فإذا أخفقت محاولات ربط الخرافة بالعلم، فإن أنصارها يلجئون إلى آخر أسلحتهم وأخطرها على التفكير الشعبي، وهو الربط بين الخرافة والدين. وهكذا تراهم يستغلون وجود بعض الحقائق الدينية الغيبية - كالروح مثلا - ووجود بعض النصوص الدينية التي تتحدث عن السحر والحسد ... إلخ؛ لكي يدافعوا بحرارة عن حقيقة الظواهر الخرافية، مؤكدين أن الدين نفسه يدعمها. ولقد قلت إن هذا السلاح أخطر الأسلحة جميعا؛ لأنه أولا يستغل عمق الإيمان الديني من أجل تأكيد الفكر الخرافي، ولأنه يضع الدين - بلا مبرر - في مواجهة العلم، ويضع عقول الناس في مواجهة الاثنين معا، فتقف حائرة بين عقيدة متأصلة فيها، وبين منهج علمي تثبت صحته على أرض الواقع العلمي في كل لحظة.
وفي اعتقادي أنه ليس هناك ما هو أضر بقضية الدين من هذا الربط بينه وبين الخرافة، ولقد حاولت الكنيسة المسيحية في الغرب - منذ عصر النهضة - أن تسلك هذا الطريق المحفوف بالخطر، فكانت النتيجة هي ما نراه اليوم من انصراف الجماهير في الغرب عن عقيدتها بأعداد كبيرة. والواقع أن الكنيسة كانت في ذلك الحين تواجه تجربة جديدة كل الجدة ، فلم يكن من المستغرب أن ترتكب خطأ مهاجمة العلم بحجة أنه يتعارض مع نصوص دينية (كما في حالة قضية دوران الأرض و«ارتفاع» السماوات مثلا)، ولم يكن من المستغرب أيضا أن تضطهد كثيرا من العلماء اضطهادا معنويا وجسديا، ولكن الحصيلة النهائية لهذا كله كانت انتصار الحقيقة العلمية، واضطرار الكنيسة إلى التراجع عن مواقعها واحدا تلو الآخر، حتى أصبحت تدافع اليوم عن كثير من الأمور التي كان القول بها فيما مضى كافيا لاضطهاد صاحبها على يد الكنيسة ذاتها، ومع كل هذا التراجع فقد خسرت مواقع كثيرة، وأخذ تأثيرها على الأجيال الجديدة يتضاءل باستمرار.
أما نحن هنا في العالم العربي فلسنا مضطرين - على الإطلاق - إلى أن نسلك هذا السبيل المحفوف بالخطر؛ وذلك لأسباب كثيرة؛ فنحن أولا لسنا أول من يمر بهذه التجربة، بل إن أمامنا تجربة الغرب في موضوع العلاقة بين الدين والخرافة، أو العلاقة بين الدين والعداء للعلم؛ لكي نستخلص منها ما شئنا من العبر. ونحن ثانيا أصحاب دين فسره مفكروه وفلاسفته في صدر الإسلام تفسيرا لا يتعارض مطلقا مع البحث العلمي، بل يدفع الفكر والعلم إلى الانطلاق. ونحن ثالثا نعيش في عصر أصبح فيه الأخذ بالأسلوب العلمي في الحياة مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى المجتمع، فلماذا إذن يحاول الكثيرون أن يعيدوا التجربة المريرة للكنيسة الغربية مع الخرافة وضد العلم؟ ولماذا لا تتكاتف الجهود من أجل دعم وتأكيد التفسير الديني الذي يحارب الخرافة ويؤيد العلم؟ هذه مجرد أسئلة أطرحها وأنا لا أملك إلا الدهشة والاستنكار للتراجع المستمر إلى الخلف الذي تتسم به مناقشاتنا لهذا الموضوع في أيامنا هذه؛ فمن المؤسف أننا كنا نناقش هذه الموضوعات في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على مستوى أعلى بكثير من مناقشتنا لها في هذه الأيام، بعد أن أصبحت صدورنا أضيق واتهاماتنا للمفكرين تلقى جزافا واحترامنا بعضنا لآراء بعض مفقودا. ويبدو أن البعض يصرون على أن يعيدوا محنة الفكر العلمي في عصر النهضة الأوروبية مرة أخرى في بلادنا، ولكن الأمل معقود على أن تسود الحكمة ويغلب التعقل، فندرك أن طريق العلم لا رجوع فيه إلى الوراء، وأن الدفاع عن الخرافة تمسحا بالدين لن يضر قضية العلم كثيرا، ولكنه يسيء إلى قضية الدين إساءة بالغة. (2) الخضوع للسلطة
السلطة هي المصدر الذي لا يناقش، والذي نخضع له بناء على إيماننا بأن رأيه هو الكلمة النهائية، وبأن معرفته تسمو على معرفتنا.
والخضوع للسلطة أسلوب مريح في حل المشكلات، ولكنه أسلوب ينم عن العجز والافتقار إلى الروح الخلاقة. ومن هنا فإن العصور التي كانت السلطة فيها هي المرجع الأخير في شئون العلم والفكر كانت عصورا متخلفة خلت من كل إبداع، ومن هنا أيضا فإن عصور النهضة والتقدم كانت تجد لزاما عليها أن تحارب السلطة العقلية السائدة بقوة، ممهدة الأرض بذلك للابتكار والتجديد.
وأشهر أمثلة السلطة الفكرية والعلمية في التاريخ الثقافي هي شخصية أرسطو؛ فقد ظل هذا الفيلسوف اليوناني الكبير يمثل المصدر الأساسي للمعرفة - في شتى نواحيها - طوال العصور الوسطى الأوروبية؛ أي طوال أكثر من ألف وخمسمائة عام، كذلك كانت كثير من قضاياه تؤخذ بلا مناقشة في العالم الإسلامي؛ حيث كان يعد «المعلم الأول»، وإن كان بعض العلماء الإسلاميين قد تحرروا من سلطته في نواح معينة، ولا سيما في ميدان العلم التجريبي.
والأمر الذي يلفت النظر في ظاهرة الخضوع لسلطة مفكر مثل أرسطو، أن هذا الخضوع كان يتخذ شكل التمجيد - بل التقديس - لشخصية هذا الفيلسوف، ومع ذلك فقد جنى هذا التقديس على أرسطو جناية لا تغتفر؛ إذ إنه جمده وجعله صنما معبودا، وهو أمر لو كان الفيلسوف نفسه قد شاهده لاستنكره أشد الاستنكار؛ إذ إن الفيلسوف الحق - وأرسطو كان بالقطع فيلسوفا حقا - لا يقبل أن يتخذ تفكيره - مهما بلغ عمقه - وسيلة لتعطيل تفكير الآخرين وشل قدراتهم الإبداعية. بل إن أقصى تكريم للفيلسوف إنما يكون في عدم تقديسه وفي تجاوزه؛ لأن هذا التجاوز يدل على أنه أدى رسالته في إثارة عقولنا إلى التفكير المستقل على الوجه الأكمل. ومن ناحية أخرى فإن العصور الوسطى لم تأخذ من أرسطو «روح» منهجه التجريبي - الذي حاول الفيلسوف أن يطوره في المرحلة الأخيرة من حياته - بل أخذت منه «نتائج» أبحاثه، واعتبرتها الكلمة الأخيرة في ميدانها، فضاعفت بذلك من جنايتها على تفكيره.
وكان من الطبيعي أن يكون رد الفعل - في بداية العصر الحديث - قاسيا، وهكذا وجدنا فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت يبدآن فلسفتهما بنقد الطريقة الأرسطية التي تقيدت بها العصور الوسطى تقيدا تاما، ويؤكدان أن التحرر من قبضة هذا الفيلسوف هو الخطوة الأولى في طريق بلوغ الحقيقة. وفي ميدان العلم خاض جاليليو معركة عنيفة ضد سلطة أرسطو؛ إذ إن هذه السلطة كانت تساند النظرة القديمة إلى العالم بوصفه متمركزا حول الأرض، كما كانت تقول بنظرية في الحركة مبنية على أسس ميتافيزيقية، وكان لا بد من هدمها لكي يرتكز علم الميكانيكا الحديث على أسس علمية سليمة. وهكذا أخذ جاليليو يتعقب آراء أرسطو في الطبيعة واحدا بعد الآخر، ويثبت - بمنهجه العلمي الدقيق - بطلانها، وبذلك كان تفكيره العلمي في واقع الأمر من أقوى العوامل التي أدت إلى هدم سلطة أرسطو في مطلع العصر الحديث.
وفي استطاعتنا أن نستخلص من هذا المثل - أعني تقديس العصور الوسطى لآراء أرسطو وتفنيد الفلاسفة والعلماء في بداية العصر الحديث لها - أهم عناصر السلطة من حيث هي عقبة تقف في وجه التفكير العلمي، وأهم الدعامات التي ترتكز عليها.
3 (2-1) القدم
Bog aan la aqoon