وفي وسعنا أن نقول: إن هذا الكتاب بأسره ليس إلا محاولة لتفنيد الزعم بوجود هذا الطابع المزدوج في فلسفة اسپينوزا؛ وعلى ذلك فلا ضرورة لنقده في هذا المجال؛ إذ إن أي نقد كهذا لا بد أن يؤدي إلى إثارة مسألة تفسير فلسفة اسپينوزا بأسرها، وهي الفلسفة التي نعتقد أنها كانت متسقة إلى حد بعيد، أو أنها إن كانت تفتقر في مواضع فرعية إلى الاتساق؛ فهي على الأقل متسقة في هذه المشكلة الرئيسية: مشكلة الاختيار بين الاتجاهات العلمية الحديثة والاتجاهات اللاهوتية الوسيطية. فاسپينوزا في رأينا لم يكن مترددا في هذا المجال على الإطلاق، بل إنه اختار طريقه منذ البداية على نحو حاسم، وكان في اختياره منحازا بكل قواه إلى الاتجاه العلمي الحديث، الذي لم يكتف بتأييده، وإنما ارتفع في معظم الأحيان عن المستوى العام لمعاصريه في تفكيرهم الفلسفي في العلم. •••
ومن الحيل الأخيرة التي يلجأ إليها بعض الشراح للتقريب بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي، القول بأنه كان مصلحا يهوديا، وتمتاز محاولة التقريب هذه بأنها تنطوي على اعتراف بوجود عناصر كثيرة في تفكيره خرجت على التراث اليهودي، ولكنها تعلل هذا الخروج على التراث بأنه محاولة لإصلاحه - وبذلك يتحقق هدف الربط بين اسپينوزا وبين التيار اليهودي العام، بل وتصبح انتقادات اسپينوزا لهذا التراث وسيلة لتحقيق هذا الهدف.
ويعرض «دنر
Dunner » هذه الفكرة بوضوح إذ يقول: «إن القليلين هم الذين أدركوا أنه (أي اسپينوزا) أجرأ مصلح في اليهودية، وأنه أبرز فيلسوف يهودي حديث، يقف بمعزل عن التيار العام للفلسفة الأوربية، ويلتمس الخلاص في هذا العالم بإحلال العقل محل الوحي والطاعة العمياء للسلطة، دون أي تخل عن تلك الصرامة الأخلاقية التي يتميز بها الأنبياء، وابن ميمون، ومن بعدهم، موسى مندلسون، وسجمنت فرويد، وألبرت أينشتين، وكبار المفكرين اليهود جميعهم.»
61
ومن المؤكد أن المؤلف إنما أقحم فكرة «المصلح» هذه لكي يوفق بين رغبته في إدماج اسپينوزا في التراث اليهودي العام، وبين النواحي الرئيسية التي يعلم أنه خالف فيها ذلك التراث. وقد عدد المؤلف هذه النواحي بالفعل، ولو وضع المرء قائمة واحدة بها، لما بقي من اليهودية شيء، ولكانت الصورة النهائية لتفكيره مضادة تماما لليهودية - ومع ذلك يؤكد المؤلف انتماء تفكيره إلى اليهودية، لمجرد كونه ينتمي «عنصريا» إليها، تماما كما أكد انتماء «فرويد» و«أينشتين» إلى التراث اليهودي، وكأن في التحليل النفسي أو في فيزياء النسبية عناصر يهودية على التخصيص!
ويظهر هذا الاتجاه إلى تأكيد يهودية اسپينوزا تأكيدا عنيدا لا يبالي بالحقائق الواضحة، لدى «ناحوم سوكولوڤ
Soklow »، الذي عبر عنه أوضح تعبير عندما قال عن فلسفة اسپينوزا إنها «يهودية بعمق، حتى في حملتها على اليهودية».
62
ولست أدري ماذا يستطيع المرء أن يرد به على مثل هذه الطريقة في التفكير، فهنا نصل إلى الحجة التي لا يمكن الرد عليها، لا لأنها معقولة، بل لأنها تفتقر تماما إلى المعقولية. إن الشارح اليهودي في هذه الحالة يقول: ما دام اسپينوزا يهوديا بمولده؛ فهو منا، مهما انتقدنا، ومهما حمل علينا، ومهما تضمنت فلسفته من عناصر تهدم التراث اليهودي من أساسه - إنه يهودي لأننا نريده لأنفسنا، سواء أراد القارئ أم لم يرد، وسواء شاء اسپينوزا ذاته أم لم يشأ!
Bog aan la aqoon