مظنة المقدرة والتأهل من نفسه؛ لأن الخطأ لا ينافي العلم والنظر، ولا يلام في ذلك إلا حيث يكون الخطأ في محل الوضوح والحياد عن الدليل إلى غيره، أو مع التقصير في تقصي النظر ومعرفة الحجج، فهو بإعادة النازلة يستدرك ما عسى أن يلم به من خطأ على غرة، ولو كان أبو الدرداء شاكًّا في كفاءته لمنعته عدالته من أن يلي هذا الأمر، وفي كلام أبي الدرداء ما يصدق قول رسول الله ﷺ فيه: «إنه حكيم»، فقد دلَّ على سعة صدره وترحابه بما يسدي إليه من النصائح؛ وذلك آية الكمال ومحبة الحق؛ لأن النفوس الكبيرة لا يهمها إلا المشي على الصواب أبدًا؛ فهي لا تحب أن تخالفه؛ ولذلك تبتهج بكل ما يجنبها الضلال عنه، أما النفوس المستضعفة والعقول السخيفة فإنها تستنكف عن شعور الناس بحالها؛ إذ ليس لها ما تقنع به نفسها إلا المغالطة والتناسي، فهي لا تستطيع كمالًا مع شعورها بالعجز عنه؛ فلذلك يكون ذكره لها تعبًا ونكدًا خلاف الأخرى، فإنها إن لاح لها خطأ في بعض أعمالها تعزت بالصواب في بقيتها، فأنشد حالها قول أبي الطيب:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه
قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٤٢، ١٢٥]، وفي ملازمة أبي الدرداء لهاته الكلمة إشعار بتحفظه على النصيحة حتى لقد اتخذ لفظها شعارًا له لا يفارقه ذكره في كل قضية، وكذلك حكماء الناس إذا اهتموا بأمر ربما اتخذوا اسمه شعارًا لهم حتى لقد كانت تعرف أخلاق الرجل منهم في اختيار نفش خاتمه، وهذه سنة كل قول إنما يعتد به إذا تبعه عمل وبمقدار ذلك يكون النفع والتأثير، فأيما قول أو علم لم يتبعه عمل فهو تبعات على صاحبه؛ لهذا تعوذ رسول الله ﷺ من علم لا ينفع، أي: لا ينشأ عنه عمل، قد كان من دعاء رسول الله ﷺ: «اللهم انفعني بما علَّمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا»، والله أعلم.
* * *
1 / 72