Safwat Casr
صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر
Noocyada
فقيد الأمة والهمة والإقدام المغفور له بطرس باشا غالي
مقدمة للمؤرخ
يحق للعيون أن تدمع، وللقلوب أن تتفجع، وللأبصار أن تتخشع، أسفا وحزنا على أفول بدر الكمال، ولهبا على غروب شمس الأفضال، والتياعا على ذبول زهر الجلال، وشعلة الذكاء النادرة المثال، ومستودع الحكمة والسداد وينبوع الرحمة والرشاد فقد كنت القريب من الضعيف، الرفيق بالبائس، المحب لبلاده العامل لخير وطنه، الذي يعمل كثيرا ولا يتكلم إلا قليلا، المحسن إلى المذنب، والعافي عن المسيء، وكفى باعترافك في آخر كلماتك عند سكرات الموت إظهارا لمحبتك لوطنك قولك الذي سننقشه على صدورنا، وهو: «يعلم الله أني ما أتيت أمرا يضر ببلادي»، فكلما ذكرنا الحكمة والمروءة والفضل وشعرنا بحاجة إلى سداد الرأي ذكرناك وبكيناك واستمطرنا لك الرحمة، وإن تلك الضربات التي أصابتك وقضت على حياتك أصابت كبد الوطن وجرحت قلب الأمة، وستظل متأثرة بهذه الجراح شاعرة بآلامها المرة فقد خسرت بفقدك خسارة لا تتعوض، وتلك الدماء الشريفة التي سالت من جسدك الكريم قد صاغت لك أكليل مجد، وتاج فخر، توجت به قبل مفارقتك للدنيا ونمت عن الوطن الذي تفانيت في خدمته حتى الموت، وكأن روحك الطاهرة أبت الخروج قبل أن تهرق دماؤك، فسلام عليك في نعشك، وسلام على ضريحك، وسلام على ذكراك الدائمة، وسلام على رقادك في منامك، وسلام على حياتك يوم غيبتك.
فقيد الأمة والهمة والإقدام المغفور له بطرس باشا غالي رئيس وزراء الحكومة المصرية سابقا (ولد سنة 1847 وتوفي سنة1910م).
مولده ونشأته
ولد المغفور له في القاهرة سنة 1847 ميلادية، وهو أكبر أنجال المرحوم غالي بك نيروز الذي كان باشكاتبا لدائرة مصطفى فاضل باشا أخو الخديوي إسماعيل بمصر، فعني بتربيته وأدخله مدرسة حارة السقايين فمدرسة الأقباط الكبرى، التي تحت رعاية الأنبا كيرلس الرابع الذي كان صديقا حميما للمرحوم والده، فتلقى فيها بعض العلوم العربية، ومبادئ اللغات الطليانية والإنكليزية والفرنسية، ونبغ بين أقرانه وكان البطريرك المشار إليه يتعهد المدارس بنفسه، ويراقب سيرها فلاحظ في الفقيد ذكاء واجتهادا ممتازين، فتحدث فيما يرجوه من مستقبله، فقضى صاحب الترجمة ثماني سنوات في تلقي العلوم في هذه المدرسة، ثم انتقل إلى مدرسة البرنس فاضل باشا، فأتقن فيها اللغتين العربية والفرنساوية وتعلم الفارسية والتركية أيضا، وفي تلك السنة ظهرت رغبته في العلم وتلذذه بالدرس، حتى إنه كان يقضي ليله ساهرا لا يمل المطالعة، فشكى بعضهم ذلك إلى أبيه خوفا على صحته، وقد ساعده على إتقانه اللغات التي تعلمها أنه كان قوي الذاكرة حتى بهر أساتذته بذكائه النادر.
دخوله في ميدان العمل
خرج من المدرسة فكان أول عمل تعاطاه التعليم في مدرسة حارة السقايين، وكان ناظر المدرسة يومئذ المرحوم يعقوب بك نخله رفيله، لكنه لم يلبث طويلا في تلك المهنة؛ لأن مطامعه كانت أوسع من ذلك كثيرا فعمد إلى الاستزادة من العلم، الذي يؤهله للمعالي وكان شاعرا حتى إنه لما خرج من المدرسة أراد الاستخدام في السكة الحديد، فكتب للمرحوم عمر باشا لطفي قصيدة بهذا المعني، فكان رده عليها : «عندنا من هذا كثير» وأرجعه بخفي حنين، وكانت الحكومة المصرية يومئذ تهتم بتوظيف المترجمين لمصالحها، فتقدم صاحب الترجمة في جملة الطالبين للامتحان، فنال قصب السبق وعين مترجما، لكنه ما زال يرتقي، ويحرز ثقة رؤسائه حتى صار رئيس كتاب المجلس وله فيه القول الفصل.
وقد ارتأى الخديوي أن ينشئ نظارة الحقانية سنة 1874 أفرنكية، وتعين شريف باشا ناظرا لها، وكذا تعين صاحب الترجمة باشكاتبا لها، وكان قد عرفه وعرف قيمة مواهبه السامية فكان موضع ثقته إذ كان يكلفه بترجمة أوراق الحكومة من التركية والعربية إلى الفرنسية، وبالعكس وأنعم عليه بالرتبة الثانية.
ولما ارتبكت مالية مصر عقد قومسيون للتحقيق في سنة 1876 ميلادية، فارتأى هذا القومسيون أن يشكل قومسيون مركب من مندوبي عموم الدول لعمل تصفية لمالية الحكومة المصرية، وتعيين صاحب الترجمة نائبا عنها، وكان ذلك في عهد وزارة رياض باشا، فكان صاحب الترجمة موضع إعجاب أعضاء القومسيون، إذ أخذ يبذل مواهبه العقلية حتى أنقذ الحكومة من وشك الإفلاس، وشكل قومسيون لتعديل الضرائب تحت رئاسة رستم باشا، وكان صاحب الترجمة عضوا فيه فوضع كتابا خاصا لم يزل معمولا به للآن، ويرجع الأمر إليه من وقت لآخر، ويقال إن السير ريفرس ولسن مندوب إنجلترا في ذلك العمل رأى اقتدار صاحب الترجمة فقال له: «إنك ستكون ناظرا للمالية يوما ما»، كما قال له هذا القول عمر باشا لطفي، عندما ارتقى صاحب الترجمة إلى الوزارة.
Bog aan la aqoon