ولنضرب لذلك مثلا واحدا أظن أنه أصبح في عصرنا هذا مألوفا: ظهرت فكرة التمرد على الملابس وشكل الشعر - بين بعض الشبان في الغرب - بوصفها احتجاجا على سلطة المجتمع «المظهري» «المتأنق» الذي يخلو - داخليا - من العمق ومن الإحساس بنبض الحياة ومن التعاطف الإنساني، ولا يكترث إلا بتلبية مطالبه الاستهلاكية. وإلى هذا الحد نستطيع أن نفهم الدوافع التي أدت بهؤلاء الشبان إلى أن يرتدوا ثيابا مهلهلة رثة ويرسلوا شعورهم، وغير ذلك المظاهر التي نعرفها جيدا. ولكن العدوى تنتقل إلى شبان آخرين ينتمون إلى مجتمعات أخرى، ولا يعرفون شيئا عن الخلفية الفكرية والاجتماعية التي ظهرت في ظلها هذه الموجة، فإذا بالمظهر «الشبابي» الجديد يصبح ضرورة أساسية لهم، وتضيع الفكرة تماما حين تنتشر بينهم ملابس غالية الثمن إلى أبعد حد، ولكن مصمميها يتفننون لكي يعطوها «مظهر» القدم والهلهلة! وينفق الواحد منهم جزءا كبيرا من ميزانيته لكي «يصفف» شعره على النحو الذي «يبدو» معه مسترسلا، خارجا عن المظهر القديم. وهكذا فبينما كان الخروج عن سلطة المألوف - في البداية - أمرا مفهوما؛ لأنه على الأقل ينطوي على فلسفة معينة - هي رفض القيم السائدة في المجتمع الاستهلاكي - نجده يتحول على يد هؤلاء المقلدين إلى شيء غير معقول على الإطلاق؛ لأنه يتم في إطار القيم الاستهلاكية ذاتها، بل يشجع على المغالاة في هذه القيم. وبينما كان الرفض في البداية تعبيرا صادقا عن موقف أصيل، أصبح الرفض بعد ذلك تعبيرا عن «محاكاة»؛ أي إنه ناقض نفسه، وحول الرفض الأصلي إلى نمط عام يقلده الألوف بلا شخصية وبلا تفكير مستقل.
وهكذا يتعين علينا أن نفرق بوضوح بين من يخالف الرأي الشائع؛ لأن لديه شيئا جديدا، وبين من يخالفه لكي يشتهر بهذا المظهر فقط، دون أن يكون في واقع الأمر قادرا على الإتيان بأي جديد. (2-3) الشهرة
يكتسب الرأي سلطة كبرى في أذهان الناس إذا صدر عن شخص اشتهر بينهم بالخبرة والدراسة في ميدانه، والواقع أن الشهرة تجلب المزيد من الشهرة، تماما كما أن المال يجلب المزيد من المال، فيكفي أن يشتهر إنسان - لسبب قد لا يكون له علاقة مباشرة بكفاءته - حتى يحدث تأثير «تراكمي» لنفوذه وسلطته على الناس، بحيث تتبع الجماهير أخباره وتتلقف كلماته، وتزيد عليها تفسيرات وتأويلات تعطيها قيمة لا تكون جديرة بها أصلا.
ووجه الخطورة في هذا العنصر من عناصر السلطة يتمثل في النقاط التالية: (أ)
إذا كان الشخص المشهور ينتمي إلى عصر غير عصرنا، فمن الواجب أن ندرك أن شهرته - التي ربما كان لها ما يبررها في وقتها - لا ينبغي أن تنطبق على كل زمان، ولقد كان هذا هو الخطأ الذي ارتكبته العصور الوسطى في نظرتها إلى أرسطو؛ إذ إن شهرته في عصره ظلت ممتدة إلى عصور تالية، مع أن العالم أو الفيلسوف - مهما كان عملاقا في عصره - لا يستطيع أن يفي بمطالب كل عصر لاحق. ومن حسن الحظ أن هذا الخطر قد تضاءل في العصر الحديث، بعد أن اكتسب الإنسان حاسة تاريخية مرهفة، وأصبح يربط بين المشاهير وبين المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها، فيعترف لهم بفضلهم في دفع الإنسانية إلى الأمام، ولكنه لا يمتد بشهرتهم وسلطتهم إلى أبعد مما يسمح به دورهم التاريخي، وهكذا فإن من غير المتصور أن يظهر في عصرنا الحديث «أرسطو» جديد، بعد أن أصبح «النقد» جزءا لا يتجزأ من تقديرنا للمشاهير. (ب)
أما إذا كان الشخص المشهور معاصرا لنا، فإن هناك خطرا من نوع جديد، يتمثل في أجهزة الإعلام الحديثة، التي تملك الوسائل الكفيلة «بتضخيم» الشهرة وإعطائها أبعادا تفوق ما تستحقه بكثير؛ ففي استطاعة أجهزة الإعلام أن تجعل شخصا معينا يدخل كل بيت، من خلال صفحات الجريدة أو البرنامج الإذاعي أو التليفزيون، وفي استطاعتها أن تكرر هذه التجربة وتلح عليها إلى الحد الذي تفرض معه شهرة هذا الشخص على الجميع، وهكذا يظهر نظام أشبه بنظام «نجوم السينما» في العلم ذاته؛ إذ تتكرر أسماء معينة، فلا تكاد تعترضنا مشكلة في ميدان معين حتى يقفز إلى أذهاننا على الفور اسم ذلك «النجم» الذي اشتهر بفضل وسائل الإعلام، وقد لا يكون أكثر الناس خبرة بهذا الميدان، وقد لا تكون شهرته إلا مصطنعة.
والأخطر من ذلك أن أجهزة الإعلام هذه قادرة على «نقل السلطة» من ميدان إلى آخر، وهذا هو المبدأ الذي تقوم عليه كثير من الإعلانات؛ إذ تظهر الممثلة السينمائية الجميلة مثلا في إعلان عن معجون أسنان، مع أن شهرتها في ميدانها الأصلي لا تبرر على الإطلاق أن تكون خبيرة في ميدان طب الأسنان، أو يظهر لاعب الكرة المشهور إلى جانب نوع من السيارات ربما لم يكن يعرف عنه شيئا طوال حياته، ومع ذلك فإن الشهرة «معدية». ومن المؤكد أن أمثال هذه الإعلانات المزيفة تحقق عائدا، وإلا لما تحمل المنتجون تلك النفقات الباهظة التي يتكلفها ظهور هؤلاء «المشهورين» في الإعلان. (2-4) الرغبة أو التمني
يميل الناس إلى تصديق ما يرغبون فيه أو ما يتمنون أن يحدث، وعلى العكس من ذلك فإنهم يحاربون بشدة ما يصدم رغباتهم أو يحبط أمانيهم، وهكذا كانت النظرية الفلكية الجديدة التي تجعل من الأرض مجرد كوكب في المجموعة الشمسية يدور حول مركز هذه المجموعة وهو الشمس، كانت هذه النظرية تلقى مقاومة شديدة في أيام عصر النهضة الأوروبية؛ لأنها تقضي على المكانة المميزة للإنسان، باعتباره أهم الكائنات التي تعيش في أهم كوكب في الكون، بل في المركز الذي تدور حوله كل الأجرام السماوية. وكان من أهم أسباب سلطة النظرية القديمة - التي ظلت كثير من الحقول ترفض التخلي عنها زمنا طويلا - أنها ترضي غرور الإنسان، وتستجيب لأمنية عزيزة من أمانيه. ومن المعروف أن رجال الكنيسة في أيام جاليليو كانوا يرفضون النظر في منظاره المقرب الجديد لكي يروا السماء - لأول مرة - بعين أقوى من العين البشرية العادية عشرات المرات؛ إذ كانوا يخشون أن تؤدي هذه النظرة إلى هدم عالم عزيز مألوف ارتاحوا إليه واكتسبوا مكانتهم فيه، وكانوا يجزعون من تلك المسئولية الفادحة التي سيتحملونها في ذلك العالم الجديد الموحش الذي تقول به نظرية كبرنيكوس، ذلك العالم الذي لا «يرث» فيه الإنسان مكانته لمجرد كونه إنسانا؛ أي أهم المخلوقات ومحورها وغايتها، بل يتعين عليه أن «يكتسبها» بعمله وجهده، وإلا ظل مهملا في عالم غير مكترث. (3) إنكار قدرة العقل
في مجال الفن والشعر والأدب يهيب الإنسان بقوى أخرى غير العقل قد يسميها الخيال أو الحدس، ويؤمن - عن حق - بأن هذه القوى هي التي توجهه في هذا المجال؛ لأن المنطق العقلي الدقيق يعجز عن الأخذ بيدنا حينما نكون بصدد إبداع عمل فني أو أدبي، ولكن المشكلة هي أن بعض المفكرين يعتقدون أن أمثال هذه القوى تصلح مرشدا لنا في ميدان المعرفة ذاته، وينكرون قدرة العقل في هذا الميدان، أو يجعلون له مكانة ثانوية، ومثل هذا التفكير كان - ولا يزال - عقبة في طريق تقدم العلم.
ولقد كانت أشهر هذه القوى التي حورب بها العقل - في عصور مختلفة وعلى أنحاء متباينة - هي قوة الحدس، وكلمة الحدس قد تفهم - في استخدامها العربي العادي - بمعنى مشابه لمعنى التخمين أو التكهن، ولكنها يمكن أن تتضح في أذهاننا إذا ما حددنا المجالات المختلفة التي يستخدم فيها هذا اللفظ استخداما فنيا دقيقا، وسوف نلاحظ أن معاني اللفظ - في كل هذه المجالات - تشترك جميعها في سمة أساسية، يكون فيها الحدس معرفة «مباشرة»، تتم بلا وسائط ولا خطوات متدرجة: (1)
Bog aan la aqoon