أول عناصر السلطة هو أن يكون الرأي قديما؛ فالآراء الموروثة عن الأجداد يعتقد أن لها قيمة خاصة، وأنها تفوق الآراء التي يقول بها المعاصرون. ويرتكز هذا العنصر على الاعتقاد بأن الحكمة كلها والمعرفة كلها تكمن في القدماء، ومن هنا فهو مبني - بطريقة ضمنية - على نظرة إلى التاريخ تفترض أن هذا التاريخ يسير في طريق التدهور، وأن مراحله الماضية أعلى مستوى من مراحله الحاضرة.
ومن المؤكد أن في هذه النظرة إلى التاريخ نوعا من التمجيد الرومانسي أو الخيالي للماضي، وللأجيال التي كانت تعيش فيه، وهي - بلا شك - تقوم على فكرة لا تستند إلى أساس من الواقع؛ لأن القدماء كانوا بشرا مثلنا، معرضين للصواب والخطأ. وكل ما في الأمر أن الإنسان - إذا كان يضيق بحاضره أو يجد نفسه عاجزا عن إثبات وجوده في الحاضر - يصبغ الماضي بصبغة ذهبية، ويتخذ منه مهربا وملجأ يلوذ به. بل إننا نستطيع أن نقول - مع بيكون - إن الأجيال القديمة - التي نتصور أنها تمثل شيخوخة البشرية وحكمتها - هي في الواقع أجيال جديدة؛ ومن ثم فهي تمثل طفولة البشرية. أما الأجيال الحديثة - التي نصفها بالطفولة ونقص الحكمة والتجربة، وندعوها دائما إلى أن تأخذ الحكمة من أفواه القدماء المجربين - فإنها تمثل في الواقع أقدم أجيال البشرية، وتفسير هذه المفارقة أمر هين؛ إذ إن الجيل القديم عاش في وقت لم تكن البشرية قد اكتسبت فيه تجارب كافية، ومن هنا فإن خبرته وحكمته محدودة، على حين أن الجيل الحديث قد اكتسب خبرة من هم أقدم منه، وأضاف إليها خبرته الخاصة، ومن ثم فهو الأجدر بأن يعد - بمقياس الخبرة والتجربة - قديما. وليس هذا حكما ينبغي إطلاقه - دون تمييز - على كل فرد، بل هو حكم يقال على سبيل التعميم، ولا يمنع بطبيعة الحال من وجود استثناءات.
والذي يهمنا من هذا هو أن قدم الرأي لا ينبغي أن يعد دليلا على صوابه، وأن البشرية قد عاشت ألوف السنين على أخطاء لم تكن تجرؤ على مناقشتها؛ لأنها ترجع إلى عهود الأجداد الأوائل، ومع ذلك تبين لها خطؤها عندما ظهر مفكر قادر على تحدي سلطة «القديم»؛ فمنذ أقدم العصور والناس تعتقد أن الأرض ثابتة والكواكب والنجوم تدور حولها؛ أي إن الأرض مركز الكون، وكانت شهادة الحواس - التي ترى الأجرام السماوية تغير مواقعها من الأرض باستمرار - دليلا حاسما على أن هذا الرأي «القديم» يعبر عن حقيقة ثابتة، ومع ذلك فقد أتى كبرنيكوس - في القرن الخامس عشر - ليتحدى هذه السلطة الراسخة منذ القدم، وليقول بالفرض العكسي، ولم يمض جيل أو اثنان إلا وكان هذا الفرض مؤيدا بشواهد علمية قاطعة تثبت صحته، وتثبت أيضا أن قدم الرأي ليس دليلا على صوابه، وقل مثل هذا عن نظرية العناصر الأربعة - الماء والهواء والنار والتراب - التي قال بها القدماء وأيدتها العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية، وظلت تعد من حقائق العلم الثابتة حتى أتى «لافوازييه» في القرن الثامن عشر فأثبت بطلانها، وتبين للجميع - بالدليل العلمي القاطع - أن «الهواء» ليس عنصرا، بل مجموعة من العناصر، وكذلك الحال في الماء الذي تبين أنه مؤلف من عنصرين ... إلخ.
والواقع أن الميل إلى الأخذ بسلطة القدماء يزداد في عصور الركود والانصراف عن التجديد، ولا يمكن القول أنه ميل طبيعي في العقل البشري. ومن هنا يمكن القول: إن هذا الخضوع لسلطة القدماء ليس - في ذاته - هو المؤدي إلى تخلف الفكر العلمي، بل إن هذا التخلف هو الذي يؤدي إليه إذا شئنا الدقة في التعبير؛ والدليل على ذلك أن التقيد بسلطة القديم كان هو القاعدة السائدة في العصور الوسطى؛ لأن العصر ذاته كان عصر تحجر وجمود، ومن هنا كان من الضروري التعويض عن هزال الحاضر بسلطة القديم. وعلى العكس من ذلك فإن العصور الحديثة قد حاربت هذا النوع من السلطة بكل ما أوتيت من قوة؛ لأنها كانت عصورا ديناميكية متحركة، يسودها الإحساس بالتفاؤل والثقة بقدرة الإنسان على التحكم في قوى الطبيعة. بل إن الإنسان المعاصر - في بلاد العالم المتقدمة - يكاد ينتقل إلى الطرف المضاد، فلدى الأجيال الجديدة إحساس واضح بأنها هي الأحكم والأوسع معرفة، وبأن الأجيال القديمة لم تكن تعرف من أمور الحياة شيئا، وهي تقابل آراء القدماء بالسخرية، ومن الصعب إقناعها إلا بآراء مستمدة من منطق العصر. وهكذا أصبح القديم - في نظر هذه الأجيال - مرفوضا لمجرد أنه قديم، وأصبح الجديد يستمد من جدته وحدها قدرته على إقناعها. ومن المؤكد أن السعي الدائم وراء «الموضات» - بالمعنى الفكري والأخلاقي أيضا لا بالمعنى المظهري وحده - إنما هو تعبير ملموس عن هذا السعي إلى التجديد الدائم، وعن عدم الثقة في كل ما يكتسب صفة «القدم». كذلك فإن المشكلة الحادة التي أصبحت تعرف في المجتمعات الصناعية باسم مشكلة «الفجوة بين الأجيال»، هي تعبير آخر عن عصر يشعر بأنه مختلف عن كل العصور السابقة إلى حد أن الأبناء فيه يعدون آباءهم أشخاصا ينتمون إلى جيل قديم يصعب التفاهم معه، ويستحيل السلوك في الحياة وفقا لمبادئه وقيمه.
هذا الموقف يعد - بطبيعة الحال - موقفا متطرفا؛ إذ إن من الخطأ أن تعتد الأجيال الجديدة برأيها إلى الحد الذي ترفض فيه مجرد الحوار مع الأجيال القديمة، مثلما أن من الخطأ أن تتصور الأجيال القديمة أنها تستطيع أن تفرض رأيها على الجيل الأحدث الذي يعيش ظروفا مختلفة، ويمر بتجارب ويكتسب خبرات لم تألفها الأجيال السابقة. ولكن وجود هذا الموقف يدل على أن من الممكن تصور حالة مضادة يكون فيها قدم الرأي سببا كافيا لرفضه. وهذا هو الموقف الذي يسود المجتمعات ذات الإيقاع سريع التغير، التي يعد فيها البحث عن الجديد مبدأ أساسيا من مبادئ الحياة، وعلى أية حال فحسبنا أن نضع أمامنا هذين النمطين اللذين يقدس أحدهما القديم لمجرد كونه قديم، ويبحث الآخر عن الجديد دون أي اكتراث بما سبقه، ولنبحث لأنفسنا عن الموقع الذي نختاره بين هذين الطرفين القصيين. (2-2) الانتشار
إذا كانت صفة القدم تعبر عن الامتداد الطولي في الزمان، فإن صفة الانتشار تعبر عن الامتداد العرضي بين الناس، فالرأي يكتسب سلطة أكبر إذا كان شائعا بين الناس، وكلما ازداد عدد القائلين به كان من الصعب مقاومته، والحجة التي توجه دائما إلى من يعترض على رأي شائع بين الناس هي: هل ستكون أنت أحكم وأعلم من كل هؤلاء؟
على أن العلماء المصلحين والمفكرين كانوا - عندما يواجهون بهذه الحجة - يقولون دائما: نعم، ولولا أن بعض العظماء من أفراد البشر تجاسروا على أن يقولوا «نعم» هذه - في وجه معارضة ألوف مؤلفة من الناس - لما تقدمت البشرية في مسيرتها، ولما اهتدت إلى حقائق أصدق أو شرائع أفضل أو قيم أسمى مما كان يسودها من قبل، وصحيح أن هؤلاء الأفراد يكونون قلة في البداية، ولكن الحقيقة التي يحملونها في صدورهم، والحماسة التي يدافعون بها عنها، تظل تتسع وتتسع حتى تفرض نفسها في النهاية على الجموع الكثيرة، ثم يأتي الوقت الذي تتجمد فيه الحقيقة الجديدة وتتحجر، أو يضيق بها تطور الزمن ، فيصبح من المتعين ظهور مصلح جديد وهكذا ...
والأمر الذي يحتم عدم التقيد بشيوع الرأي بوصفه مصدرا للسلطة، هو أن جموع الناس تبحث عادة عن الأسهل والمريح، وهي تتجمع سويا حول الرأي الواحد مثلما تتلاصق أسراب الطيور لتحمي نفسها من الصقيع، وكلما كان الرأي منتشرا ومألوفا كان في قبوله نوع من الحماية لصاحبه؛ إذ يعلم أنه ليس «الوحيد» الذي يقول به، بل يشعر بدفء الجموع الكبيرة وهي تشاركه إياه، ويطمئن إلى أنه يستظل تحت سقف «الكثرة الغالبة». أما إحساس المرء بأنه منفرد برأي جديد، وبأنه يقتحم أرضا لم تطأها قدم أخرى من قبل، ويتعين عليه أن يخوض معركة مع الكثرة الغالبة لكي يحمي فكرته الوليدة، أما هذا الإحساس فلا يقدر عليه إلا القليلون، وعلى يد هؤلاء حققت البشرية أعظم إنجازاتها.
ولو تأملنا الواقع المحيط بنا لوجدنا ما يؤيد هذا الرأي في كل مكان؛ فالقصة البوليسية الرخيصة تنتشر بين أعداد تزيد أضعافا مضاعفة عن أولئك الذين يقرءون الأدب الرفيع، والصحف «الصفراء» (أعني صحف الإثارة والفضائح والصور العارية) توزع أضعاف ما توزعه الصحف الجادة، والمغني الذي يردد أسخف الألحان وأتفه الكلمات يكسب في الأغنية الواحدة أضعاف ما كسبه «بيتهوفن» طوال حياته، والفيلم السينمائي الهابط - الذي يعري أكبر مساحة تسمح بها الرقابة من جسد بطلاته - قد يدوم عرضه سنوات، بينما لا يستطيع الفيلم الذي ينطوي على فكرة عميقة أن يكمل أسبوعه الأول والأخير. وهكذا تتوالى الشواهد التي تدل على أن الانتشار بعيد كل البعد عن أن يكون مقياسا للجودة، ومن ثم معيارا صالحا للسلطة.
على أن الأمر الذي ينبغي أن ننتبه إليه هو أن تحدي سلطة الانتشار لا يؤتي ثماره المرجوة إلا إذا كان من يقوم به على مستوى المهمة التي يأخذها على عاتقه؛ ذلك لأن هناك أناسا يمارسون عملية التحدي هذه من موقع السطحية، ومن منطلق التفاهة، ولا يقودهم في سلوكهم إلا مبدأ «خالف تعرف»؛ فهم يتصورون أن وقوفهم في وجه الرأي أو الذوق أو الاعتقاد الشائع كفيل بأن يجلب لهم الشهرة، دون أن يكون في وسعهم أن يقدموا بديلا عما يعترضون عليه، وهؤلاء أبعد الناس عما نعني؛ فتحدي السلطة الشائعة ينبغي ألا يتم إلا على أيدي أولئك الذين يملكون الدليل على بطلانها ويملكون البديل عنها، بل إننا نستطيع أن نصف أولئك السطحيين - الذين يلجئون إلى رفض ما هو شائع التماسا للشهرة - بأنهم خاضعون لسلطة أخرى، هي سلطة الرفض أو التجديد، على الرغم مما في هذا التعبير الأخير من مفارقة.
Bog aan la aqoon