وكان علي يوسف صاحب جريدة «المؤيد» معدودا بين كبراء الكتاب الصحفيين يحسن المناقشة ويلتزم المنطق والتعقل. وكان «المؤيد» قليل الانتشار يسبقه «اللواء» ويطغى عليه بمقالات مصطفى كامل النارية. ولكن «المؤيد» كان يثب في الأزمات؛ ففي حادث دنشواي مثلا أقبل عليه القراء - وهم في كمد وحزن وحيرة - يقرءونه ويتعقلون ما يكتبه عن السياسة الإنجليزية المصرية وينظرون للمستقبل من خلال بصيرته.
ولكن علاقة الشيخ علي يوسف بالخديوي جعلته يتجه صوب إستامبول أو كما كانوا يسمونها «الأستانة العلية»؛ حتى إنه عندما أسس «مجلس المبعوثان» في تركيا دعا المصريين إلى أن يرسلوا نوابا عنهم فيه؛ إذ إن مصر جزء من الدولة العثمانية ...
أما مصطفى كامل فكان يغزو قلوب الشبان. وكان إذا أعلن عن خطبة يلقيها تجمع الألوف لسماعه، وكان في شبابه وحماسته إغراء للشبان. وقد مات بالدرن ولما يبلغ الثانية والثلاثين.
وفي تلك السنين شبت الحرب بين روسيا واليابان، فاتجه الرأي العام نحو اليابانيين باعتبار أنهم أمة شرقية مثلنا، فكنا نفرح كلما قرأنا عن هزيمة روسية؛ لأن روسيا كانت تمثل في أذهان الجمهور أوروبا التي تنتمي إليها بريطانيا، كما أن يابان كانت تمثل يقظة الشرق. حتى إن مصطفى كامل ألف عنها كتابا باسم «الشمس المشرقة».
وأحدث خليل صادق نهضة أدبية في تلك السنين بسلسلة من القصص كانت تخرج كل شهر باسم «مسامرات الشعب» وهي قصص مترجمة عن الفرنسية والإنجليزية اشترك في الترجمة له فيها كتابنا المعروفون مثل حافظ عوض وعبد القادر حمزة «باشا» ومحمود أبو الفتح وغيرهم. ولكن الأدب لم «يتمصر» في ذلك الوقت؛ لأن كفاحنا للإمبيريالية البريطانية كان يستغرق كل مجهودنا، فكان الكاتب الذي يجد في نفسه القدرة على التعبير الفني يلتفت إلى السياسة قبل الأدب، ويجاهد في إيقاظ الوجدان المصري الوطني. وما نقصنا نحن من هذه الوجهة سده إخواننا السوريون واللبنانيون عنا: وهم بالطبع كانوا أقرب إلى الثقافة العصرية الأوروبية منا؛ لأنهم تعلموا في الجامعة الكاثوليكية والجامعة الأمريكية في بيروت، وهم أيضا - لأن عددا كبيرا منهم كانوا مسيحيين - لم يجدوا العائق السيكلوجي الذي كنا نجده نحن في مصر إزاء الثقافة الأوروبية العصرية.
وكنا فيما بين 1903 و1908 في تبلبل سياسي وفي تبلبل آخر أدبي واجتماعي، فقد كانت تسود وجداننا السياسي نزعتان: الأولى والكبرى هي الاتجاه نحو الدولة العثمانية، والدفاع عن استقلالنا المصري؛ بدعوى أننا جزء من هذه الدولة العثمانية. وواضح أن موقفنا هنا كان حائرا مقلقلا. ثم كانت النزعة الأخرى وقد بزغت ضعيفة تتلجلج بل لا تكاد تنطق، وهي الدعوة إلى الاستقلال المصري التام والتخلص من بريطانيا وتركيا معا.
أما التبلبل الأدبي فلم نكد نحس به في تلك السنوات. وكان جميع الكتاب، باستثناء اللبنانيين، يعنون بالأدب دراسة القدماء من العرب لا أكثر. ولكن كان هناك تبلبل اجتماعي وضع خميرته محمد عبده وقاسم أمين، ونمت وزكت هذه الخميرة في الوسط الإسلامي، وأصبح لها دعاة وخصوم.
وكان الخديوي عباس محبوبا إلى سنة 1907 يجد فيه الشباب رمزا للكفاح. وكانت شراسة كرومر - الذي كان يرغب في معاملته كما لو كان أحد مهراجات الهند - تنبه فيه هذا الكفاح. وتعلق به الجمهور وشاعت عنه مواقف وطنية. ومما سمعناه في تلك السنين أن ويصا واصف ومرقس حنا وعددا آخر - معظمهم من المحامين - قصدوا إلى سراي عابدين وانتظروا إلى أن هم الخديوي بركوب عربته، فأصروا على أن يحلوا خيولها ويجروها هم. ولكن الخديوي اتخذ موقفا معارضا لاتجاهات الشيخ محمد عبده نحو الأزهر؛ فكان - أي الخديوي - يصر على أن يبقى الأزهر كما كان منذ مئات السنين محافظا لا تتسرب إليه تيارات الثقافة العصرية، وكان محمد عبده يصر على أن يتطور الأزهر إلى جامعة عصرية. واتجه المستنيرون من الأمة وجهة محمد عبده فازوروا عن الخديوي.
ولكن أعظم ما جعل الجمهور المصري يتغير على الخديوي هو ما كان يسمى بسياسة الوفاق؛ فإن الإنجليز - بعد أن رأوا سياسة كرومر الشرسة مع الخديوي قد أحالته إلى وطني يدس لهم ويؤيد الحركات الوطنية ضدهم - عينوا السر الدون جورست وكيلا لهم بالقاهرة؛ فتحبب هذا إلى الخديوي وزاد في سلطته. وارتاح الخديوي إلى هذا التغيير ارتياحا عظيما جدا، وشرع يعارض الحركات الوطنية الدستورية، ويسير مع الإنجليز في «سياسة وفاق» كان ضررها بالأمة فادحا.
وكانت سياسة الوفاق هذه سببا في انقلاب مصطفى كامل؛ إذ إنه أبى أن يسير مع الخديوي، وأصر على الكفاح. ولم تمض سنوات حتى أصيب جورست بالسرطان ومات به في إنجلترا. وأعرب الخديوي عن حبه له، وتقديره لسياسة الوفاق بأن زاره خفية وهو على فراش الموت.
Bog aan la aqoon