المشهور لقاتل النفس وهو دخول النار بجامع إضاعةِ الحق فيهما؛ ولأن القضاء قد يتعلق بالقصاص، فإذا تساهل فيه قتل نفسًا خطأ قريبًا من العمد لأجل التساهل. وقد بلَّغ سلمان النصيحة والتذكير بخوف الله تعالى فاستقاموا وأقاموا العدل وسادوا العالم، فلما انقلبت الحال في عقائد الناس إلى المساهلة في أمر الله، والاستخفاف بالوعيد تحت اسم الرجاء وما هو إلا الإرجاء، واتكل الناس على الطمع في المغفرة آل بهم الأمر إلى الإدبار.
قال حجة الإسلام أبو حامد في كتاب الرجاء من إحياء علوم الدين: «المحبوب المتوقع لا بد أن تكون له أسباب، فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه فهو الرجاء حقيقة، وإن كان مع انخرام أسبابه فهو الغرور، وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا العدم فهو التمني» ا. هـ. ومعرفة الأسباب تسهل لم يعرض نفسه على كتاب الله تعالى ولا يصغي إلى ما يغر به الغرور من الاستخفاف وتهوين أمر الله عند عامة عباده.
«فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما، ثم قال: ارجعا إليَّ أعيدا عليَّ قصتكما» هذا أصل عظيم في أن المرء لا يأمن من الخطأ مهما بلغ به العلم وأنه يجب تعقب الأحكام لإزالة الخطأ عنها وإن تقرر الخطأ للقاضي إذا لاح له، فاستنكافه عن نقض حكمه شر الجورين، فإن جعل ذلك إليه بالولاية فظاهر وإن لم يجعل إليه نقض أحكامه وجب عليه رفعها لمن إليه النقض والإبرام.
«متطبب والله» قد يقف النظر هنا ريثما يستبين أمر هاته الكلمة فإنه يرى أبا الدرداء بعد أن نصح له سلمان بأن المتطبب لا يأمن أن يقع فيما يدخله النار وقبل النصيحة منه أخبر عن نفسه بأنه متطبب فيتساءل: لماذا لم يترك هاته الخطة لطبيب فيظن أن هاته كلمة تواضع منه، ولكنه ما يقدم خطوته حتى يرى يمين أبي الدرداء على ذلك الذي يعين كلامه للحقيقة، وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ اعتادوا من قدوتهم الأعظم العصمة فصاروا على وجل من اقتحام القضاء بين الناس مع انتفاء العصمة؛ ولذلك قال أبو بكر ﵁: «أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله شيئًا من رأيي؟ !»، فكذلك أبو الدرداء لما اعتبر بكلام سلمان رأى أن التطبب لا يفارق غير المعصوم، فقال: متطبب والله، فينبغي أن يكون مراده تطببًا غير التطبب الذي أراده سلمان، وأحسب أنه أراد به عدم أمن المجتهدين من الخطأ في اجتهادهم، فهم لا يسلم من الوعيد إلا إذا بذل مقدار استطاعته مع
1 / 71