك روسو، وهو يعد أساسا للحركة الرومانسية في أوروبا، حيث يقول بأن الطبيعة البشرية حسنة يفسدها المجتمع والحكومات والقوانين. وهذا الكتاب - مع الأسف - لم يطبع إلى الآن.
ولكن حياة فرح أنطون في ذلك الوقت بترت؛ لأنه وقع في مناقشات تمس الدين مع الشيخ محمد عبده، فبارت مجلته بعد الرواج، ورحل إلى القارة الأمريكية حيث اشتبك في خصومات صحفية لم يكن القلم وحده أداة الرأي والحجة فيها، فعاد مهزوما إلى مصر.
Bog aan la aqoon