إهداء الكتاب
الملك فؤاد الأول
ترجمة السلطان حسين كامل
ترجمة ساكن الجنان المغفور له محمد علي باشا الكبير
ترجمة إبراهيم باشا
عباس باشا الأول
ترجمة سعيد باشا
ترجمة حياة إسماعيل باشا
ترجمة ساكن الجنان محمد توفيق باشا
ترجمة سمو عباس حلمي الثاني خديوي مصر السابق
أمراء العائلة الملكية
مدفن توت عنخ آمون والتابوت العجيب الذي اكتشف بالأقصر
البرلمان المصري والحكم النيابي في التاريخ
خطبة العرش لافتتاح الدور الثاني للبرلمان المصري
ترجمة حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل والزعيم المحبوب سعد زغلول باشا
حديث ذو شأن خطير لصاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون للتوفيق بين الأحزاب
ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل عدلي باشا يكن
ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل السير حسين رشدي باشا
ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل السير يحيي باشا إبراهيم
ترجمة حضرة صاحب الدولة الوزير الجليل محمد سعيد باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل يوسف سليمان باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي القانوني النزيه أحمد ذو الفقار باشا وزير الحقانية
ترجمة صاحب المعالي الوزير الجليل محمد توفيق رفعت باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل محمد فتح الله بركات باشا
ترجمة صاحب المعالي الوزير الجليل الأستاذ مرقص حنا باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي الشهم الجليل محمود فخري باشا
ترجمة ساكن الجنان المغفور له حسين فخري باشا
تاريخ إجمالي وجيز لبطل الحروب والمعارك المغفور له جعفر صادق باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل عزيز عزت باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي الجليل سعيد باشا ذو الفقار
تاريخ حياة المغفور له المرحوم الفريق راشد حسني باشا
ترجمة حضرة صاحب العزة أحمد إحسان بك
ترجمة حضرة صاحب العزة المفضال أحمد بك حسنين
ترجمة حضرة صاحب العزة النزيه المفضال أتربي بك أبو العز
ترجمة حضرة صاحب السعادة الشهم الجليل رشوان باشا محفوظ
ترجمة حضرة صاحب السعادة المفضال صالح باشا عنان
ترجمة فقيد الطب والعلم المغفور له الدكتور محمد طلعت باشا
ترجمة فقيد المروءة والهمة والإقدام السري المشهور المرحوم محمد باشا الشواربي
ترجمة حضرة صاحب السعادة السري الجليل حامد باشا الشواربي
ترجمة حضرة صاحب السعادة السري الجليل قليني فهمي باشا
ترجمة حياة فقيد الشهامة والشبيبة والمروءة والإحسان المغفور له عمر سلطان باشا
ترجمة العالم الأثري الجليل نابغة مصر المغفور له أحمد باشا كمال
ترجمة فقيد القضاء والقانون المغفور له المرحوم علي مظلوم باشا
ترجمة المرحوم خليل باشا إبراهيم المحامي الضليع والعصامي الكبير
ترجمة حياة فقيد الجد والإقدام المغفور له حسين باشا واصف
ترجمة حضرة صاحب العزة حسن بك واصف مدير مديرية جرجا سابقا
ترجمة حضرة صاحب العزة المفضال والعالم الكبير محمود بك شاكر
ترجمة حضرة صاحب العزة المهندس العالم الكبير السيد محمود بك صبري محبوب
ترجمة حضرة صاحب العزة الإداري الحازم أحمد بك صديق
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم الإداري سيد بك فؤاد الخولي
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم المفضال الأميرالاي عبد الفتاح بك رفعت
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم الإداري حسين بك وهبي
ترجمة حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل أحمد بك لطفي السيد
ترجمة حضرة صاحب العزة العالم الجليل الدكتور عبد الحميد بك أبو هيف
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم المهذب عمر بك الشواربي
ترجمة حضرة صاحب العزة توفيق بك خليل
ترجمة حضرة صاحب العزة نقولا بك خليل
ترجمة حضرة صاحب العزة الإداري المفضال إسكندر بك مسيحه
ترجمة حضرة صاحب العزة المفضال حنا بك عياد
ترجمة حضرة الشهم الوطني الغيور عفيفي بك حسين البربري
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الشهير إبراهيم بك فرج أبو الجدايل
ترجمة نيافة الأب الجليل والراعي الكريم الكلي الطوبى والاحترام الأنبا لوكاس
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الوجيه سمعان بك غبريال القمص
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السيد محمد علي الببلاوي
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل والمالي الشهير يوسف دي بيشوتو بك
ترجمة رجل الشهامة والفضل صاحب السعادة أحمد باشا جاد الرب
حضرة صاحب العزة الوطني الصميم الدكتور البارع حسن بك كامل
ترجمة حضرة صاحب العزة السري المفضال إبراهيم بك الزهيري
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الوجيه بشرى بك حنا ميخائيل
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل والنائب الحر الجريء سينوت بك حنا
ترجمة أحد أبطال النهضة الوطنية الأستاذ القانوني البارع راغب إسكندر بك
ترجمة حضرة الوطني الصميم النطاسي البارع الدكتور نجيب بك إسكندر
ترجمة حضرة الوطني الغيور الحسيب النسيب والرياضي الشهير السيد محمد بك تهامي خشبه
ترجمة حضرة صاحب العزة السري إبراهيم بك بهجت
ترجمة حضرة صاحب العزة محمد سعيد بك
ترجمة حضرة السري الوجيه محمود بك حسن جازيه
ترجمة حضرة صاحب العزة الوجيه الأمثل والنائب المحترم عمر بك مراد
ترجمة حضرة الأستاذ القدير عبد المجيد بك إبراهيم من وجهاء مديرية أسيوط
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الإمام العلامة الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو الفضل
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الإمام الشيخ محمد بخيت
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد المجيد اللبان
ترجمة فضيلة الأستاذ العالم الجليل السيد أحمد رافع الطهطاوي
ترجمة فضيلة الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقا
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السيد حسين القصبي
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة العالم الكبير والوطني الصميم «الأستاذ الشيخ مصطفى القاياتي»
صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي
ترجمة صاحب الغبطة البابا المعظم الأنبا كيرلس الخامس بطريرك الأقباط الأرثوذكس
ترجمة فقيد الأمة الأرثوذكسية جلالة الإمبراطور منليك الثاني
ترجمة سمو الرأي تفري ولي عهد المملكة الحبشية
ترجمة نيافة الحبر الجليل جزيل الطوبى والاحترام الأنبا متاؤس
ترجمة نيافة الشيخ الوقور الأب الكلي الطوبى والجزيل الاحترام الأنبا يؤنس
ترجمة صاحب النيافة الحبر الجليل الورع الأنبا توماس
ترجمة نيافة الحبر الجليل والراعي الصالح الأنبا أثناثيوس
ترجمة حضرة صاحب النيافة الحبر الجليل الورع الأنبا مرقس
ترجمة جناب الأب الفاضل المحترم القمص باسليوس إبراهيم
ترجمة جناب الأب الفاضل القمص يوحنا جرجس
ترجمة فقيد الجد والإقدام الإيغومانس تادرس مينا
ترجمة جناب الأب الفاضل القمص مينا يعقوب
ترجمة جناب الأب المحترم والوطني الغيور القمص بولس غبريال
فقيد الأمة والهمة والإقدام المغفور له بطرس باشا غالي
ترجمة حضرة صاحب السعادة السري الجليل أمين باشا غالي
ترجمة حضرة صاحب العزة الإداري الكبير محمد بك أمين واصف
ترجمة فقيد العلم والتاريخ البحاثة الكبير المرحوم ميخائيل بك شاروبيم
ترجمة الشهم الأديب شفيق بك ميخائيل شاروبيم
ترجمة حضرة الشهم الوجيه الفاضل فوزي بك خليل
ترجمة صاحب العزة السري الوجيه محمد بك رفاعة
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل أمين بك الملواني
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل والشهم الهمام محمد بك عبد الحميد إسماعيل
ترجمة فقيد الهمة والنشاط والإقدام والوطن صاحب السعادة الجليل المرحوم محمد الشناوي باشا
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم الجليل والسري الكبير نصيف بك حنا ويصا
ترجمة فقيد الشهامة والمروءة السري المشهور المرحوم بسطورس بك خياط
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الوجيه أمين بك خياط
ترجمة أمير الشعراء أحمد شوقي بك
ترجمة شاعر القطرين النابغ الفذ والعالم الكبير الأستاذ خليل مطران بك
ترجمة حضرة صاحب العزة شاعر مصر الكبير حافظ بك إبراهيم
ترجمة حضرة الأستاذ الوطني الغيور عبد القادر حمزة
ترجمة الأستاذ البليغ والكاتب النحرير داود بركاته
ترجمة فقيد التاريخ والعلم والأدب ومنشئ مجلة الهلال والروائي الشهير المرحوم جرجي بك زيدان
ترجمة حضرة الشاب الأديب الأستاذ أميل أفندي زيدان
حضرة الشاب الأديب النشيط شكري أفندي زيدان
ترجمة حضرة الأستاذ القدير والكاتب النحرير عباس أفندي محمود العقاد
ترجمة حضرة الأستاذ الأديب والزجال المشهور محمود أفندي رمزي نظيم
ترجمة حضرة صاحب العزة القانوني المتضلع الأستاذ صالح بك جودت
ترجمة حضرة الشاب النبيل والأستاذ الضليع محمد بك جمال الدين الأيوبي
ترجمة الكاتب المجيد الفكه والأستاذ القانوني الضليع فكري أباظة
ترجمة الأستاذ القدير والمحامي الشهير الدكتور مرقص صادق
ترجمة حضرة العالم الأديب والأستاذ القدير الشيخ محمد إبراهيم الجزيري
ترجمة حضرة صاحب العزة الدكتور محمود بك عزت
ترجمة حضرة النطاسي البارع الدكتور زكريا كمال
ترجمة الطبيب الماهر الدكتور حامد أفندي عليش
ترجمة صاحب العزة الدكتور إبراهيم بك فهمي سالم
ترجمة حضرة الأستاذ الأثري المصري الجليل محمد بك شعبان
ترجمة حضرة صاحب العزة العامل المجد والوطني الغيور محمد بك هلال
ترجمة حضرة صاحب العزة وجيه قومه جرجس بك عبد الشهيد
ترجمة حضرة صاحب العزة السري أسعد بك عبد الشهيد
ترجمة صاحب العزة مصطفى بك سيف النصر
ترجمة حضرة الوجيه المفضال الشيخ محمد عبد الله الشلتاوي
ترجمة حضرة الوجيه الفاضل زكي أفندي وهبي
ترجمة العصامي السري المرحوم سليم صيدناوي بك
ترجمة حضرة الفاضل الأستاذ الفني السيد أفندي فرج
ترجمة فقيد المروءة والإخلاص المرحوم عبد الملك أفندي نخله
إهداء الكتاب
الملك فؤاد الأول
ترجمة السلطان حسين كامل
ترجمة ساكن الجنان المغفور له محمد علي باشا الكبير
ترجمة إبراهيم باشا
عباس باشا الأول
ترجمة سعيد باشا
ترجمة حياة إسماعيل باشا
ترجمة ساكن الجنان محمد توفيق باشا
ترجمة سمو عباس حلمي الثاني خديوي مصر السابق
أمراء العائلة الملكية
مدفن توت عنخ آمون والتابوت العجيب الذي اكتشف بالأقصر
البرلمان المصري والحكم النيابي في التاريخ
خطبة العرش لافتتاح الدور الثاني للبرلمان المصري
ترجمة حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل والزعيم المحبوب سعد زغلول باشا
حديث ذو شأن خطير لصاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون للتوفيق بين الأحزاب
ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل عدلي باشا يكن
ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل السير حسين رشدي باشا
ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل السير يحيي باشا إبراهيم
ترجمة حضرة صاحب الدولة الوزير الجليل محمد سعيد باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل يوسف سليمان باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي القانوني النزيه أحمد ذو الفقار باشا وزير الحقانية
ترجمة صاحب المعالي الوزير الجليل محمد توفيق رفعت باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل محمد فتح الله بركات باشا
ترجمة صاحب المعالي الوزير الجليل الأستاذ مرقص حنا باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي الشهم الجليل محمود فخري باشا
ترجمة ساكن الجنان المغفور له حسين فخري باشا
تاريخ إجمالي وجيز لبطل الحروب والمعارك المغفور له جعفر صادق باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل عزيز عزت باشا
ترجمة حضرة صاحب المعالي الجليل سعيد باشا ذو الفقار
تاريخ حياة المغفور له المرحوم الفريق راشد حسني باشا
ترجمة حضرة صاحب العزة أحمد إحسان بك
ترجمة حضرة صاحب العزة المفضال أحمد بك حسنين
ترجمة حضرة صاحب العزة النزيه المفضال أتربي بك أبو العز
ترجمة حضرة صاحب السعادة الشهم الجليل رشوان باشا محفوظ
ترجمة حضرة صاحب السعادة المفضال صالح باشا عنان
ترجمة فقيد الطب والعلم المغفور له الدكتور محمد طلعت باشا
ترجمة فقيد المروءة والهمة والإقدام السري المشهور المرحوم محمد باشا الشواربي
ترجمة حضرة صاحب السعادة السري الجليل حامد باشا الشواربي
ترجمة حضرة صاحب السعادة السري الجليل قليني فهمي باشا
ترجمة حياة فقيد الشهامة والشبيبة والمروءة والإحسان المغفور له عمر سلطان باشا
ترجمة العالم الأثري الجليل نابغة مصر المغفور له أحمد باشا كمال
ترجمة فقيد القضاء والقانون المغفور له المرحوم علي مظلوم باشا
ترجمة المرحوم خليل باشا إبراهيم المحامي الضليع والعصامي الكبير
ترجمة حياة فقيد الجد والإقدام المغفور له حسين باشا واصف
ترجمة حضرة صاحب العزة حسن بك واصف مدير مديرية جرجا سابقا
ترجمة حضرة صاحب العزة المفضال والعالم الكبير محمود بك شاكر
ترجمة حضرة صاحب العزة المهندس العالم الكبير السيد محمود بك صبري محبوب
ترجمة حضرة صاحب العزة الإداري الحازم أحمد بك صديق
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم الإداري سيد بك فؤاد الخولي
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم المفضال الأميرالاي عبد الفتاح بك رفعت
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم الإداري حسين بك وهبي
ترجمة حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل أحمد بك لطفي السيد
ترجمة حضرة صاحب العزة العالم الجليل الدكتور عبد الحميد بك أبو هيف
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم المهذب عمر بك الشواربي
ترجمة حضرة صاحب العزة توفيق بك خليل
ترجمة حضرة صاحب العزة نقولا بك خليل
ترجمة حضرة صاحب العزة الإداري المفضال إسكندر بك مسيحه
ترجمة حضرة صاحب العزة المفضال حنا بك عياد
ترجمة حضرة الشهم الوطني الغيور عفيفي بك حسين البربري
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الشهير إبراهيم بك فرج أبو الجدايل
ترجمة نيافة الأب الجليل والراعي الكريم الكلي الطوبى والاحترام الأنبا لوكاس
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الوجيه سمعان بك غبريال القمص
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السيد محمد علي الببلاوي
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل والمالي الشهير يوسف دي بيشوتو بك
ترجمة رجل الشهامة والفضل صاحب السعادة أحمد باشا جاد الرب
حضرة صاحب العزة الوطني الصميم الدكتور البارع حسن بك كامل
ترجمة حضرة صاحب العزة السري المفضال إبراهيم بك الزهيري
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الوجيه بشرى بك حنا ميخائيل
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل والنائب الحر الجريء سينوت بك حنا
ترجمة أحد أبطال النهضة الوطنية الأستاذ القانوني البارع راغب إسكندر بك
ترجمة حضرة الوطني الصميم النطاسي البارع الدكتور نجيب بك إسكندر
ترجمة حضرة الوطني الغيور الحسيب النسيب والرياضي الشهير السيد محمد بك تهامي خشبه
ترجمة حضرة صاحب العزة السري إبراهيم بك بهجت
ترجمة حضرة صاحب العزة محمد سعيد بك
ترجمة حضرة السري الوجيه محمود بك حسن جازيه
ترجمة حضرة صاحب العزة الوجيه الأمثل والنائب المحترم عمر بك مراد
ترجمة حضرة الأستاذ القدير عبد المجيد بك إبراهيم من وجهاء مديرية أسيوط
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الإمام العلامة الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو الفضل
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الإمام الشيخ محمد بخيت
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد المجيد اللبان
ترجمة فضيلة الأستاذ العالم الجليل السيد أحمد رافع الطهطاوي
ترجمة فضيلة الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقا
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السيد حسين القصبي
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة العالم الكبير والوطني الصميم «الأستاذ الشيخ مصطفى القاياتي»
صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي
ترجمة صاحب الغبطة البابا المعظم الأنبا كيرلس الخامس بطريرك الأقباط الأرثوذكس
ترجمة فقيد الأمة الأرثوذكسية جلالة الإمبراطور منليك الثاني
ترجمة سمو الرأي تفري ولي عهد المملكة الحبشية
ترجمة نيافة الحبر الجليل جزيل الطوبى والاحترام الأنبا متاؤس
ترجمة نيافة الشيخ الوقور الأب الكلي الطوبى والجزيل الاحترام الأنبا يؤنس
ترجمة صاحب النيافة الحبر الجليل الورع الأنبا توماس
ترجمة نيافة الحبر الجليل والراعي الصالح الأنبا أثناثيوس
ترجمة حضرة صاحب النيافة الحبر الجليل الورع الأنبا مرقس
ترجمة جناب الأب الفاضل المحترم القمص باسليوس إبراهيم
ترجمة جناب الأب الفاضل القمص يوحنا جرجس
ترجمة فقيد الجد والإقدام الإيغومانس تادرس مينا
ترجمة جناب الأب الفاضل القمص مينا يعقوب
ترجمة جناب الأب المحترم والوطني الغيور القمص بولس غبريال
فقيد الأمة والهمة والإقدام المغفور له بطرس باشا غالي
ترجمة حضرة صاحب السعادة السري الجليل أمين باشا غالي
ترجمة حضرة صاحب العزة الإداري الكبير محمد بك أمين واصف
ترجمة فقيد العلم والتاريخ البحاثة الكبير المرحوم ميخائيل بك شاروبيم
ترجمة الشهم الأديب شفيق بك ميخائيل شاروبيم
ترجمة حضرة الشهم الوجيه الفاضل فوزي بك خليل
ترجمة صاحب العزة السري الوجيه محمد بك رفاعة
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل أمين بك الملواني
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل والشهم الهمام محمد بك عبد الحميد إسماعيل
ترجمة فقيد الهمة والنشاط والإقدام والوطن صاحب السعادة الجليل المرحوم محمد الشناوي باشا
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم الجليل والسري الكبير نصيف بك حنا ويصا
ترجمة فقيد الشهامة والمروءة السري المشهور المرحوم بسطورس بك خياط
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الوجيه أمين بك خياط
ترجمة أمير الشعراء أحمد شوقي بك
ترجمة شاعر القطرين النابغ الفذ والعالم الكبير الأستاذ خليل مطران بك
ترجمة حضرة صاحب العزة شاعر مصر الكبير حافظ بك إبراهيم
ترجمة حضرة الأستاذ الوطني الغيور عبد القادر حمزة
ترجمة الأستاذ البليغ والكاتب النحرير داود بركاته
ترجمة فقيد التاريخ والعلم والأدب ومنشئ مجلة الهلال والروائي الشهير المرحوم جرجي بك زيدان
ترجمة حضرة الشاب الأديب الأستاذ أميل أفندي زيدان
حضرة الشاب الأديب النشيط شكري أفندي زيدان
ترجمة حضرة الأستاذ القدير والكاتب النحرير عباس أفندي محمود العقاد
ترجمة حضرة الأستاذ الأديب والزجال المشهور محمود أفندي رمزي نظيم
ترجمة حضرة صاحب العزة القانوني المتضلع الأستاذ صالح بك جودت
ترجمة حضرة الشاب النبيل والأستاذ الضليع محمد بك جمال الدين الأيوبي
ترجمة الكاتب المجيد الفكه والأستاذ القانوني الضليع فكري أباظة
ترجمة الأستاذ القدير والمحامي الشهير الدكتور مرقص صادق
ترجمة حضرة العالم الأديب والأستاذ القدير الشيخ محمد إبراهيم الجزيري
ترجمة حضرة صاحب العزة الدكتور محمود بك عزت
ترجمة حضرة النطاسي البارع الدكتور زكريا كمال
ترجمة الطبيب الماهر الدكتور حامد أفندي عليش
ترجمة صاحب العزة الدكتور إبراهيم بك فهمي سالم
ترجمة حضرة الأستاذ الأثري المصري الجليل محمد بك شعبان
ترجمة حضرة صاحب العزة العامل المجد والوطني الغيور محمد بك هلال
ترجمة حضرة صاحب العزة وجيه قومه جرجس بك عبد الشهيد
ترجمة حضرة صاحب العزة السري أسعد بك عبد الشهيد
ترجمة صاحب العزة مصطفى بك سيف النصر
ترجمة حضرة الوجيه المفضال الشيخ محمد عبد الله الشلتاوي
ترجمة حضرة الوجيه الفاضل زكي أفندي وهبي
ترجمة العصامي السري المرحوم سليم صيدناوي بك
ترجمة حضرة الفاضل الأستاذ الفني السيد أفندي فرج
ترجمة فقيد المروءة والإخلاص المرحوم عبد الملك أفندي نخله
صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر
صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر
تأليف
زكي فهمي
مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل لنا من سير الماضين عبرة وتبصرة، وقص علينا من أخبار السالفين موعظة وتذكرة، والصلاة والسلام على جميع أنبيائه الذين جملوا صفحات التاريخ بعظائم أخبارهم، وجميل آثارهم.
أما بعد فإن علم التاريخ من أجل العلوم نفعا، وأرفعها شأنا، وأصفاها موردا فهو المرآة لحوادث الزمان، والمشكاة لاستنارة الأذهان، والمنهاج لاهتداء الخلف، بهدي السلف.
إذا عرف الإنسان أخبار من مضى
فتحسبه قد عاش من أول الدهر
وتحسبه قد عاش دوما مخلدا
إلى الحشر إن أبقى الجميل من الذكر
وحسب التاريخ من عظيم الأهمية؛ أن عنيت به الكتب السماوية؛ فكم نقلت إلينا من سير وقصص، بدليل
نحن نقص عليك أحسن القصص ، وكم قصت علينا بدء العالم، وبعثة الأنبياء، وأعمال الرسل، ونشأة الشعوب، والطوائف، وأخبار الملوك، وحوادث الأمم، والأفراد، وتطورات الأحوال وتقلبات الحدثان.
شارة جلالة الملك.
ولا تزال كتب التاريخ لها المقام الأرفع بين العالم يستضيئون بنورها ويهتدون بها إلى سبيل الفضائل؛ ولذلك عني رجال العلم وأساطين العرفان في كل زمان ومكان بتأليفها وتصنيفها وتنميقها وترتيبها، وبذلوا جهد الاستطاعة في جمعها والتفنن في وضعها وقسموها إلى خصوصية وعمومية على اختلاف مشاربهم وتنوع مقاصدهم.
وقد اهتم المؤرخون بتاريخ مصر قديما وحديثا وتصدى كثير منهم لوصف ملوكها، وأمرائها، وعلمائها، وعظمائها، ودونوا أخبارهم وآثارهم وأحوالهم وأطوارهم، وما امتازت به من طيب تربتها ونجابة أبنائها فكم:
شارة جلالة الملك.
شهد الخلائق أن مصر نجيبة
بدليل من ولدت من النجباء
وقد أوجد الله فيها من سلافة هذا العصر من جميع الطبقات رجالا يجب أن تكون سيرتهم حلية في أجياد الأجيال المقبلة، فلا بد من ظهور آثارهم في بطون الأسفار لتكون كالكواكب النيرة؛ لأنهم أنفقوا ذخائر الأعمار، في جلائل الأعمال، ولكل زمان رجال، ولكل ميدان مجال، ولا بد لكل حين، من بنين، تظهر بهم فضائله، ويتحلى بهم عاطله.
تجمل بأعمالك الصالحات
ولا تعجبن لحسن بديع
فحسن النساء جمال الوجوه
وحسن الرجال جميل الصنيع
فكم رأينا من هلال مجد أشرق فصار بدرا، وينبوع فضل زخر حتى صار بحرا، وشبل ترعرع في عرينه حتى أصبح ليثا، وقطرا انسكب، حتى انقلب غيثا وغوثا.
وقد رأينا كثيرا من مؤلفات المتقدمين والمتأخرين ذكرت المئات والألوف من العائلات والأسر المصرية، واستوعبت أخبار جم غفير من الأفراد الذين هم كالكواكب الساطعة في أفق المجد والرفعة. والحصون الحصينة في حمى العز والمنعة فكانت هذه المؤلفات عنوانا لمحاسن الشمائل وديوانا للمآثر والفضائل، فزهت بها رياض المسامرة وابتهجت مجالس المحاضرة والمذاكرة، ولم تزل كالشهاب الثاقب لاكتساب المفاخر والمناقب.
حضرة صاحب الجلالة الملك أحمد فؤاد الأول بالملابس الملكية.
ولكن رأينا في الكثير من لفق السطور بزخارف الأساطير فضلا عن أن كتبهم خلت من ذكر غالب أكابر الفضلاء، وأماثل النبلاء، وأهملتهم وهم أجل قدرا من أن لا يعرفوا، وحاشاهم أن يكونوا نكرة فيعرفوا، وكم انبعثت في النفوس لواعج الشوق للوقوف على أسماء هؤلاء السادة الأعلام ورؤية رسومهم ومحاسنهم، ومعرفة أحوالهم وطرف أنسابهم وتدرجهم في مدارج الكمال فلم تصل إلى بغيتها بعد الكد والعناء.
وقد عن لي أن أستدرك هذا التقصير بوضع كتاب يشمل على محاسن أهل هذا العصر: يزري بيتيمة الدهر وسلافة العصر؛ لتدوين هذه المفاخر وجمع شوارد هذه المآثر، والغرر الزاهية التي تستنير بها حنادس الليل، والدرر الساطعة التي تجسد بهجتها الثريا وسهيل؛ لتكون رسائل تسفر لمن يأتي بعد عن أخبار بدور المجد، وكواكب السعد، ويحق له أن يتمثل:
فاتني أن أرى الكرام بعيني
فلعلي أرى الكرام بسمعي
وقد اعتمدت على العناية الصمدانية، مستنيرا بنور الهداية الربانية، وسامرت الليل
إحدى قاعات الاستقبال بقصر عابدين العامر.
مكتب جلالة الملك بقصر عابدين العامر. ، وشمرت الذيل، ووجهت الهمة نحو هذه المهمة، وعاهدت اليراع، أن يتمسك بالحقائق فيما يكتب لتكون منه شهادة النطق بصحة الواقع؛ لأن الصدق والأمانة، من لوازم صفات المؤرخ، كما أن من شروطه إمعان النظر والتثبت، وأن يتجرد عن الغرض، حتى لا يبيع الجواهر بالعرض، وسميت مؤلفي هذا: «صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر».
فجاء بمعونة الله تعالى مملوءا بالفضل دون الفضول لترتاح إليه النفوس، وتشحذ به العقول، وتتلقاه الخواطر بالترحاب والقبول، وقد توخينا كل سيرة، طاهرة السريرة تزيد للناشئة نشاطها، وتجدد لها اغتباطها، وتكون لتلك المأثرة تذكرة ولأولي الألباب في المستقبل تبصرة.
ومن درى أخبار من قبله
أضاف أعمارا إلى عمره
واسأل الله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا للإخلاص في هذا العمل، إنه على ما يشاء قدير.
زكي فهمي
إهداء الكتاب
إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم فؤاد الأول ملك مصر والسودان وطد الله عرشه وحرس ملكه وأدام ولي عهده.
لك التاج في مصر والصولجان
ومجد الفراعنة الأولين
وعرش توطد أركانه
بمصر محبة شعب أمين
وأنت فؤاد مليك البلاد
وحامي حماها من الطامعين
أبوك ممدين مصر الفتاة
وجاعلها بهجة الناظرين
وبيتك بيت رفيع العماد
عظيم بأبنائه الفاتحين (محمد) انهض بمصر وأنت
صعدت بها للمكان الأمين
وشيدتها دولة حرة
برأي حصيف وعقل رزين
وبالعلم والعدل جددتها
فقامت وأدهشت العالمين
وكانت لها نهضة بالمليك
كنهضة آبائه الأولين
وأسعدت مصر بدستورها
لتحيا بنوابها العاملين
وعصرك رد شباب الفنون
بخصب العقول وخصب السنين
وساد الأمان وفاض الرخاء
وأنت الكفيل وأنت الضمين
إليك كتابي مليك البلاد
ولا زلت تزداد دنيا ودين
ومثلك يسعدني بالقبول
وأنت العزيز القوي المتين «فصفوة عصرك» فيه تجلت
على القارئين كصبح مبين
وجودك فاض فعم البلاد
وكل البلاد به تستعين
وكعبة مصر وآمالها
ستبقى مدى الدهر في عابدين
عبدكم الخاضع
زكي فهمي
الملك فؤاد الأول
ولد سنة 1868 وتولى عرش مصر في أكتوبر 1917 عقب وفاة أخيه السلطان حسين كامل الأول.
هو صاحب الجلالة أحمد فؤاد الأول ابن الخديوي الجليل إسماعيل بن القائد العظيم إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير رأس العائلة المحمدية العلوية.
ولد هذا الملك الدستوري في قصر والده الخديوي إسماعيل باشا بالجيزة في الثاني من شهر ذي الحجة سنة 1284ه، الموافق 26 مارس سنة 1868، وهو أصغر أنجال المغفور له إسماعيل باشا، وكان والده قد أنشأ مدرسة خاصة في رحبة عابدين لتعليم أنجاله الأمراء الفخام فأدخله فيها، وكان قد بلغ السابعة من عمره السعيد فاستمر فيها ثلاث سنوات بملاحظة سعادة يعقوب باشا أرتين الذي كان ناظرا للمدرسة وقتئذ.
وفي سنة 1878 كان قد بلغ العاشرة من عمره، وأتقن كثيرا من مبادئ العلوم والتربية العالية، وظهرت عليه مظاهر الفطرة الذكية ودلائل الفطنة الغريزية، فرأى والده أن يرسله إلى «مدرسة توديكم»، وهي من المدارس الكلية الكبرى بمدينة جنيف من أعمال سويسرا، وكانت هذه عادته مع أولاده كلهم، فإنه كان قد أرسل كل واحد منهم إلى عاصمة من عواصم أوربا.
ثم اختار كلا من حسن جلال باشا وحمد الله أمين باشا؛ ليكونا في معية الأمير في السفر والإقامة هناك، وكان كلاهما من صفوة رجال العلم وكبار المدرسين بالمدارس الأميرية، وأمر دور بك الفرنساوي الذي كان مفتشا بنظارة المعارف العمومية المصرية أن يسافر مع الأمير؛ ليدخله المدرسة المذكورة ويمهد له أسباب الراحة ومعدات الإقامة، ويعرفه بأعاظم الرجال فسافر معه دور بك وبعد أن أتم مأموريته عاد إلى مصر، ثم استمر في معية الأمير حسن جلال باشا لتدريس اللغة العربية وحمد الله أمين باشا لتدريس اللغة التركية. وجد الأمير واجتهد في دراسة العلوم العالية حتى نجح نجاحا باهرا وفاق معظم رفقائه، وكان مثالا للذكاء النادر وعنوانا للنشاط والاجتهاد. وفي سنة 1879 أقيل والده الخديوي إسماعيل من خديوية مصر وسافر إلى إيطاليا فقابل الأمير والده بمدينة نابولي، ثم أتى مصر ليزور أخاه المرحوم محمد توفيق باشا الذي كان قد جلس على عرش مصر. وعاد فأقام مع والده ثلاثة أشهر في قصر فلورينا الملكي الشهير في ضواحي نابولي، وفي سنة 1880، أشار الملك إمبرتو الأول ملك إيطاليا السابق على صديقه الخديوي إسماعيل أن يدخل الأمير في المدرسة الإعدادية الملكية في مدينة تورينو، فاستمر بها حتى أتم دروسه. ثم انتقل منها إلى مدرسة تورينو الحربية وتخرج منها في سلاح الطوبجية برتبة ملازم ثاني، ثم دخل المدرسة الحربية العالية بمدينة تورينو أيضا وهي إحدى المدارس الحربية الثلاث المعروفة بالشهرة الفائقة في جميع العالم، فأتم دروسه الفنية بها، وخرج منها سنة 1888 وانضم إلى آلاي الطوبجية الثالث عشر المعسكر في مدينة روما عاصمة إيطاليا، ومكث ضابطا في الجيش العامل سنتين كاملتين، وقد أظهر هناك من المزايا الباهرة والأخلاق العاطرة ما جذب إليه قلوب الجند، واستمال قلوب الضباط والقواد حتى ألحق بالبلاط الملكي، فاختص بمنصب هام يليق بمقامه الرفيع وسمو مداركه وسعة معارفه التي أعجب بها ملك إيطاليا وقتئذ.
وفي سنة 1890م كان والده قد انتقل إلى الأستانة فسافر إليها لزيارته، وهناك زار السلطان عبد الحميد فرأى جلالته عليه من مخائل الشجاعة والذكاء ما دعاه لأن يعينه ياورا فخريا لجلالته بالبلاط الملكي، ثم انتدبه بعدئذ ليكون ملحقا حربيا لسفارة الدولة العلية في مدينة فينا عاصمة النمسا، فاستمر في هذه الوظيفة سنتين وفي أثنائهما كان قد توفي المرحوم والده.
وفي سنة 1892 استدعاه الخديوي عباس الثاني من فينا، ورغب أن يوليه منصب كبير الياوران في المعية ويجعله من أركان حربه فاستأذن من جلالة السلطان عبد الحميد، فأتاه الإذن من المابين الهامايوني بذلك فلبى داعي الوطنية وعاد إلى مصر، ونال رتبة الفريق الرفيعة ثم صدر الأمر العالي بتعيينه ياورا للحضرة الفخمية الخديوية ولازم الخديوي ولقي منه ومن حكومته كل إجلال وإعظام، وظل في هذا المنصب السامي ثلاثة أعوام متوالية جعل فيها الحرس الخديوي يضارع أعظم حرس في العواصم الأوربية في حسن النظام وجمال الهندام، ولا يزال جميع الضباط الذين انتظموا في الخدمة العسكرية تحت أمرته، يذكرون له تلك السنين الثلاث بمزيد الفخار ومنتهى الإعجاب.
مناقبه ومفاخره
أما أخلاقه فهي من علو الهمة وشرف العواطف وجميل السجايا على جانب يوازي طيب محتده وعنصره، فقد جمع إلى مكارم الأخلاق وبشاشة الوجه شجاعة نادرة وثباتا غريبا، برهن عليهما في حادثة الاعتداء الشهيرة التي نجاه الله منها لسعادة مصر وحسن حظها، وهو معروف بالنظر الثاقب وحب الخير لبلاده، وقد وقف حياته على خدمة وطنه بنشر ألوية العلم والعرفان، ولا تزال البلاد تذكر له همته العالية وعنايته الفائقة في مشروع الجامعة المصرية، فإنها لم تكن إلى سنة 1908م إلا مجرد أمنية من الأماني الوطنية الكبرى، وهو الذي أخرجها إلى حيز الوجود واحتفل بافتتاحها في 21 ديسمبر سنة 1908م، وقد ألقى خطبة ضافية في حفلة الافتتاح الرسمية في الساحة الكبرى لمجلس شورى القوانين، رن صداها في أنحاء القطر المصري، فبعثت في الشبيبة المصرية روح الشجاعة والإقدام على ورود مناهل العلوم العالية والتربية الصحيحة. ثم استمر يعضد الجامعة بثاقب أفكاره ويساعدها بنفوذه، حتى سعى لدى الدول الأوربية فجذب كبار العلماء المستشرقين من أوربا؛ للتدريس فيها وإلقاء المحاضرات التي كانت تطبع وتنشر وقتئذ في جميع أنحاء البلاد، ووضع العلماء كثيرا من المؤلفات في العلوم العالية، وبفضل مساعيه لدى الدول قبلت حكومات بريطانيا وفرنسا وإيطاليا أن يتعلم بعض الطلبة المصريين مجانا في جامعات لندن وباريس وروما.
وهو الذي أنشأ المكتبة العظيمة للجامعة، واهتم بها حتى أصبحت تحتوي على ما ينيف على اثني عشر ألف مجلد، وأهدت إليها الحكومات الأجنبية والمعاهد العلمية الأوربية مجموعات عديدة من ذخائر الكتب النفيسة، ونالت الجامعة خمسة آلاف جنيه إعانة سنوية من ديوان الأوقاف وألفي جنيه إعانة لها من مالية الحكومة.
أما رغبته في الأعمال والمصالح الخيرية العامة وحبه في تشجيعها والأخذ بناصرها، فذلك أشهر من أن يذكر فإليه يرجع الفضل في تأسيس الجمعية السلطانية للاقتصاد والإحصاء والتشريع، وقد افتتحها باحتفال شائق في 8 أبريل سنة 1909م، وقامت هذه الجمعية بمحاضرات عديدة ومباحثات مفيدة خصص لها مجلة سميت مجلة «مصر الحاضرة»، فكانت تنشر تلك المحاضرات حتى أصبحت من أنفس المجلات، وفي سنة 1909 أيضا أسس جمعية لترغيب السياح في زيارة البلاد المصرية، ومشاهدة آثارها العظيمة، ولا يخفى ما في هذا من توثيق عرى الألفة والمودة بين الأمم الأجنبية والأمة المصرية، وتمهيد أسباب الارتزاق لكثير من المصريين.
وفي 5 يناير سنة 1910م انتخبه مجلس إدارة جمعية الإسعاف بمدينة القاهرة رئيسا لتلك الجمعية بإجماع الآراء، فقام برئاستها خير قيام واقترح إنشاء صيدلية كبرى في مركز الجمعية؛ لتوفير الإسعافات اللازمة وفعلا أنشئت بمساعدته تلك الصيدلية الفائقة.
وفي 6 فبراير سنة 1915 خلف أخاه السلطان في رئاسة شركة السكة الحديدية البلجيكية بالوجه البحري، فنالت بهمته أكبر، نجاح ثم في 30 أكتوبر من تلك السنة أسند إليه أخوه المرحوم السلطان حسين أيضا رئاسة الجمعية الجغرافية السلطانية، وهي التي كان قد وضع أساسها والدهما المرحوم الخديوي إسماعيل في سنة 1875م، فتداركها الأمير بحسن عنايته وبعث فيها روح الحياة بعد أن كادت تكون في خبر كان، وهو الذي وضع لهذه الجمعية اللائحة الداخلية الجديدة، التي صدر بها الأمر العالي في 11 أغسطس 1917، واعتنى بتنسيق مكتبتها ومتحفها المحتوي على نفائس الآثار.
وفي 2 مارس 1916 رأس جمعية الهلال الأحمر في مصر فلقيت منه العناية التامة والهمة العالية، التي رفعت شأنها وأجزلت فوائدها ومنافعها.
وانتخب عضو شرف في المجمع العلمي المصري، فكان من أعماله المبرورة أنه وضع جائزة مالية لمن يؤلف أحسن تاريخ لحياة والده الخديوي إسماعيل وأعماله الباهرة، وقصد بذلك إيجاد المنافسة في إحياء العلم والتاريخ.
وهو يحسن التكلم بلغات عديدة وله شهرة واسعة في جميع أنحاء المعمورة، وله المقام الرفيع في أوربا التي زار معظم عواصمها، وطاف أقطارها وتعرف بكثير من ملوكها وأمرائها، حتى نال عندهم المنزلة السامية والمودة والصداقة مع الملك جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى، والملك فيكتور عمانوئيل الثالث ملك إيطاليا، وجناب رئيس الجمهورية الفرنساوية وملوك إسبانيا ورومانيا واليونان وأسوج والبلجيك وسربيا، وغيرهم من العلماء والعظماء في أوربا وأقطاب السياسة المشهورين، حتى رشحته الدول الأوربية لأن يكون ملكا لألبانيا عند خروجها من حكم تركيا سنة 1912، كما فكروا أن يسندوا إليه إمارة طرابلس الغرب.
وقد أثنت عليه الصحافة الأوربية وقتئذ حتى قالت جريدة الطان: إنه الرجل الذي عرف أن يصون علاقته السياسية، ويحافظ على صداقته مجردة من كل شائبة مع الدولتين المحاربتين يومئذ وخلاصة القول: إنه محب للعلم والعلماء وحريص على المصالح الخيرية والأعمال النافعة، وله اليد الطولي في عمل البر والخير حتى إنه كان يرأس أكثر من اثنتي عشرة جمعية بين علمية وخيرية واقتصادية، فكان له من غرر أياديه ما وطد دعائمها وضمن لها بقاءها، وهو الذي وقف حياته على تعضيد مصالح الأمة المصرية وإحياء مرافقها الحيوية ومعاهدها العلمية، وترقية الزراعة والصناعة والتجارة، وتعضيد موارد الثروة والسعادة في البلاد.
جلوسه على عرش مصر
فلا عجب إذا ابتهجت الأمة المصرية جميعها بجلوسه سلطانا على عرش أجداده الفخام، في يوم الخميس المبارك 24 ذي الحجة 1335ه الموافق 11 من شهر أكتوبر 1917م، وابتهجت الثغور، وانشرحت الصدور وعم الهناء والسرور، وأقبلت الوفود من جميع الجهات ساعية إلى سلطانها الجديد مقدمة له فروض الإخلاص والولاء، وكان جلالته وقتئذ يناهز الخمسين من عمره، وهو سن الكمال الذي يجمع بين عزيمة الشباب وحزم الشيوخ.
ما نالته مصر في عهد جلالته من الحكم النيابي
علم مما تقدم أن جلالة الملك فؤاد الأول الجالس على عشر مصر ملك حاد الذهن، ذكي الفؤاد وأنه تربى في وسط له شأن عظيم من الرقي والرفعة، وأنه اختلط بطبقات مختلفة من ذوي الأفكار السامية والمدارك الواسعة، وعاشر كثيرا من أهل العلم ورجال السياسة وأصحاب الرأي فاستفاد خبرة بالحياة ومعلومات واسعة بشؤون عصره؛ لأنه أتيح له من التجارب والخبرة ما لم يتح لسواه من أصحاب التيجان، فإنه قد تتبع الحركة الفكرية والسياسية في العالم، فأدرك أن الأفكار العصرية والمبادئ الجديدة قد بلغت منتهاها، وتشرب بالروح الدستورية من نفسه الشريفة، واستمد من تلك الروح أعظم باعث له على الأخذ بناصر أمته ونجاح شؤونها، ووجد من نزعته الوطنية أعظم عاصم له من الزلل، فوضع لها أصلح نظام وحقق لها أمانيها، ولم يرض أن تكون بلاده متأخرة عن اللحاق بغيرها من الأمم الراقية؛ لأن ما فطر عليه من حب لبلاده، وإسعاد أمته، ونهوض شعبه جعل من أكبر أمانيه أن تنال مصر في عصره السعيد حظا وافرا من التقدم والارتقاء، فتوج أعماله الجليلة بأثر جميل سجله التاريخ، وأبقى ذكره خالدا على ممر الأجيال، وتوالي العصور بعد أن ارتقى نظام الحكومة المصرية، وصارت دولة مستقلة ذات سيادة عظمى وصار السلطان أحمد فؤاد الأول ملكا على مصر يلقب بصاحب الجلالة.
فإنه في أول مارس سنة 1922 أصدر لحكومته أمرا كريما بإعداد مشروع لوضع نظام دستوري، يحقق للبلاد أمانيها بالتعاون بين الأمة والحكومة في إدارة شؤون البلاد، ويقرر مبدأ المسئولية الوزارية جاعلا نصب عينيه أن يكون الدستور محققا لرغبات الأمة وأمانيها الحقة، وأن تراعى فيه تقاليد البلاد وعاداتها القومية.
وفعلا وضع الدستور بمعرفة لجنة كبيرة من ذوي الخبرة، والصفة النيابية تحت رئاسة حضرة صاحب الدولة (حسين رشدي باشا الذي كان له العناية الكبرى والمساعي المشكور في هذه النعمة العظمى)، فجاء مطابقا لأحدث النظامات الدستورية وموافقا لرغبة جلالة الملك.
وقبل صدور الأمر بالدستور رأى من الحكمة أن يضع جلالته قانونا خاصا بتوارث العرش، وقانونا خاصا أيضا بأمراء الأسرة المحمدية العلوية وفعلا وضعهما على مبدأ العدل والحرية. ثم رأى من مفاخر حكمه ومظاهر مجده أن يشيد لأمته ذلك البناء الفخم، وهو بناء الشورى فأصدر الأمر بالدستور والحكم النيابي. ونحن نثبت هنا المقدمة التي صدر بها جلالته أمره الكريم بإصدار الدستور برهانا على ما ذكرناه من أوصافه ومزاياه.
أمر ملكي رقم 43 سنة 1923
وضع نظام دستوري للدولة المصرية
نحن ملك مصر
بما أننا ما زلنا منذ تبوأنا عرش أجدادنا وأخذنا على أنفسنا أن نحتفظ بالأمانة التي عهد الله تعالى بها إلينا، نتطلب الخير دائما لأمتنا بكل ما في وسعنا، ونتوخى أن نسلك بها السبيل الذي نعلم أنه يوصل إلى سعادتها، وارتقائها، وتمتعها بما تتمتع به الأمم الحرة المتمدينة. ولما كان ذلك لا يتم على الوجه الصحيح إلا إذا كان لها نظام دستوري كأحدث الأنظمة الدستورية في العالم وأرقاها؛ لتعيش في ظله عيشا سعيدا مرضيا، وتتمكن به من السير في طريق الحياة الحرة المطلقة، ويكفل لها الاشتراك العملي في إدارة شؤون البلاد، والإشراف على وضع قوانينها ومراقبة تنفيذها، ويترك في نفوس الأمة شعورا بالراحة والطمأنينة على حاضرها ومستقبلها، مع الاحتفاظ بروحها القومية والبقاء على صفاتها ومميزاتها التي هي تراثها التاريخي العظيم.
وبما أن تحقيق ذلك كان دائما من أجل رغباتنا، ومن أعظم ما تتجه إليه عزائمنا حرصا على النهوض بشعبنا إلى المنزلة العليا، التي يؤهله لها ذكاؤه واستعداده الفطري وتتفق مع عظمته التاريخية القديمة، وتسمح له بتبوء المكان اللائق به بين شعوب العالم المتمدين وأممه.
أمرنا بما هو آت.
ويتبع ذلك مواد الدستور ونصه.
وبإصدار هذا الدستور حقق جلالته ظن الأمة في أمياله الشريفة وأعراضه المنيفة، فلبى نداءها وأقر حقوقها، فنحن نبتهل إلى الله تعالى جلت قدرته أن يحفظ جلالة الملك فؤاد الأول زخرا للبلاد؛ حتى تجني الأمة في رعايته ثمرات غرسه، وأن يجعل الحرية في ظله مصونة والحقوق مقدسة ومضمونة.
الله يبقيه ويعلي شأنه
في الخافقين على السهى والأنجم
ويديمه حصنا حصينا ما شدا
طير على غصن بحسن ترنم
ونسأله تعالى أن يحرس بعين عنايته لمستقبل مصر حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فاروق، ولي عهد الأريكة المصرية ممتعا في ظل جلالة والده العظيم.
أبقاه ربي بخير
وبهجة وسيادة
وزاده الله مجدا
ورفعة وسعادة
ونبسط أكف الدعاء والابتهال إلى الله جل شأنه أن يجعل عهد هذا الدستور عهدا سعيدا حافلا بالخير والبركات، وأن يوفق الأمة في حياتها الدستورية إلى سلوك سبيل الحكمة والرشاد آمين.
ساكن الجنان صاحب العظمة السلطان حسين كامل بالملابس الرسمية.
ساكن الجنان صاحب العظمة السلطان حسين كامل بالملابس الملكية.
رثاء المغفور له صاحب العظمة السلطان حسين كامل
تقوض ركن المجد وانهار جانبه
فوا أسفا للعرش قد مات صاحبه
رحلت فما يبكي على غيرك الندى
وباسمك تهمي في البلاد سحائبه
وقالوا: قضى السلطان قلت: فيا له
زمان توالى همه ومصائبه «حسين» لقد فارقت مصر أسيفة
على ملك كانت كبارا رغائبه
وقد سار بالمجد المكفن جيشها
تنوح على سلطان مصر كنائبه
فواها لوادي النيل ريعت قلوبه
وواها لهذا العرش مادت جوانبه
فيا محصب الوادي وزارع أرضه
كما تشتهي زراعه وكواسبه
ويا باذل المعروف والخير محسنا
لقد عطل المعروف مذ راح واهبه
ويا ناشر التعليم أنت الذي به
صفت لبني مصر بمصر مشاربه
وكم بائس بل كم يتيم أعلته
ورحت تواسيه فخفت متاعبه
بكتك بلاد كنت تحمي ذمارها
تدافع عنها خصمها فتغالبه
ولما نعى الناعي حياتك للورى
سرى الحزن تمشي في القلوب مواكبه
ولو عشت للوادي لكانت تحققت
لشعبك يا سلطان مصر مآربه
رحلت لرب عنده كل محسن
إذا جاءه يلقي جزاء يناسبه
فلا برح القبر الذي قد نزلته
تطوف به زواره وحبائبه
وفي ذمة الله الرحيم مملك
إلى الخلد شدت في الغداة ركائبه
ولا زال بيت الملك في مصر عامرا
تلوح بها أقماره وكواكبه
العبد الخاضع
زكي فهمي
ترجمة السلطان حسين كامل
ولد المرحوم السلطان حسين كامل بمدينة القاهرة في 19 صفر سنة 1270ه، الموافق 21 نوفمبر 1853 وهو ابن المرحوم إسماعيل باشا خديوي مصر الأول ابن البطل المغوار إبراهيم باشا والي مصر، ابن ساكن الجنان محمد علي باشا رأس هذه الأسرة المالكة.
كان مولد السلطان حسين في مدة ولاية عباس باشا الأول في سنة 1861م، وكان والده إسماعيل باشا رئيسا لمجلس الأحكام الأعلى في ولاية المرحوم سعيد باشا، فأنشأ مدرسة بسراي المنيل لأنجاله الثلاثة وهم صاحب الترجمة (الذي كان قد بلغ السنة الثامنة من العمر)، وأخواه المرحوم توفيق باشا والمرحوم حسن باشا، واختار من أبناء أعيان مصر وسراتها سبعين تلميذا أدخلوا هذه المدرسة مع الأنجال الكرام، فتعلموا القراءة والكتابة ومبادئ اللغات الحية والعلوم النافعة، وفي سنة 1963 آلت ولاية مصر إلى والده إسماعيل باشا فجلس على أريكتها، فاهتم بتلك المدرسة ونقلها إلى القلعة فاستمروا في الدراسة فيها، حتى فتحت المدارس الأميرية، فنقلوا إليها وصحبهم في الدراسة البرنس طوسن باشا والبرنس إبراهيم أحمد باشا، وظهرت على صاحب الترجمة مخايل النجابة، وبوادر النبوغ، فأمر الخديوي إسماعيل أن ينقلوا إلى سراي نمرة 3 بإسكندرية، وعين لهم «الميرالاي جابر»، الذي كان من ضباط أركان حرب فرنسا لتهذيبهم وتثقيف عقولهم ونمو أفكارهم ومداركهم، وفي سنة 1827 كان الخديوي إسماعيل قد ذهب إلى الأستانة للمفاوضة في الشؤون المصرية، فسافر إليها صاحب الترجمة مع أخيه حسين باشا لمقابلة والدهما هناك، واستمرا فيها شهرا ثم رغب والدهما أن يسافرا معا إلى باريس، وأمر المرحومين مراد باشا غالب ومحمد زكي باشا التشريفاتي أن يكونا بمعيتهما، ثم سافر البرنس حسين لطلب العلم بجامعة أكسفورد، واستمر السلطان حسين بباريس ومعه الميرالاي أركان الحرب كاستكس للقيام بشؤونه وإرشاده، وكان ذلك في عهد نابليون الثالث إمبراطور فرنسا الذي كان صديقا حميما للمرحوم إسماعيل باشا، فاهتم الإمبراطور بنجل صديقه، وأنزله في قصره مع الإعزاز والإكرام حتى جعله عشيرا لنجله وولي عهده مدة سنتين، وفي سنة 1869 حضرت الإمبراطورة أوجيني إلى مصر إجابة لدعوة إسماعيل باشا؛ للاحتفال بفتح قناة السويس، فعاد السلطان حسين إلى مصر، وجعله والده مهمندارا في معيتها، ومعه المرحوم رياض باشا، وبعد انتهاء الاحتفال سافر بمعيتها إلى الوجه القبلي حتى بلغت كروسكو.
ثم عاد إلى باريس وفي أثناء عودته كلفه والده بقضاء مهمة في فلورنسا عاصمة إيطاليا حينئذ، فنزل ضيفا على ملكها عمانوئيل جد ملكها الحالي، وكان بمعيته في تلك المهمة مصطفى باشا فهمي وتونينو بك وغيرهما من رجال المعية السنية، ثم وصل إلى باريس لإتمام دروسه وأقام بها إلى أن قامت الحرب السبعينية بين فرنسا وألمانيا، فخرج من باريس قبل حصارها بعشرة أيام، وعاد إلى مصر فعينه والده مفتشا للأقاليم بالوجهين البحري والقبلي، فاتخذ المرحوم حسن باشا راسم وكيلا له على الوجه البحري، والمرحوم محمد سلطان باشا وكيلا في الوجه القبلي، وجعل إقامته في مدينة طنطا فأقام بها مدة عشرين شهرا مهتما بجميع أعمال الحكومة خصوصا العمليات التي كانت جارية على قدم وساق؛ لإنشاء الترع الجديدة وتطهير الترع القديمة، وإقامة الجسور وما أشبه ذلك من المنافع العمومية، ثم تعين بعد ذلك ناظرا لثلاثة دواوين وهي الأوقاف والمعارف والأشغال العمومية، وعين المرحوم عبد الله باشا فكري وكيلا له في نظارة المعارف وعلي باشا مبارك مستشارا له فيها وحسن باشا المعمار وكيلا له في نظارة الأوقاف، وكانت نظارة الأشغال وقتئذ مكلفة بأعمال جسيمة، منها إنشاء الترعة الإسماعيلية وليمانات السويس والإسكندرية وغيرها من الأعمال العظيمة، التي قام بها خير قيام، وفي عهده أنشأت نظارة المعارف مدرسة دار العلوم التي كان عليها المعول في نشر العلوم والمعارف وتخريج الأساتذة الجهابذة، الذين عم فضلهم سائر البلاد المصرية، وفي عهده أيضا تأسست أول مدرسة للبنات بالسيوفية، وأقبل التلامذة على التعليم وطلب العلوم خير إقبال بفضل ما بثه في النفوس من روح الجد والاجتهاد والحمية والغيرة، حتى إنه جعل جوائز عظيمة تعطي للناجحين والمجتهدين، وتقلب في إدارة تلك النظارات مدة، ثم تعين ناظرا للداخلية، وكان المرحوم أحمد باشا رشيد مستشارا لها، ثم تعين ناظرا للحربية والبحرية والأشغال العمومية، وعين المرحوم علي باشا غالب وكيلا له في الجهادية، وفي ذلك العهد دخلت الجهادية في النظام الجديد، وتشكلت الفرق الجديدة من العساكر السودانية، وعم الإصلاح جميع جزئياتها وكلياتها حتى صار للعسكرية شأن عظيم ومجد رفيع، وغير القوانين العسكرية القديمة، ووضع لائحة معاشات الجهادية، ووجه عنايته إلى جميع طرق الإصلاح وأحكام نظام الجندية نظرا إلى الفتوحات الواسعة التي كانت الحكومة المصرية تفتحها في ذلك الوقت في جهات بحيرة فكتوريانينزا، وبلاد النيام نيام بالسودان، وجهات دارفور وهرر وما يليها وغير ذلك من الفتوحات التي اتسع بها ملك مصر؛ حتى عم بلاد الصومال، وامتد الحكم على شرق أفريقيا وغربها؛ لأن والده المرحوم إسماعيل باشا كان قد رسم خطة لفتح جميع بلاد السودان، قبل أن تسبقه دولة أخرى إليها، وكان عازما على فتح بلاد وداى كما فتح دارفور، وأن يصل إلى حدود طرابلس الغرب؛ لتصير مصر دولة عظيمة السلطان باتساع أراضيها وكثرة سكانها في أفريقيا.
فضلا عن أن نظارة الجهادية المصرية أرسلت فرقا من جيوشها لمساعدة الدولة العلية في حربها مع السرب سنة 1875، وأرسلت مددا عظيما للدولة أيضا في حربها مع الروسيا تحت لواء البرنس حسن باشا أخيه.
ومن الأعمال النافعة التي تمت في عهده إنشاء سكة حديد حلوان من ميدان محمد علي إلى مدينة حلوان، وتأسيس مدارس الأحداث العسكرية التي دخلها أكثر من أربعة الآلاف تلميذ من أولاد الضباط، وأنشأ أيضا طابور الخطرية من أبناء الذوات والأعيان.
وفي سنة 1873م أقام المرحوم إسماعيل باشا الخديوي لأنجاله الأفراح، التي سارت الركبان بأوصاف بهائها وفخامتها إلى أقاصي البلدان احتفالا بقران الأمراء الثلاثة، وهم صاحب الترجمة وأخواه الأميران توفيق وحسن، ولا عجب فإن أفراح الملوك ملوك الأفراح، وسمي بعض الشوارع باسم شارع أفراح الأنجال، ولا يزال بهذا الاسم إلى الآن، ومما زاد الاحتفال بهجة أن الأنجال الثلاثة نالوا رتبة الوزارة في هذه الأثناء.
ومما اتفق في سنة 1874م أنه علا فيضان النيل حتى زاد عن 26 ذراعا بمقياس الروضة، فكان سمو الأمير حسين في ذلك الوقت يتجافى عن المضاجع؛ حرصا على وقاية البلاد من الغرق ووضع آلات التلغراف في غرفته الخصوصية، فكان يصدر الأوامر تترى إلى الجهات، وكانت جهات مصر القديمة والقصر العيني والقصر العالي وغيرها على وشك الخطر، لولا عناية الأمير بإقامة الجسور وتقويتها على ضفاف النيل في كل جهة.
وفي سنة 1875م لاحت بشائر مولد الأمير كمال الدين حسين، وفي هذه السنة تعين سموه ناظرا للمالية المصرية، وتعين على نظارة الداخلية أخوه المرحوم توفيق باشا، ثم خرج كلاهما من الوزارة بسقوط وزارة شريف باشا، وفي 25 يونية سنة 1879 أقيل الخديوي إسماعيل من خديوية مصر، فسافر معه نجلاه الأميران حسين وحسن إلى نابولي بإيطاليا، وأقام معه صاحب الترجمة أكثر من ثلاث سنوات ، ثم عاد إلى مصر بعد انتهاء الثورة العرابية واجتهد في تسوية الخلاف، الذي كان قائما بين الحكومة وأفراد العائلة الخديوية والمشاكل بشأن استبدال مرتباتهم بأطيان من أراضي الدومين، وأدار حركة هذه الأطيان كلها وبذل عنايته في صلاحها وتوسيع نطاق الزراعة فيها؛ ولكفاءته المعهودة ولشغفه بالزراعة وجه اهتمامه إلى استئجار الأطيان الواسعة من مصلحة الدومين وغيرها، وتولى زرعها وضمها، وفي سنة 1889م انتدبه أخوه الخديوي توفيق لمقابلة الملك أدوارد السابع لحين حضر إلى مصر وهو ولي عهد بريطانيا العظمى، كما انتدبه سنة 1890 لمقابلة القيصر نيقولا الثاني عند قدومه إلى مصر وهو ولي عهد دولة الروسيا، وكان له رحمه الله اليد الطولى في إدارة حركة الزراعة، وبث الرغبة فيها وإنمائها، ورأس جملة جمعيات أجنبية ومصرية منها شركة سكة حديد الدلتا والشركة البلجيكية وغيرها، وأفرغ الجهد في تأسيس الجمعية الزراعية، ومنها تولدت فكرة إنشاء وزارة الزراعة، وهو الذي أنشأ المعارض الزراعية في القطر المصري، ففتح أول معرض للأزهار بحديقة الأزبكية بمصر وحديقة طوسن بإسكندرية سنة 1896، ثم وسع نطاقه فعمم الأزهار في جميع المزروعات والمحصولات، ثم في معرض سنة 1898 أضاف إليه الحيوانات من مواش ودواب وطيور، وخصص له مكانا في الزمالك فصار معرضا زراعيا عموميا، وبجليل مساعيه بنى له المكان الخاص به في الجزيرة، وفتح هناك معرض سنة 1900 شاملا لجميع المحصولات على اختلاف أنواعها والمواشي والآلات الزراعية، وأضيفت إليه المصنوعات الوطنية المرتبطة بالزراعة، فصار بذلك معرضا زراعيا صناعيا معا، وكان يرسل في كل معرض أزهارا وأشجارا وغيرها من أجمل وأكمل ما يعرض فيها.
ويستثنيها من المعروضات الطالبة للجوائز ترغيبا للناس في اتقان زراعتهم ومباراتهم له في العناية والإتقان، وله الفضل الأكبر في إنشاء المدرسة الصناعية بدمنهور بالاكتتاب الذي تم تحت رياسته.
وبالجملة فقد حصر همته في ترقية الشؤون الزراعية والاقتصادية، فزاد عدد أعضاء الجمعية من كبار المزارعين زيادة عظيمة، وصار يتنقل في البلاد الأوربية كإيطاليا وفرنسا وبلجيكا باحثا عن كل ما يعود على الفلاح المصري بالخير والإسعاد، ثم وجه عنايته إلى إنشاء النقابات الزراعية للتعاون والتعاضد بين جميع طبقات المزارعين؛ لإصلاح شؤون زراعتهم حتى لقبه جميع الناس بأبي الفلاح ونصير الخير والفلاح، ثم عينه الخديوي في سنة 1909 رئيسا لمجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، وظل في رياستهما إلى أن عرضت مسألة إطالة امتياز قناة السويس، وإشراك مصر في أرباحها، فأبت أكثرية الأعضاء الموافقة على هذا الاقتراح، واشتد النزاع فاستعفى وقتئذ من الرياسة، ولكنه لم يفتر عن خدمة وطنه فالتفت إلى الجمعية الخيرية الإسلامية، وكان قد تقلد رياستها منذ أعوام فبذل عنايته في ترقية شؤونها، وكذلك جمعية الإسعاف لتخفيف آلام المصابين، وكان لا يكاد يوجد عمل خيري أو مشروع اجتماعي إلا وله فيه اليد البيضاء والهمة الشماء. وفي 19 ديسمبر 1914 جلس على أريكة السلطنة المصرية، ودعي بالسلطان حسين كامل الأول خلفا لابن أخيه عباس حلمي الثاني خديوي مصر؛ لتخلفه في الأستانة العلية لأمور سياسية تختص بالحرب الأوربية العامة، فقبض السلطان حسين على زمام السلطنة المصرية التي هي تراث جده الأكبر، وأزال الارتباكات المعلومة التي كادت تعود على البلاد بالوبال والخذلان، ونظر في أمور الرعية بعين الحكمة والسداد، واستبشر الناس فرحا ومسرة بهذا الجلوس السعيد، وصار الشعراء والبلغاء يتبارون في صوغ قلائد التهاني ودرر المدائح، وتوافد على سراي عابدين وفود المهنئين أفواجا وزمرا من كل صواب، وأقسم بين يديه الوزراء ورجال الحكومة يمين الإخلاص والطاعة والولاء لذاته الكريمة، ثم أخذ ينظر في شؤون البلاد بكل روية وخبرة ودراية رغما عن حوادث الحرب الأوربية الكبرى، التي عمت مصائبها واشتعلت نيرانها في أرجاء المعمورة، فأصلح شأن التعليم واهتم بتعليم البنات، وأكثر من إنشاء المدارس لتربيتهن وتهذيبهن؛ لأنهن أمهات رجال المستقبل، واعتنى بالأحوال الإدارية المالية والزراعية، وكل ما يعود على المصريين بالخير في هذه الأوقات العصيبة خصوصا ما يتعلق بتوطيد الأمن العام، فرفرفت رايات الطمأنينة على البلاد، ورفل أهلها في حلل الهناء ورتعوا في ميادين السعادة والمنى.
ومن عجيب ما اتفق للسلطان حسين كامل رحمه الله رحمة واسعة أنه في سنة 1333ه، رماه بعض الأشقياء بقنبلة فأخطأته، وحكم على هذا الشقي المغرور بالإعدام، فقال السيد محمد نور الدين عبد الرحيم الطهطاوي: «سلطاننا عاش ومات المجرم»، فوافق حساب هذه الجملة تاريخا لتلك السنة بحساب الجمل المعروف، ثم نظم على هذا التاريخ قصيدة عجيبة، ضمنها معظم الحوادث التاريخية المهمة، التي حصلت في سلطنة السلطان حسين وهذه هي القصيدة:
سلطاننا عاش ومات المجرم
فلتبتهج مصر فنعم المغنم
وعناية الله وقت سلطاننا (واستبطأت ذاك الخبيث جهنم)
قد أخطأ المرمى ولا عجب إذا
خاب الذي يرمي السماء ويرجم
مولاي يا سلطان مصر ومن له
منن على تلك البلاد وأنعم
ملك تقادم إرثه في بيتكم
لولاك كاد بناؤه يتهدم
1
صنت البلاد من الخطوب فأصبحت
بعد الشقاء ثغورها تتبسم
محن ألمت بالبلاد فلم يكن
إلا علاك بها أبر وأرحم
طاشت عقول يوم صلصل رعدها
فحمى حماها منك رأي أحزم
مولاي مصر قد غدت بك جنة
وسع العباد نعيمها فتنعموا
قد أظهروا (شكرا لنعمة ربهم)
تلك المظاهر والعدا تتبرم
أحييت مصرا بعدما احتضرت فهل
ولدتك مع عيسى قديما مريم
قد سولت نفس الخبيث وساوسا
لو نالها لغدا لمصر مأتم (وإذا العناية لاحظتك عيونها
نم فالمخاوف كلها لك مغنم)
فاسلم وفز مولاي واحي لأمة
تحيا بخير ما حييت وتسلم
صعب عليها أن ترى يا سيدي
أحدا سواك بأرضها يتحكم
ولذاك قال السعد في تاريخه:
سلطاننا عاش ومات المجرم
سنة 1333
201-371-447-314
وفي 10 أكتوبر سنة 1917م حدث مصاب الأمة الجلل وخطبها الجسيم، ففوجئت بوفاة هذا السلطان العظيم، فكان لمنعاه ضجة خطيرة ارتجت لها أرجاء القطر المصري بعد أن حكم مصر ثلاث سنوات متواليات، ظهرت في خلالها جلائل الأعمال، وفاضت مبراته وخيراته على جميع البلاد، وسادت فيها الطمأنينة فجزاه الله الجزاء الأوفى وتغمده برحمته ورضوانه آمين.
ترجمة ساكن الجنان المغفور له محمد علي باشا الكبير
والي مصر ورأس الأسرة المالكة المصرية
مولده ونشأته
انظر إلى خارطة بلاد الروملي في سواحلها الجنوبية على مسافة 320 كيلومترا من الأستانة غربا تر قرية اسمها «قواله»، لا يزيد عدد سكانها على ثمانية آلاف نفس. وكان في تلك القرية في أواسط القرن الثامن عشر رجل اسمه إبراهيم أغا كان متوليا خفارة الطرق، ولد له سبعة عشر ولدا لم يعش منهم إلا واحد، وفي سنة 1773 توفي هذا الرجل وامرأته عن ذلك الولد وسنه أربع سنوات واسمه محمد علي.
فأصبح الغلام يتيما ليس له من يعوله إلا عمه طوسون أغا، وكان متسلما على قواله فجاء به إلى بيته شفقة عليه، غير أن المنية عاجلت طوسون فقتل بأمر الباب العالي، بعد ذلك بيسير فأصبح الغلام يتيما قاصرا وليس من ينظر إليه.
وكان لوالده صديق يعرف بجربجي براوسطة فشفق على الغلام، وجاء به إليه وعني بتربيته مع أولاده. غير أن ذلك لم ينسه حاله من اليتم فكان يشعر بالذل وضعف النفس. ويروى عنه بعد أن ارتقى ذروة المجد واعتلى منصة الأحكام أنه كان يحدث أخصاءه عما قاساه في طفولته من الذل.
ساكن الجنات المغفور له محمد علي باشا الكبير منشئ مصر الحديثة ومؤسس العائلة المالكة.
قلنا: إنه ربي في طفولته ببيت جربجي براوسطة، وتعلم في صغره ما يتعلمه أبناء تلك البلاد من ألعاب السيف والجريد والحكم وما شاكل، فنبغ فيها حتى إذا بلغ أشده انتظم في سلك الجهادية تحت إدارة مربيه، فأظهر في جباية الضرائب مهارة وبسالة عجيبتين، فرقاه إلى رتبة بلوك باشي وزوجه إحدى ذوات قرابته وكانت مطلقة ولها مال وعقار فترك الجهادية وتعاطى التجارة وعلى الخصوص في صنف التبغ؛ لأنه أكثر أصناف التجارة في بلاده.
ساكن الجنات المغفور له محمد علي باشا الكبير.
وقد برع في تلك التجارة حتى اكتسب شهرة واسعة وثقة عظمى لدى عملائه، وكان قد ذاق لذة التجارة وأحبها منذ كان يتردد على شخص اسمه «ليون» أحد صغار التجار «ويقال: إنه كان وكيلا لإحدى المحال التجارية بمرسيلية مسقط رأسه»؛ ولذلك رأيناه بعد أن تولى مصر يوجه انتباهه بنوع خاص لتنشيط التجارة.
نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا.
وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة 1801 حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساويين من مصر بمساعدة إنجلترا. وكان الفرنساويون قد جاءوا مصر تحت قيادة نابليون بونابرت سنة 1798، فحاربوا الأمراء المماليك ودخلوها عنوة، وأقاموا فيها ثلاث سنوات والحكومة العثمانية تبعث إليهم الجنود ، وتحاربهم تارة وحدها وطورا بمساعدة إنجلترا، وهم قائمون بين إقدام وإحجام إلى سنة 1801م، فبعثت الحكومة العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة قبطان باشا وفيها قوات إنجليزية، وبعثت الصدر الأعظم في حملة من جهة البر.
ارتقاؤه منصة الأحكام
وكان محمد علي في جملة القوة البحرية، وقد تجند فيها في جملة من تجند في برواسطة بصفة معاون لعلي أغا ابن مربيه على ثلاثمائة جندي ألباني «أرناءوط».
فجاءت العمارة إلى أبي قير وكانت الغلبة هناك للفرنساويين، ثم عاد علي أغا إلى بلاده تاركا رجاله تحت قيادة محمد علي، وكان هذا قد ترقى إلى رتبة بيكباشي.
ثم تغلب العثمانيون بمساعدة العمارة الإنجليزية، وحملة الصدر الأعظم، ودخلوا البلاد وأخرجوا الفرنساويين منسحبين انسحابا قانونيا، وجعلوا يهتمون بتأييد سلطة الباب العالي فيها.
وبعد جلاء الحملة الفرنسية من البلاد المصرية ورجوعها إلى فرنسا، ابتدأت جماعة المماليك تشرئب أعناقها لأن تقبض على زمام إدارة شؤون البلاد، كما أن الباب العالي كان يطمح ببصره إلى طرد المماليك من الديار المصرية، واستئصال شأفتهم، واسترجاعها بعد أن اغتصبت منه مدة من الزمان، فبدأ النزاع بين الباب العالي والمماليك عندما أراد الباب العالي أن يستقل بالسيادة في الديار المصرية، فاستعمل للتغلب عليهم طريقة غير مقبولة فأوعز سرا للقبطان حسين باشا بإبادة جماعة المماليك واستئصالهم عن آخرهم، فاحتال عليهم القبطان حسين باشا، ودعا البكوات العظام من حزب مراد بك إلى معسكر أبو قير بعلة التفاوض معهم في إدارة شؤون حكومة مصر، فكان معظمهم غير مرتاح البال وأوجس خيفة من هذه الدعوة، إلا أنهم تخوفوا إذا تأخروا أن تنزع السلطة من أيديهم، وهذا الأمر الذي حملهم على تلبية الدعوة، وسكن روعهم لقرب معسكر القائد «هتشنسون الإنجليزي»، فقابلهم الباشا المشار إليه آنفا بوجه باش وبكل حفاوة وإكرام، ثم دعاهم إلى ركوب زورق لزيارة القائد الإنجليزي بعلة أنه يريد أن يتفاوض معهم في صيرورة حكومة مصر، ولما بعد عن الشاطئ قليلا لحقه زورق آخر يحمل بعض الأوراق، فاستأذنهم لقراءتها على انفراد، وترك الزورق بمن فيه من المماليك ، فظهر لهم عند ذلك أنه يريد بهم سوءا فأمروا النوتية بالرجوع فامتنعوا وأطلقوا عليهم الرصاص فقتلوا ثلاثة، وجرح عثمان بك البرديسي واثنان آخران، فلما وصل خبرهم للقائد الإنجليزي استشاط غيظا فاعتذر له القبطان باشا بأسباب واهية. وفي الوقت نفسه مثلت الرواية في باقي المماليك الموجودين بالقاهرة، وقد احتمى معظم البكوات «المماليك» بالمعسكر الإنجليزي فيها، فأسعفهم القائد «رمزي» رغم إلحاح الصدر الأعظم في تسليمهم إليه، فكانت هذه الحادثة سببا في إشعال نار الحقد في صدور المماليك، وقد زادها لهيبا تولية «محمد خسرو» مملوك القبطان باشا واليا على مصر في ربيع الأول، سنة 1216ه «يوليو سنة 1801ميلادية» بتوسط القبطان باشا لدى الصدر الأعظم يوسف باشا، بصدور أمر همايوني بتولية المذكور على مصر.
مراد بك أحد أمراء المماليك (توفي بالطاعون بالوجه القبلي سنة 1250ه ودفن بسوهاج بجوار الشيخ العارف).
ويعتبر خسرو باشا الوالي الجديد على الديار المصرية من أشهر رجال الترك في القرن الثالث عشر، وكان ذا حظوة عظيمة لدى السلطان، وقد استحكم الخلاف بينه وبين محمد علي ونال على أثره رتبة «قبي بلوك» فرتبة «سرجشمه»، وأصبح قائدا لأربعة آلاف، ساعيا جهده وراء استمالة رجاله إليه، حتى أجمعت القلوب على محبته وألسنتهم على شكره. فلما أراد خسروا مطاردة المماليك ونزع البلاد من أيديهم وقاوموه مقاومات عنيفة، بعث لهم حملة عسكرية لكبح جماحهم فلم يفلح، فاضطر إلى إمداد جنوده بفرقة محمد علي، ولكن قبل أن تصل هذه الفرقة إلى ميدان القتال تقهقرت الحملة وفشلت، فتوهم قائدها أن أسباب هذا الفشل ورجوعهم القهقرى تأخر محمد علي وفرقته ورفع تقريرا مسهبا لخسرو باشا، فأضمر له الشر وبعث يطلب محمد علي ليلا، فأقبل وأتى إلى مصر موجسا شرا من هذه الدعوة، ودخل إلى القلعة وعلى أثر مجيئه تمرد الجند لتأخير صرف رواتبهم وثاروا وحاصروا الخزانة، ونهبوا وسلبوا القاهرة فاعتصم خسرو باشا بالقلعة، وأصلى العصاة منها نارا حامية، فأراد إذ ذاك طاهر باشا قائد فرقة البانية وعددها (5000) أن يتوسط بين خسروا والعصاة، فأبى خسرو ورفض وساطته فانضم العصاة عليه، ولما لم يجد خسرو لديه حينئذ جندا تحميه ولى هاربا إلى دمياط، وبقى بها ينتظر فرصة يسترد فيها ما فقده.
ولما علم طاهر باشا بذلك جمع رؤساء العلماء وأشراف العاصمة وشاورهم في الأمر، فرضوا أن يكون نائبا عن الوالي عليهم، فأعلن أنه هو الحاكم على مصر حتى يولي الباب العالي خلفا لخسرو باشا، وذلك في صفر سنة 1218ه/مايو سنة 1893م، وكان من سوء طالع طاهر باشا أنه وقع في نفس الحيرة، التي وقع فيها خسرو إذ لم يمكنه دفع مؤخر رواتب الجند. وبعد اثنين وعشرين يوما من قبضه على زمام الأحكام تألب عليه الجند، واغتاله ضابطان هما «موسى أغا وإسماعيل أغا» بعد أن تظلما من تأخير رواتب الجند.
فأصبح محمد علي بعد هرب خسرو وقتل طاهر باشا رئيس الجند غير المماليك من الأرناءوط وغيرهم؛ لأن رتبته في الجيش تلي رتبة طاهر باشا، وقد طمحت نفس أحمد باشا قومندان الضبطية إلى الاستيلاء على مصر، فلم يتوصل إلى أمنيته؛ لأن محمد علي كان اتفق مع عثمان البرديسي وإبراهيم وكلاهما من أمراء مماليك الصعيد على إخراجه من القاهرة، ولما نفذ هذا الاتفاق توجه البرديسي إلى دمياط في 14 ربيع أول سنة 1218ه وأسر خسرو باشا، ولما علمت الدولة العلية ذلك عينت علي باشا الجزائري واليا على مصر، ونزل هذا الوالي الجديد بالإسكندرية في ربيع الأول سنة 1218ه/8 مايو سنة 1803م، فرأى أنه لا يمكنه مقاومة البرديسي ومحمد علي بحد السيف فاتفق معهما ظاهرا، على حين أنه كان يعمل في الخفاء على هدم قوتهما وتكوين حزب وطني مصري يناهض المماليك. ولكن من سوء حظه أن بعض مراسلاته مع السيد «السادات وقعت في يد البرديسي وكان هذا ضيفا عنده»، فاحتال البرديسي في قتله وتم له في شوال سنة 1218ه/يناير سنة 1804م، وكان للمماليك رئيس آخر مع البرديسي يدعى محمد بك الألفي، الذي كان سافر إلى إنجلترا؛ ليطلب منها المساعدة التي تنيله الاستئثار بحكم مصر، فلما عاد منها ووصل إلى ساحل مصر علم أنه لا يمكنه الوصول إلى ضالته إلا بتوحيد قوى المماليك، وجعلهم تحت حماية الإنجليز، وكان ذلك لا يتم له إلا باتحاد مع البرديسي عدوه العنيد وإبراهيم بك الكبير، فلما نزل عند أبو قير قابله أعوانه بكل حفاوة وإكرام. وإذ كان في ريبة من أمر البرديسي اتخذ مسكنه في دمياط، وأصدر الأوامر إلى أتباعه بالاجتماع في ضيعة بالجيزة، ومعهم كل ما يمكن جمعه من العدة والعدد على أن يلحق بهم فيما بعد، إلا أن وصوله إلى الديار المصرية لم يرق في نظر كل من البرديسي ومحمد علي؛ لأن الأول رأى أن من الخطل أن تكون نتيجة خلعه واليين وقتله ثالثا أن يشاركه في السلطة مناظر كان بعيدا عن الديارة المصرية أثناء حربه معهم، وفاته أنه لو اتحد مع الألفي ومع إبراهيم بك لاستعادوا سلطة المماليك في مصر؛ لأن محمد علي غريب عن البلاد وهو وحده لا يقوى على مقاومتهم، ولكن تدبير محمد علي ودهاؤه وسعوده كلها حالت دون اتفاقهم، فاتفق الاثنان على أن يتخلصا من محمد الألفي. وفعلا حاصر محمد علي ومن كان معه من الألبانيين قصره في الجيزة وأخذ أتباعه على حين غرة، وقتل منهم خلقا كثيرا وفر الباقون، أما عثمان البرديسي فصار بجيشه؛ ليفتك بالألفي في طريقه إلى القاهرة فقابله بالمنوفية هو وحاشيته، فأفلت الألفي من يده وهرب إلى سوريا، وأما من كان معه فقتل معظمهم وسلب كل ما معهم من المتاع والمال، وظل البرديسي في القاهرة يتصرف في شؤونها كيف يشاء وضرب على الأهالي الضرائب الفادحة حتى أثقل كواهلهم؛ لكي يصرف رواتب الجند فلم يكن للأهالي طاقة لقبول هذه الضرائب فثاروا ضده، وحملوه على الهرب في عام 1804م إلى سوريا، ولما صفا جو مصر لمحمد علي، ولم يبق فيها سواه أرسل خسرو باشا إلى الأستانة إبعادا، وجمع لديه علماء مصر ومشايخها واستشارهم بتعيين خورشيد باشا حاكم الإسكندرية واليا على مصر، فوافقوه على شرط أن يعينه حاكما للقاهرة، ورفعوا القرار للباب العالي فصدق عليه في 23 محرم سنة 1218ه.
وفي 21 صفر سنة 1229ه عين محمد علي بإرادة سنية حاكما «لجدة»، ولكن أهالي مصر وجنوده أبوا إلا عدم مبارحته لبلادهم، فعينوه واليا على مصر فقام إليه الشيخ الشرقاوي والسيد عمر مكرم نقيب الأشراف وألبساه «الكرك» والقفطان إيذانا بولايته، وكان في يد السيد عمر مكرم أمر العامة في جميع أنحاء مصر لا يعارضون له أمرا، فأيد أمر محمد علي باشا بنفوذه وجاهه أكثر من أربع سنوات تأييدا لم يقم به أحد مثله. وأرسل العلماء رسولا إلى الباب العالي يلتمس العفو عما فرط منهم في حقه، ويرجو اعتماد تنصيب محمد علي واليا لمصر، فعلم السلطان من ذلك مقدار ميل الأهلين لمحمد علي، وأيقن أنه أصبح صاحب الكلمة العالية في مصر، فوافق على تنصيبه واليا عليها في ربيع الثاني سنة 1220ه/يوليو سنة 1805م، ولما علم خورشيد باشا بهذا النبأ سلم له القلعة وتخلى عنها، ولم يمض إلا زمن يسير على تولية محمد علي حتى أقبلت العمارات العثمانية إلى ميناء الإسكندرية في يوم 15 من ربيع آخر سنة 1221ه تقل أمير البحر التركي، يصاحبه «موسى باشا» والي سلونيك يحمل فرمانا ساميا؛ ليكون واليا على مصر؛ لينتقل منها محمد علي ليتولى منصب موسى باشا في سلونيك. فتظاهر محمد علي بإظهار الطاعة لأوامر الباب العالي، ثم ادعى أنه يغادر مصر توا ثم جمع كبار المشايخ والعلماء وبلغهم الأمر. فكتبوا عريضة إلى الباب العالي يلتمسون بها بقاء محمد علي واليا على مصر ورفعوها على يد إبراهيم بك نجله، الذي سافر بها خصيصا إلى الأستانة وقدمها إلى المرجع الإيجابي بمساعدة سفير فرنسا في دار السعادة، فصدرت الأوامر السامية في 24 شعبان سنة 1221ه/نوفمبر سنة 1806م بتأييد محمد علي في منصب والي مصر، وبعد ورود هذه الأوامر بثلاثين يوما أخذ كل من عثمان البرديسي ومحمد الألفي يناوش محمد علي، فقضى على البرديسي في 19 ذي الحجة سنة 1221ه/ديسمبر سنة 1808م، ومات الألفي في ذي القعدة سنة 1221ه/يناير سنة 1807م وبموتهما تفرق أتباعهما أيدي سبا ولم يبق في البلاد المصرية مناظر لمحمد علي ولا معارض البتة، غير أن إنجلترا قد ارتأت بتأييد ولاية محمد علي إجحافا بمصلحتها ومساسا بنفوذها في القطر المصري. فجردت ضده حملة بدد بعضها الأرناءوط عند ثغر رشيد، وحمل بعضها الآخر على الجلاء بعد أن عقدت إنجلترا ومصر معاهدة الصلح في 13 رجب سنة 1222ه/سبتمبر سنة 1807م وذلك بمدينة دمنهور، وكان من نتائج هذه الحملة رضاء الباب العالي عن محمد علي. فمنحه السلطان خلعة وسيف شرف. وأمر بإرجاع ابنه إبراهيم إليه «وكان معتقلا في القسطنطينية»، وقد صار لهذه الإنعامات السلطانية أثر عظيم في توطيد سلطته، إذ كان في هذا الوقت في وجل شديد من جنده حتى إنه استعد للاعتصام بالقلعة إذا تألبوا عليه.
السلطان محمود الثاني (ولد سنة 1785م، وتولى سنة 1808م، وتوفي سنة 1839م).
وفي 5 جمادى الثاني تبوأ السلطان محمود الثاني عرش الخلافة على أثر تنازل السلطان مصطفى، فاستمد محمد علي رضاء الخلف عنه وضم الإسكندرية لولايته، ثم أمره في السنة التالية حيث استفحل أمر الوهابيين في شبه جزيرة العرب، حتى امتدت شوكتهم من الشمال إلى صحراء سوريا، ومن الجنوب إلى بحر العرب، ومن الشرق إلى خليج العجم، ومن الغرب إلى البحر الأحمر، بأن يجمع الجنود ويذهب بهم إلى حيث يشتت عملهم قوة واقتدارا، فصدع محمد علي بالأمر وأرسل ثمانية آلاف مقاتل مع ولده طوسون باشا، ولكن أوجس من المماليك شرا بعد سفر هذه القوة فدعاهم لوداع ولده الذي عين للاحتفال أجلا محدودا، وهو اليوم الخامس وفي شهر صفر سنة 1226ه، فتوافدت وفود المماليك يومئذ إلى القلعة يتقدمهم زعيمهم شاهين بك، ولبثوا حتى إذا سار الموكب والمماليك وراءه محتاطين بالمشاة والفرسان ووصلوا إلى باب القلعة. أمر محمد علي بوصد أبوابها فوصدت، وأشار إلى جماعة من أخصائه الأرناءوط فهجموا على المماليك وحكموا سيوفهم في رقابهم حتى قتلوهم جميعا وعددهم 400، ولم ينجح منهم إلا أحمد بك وأمين بك وبعد وصول حملة طوسون إلى حيث كانت قاصدة قابلها الوهابيون، ثم جمعوا قواهم وعادوا فبددوا شمل الوهابيين، وقد أمدهم محمد علي بكثير من الجند فهجمت على الوهابيين وقهرتهم، واحتلت مكة المكرمة، وفي سنة 1228ه عاود الوهابيون الكرة على حملة طوسون في ترابيا «تراباة» وكانت خسائر هذه الهزيمة عظيمة جدا، حتى إن سعودا زعيم الوهابيين زحف بجيشه على المدينة ثانية وهددها بالأخذ عنوة.
ولما وصل خبر هذه النكبة إلى محمد علي عزم على أن يتولى قيادة الجيش بنفسه فأخذ العدة، وتوجه إلى الأقطار الحجازية. ولما وصل هناك أدى فريضة الحج، ثم علم من بعض الأفراد أن الشريف غالبا مذبذب في ولايته فاحتال في القبض عليه بواسطة طوسون ابنه، وأرسله إلى القسطنطينية حيث قتل هناك بعد مدة وجيزة، وفي أوائل سنة 1229ه/سنة 1814م مات سعود الثاني، وبموته فقد الوهابيون أعظم ساعد وأكبر بطل، وخلفه ولده عبد الله، فعهد هذا بمحاربة المصريين «لأخيه فيصل»، فحاربهم في كثير من الأرجاء ولم يفز من عواقب هذه الحرب إلا بالفشل والخجل. ولما اطمأن محمد علي على ولده من قوة الوهابيين عاد إلى مصر وترك ابنه هناك لإبادة أعدائه وخصومه، فوصل القاهرة في 4 رجب سنة 1230ه/سنة 1815م، وخصوصا أنه اتصل به هرب نابليون من منفاه في «ألبا»، فرجع عن طريق الأقصر، فقنا، فالقاهرة، وعلم له أيضا بتدبير مؤامرات على عزله وقتله، فظن أن ذلك بإيعاز من رجال الباب العالي. أما رئيس المؤامرة فهو «لطيف باشا» أحد المماليك، وكشف سر هذه المؤامرة الفظيعة «الكخيا لاظ أوغلي باشا»، فقتل لطيفا ومن معه بعد أن حاول الهرب والاختفاء، وكان غرضه أن يكون واليا على مصر إذا نجح في قتل محمد علي، وعند عودة محمد علي هم بتنظيم جيشه على الطراز الغربي، وفي خلال ذلك رجع ولده طوسون ناجحا، ولكنه لم يصل ثغر الإسكندرية حتى توفاه الله عقب مرض لم يمهله أكثر من عشر ساعات.
ولما رأى محمد علي أن الوهابيين لم ينفذوا شروط الصلح جهز حملة أخرى، وأرسلها إلى بلاد العرب بقيادة ابنه إبراهيم باشا، ورافقه في هذه الحملة القائد العظيم سليمان باشا في شوال سنة 1231ه/سبتمبر سنة 1916م، وقد أعمل الفكر ذلك البطل العظيم في استنباط الخطط الحربية التي أوقفته بين صميم عظماء الرجال ومشاهير القواد، فأول موقعة التحم فيها جيشه مع الوهابيين كان عند «البريس» سنة 1232ه/سنة 1817م، وفي هذه المقتلة انهزم جيشه هزيمة لم تثن من عزمه ولم تفت في ساعده، بل استمر سنة كاملة في كفاح وجدال حتى ذلل كل الصعوبات؛ ولذلك أخضع قرى كثيرة وصار قاب قوسين أو أدنى من الدارعية حاضرة الوهابيين، وهي على بعد 400 ميل من المدينة المنورة التي اتخذها قاعدة لأعماله الحربية، وحاصر إبراهيم باشا الدارعية في جمادى الثانية سنة 1233ه/وأول شهر أبريل سنة 1818م، وفي هذه الأثناء انفجر مخزن ذخيرته فلم تفتر همته ولم يساوره اليأس؛ لأنه كان على يقين من استياء العالم الإسلامي أجمع من فظاعة الوهابيين، وعند ذلك اضطر عبد الله إلى الخضوع والاستسلام لسيطرته وسلطانه، فسلم نفسه في ذي القعدة سنة 1233ه/سنة 1818م ولم يعامله إبراهيم باشا إلا بكل كرامة وإحسان، ثم أرسله إلى أبيه بالقاهرة فبالغ في إكرامه أيضا، وأرسله إلى الباب العالي وبعد وصوله بزمن قليل أمر به فقتل وقد ضرب إبراهيم باشا مدينة الدارعية، وتركها أثرا بعد عين، وهكذا انتهت الحروب في بلاد العرب بعد القضاء على سلطة الوهابيين.
سليمان باشا الفرنساوي، منظم الجند المصري.
فتح السودان
فكر محمد علي باشا في فتح السودان، فأرسل خمسة آلاف مقاتل بقيادة إسماعيل باشا ابنه الثالث فتوجه في شعبان سنة 1235ه، ففتح شندي والمتمة وسنار فالخرطوم، وأخضع قبيلة الشائفية وكردوفان وتقدم إلى فذقل وتفشى المرض في جيش إسماعيل، فمات كثير من جنوده في هاتيك البقاع المقفرة، فأمده والده بثلاثة آلاف مقاتل تحت قيادة صهره أحمد بك الدفتردار، فأقامه على كردوفان. وصار هو إلى المتمة فقتله نمر ملك شندي بحيلة غريبة، وهو أنه أقام مأدبة فاخرة دعا إسماعيل لحضورها، فلبى طلبه فأمر «نمر» أتباعه وأشياعه أن يجعل حول منزله حطبا ومواد ملتهبة ثم يضرمون فيها النار، ففعلوا. فشبت النار في المنزل فدمرته وحرقت جميع من فيه، وكان من بين المحروقين إسماعيل باشا، فلما بلغ أحمد بك الدفتردار صهره زحف بما لديه من الجند وحارب الملك النمر مستقتلا حتى تمكن من النصر والظفر. وقتل عشرين ألف نفس انتقاما لإسماعيل وأخذا بثأره.
جامع محمد علي بالقلعة.
ثم أخذ محمد علي بعدئذ في العناية بأحوال الجهادية فأسس لها مدرستين حربيتين الأولى للمشاة في الخانكا، والثانية للطوبجية وعين لها نظارا فرنساويا يدعى الكولونيل «ساف»، وهو الذي اعتنق الإسلام، وسمي سليمان باشا الفرنساوي ثم أنشأ في القاهرة معامل لسبك المدافع والرصاص كما شاد في الإسكندرية حصنا حصينا، ثم التفت بعين عنايته إلى داخلية البلاد فأصلح شؤونها وعني بزراعتها وتجارتها، فأتى ببذور القطن الأمريكي من الهند، وأكثر من زراعة الأشجار في البنادر والثغور والعواصم والأباعد والجفالك؛ تلطيفا للهواء وهبوب الزوابع في الصيف ثم أنشأ ميناء الإسكندرية، وحفر ترعة المحمودية، وبني معامل للقطن، والنيلة، والطرابيش، وشيد مدرسة طبية وصيدليات ومستشفيات بنظارة الدكتور كلوت بك.
وألف مجلسا للمعارف وأرسل كثيرا من طلبة العلم إلى أوربا لاقتباس نور المعارف والفنون، وأمر بغرس حديقة الأزبكية، وتقسيم القطر المصري إلى مديريات ومراكز، وشيد القناطر الخيرية ومطبعة بولاق الأميرية، كما أنه شيد المسجد الشهير باسمه الكائن بالقلعة بمصر، وأمد الدولة العلية عام 1239ه بحملة مصرية في حرب المورة، وأخضع حكام سورية وفي مقدمتهم عبد الله باشا حينما جاهروا بالعدول ضد الدولة العلية، وقد فتح كل البلاد السورية، واستولى على حلب على يد ابنه إبراهيم، فأوجس الباب العالي خيفة فأرسل جيشا لإرجاع العساكر المصرية، فلم يستطع إلى ذلك سبيلا؛ لأن إبراهيم باشا كان قد تقدم في آسيا الصغرى تقدما سريعا كاد يتهدد به الأستانة، ثم عقدت على أثر ذلك معاهدة لندن سنة 1255ه، التي قضت بأن يبقى محمد علي تابعا لدار الخلافة العثمانية. ثم أرسل إليه الباب العالي فرمانا همايونيا مؤرخا في 21 ذي الحجة سنة 1256ه يخوله حق وراثة الأريكة المصرية لأعقابه، ويؤيد ولايته على نوبيا ودارفور وكردوفان فضلا عن القطر المصري.
الدكتور كلوب بك ناظر مدرسة الطب والصيدليات.
وفي عام 1262ه توجه إلى دار السعادة فأكرم جلالة السلطان الأعظم وفادته، ثم عاد إلى مصر شاكرا داعيا وفي أثناء رجوعه مر على «قوله» وطنه الأول، وبني فيها كثيرا من الأبنية الخيرية لفقرائها، وظل في مصر بين آيات التعظيم وتحت رايات التبجيل لغاية سنة 1264ه، إذ مرض مرض الشيخوخة وخلفه ابنه إبراهيم باشا، ونقل هو للإسكندرية تبديلا للهواء، ولكن لم يستقر به المقام حتى توفاه الله في 18 رمضان سنة 1266ه الموافق 2 أغسطس سنة 1850م، وكان عمره إذ ذاك 84 سنة قمرية، ثم نقلت جثته إلى القاهرة بمزيد الاحتفاء والاحتفال، ودفنت بجامع القلعة بملء الإكرام. تغمده الله برحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جناته.
ترجمة إبراهيم باشا
في آخر أيامه
ولد جنتمكان إبراهيم باشا بن محمد علي في مدينة «قوله» سنة 1204ه، وكان منذ حداثته ذكي الفؤاد عالي الهمة دمث الأخلاق، وعندما بلغ الثامنة عشرة عينه والده في الجندية المصرية، وفي زمن يسير ارتقى رتبها. وتولى قيادة فرقة فبرهن على مقدرة فائقة، ثم عين مديرا في إحدى المديريات فقام بعبء وظيفته خير قيام.
ولد سنة 1204ه، وتولى سنة 1848، وتوفي في السنة نفسها.
وكان يعرف الفارسية والتركية والعربية، وله اطلاع واسع في تاريخ البلاد الشرقية، وقد تولى الإمارة المصرية بعد تنازل أبيه عام 1265 فسار على خطواته سيرا حسنا، وإن كان في الحقيقة يختلف عنه بمواهبه الأصلية، فقد كان إبراهيم باشا صارم المعاملة صعب المراس شديد الوطأة كما يغلب أن يكون رجال العسكرية. وكان أبوه لين العريكة حسن السياسة ذا دهاء وحكمة، ولم يطل حكم إبراهيم إلا 11 شهرا، وتوفي قبل والده.
وكان ربع القامة ممتلئ الجسم قوي البنية مستطيل الوجه والأنف أشقر الشعر، في وجهه أثر الجدري، كثير اليقظة قليل النوم، وكان نقش خاتمه «سلام على إبراهيم».
عباس باشا الأول
هو عباس باشا بن طوسن بن محمد علي باشا، ولد عام 1228ه أو 1813 وربي أحسن تربية ، وكان
عباس باشا الأول.
السيد خليل البكري.
الشيخ عبد الله الشرقاوي.
الشيخ المهدي الكبير.
الشيخ سليمان الفيومي.
بعض أعضاء المجلس النيابي في ذاك العهد.
محبا لركوب الخيل فرافق عمه إبراهيم باشا في حملته إلى الديار الشامية، وشهد أكثر الوقائع الحربية. وفي سنة 1265ه تولى زمام الأحكام على الديار المصرية بعد وفاة عمه إبراهيم، وكان على جانب من العلم والمعرفة؛ لأن المرحوم جده كان يحبه كثيرا، فاعتنى بتعليمه في مدرسة الخانكا.
ومن مشروعاته المهمة الشروع في إنشاء الخط الحديدي بين مصر وإسكندرية، وتأسيس المدارس الحربية في العباسية، ومد الخطوط التلغرافية لتسهيل سبيل التجارة وغير ذلك.
وكان له ولد يدعى الأمير إبراهيم الهامي على جانب عظيم من الجمال والذكاء واللطف والمعرفة والعلم، زار الأستانة سنة 1270ه، وتشرف بمقابلة جلالة السلطان عبد المجيد، فأحبه وزوجه من ابنته وغمره بنعمه فرجع إلى مصر شاكرا حامدا، والمرحوم الهامي باشا هو والد ذات العفاف والعصمة حرم المغفور له توفيق باشا الخديوي السابق، ووالدة الخديوي عباس حلمي الثاني.
وعباس باشا الأول هو الذي وضع الحجر الأول لمسجد السيدة زينب بيده، وقد كان لذلك احتفال عظيم حضره كثير من الأعيان ورجال الدولة، وذبحت فيه الذبائح، وفرقت الصدقات الكثيرة على الفقراء والمساكين.
وفي أيامه كانت بين الدولة العلية والروسيين حروب، فبعث حملة كبيرة لنجدة الدولة سارت عن طريق بولاق في البحر وسار هو بنفسه لوداعها هناك، وقبل ركوبها النيل نهض لوداعها فألقي في الجنود خطابا بليغا منشطا.
وتوفي عباس باشا الأول في شوال سنة 1270 أو يوليو 1854م في قصره في مدينة بنها العسل، ثم نقل ودفن في مدفن العائلة الخديوية في القاهرة.
ترجمة سعيد باشا
هو ابن محمد علي باشا، ولد في الإسكندرية عام 1237ه/1822م، وكان محبا للعلم بارعا فيه، وعلى الخصوص في اللغات الشرقية والعلوم الرياضية والرسم، وكان يتكلم الفرنساوية جيدا. تولى زمام الأحكام عام 1270ه أو 1854م بعد وفاة عباس باشا ابن أخيه، وكان محبا للعدل والفضيلة وكان مهتما بالإصلاح الإداري، ومن أعماله إتمام الخطوط الحديدية والتلغرافية بين إسكندرية ومصر، والشروع في مد غيرها، وتنظيم لوائح الأطيان، واسترجاعها من المتعهدين إلى أربابها، وقد عدل الضرائب فجعلها عادلة ورفع كثيرا من الضرائب التي كان يتظلم منها الرعايا، ونزح ترعة المحمودية، وفي أيامه تمت معاهدة ترعة السويس، وقد نشطها تنشيطا كبيرا، وأقام في طرفها الشمالي مدينة حديثة دعيت باسمه، وهي بورت سعيد، وغرس الأشجار في طريق المنشية.
ساكن الجنات سعيد باشا (ولد سنة 1237ه، وتولى سنة 1270ه، وتوفي 1279ه).
وفي السنة الثانية من توليه على مصر وضع الحجر الأول لأساس القلعة السعدية، عند رأس الدلتا فيما بين القناطر الخيرية، تداعت أركانها الآن.
وفي أيامه ثارت مدينة الفيوم على الحكومة فبعث إليها وأخمد الثورة فهدأت الأحوال. ولما اختتن نجله طوسون أطلق كل من كان في السجون من المجرمين حتى القاتلين. وفي أيامه أعطيت بلاد السودان بعض الامتيازات وتولى عليها البرنس حليم باشا حكمدارا. وفي عام 1276ه أو 1859م توجه لزيارة سوريا فمكث في بيروت ثلاثة أيام، ونزل ضيفا كريما على وجهاء المدينة، وكان في أثناء مروره في الطرقات ينثر الذهب على الناس.
وفي عام 1278ه أو 1861م توفي المغفور له السلطان عبد المجيد، وتولى السلطان عبد العزيز. وفي يوم السبت 26 رجب عام 1279ه أو 17 يناير 1863م توفي سعيد باشا في الإسكندرية ودفن فيها.
ترجمة حياة إسماعيل باشا
هو إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير، وكان لوالده ثلاثة أولاد ذكور أكبرهم البرنس أحمد «ولد عام 1825»، ثم البرنس إسماعيل «ولد عام 1830»، ثم البرنس مصطفى «ولد عام 1832»، وكان البرنس أحمد نابغة من نوابغ الزمان ذكاء وفطنة كثير الشبه بوالده شكلا وأخلاقا، ولكنه توفي في أثمن سني حياته بين الشباب والكهولة، فأصبح صاحب الترجمة كبير أبناء إبراهيم.
وربي إسماعيل باشا في حجر والده وتعلم وتثقف بحياطة جده؛ لأن جده رحمه الله كان قد أنشأ لأولاده الصغار وأولاد أولاده الكبار مدرسة خصوصية في القصر العالي فيها نخبة من مهرة الأساتذة، فتلقى صاحب الترجمة فيها مبادئ العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية ، ونذرا يسيرا من الرياضيات والطبيعيات، فلما بلغ السادسة عشرة من عمره بعث به جده مع ولديه المرحومين البرنسين حليم باشا وحسين باشا، والمرحوم البرنس أحمد باشا مع إرسالية فيها نخبة من شبان مصر الأذكياء إلى مدرسة باريس، يتولى رئاستهم وجيه أرمني اسمه اسطفان بك، فقضوا في تلك المدرسة بضع سنوات تلقوا بها العلوم العالية، ثم عادوا إلى مصر إلا حسين بك، فإن المنية أدركته هناك. ومن العلوم التي تلقاها إسماعيل باشا اللغة الفرنساوية والطبيعيات والرياضيات وخصوصا الهندسة، وعلى الأخص فني التخطيط والرسم، وهذا هو سبب شغفه بعد ذلك بتنظيم الشوارع وزخرفة البناء.
ولما عادت الإرسالية كان عباس باشا الأول واليا على مصر، فمكث إسماعيل معه على صفاء ومودة حتى وقع بين عباس وسعيد باشا نفور مبني على اختلاف في اقتسام التركة، وانحاز سائر أفراد العائلة الخديوية إلى سعيد، وفي جملتهم إسماعيل فساروا كافة إلى الأستانة، ورفعوا شكواهم إلى جلالة السلطان فصدرت الإرادة السنية الشاهانية بإنفاذ المرحوم فؤاد باشا الصدر الأعظم، وكان يومئذ فؤاد أفندي، وجودت أفندي وهو جودت باشا الوزير والمؤلف الشهير إلى مصر، فأتيا وسويا الخلاف وتصالح أفراد هذه العائلة الكريمة، فعادوا إلى مصر إلا إسماعيل، فإنه بقي في الأستانة وتعين عضوا في مجلس أحكام الدولة العلية.
وفي سنة 1854 توفي عباس باشا الأول، وتولى عمه سعيد باشا فعاد صاحب الترجمة إلى مصر فولاه عمه المشار إليه رئاسة مجلس الأحكام، فاهتم بشأنه أعظم اهتمام ونظمه على مثال مجلس أحكام الدولة العلية.
وفي عام 1863 توفي المغفور له سعيد باشا فأفضت ولاية مصر إلى إسماعيل باشا، وهو خامس ولاتها من السلالة المحمدية العلوية، فأخذ منذ تبوئه الأحكام في رفع شأن هذه الديار وإعادة رونقها الذي كان لها في عهد محمد علي باشا، فأطلق يده في النفقة لتنظيم الشوارع، وتشييد الأبنية وإنشاء المشروعات النافعة على أنواعها، مما سيأتي تفصيله غير مبال بما قد يجر إليه ذلك من الضيق.
ساكن الجنات إسماعيل باشا بملابسه الرسمية (ولد سنة 1830م، وتولى سنة 1863م، وخلع سنة 1879م ، وتوفي سنة 1885م).
ساكن الجنات إسماعيل باشا بملابسه الملكية.
وكانت ولاية مصر تنتقل من العائلة الخديوية إلى من يختاره جلالته بقطع النظر عن علاقته بالوالي السابق، وكان ولاة مصر يلقبون بالعزيز أو الوالي أو الباشا، وإذا لقبوا أحيانا بالخديوي فإنما يكون ذلك على سبيل التجمل والتفخيم. أما إسماعيل باشا فهو أول من نال رتبة الخديوية ولقب الخديوية، فأصبحت ولاية مصر إرثا صريحا في نسله ينتقل منه إلى أكبر أولاده، ومنه إلى أكبر أولاده وهكذا على التعاقب. وذلك بناء على نص الفرمان الصادر في 12 جمادى الأولى سنة 1290ه أو 8 يوليو سنة 1873م، وقد امتاز سمو إسماعيل باشا عن سائر ولاة مصر قبله. بأنه حبب سكنى الديار المصرية إلى الأجانب من جالية أوربا وأميركا وغيرهما بما مهده من وسائل الراحة والطمأنينة، مع الأخذ بناصرهم وتأييد مشروعاتهم وتنشيطهم وتوسيع نطاق التجارة، فتقاطروا إليها أفواجا وأقاموا فيها على الرحب والسعة لما آنسوه من الكسب الحسن والعيش السهل.
وفي عام 1869م احتفل إسماعيل باشا بافتتاح قناة السويس، وكان قد بوشر بحفرها على عهد سعيد باشا. فحضر ذلك الاحتفال جميع ملوك أوربا أو من يقوم مقامهم، وكان له رنة بلغ صداها أربعة أقطار المسكونة لما أعده إسماعيل باشا من وسائل الزينة، مما قد تقصر عنه همم الملوك العظام. وفي هذه الأثناء بنى الأوبرا الخديوية بالقاهرة؛ لتكون مسرحا يشاهد فيه ضيوفه صنوف التمثيل. وكانت المدة غير كافية لتشييد ذلك البناء، فبذل الدراهم والدنانير فلم يمض خمسة أشهر حتى تم البناء وسائر معدات التمثيل على ما نشاهد الآن. وهو من المراسح التي لا مثيل لها إلا في عواصم أوربا العظمى.
ومما اختص به سموه من الشرف العظيم دون سواه من الولاة، أن ساكن الجنان السلطان عبد العزيز حلت ركابه في القطر المصري في السنة الأولى من ولاية إسماعيل فلاقى ترحابا عظيما.
وفي سنة 1872م تعدى الأحباش على حدود مصر مما يلي بلادهم وأسروا بعضا من رعايا مصر، فبعثت الحكومة المصرية بطلب ردهم فجرت المخابرات فآل ذلك إلى حرب جرد فيها إسماعيل باشا حملة نال على أثرها الصلح، وفي سنة 1873م شخص رحمه الله إلى دار السعادة فاحتفل بقدومه فعاد وقد حاز رضى الحضرة الشاهانية ورجال المابين الهمايوني. وفي تلك السنة احتفل بزواج أنجاله الثلاثة وهم المرحوم توفيق باشا الخديوي والبرنس حسن باشا والمرحوم السلطان حسين الأول احتفالا واحدا تحدث به الناس زمنا طويلا، ومما زاد ذلك الاحتفال بهجة أنهم نالوا عندئذ رتبة الوزارة الرفيعة معا.
ولنأت الآن إلى أمر هو أهم الأمور المتعلقة بالخديوي إسماعيل، وعليه مدار ما آل إليه أمره نريد به أمر الديون التي تعاظمت على مصر في أيامه. وإيضاحا لذلك نذكر ملخص تاريخ الدين المصري. فأول من وضع جرثومته المرحوم سعيد باشا سنة 1892م، وقدره الاسمي «3292890» جنيه بفائدة 7 في المائة. وفي السنة التالية تولى إسماعيل باشا الأريكة الخديوية، فأخذ في البذل والنفقات في التشييد والبناء وتوسيع الشوارع وإقامة الحدائق وغير ذلك، حتى زادت النفقات على دخل البلاد، فبلغت الديون نحو مائة مليون جنيه حتى آل الأمر إلى مداخلة الدول الأجنبية للمحافظة على أموال رعاياها أصحاب الديون، فتخابرت الدول وتشاورت في أحسن الوسائل لضمان تلك الأموال واستهلاكها، فألفت لجنة دولية مشتركة سموها لجنة صندوق الدين العمومي صدر الأمر العالي بتشكيلها في 2 مايو سنة 1876م، وورد في ذلك الأمر أن هذا الصندوق قد أنشئ لتأمين أرباب الديون على ديونهم، واستلام ما يستحق لهم من الفوائد وغيرها. وأن الحكومة لا يجوز لها تجديد قرض إلا بالاتفاق مع صندوق الدين. وأن الدعاوى التي يتراءى لصندوق الدين رفعها على الحكومة تنظر في المجالس المختلطة.
وكانت الديون المصرية قسمين: دين الحكومة ودين الدائرة السنية، فضموها في 7 مايو من تلك السنة إلى دين واحد فبلغ قدره 91 مليون جنيه، وسموه الدين الموحد بفائدة 7 بالمائة ويتم استهلاكه في 95 عاما، ثم رأى إسماعيل باشا أن توحيده على هذه الصورة لا يتيسر له إتمامه، فأصدر في 18 نوفمبر منها أمرا يقول فيه: أن تصدر الحكومة المصرية عليها سندات بمبلغ 17 مليون جنيه تكون ممتازة برهن خصوصي هو السكة الحديدة المصرية، وميناء الإسكندرية وفائدته 5 بالمائة وسماه الدين الممتاز.
على أن كل هذه الوسائل لم تكن كافية لإقناع الدول؛ لأن الحكومة لم تكن تقوم باستهلاك الدين حسب الشروط، فعينت الدول عام 1878 لجنة مالية مختلطة لمراقبة حسابات الحكومة المصرية، فرأت فيها عجزا مقداره مليون ومائتا ألف جنيه، فتنازل إسماعيل باشا عن أملاكه الخاصة، وأملاك عائلته للحكومة، وهي التي تعرف بأملاك الدومين، وتقرر في تلك السنة استقراض ثمانية ملايين ونصف، وجعلوا أملاك الدومين رهنا لها، وهذا الدين هو المعروف بدين روتشيلد.
وكانت أعمال الحكومة المصرية تجري بمقتضى إرادة الخديوي رأسا، أما بعد تداخل الأجانب في أحوال المالية، فلم ير إسماعيل بدا من جعل حكومته شورية، فشكل مجلس النظار برئاسة نوبار باشا، وصادق على تعيين ناظرين أحدهما إنجليزي، وهو المستر ولسن للمالية والآخر فرنساوي وهو المسيو بلينير للأشغال العمومية، فرأى مجلس النظار أن يقتصد شيئا من نفقات الجند فرفت جانبا منهم، فثار المرفوتون وجاء جماعة منهم، وفيهم 400 ضابط إلى نظارة المالية وأمسكوا بنوبار باشا والمستر ولسن وطلبوا إليهما دفع ما تأخر لهم من رواتبهم، وخاطبوهم بعنف وشدة حتى علت الضوضاء، وكادت تئول إلى ثورة لولا أن أقبل إسماعيل باشا وخاطب الجند ووعدهم وأمر بانصرافهم. أما هم فحالما رأوه ذعروا، وكأنه جاءهم برقية أو سحر فانكفئوا راجعين، والمظنون أن ذلك حصل بالتواطؤ من قبل.
نوبار باشا.
ثم استقال الوزيران نوبار ورياض تخلصا من عبء التبعة لما آنسوه في أعمال الخديوي من الخطر، فشكل مجلسا آخر برئاسة ابنه توفيق باشا على أن ذلك لم يقلل من القلاقل؛ لأن الداء لم يكن في المجلس ولكنه كان في مقاصد إسماعيل؛ لأنه استعظم أغلال يديه بمجلس فيه ناظران فقلب هيئة ذلك المجلس في 7 أبريل عام 1879، وأخرج الناظرين الأجنبيين وعهد برئاسة المجلس إلى المرحوم شريف باشا، فعظم ذلك على دولتي إنكلترا وفرنسا؛ لأنهما اعتبرتا تلك المعاملة إهانة لهما، فعمدتا إلى الانتقام فسعتا في ذلك لدى الباب العالي سرا وجهرا وفي 25 يونيو سنة 1879 صدر الأمر الشاهاني بإقالته، وتولية المغفور له توفيق باشا، وفي 30 منه، وقيل: في 29 سافر إسماعيل باشا من القاهرة إلى الإسكندرية، ومنها إلى أوربا وما زال بعد سفره مقيما في أوربا حتى أفضت به الحال إلى الإقامة في الأستانة العلية، فأقام فيها إلى أن توفاه الله في 6 مارس عام 1895م، وله من العمر 65 عاما فحملت جثته إلى مصر، ودفنت فيها باحتفال لم يسبق له مثيل.
أعماله وآثاره
قلنا: إن إسماعيل باشا كان شغفا بتنظيم المدن حتى قيل: إنه يريد أن يجعل القاهرة تضاهي باريس في النظام والترتيب، فنظم طرقها ووسعها وأكثر من فتح الشوارع الجديدة، وبناء الأبنية الفاخرة كالأوبرا الخديوية والقصور الباذخة في القاهرة والإسكندرية، وأعظم تلك الأبنية سراي الجيزة وهي مما تقصر عنه همم الملوك حتى ضربت بها الأمثال، وأنشأ المتحف المصري في بولاق والمكتبة الخديوية بالقاهرة وهما من أجل الآثار وأنفعها، وأما المتحف فقد أنشأه بأمره ماريت باشا وقبره فيه وكان المتحف أولا في بولاق، ثم نقل على عهد الخديوي توفيق إلى سراي الجيزة، وهو اليوم في بناية فخمة شيدت له خاصة بجوار قصر النيل. أما المكتبة فقد كانت أولا في درب الجماميز، ثم أقيم لها بناء خاص في ميدان باب الخلق نقلوها إليه، والمكتبة نفيسة تفتخر بها مصر على سائر الأمصار الشرقية؛ لما حوته من الآثار العلمية وبينها جانب كبير من الكتب الخطية التي يعز وجودها.
ومن أعماله أنه جر الماء بالأنابيب إلى بيوت العاصمة، وكان الناس يستقون قبلا بالقرب والصهاريج، وعمم زرع الأشجار في المدن وضواحيها، وأنار القاهرة بالغاز، وتدارك ما ينجم عن الحريق فاستجلب آلات الإطفاء.
وهو الذي نظم معظم فروع الإدارة على ما هي عليه الآن فقسم القطر المصري إلى 14 مديرية، وعين لها المراكز، وأسس مجلس النواب ونظمه ونظم مجلس القضاء الأهلي والقضاء الشرعي، وجعل لكل روابط وحدودا، ووضع نظام المجالس الحسبية، وأنشأ مجلس حسبي القاهرة. وعلى عهده أنشئت المجالس المختلطة بمساعي نوبار باشا، وقد أراد بها تقليل نفوذ القناصل وحصر النفوذ الأجنبي، ولكنها كانت سببا لزيادة النفوذ واتساع دائرة المداخلة. وكانت مصلحة البريد قبلا شركات أجنبية، فأنشأ مصلحة البوسطة المصرية، وجعلها من المصالح الأميرية كما هي الآن وحسن مطبعة بولاق وزاد فيها، وأمر بترجمة الكتب المفيدة وطبعها ونشرها، وأسس معملا للورق ونشط المطبوعات فلم يكن في القاهرة قبله إلا جريدة الوقائع المصرية، ولم تكن تصدر على نظام فجعل لها إدارة خاصة بها. وتكاثرت على عهده المطابع والجرائد العربية كجريدة التجارة ومصر والوطن والأهرام والكوكب الإسكندري وغيرها، وبالجملة فقد كان للعلم في أيامه نهضة مرجع الفضل فيها إليه؛ لأنه كان يقرب العلماء ويجيز المجيدين منهم، ويأخذ بناصرهم ماديا وأدبيا، وكان يشهد الاحتفال بامتحان التلامذة بنفسه، ويسلم الجوائز لمستحقيها بيده وقد يقف عند تقديمها تنشيطا لهم.
ولم يكن في القطر المصري يوم توليه إلا خط حديدي ممتد بين القاهرة والإسكندرية، فأنشأ كثيرا من الخطوط الأخرى الممتدة إلى سائر أنحاء القطر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، ومد أسلاك التلغراف حتى وصلها إلى السودان، وقد بلغت نفقات الخطوط الحديدية والآلات التجارية والعربات والآلات التلغرافية، التي أحدثها بين عام 1281ه و1290ه 9658327 جنيها على تقدير المرحوم صالح مجدي بك.
ومن آثاره مدينة الإسماعيلية بناها على قنال السويس وسماها باسمه، وجعل فيها الحدائق والقصور. وأنشأ المنارات في البحرين الأبيض والأحمر وزين حديقة الأزبكية بغرس أشجارها، وتسويرها وغيرها من الأعمال الهامة.
ومما تم على يده من الأعمال العظيمة إبطال تجارة الرقيق، وإتمام فتح السودان وإخضاعها فافتتح مملكة دارفور عام 1291ه، وما بعدها حتى بلغت جنوده الدرجة الرابعة من العرض الجنوبي وراء خط الاستواء. وعني بتحسين أحوال السودان فمهد شلال عبكة، وفتح سدا كبيرا جنوبي مديرية فشودة طوله ستون ميلا كان يعيق مسير السفن في النيل الأبيض، فتسهلت طرق التجارة كثيرا. ومن مآثره تسهيل اكتشاف ما غمض من قارة أفريقيا بمد أصحاب الخبرة.
وخلاصة القول: إن مصر كانت في أيامه زاهية زاهرة والناس في رغد ورخاء، وخصوصا بعد ارتفاع أثمان الأقطان أثناء حرب أميركا، فإن ثمن القنطار الواحد بلغ 16 جنيها، فكان سكان هذا القطر السعيد، وفيهم الكاتب والشاعر والتاجر والصانع يتحدثون بمآثره وأنعامه وتنشيطه.
صفاته
كان إسماعيل باشا ربعة ممتلئ الجسم قوي البنية عريض الجبهة كث اللحية مع ميل إلى الشقرة، أما عيناه فكانتا تتقدان حدة وذكاء مع ميل قليل نحو الحول أو أن إحداهما أكبر من الأخرى قليلا.
وكان جريئا مقداما ذا قوة غريبة على إقامة المشروعات، كثير العمل لا يعرف التعب ولا الملل ولا مستحيل عنده. وكان ساهرا على مجريات حكومته لا تفوته فائتة، وأما أعمال الدائرة السنية فقد كان يطلع على جزئيات أعمالها وكلياتها، فلا يباع قنطار من القطن إلا بمصادقته.
وكان عظيم الهيبة جليل المقام لا يستطيع مخاطبه إلا الانقياد إلى رأيه، حتى قيل على سبيل المبالغة: إن الذين يخاطبونه يندفعون إلى طاعته بالاستهواء أو النوم المغنطيسي.
وكان حسن الفراسة قل أن ينظر في أمر إلا استطلع كنهه، فإذا نظر إلى رجل عرف نواياه أو تنبأ بمستقبل أمره. ومما يتناقلونه عنه أنه أدرك مستقبل أحمد عرابي وهو لا يزال ضابطا صغيرا، فأوصى المغفور له الخديوي توفيق باشا أن لا يرقيه؛ لئلا يتمكن من بث نواياه الثورية فتقود إلى ما لا تحمد عقباه.
وكان يتكلم الفرنسوية جيدا وهي اللغة التي يخاطب بها الأجانب، ويحسن العربية والتركية والفارسية ويحب الفخر والبذخ.
أما وصيته فإنه كان قد أضاف 4700 أو 4800 من أطيانه في أيام ولايته إلى الأطيان الموقوفة على أهل قوالة وقدرها 10 آلاف فدان في كفر الشيخ، وجعل لنفسه الشروط العشرة في هذا الوقف بما فيها من حق التغيير والإبدال. ثم آلت نظارة هذا الوقف إليه ففصل 4700 فدان التي أضافها إليه عملا بحقه، ووقفها على حاشيته كلها، ولم يستثن منها أحدا حتى من كان فرنسيا كسكرتيره أو إنكليزيا كطبيبه، أو غيرهما من الأتباع والجواري اللواتي يبلغ عددهن 450 جارية، عدا 400 بيضاء كان قد زوجهن بأعيان مصر قبل مفارقته هذه البلاد.
وقد أقام صديقه الحميم راتب باشا وكيلا لحرمه، وأوصى أن يعطى 150 جنيها شهريا، وأن تعطى حرمه 50 جنيها شهريا، وأن يضاف راتبها إلى راتبه إذا توفيت في حياته. ويؤخذ راتبهما كليهما من تفتيش إيتاي البارود. وتئول نظارة وقف قواله بعده إلى حضرة صاحبة العصمة الأميرة زبيدة هانم بنت محمد علي باشا الصغير بن محمد علي باشا الكبير، وتئول نظارة وقف القصر العالي إلى الأمير عثمان باشا فاضل؛ ولهذا الوقف بيوت ونحو 1200 فدان من الأطيان، ويبلغ دخله نحو 5 آلاف جنيه سنويا.
وقد ترك سراي الزعفران لحرمه الثلاث، وكذلك كل منقولاته وقيمتها غير معلومة.
ترجمة ساكن الجنان محمد توفيق باشا
هو أكبر أنجال المرحوم إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، ولد سنة 1852 وأدخله والده مدرسة المنيل وسنه تسع سنوات، فدرس فيها اللغة والجغرافية والتاريخ والطبيعيات والرياضيات واللغات العربية والتركية والفرنساوية والإنكليزية، وكان ميالا للعلم من صغر سنه، فأحرز منه جانبا أهله لرئاسة المجلس الخصوصي في حياة والده، وسنه 19 سنة، ثم تقلد نظارة الداخلية ونظارة الأشغال ورئاسة مجلس النظار.
محمد توفيق باشا (ولد سنة 1852 وتوفي سنة 1892).
ولما بلغ الحادية والعشرين من عمره تزوج بكريمة المرحوم إلهامي باشا، وهي مشهورة بالجمال والتعقل والكمال. وفي السنة التالية «1874» ولد ولده البكر فسماه عباس حلمي، ثم ولد الأمير محمد علي سنة 1877 والأميرة خديجة هانم سنة 1877 والأميرة نعمت هانم سنة 1881.
وما زال يتقلد المناصب في عهد المرحوم أبيه حتى قضت الأحوال بإقالته كما تقدم في ترجمته، فاستلم رحمه الله أزمة الأحكام في 26 مايو 1879، وجاء الفرمان الشاهاني المؤذن بذلك. وكان مشهورا بحبه للوطن المصري، وقد شعر باحتياجه إلى الحرية والرفق بالرعية، فخفف الضرائب ونظر في تأمين أصحاب الديون، وفي أيامه تشكلت لجنة التصفية، وأنشأت قانونها فصادق هو عليه ثم طاف القطر المصري لتفقد الرعية واستطلاع أحوالهم، فدرس في أثناء تلك الرحلة ما يحتاج إليه القطر من الإصلاح، ولما عاد عمد على إصلاح حال الفلاح من ناحية ما عليه من الضرائب، فأمر بتقسيط الأموال والعشور على أشهر معلومة، وأن تقتضى من الكبير والصغير على السواء، مع اتخاذ الرفق في تحصيلها، ومن تأخر عن السداد تباع أرضه. فانتظمت الأحوال أحسن انتظام.
ثم وجه عنايته إلى إصلاح شؤون المعارف فأمر بإنشاء المدارس العالية والابتدائية، ووسع دوائر المدارس التي أنشأها آباؤه، ونظم شؤونها وجعل للبلاد نظامات شورية، وشكل مجالس المديريات ومجلس شورى القوانين والجمعية العمومية.
وفي أيامه أنشئت المحاكم الأهلية وتحسنت حال الري بإنشاء الترع وبناء القناطر الخيرية ورفع العونة والسخرة، وأنشأ لائحة المستخدمين الملكية والعسكرية ومعاشاتهم.
وكان مع سهره على مصالح رعاياه تقيا ورعا بنى المساجد ونظر في الأوقاف الخيرية، وأصلح فيها وكان شفوقا على رعاياه كثير الرفق بهم، فأكثر من تنشيط أهل العمل بالرتب والنياشين، وكانت الرتب على عهد أبيه تستلزم زيادة الرواتب، فلما كثرت في أيامه جعلها لا تستلزم الرواتب، بل هي علامة شرف من أمير البلاد.
وكأنه بالغ في إكرام الناس وزاد في إطلاق الحرية قبل استعداد البلاد لها، فانقلب النفع المنتظر منها إلى ضرر، فحدثت الثورة الوطنية المعروفة بالثورة العرابية مما سنأتي على ذكره بعد.
المرحوم رياض باشا رئيس مجلس النظار.
وعندما كانت الإصلاحات التي ذكرناها سائرة في طريق تقدم البلاد، كانت روح الأشياء تتمشى في الجيش يوما بعد يوم؛ ذلك لأن معظم الترقي بين الضباط كان قاصرا على الأتراك والشراكسة، وقلما وجد وطني متقلدا إحدى الرتب والألقاب السامية، وكان الضباط المصريون يتوقعون أن ينال الجيش شيئا من الإصلاح العام، الذي دخل البلاد فلم يحظوا بأمنيتهم، فحقدوا على الحكومة وازداد سخطهم، حينما أصدر «عثمان رفقي باشا» الشركسي ناظر الحربية قانون القرعة القاضي بمنع الترقي من تحت السلاح، إذ جعلت فيه مدة الخدمة العسكرية في الجيش العامل أربع سنوات فقط، يذهب الجندي بعدها إلى بلده «رديفا» خمس سنوات، واحتياطيا ست سنوات والمدة الأولى غير كافية للحصول على معلومات عسكرية تؤهل الجندي للرقي. عند ذلك تضجر بعض الضباط المصريين بزعامة علي فهمي وأحمد عرابي وعبد العال حلمي من أمراء الآلايات، وقرروا الاحتجاج على ذلك بإرسال معروض إلى رياض باشا رئيس النظار يطلبون فيها:
أولا:
عزل «رفقي باشا» من وزارة الحربية.
ثانيا:
إجراء تحقيق في كفاءة من فازوا بالترقي حديثا بدون استحقاق.
أحمد عرابي باشا زعيم الثورة العرابية.
وكان المعروض شديد اللهجة، فأدى إلى سلوك الحكومة مسلكا جعل هذه الحادثة فاتحة «للثورة العرابية».
ولم يكن أحمد عرابي المحرك الأول لهذه الثورة، وإنما كان المحرك لها «علي فهمي بك»؛ لأنه أمير الألاي المعهود إليه حراسة القصر الخديوي، وكان قد أوقع به رفقي باشا عند الخديوي لأمر في نفسه، فحقد عليه علي فهمي وعمل على النكاية به، أما إطلاق لفظ «العرابية» على هذه الحوادث؛ فلأن أحمد عرابي هو الذي بعد انضمامه إلى أصحاب الحركة الأولين، ظهر عليهم حتى صار هو المحرك لكل شيء فيما بعد، والسبب في ظهوره على غيره أنه كان قبل الانضمام إلى الجيش يطلب العلم بالأزهر الشريف، فكانت له مقدرة متوسطة في الخطابة لم تكن عند غيره من الضباط، فضلا عن انتمائه للبيت النبوي الشريف يرشحه لأكبر زعامة إسلامية، فأصبح بكل هذا صاحب المقام الأكبر في الثورة، واعتقد الناس في إخلاصه؛ لأنهم لم يروا له غرضا خاصا مما كان في غيره من أصحاب هذه الحركة.
أما المعروض الآنف الذكر فقدمه إلى رياض باشا أحمد عرابي وعلي فهمي بأنفسهما في 13 صفر سنة 1298ه الموافق 15 يناير سنة 1881م، فألح عليهما أن يسترجعاه، وهو في نظير ذلك يبذل غاية وسعه في تلبية مطالبهما، فلما لم يذعن الضابطان وسمع الخديوي بالأمر استشاط غضبا وأمر بتأديب هؤلاء العصاة، وقمع روح الفتنة من الجيش. وفي يوم 28 صفر سنة 1298ه/30 يناير سنة 1881، عقد مجلس برئاسة الخديوي، وقرر القبض أولا على الضابطين المشار إليهما ومحاكمتهما أمام مجلس حربي، ثم النظر في مظالمهما.
وفي غرة ربيع الأول استدعي الضابطان إلى نظارة الحربية دون أن يخبرا بأن ذلك لمحاكمتهما. ولكن قرار مجلس النظار كان قد بلغهما سرا فاتفقا مع ضباط فرقهما ورجالهما على أن هؤلاء إن وجدوا أن رئيسيهما لم يعودا بعد ساعتين يذهبوا لإنقاذهما بالقوة. ولما بلغ الضابطان نظارة الحربية (قصر النيل) قبض عليهما، وأحيلا في الحال على مجلس عسكري لمحاكمتهما.
فبينما هذا المجلس مجتمع إذ هجم ضباط الآلايين ورجالهما، وأخرجوا رئيسيهما من حجرة اجتماع المجلس بعد أن عبثوا بأثاثها وأهانوا ناظر الحربية. ثم سار أحمد عرابي وعلي فهمي بجندهما إلى قصر عابدين وطلبا من الخديوي عزل ناظر الحربية.
وبعد أن نظر الخديوي في حرج الأمر لم ير بدا من إجابة طلبهما، فاستبدل عثمان رفقي باشا بمحمود باشا سامي، ففرح الثوار وطلب فهمي بك وعرابي بك العفو من الخديوي، بعد أن أعربا له عن رغبتهما في الولاء لسموه فصفح عنهما.
وبعد أن عزل الخديوي ناظر الحربية أمر بتشكيل لجنة للنظر في مظالم رجال الجيش، ورفع رواتب الضباط والجند المصريين، وأعلن أنهم سيكونون في مستوى واحد مع غيرهم من الأتراك والشراكسة. وبالاختصار هدأت الأحوال قليلا وكان يظن أن الخطب انتهى عند هذا الحد.
على أن رجال الجيش لم يهدأ روعهم وعاشوا في خوف من الخديوي، خشية أن يعاقبهم على ثوراتهم، وكانوا يرون كل يوم من الشبهات ما زاد اضطرابهم، خصوصا أن ناظر الحربية الجديد (محمود سامي باشا) عزل ونصب مكانه «داود باشا ابن أخي الخديوي».
وفي مساء 13 شوال/8 سبتمبر ذهب إلى بيت عرابي رجل غير معروف، فلم يسمح له بالدخول فراب عرابي أمره وذهب في الحال؛ ليقص ذلك على زملائه من الضباط، وإذا بهم قد حدث لهم هذا الأمر بعينه فأيقنوا أن هناك مكيدة مدبرة لاغتيالهم.
مظاهرة عابدين
وازداد اعتقادهم يقينا عندما أصبحوا فرأوا أن الأوامر صدرت «للآلاي الثالث» من المشاة بالسفر إلى الإسكندرية. فهاجوا وماجوا وسار عرابي بقسم من الجيش يبلغ 2500 جندي معهم 18 مدفعا إلى ميدان عابدين، واصطفوا أمام قصر الخديوي في 15 شوال/9 سبتمبر يريدون مطالب جديدة - فهال الخديوي الأمر، وطلب (السير أوكلند كلفن) المراقب الإنجليزي «وكان هذا قد نصب مكان السير بارنج، الذي نقل إلى منصب آخر في الهند، ودعي بعد ذلك باللورد كرومر»؛ ليستشيره فيما يجب عمله فحضر وسار مع الخديوي إلى قصر عابدين ونصح له بالظهور بالثبات، وأن لا ينسى أنه مليك البلاد وأن له هيبة تصغر أمامها كل شجاعة لعرابي ورجاله.
فنزل الخديوي إلى الميدان فتقدم إليه عرابي ليعرض مطالبه وكان ممتطيا جواده وبيده حسامه، فناداه الخديوي أن «ترجل واغمد سيفك»، ففعل ذلك بالامتثال الواجب للملوك. ثم سأله الخديوي عما يقصد من عمله هذا «فقال: يا مولاي للأمة ثلاثة مطالب قد أتى الجيش إلى هنا للحصول عليها بالنيابة عن الأمة ولن ينصرف حتى يحظى بها.»
عند ذلك أشار «السير أوكلند كلفن» على الخديوي أن لا يناقش الجند في هذه الأمور حفظا لكرامته، وأن يدخل القصر ويترك له المفاوضة معهم فيما يريدون، فخاطب السير أولكند كلفن الجيش وشرح لهم حرج الحالة، ونصح لهم بالانصراف قبل أن يتفاقم الخطب، فتمسك الثائرون بمطالبهم وهي: (1)
عزل جميع النظار وتشكيل نظارة جديدة. (2)
تشكيل مجلس نيابي للأمة. (3)
زيادة عدد الجيش إلى 18000 ألف.
وبعد المداولة رضي الخديوي بعزل النظار مع إرجاء الفصل في المطلبين الآخرين إلى أن يأخذ رأي الباب العالي.
فقبل عرابي ذلك وانصرف الجيش داعيا للخديوي بطول البقاء، وطلب عرابي من الخديوي أن يصفح عنه فكان له ذلك.
غير أن عرابي داخل نفسه الغرور فبالغ في ادعاء ما ليس من حقه، فأصدر في 9 سبتمبر منشورا لقناصل الدول يطمئنهم فيه على رعايا دولهم، ويخبرهم أنه المؤاخذ على حفظ النظام، وهو حق غريب استباحه لنفسه، وكان الأجدر تركه لأمير البلاد أو لأحد وزرائه. فشكلت النظارة الجديدة برئاسة شريف باشا بعد أن أخذ تعهدا من رؤساء الحزب العسكري بالامتثال لأوامره، فتهدئة للأفكار أرسل عرابي مع «ألايه» إلى رأس الوادي، وعبد العال مع ألايه إلى دمياط، فامتثلا، وأثناء غيابهما عن القاهرة حضر وفد من قبل الباب العالي للنظر فيما سمعته الدولة من المشاكل الجارية في مصر، فوجد ظاهر الأمور هادئا فأعلم الدولة بذلك. وبعد سفر الوفد أصدر الخديوي أمرا في 26 محرم سنة 1299ه/18 ديسمبر سنة 1881م بتنصيب محمد سلطان باشا رئيسا لمجلس شورى النواب.
فاجتمع الأعضاء وشكلت منهم لجنة لمراجعة قانون المجلس. فأقرت اللجنة أكثر المواد إلا ما تعلق منها بميزانية الحكومة. إذ رأت اللجنة أن للمجلس الحق في مراجعتها مع أن شريف باشا قد تذرع بالقانون إلى عدم جواز ذلك للمجلس؛ عملا برغبة المراقبين والدول الأوربية خوفا من تطرق الاضطراب ثانية إلى الشؤون المالية.
وكانت عرى الاتفاق بين الأعيان ورجال الجيش قد وثقت، فعين الخديوي عرابي وكيلا لنظارة الحربية سنة 1299ه/يناير سنة 1882، وأنعم عليه برتبة باشا إرضاء لذلك الحزب، فتمسكت اللجنة برأيها ولم ير شريف باشا وسيلة لإجابة طلبها لعلمه أن الدول لا تسمح بذلك.
وكانت الحكومة الفرنساوية منذ مظاهرة 9 سبتمبر سنة 1881م، ترى وجوب بسط إنجلترا وفرنسا شيئا من الإشراف على الديار المصرية.
محمد سلطان باشا رئيس مجلس شورى النواب المصري.
فأرسلتا مذكرتين إلى شريف باشا عن يد معتمديهما في مساعدة الخديوي، ومساعدة حكومته للتغلب على المصاعب المتنوعة، التي تزيد الارتباك والقلق في القطر المصري، فراب الأمر أعضاء مجلس الشورى وتمسكوا برأيهم في أمر الميزانية. ولما رأوا أن شريف باشا يعارضهم طلبوا إلى الخديوي إقالته فاستقال، ثم شكل الخديوي وزارة جديدة في 26 ربيع الأول سنة 1295ه/فبراير سنة 1882 برئاسة «محمود باشا سامي البارودي»، طبقا لرغبة أعضاء المجلس، وجعل أيضا عرابي باشا ناظرا للحربية فيها. على أن إذعان الخديوي لرغبة الأعيان بهذه الصفة كان يقصد به حلا عاجلا للمشكلة، ريثما يتم الاتفاق على من يوكل إليه قمع هؤلاء الثوار بالقوة، وبمجرد تشكيل الوزارة الجديدة أخذ نفوذ الحزب العسكري في الازدياد يوما بعد يوم؛ لأن رئيسها من المنتمين للحزب العسكري وتعيين عرابي ناظرا للحربية وهو أكبر عامل في الثورة.
وفي يوم 20 فبراير كتب السير إدوارد ملت المعتمد البريطاني بمصر إلى حكومته، يخبرها بأن المراقبة الثنائية أصبحت اسمية فقط، ثم زادت الوزارة الجديدة عدد الجيش ورفعت رواتب رجاله بلا اكتراث بما يصيب الميزانية. فجر كل ذلك إلى اشتداد الخلاف بين الخديوي ونظاره، وتفاقم الخطب حتى كان يظن أن العرابيين يرمون إلى عزل الخديوي، وتنصيب محمود باشا سامي مكانه، كل هذه الأعمال حركت همة الدول الأوربية من جديد.
المرحوم محمود باشا سامي البارودي «رئيس مجلس النظار»
ورأت الحكومة الإنجليزية أن يطلب إلى الباب العالي أن يصدر أمرا إلى مصر يعضد به الخديوي، ويستدعي زعماء الثورة إلى الأستانة للإجابة عن عملهم . فوافقت على ذلك الحكومة الفرنساوية بعد تردد وفي 8 رجب/26 مايو قدم معتمدا إنجلترا وفرنسا مذكرة إلى رئيس مجلس النظار طلبا فيها استقالته من الوزارة، وإبعاد عرابي باشا عن القطر المصري مؤقتا مع حفظ راتبه وألقابه. وأن يقيم عبد العال باشا وعلي فهمي باشا في الأرياف. ولهما أيضا رواتبهما وأوسمتهما. فاستقالت الوزارة ولكن لم يسافر أحد ممن ذكروا في المذكرة.
أما الأسطول الإنجليزي والفرنسي فقد وصلا إلى مياه الإسكندرية حسب الاتفاق، وكان قائد السفن الإنجليزية «السير بوشمب سيمور»، فلما وصل وجد النفوذ كله في المدينة بيد الحزب العسكري، وأن الأحوال في هياج واضطراب، فأخبر دولته بذلك وكانت الوفود من الأعيان والعلماء وغيرهم، تذهب إلى الخديوي يرجونه إرجاع عرابي إلى منصبه فلم يقبل منهم.
المرحوم محمود باشا سامي البارودي رئيس مجلس النظار.
أما الباب العالي فإنه لما بلغه رجاء إنجلترا وفرنسا أراد أن يظهر بمظهر صاحب السيادة في البلاد، وقال: إنه سيرسل سفيرا من قبله لفحص المسألة، وأنه لا داعي لبقاء أساطيلها بالإسكندرية، فلم توافق الدولتان على ذلك ورأت أن مجرد بقائها بالمياه المصرية يكفي لإرهاب الثائرين وإلقاء الرعب في قلوبهم، ودعت إنجلترا وفرنسا الدول الأوربية إلى مؤتمر الأستانة؛ للنظر في المسألة المصرية، ودعي الباب العالي، فلم يرض بإرسال مندوب من قبله اعتقادا أن حل المسألة المصرية من شأنه هو لا من شأن مؤتمر يعقده غيره من الدول. ثم أسرع إلى إرسال المشير مصطفى درويش باشا مبعوثا من قبله إلى مصر؛ لتفقد أحوال العسكرية. ومن الغريب أن الباشا المذكور قال في تقريره إلى الحضرة السلطانية: أن العساكر محافظة على الطاعة، وطلب لضباط الجيش نحو 200 وسام منها الوسام المجيدي من الطبقة الأولى لعرابي نفسه.
ثم اشتد غلو الحزب العسكري وأخذ يجمع الجيوش ويعد العدة، فزاد خوف الأوربيين المقيمين بالبلاد، حتى إن سكان الإسكندرية منهم تأهبوا للدفاع عن أرواحهم عند الحاجة، وبقيت الأحوال نزداد صعوبة واضطرابا حتى جاءت تلك الحادثة المشئومة الشهيرة بحادثة 11 يونيو أو «واقعة الأحد».
وأصل هذه الحادثة أنه في 24 رجب سنة 1299ه/11 يونيو 1882، تشاجر رجل مالطي مع مكاري مصري في الإسكندرية لامتناع المالطي عن إعطاء الأجر الكافي نظير ركوب حمار المكاري. وكان المالطي ثملا بالخمر. فطعن المكاري بمدية فانتصر لكل منهما قوم من أبناء جلدته، فتذمر بعض الرعاع من الوطنيين وأرادوا أن يثأروا من الأوربيين، ولا سيما أن حوادث الحركة العرابية كانت قد أوغرت صدور بعض الفريقين من بعض، وابتدأ الأوربيون يطلقون النيران من نوافذ بيوتهم على كل مار من الوطنيين. فازداد غضب المتجمهرين، وتضاعف الخطأ، ولم يوجد من يزجر الرعاع أو يشرح لهم ضرر فعلتهم مع تمادي الأوربيين المتحصنين في بيوتهم في إطلاق النار، حتى عظم القتال بين الفريقين ونهب كثير من مخازن المدينة. ثم صدرت الأوامر للجند بتفريق المتجمهرين ، فلم يأت الغروب إلا وقد هدأت الأحوال وسكن الاضطراب، وقبضت الحكومة على كثير ممن وقعت عليهم شبهة القيام بهذه الثورة.
وقد لاحظ قائد الأسطول الإنجليزي بمياه الإسكندرية أن عرابي باشا مهتم بزيادة تحصين قلاع الثغر ليضرب منها أسطوله. فطلب القائد الإنجليزي إبطال هذا التحصين فأخبره عرابي أنه ليس بالقلاع أدنى حركة تحصين جديدة، ولكن «سيمور» أبصر بعد ذلك أن الاستعداد في القلاع قائم على قدم وساق، فأعلن قناصل الدول بالإسكندرية بأنه إن لم تسلم له قلاع المدينة في ظرف 24 ساعة، اضطر إلى إطلاق نيران أسطوله عليها، وكان ذاك البلاغ في فجر 10 يوليو فلم يجبه عرابي إلى طلبه، فضربت العمارات الإنجليزية المدينة الساعة السابعة من صباح 22 شعبان/11 يوليو سنة 1882م، وعددها أربع عشرة سفينة بين مدرعة ومدفعية، فجاوبتها قلاع الإسكندرية بعد خمس عشرة طلقة، واستمر تبادل النيران بين الفريقين عشر ساعات انتهى بدك تلك القلاع الضعيفة دكا من غير أن يصيب السفن الإنجليزية أذى يذكر. وفي اليوم التالي تراجعت حامية المدينة إلى الداخل، وعند خروجها من الإسكندرية أمر أحد أمراء الآلايات المدعو سليمان داود بغير علم «عرابي» أن تحرق المدينة، فاشتعلت فيها النيران ونهبها الرعاع، وفي يوم 24 و25 شعبان أنزل الأسطول الإنجليزي بعض الجنود تحتل المدينة، فعاد إليها الأمن، وأخذ الأهلون يرجعون إليها بعد أيام قلائل.
ثم أخذت الجيوش الإنجليزية والهندية تفد إلى الإسكندرية لمحاربة عرابي بقيادة «جراند ولسلي»، وكان عرابي قد عسكر بجهة كفر الدوار على بعد بضعة أميال من الإسكندرية، فلما وجد الإنجليز أن موقعه هناك حصين رأوا أن يدخلوا البلاد من الشرق من جهة قنال السويس، وعلم بذلك عرابي فعزم على ردم القناة؛ كي لا تمر منها السفن الإنجليزية، ولكن المسيو ديلسبس حمله على الكف عن هدم هذا العمل الخطير، وقال: إنه يمنع بحق حياد القناة مرور أي سفن حربية منها. فخدع عرابي بأقواله، ولم يقدر ديلسبس طبعا على إنجاز وعده، ونزلت الجنود الإنجليزية من طريق القناة، فاستعد العرابيون للقائهم بجهة «التل الكبير» وكانت أهالي القطر تمد جيش عرابي بحاجاته طوعا أو كرها، حتى اجتمع له من الخيل والبغال شيء كثير. أما موقعة التل الكبير فكانت في السحر الساعة الرابعة من صباح 29 شعبان سنة 1299ه/13 ديسمبر سنة 1882م، وكان عدد الجيش الإنجليزي فيها 17400 مقاتل، وجيش عرابي نحو 27 ألف جندي، فلتدريب الجنود الإنجليزية وحسن نظامهم انهزم عرابي أمامهم شر هزيمة، ولم تدم الواقعة أكثر من عشرين دقيقة، وفر عرابي نفسه إلى القاهرة وأراد الوقوف للإنجليز في طريق القاهرة، فخذله الناس وانكسرت نفس مساعديه فسار الإنجليز إلى القاهرة فدخلوها بلا مقاومة، وتسلموا القلاع وباقي الثكنات العسكرية في 22 ذي القعدة سنة 1299ه/15 سبتمبر سنة 1882م، وبذلك ابتدأ احتلالهم للقطر المصري فأيدوا العرش الخديوي، وعادت الطمأنينة إلى الأهلين، وقبض على زعماء الثورة وحوكموا بعقوبات صارمة، ولكن أدركهم عفو خديوي كريم باستبدال عقوبة الإعدام بالنفي، فقابلت الأمة هذه المنة بالشكر العظيم.
هذا وقد ظل رحمه الله 13 عاما بين أسرته الكريمة أميرا محبوبا، وبين رعاياه مليكا مهيبا حتى أدركته منيته ظهر يوم الخميس 7 يناير سنة 1892م، فبكى عليه الرفيع والوضيع، وفي اليوم الثاني احتفل بتشييع جنازته من حلوان إلى مصر، ودفن بمدفن العائلة الكريمة، تغمده الله بالرحمة والرضوان.
ترجمة سمو عباس حلمي الثاني خديوي مصر السابق
ولد سنة 1874م وتولى عرش مصر في 18 يناير سنة 1892م وخلع في أغسطس سنة 1914.
ولد عباس حلمي باشا ابن المرحوم توفيق باشا بالقاهرة سنة 1874م، فتربى على بساط العز والسؤدد. ولما بلغ أشده أدخله المرحوم والده مع سمو شقيقه الأمير محمد علي مدرسة عابدين التي شادها. فتثقفا بالعلوم والمعارف وظهر عليهما النبوغ، فلما أتما دروسهما فيها أرسلهما والدهما إلى ڨينا، وانتظما في مدرستها الملوكية العليا. وفي أثناء إقامتهما في تلك المدرسة استأذنا والدهما بالتجول في أنحاء أوربا لاستطلاع أحوال تلك المدينة من مصادرها فزارا ألمانيا، وإنجلترا، وروسيا، وإيطاليا، وفرنسا، ولقيا من ملوك هذه الممالك ترحابا حسنا، وزارا الممالك الأخرى.
وفي سنة 1889م، عادا إلى مصر واستأذناه في زيارة معرض باريس لذلك العام فأجابهما إلى ذلك فلقيا هناك ترحابا جميلا، وعادا إلى المدرسة وفي سنة 1891م عادا إلى مصر في أثناء الراحة المدرسية، ثم رجعا إلى المدرسة في ڨينا.
وفي 8 يناير سنة 1892م، جاءهما النبأ البرقي بوفاة الخديوي الأسبق، فأصبح أكبرهما سمو عباس باشا حلمي خديويا على مصر من ذلك اليوم. ثم جاءته رسالة الصدر الأعظم بتثبيته على ذلك العرش فأسرع إلى مقر حكومته، فوصل الإسكندرية في 16 يناير المذكور، فاحتفل القطر المصري بقدومه احتفالا يليق بمقامه.
ويمتاز عصره في مصر بنهضة الأقلام واتساع نطاق الصحافة، وتكاثر المطابع والجرائد والمجلات والمكاتب وسائر عوامل النهضة العلمية.
وفي هذا العصر أيضا تم فتح السودان وانقضت دولة الدراويش بتعاضد الجيشين الإنجليزي والمصري، وذلك بفضل القائد العظيم المرحوم الارل كتشنر ومعالي إبراهيم فتحي باشا أحد وزراء مصر السابقين، وغيرهما من الضباط البريطانيين والمصريين، الذين توجوا تاريخ حياتهم بتاج الشهامة والإقدام.
وفي شتاء سنة 1901م، رحل سموه إلى السودان؛ لتفقد أحواله فاحتفلوا بوطء أقدامه هناك احتفالا عظيما. وكانت عرى الاتحاد بين سموه ودولة بريطانيا على أتم وفاق. غير أن بطانة سموه أثرت عليه بتغيير هذه السياسة واتخاذه طريقا آخر. وربما كان هذا بدء الضرر، فأخذ في انتقاد الجيش المصري السوداني فعد ذلك القائد «المرحوم كتشنر» إهانة له فخابر المعتمد البريطاني بالقاهرة بذلك، فأخذ الإجراءات الشديدة فقام الخديوي السابق بعمل الترضية اللازمة لجناب القائد وهي تعرف بحادثة الحدود.
وفي صيف سنة 1914 سافر سمو الخديوي السابق إلى أوربا فالأستانة للاصطياف حسب عادته. فاعتدى عليه مصري مفتون تعرض له في الأستانة يوم 24 يوليو من السنة عينها بأن أطلق عليه مسدسه وجرحه، ولكن الجرح لم يكن بالغا: وما كاد الجاني يرتكب فعلته الشنعاء، حتى أطلق الحرس العثماني النار عليه، وأمعنوا فيه ضربا وطعنا حتى أخمدوا أنفاسه تماما. وبقتل الجاني أمن شركاؤه ولم يعلم لهم أمر.
وظل سموه بالأستانة حتى أعلنت الحرب الأوربية المشهورة في أول أغسطس سنة 1914، فطلبت دولة بريطانيا من الخديوي السابق أن يبرح الأستانة إلى إيطاليا فلم يذعن لأوامرها. فبسطت حمايتها على مصر وأمرت بخلعه، وهذا ما كان من أمره. وقد تولى عرش مصر من بعده المغفور له السلطان حسين كامل الأول.
أمراء العائلة الملكية
(1) ترجمة الأمير عمر طوسون باشا
حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون.
ولد الأمير عمر بن طوسون بن سعيد بن محمد علي الكبير بمدينة الإسكندرية في 8 سبتمبر سنة 1872م، وفي السنة الرابعة من عمره توفي والده فكفلته جدته لأبيه خير كفالة، وعنيت بتربيته هو وإخوته وأخواته أجل عناية فنبت نباتا حسنا، وشب على الكمال خلقا وخلقا. ودرس مبادئ العلوم على أساتذة قصر والده إلى أن بلغ الحلم فنزح إلى سويسرا ودرس فيها دراسة مستفيضة. ولما تخرج تاقت نفسه إلى السياحة، فرحل إلى إنجلترا وفرنسا باحثا مدققا معتبرا بما هنالك من تقدم اجتماعي وعلمي وصناعي وزراعي، ثم قفل إلى الديار المصرية حاملا بين جنبيه همة علية ونفسا زكية وقلبا ألمعيا وأدبا عبقريا. وهو يجيد اللغات التركية والعربية والفرنسية والإنجليزية قراءة وكتابة، ويشارك في مختلف العلوم مشاركة تدل على سمو مداركه. وسعة معارفه وقد نال من الرتب والوسامات المصرية أسماها وأعلاها. واقترن بإحدى كريمات الأمير حسن باشا بن الخديوي إسماعيل، فرزقه الله منها النجباء والنجيبات من البنين والبنات، وسعادتهم بتثقيفه وتعليمه لهم تتفق مع سعادة طالعهم. وتبشر بأنهم سيطلعون نجوم سماء ويسطعون كواكب علاء.
وللأمير ولع بالفروسية وكل ما يؤدي إليها؛ فلذلك كانت دائما جميع أندية الرياضة في البلاد ملحوظة بجميل رعايته. كمضامير السباق في الديار المصرية فهو رئيسها منذ آن بعيد. ومن أكبر المنشطين لها. كما له ولع قديم بالصيد والقنص جعله من أمهر الرماة. واكتسب الأمير من وراء هذا الميل الغريزي فيه صحة ونشاطا ينطلقان بفوائد الرياضة بأفصح لسان.
رسم وتاريخ حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا أمير الإحسان والمحسنين.
ومنذ بلغ أشده جعل نصب عينيه أن يقبض يوما على زمام دائرته ويدير شؤونها بنفسه. فانكب على التمرن وكان من وقت لآخر يطوف بمزارعه الواسعة وينعم النظر في كتب الفلاحة، ويعنى بالوقوف على أسرارها وأصولها العملية. كما يعنى إذا رجع إلى ديوان دائرته بالشؤون الإدارية والمالية. ولما كملت أهليته تولى أمره بنفسه وقد أصبح الآن ممن يشار إليهم بالبنان في سعة الإطلاع على المعارف الزراعية والمعاملات المالية. وعهدت إلى إدارته بعد دائرتين من أكبر الدوائر وهما دائرة الأمير حسن باشا وزوجه الأميرة خديجة هانم، ودائرة الأمير محمد إبراهيم فتبرع بإدارة شؤونهما غيرة منه على مصالح المستحقين فيها من أبناء أسرته الكريمة، وأبي أن يأخذ على ذلك أجرا، وطالما كلفه الطواف على مزارع الدائرتين ورعاية مصالحهما مالا. فتأبى نفسه الكريمة إلا أن يكون على حسابه الخاص. فهو يضحي بالكثير من وقته وماله في سبيل منافع بعض أعضاء أسرته شأنه في محبة الخير، وإسداء النصيحة إلى القريب والبعيد. وقد بلغت الدوائر الثلاث بحسن إدارته أعلى مكانة. وغدا مركزها المالي ثابتا على أقوى الدعائم، ونهضت بها عزيمته نهضة جعلتها في مقام رفيع.
ومن وقف على حياة الأمير عجب أشد العجب من انكبابه على العمل دون سآمة أو ملل، فهو مع أعمال الدوائر العظيمة لا ينقطع عن القراءة والدرس في مكتبته الحافلة بالنفائس. وله غرام باقتناء كتب التاريخ والوقوف على آثار الأقدمين، ولا يخلو الكثير من أيامه من النظر في شأن هام، أو دعوة لاكتتاب، أو رئاسة جمعية كما لا يخلو شهر من سفره إلى ضياعه مرة أو أكثر. وقد يبقى في الأرياف أسبوعا لمشارفة الأعمال الجارية في أراضيه وأراضي الدائرتين الموكولتين إليه.
والأمير بعيد بفطرته السليمة وتربيته القديمة عما يغضب الله وهو يكره الخمر، ويكره شاربيها ويعاقب من يعلم أنه يشربها من موظفيه أشد العقاب. ويجل الإسلام وأوامره. وإيمانه بالله عظيم، واعتقاده فيه راسخ. يعجبه من الناس الصدق والإخلاص ويقربهم إليه أكثر مما يقربهم جاههم ومناصبهم. ومحبته للمصريين تعدل محبتهم له وهم في نظره سواء لا فرق بين مسلمهم ومسيحيهم. وكثير من موظفي دوائره من الأقباط وبينهم من بلغوا مراكز سامية. وتولوا المناصب العالية عنده، وفيهم سوريون وأجانب، وهو شرقي في ميوله، ويعتبر أن أكبر جزاء له من الأمة المصرية على التفاته السامي نحوها، وعنايته التي يظهرها في ظروف مختلفة لصالحها، هو ذلك الحب الخالص الذي يتجلى لسموه في غدوه ورواحه ، وعند كل فرصة تمكنها من إظهار ما تكنه لشخصه المحبوب. وفي أيام المظاهرات الوطنية الكبرى كان يقف الجمع المحتشد تحت شرفات دائرته هاتفا له داعيا. ولا ينصرف حتى يطل سموه عليهم ويحييهم. وكذلك حالهم معه في كل مشهد واحتفال.
بعض مآثر الأمير وميراثه
لا ينتظر القارئ أننا نحصي له مبرات الأمير وأعماله العظيمة في هذه العجالة وإنما سبيلنا في ذلك أن نلمع إلى بعضها إلماعا، ونذكر ما حضرنا منها؛ ليقاس عليه ما غاب عنا فكرمه الواسع لا تحضرنا عبارة تفي بالإفصاح عنه خصوصا إذا أهابت بجدواه دواعي البذل، ونزلت بالناس سنو الشدائد فهناك تتجلى أريحيته للعطاء، ويكون بأياديه الجسام أندى كفا من الغمام وأسخى راحة من السحاب الماطر، والبحر الزاخر، فالحرب الطرابلسية إنما كانت مادتها ماله، ولو لم يسعفها بمعونته وجاهه ومبرته لما أمكن أهلها الدفاع عن حوزتهم بضعة أشهر، وكذلك حرب البلقان التي شبت نارها على أثر حرب طرابلس فقد أقر فيها عين الدولة والملة، ورأس لجنة الإعانة في مصر فلبته الأمة والتفت حوله، وألف اللجان في المديريات والبلدان وكان يستندي الأكف بنفسه، ويخطب الخطب الرنانة في المشاهد الحافلة بالأمراء والأعيان، فيجري النضار بين يديه سيلا متدفقا وهو يبعث به إلى الدولة تباعا.
ولقد عرفت الدولة العثمانية مواقفه العظيمة لها في مواطن كثيرة خصوصا في هاتين النازلتين، وفي جمعية الهلال الأحمر، وأرادت أن تكافئه بالوسامات والرتب بل والولايات فأبى شاكرا، وقال: إني لم أفعل غير الواجب وليس على الواجب جزاء.
وغرضه الأقصى من أعماله هذه إحياء عاطفة التعاون والتعاضد بين الشرقيين، وإحكام روابط الألفة والاتحاد التي تقويهم لعلمه أنهم إذا لم يتمسكوا بهذه العروة الوثقى فقد ذهبت ريحهم.
والأيام تبين عن كثب صدق ما يرى وليس أصدق من عبر الدهر وحوادثه، وهذا هو مذهبه السياسي للشرقيين عامة، ورأيه أنهم لو عملوا بهذا المبدأ، مبدأ التضامن، ما تخطفتهم ذئاب الغرب، ولا التهمت بلدانهم واحدة تلو الأخرى، وطالما مد يد المساعدة للدولة في ظروف مختلفة فقد حدث حريق هائل في الأستانة وحدث مثله في الشام ومصر في وقت واحد، فأعمل همته وجمع للمصابين في البلدان الثلاثة مبالغ ذات بال نفست من خناقهم، وأزالت بعض كربتهم، ولم ننس تبرعه للأسطول العثماني والطيارين العثمانيين، واحتفاله بهم في مضمار الإبراهيمية من رمل الإسكندرية في يوم مشهود.
ومن مآثره الغراء عوله لجماعة البخاريين الذين سدت عليهم الحرب الأوربية الكبرى طريق الوصول إلى بلادهم، بعد أدائهم فريضة الحج، فقد كفاهم ببره معرة السؤال والتكفف أكثر مدة هذه الحرب المشئومة، وحاطهم بمعروفه في ستر وكفاية، حتى تمول منهم المعدم واشتغل العاطل وفتحت في وجوههم الطريق إلى غير ذلك من المكارم، التي تعفر في وجه حاتم وتنسينا ذكر الغيث الركام، وتعيد لنا ذكرى الأجواد في سالف الأيام. ولما تمخضت الحرب الكبرى عن انتصار الحلفاء، واقتطاعهم أكثر الولايات العثمانية، واحتلالهم عاصمة الخلافة وانحازت فلول الجيش التركي، وعلى رأسها مصطفى كمال باشا إلى داخل الأناضول، يدافعون عن البقية الباقية من بلادهم وهم خلو من المال والسلاح، أهاب هذا الأمير الكبير بالمصريين فلبوه مسرعين إلى معاضدة هؤلاء الأبطال ومساعدتهم بالمال، ونهجت الأمم الإسلامية وخصوصا الهنود هذا السبيل مقتفين أثره في هذا العمل الإنساني، الذي بيض وجه مصر وعطر الخافقين بذكرها.
وقد دامت هذه المعونة ثلاث سنوات متواليات، وهي تتدفق على الأناضوليين من غيث جوده سيلا منهمرا حتى فازوا على اليونان وأخرجوهم مدحورين من بلادهم، ثم استمرت وما زالت لإعالة أيتام الأناضول إلى أن توارى شبح الموت والجوع عن أعينهم.
ولكن بعد أن تم الفوز للكماليين ثملوا بخمر الانتصار، وقلبوا السلطة العثمانية جمهورية على رأسها مصطفي كمال، ثم تمادى بهم السير في هذا الطريق، فألفوا الخلافة وأخرجوا الخليفة عبد المجيد وسائر أسرة آل عثمان مشردين في الممالك الأجنبية، مجردين مما يقوم بأود معيشتهم فظهر بطل الإسلام مرة أخرى في ميدان العمل، وأثارت هذه الكوارث نخوته المعروفة فقام يدافع عن مقام الخلافة المقدس، ويذود يد الدهر عن هذه الأسر الكريمة، وألف جمعية لإمداد الخليفة عبد المجيد، وأمراء البيت العثماني وأميراته كان أول مدد لها أرسل إليهم أربعة آلاف جنيه.
أما أعماله لمصر والمصريين فهي أجل وأعظم فبابه مجمع العفاة، ومزدحم الواردين والصادرين عن ذلك المنهل العظيم، وسدته قبلة عرائض أولي الحوائج وكعبة آمال ذوي الخلة من الفقراء والمستورين، وهو يسعهم بفضله، ويعمهم بثيبه، وموظفو الدوائر من أياديه في بحر خضم، فهو الذي يواسيهم في مرضهم وفي موتاهم، ويعينهم في زواجهم وفي ولادة أولادهم وختان ذكورهم، وقد رتب لهم نطس الأطباء وتبرع لهم بما يحتاجون إليه من الدواء، وهو الذي يمون بيوتهم بالغلال منذ بداية الحرب ومدارسه لأبناء الفلاحين في ضياعه العامرة، وأبناء الموظفين فيها تعلمهم بدون أجر مبادئ العلوم، وتصرف لهم أدوات الدراسة كلها بغير مقابل.
وذلك غير إقامته للمساجد فيها وتعليم موظفيه عامة على نفقاته علوم اللغة العربية في دروس يومية تعطى لهم عقب فراغهم من أعمالهم، وإعطائه الجوائز السنية للناجحين في امتحانها كل عام، وقد يرى في بعض هؤلاء نجابة فيعينه على تتميم دراسته، ومن أبناء الموظفين وغيرهم من بعث بهم إلى مدارس أوربا العالية على مصاريفه لامتيازهم بالنبوغ، ولا يزال بعضهم فيها إلى الآن.
وأعطياته لمعاهد العلوم، والجمعيات الخيرية، لا تدخل تحت حصر نذكر منها تلك الهبة الجليلة التي نفح بها جمعية العروة الوثقى، وجمعية المواساة على أثر رجوعه الأخير من أوربا، فقد وهبهما من أجود أطيانه ما جعل الألسنة تنطق بشكره عليه، وكم وهب هاتين الجمعيتين والملجأ العباسي هبات أخرى جزيلة سابقة ولاحقة في ظروف متعددة، وله في مشيخة العلماء بالإسكندرية كل مأثرة جميلة، فمنها عطاياه لترقية المتعلمين بها، وهباته لمكتبتها وأننا نثبت أبياتا من قصيدة لفضيلة الشيخ إبراهيم سليمان أحد شيوخهم تلاها بين يدي سموه على أثر عطية من تلك العطايا، وقد جاءه منهم وفد شكر تحت رئاسة شيخهم إذ ذاك وهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبو الفضل شيخ الجامع الأزهر الآن وهي.
أكلما ناب خطب قيل: (يا عمر)
كأنما (عمر) من جنده القدر
وكل خطب دجا يبدو له (عمر)
كأنه الشمس للآفاق والقمر
البدو يسأله والمدن تأمله
كأنما من ذويه البدو والحضر
لو كان في زمن القرآن إذ نزلت
آياته أنزلت في مدحه السور
فلا عدمنا هبات منه واكفة
لم يسقنا مثلها من كفه المطر
حنا على العلم واستسقت معاهدنا
منه فظل عليها الخير ينهمر
ومن شكر العروة الوثقى لسموه أنها سمت مدرستين من مدارسها إحداهما للبنات والأخرى للبنين باسمه الكريم، والدار التي فيها مدرسة البنين موهوبة لها من سموه، ومن أفضل أياديه المشكورة إيعازه لجمعية المؤاساة التي يرأسها سموه رئاسة شرف بتوزيع مقدار كبير من الدقيق على فقراء الإسكندرية، عندما اشتدت الضائقة بهم، وخلت الأسواق أو كادت من هذه المادة الضرورية للحياة.
وقد أخذ يعضد مشروع الكشافة الآن لعلمه بما فيه من الفوائد الجلية للبلاد، فلقب عن جدارة من جمعية الكشافة بالإسكندرية بلقب «الكشاف الأعظم»، بعد أن جعلها تحت رعايته العالية.
وإذا لم تقم في وجه هذا المشروع الجليل عقبات، فسيبلغ بجميل رعايته مبلغا عظيما، ويجني شبان مصر منه نفعا عميما.
أما أعماله العامة فلا تكاد تجد مشروعا نافعا ظهر تحت سماء مصر إلا وله فيه يد بيضاء، ومن ذلك تعضيده للمعارض الزراعية، واشتراكه في الاكتتابات لإحياء العلم، وتشجيع المشروعات الأهلية، وبلغ به هذا التعضيد أن تنازل واشترك مع الإسكندريين بخمسمائة سهم في جمعية المشروعات الأهلية، وكان غرضها تجاريا محضا ولما كان الكثير من أعماله العظيمة واقعا تحت أعيننا، وهو كل يوم يتجدد فلا حاجة بنا إلى عده، وإنما نذكر هنا إعانته «الوفد المصري» إلى مؤتمر فرساي بعشرة آلاف جنيه، وبهذه المناسبة نذكر أن سموه هو أول من ألقى في أذن رئيس الوفد «سعد زغلول باشا» هذه الفكرة، عندما وضعت الحرب أوزارها، وأول من أراد جمع المصريين عليها بدعوة صدرت منه فعلا في يوم معين، ونشرت في الجرائد ولكن الظروف حالت دون هذا الاجتماع.
ومما لا يفوتنا ذكره اكتتابه في لجنة الأمراء التي صرفت جل مالها في تخفيف الويلات، التي نتجت عن ضحايا المظاهرات، ولم يكتف حفظه الله بذلك بل دعا الإسكندرية إلى مثل هذا العمل ؛ ليكون خاصا بضحايا المظاهرات في الإسكندرية وحدها وكان لهم نعم القدوة الحسنة، وشأنه في انضمام الأمراء إلى بقية الأمة في نهضتها الوطنية الأخيرة والمطالبة بالاستقلال التام مشهور معلوم.
ومما نذكره لسموه مقرونا بالشكر والإعجاب دعوته في الصحف للمصريين عامة إلى مد يد المساعدة للجمعية الخيرية الإسلامية، وتقدمهم إلى الاكتتاب لها بمبلغ خمسة آلاف جنيه، بمجرد ما علم سموه بحاجة الجمعية إلى المال، واستصراخها لذوي البر والإحسان، فكان أول الملبين وإمام المحسنين.
وعلى أثر هذه الدعوة لفت نظره العالي بعضهم إلى الجمعية الخيرية القبطية، وأنها أيضا في حاجة إلى تعضيد سموه، فنفحها بألف جنيه ودعا الأقباط إلى الاكتتاب لها كما دعا المسلمين إلى الاكتتاب لجمعيتهم في نشرة مذيلة باسمه الكريم جاء في آخرها، ما نصه:
والغرض الأقصى لي من ذلك أن أشرف على مضمار للخير في مصر بين الأخوين الشقيقين «المسلم والقبطي» تتسابق فيه العزائم، وتتبارى الهمم، لأنظر إلى أية غاية يجري الأخوان المتباريان، وأيهما يحرز قصبات السبق في هذه الحلبة الخيرية، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
تلك سجية فيه عرفتها له مصر فهي ما هزت مواضع الأريحية من أنفس كرمائها إلا رأت ذلك الأمير المحبوب يرتجل الندى ارتجالا، ويرسل مكارمه أمثالا.
وكثيرا ما تقدمت أريحية سموه دعوة الداعين، فأحالت دعوتهم دعاء وثنتهم عن الطلب إلى الثناء.
فإنا لم نكد نسجل للأمير الجليل تلك النفحة التي شمل بها الجمعية الخيرية الإسلامية، حتى ارتجل مبرة أخرى فشمل الجمعية الخيرية القبطية بنفحة ترفع القواعد من بنائها، ولم نكد نفرغ من شكر هاتين المبرتين حتى بدهنا بثالثة لا ينقطع برها، ولا ينقضي شكرها: فإنه لم يكد تمثال «نهضة مصر» يتصل حديثه بسموه، حتى تفضل فتبرع بخمسمائة جنيه مصري من ثمن ذلك التمثال.
ومن مبراته الخالدة التي زادت أواصر الاتحاد متانة، ما تبرع به أخيرا لمدرستي البطركخانة والمشغل البطرسي على أثر زيارته غبطة الأنبا كيرلس بطريرك الأقباط الأرثوذكس، فمنح المدرستين سندات من الدين الموحد لتعطى أرباحها السنوية جوائز لأوائل الناجحين والناجحات منهما، وهكذا غرس يديه الكريمتين يبقى نفعه ما توالى الجديدان.
مكارم يتلو بعضها بعضا، ومبرات يسطع في العصر شذاها، إلا أن مصر التي تقدر كل عامل لها من أبنائها لتحمد للأمير أياديه البيضاء، وتذكر له أنه لم يدع فرصة سانحة للبر بها إلا انتهزها مشكورا، وأن حياته المباركة نجح لكل عمل عميم النفع. وبالجملة فالأمير الذي يزدان به صدر هذا الجزء من كتابنا بإجماع الأمة المصرية أكرم عظماء مصر يدا، وأعمهم ندا، وأرفعهم ذكرا وأجلهم قدرا، وهو بعد صاحب الأيادي العديدة، والأعمال المجيدة والشيم الحميدة، والآثار الخالدة، والسيرة الطاهرة والمناقب الفاخرة، سمو صفات، وجمال ذات، ورأي صائب، ونظر ثاقب وبعد عن الشهوات، وترفع عن الغايات وثبات عند الملمات. واجتهاد وجد، ويمن طائر وسعادة جد، وحياء وكمال، وعلاء وجلال، يشبه سميه سيد المسلمين عمر بن الخطاب في الصلابة في الحق، والثبات على العهد، والميل إلى الجد، ثابت على مبادئه ثبوت الجبال حتى ليس في مقدوره أن يقول ما لا يعتقد أو يعمل ما لا يريد أو يعد فيخلف، أو يحكم فيجحف، صبور وقور، ذو أناة وحلم، لا تنال الملمات من نفسه الكبيرة، ولا يظهر لها أثر عليه، وذلك من عجيب ما أودعه الله فيه من الخلائق فهو نسيج وحده، ووحيد هذا العصر في كرم الخلال، وشرف الفعال فما أجدره بقول القائل:
ولو صورت نفسك لم تزدها
على ما فيك من كرم الطباع
أما العلم والتأليف وهما مما تنبو عنه عادة طباع أهل النعمة والسراء فضلا عن الأمراء، فقد بلغ الأمير فيهما الشأو البعيد والغاية التي ليس بعدها غاية.
وما ظهر إلى الآن لهذا الأمير النابغة من آثار قلمه البليغ باللغتين العربية والفرنسية ودبجته براعته من المباحث الممتعة، وكلها من الطريق الذي لم يكن معروفا قبل يجعل له القدح المعلى في هذا المضمار.
وذلك مثل مقالاته التي نشرتها الصحف والمجلات العلمية عن الجيش المصري أيام محمد علي وعن المدارس، والصنائع، والإرساليات، في ذلك العهد. ومحاضراته القيمة التي ألقاها في المجمع العلمي المصري، وتلقتها أندية العلم في الشرق والغرب بمزيد الاهتمام، وكتابه النفيس عن أفرع النيل القديمة الذي ظهر منذ عهد قريب مطبوعا باللغة الفرنسية، وسيظهر عن قريب باللغة العربية، ورسائله التاريخية عن منارة الإسكندرية، وسد أبو قير، وترعة المحمودية، إلى غير ذلك مما شارك الأمير فيه أكابر العلماء المحققين وسلكه في سلك جهابذة المؤرخين المتميزين.
وقد تغنى الشعراء بمدحه وأكثروا من القول فيه مما لو جمع لكان ديوانا كبيرا، وإننا نختم هذه السيرة المتضوعة بقصيدة في الأمير لشيخ الشعراء إسماعيل صبري باشا، بعث بها إلى سموه أيام حرب البلقان والهلال الأحمر، وهي:
لك الإمارة والأقوام ما برحت
بكل عالي الذرى في الكون تأتمر
لو لم تنلها لما ألقت أعنتها
إلا إليك خلال كلها غرر
يا ابن الألي لو أطلوا من مضاجعهم
يوما عليك لقالوا: إيه يا (عمر)
أعدت أيامهم في مصر ثانية
حتى توهم قوم أنهم نشروا
وسرت سيرتهم حتى كأنهمو
إذا خطرت بأرض مرة خطروا
لله درك كم نبهت من همم
تثني على أهلها الآصال والبكر
وكم تعهدت جرحى من أسود وغى
إن يكشر الدهر عن أحداثه كشروا
مستنجدا من بني مصر أولي شمم
إذا رأوا ثلمة في خوضهم جبروا
مستهميا هاميا والنيل في وجل
من أن تجود به أيمانكم حذر
حتى تفاهمت الأرحام وادكرت
ما بينها الأهل والخلان والأسر
وآذن البر بالسقيا وما فتئت
منهم ومنك صنوف البر تنتظر
وحركت كل كف بالندى مقة
حتى تعجبت الأنهار والغدر
والناس إن قام يستسقي الكريم لهم
سحائب الفضل بشرهم فقد مطروا
أبى علاء سعيد أن يشابهه
إلا ابن دوحته إن قام يفتخر
ما زال يحمده رائيك مدكرا
والأصل بالفرع إن حاكاه يدكر
ومما اطلعنا عليه أخيرا في مدحه قصيدة لحضرة الأديب محمد محمد عبد الرازق أفندي وهي:
رويدا فما الجود إلا عمر
سليل العلا والمقام الأغر
ونسل الأماجد فيمن غبر
وعون اليتيم على يتمه
وذخر الفقير إذا ما ادخر
وملجأ من كان في بسطة
من العيش ثم هوى وافتقر
وحصنا تخذناه في الحادثات
ليدفع عنا الأذى والضرر
وتاجا نباهي به غيرنا
إذا ما تصدى لنا وافتخر
وبرهان صدق على أننا
جديرون بالملك بين البشر
وشمسا تطرز ثوب النهار
وإن أظلم الليل فهو القمر
وعزما إذا سل من غمده
على عاديات الزمان انتصر
وصوتا هو الحق يعلو فلا
يرى المبطلون لهم من مفر
إليك أزف بنات القريض
وأنظم فيك عقود الدرر •••
عذولي دعني - ولو كان يدري
عذولي ما بين قلبي عذر
فهل أنت أبصرت أسخى يدا
وهل أنت أبصرت منه أبر
وهل ولدت مصر أزكى فتى
تلبيه مصر إذا ما أمر
وإن غاب حيته عنا القلوب
وتحنى الرءوس إذا ما حضر
وهل خلق الله أشرف أصلا
وإن شرف الأصل طاب الثمر
فقل للفقير: أتاك الغنى
وقل لليتيم: أبوك نشر
وقل للذي مل من فقره:
هنيئا لك العيش زال الضجر
وقل للذي نال منه الزما
ن ففرط في عمره وانتحر:
أهلا انتظرت فنلت الغنى
ويغنى الفقير إذا ما انتظر
وداع أهاب بوادي الحمى
فأحيا لوادي الحمى ما اندثر
وما أوشك الجمر يخمد حتى
أتاح الوقود له فاستعر (بألف) ومن قبله (خمسة)
وفي الغد منه ندى مستمر
كذلك يا قوم جود الملوك
فلا يسمحون بغير البدر
ولا تعجبوا لسخاء الأم
ير فما يقذف البحر إلا الدرر
وقد يملك الجود عرش القلوب
وكم من فتى بالجميل أسر
وإن السؤال مرير المذا
ق ولكنما الفقر منه أمر
وكم من فقير إذا علمو
ه تحلت بمسعاه بيض السير
فيا من يكفكف دمع اليتي
م وفي عبرات اليتيم العبر
لجوزيت عن (مصر) خير الجزا
ء فما أنت إلا ندى منهمر
إذا قيل: للجود (حاتم) قلنا:
رويدا فما الجود إلا (عمر) (2) ترجمة ساكن الجنان طوسون باشا سعيد
هو طوسون بن سعيد بن محمد علي الكبير، ولد في يناير سنة 1854م، ولم يرزق والده المرحوم سعيد باشا من الذرية غيره، لا قبله ولا بعده؛ ولذا كان شغفه به عظيما، فرباه أحسن تربية، ونزل من عنايته في أكرم منزلة، ولما بلغ سن التعليم أسلمه إلى أبرع أساتذة عصره ، فتخرج على أيديهم ثم التحق بالمدرسة الخاصة التي أنشئت لأبناء الأسرة المحمدية العلوية وأبناء المقربين إليها من كبار الحكماء، وسراة الأمة، فنبغ بين أقرانه، وبعد أن استكمل حظه من العلم في مصر قصد أوربا متنقلا بين ربوعها مدة، ثم عاد إلى الديار المصرية مرجوا لكل عظيمة لما امتاز به من دماثة الأخلاق، وكرم الخلال مع الصلاح والتقوى والتمسك بالدين والبر بالمساكين.
وفي عهد الخديوي إسماعيل عين ناظرا للأوقاف فالمعارف فالبحرية، وكان محظيا لديه فاختاره زوجا لابنته الأميرة «فاطمة هانم».
ساكن الجنان طوسون باشا سعيد.
ولقد يحسن بنا هنا ذكر تلك القصيدة العصماء، التي نظمها كبير شعراء عصره السيد علي أبو النصر مضمنا إياها تاريخ الزفاف وهي:
تهنئة الأمير طوسون باشا بزفافه على كريمة الخديوي إسماعيل باشا
أحيا النفوس مسامري بخطابه
وأدار كأسا زانه بخضابه
وجلا علينا الراح صرفا ليتها
جليت لنا ممزوجة برضابه
رشأ له في كل جارحة هوى
تستعذب الأرواح مر عذابه
ومن استهام بحبه لغرامة
وشجونه قاضي الهوى أوصى به
يشكو لواعج وجده مستعطفا
قمرا يعز عليه كشف حجابه
لو كانت الدنيا بما فيها له
ما سره إلا لقا أحبابه
فإليك عنى عاذلي واعذر فكم
أضمرت لي ما احتلت في أعرابه
وانظر لهاتفة الحمام وألفها
مهما نأى حنت إلى استجلابه
وإذا دنا منها على عود شدت
بسؤاله ليريحها بجوابه
والروض يصبو للحيا ظمأ فإن
وافاه أرواه بوبل سحابه
والغصن يهواه النسيم فينثني
متمايلا بذهابه وإيابه
وأنا الولوع بمن أحب فكيف لا
يرضى أيخشى الأسد من حجابه
ويميل عني والوفا عاداته
ومحاسن الأخلاق في آدابه
ولم التواني والبشائر أقبلت
وأتى السرور الملك من أبوابه
وبدت بمصر بدائع الفرح الذي
كادت تطير قلوبنا برحابه
فرح بإسعاد الخديوي تزدهي
أنواره فيتيه في أعجابه
شرفت مباديه بتوفيق وقد
أهدى إلى «طسن» بديع عجابه
في محفل العقد ارتقى أوج العلا
بسعود طالعه وعز جنابه
غدا علينا فاز بالزهرا فما
أولاه بالبشرى لدى أحبابه
شهم أحبته المعالي فارتضا
ه مليكنا حرصا على أنسابه
واختار للأصهار نعمة قربه
ليكون مقصورا على أربابه
لا زالت الأيام خادمة له
والسعد والإقبال حول ركابه
ما دامت الدنيا ليعظم شأنها
بورود من فيها على أعتابه
حيث المعالي عنه قالت: أرخوا «طسن» اقتنى مجد العلا بكتابه
وازدادت الأفراح إشراقا بما
أولاه مولاه من استحبابه
وهو الأحق بما حباه وخصه
في مظهر صعب على طلابه
نعم التأهل بالمخدرة التي
زادته أحسابا على أحسابه
فروى الفخار لدى الزفاف مؤرخا «طسن» أتى الشرف البهي من بابه
سنة 1289ه
وقد أنجب من الذرية الأمير سعيدا، فالأمير عمر، فالأميرة أمينة، فالأمير جميلا، فالأميرة عصمت، والأخيران من ابنة إسماعيل.
ومما يروى عن الجلة من الأكابر الذين كانوا في عصره، أنه اطلع وهو في أوربا على كتاب عربي في إحدى مكتباتها في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اسمه نعم السمر في مناقب عمر - فأشرب من هذا الوقت حب الفاروق، وكان لهجا بذكره معجبا بمناقبه ولما رزقه الله بالذرية سمى ثاني أبنائه «عمر» راجيا أن يكون له نصيب من هذا الاسم المبارك، فحقق الله في صاحب السمو الأمير «عمر طوسون»، هذا الرجاء العظيم رحم الله المترجم رحمة واسعة وأطال حياة ولديه الباقيين الأميرين «عمر» و«جميل».
ولقد كان كريم الأخلاق لطيف المعاشرة محبا للخير يسعى جهده في تفريج هم المكروبين، وكان أكبر نصير للإنسانية بارا بالأدباء معضدا للعلم عاملا على إسعاد وطنه، لا يرد سائلا قصده إلا أن المنية عاجلته، فراح مبكيا عليه في يوليو سنة 1876م، وهو في شرخ الشباب، ومقتبل العمر، قصف الموت غصنه الرطيب، فحرمت البلاد والأمة من أمير عظيم كانت مخايل الخير فيه موجودة، وحزنت الأمة المصرية لفقده على بكرة أبيها، فما كنت ترى في ربوع البلاد في ذلك اليوم إلا مأتما عاما لا فرق بين القصر الرفيع والكوخ الوضيع، إذ إن الكل في الأسف على فقده سواء، ولقد رثاه الشعراء والكتاب، ونذكر من بين تلك المراثي مرثية ذلك الشاعر العبقري السيد علي أبي النصر شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية مضمنا إياه تاريخ وفاته حيث قال :
رثاء المرحوم طوسون باشا
أيرد سائل مرسل العبرات
صبرا وقد وصل الأسى للذات
لا والذي جعل الحمام محجة
فيها العبيد تقاس بالسادات
إني أرى دعوى التثبت قد خلت
ممن يحاولها عن الإثبات
حيث الحياة كما علمت عزيزة
وتشبث الآمال وصف ذاتي
لكنما الدنيا كظل زائل
والنفس واثقة بما هو آتي
كم أودعت أيدي المنون أعزة
تحت الثرى من بعد طيب حياة
حنت لطول بقائهم ولطالما
كانت تجود إليهم بهبات
ماتوا فأصبحت المآثر للندى
تشكو دوام تخلف العادات
سكنوا اللحود وغادروا ما شيدوا
أو ليس من ذا أعظم الآيات
وتحجبوا خلف الجنادل بعد ما
كانوا كتيجان على الهامات
فلنبكهم ما دام في أجفاننا
دمع أتبكي العين غير سراة
ولنحتسب مهجا جرت من مدمع
أسفا فمازجها دم الحدقات
يا صاح ولنبك المعالي بعدهم
إذ أصبحت في حيز الأموات
واعجب لدهر كلما استعطفته
أغرى علي حوادث الأوقات
واجتاز حد الاعتدا فعدمت من
سمع الأصم لفقده أناتي (طسن) الفريد بن (السعيد) أخو العلا
خدن الوقار أبو الكمال الذاتي
أخلاقه ما كان أشرفها فما
أحلى الشمائل في بديع صفات
من كان يؤثر بالجزيل نزيله
ويقيل من يهفو من العثرات
والآن أمسك عن جميل حديثه
أرأيت ما عانيت يوم وفاة
جرت الدموع دما وما أغنى البكا
وحشاشتي ذابت لصوت نعاة
حانت منيته فمن لأجله
قاسي القلوب وجد في اللهفات
والناس عزى بعضهم بعضا لما
نظروه من حي بغير حماة
أسفي على ذات يروق شبابها
أمست رهينة موحش الأبيات
يا أيها الليث المنيع حجابه
من أين جاءك هازم اللذات
كنت الشجاع وكان بطشك يتقى
وجنود عزمك هم بنو العلات
وأراك طوعا قد أجبت مسلما
لقضاء ربك لا لأمر عداة
ساروا بنعشك والمهابة حوله
للقبر تحمله كرام ذوات
يبكون فقد حلى شبابك بينهم
وخلو بدر سناك عن هالات
في مشهد أعيا مشاهده الأسى
وبدت عليه لواعج الحسرات
ولأنت عن هذا وذاك بمعزل
تسعى لتدرك أرفع الدرجات
فانعم بروضة قبرك الفيحا وطب
وأنس بما قدمت من حسنات
ولسوف تمنح ما يسر من الرضا
ما بين حور ثم مقصورات
بشراك في دار النعيم بمشتهى
ما تشتهي من يانع الثمرات
وبك الحدائق تزدهي أنوارها
وإليك يهدى عاطر النفحات
وبجنة المأوى تفوز بما تشا
من فضل ربك واسع الرحمات
ماذا أقول إذا رثيتك والتقى
أهدى ضريحك أبلغ الأبيات
وأشار للبشري وقال مؤرخا: «طسن» ثوى بمساكن الجنات
سنة 1293 119
516 173 485
ولشعراء عصره كثير من القصائد في مدحه ورثائه، ومن بينهم شاعر الوقت المرحوم الشيخ علي الليثي ولولا ضيق المجال لأثبتناها هنا.
رسم وتاريخ حضرة صاحب السمو الأمير الجليل محمد علي باشا بملابسه الرسمية.
حضرة صاحب السمو كلي الاحترام الأمير الجليل محمد علي باشا رئيس المحفل الأكبر الوطني المصري بزيه الماسوني. (3) ترجمة حضرة صاحب السمو الأمير الجليل محمد علي باشا الأفخم
مولده ونشأته
هو صاحب السمو الأمير الجليل محمد علي باشا، شقيق صاحب السمو عباس باشا حلمي الثاني خديوي مصر السابق، والنجل الثاني للمغفور له محمد توفيق باشا ابن المغفور له إسماعيل باشا ابن المغفور له إبراهيم باشا ابن المغفور له محمد علي باشا الكبير، مؤسس الأسرة المالكة ومنشئ مصر الحديثة.
ولد صاحب السمو الأمير في 11 شوال سنة 1292ه بمدينة القاهرة، ولما بلغ أشده دخل المدرسة العليا بعابدين «مدرسة الأنجال»، وتلقى بها مبادئ العلوم والمعارف مع شقيقه صاحب السمو عباس باشا حلمي الثاني الخديوي السابق، ثم برح مصر ميمما الغرب؛ لينهل من بحر علومه الفياضة فدخل كلية هكسوس بسويسرا، فتعلم فيها من العلوم ما شاء وشاءت له مقدرته الفائقة وذكاؤه النادر، ولقد كان موضع إعجاب العالم الغربي، فضرب للعالم المثل على ذكاء المصريين بما كان يبهر به العالم بين حين وآخر من آيات النبوغ وعلو الهمة وعزة النفس والشجاعة والإقدام، وقد نال أسمى الشهادات العالية، وقد كان في إبان دراسته يصرف إجازاته السنوية في الرحلات العلمية المفيدة، ولا يترك صغيرة ولا كبيرة مما يقع تحت حسه إلا ويحرر به المذكرات، ويقابل بينها وبين ما يراه بمصر ويستنتج الاستنتاجات التي تدل على مبلغ إصابة رأيه، وقد زار كل عواصم أوربا مع شقيقه الخديوي السابق، فكان يقابل أينما نزل بما يليق بمقامه الرفيع من الاحتفاء من ملوك أوربا، الذين أهدوا إليه من الأوسمة والنياشين العدد الكثير اعترافا بقدره وتقديرا لذكائه وأصالة رأيه وسمو مكانته.
وكان حفظه الله مع صغر سنه يجمع بين ذكاء الشباب وحكمة الشيوخ، وكان شديد الميل للأعمال الخيرية عظيم العطف على المعوزين، كبير الرغبة في الإقدام على تنفيذ كل ما يعود بالخير العميم على منفعة العباد والبلاد خاصة والشرق والإنسانية عامة.
ولقد تجلى عطفه الشديد وكرمه الفائق إبان الحرب الطرابلسية، وكذلك حرب البلقان فكان له في إعانة المنكوبين، وسد عوز المحتاجين اليد الطولي، التي بدلت بؤسهم وتعاستهم مسرة وهناء، مما لهجت بذكره الألسن، وكان سموه رئيسا لجمعية الهلال الأحمر التي أدت إلى الإنسانية أجل المساعدات، مما يدونه التاريخ لسموه بمداد الشكر والثناء وتنطق به آيات الفخر والإعجاب.
رحلاته
ليس في العالم طرا من يجهل ما لسمو الأمير الجليل من الأيادي البيضاء على العلم والتاريخ، وتعضيد المشروعات المفيدة والأعمال النافعة، التي تنهض بالمجتمع إلى ذروة الكمال، وترفع من شأن الأمة التي شرفها حظها بانتساب ذلك الأمير الجليل لها، فلكم تجشم من الصعاب والأخطار في الأسفار طلبا لرفعة شأنها بما يدونه من مشاهداته في أسفاره مما يفيدها ويعلي شأنها، ولقد قام بالسياحات العظيمة وحرر بها المذكرات التي تشهد بمقدرته العلمية التي أوقفها على خدمة بلاده فمن ذلك رحلاته في أوربا وأمريكا واستنتاجه أن الهنود الأمريكيين قد رجع جنسهم إلى جنس سكان آسيا، واستنتج أن سفرهم إلى أمريكا كان عن طريق كمتشكا، كما جاء في رحلته المباركة «صفحة 185 حيث قال حرسه الله»:
لما رأيت في منشوريا اليورجوت وقارنتهم بصور الهنود الأمريكيين، التي رأيتها في بطاقات البريد (الكارت بوستال)، التي اشتريتها في مكدن علمت وقتئذ أنه لا بد أن تكون هنود أمريكانيين هؤلاء اليورجوت ومن سكان شمال آسيا، وليس ببعيد أنهم هاجروا إلى هذه البلاد في الزمن القديم من طريق كامتشكا، وعلى ذلك الرأي يكون الآسيويون هم البادئون في اكتشاف أمريكا قبل كريستوف كولمب، ولكن لما كانت حالتهم وحشية ومعارفهم قاصرة، واختلاطهم بباقي العالم معدوما ولا توجد بينهم وبين الأوربيين مواصلات ولا مكاتبات، فإن اكتشافهم لم يعلم به أحد ومع ذلك لا يمكن تأييد هذا الرأي بإقامة برهان عليه من معلومات هؤلاء الهنود أنفسهم؛ لأنهم لا يعرفون أصل أنفسهم، ولا يدرون تاريخهم فإذا لا يمكن الإتيان ببراهين قاطعة على حجة هذا الرأي، إلا مثل هذا الاستنتاج الذي وصلت إليه أثناء زياراتي منشوريا ومقارنتي سكانها بهؤلاء «الهنود الأمريكيين»، فهذا مثل بسيط نزفه إلى القراء والتاريخ من الأمثلة الكثيرة التي يقدمها سمو الأمير الجليل لخدمة العلم.
صفاته وأخلاقه
إن صفاء وجدانات سمو الأمير الجليل وحلاوة أخلاقه وعذوبة حديثه وتواضعه، حتى يستأنس بحديثه محدثه لدلائل كافية على عظمته، وإنك لا ترى عظيم الذهن إلا وهو عظيم النفس عظيم الخلق عظيم بالنظر إلى قلبه ونفسه، وإلا فكيف يعرف النظر إلى قلوب الناس، واستقراء ضمائرهم ووجداناتهم من تكدرت نفسه واحتجبت وراء سحاب من الأكدار والأقذاء، وهو عظيم الإخلاص لوطنه المحبوب محب للخير، وفوق ذلك يعشق الطبيعة وجمالها ومناظرها، ويحسن وصفها بأبلغ ما يمكن أن يتصوره أي إنسان، وإنه يميل إلى الهدوء والسكينة وأكبر دليل على ذلك اختياره لتلك النقطة الجميلة الهادئة ذات المناظر الطبيعية الخلابة، التي بنى عليها قصره الفخم بجزيرة الروضة، وما حواه ذلك القصر العامر من كل ما يبهر العقول، وإلى القارئ الكريم وصف بسيط لذلك القصر:
قصر سمو الأمير الأثري ومنتزهه الفخم
يقع القصر بجزيرة الروضة وهذه النقطة من أهم الضواحي التي تحوي المناظر الطبيعية، يشرف على النيل وبه حديقة غناء من أبدع حدائق العالم مساحتها نحو الخمسة والثلاثين فدانا، خط في وسطها منتزه بديع يحوي الزهور بأنواعها، وهي التي أحضرها خصيصا من جميع أنحاء العالم، ولا غرو فسمو الأمير الجليل مغرم بالأزهار وترتيبها، وقد أمر سموه فترجم كتاب الزهور الذي يقع في نيف ومائتين وخمسين صفحة من القطع الكبير على ورق مصقول بطبع جميل، وقد حوى من البحث في أنواع الزهور ما يفيد مصر فائدة عظمى في هذا العلم الجميل، وقد قام برحلته الميمونة في جنوب أفريقيا باحثا ومنقبا عن النباتات، التي يصح نقلها وتربيتها بالديار المصرية، وكتب هذه الرحلة المباركة في ست وتسعين صفحة حوت حالة تلك البلاد النائية، وأخلاق وعادات أهلها، وتربة أرضها وجوها - إلخ، مما يجعل المطلع يظن أنه ذهب إلى تلك الجهات وسبر غورها، وذلك من عادات سموه في كل رحلة من رحلاته، فإنه لا يألوا جهدا حرسه الله في إبداء الآراء والأفكار الصائبة في كل صغيرة وكبيرة من الآراء التي تعود بأعظم الفوائد على العلم وطلابه.
وعند مدخل سراي سمو الأمير يجد الداخل ديوانا خاصا لمكتب سموه من الجهة اليمنى، وكذا مكتبا خاصا لحضرة سكرتيره الخصوصي والكتبة، وقد كتب بأعلا مكتب سموه هذه الآيات الشريفة
إن الله على كل شيء قدير
وكذلك توجد آيات قرآنية شريفة عديدة بأعلا الأبواب والحوائط والشبابيك؛ حتى يخيل للرائي أنه بداخل أعظم متحف أثري مصري في عموم الشرق، ويوجد أيضا بجميع الأسقف نقوش بألوان براقة جميلة محلاة بماء الذهب الوهاج، الذي يأخذ بريقه بالأبصار، فسبحان الخالق جلت قدرته حيث جعل في بني الإنسان هذه المقدرة الفنية الفائقة، خصوصا وأننا نعلم أنها من صنع إخواننا المصريين والشرقيين، وقد أنفق عليها سموه أموالا طائلة، أما سراي سموه الخصوصية الواقعة في وسط الحديقة، فمما يبهر العقول ويدهش الألباب، حيث جميع الأسقفة والأبواب والشبابيك، بل وكل الأثاثات منقوشة بالآثار العربية العظيمة القيمة، وذلك غرامه الوحيد وشغفه الفريد، ولسموه ولع أيضا باقتناء جياد الخيل العربية ولديه منها عدد وافر في إسطبلاته العامرة، أبقاه الله قرة عين البلاد ولا أحرم الكنانة من علمه الغزير وأياديه البيضاء.
حضرة صاحب السمو الأمير الجليل يوسف كمال باشا. (4) ترجمة حضرة صاحب السمو الأمير الجليل يوسف كمال باشا
نجل ساكن الجنان المغفور له البرنس أحمد باشا
في مقدمة حضرات أصحاب السمو أمراء العائلة العلوية المالكة، الذين اشتهروا بالرحلات النائية والصيد والقنص والشغف العظيم بالفنون الجميلة حضرة صاحب السمو الأمير الجليل يوسف كمال باشا، فمن رحلاته الشيقة قيامه وحضرة صاحب السمو السلطاني الأمير كمال الدين حسين، نجل ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين كامل الأول في يوم الأحد الموافق 12 يناير سنة 1924 برحلة بصحراء ليبيا، وقد استعد لهذه الرحلة الاستعداد كله، حيث استحضرا من فرنسا السيارات التي تتسلق الجبال والتلول، واستحضرا المهندسين الفرنسيين الأكفاء الذين رافقوا البعثة الفرنسية، التي اخترقت الصحراء الكبرى من طنجة إلى تمبوكتو، وقطعت هذه الرحلة في سبعة أيام متتالية وقد كان الغرض من هذه الرحلة العظيمة التوصل إلى اكتشاف جهات لم يصل إليها المكتشفون بعد، والاهتداء ضمنا على رسالة الرحالة «رولنس»، تلك التي وضعها داخل زجاجة، وأودعها مكانا وصفه في إحدى رسائله، ولقد كان النجاح في هذه الرحلة الشاقة الخطيرة عظيما جدا، فالحمد لله على تلك النهضة العالية التي تمشت روحها في أمرائنا الفخام، حيث إنهم يبذلون جهودهم الفائقة، وذكاءهم النادر في خدمة مصرهم العزيزة بخدمتهم للعلم حتى لقد أصبحنا ولله الحمد بفضل جهودهم نفاخر أعاظم ممالك العالم المتمدين، ونتصور أنا نقترب شيئا فشيئا من الوصول إلى أوج الكمال بفضلهم، ذلك الكمال الذي كانت عليه مصر القديمة أيام كانت مهد الحضارة والمدنية ومنار العرفان الذي يهتدي به كل ضال، وبحر العلوم الفياضة الذي ينهل منه كل ظمآن، ولسموه في رحلاته العديدة مجلدات ضخمة منها: (1)
سياحته في بلاد الهند الإنجليزية وكشمير سنة 1915 وقد طبع الجزء الأول بمطبعة المعارف سنة 1920. (2)
سياحته في بلاد «التيبت» الغربية وكشمير أيضا عام 1915م طبع بمطبعة المعارف أيضا، وكل من هذين الجزأين محلى بالصور والرسوم من المناظر التي وقع عليها نظره الكريم في هاتين الرحلتين، ومن الكتب القيمة التي أشار بتعريبها وطبعها على نفقته الخاصة كتاب الرحلة الأولى للبحث عن ينابيع البحر الأبيض «النيل الأبيض»، الصادر به أمر ساكن الجنان محمد علي والي مصر بقيادة ربان الفرقاطة البكباشي سليم قبودان، وهي ملخصة من المجموعة الرسمية للجمعية الجغرافية في عددها الصادر في شهر يوليو سنة 1842، ونقلها إلى اللغة العربية حضرة محمد مسعود بك المحرر الفني بوزارة الداخلية، طبعت سنة 1920م. «ولمحة عامة إلى مصر» تأليف أ. ب. كلوت بك، ومعربها حضرة محمد مسعود بك أيضا، وكتاب «مصر في القرن التاسع عشر»، وهي سيرة جامعة لحوادث ساكن الجنان محمد علي باشا وإبراهيم باشا، والمغفور له سليمان باشا الفرنسي من الوجوه الحربية والسياسية والقصصية تأليف إدوار جوان وتعريب محمد بك مسعود أيضا طبع سنة 1921م.
ولسمو الأمير الجليل يوسف كمال باشا ولع عظيم بالصيد والقنص، وطالما قصد الأقطار السودانية وتوغل في غاباتها وأحراشها بغية صيد الوحوش الكاسرة كالأسد والدب وغيرهما، وقد تفضل حفظه الله وأبقاه فأهدى كثيرا منها لحديقة الحيوان بالقاهرة، وسموه أيضا حصن منيع لكل مشروع خيري كملجأ الحرية والجمعيات الخيرية، ومؤسس مدرسة الفنون الجميلة، ومستشفى المطرية فهو والحق يقال أمير الخير وأمير البر وأمير الشجاعة والبأس.
ولسمو الأمير تفاتيش عديدة واسعة وأطيان شاسعة في الوجهين البحري والقبلي، ويعد سموه من أكبر المحسنين والمعضدين لكل مشروع مفيد، وله باع طويل في مساعدة الفنون الجميلة على اختلاف أنواعها، كما اشتهر سموه باللطف ودماثة الأخلاق وعلو النفس والكرم الحاتمي، وهو محبوب جدا من عموم طبقات الأمة المصرية بوجه خاص لما آنسوا في شخص سموه الكريم من العواطف السامية والخصال النبيلة، أدامه الله وأبقاه ومتعه بنعيم الحياة وجعل الجنة في الآخرة مثواه. (5) ترجمة حضرة صاحب السمو السلطاني الأمير الجليل كمال الدين حسين
إنا وإن كنا لم نتمكن من الحصول على ترجمة وافية لحضرة صاحب السمو السلطاني الأمير كمال الدين حسين، لتغيبه في رحلة نائية عن مصر، ومع ما بذلناه من المجهودات الشاقة للعثور على ما يشفي غليل القارئ الكريم عن حياة هذا الأمير الجليل، فلم نعثر إلا على فذلكة صغيرة لسموه، واعدين حضرات القراء الكرام أن نأتي بترجمة وافية لسموه في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.
هو الأمير كمال الدين حسين نجل المغفور له صاحب العظمة السلطان حسين الأول وحفيد الخديوي إسماعيل باشا.
ولد حفظه الله بالقاهرة، فاعتنى المغفور له والده بتربيته التربية السامية التي تليق بمثله، فشب ملحوظا بعناية الله وكان خير مثال للذكاء والنبوغ والهمة العالية، وإن ميله إلى الزراعة لعظيم جدا لعلمه أنها مصدر حياة البلاد، وله اليد الطولى في الأعمال الخيرية ومساعدة العلم، وإخلاصه لبلاده يفوق حد الحصر، كما وأنه في ميله إلى خدمة العلم ليسهل كل صعب، وكم تجشم من الأخطار في سبيل اكتشافات عظيمة تخلد لمصر عظيم الفخر بين أعاظم الأمم المتحضرة، التي تفخر بالمخترعين والمكتشفين من أبنائها، وإن رحلته المشهورة في الصحراء لمن أجل الرحلات وأشقها، وقد قام بها باحثا عن رسالة الرحالة رولنس الشهير، الذي كان قد جمع من المعلومات الجغرافية، ووصف شعوب أفريقيا الشيء الكثير أودعها مذكرات قيمة، وضعها داخل زجاجة وأخفاها في مكان وصفه ضمن رسالة أرسلها عندما أحدقت به العرب وقتلته، فقد قام صاحب السمو برحلته هذه العظيمة للتوسع في الاستكشاف والحصول على هذه الرسالة، وقد كانت من الغرابة بمكان فإنه ألقى محاضرة عظيمة بالمجمع العلمي الجغرافي تضمنت ما حصل عليه من المعلومات القيمة، والغرائب الكثيرة، وما لقيه من المشاق العظيمة، فجاءت تلك المحاضرة شاهدا آخر على ما لسموه من سمو المدارك وعلو الهمة، وعلى مقدار شغفه بالعلم وحبه العظيم له، وتضحياته الكثير من الأعمال الخيرية، وتخفيف ويلات المنكوبين والمكروبين، وسد عوز المحتاجين، فهو رجل الإحسان بالمعني الصحيح، وهو محسن في أعماله محسن في أقواله محسن في آرائه محسن في كل شيء.
وإن في تاريخ سموه الأمثلة العديدة التي يحسن سياقها للتدليل على ذلك، فقد أظهر من الكياسة وأصالة الرأي وبعد النظر والجدارة، وأنه هو الرجل الحقيقي «والرجال قليل». تولى رئاسة الجمعية الخيرية الإسلامية عقب أن سعدت البلاد بتبوء صاحب العظمة والده عرش مصر، وكانت رياسة الجمعية مسندة إليه، فأسندت رياستها إلى صاحب الترجمة فقام بما عهد إليه خير قيام، وبرهن على أنه الوحيد الذي صدق رأي الجمعية في اختياره، وأنه فوق ذلك مثال المروءة والشهامة والوفاء، وأننا لا يسعنا وصف وفائه ولو أتينا من البسطة في التعبير والقوة في الكتابة ما شئنا وشاءت لنا الأقدار، وإننا لنسجل لسموه بمداد الإعجاب تنازله عن ملك مصر بعد أبيه، وإيثاره عمه حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول على نفسه، فبرهن بذلك على مقدار وفائه ومحبته لمصره العزيزة، وفضل التفرغ لخدمة العلم، وخدمة بلاده لشدة محبته لهما بعيدا عن مشاغل السياسة والملك، مقدما لها من يحسن سياستها وهكذا تكون الرجال وإلا فلا.
وإننا طالما التمسنا من سمو الأمير أن يتفضل علينا برسمه الكريم؛ ليزدان سفرنا بنور محياه الباهر فأبى معتذرا بعدم وجود صورة لسموه في هذا الوقت، ولنا من حضرة القارئ الكريم مغفرة ومعذرة ونرجو أن لا يتسرب إلى ذهنه أننا أغفلنا ذلك سهوا أو عمدا، إنما هو الواقع وليس لنا أن نؤثر على إرادة سموه بحال.
صفاته وأخلاقه
وقد منحه المولى أجل الصفات الحميدة والخصال العالية مع جمال الخلق، فسموه على جانب عظيم من الدعة واللطف مع الشهامة والحزم، يميل بفطرته السامية إلى رفع لواء العلم لمجد وسعادة وطنه المفدى، وله في كل عمل علمي أو أدبي أو خيري مآثر غراء تنطق عن روح سامية ومروءة فائقة.
أبقاه الله متمتعا بالصحة والعافية، رافلا في حلل السعادة والهناء، ولا أحرم مصر المحبوبة من جليل خدماته إنه نعم المولى ونعم النصير.
تمثال توت عنخ أمون مع الملك فؤاد الأول.
تمثل هذه الصورة الملك توت عنخ أمون «في المتحف البريطاني» صاحب المدافن العظيمة، التي اكتشفت أخيرا في طيبة على ضفة النيل الغربية من الأقصر، فوجدنا في نشر صورته مع نشر صورة جلالة مولانا الملك فؤاد الأول أحسن تفاؤل بمستقبل مملكة وادي النيل المستقلة.
رسم تحليلي يبين الأجزاء وعددها «23»، التي كان يتألف منها ناووس توت عنخ أمون.
كانت مصر منذ 3000 سنة في عهد توت عنخ أمون مستقلة، بل صاحبة سيادة عظيمة على ما حولها من البلدان كالسودان والحبشة وسورية، هذا من جهة سطوتها السياسية ومنعتها الحربية، أما عن غناها وثروتها ومجدها وعمرانها ورقيها في الفنون والصناعات وتقدمها في العلوم والمعارف والآداب، فإن الكنوز التي وجدت في طيبة والكنوز المحفوظة في المتاحف لخير شاهد على المكان الرفيع، الذي بلغته والقسط الوافر الذي أحرزته في عصر كانت فيه دياجير ظلمات الجهل، مخيمة على العالم، فسلام على عصر توت عنخ آمون الزاهر، ومرحى بعصر جلالة الملك فؤاد الذي يبشرنا بذلك المجد الباذخ والعز التالد، نسأل الله دوام ملكه.
مدفن توت عنخ آمون والتابوت العجيب الذي اكتشف بالأقصر
تفنن الأقدمون في حفظ موتاهم من البلى وفي وضعهم في مكان حريز، حتى لا يعبث بهم أحد، فحفروا لهم القبور في الصخور ووضعوهم في قواديس كبيرة من الخزف أو المرمر، وأبدعوا في التعمية على من يقصد نبشها فأوهموه أنهم أخفوها في مكان يصعب الوصول إليه، ثم وضعوها في مكان آخر لا يخطر له أنها فيه؛ لأنهم اعتقدوا أن الجسد يبقى مقرا للنفس بعد الموت فتعود إليه مرة بعد أخرى، كما تعود نفس النائم إلى جسمه بعد أن تفارقه على ظنهم، وكل ما اكتشف في هذا القطر وغيره من الوسائل لحفظ جسد الميت لا يقابل بالأسلوب، الذي ابتدعه توت عنخ آمون أو خلفاؤه لحفظ جسده إذا ثبت أن جسده حفظ فيه، ولم يكن هذا الأسلوب لمجرد التعمية، فإن ما تضمنه قبر هذا الملك من التحف والأثاث والرياش يكاد يكون قصرا ملكيا ومخزنا من مخازنه، ومتحفا حفظت فيه بدائع الفن المصري من ذلك العهد السحيق في قدمه العجيب في مهارة صناعه، وكان في هذا القبر غرفة مقفلة ثبت من النقوش والأختام التي عليها أنها تحوي تابوت الملك وقد تحوي جثمانه أيضا، ثم اتضح أن هذا التابوت تحيط به ثلاثة توابيت أو صناديق كبيرة من الخشب البديع النقش، والطلاء الذهبي الذي يغشى الصندوقين الثاني والثالث أجمل منظرا من الطلاء الذي على الصندوق الأول الخارجي، وعليها كلها كثير من الكتابات والصور.
مدفن توت عنخ آمون.
وكان لا بد من تفكيك هذه الصناديق والاعتناء بما عليها من النقوش حتى لا يتلف شيء منها، وهو عمل صعب جدا لثقل هذه القطعة، وضيق المكان الذي هي فيه، وقد وجد في هذه الصناديق كثير من العصي والقسي من الذهب والفضة ملفوفا بإحكام بلفائف من الكتان، ومن هذه العصي واحدة من الذهب وواحدة من الفضة، وعليهما نقوش بارزة تمثل الملك على غاية الإتقان، والتي من الذهب أكثر إتقانا وأبدع منظرا من التي من الفضة، وتظهر صورة الملك فيها بوجهه ويديه ورجليه وهو واقف كشاب في ريعان الصبا. ومن العصي عصا من القصب ملبسة بالذهب البديع النقش، وقد كتب عليها بالهيروغليف ما معناه «عصا قطعها الملك بيده»، وعلى إحدى الأقواس نقوش دقيقة تمثل زوارق وهذه النقوش صغيرة وسائر الأقواس كبيرة، وعليها رسوم وزخارف من الذهب ومن العصي عصا من الأبنوس المطعم بالعاج والذهب، مقبضها أعقف كالمحجن، وعليه رسوم بديعة الصنع وفي أعلاها ختم الملك، وفيها حلقة من الذهب عليها صورة أسيرين، وهناك قضيب من الذهب ملفوف لفا محكما له قمة من الزجاج وحلقة من الفضة عليها كتابة معناها «خذ قضيب الذهب حتى تتبع بعد ذلك أباك الشريف المحبوب آمون أحب الآلهة.»
ويقال: إن هذه العصي والقسي من أنفس ما وجد من الآثار، ولما تم تفكيك الصندوق الثاني في 31 يناير سنة 1924، ورفعت جوانبه وجد في الفراغ الضيق بينه وبين الصندوق الثالث مروحتان من المراوح التي كان يحملها العبيد على جانبي الملك، وهما من الذهب وريش النعام الأبيض، ويداهما منقوشتان نقشا جميلا بمناظر الصيد، وعلى إحداهما صورة الملك راجعا بمركبته من الصيد، ومعه عبيده يحملون ما اصطاده، لكن السوس لحس ريش النعام.
وكل ما تقدم كشفه ووضعه لا يوازي ما كشف أخيرا في تركيب التابوت نفسه، فإنه يملأ الناووس الذي وضع فيه، فلما فتح بابه، وكان مختوما بخاتم الملك، إذا حول التابوت صندوق كبير من الخشب الجافي الثقيل، يدهش منظره البصر بما عليه من الذهب الوهاج والصيني البراق، وكان الغطاء الذي عليه ثقيلا جدا يبلغ ثقله طنا وربعا أي: نحو 34 قنطارا مصريا فرفعه المستر كارتر بان أدخل قطعا من الحديد تحته وربطه بحبال تدور حول بكر، فكادت الحبال تنقطع لثقله فلما رفع إذا تحته جسم يمثل الملك محنطا وملفوفا بكفن من الكتان، ولكنه ليس الملك بل تابوت يمثله بوجهه وأنفه وعينيه ويديه ورجليه، وتحته نعش في شكل أسد تغشاه صفائح الذهب، وهذا التابوت آية من آيات الصناعة كأنه بدن إنسان يمثل الملك، وعلى صدغه الأيسر تمثال الصل شعار الوجه البحري، وعلى صدغه الأيمن تمثال النسر شعار الوجه القبلي ورأس الملك متجهة إلى الغرب، فكل من هذين الشعارين متجه إلى الجهة التي هو شعارها، ويدا الملك على صدره وقد قبض باليسري منهما على سوط من الذهب، وباليمنى على صولجان من الذهب المرصع، والسوط والصولجان شعار الإله أوسيرس ملك العالم السفلي، وعينا الملك من البللور الأبيض والأسود، وصدره مغشى بصفائح من الذهب وسائر الجسم بورق من الذهب.
وهذا التابوت وحيد في بابه لم يكشف في مصر تابوت مثله حتى الآن، فإنه تمثال يمثل الملك بحلته الملكية، وعليه جناحا آلهة النسر، وهو يملأ الناووس فإن طوله ثلاثة أمتار وعمقه نحو 75 سنتيمترا؛ ولذلك يظن أنه يحوي مع جثة الملك كثيرا من حلاه.
غير أنه حدث أن المستر كارتر الذي اكتشف هذا المدفن وعني عناية تفوق الوصف في استخراج ما وجد فيه سالما، أراد في اليوم الأخير أن يدخل بعض السيدات لمشاهدة التابوت مخالفا بذلك ما تعهد به للحكومة المصرية من أنه لا يدخل سيدات ولا أحدا غير عدد محدود من عمال الآثار، ورجال الصحافة، فاعترض عليه وكيل وزارة الأشغال، ومنعه عما أراد فأقفل المدفن وحدث بعد القفل أن احتج المستر كارتر على ذلك، وأعقب هذا الاحتجاج برفع دعواه للقضاء المختلط، يطلب فيها تخصيص جانبا من هذه الآثار نظير اكتشافه لهذا القبر، فقضى القضاء برفضها، وظل القبر مقفولا حتى شهر فبراير سنة 1925، حيث اتفقت وزارة الأشغال العمومية المصرية معه على استئناف العمل تحت إشرافها في نظير مكافأة مالية، تعطى له بعد نهاية نقل جميع الآثار الموجودة بالقبر، وقد أوفدت الحكومة المصرية قوة عظيمة من جنودها؛ لملاحظة ما يجري أثناء النقل؛ كي لا يتسرب شيء من هذه الآثارات النفيسة ليد الغير.
وفي 6 مارس سنة 1924 أقيم في وادي الملوك - بل ملك الأودية - في الأقصر احتفال فخم لافتتاح ناووس الملك توت عنخ آمون الذائع الشهرة.
ناووس توت عنخ آمون كما كان شكله يوم افتتاحه.
فقد دعت وزارة الأشغال العمومية إلى هذا الاحتفال أصحاب المقامات الرسمية من وطنيين وأجانب على قطارات خاصة تقلهم إلى الأقصر، وفي الساعة العاشرة صباحا من ذلك اليوم فتح المدفن، وفي الساعة الرابعة بعد الظهر دخله ممثلو الدول الأجنبية ومن معهم من السيدات، ورجال الصحافة والشركات الإخبارية.
جلالة الملك فؤاد الأول وهو خارج من قبر توت عنخ آمون وإلى يمينه المسيو لاكو مدير مصلحة الآثار المصرية.
وكان المدعوون يدخلون المدفن جماعات مؤلفة من نحو 8 أشخاص لضيق المكان.
البرلمان المصري والحكم النيابي في التاريخ
ذكر الفيلسوف أرسطو فيما كتبه عن السياسة أن الحكم في الأمة يتولاه إما فرد أو جماعة أو الشعب كله، فإذا تولاه الفرد كانت الحكومة ملكية، وإذا تولته جماعة قليلة كانت الحكومة أرستقراطية، وإذا تولاه الشعب كله كانت الحكومة دستورية أو شعبية، ولا تفاضل بين هذه الأنواع من الحكومات إذا قامت بما يطلب منها؛ لأن الغاية من كل حكومة إقامة العدل وتوطيد الأمن، والسهر على مصالح الرعية ، فإذا بطلت هذه الغاية وانقلب الحكم وسيلة لتحقيق مآرب الحاكم، سواء كان فردا أو جماعة فسدت الحكومة وضاعت الغاية من وجودها.
ولعل أقرب الأنظمة السياسية القديمة إلى الحكومة الدستورية الحديثة النظام، الذي جرت عليه أثينا ورومية حوالي القرن الخامس قبل المسيح، فكانت الحكومة في كلتيهما شعبية جمهورية بأوسع المعاني، ومما ساعد على ذلك أن الدولة كانت صغيرة تشمل المدينة وحدها ولا تتعداها إلا إلى ما حولها من القرى والدساكر، وكان عدد السكان قليلا لا يزيد على عشرة آلاف نفس، ما عدا أثينا فإنها بلغت نحو عشرين ألفا، فسهل عليهم أن يقوموا بأعمال الحكومة بنفوسهم، فكانوا يؤمون المجتمعات السياسية العامة «كالاكليزيا في أثينا»؛ لينتخبوا الحكام ويفصلوا فيما يهمهم من الشؤون؛ لذلك لم يكونوا في حاجة إلى انتخاب من ينوب عنهم في تلك المجتمعات.
على أن الحكم في أثينا ورومية لم يبق جمهوريا بحتا حينما خرجا عن حدودهما الضيقة وازدادت فتوحاتهما، ولا سيما فتوحات رومية واتسع نفوذهما وصار من اللازم استنباط نظام سياسي يشمل جميع الولايات، بمعنى أنهم يشتركون مع العاصمة في إدارة شؤون البلاد ومستعمراتها الواسعة، لكن فلاسفة الرومان وواضعي القوانين منهم مع ما اتصفوا به من الحذق السياسي وبعد النظر في وضع القوانين، لم يهتدوا إلى نظام التمثيل السياسي، فبقيت العاصمة مسيطرة على شؤون البلاد، وانتقلت السلطة فيها رويدا رويدا إلى يد رجل واحد، فكان النظام الإمبراطوري المعروف، ثم انهارت الإمبراطورية الرومانية الغربية أمام هجمات القبائل الشمالية المتكررة، وانتشر في أوربا نظام الإقطاع، وهذا النظام يستدعي شيئا من «النيابة» أو «التمثيل»، فأمير الإقطاع كان يدعو في أوقات المحن والحروب رجالا يمثلون المقاطعات المختلفة في إمارته للبحث فيما يجب فعله؛ لدرء هجمات العدو وما يجب على كل منهم تقديمه من رجال وذخائر ومؤن، فكان في هذا العمل جرثومة التمثيل السياسي أو النظام النيابي كما هو معروف في عصرنا.
وخرجت أوربا من ظلمات القرون الوسطى، وقد تعزز في أنحائها الروح القومي فسما بالطبقات الوضعية عن مصاف العبيد، وصارت تشعر بوجوب الاشتراك مع الملك والأمراء ورجال الدين في تدبير أمورها إلى أن كانت الثورة الفرنسوية، فألقيت فيها مقاليد الأمور إلى الشعب.
لكن النظام النيابي بمعناه السياسي الحديث نشأ في إنكلترا منشورا تدريجيا، وذلك أن الملك إدورد الأول نشر دعوة سنة 1295 جاء فيها ما ملخصه: «إننا ندعو الآمراء وكبار رجال الدولة للبحث في الأدواء التي تنتاب البلاد وكيف يجب أن نعالجها؛ ولذلك ندعو اثنين من كل مقاطعة ومدينة ودائرة «بورد» ممن عرفوا بالحكمة والإخلاص والكفاءة، ويجب أن تعطى لهم السلطة الكافية لإقرار ما يحسب صالحا للبلاد بالاتفاق العام؛ لكي لا يبقى العمل ناقصا» هذه هي الجرثومة التي نشأ منها البرلمان الإنكليزي أقدم المجالس النيابية في التاريخ وأكثرها مرونة، وهو مع ذلك لا يقوم على دستور مكتتب كالدستور الأميركي أو الفرنسوي أو المصري، بل على تقاليد جرى عليها قرونا فصارت بمثابة القانون المكتتب.
ولا يخفى أن البرلمان الإنكليزي مؤلف من مجلس أعلى، ويسمى مجلس اللوردات وأوطأ، وهو مجلس العوام أو النواب، وعدد الأعضاء في المجلس الأعلى نحو 726، وفي مجلس النواب نحو 707 ولا يعتبر المجلس الأعلى أي: مجلس اللوردات غير نيابي؛ لأنه وراثي بل هو نيابي بمعنى أن أعضاءه يمثلون طبقتين من طبقات الشعب الإنكليزي، هما رجال الدين وأصحاب الأملاك الواسعة؛ وسبب تفوق مجلس النواب عليه أنه يمثل الطبقة الثالثة، وهي أوفر عددا وأكثر قوة، وفي يدها زمام الأمور السياسية والمالية.
ويتلو البرلمان الإنكليزي في القدم البرلمان الأميركي ويدعى الكنفرس، وهو أقدم برلمان ألف حسب نظام مكتتب، وذلك سنة 1780 وهو مجلسان أيضا مجلس الشيوخ أو السنا، وفيه 96 عضوا أي نائبان من كل ولاية من الولايات المتحدة سواء كانت الولاية صغيرة أم كبيرة، ومجلس النواب وعدد أعضائه نحو 433.
دار مجلس النواب الأميركي.
ومما يحسن ذكره في هذا الصدد أن الحكومة الإنكليزية «حكومة برلمانية» في عرف علماء السياسة أي: أن الوزارة فيها من مجلس نوابها وهي مسئولة له عن أعمالها، فإذا فقد المجلس ثقته فيها وجب عليها الاستقالة، أما الحكومة الأميركية فليست حكومة «برلمانية» من هذا القبيل أي : أن وزراءها ليسوا من مجلس نوابها، ولاهم مسئولون له عن أعمالهم بل لرئيسهم الذي يعينهم، وهو المسئول للكنفرس عن السياسة التي يتبعها؛ وذلك لكي يتم الفصل التام بين فروع الحكومة الثلاثة أي: بين القوة التنفيذية والقوة التشريعية والقوة القضائية وهو في رأي بعض علماء السياسة كمنتسيكو أرقى مراتب الحكومة، لكن الأمر الذي يبدو لأكثر الباحثين في السياسة والعمران أن النظام الإنكليزي أكثر من النظام الأميركي مرونة، ومماشاة مع مقتضى الأحوال وقد جرت عليه معظم الدول الديمقراطية، سواء أكانت ملكية كإيطاليا واليابان ومصر أم جمهورية كفرنسا وسويسرا، ويقال: أن النظام الملكي المقيد بمجلس نيابي مؤلف من مجلسين، كما في إنكلترا وإيطاليا ومصر واليابان خير الأنظمة السياسية في هذا العصر، وأثبتها على تقلبات العمران، وأضمنها للمحافظة على الغاية من وجود الحكومة، فالملك في الحكومة الملكية المقيدة يمثل تاريخ البلاد وتقليدها وعزها، وكل ما يلتف من آمال الشعب ورغائبه حول شخصه المعنوي، كذلك تكفل الوزارة النيابية القيام بأعمال الحكومة كما في كل الجمهوريات.
والظاهر أن الدستور المصري من خير الدساتير من هذا القبيل فقد جمع مزايا أكثر الأنظمة السياسة القديمة والحديثة، ومداره على ملك وبرلمان ووزارة برلمانية والبرلمان المصري مؤلف من مجلسين: أعلى وهو مجلس الشيوخ، وأوطأ وهو مجلس النواب، وأعضاء مجلس الشيوخ عددهم 119 ينتخب منهم 71 عضوا، ويعين جلالة والملك الباقين، ويجب أن تكون سن العضو في مجلس الشيوخ 40 سنة على الأقل، وينتخب أو يعين ليقيم عشر سنوات، أما مجلس النواب فأعضاؤه 214 وينتخبون جميعهم لخمس سنوات، ويجب أن تكون سن الواحد منهم ثلاثين سنة على الأقل.
وكان يوم 15 مارس سنة 1924 يوما تاريخيا عظيما، ففيه افتتح جلالة الملك فؤاد أول برلمان مصري مؤلف على المبادئ الدستورية الحديثة، وقد تم هذا الاحتفال في أجلى مظاهر الأبهة والجلال، وقضى أهل مصر ذلك اليوم فرحين متهللين، شاعرين أنه ابتداء عهد جديد في تاريخ هذا القطر، عهد اشتراك الأمة في تولي زمام السلطة.
فلما انتصفت الساعة التاسعة أخذ النواب والشيوخ يفدون على دار البرلمان، وجعلوا يأخذون أمكنتهم كيف شاءوا، وكذلك أقبل المدعوون فجلسوا في الشرفات المعدة لهم، وهم من أصناف مختلفة، فمنهم كبار الأجانب كسفراء الدول المفوضين، ومنهم كبار الموظفين والرؤساء الروحيين، وغير هؤلاء ممن دعوا إلى الحضور.
وفي الساعة التاسعة والدقيقة الأربعين أطلقت المدافع إيذانا بأن الموكب الملكي تحرك من قصر عابدين، فخرجت المركبة الملكية تجرها ستة من الجياد، وكان فيها إلى يسار جلالة الملك دولة رئيس الوزراء سعد زغلول باشا، وكانت تتقدمها مركبة تجرها أربعة جياد، وفيها معالي كبير الأمناء وسعادة كبير الياوران، وقد وصل الموكب إلى دار البرلمان في الساعة العاشرة، وكان في استقبال جلالة الملك أصحاب السمو الأمراء، وحضرات أصحاب المعالي الوزراء والوفد البرلماني، فلما أقبل عليهم جلالته تقدموا فقبلوا يده الكريمة، ثم سار وهم خلفه إلى قاعة البرلمان حيث قابله النواب وقوفا، وبعد أن حياهم جلالته وردوا عليه التحية بالهتاف له، وقف أمام المقعد الملكي ووقف الوزراء إلى يمينه والأمراء إلى يساره، ورأس الجلسة أكبر الأعضاء سنا، وهو سعادة المصري باشا السعدي، وحينئذ أقسم جلالة الملك اليمين الآتية:
أحلف بالله العظيم أني أحترم الدستور وقوانين الأمة المصرية، وأحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه.
دولة سعد باشا زغلول يقرأ خطبة العرش أمام الملك ونواب الأمة (تصوير المسيو أنطون أنتيبا شارع كامل نمرة 8).
فلما أتم جلالته القسم صفق الأعضاء وهتفوا بلسان واحد «ليحيا جلالة الملك»، وبعد تأدية اليمين قدم معالي كبير الأمناء إلى جلالته خطاب العرش، فأخذه جلالته وناوله إلى دولة سعد باشا وأذن له أن يلقيه فألقاه بنصه الآتي:
حضرة الشيوخ - حضرة النواب
أهديكم أطيب سلامي، وأحيي فيكم ممثلي شعبي الكريم، وأهنئكم منتخبين ومعينين بالثقة العظمى التي أحرزتموها؛ لتؤلفوا أول برلمان مصري تأسس على المبادئ العصرية، وأحمد الله أن تحققت بتأسيسه أمنية من أعز أماني وأول رغبة من رغبات أمتي الشريفة.
اليوم تدخل في دور التنفيذ النظامات النيابية التي قررها الدستور، ولا ريب في أنها تبشر بإقبال عصر جديد من القوة والسعادة على بلادنا المحبوبة.
لقد وضعت البلاد فيكم ثقة عظمى، وألقت بها عليكم مسئولية كبرى، فأمامكم مهمة من أدق المهمات وأخطرها، إذ يتعلق بها مستقبل البلاد، وهي مهمة تحقيق استقلالها التام بمعناه الصحيح، ولا شك أنكم ستعالجونها بروح من الحزم والحكمة والروية، وأنكم ستجدون من أهم مسهلاتها الاتحاد المقدس الذي لا انفصام له بين العرش والأمة، والذي توثقت اليوم عراه بالقسم العظيم الذي أقسمناه وستؤدونه أنتم عما قليل.
لهذا يحق لي أن أصرح علنا باسمي وباسمكم أن حكومتي مستعدة للدخول مع الحكومة البريطانية في مفاوضات حرة من كل قيد؛ لتحقيق الآمال القوية بالنسبة لمصر والسودان مملوءة من الرجاء في الوصول إليها بقوة حقنا، وعناية الله القدير.
ومن أهم وظائفكم أن تساعدوا الحكومة، وتشتركوا معها في إدارة البلاد على الطريقة التي رسمها الدستور، وهي الطريقة المؤسسة على القانون بين سلطات الدولة، وعلى مبدأ المسئولية الوزارية، ولقد وضعت هذه الطريقة على الحكومة وعلى البرلمان واجبات، فعليها تنفيذ مبادئ الدستور وتطبيق أحكامه بروح تامة من الحرية والديمقراطية، وعليه أن يتمم التشريع بوضع القوانين الناقصة التي أشار الدستور إليها، وأن يعيد النظر في القوانين المعمول بها خصوصا ما لم يعرض منها على الجمعية التشريعية بسبب إيقاف أعمالها، وأن ينظر في قانون ا لانتخاب بما تمليه عليه نتيجة الاختبار.
وستعرض عاجلا على مجلس النواب ميزانية الحكومة للسنة القادمة، وسبق منها أن الإيرادات والمصروفات متعادلة، وأن المال الاحتياطي زاد زيادة عظيمة سيكون لها أحسن أثر في سمعة البلاد المالية، غير أن هذا لا يعفي من التزام الحزم في السياسة المالية، بل يجب اجتناب كل ما من شأنه تكليف الخزينة بنفقات لا ضرورة لها ولا يكون من وراء إنفاقها تحسين في الإدارة، ورعاية الاقتصاد في الوظائف حتى لا يكون منها ما هو فوق الحاجة، وفي المرتبات حتى لا تزيد على قيمة العمل المقررة لها.
ويجب إصلاح الإدارة بتقسيم المصالح المختلفة، وتوزيع الوظائف المتنوعة وتحديد اختصاصها على وجه يضمن سهولة العمل وسرعته وانتظامه، ويبعث في نفوس الموظفين روح الجد والنشاط، والشعور بالمسئولية والحرص على النظام كما يضمن لهم حقوقهم، ويكفل السير على طريقة عادلة في التعيينات والترقيات.
أما الضرائب الحالية فيجب تجنب الزيادة فيها، غير أنه يبقى النظر في مراجعتها وتكميل نظامها، لا لمجرد دخلها وتوزيعه توزيعا أعدل، بل أيضا لتقرير رسوم على الإيرادات المعفاة بغير حق من الضرائب في الوقت الحاضر، وغير خاف أن مراقبة المصروفات العامة بالدقة وحسن الانتباه، وتقوية نظام الضرائب بضمان انتظام الميزانية وثباتها يسمحان باستئناف مشاريع الأعمال العامة التي أهملت من سنوات.
ومن اللازم حماية ثروة البلاد الزراعية وتنميتها بنسبة زيادة السكان، وهذا يستلزم المبادرة إلى حل المسائل الخاصة بتحسين طرق الري والصرف وتوسيع نطاقها، ومن الواجب تحسين طرق المواصلات وتنمية التجارة على اختلاف أنواعها، واستثمار المناجم وتشجيع الصناعات المصرية الحديثة العهد، والاستفادة من مركز البلاد الجغرافي وإصلاح حالة الأمن والصحة العمومية، وترقية المرأة أدبيا واجتماعيا، وحماية الأمومة والعناية بالأطفال، واتخاذ التدابير الاجتماعية اللازمة لحماية العمال ونشر التعليم بنوعيه الأولي والراقي.
وعلى مصر أن تتبوأ مكانها بين الدول بإيجاد علاقات الوداد، وتوكيدها مع جميع الدول من غير تفضيل، ولا امتياز يخالف مبدأ استقلالنا التام.
والأمل وطيد في أن تتوج حريتنا السياسية بدخول مصر في جمعية الأمم كدولة تامة الاستقلال.
أيها الشيوخ والنواب
إن مهمة الحكومة والبرلمان كبيرة خطيرة شاقة، منها ما أشرت إليه ومنها ما هو معروف لكم من كل ما فيه خير البلاد وتقدمها، ولكني عظيم الثقة في أن هذه المهمة تتم تدريجيا بفضل الروح القومية التي بعثت في شعبي الكريم قوة جديدة، وملأته حمية للعمل وغيرة على خير الوطن.
ويملأ قلبي سرورا أن أفتتح الدور الأول للبرلمان، وأدعوكم للبدء في أعمالكم داعيا الله تعالى أن يسدد خطواتكم، وأن يوفقني وإياكم لما فيه خير البلاد.
ولما فرغ دولة الرئيس من إلقاء الخطبة أعادها إلى جلالة الملك، فتناولها جلالته وأعطاها إلى كبير الأمناء الذي سلمها إلى رئيس المؤتمر الوقتي، وهنا هتف رئيس المؤتمر «يعيش الملك» ثلاث مرات فردد الأعضاء هتافه، وعقب الهتاف وقف جلالة الملك وسار إلى المركبة الملكية، فأقلته إلى قصر عابدين وكانت الساعة حينئذ العاشرة والدقيقة 25 وأطلقت في أثناء حفلة الافتتاح مائة مدفع ومدفع.
هذا وقد وردت التهاني على حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول، وعلى حكومته من ملك إنكلترا وملك إيطاليا، ورئيس جمهورية فرنسا، ورئيس وزراء بريطانيا، ورئيس وزارة إيطاليا وبرلمان نروج.
جلالة الملك في عربته عند مغادرته دار البرلمان المصري عقب افتتاحه.
خطبة العرش لافتتاح الدور الثاني للبرلمان المصري
ونثبت هنا خطبة العرش التي ألقيت في الدور الثاني من انعقاد البرلمان المصري في يوم الأربعاء 12 نوفمبر سنة 1924، بعد ثمانية شهور من افتتاحه الأول أقفلت فيها أبوابه نظرا للعطلة الرسمية، فلم يكد يتنفس صباح ذاك اليوم حتى ازدحم الطريق الممتد من ميدان عابدين إلى شارع دار النيابة بجماهير متلاصقة الأجساد صفت على جانبي الطريق على امتداده، ولم تكن شرفات الدور وسطوحها بأقل منه ازدحاما، فقد احتشدت في هذا وفي تلك عشرات الألوف من النظارة.
وقد اصطفت الحامية المصرية على الجانبين تحمل كل أورطة علمها، ومع كل منها ضباطها بملابس التشريفة، وبين كل جندي وجندي منها نحو متر واحد ومن ورائهم جنود البوليس المصري تحت إمرة ضباطهم، وقد قامت خلف هذين الصفين ربا من الخلق، كان بعضهم جالسين على مقاعد أعدت لمثل هذا اليوم بأجر مرتفع.
ووقف فرسان الجيش في ميدان الإسماعيلية بقيادة قائدهم، واصطف وراء أبواب دار النيابة قره قول شرف من الجنود المصرية لتأدية التحية العسكرية أثناء تشريف حضرة صاحب الجلالة الملك، وكان قد توافد إلى هذه الدار في الموعد المحدد؛ لتشريف جلالته المدعوون من حضرات أصحاب السمو الأمراء والنبلاء، وأصحاب الدولة والمعالي الوزراء، وحضرات أصحاب الفضيلة العلماء ورجال الدين، وحضرات سفراء الدول ووكلاء وكبار موظفي الحكومة من المحافظين والمديرين وغيرهم.
وفي الساعة العاشرة إلا ثلث أطلق من ميدان الإسماعيلية واحد وعشرون مدفعا، إيذانا بتحرك ركاب حضرة صاحب الجلالة الملك من القصر الملكي، وعزفت موسيقي الحرس التي كانت مصطفة في ميدان عابدين بالسلام الملكي، ودوى الفضاء بالنداء العسكري والتصفيق والهتاف.
وخرجت المركبة الملكية تقل حضرة صاحب الجلالة المعظم وإلى يساره حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول، ويجرها ستة من جياد الخيل، وقد ركب أولها سائس وركب مؤخر المركبة ثلاث سواس بملابسهم الحمراء المزركشة وتقدم المركبة الملكية مركبة حضرة صاحب المعالي كبير الأمناء، ورئيس الياوران وتأخر عنها مركبتان ملكيتان أخريان، تقلان كبار موظفي القصر.
وكان الموكب كلما اجتاز نقطة هتفت تلك الجماهير هتافا يشق عنان السماء، ودوى التصفيق وصدحت الموسيقات، وكان حضرة صاحب الجلالة يحيي الشعب مبتسما حتى وصل الموكب إلى شارع دار النيابة. واجتازت المركبة الباب المخصص لدخول جلالة الملك، وكان يقوم على حراسته معاون بوليس البرلمان وثلة من عساكر البوليس.
ولما نزل جلالته من المركبة بدئ بإطلاق مائة مدفع ومدفع، ورفع العلم الكبير على الدار، وتقدم حضرات أصحاب السمو الأمراء والنبلاء وحضرات أصحاب الدولة والمعالي الوزراء، ورئيس المؤتمر واللجنة البرلمانية المنتدبة للاستقبال، فحيوا جلالته وساروا بين يديه إلى الغرفة الملكية الخاصة، فاستراح فيها هنيهة ثم سار منها إلى قاعة المؤتمر، وأعلن كبير الأمناء قدوم جلالته فوقف الجميع إجلالا وتعظيما، ووقف جلالته أمام العرش، وعن يمينه الأمراء وعن شماله الوزراء، ثم جلس وتفضل فأذن للواقفين جميعا بالجلوس فجلسوا.
وبعد أن جلس حضراتهم جميعا تسلم حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد زغلول باشا خطبة العرش من حضرة صاحب الجلالة الملك، فألقاها على الحاضرين الذين كانوا يقاطعونها بالتصفيق، وكانت المدافع لا تزال تطلق وهذا نصها:
خطبة العرش
حضرات الشيوخ حضرات النواب
أحييكم أحسن تحية وأهديكم أجل احترام وأذكر بالسرور وبالفخار يوم حضرت بينكم منذ أقل من ثمانية شهور لافتتاح اجتماعكم، وأداء القسم العظيم بالإخلاص للدستور، الذي وفقني ربي لإنشائه وتدبير الأمور طبق أحكامه.
الثناء على البرلمان
واليوم أهنئكم على نتيجة أول اختبار للعمل بنظامه في الدور الأول، ووقوع أكثره في أقسى فصول السنة، جاءت نتيجة حسنة مشجعة وباعثة على الرجاء في التقدم والارتقاء.
ذلك بفضل ما انطويتم عليه من الحب لخير البلاد، وما أبديتموه من حكمة واعتدال، وما امتازت به مكاتبكم ولجانكم من النشاط المستمر، والإدارة الحسنة والبحث الدقيق.
قد وضعتم لوائحكم الداخلية ونظمتم مكاتبكم وانتخبتم لجانكم ووضعتم من الأسئلة والاستجوابات والاقتراحات، ما كان له أثر عظيم في مراقبة الشؤون، ومعرفة حاجات الجمهور، والاطلاع على سياسة الحكومة، وتبين الحكمة في ما عملت والسر في ما تركت.
ولقد تناقشتم في ميزانيات الدولة وصدقتم عليها بعد درس جاء بحكم الضرورة موجزا محددا ولكنه دقيق ومفيد. وقد أعدتم النظر في قوانين مهمة كقانون الانتخابات، وأدخلتم عليه تعديلات سيكون لها أثر عظيم في الأعمال المقبلة، وأيدتم بقراراتكم الإجماعية وتصريحاتكم الواحدة وحدة الأمة في جهادها للحصول على استقلالها التام. (تصفيق)
بذلك أثبتم بالبرهان المحسوس الواضح أن البرلمان المصري جدير بالسلطة التي خولها له الدستور.
استقلال مصر والسودان
إن حكومتي صرفت كما وعدت أكبر همها في السعي لاستقلال البلاد بجزأيها مصر والسودان (تصفيق)، وبناء على دعوة رئيس الوزارة الإنكليزية توجه رئيس حكومتي إلى لندن في شهر سبتمبر الماضي للدخول في محادثات قد تؤدي إلى مفاوضات رسمية، وذلك بعد ما حصل على التأكيد بأن هذا السعي لا يمس بأية صورة حقوق مصر.
لم تؤد هذه المحادثات إلى مفاوضات، ولكننا لا نزال واثقين تمام الوثوق من الوصول إلى غايتنا المنشودة بفضل وضاحة حقنا، واتحاد شعبنا وتعلقه بالعرش، وتضامن الكل في المحافظة على حقوقنا المقدسة في وادي النيل بقسميه من غير أن نتخلى عن شيء منها، أو أن نقبل أو أن نعترف بأي عمل أو أمر من شأنه المساس بها. (تصفيق حاد)
وستستمرون في مساعدة الحكومة بكل جهد على حسن إدارة البلاد، وتوجيه الأمة في طريق الرقي؛ لتستزيد من احترام الأمم المتمدينة لها ومن عطفها عليها.
التوسع في الأعمال البرلمانية
ويسرني أن أرى البلاد اليوم على حالة تسمح بالتوسع في الأعمال البرلمانية توسعا طبيعيا فعالا، فالطمأنينة العامة تملأ جميع أنحاء القطر، نعم وقعت في الأشهر الأخيرة حوادث إضراب، ولكنها لم تكن سوى حوادث عادية ناشئة عن منازعات اقتصادية ومادية، لم يترتب عليها تكدير للراحة العمومية ومرت بسلام وانتهت على صورة مرضية بوجه عام.
حادثة الاعتداء والمؤامرة
أما حادثة الاعتداء التي وقعت على رئيس حكومتي، ونجاه الله من شرها واستاءت الأمة لوقوعها فلم تكن جناية اجتماعية ولا عملا ثوريا، إذ كشف التحقيق أنها جناية فردية ناشئة عن جنون شخصي.
الأحوال الاقتصادية والداخلية
والأحوال الاقتصادية جارية على منوال حسن، ولكنها قابلة للتحسين والإصلاح والحالة المالية على ما يرام، إذ الحساب العمومي الذي سيعرض عليكم يدل على تعادل تام في الميزانية وعلى وفرة المال الاحتياطي.
وقد اتخذت الحكومة التدابير لتخفيض النفقات إلى المقدار، الذي تقضي به الحاجة فعلا وعلى الأخص لمراقبة النفقات مراقبة شديدة وهذا يكفل بقاء الميزانية على ما هي عليه من الثبات؛ ولهذا الغرض تشتغل الحكومة بدرس مشروع لائحة لإنشاء نظام مستقل، يختص بمراجعة الإيرادات والمصروفات.
انتظام المصالح العامة
وجميع المصالح العامة سائرة بانتظام، وفي هذا السير المنتظم أكبر دليل على عدم صحة ما تنبأ به بعض ذوي الأغراض من أن النظام الجديد، وخروج الموظفين الأجانب من خدمة الحكومة سيفضيان حتما إلى اختلال عام في النظام، على أن التغيرات التي حدثت في خلال السنة في موظفي الحكومة، لم يكن الغرض منها إلا تقوية تلك المصالح العامة بمعاونة عناصر من الشبان الأكفاء المخلصين لخير البلاد.
لائحة للموظفين
ولما كان تطبيق نظام الدرجات الجديدة وهو عبء ثقيل خلفه الماضي، قد تم الآن بعد أن حمل الحكومة تكاليف طائلة وعناء شديدا، فقد شرعت في وضع لائحة للموظفين، والمأمول أن تساعد هذه اللائحة بما تخوله لهم من الحقوق وتفرضه عليهم من الواجبات بطريقة عادلة، على زيادة ضمان سير العمل وانتظامه.
المواصلات البرية والبحرية
ومن المصالح العامة مصلحة تستدعي من جانب الحكومة عناية تامة، وهي مصلحة السكك الحديدية التي تركت للإدارة الجديدة في حالة صعبة، خصوصا بسبب عدم تجديد مهماتها بطريقة مستقلة؛ ولهذا سيقترح عليكم اتخاذ تدابير مهمة لتحسين حالتها وتوسيع نطاقها، وضمان سيرها في التحسين والارتقاء.
وستعرض عليكم أيضا مشروعات مهمة تتعلق بالتجارة البحرية والملاحة النيلية.
الإصلاح الزراعي
إن ما أشرنا إليه في خطابنا يوم افتتاح البرلمان من حاجات البلاد يستلزم على الدوام عناية شديدة، فالزراعة عموما وزراعة القطن خصوصا الذي هو أساس ثروتنا، يجب أن نبذل لها وسائل المساعدة والتشجيع والحماية؛ ولهذا تنوي وزارة الأشغال العمومية القيام بأعمال مهمة من شأنها تحسين طرق الصرف والري في الوجه البحري، وتوفير وسائل الري في الوجه القبلي، كما وأن وزارة الزراعة تدرس الآن وتنفذ تدريجيا ما يلزم من الوسائل لمنع انحطاط نوع القطن المصري، ومقاومة الأمراض التي تفتك به وتعميم نظام التعاون، وإنشاء مراكز للتجارب الزراعية وتشجيع زراعة أصناف جديدة، وحماية المواشي والتوسع في تربيتها وتحسين نتائجها، وكذلك مساعدة صغار الزراع خصوصا فيما يتعلق بشراء البذور والأسمدة.
وزارة الأوقاف
وتشترك وزارة الأوقاف في هذه الجهود بالنسبة للأراضي التي تديرها، كما أنها تعنى بتحسين نظامها الداخلي، رغبة منها أيضا في تحسين حال المستحقين والإكثار من المنشآت الخيرية.
الحالة الصحية
والحالة الصحية العامة عادية بوجه الإجمال، بل هي سائرة في طريق التحسن سيرا بطيئا ، غير أنها ما زالت بعيدة عن الدرجة التي نود أن تكون عليها، ومما لا مندوحة عنه زيادة عدد مستشفياتنا ومستوصفاتنا، وإننا لنعلق أملا كبيرا على ما يبذله الأفراد من الجود، فقد شاركوا الحكومة قبل الآن في سبيل القيام بهذا الواجب المفروض على الجميع لوجه الله تعالى وللوطن العزيز.
وتبذل مصلحة الصحة كل جهدها في أداء مهمتها بالقدر الذي يسمح به ما لديها من الوسائل، وسيجد البرلمان البرهان على ذلك، عندما ينظر في مشاريع القوانين المهمة التي ستعرض عليه في هذا الشأن.
القضاء
وإن الحالة التي عليها إدارة القضاء قد لفتت نظر البرلمان من قبل، ولا يسع أحد أن ينكر الحاجة إلى تحسين حالة هذه الإدارة التي هي من أهم شؤون الدولة، وتقضي تلك الحاجة بزيادة عدد رجال القضاء زيادة معتدلة، وبإدخال إصلاحات توفق بين سرعة إنجاز القضايا، وتوافر جميع الضمانات اللازمة لسير القضاء سيرا سديدا عادلا.
التعليم
وإن مساعي شعبنا في تعليم الناشئة تعليما أوليا أو راقيا تزداد يوما فيوما، ويجب على الحكومة أن تقابل هذه النهضة التي تملأ جوانحي الأبوية سرورا بما تستحقه، كما أنه ينبغي عليها أن تعتني بتنظيم هذه الحركة المباركة وتوجيهها في أقوم طريق، وإن تطبيق مبدأ التعليم الإجباري الذي فرضه علينا الدستور يجب أن يقترن بإصلاح التعليم الراقي والعالي إصلاحا يصل ما انقطع من عهد النهضة العلمية العظيمة في مصر، وستعرض عليكم مشاريع مهمة تتعلق بهذا الموضوع.
الدفاع
ومن أهم واجبات الدولة توفير وسائل الدفاع عنها على أن مسألة الدفاع المسلح هي من أعظم المسائل خطورة وأكثرها تعقيدا، فالحكومة تبذل جهدها في درسها وحلها تدريجا بحذر وتؤدة واحتياط، فستزيد وحدات الجيش، وتشتغل بإنشاء ما لا وجود له الآن من الأسلحة.
مسألة السودان
إني أتأسف لأن مدة العطلة البرلمانية الماضية كانت ظرفا لحدوث صعوبات خارجية وداخلية خصوصا بالنسبة للسودان، تلك الصعوبات التي أقلقت خاطر شعبي وشغلت بال الحكومة، ولكني أحمد الله على أن خطة الحكمة والروية، التي عالجت بها حكومتي هذه الصعاب ساعدت مساعدة قيمة على حفظ حقوق مصر سالمة، وعلى استبقاء العلاقات الودية مع الدول الأجنبية.
مصر والأجانب
ولقد ظلت الجاليات الأجنبية آمنة مطمئنة في ضيافة البلاد، وهنالك بعض مسائل تجري فيها المخابرات الآن وهي مسألة الرعايا الألمان وحدود مصر الغربية والجنسيات، وأملي وطيد بأن تحل حلا مرضيا بفضل ما يسود هذه المخابرات من الود والصفاء.
وجوه الإصلاح
حضرات الشيوخ والنواب.
إن وجوه الإصلاح في بلادنا متعددة ومتنوعة ولا تنحصر فيما ذكرناه، وكلها لحياة البلاد ورفاهيتها وحسن تقدمها. والقيام بها في دور الانتقال من نظام إلى نظام حديث - وهو الدور الذي نجتازه الآن - من أشق الأمور وأصعبها، ولكن حكومتي مملوءة من الرغبة في مباشرتها، ومن العزم الصادق على تذليل ما في طريقها من العقبات، وعلى توفير ما يلزمها من الوسائل مقدمة الأهم منها على المهم معتمدة بعد الله على حكمتكم وحسن معونتكم؛ ولهذا افتتح الدور الثاني للبرلمان وأدعوكم وأنا عظيم الثقة في حسن المآل للبدء في أعمالكم، حقق الله رجائي ووفقني وإياكم لما فيه الخير العام.
وبعدئذ وقف حضرة صاحب الجلالة الملك فوقف المجتمعون جميعا فحيوا جلالته، وخرج مشيعا بالهتاف والتصفيق .
وعاد الموكب باليمن والإقبال من حيث أتى، وقد قوبل في عودته بمثل ما استقبل به أولا من مظاهر التكريم والحب والإجلال، وأطلق عند مبارحة جلالته لدار البرلمان واحد وعشرون مدفعا.
وبعد وصول جلالته إلى القصر ركب حضرات أصحاب الدولة والمعالي الوزراء، ومعالي رئيس المؤتمر وأعضاء اللجنة المنتخبة؛ لتقديم الشكر لجلالته وسارت المركبات إلى القصر الملكي، وهناك رفعوا فروض الشكر إلى جلالته على تفضله بافتتاح البرلمان.
وعادت الجنود بهيئتها وموسيقاتها وأعلامها إلى ثكناتها، وتفرقت الجموع بعد ذلك، وكان النظام تاما بهمة سكرتيري المؤتمر وموظفي مجلسيه ورجال البوليس.
جعل الله هذا الدور فاتحة خير وإسعاد للأمة والبلاد.
ترجمة حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل والزعيم المحبوب سعد زغلول باشا
مقدمة للمؤرخ
الحياة في هذا العالم المحفوف بالمكاره، الحافل بأنواع المسرات قسمان: قسم تبقى فيه شهرة الإنسان إلى الأبد، وهذه هي الحياة الدائمة، والثاني تندثر فيه أعمال الإنسان وكأنه لم يكن.
والعاقل في هذه الدنيا من يتطلب الحياة الخالدة، أما الجاهل فما أشد شغفه بالمظاهر الدنيوية الفانية من ملاذ واستمتاع، وليس من السهل وجود الشهرة لفرد من الأفراد، وما كانت الحياة الخالدة في العالم بمقدورة لكل الجماعات والأفراد؛ لأنها لا توجد عفوا ولا تطلب من غير تعب، وإننا ما سمعنا ولا رأينا في كتب الأولين وأخبار المتأخرين أن بطلا من مشاهير الأمم نال شهرته عفوا واستحق إعجاب أمته من غير نصب وجهاد.
وها هو صاحب الدولة سعد باشا زغلول زعيم الأمة المصرية، وموضع أملها، وروح نهضتها ووثوبها ما نال شهرته التي طبقت أقطار الأرض، وسارت مسير الشمس من غير عناء، وإنما بإقدامه في ساعة الإحجام وبكفاءته وهمته، وصدق إخلاصه نال البطولة، واستحق الحياة الخالدة وتولى زعامة قومه بعزيمته الماضية، وجهاده المتواصل في سبيل استقلال بلاده وأصبح لسان أمته الناطق، وفؤادها الخافق، وترجمانها المترجم عن عواطفها وأغراضها، وما زال يجاهد في تحرير وطنه، واستقلال شعبه حتى تلاشت شخصيته بين عوامل وطنيته، وعلت روحه عن هذا العالم المتقيد بقيود العبودية إلى سماء الحرية العالية.
رسم وتاريخ حياة صاحب الدولة الجليل سعد باشا زغلول رئيس وزراء الحكومة المصرية سابقا ورئيس الوفد المصري (تصوير هنزلمان).
هذا ولا يختلف اثنان أن سعد باشا أبلغ من كتب، وأقدر من خطب، وأعلم الناس بدخائل السياسة وضروبها، وأساليبها وألاعيبها، حلوها، ومرها، خيرها وشرها، وإننا مهما دونا فلا يمكننا أن نوفيه حقه بل لاحتجنا إلى عدة مجلدات، وإننا الآن نكتفي بتاريخ حياته العظيمة، وأعماله الناصعة البيضاء، وموعدنا بذكر باقي أعماله الجليلة، ومجهوداته العظيمة، الجزء الثاني إن شاء الله.
مولده ونشأته
ولد سعد باشا في بلدة إبيانه مركز فوه غربية سنة 1860م، ولما بلغ من العمر السادسة من عمره دخل مكتب البلد، وظل فيه خمس سنوات تلقى فيها القراءة والكتابة، ثم ذهب إلى دسوق لتجويد القرآن، ثم جاء إلى القاهرة ودخل الأزهر الشريف، ومكث فيه خمس سنوات تلقى فيها جميع العلوم على أفاضل علمائه كالمرحوم الشيخ حسن الطويل، وكان السيد جمال الدين الأفغاني العالم الكبير العظيم بالقاهرة وقتها، فسرعان ما تعرف به وبتلاميذه كالمرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، الذي حضر عليه «القطب على الشمسية» في المنطق، كما حضر عليه درسا في التوحيد فلم ير في حداثة عمره كما لم ير في كبر سنه بابا للعلم إلا وقصده ولا سبيلا للمعرفة إلا وطلبه.
ولما علم لذوي الشأن سبقه كما عرف للناس من قبل علمه وفضله بما كان يكتبه باسمه يومئذ في الصحف، كجريدة مصر والمحروسة والبرهان والتجارة من المقالات البليغة عين محررا بالوقائع المصرية سنة 1881م مع المرحوم الشيخ محمد عبده، الذي كان رئيس تحريرها سنة وبضعة أشهر.
ولقد كان ينشر الرسائل الواردة بنصها، ثم ينبه على الخطأ منها، وينتقد أحكام المحاكم الملغاة، ويلخصها حيث عهد إليه ذلك كما كان يكتب بتوقيعه مقالات في الاستعباد والشورى والأخلاق؛ لأنها كانت غير قاصرة على القسم الرسمي كما هو الحال الآن، ولم تقيد حريته من الصغر وظيفته كما لم يستهوه منصب ولا مال، ثم عين بعد ذلك سنة 1883م معاونا في الداخلية فناظرا لقلم قضايا الجيزة، الذي لم يمكث فيه إلا أسابيع، وقامت الثورة العرابية فاتهم بأنه من أتباع المرحوم الشيخ محمد عبده ففصل من وظيفته، واتهم بالاشتراك في جمعية سرية باسم جمعية الانتقام، ولكن إدانته لم تثبت بعد التحقيق، وفي سنة 1884م قيد اسمه في محكمة مصر محاميا، فنهض بالمحاماة ورفع من قيمتها والناس إلى الجهل أقرب منهم إلى العلم بها، فكان فيها نصير الحق والمظلومين، ونبراس القضاء والمحامين، وحجتهم في القول ومرجعهم في المشكلات.
وهو أول محام تعين قاضيا؛ ولهذا أقيمت له حفلة تكريم كبرى حضرها رئيس محكمة الاستئناف أحمد بليغ باشا، ووكيلها إسماعيل صبري باشا والأفوكاتو العمومي أحمد حشمت باشا، وغيرهم من أفاضل الأمة وأدبائها وكبرائها، ومما يذكر عنه أنه مكث ساعات يدافع عن متهم، فقال له أحد القضاة: إن الوقت ثمين فأجابه على البداهة «ولكن حياة المتهم أثمن».
ولقد تعلم في هذه المدة الفرنسية حتى كاد يعد من أبنائها، وصار من أدبائها ونبغائها، وفي سنة 1892م اختارته محكمة الاستئناف مستشارا من أول الأمر؛ لأن أصحاب المواهب العالية تخطبهم العلياء.
ولما كانت مسألة الكفاءة بغير الشهادات أمرا من الأمور، التي لا يزال مشكوكا فيها عند البعض كذبها الواقع أو صدقها دخل سعد باشا الامتحان في القوانين باللغة الفرنسية، ونال شهادة «الليسانس» وهو قاض في الاستئناف بعد أن جلس مجلس الطالب؛ لأن علو النفس يتطلب دائما الكمال والعلا، وفي سنة 1907م عين وزيرا للمعارف.
تولى سعد باشا وزارة المعارف فأقام فيها صرحا من الإصلاح إذا كانت تعلم العلوم في المدارس بغير لغة البلاد، ولما كان حفظ الأمة بحفظ لغتها وتعليم العلوم بغير لغة الإنسان لا يمكنه من الوقوف على حقائقها جعل تعليم العلوم بلغة الشعب، وأوجد قلما للترجمة والنشر من خير المترجمين.
ولقد كتبت جريدة التيمس الإنجليزية في عام 1906م عن صاحب الترجمة ما ملخصه:
هو من شيعة المرحوم محمد عبده الذين امتازوا بالارتقاء والتهذيب، وهم الذين سماهم اللورد كرومر فريق «الجيروند» في النهضة الوطنية المصرية، وهو مصري عريق في وطنيته أجمع الناس على إكرامه والإعجاب به؛ لما اشتهر عنه من الاستقامة والاستقلال «والجيروند» ويقولون: بالملكية الدستورية.
ثم تولى بعد ذلك وزارة الحقانية والبلاد مسممة بجريمة تسميم الحيوانات، وإتلاف المزروعات فضرب على أيدي هؤلاء العابثين بالأرواح والمال، بجعل هذه الجرائم جنايات، بعد أن كانت جنحا ليس لها من قوة الردع والزجر ما فيه الاعتبار والإقلاع عن ارتكاب الإثم.
فكان في كل أعماله مثالا للحكمة والهمة والجد في الأعمال، ومما هو جدير بالذكر ما تنبأ به لورد كرومر، إذ قال في خطبة وداعه:
وأذكر أخيرا أيها السادة اسم رجل لم أشتغل معه إلا من عهد قريب، لكن معاشرتي القصيرة له قد علمتني أن أحترمه احتراما عظيما، وإن أصاب ظني أو لم يخطئ كثيرا، فسيكون أمام ناظر المعارف الجديد سعادة سعد باشا زغلول مستقبل عظيم للمنفعة العمومية؛ لأنه حائز لجميع الصفات اللازمة لخدمة بلاده، فهو صادق مستقيم كفء مقتدر شجاع فيما هو مقتنع به، وقد احتمل الطعن والذم من كثيرين دونه فضلا بمراحل من أبناء وطنه، فهذه صفات سامية، فالواجب أن صاحبها يتقدم كثيرا.
ولما اعتزل الحكومة لسقوط وزارة محمد باشا سعيد عام 1913م، انتخب وكيلا للجمعية التشريعية عن الأمة مع وكيل ثان عن الحكومة، فكانت حياته النيابية مبدأ عصر جديد، فكم له من مواقف مشهورة، وأعمال مذكورة فقد كان لسان الجمعية وروحها وعلمها الفرد، ورجلها الفذ، ولقد كانت تهتم الصحف العربية والإفرنجية بنشر أعماله وأحاديثه بوجه خاص.
ومن كلماته في الجمعية التشريعية والإصلاح:
إذا كانت الحكومة تريد أن تكون الجمعية التشريعية مكتب تسجيل لقوانين الحكومة وأوامرها، فأنا بصفتي مصريا محبا لبلادي أفضل ألا يكون لمثل هذه الجمعية أثر في الوجود، نعم إن حق الجمعية في التشريع حق ضعيف جدا كما يقولون؛ ولهذا نستصرخكم يا حضرات النظار ألا يزيدوه بقوتكم ضعفا على ضعف.
لو كنتم مسئولين أمامنا كما تسأل الحكومات في أوربا أمام برلمانها لحاسبناكم على أعمالكم، ولكننا قوم ضعاف لم يقسم لنا الحظ ما قسم للأقوام الأقوياء، فكل ما نستطيع أن نقوم به أمامكم هو أن نسألكم لا أن نحاسبكم، كل تقييد للحرية لا بد أن يكون له مبرر من قواعد الحرية نفسها، وإذا كان الشيء واضحا كان البحث فيه موجبا لغموضه، وإذا أردنا أن نحدد معنى الضوء والظلام انتهى بنا الأمر إلى ألا نعرف معناهما، لا يفوتكم أن تحتجوا على كل أمر ترون أن فيه مخالفة للقوانين مهما كان صغيرا في نظركم، فربما كان لهذا الأمر الصغير علاقة في المستقبل بأمر كبير فيتخذ سكوتكم في هذا حجة عليكم في ذلك.
لم يطل عهد انعقاد الجمعية التشريعية؛ لتعطيلها إثر نشوب الحرب الكبرى وإعلان الأحكام العرفية في البلاد، فأراد سعد باشا أن يشغل نفسه بتعلم اللغة الألمانية، وهو في العقد السادس من حياته، ولم تكد تعقد الهدنة على شروط ولسن التي جاء فيها «لكل شعب حق تقرير مصيره»، حتى ذهب إلى دار الحماية في 13 نوفمبر سنة 1918، ومعه علي باشا شعراوي وعبد العزيز بك فهمي بصفتهم وفدا عن الأمة يرؤسه ؛ لتبليغ الحكومة الإنجليزية أماني الشعب المصري، واستصدار أمر بالسفر إلى أوربا لحل المسألة المصرية في وقت لم يتقدم فيه فرد ولا حزب ولا جماعة أخرى، فرفضت الحكومة الإنجليزية الإذن بالسفر، فتوالت الاحتجاجات وكثرت الاجتماعات، فصدر أمر في 8 مارس من السنة المذكورة بنفي سعد باشا وأتباعه إلى مالطة، فحدثت المظاهرات والثورة المعرفة في البلاد إلى أن أفرج عنهم في 7 أبريل سنة 1919، فسافر سعد هو وأتباعه إلى باريس باسم الوفد المصري للعمل على تخليص البلاد من يد الأجنبي في مؤتمر الصلح، فماذا رأى فيها؟
رأي سياسة الجفاء، ووجوه الإنكار والإغضاء، وهكذا تحابي الدول الدول كما تحابي الأفراد الأفراد، لكن هذا لم يفت في عزمه الحديدي ولا إرادته الصادقة على شيخوخته وكبر سنه علما بأن الحق لا بد أن يصرع الباطل يوما ما، ولما سافر الوفد ونشر الدعوة في أوربا وأمريكا في كبريات الصحف الإفرنجية، وبين أحرار الأمم أزعج ذلك إنجلترا وأقلقها فمدت يدها إليه تصافحه، وأرسلت إليه تدعوه للحضور بلندن للاتفاق معه.
شيء لم يسبق له نظير من قبل، فكان ذلك أول فاتحة لقضيتنا، واعتراف من القوة بالحق، بل أول مرة من نوعها بين إنجلترا العظيمة ومصر الضعيفة، ولما دخل الوفد لندن استقبل استقبالا عظيما من المصريين النازلين بها، وكانت عظمة سعد باشا النفسية أكبر من أن تؤثر عليها مظاهر الاحتفال والاحتفاء به، ومن ثم أخذ يواصل السعي والعمل لحل المسألة المصرية على وجه يكفل سلامة البلاد، ويحقق لها حقيقة الاستقلال حتى كان لا يعرف للراحة وقتا، ولا لليأس من قلبه مكانا، ولما كانت القوة في جانب الحق، والحق في جانب آخر لم يكن هناك أمل في اتفاق صحيح، فانقطعت المفاوضات، ورجع الوفد إلى باريس لتجديد دعوته ونشر مطالبه، وفي أثناء ذلك تشكلت الوزارة العدلية، ونشرت برنامجها للأمة ووعدت بأنها تتمشى مع الوفد ورغبات الأمة، فحضر سعد الصادق العزيمة المخلص والمحب لبلاده قبل كل شيء فاستقبل استقبالا عظيما جدا من جميع الطبقات، حتى الجاليات الأجنبية بما لم يسبق لأحد من قبله؛ اعترافا بإخلاصه، وتقديرا لمجهوداته، وأصبح محل إعجاب الشيوخ والرجال، وأنشودة الشباب والأمهات في جميع أناشيدهم وأغانيهم، وصارت صورته الكريمة مطبوعة في القلوب كما طبعت على البطاقات والخطابات والكتب والمجلات والصحف والأواني، وزينت بها الدور، وكل ما يتناول تقريبا في أيدي الناس حتى اندمجت الأمة في سعد وسعد في الأمة، ولم يكن سعد باشا ممن يملكون ألوف الأطيان ولا رءوس الأموال مما ساعد على تكوينه وظهوره، ولكن فطرته الصحيحة هي أصله، ومادته، وقوته، وشرف حياته العظيمة، ولقد رأت السلطة في البلاد نفيه ثانيا إلى عدن، ومنها إلى جزيرة سيشل.
ولقد كتبت جريدة الديلي نيوز الإنجليزية تحت عنوان «بطل مصر المنفي» ما يلي:
كان سعد زغلول باشا دائما في طليعة الحركات الوطنية المصرية، فقد اشترك وهو شاب في حركة عام 1882م الوطنية، ولاقى نصيبه من الاضطهاد في سبيل تحرير وطنه، إذ سجن مدة في ثكنة قصر النيل التي سجن فيها وهو زعيم الأمة قبل نفيه إلى مالطة، وبينما كان استقلال مصر يعلن إذ بسعد باشا منفي في جزيرة منعزلة بالمحيط الهندي ، ولعل هذا هو الذي قضى على التأثير الذي كان ينتظر من إعلان الاستقلال.
والظاهر أن السلطات الإنجليزية التي ظلت أربعين عاما تعلن اهتمامها بالفلاحين المصريين، هذه الطبقة المجدة المفتونة بالسلام؛ لا تزال تثقل كاهل الشعب المصري بنير الحكم البروقراطي الذي يعتبره زغلول باشا «رجل الشعب»، وبطل قضيته؛ من ألد أعدائه، ولعل هذا هو السر في الموقف الذي وقفته الأمة يوم إعلان الاستقلال المصري!
إن الحركة المعروفة الآن «بالزغلولية» هي الحركة الوطنية التي أصبح سعد زغلول رمزها، وقد حققت الأيام تكهن اللورد كرومر، حينما أطراه في خطبة الوداع السالف ذكرها في هذه الترجمة.
وقد كان لانتصار الزغلولية التي لا تزال منتصرة في مصر الفضل في اعتراف بريطانيا العظمى باستقلال مصر، ولو أن بعض السحب قد عكرت مؤقتا هذا النصر، فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الفضل راجع إلى آراء سعد باشا.
ولم نكد نأتي على هذه الكلمة حتى ظهرت نتيجة الانتخابات الساحقة، فكان نجاح السعديين زهاء 95٪ في المئة فأثر هذا الفوز في سياسة البلاد تأثيرا كبيرا، وقد صرح دولة سعد باشا أن من الواجب على رئيس الوزارة يحيي باشا، الذي لم يفز في الانتخابات أن يستقيل، وما كاد هذا التصريح ينشر في الصحف، حتى اجتمعت الوزارة الإبراهيمية، وقررت أن ترفع استقالتها لحضرة صاحب الجلالة، مولانا الملك فأرجأ جلالته البت فيها حتى يعود بسلامة الله من زيارته للقنال، ولما عاد قبل الاستقالة واستدعى إليه دولة سعد باشا زغلول لتأليف الوزارة مع إسناد الرئاسة العظمى إليه؛ ولأن نواب الأمة بالإجماع قد قرروا في حفلتهم لتكريم الزعيم دعوته لقبول الوزارة، وقد صرح بذلك دولة محمد سعيد باشا في خطبته، فلم ير الرئيس بدا من القبول مع زهده في مناصب الحكومة إذعانا لمشيئة الأمة الممثلة في نواب برلمانها، وقد لبث سعد باشا أياما يستطلع رأي زواره من كبار الأمة من جميع الطبقات ليبني عليها قبوله أو رفضه، حتى أسفرت النتيجة عن القبول، فقصد قصر عابدين وعرض على جلالته قبول رئاسة الوزارة، ووزارة الداخلية مع أسماء حضرات أصحاب الدولة والمعالي زملائه الوزراء، الذين اختارهم للعمل معه، وجلهم من أعضاء الوفد المصري وأعضاء البرلمان، الذين عرفوا بصدق وطنيتهم وبتضحيتهم الغالية، وهم حضرات أصحاب الدولة والمعالي محمد سعيد باشا وزير المعارف ومحمد توفيق نسيم باشا وزير المالية وأحمد مظلوم باشا وزير الأوقاف، وفتح الله بركات باشا وزير الزراعة، وحسن حسيب باشا وزير الحربية والبحرية، ومرقص حنا باشا، وزير الأشغال ومصطفى النحاس باشا وزير المواصلات، وواصف غالي باشا وزير الخارجية، ومحمد نجيب الغرابلي باشا وزير الحقانية، وكان ذلك في 28 يناير سنة 1924م.
دولة سعد باشا زغلول بالملابس الرسمية (تصوير المسيو شارل).
وما كاد يذاع النبأ في طول البلاد وعرضها وينشر البيان التاريخي الذي بني عليه قبول دولته للوزارة مع احتفاظه برئاسة الوفد، حتى سرت روح الحياة والاستبشار في القطر وتألفت الوفود من الأقاليم، وأقبلت للتهنئة رغم إعلان دولته رسميا للمديرين والمحافظين بأن لا يكلفوا أحدا بالحضور للتهنئة، وأن يكتفى بإرسال البرقيات أو التهنئات البريدية، وكأنما كان هذا داعيا لزيادة ثقة الأمة وحبها لزعيمها فأقبلت الوفود تترى وتألفت المظاهرات الكبرى، ورفعت الأعلام في كل مكان، وأصبح ما بين عابدين وبيت الأمة تيار لا ينقطع من المواكب والوفود والأعلام زهاء الأسبوع.
ولقد بدأت الوزارة السعدية أعمالها بحفظ كرامة البلاد، وافتتحت عهدها بإطلاق سراح المسجونين السياسيين الذين ذهبوا ضحية السلطة العسكرية، وكان في مقدمتهم البطل عبد الرحمن بك فهمي، بعد أن تعب رؤساء الحكومة السابقون في إطلاق سراحهم فلم يفلحوا.
ومن مآثرها أيضا حفظ كرامة مصر في آثار الملك توت عنخ آمون، والحرص على آثار أجدادنا التي كان يتصرف فيها المستر كارتر الإنجليزي، كما يشاء، ذلك الموقف الذي ستخلده الأمة في بطون التاريخ لسعد وصحبه بالشكر والثناء.
سفر دولته إلى لندن والاعتداء عليه بمحطة القاهرة
وقد دعي دولة الرئيس الجليل إلى الذهاب للندن للمباحثات مع المستر مكدونلد رئيس وزارة الحكومة الإنجليزية، بناء على دعوة منه فيما يختص بالمسألة المصرية؛ ولتحقيق مطالب الأمة في استقلالها التام لمصر والسودان، وهذا ما أخذه على عاتقه من قبوله رئاسة الوزارة، وفعلا حدد لسفره يوم السبت 12 يوليو سنة 1924؛ ليتشرف أولا بمقابلة جلالة الملك المعظم بالإسكندرية، وتقديم واجب التهنئة والتبريك بعيد الأضحى المبارك، وكانت محطة العاصمة قبيل هذا الميعاد مزدحمة بجمهور كبير من حضرات العلماء وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب والوزراء وكبار الموظفين، وغيرهم ممن اعتزموا السفر بهذا القطار إلى الإسكندرية لهذا الغرض نفسه عدا الذين كانوا فيها من المودعين، والذين جاءوا خصوصا لتوديع حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل، وحضرات أصحاب المعالي الوزراء، وكان رجال البوليس مصطفين في جوانبها من الباب الخارجي إلى آخر الرصيف، الذي يسافر منه القطار إلى الإسكندرية وفي نحو الساعة 7 والدقيقة الثامنة صباحا أقبل حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل، ومعه حضرات أصحاب الدولة والمعالي والوزراء، فحياه المجتمعون بالهتاف والتصفيق المتواليين، ودخل دولته بين هذه المظاهر إلى الرصيف الذي يسافر منه القطار إلى الإسكندرية، وكان الصالون الملحق بهذا القطار لدولته والذين معه في مقدمته، فلم يكد دولته يتجاوز في الرصيف مركبات الدرجتين الثالثة والثانية، ويحاذي أول مركبة من مركبات الدرجة الأولى حتى برز له من بين الجماهير من الجهة اليمنى شاب بدين الجسم ببدلة كحلية اللون، وأطلق على دولته رصاصة من مسدس معه، وهم أن يثني بأخرى، ولكن أيدي الذين حوله كانت أسبق إليه من فكره، فغلت يده وأخذوا بتلابيبه وأوشكوا أن يقضوا عليه، لولا إسراع رجال الحفظ الذين خلصوه منهم، وأدخلوه إلى مركبة من مركبات القطار وحافظوا عليه فيها.
وقد لوحظ أن الرصاصة التي أطلقت على دولة الرئيس الجليل أصابته في الساعد الأيمن وجرحته، ولكنه كان رابط الجأش وقد خاطب الذين حوله قائلا: «نموت ويحيى الوطن، ولكن ما كنت أتوقع أيها الإخوان أن تقع هذه الجريمة علي من وطني وفي أرض الوطن».
ثم قدم له الحاضرون كرسيا فجلس عليه في الرصيف، وجاء فريق من السيدات الأجنبيات فروحن عليه بمراوحهن، ودولته يبتسم ويشكر لهن هذا الصنيع، ثم أدخلوه إلى غرفة الضابط القضائي فوق الرصيف نفسه، وجاء الممرضان اللذان بالقسم الطبي التابع لمصلحة السكة الحديد الأميرية ، فنزعا ملابسه وعملا له الإسعافات الوقتية بحضور حضرات أصحاب الدولة، والمعالي الوزراء وغيرهم من كبار الموظفين، وقد ظهر لهم أن الرصاصة التي أطلقت على دولته مرت بالذراع الأيمن فيما يلي الأبط، ومست الثدي الأيمن، ومن ثم استحضرت سيارته الخصوصية، وأقلته إلى مستشفى الدكتور بابايوانو، وقبل أن ينقل دولته إلى سيارته في محطة القاهرة التفت إلى الجماهير المحتشدة حوله، وقال لهم بصوت جمهوري وهو يتبسم: «أشكركم أشكركم إن حالتي والحمد لله بسيطة لا تستدعي القلق»؛ ولعدم استيفاء راحته التامة في هذا المستشفى اكتفى بالاستراحة بضع دقائق، ووافته إليه حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة حرمه المصون، وقابلته متجلدة فابتسم وخاطبها بما معناه: «لا تجزعي فالحالة بسيطة لا تستدعي الجزع»، ثم انتقل بسيارته إلى مستشفي الدكتور علي إبراهيم رامز بك في منيل الروضة، وتولى فحصه والعناية به فيه حضرة الدكتور المشار إليه، ومعه الدكتور مادن والدكتور حسن كامل مجتمعين، ثم أذاعوا في الساعة التاسعة صباحا التقرير الطبي ؛ ليطمئن الشعب المصري الساخط على هذا العمل الدنيء، أما الجاني الأثيم فاتضح أن اسمه عبد الخالق عبد اللطيف وهو من طلبة الطب في برلين، وأصله من فارسكور بمديرية الدقهلية، ويبلغ من العمر الحادية والعشرين في ربعة القامة غليظ مؤخرة العنق بشكل يدل على العتو والغلظة، وقد حضر من برلين إلى مصر يوم 2 يوليو سنة 1924، وسعى ثلاث مرات لدى مدير مكتب دولته في مقابلته فلم يمكنه من ذلك، فلما أخفق من تحقيق أمنيته اغتنم فرصة سفره إلى الإسكندرية وارتكب جريمته هذه.
سعد باشا زغلول بالمستشفى (تصوير رياض أفندي شحاته).
وما كاد يذاع نبأ هذا الاعتداء الفظيع الوحشي على دولته، ويتصل خبره بمسامع جلالة مولانا الملك المعظم فؤاد الأول، حتى أمر جلالته بإلغاء تشريفات عيد الأضحى وأوفد في الحال كبير أمنائه حضرة صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار وطبيبه الخاص سعادة محمد شاهين باشا للاستفسار عن صحة دولته، وإبلاغه أسف جلالته على هذا الحادث مع عطف جلالته السامي، وتعطفت صاحبة الجلالة الملكة فأوفدت حضرة صاحب السعادة باشا أغا السراي الملكية إلى حضرة صاحبة العصمة حرم الرئيس للاستفسار عن صحة دولته وإبلاغها تمنيات جلالتها بعاجل الشفاء، وقد انهالت الرسائل البرقية من عموم رؤساء الوزارات الأوربية على القطر المصري، وجميعها يعرب عن شديد استيائها من وقوع هذا الحادث السيئ.
سعد زغلول باشا بعد خروجه من المستشفى.
وبعد أن أبل دولة الرئيس من مرضه وقصد الخروج من المستشفى إلى بيت الأمة، بعد أن مكث فيه ستة أيام بكر الشعب المصري الكريم إلى السرادق الكبير المقام في جوار بيت الأمة، وأتت الوفود من عظماء الأمة من النواب والشيوخ ورجال القضاء والنيابة، وتقدمت الوفود بين يدي الرئيس الجليل وخطب خطباؤها، وأنشد الشعر الجيد شعراؤها فكان لأقوالهم موقع استحسان عظيم من جانب دولته، وجميع الحاضرين ومن خير ما تفرد بالإجادة في البيان تلك الخريدة الشوقية، التي جادت بها قريحة حضرة صاحب السعادة أمير الشعراء أحمد بك شوقي، بل هي معجزة من معجزات شعره، تلتقي فيها الروعة والإبداع المرة بعد المرة في البيت تلو البيت، وهي كما يراها القارئ ديباجة صافية؛ لأنها من سريرته؛ ومعان علوية لأنها من خاطره وحكمة ملهمة؛ لأنها من شاعريته، قال حفظه الله:
نجا وتماثل ربانها
ودق البشائر ركبانها
وهلل في الجو قيدومها
وسير في الماء سكانها
1
تحول عنها الأذى وانثنى
عباب الخطوب وطوفانها
نجا (نوحها) من يد المعتدي
وضل المقاتل عدوانها
يد للعناية لا ينقضي
وإن نفد العمر شكرانها
وفي الأرض شر مقاديره
لطيف السماء ورحمانها
ونجى الكنانة من فتنة
تهددت النيل نيرانها
يسل على قرن شيطانها
عقيق الدماء وعقيانها
فيا سعد جرحك ساء الرجا
ل فلا جرحت فيك أوطانها
وقتك العناية بالراحتي
ن، وطوق جيدك إحسانها
منايا أبى الله إذ ساورت
ك فلم يلق بابنيه ثعبانها
حوت دمك الأرض في أنفها
زكيا كأنك (عثمانها)
ورقت لآثاره في القمي
ص، كأن قميصك قرآنها
وريعت كما ريعت الأرض في
ك نواحي السماء وأعنانها
ولو زلت غيب (عمرو) الأمو
ر، وأخلى المنابر (سحبانها) •••
رماك على غرة يافع
مثار السريرة غضبانها
وقدما أحاطت بأهل الأمو
ر ميول النفوس وأضغانها
تلمس نفسك بين الصفو
ف ومن دون نفسك إيمانها
يريد الأمور كما شاءها
وتأتي الأمور وسلطانها
وعند الذي قهر القيصري
ن مصير الأمور وأجانها
ولو لم يسابق دروس الحيا
ة لصار إلى الرشد لقمانها
فإن الليالي عليها يحو
ل شعور النفوس ووجدانها
ويختلف الدهر حتى يبي
ن رعاة العهود وخوانها •••
أرى مصر يلهو بحد السلا
ح ويلعب بالنار ولدانها
وراح بغير مجالي العقو
ل يجيل السياسة غلمانها
وما القتل تحيا عليه البلا
د ولا همة القول عمرانها
ولا الحكم أن تنقضي دولة
وتقبل أخرى وأعوانها
ولكن على الجيش تقوى البلا
د وبالعلم تشتد أركانها
فأين النبوغ؛ وأين العلو
م وأين الفنون وإتقانها
وأين من الخلق حظ البلا
د إذا قتل الشيب شبانها
وأين من الربح قسط الرجا
ل إذا كان في الخلق خسرانها
وأين المعلم؟ ما خطبه؟
وأين المدارس؟ ما شأنها؟
لقد عبثت بالنياق الحدا
ة ونام عن الإبل رعيانها
إلى الخلق أنظر فيما أقو
ل وتأخذ نفسي أشجانها
ويا (سعد) أنت أمين البلا
د قد امتلأت منك أيمانها
فإن شئت فاوض، وإن شئت دع
فأنت الحقوق وميزانها
ولن ترتضي أن تقد القنا
ة ويبتر من مصر سودانها
وحجتنا فيهما كالصبا
ح وليس بمعييك تبيانها
فمصر الرياض وسودانها
عيون الرياض وخلجانها
وما هو ماء ولكنه
وريد الحياة وشريانها
تتمم مصر ينابيعه
كما تمم العين إنسانها
وأهلوه منذ جرى عذبه
عشيرة مصر وجيرانها
وأما الشريك فعلاته
هي الشركات وأقطانها
وحرب مضت نحن أوزارها
2
وخيل خلت نحن فرسانها
وكم من أتاك بمجموعة
من الباطل، الحق عنوانها
فأين من (المنش) (بحر الغزا
ل) وفيض (نيانزا) وتهتانها
وأين التماسيح من لجة
يموت من البرد حيتانها
ولكن رءوس لأموالهم
يحرك قرنيه شيطانها
ودعوى القوي كدعوى الس
باع من الناب والظفر برهانها
وقال أيضا حضرة الشاعر البليغ المجيد حافظ بك إبراهيم قصيدته العامرة في الحفلة، التي أقامها نواب مصر وشيوخها لرجل الكنانة ومعقد رجائها:
الشعب يدعو الله يا زغلول
أن يستقل على يديك النيل
إن الذي اندس الأثيم لقتله
قد كان يحرسه لنا جبريل
أيموت سعد قبل أن نحيا به
خطب على أبناء مصر جليل
يا سعد إنك أنت أعظم عدة
ذخرت لنا نسطو بها ونصول
فاوض ولا تخفض جناحك ذلة
إن العدو سلاحه مفلول
فاوض وأنت على المجرة جالس
لمقامك الإعظام والتبجيل
فاوض فخلفك أمة قد أقسمت
ألا تنام وفي البلاد دخيل
عزل ولكن في الجهاد ضراغم
لا الجيش يفزعها ولا الأسطول
ومنها أيضا:
يا سعد أنت زعيمنا ووكيلنا
وعليك بعد مليكنا التعويل
فادفع وناضل عن مطالب أمة
يا سعد أنت إمامها المسئول
النيل منبعه لها ومصبه
ما إن له عن أرضها تحويل
وثقت بك الثقة التي لم ينفرد
للريب منها والشكوك سبيل
جعلت مكانك في القلوب محبة
هل بعد ذاك على الولاء دليل
كادت تجن وقد جرحت وخانها
صبر على حمل الخطوب جميل
لم يبق فيها ناطق إلا دعا
لك ربه ودعاؤه مقبول
يا سعد كاد العيد يصبح مأتما
الدمع فيه أسى عليك يسيل
لولا دفاع الله لانطوت المنى
عند انطوائك وانقضى التأميل
شلت أنامل من رمى فلكفه
حز المدى ولكفك التقبيل
هذا وسامك فوق صدرك ما له
من بين أوسمة الفخار مثيل
حليته بدم زكي طاهر
في حب مصر مصونة مبذول •••
يا أيها النشء الكرام تحية
كالروض قد خطرت عليه قبول
يا زهر مصر وزينها وحماتها
مدحي لكم بعد الرئيس فضول
جدتم لها بالنفس في ورد الصبا
والورد لم ينظر إليه ذبول
كم من سجين دونها ومجاهد
دمه على عرصاتها مطلول
سيروا على سنن الرئيس وحققوا
أمل البلاد فكلكم مأمول
أنتم رجال غد وقد أوفى غد
فاستقبلوه وحجلوه وطولوا
وكأن أهل القاهرة ومن لم يزل فيها من أعضاء الوفود، التي قدمت من المحافظات والأقاليم؛ لتهنئة دولة الرئيس الجليل بنجاته وشفائه على بينة من أن دولته اعتزم السفر صبيحة يوم الثلاثاء 21 يوليو سنة 1924م إلى الإسكندرية؛ ليقوم بواجب الشكر للسيدة الملكية، كما كانوا على بينة من أن دولته سيستأنف السفر من الإسكندرية مباشرة إلى الأقطار الأوربية للاستشفاء، حتى بكر الجميع إلى الشوارع التي تقرر أن يسير فيها دولته إلى محطة العاصمة، فاصطفوا على جوانبها صفوفا متلاحمة، وقد بدت على كل فرد منهم علامات الاهتمام واليقظة، كأنما كل فرد من هذه الألوف العديدة كان يعتقد أنه مسئول شخصيا عن سلامة الزعيم، وأنه مكلف بالمحافظة على الأمن وحسن النظام، وفي الساعة 7 و40 دقيقة برح دولة الرئيس بيت الأمة في مركبته الخاصة، وعلى يساره صاحب المعالي محمد نجيب الغرابلي باشا وزير الأوقاف وقتئذ، فتقدمت مركبته وأحاطت بها، وتبعتها كوكبات من جنود البوليس الراكبة بقيادة ضباطها، وتبعتها كذلك ثلاث سيارات تنقل بعض الكبراء والسكرتيريين.
ولم يكد دولته يظهر للجماهير بباب بيت الأمة، ويركب مركبته حتى دوى شارع سعد باشا زغلول بهتاف حاد وتصفيق شديد، وارتفعت الأصوات بصالح الدعوات، فكان لذلك تأثير بليغ ظهرت أمارته السارة على محياه الوضاء، وفي الساعة 8 و10 دقائق تحرك الطائر الميمون وسط دعاء حاد، وهتاف عال امتزجت فيه أصوات الرجال القوية بأصوات السيدات الرخيمة، وما كاد القطار يصل إلى محطة الإسكندرية حتى كانت المدينة في حالة غير عادية، حيث قامت مظاهرات لا يحصى عددها، وكانت تتدفق كلها إلى محطة سيدي جابر، وفي كل حي من أحياء المدينة حفلات خاصة لا تحصى أقامها الناس للاجتماع، وتهنئة بعضهم بعضا بشفاء دولة الزعيم الأكبر، ولقد يطول بنا المقال إذا خطر لنا أن نصف طرفا من الحفاوة، التي لقيها دولته من الجماهير العديدة أثناء مسيره إلى أن بلغ كازينو سان استفانو، وبعد أن أخذ راحته فيه من وعثاء السفر توجه، وحضرات أصحاب الدولة والمعالي الوزراء إلى قصر المنتزة، حيث قدم لجلالة المليك المعظم واجب الشكر على ما أبداه من العطف بمناسبة الاعتداء الذي وقع عليه، فلاقى من جلالته كل عطف، مما أطلق لسانه بالشكر والثناء والدعاء بحفظ جلالته من كل سوء، وعاد إلى الكازينو ممتلئا بشرا وارتياحا.
ومما يستحق تدوينه هنا بمداد الإعجاب لجلالة المليك المعظم ما قاله للوفد البرلماني، الذي تشرف بمقابلة جلالته لرفع واجب الشكر على عطفه نحو الرئيس، حيث قال حفظه الله وهو يبتسم:
إن خطباءكم سيخطبون غدا، ولا شك أن سعد باشا سيخطب كذلك والكلام يتعبه فسأوفد كبير أمنائي لأن يرجو منه ألا يطيل؛ لأن الكلام يتعبه وصحته أثمن شيء في الدولة.
ولا شك أن هذه العاطفة السامية والحنان الأبوي الصادران من جلالة مليك البلاد لأكبر دليل على ما لحضرة صاحب الدولة الزعيم الجليل من المنزلة العالية لدى جلالته.
هذا ولما تقرر سفر الرئيس الجليل على الباخرة لوتوس كان في انتظاره إلى دار الترسخانة جمهور عظيم، وكانت تحف به كوكبة من جنود البوليس الراكبة يبلغ عددها 40 راكبا، فلما مر أخذ الجمهور يصفق له ويهتف حتى وصل، وقد أعدت لجنة الوفد سرادقا كبيرا لاستقبال المدعوين، ومكانا آخر لدولته وصحبه وزملائه، فدعي الرئيس إلى الجلوس في ذلك المكان وجلس المدعوون في السرادق المقابل له، وأخذ الخطباء يلقون خطبهم والشعراء قصائدهم مما سر قلب الرئيس الجليل، وفي منتصف الساعة الثانية عشرة خرج دولته من الكشك رافعا يده اليمنى إلى عنقه بمنديل من حرير أبيض، كما خرج معه جميع زملائه فسار الزورق يقلهم بين الهتاف والتصفيق، وركب محافظ المدينة ومن كان معه من كبار الموظفين.
وقد أوفد حضرة صاحب الجلالة الملك كبير أمنائه إلى الباخرة لوتوس، فودع دولته بالنيابة عن جلالته كما أن حضرة صاحبة الجلالة الملكة أوفدت إحدى وصيفاتها لتوديع حرم الرئيس الجليل، وقدمت إليها باسم جلالتها باقتين كبيرتين من مختلف الورد والأزهار. وقد أبحر مع حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل والسيدة الجليلة حرمه المصون على نفس هذه الباخرة لمرافقتهما في مدة إقامتهما في أوربا؛ حضرات أصحاب المعالي واصف غالي باشا وزير الخارجية وقتئذ والسيدة قرينته، والدكتور حسن كامل بك كبير أطباء بندر طنطا وعضو مجلس النواب عنها، وأحمد حمدي سيف النصر بك، والأستاذ حامد جودة المحامي، وعبد الرحمن عزام بك، والأستاذ حبيب فهمي المحامي، والأستاذ كامل سليم. وأوفدت وزارة الداخلية مع دولته إلى أوربا ثلاثة ضباط، وهم حضرات القائمقام عبد الله بك فريد واليوزباشي علي البرعي أفندي، والملازم الأول علي حمدي أفندي، هذا وقد اتخذت الحكومة الفرنسية تدابير مشددة للمحافظة على الرئيس مدة إقامته في فرنسا.
وقد وصلت الباخرة المقيلة لحضرة صاحب الدولة، ومن معه إلى مرسيليا بعد ظهر يوم 29 يوليو سنة 1924 ونزل دولته إلى المدينة في الساعة الخامسة، ثم سافر منها في الساعة السادسة إلى باريس، وقد استقبله في مرسيليا معالي محمود فخري باشا وزير مصر المفوض في باريس مصحوبا بموظفي المفوضية، وسمو الأمير عزيز حسن والنواب والشيوخ المصريون، الذين كانوا في أوربا وقتذاك. وفي الساعة الخامسة بعد ظهر اليوم المذكور ركب دولته سيارة إلى محطة «سان شارل»، حيث أعد لدولته صالون ألحق بالقطار السريع المسافر إلى باريس، وفي الساعة 6 والدقيقة 10 أي: عند سفر القطار؛ تقدم المسيو مارني فودع دولته باسم الحكومة، فرد دولته له الزيارة قبل مغادرته وقد أنكر دولة الرئيس على الصحفيين أنه قادم في رحلة سياسية وقال: إنه قصد فرنسا لأسباب صحية فقط . وقد وصل دولته ومن معه إلى باريس في منتصف الساعة 8، ومكث بباريس يستنشق شذى هواها العطر متنقلا بين رياضها، والمواصلات بينه وبين وزراء حكومته متصلة، وقد حدث أن صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول أصيب حفظه الله بألم بسيط ألزمه الفراش، فلما أراد دولة سعد باشا الاستفسار عن صحة جلالته، ورد عليه الجواب الآتي وذلك قبل مغادرته باريس إلى لندن:
عزيزي سعد
أشكركم لما أبديتموه من الاهتمام نحوي إزاء الانحراف الخفيف، الذي ألم بصحتي وسأشفى منه شفاء تاما بإذن الله عما قريب. وإني أوجه إليكم تحياتي الودية الخالصة وأتمنى لكم صحة تامة دائمة، وكنتم قد قررتم السفر إلى عاصمة إنجلترا، فإني أسأل الله تعالى أن ينير لكم السبيل ويمدكم بالمعونة في المساعي والمجهودات التي تبذلونها لمصلحة وطننا العزيز وخيره، وإن أفكاري لتتجه بمزيد الاهتمام والعناية إلى مساعيكم وأعمالكم لتحقيق أمانينا الحيوية العظيمة.
سفر الرئيس الجليل إلى لندن وحبوط المباحثات
وقد برح دولته باريس ووصل إلى لندن في يوم 23 سبتمبر سنة 1925، فقوبل من الطلبة المصريين بمحطتها بالهتاف الشديد، وعندما نزل دولته من القطار حياه السر رونالد دوتر هاوس سكرتير مستر ماكدونلد باسم رئيس الوزارة، وقد أفضى دولته بتصريح خاص لمندوب جريدة الأهرام حيث قال:
لا أستطيع الآن أن أقول سوى أنني مسرور لاغتنام هذه الفرصة لمقابلة صديقي مستر ماكدونلد، وسأكون من أسعد الناس إذا خولتني المحادثات أن أعود سريعا إلى مصر بعد أن أبدد من الجو غيوم سوء التفاهم، وأمهد السبيل للمفاوضات، فيتصرف بمقتضى حسن العدالة الذي يتصف به العنصر البريطاني، وإن الحكومة البريطانية نفسها لا تقف بعد الآن في سبيل ذلك الاتفاق، الذي لا بد منه لتأسيس تلك العلاقات الطيبة التي يحتاج إليها البلدان كل الاحتياج.
وفي يوم 25 سبتمبر سنة 1924 الساعة 10 ونصف صباحا، وصل دولة الرئيس إلى منزل رئيس الوزارة البريطانية في «دوننج ستريت»، فاستقبله على عتبة الباب مستر بلي، وإلى جانبه مس روز نبرغ السكرتيرة الشخصية الخاصة لمستر ماكدونلد، وذهب لمقابلة مستر ماكدونلد، ودام في محادثته إلى ما بعد الظهر ، وكانت هذه المحادثة الأولية قاصرة على وضع تمهيدات يقصد منها إيضاح موقف الحكومة البريطانية، وموقف الحكومة المصرية في شأن ما نشأ من سوء التفاهم المختلف بين وقت وآخر، منذ أرسلت الدعوة الأولى إلى زغلول باشا في شهر أبريل سنة 1924، وبعد عدة مقابلات بين الرئيس ومباحثات شديدة انجلت بانسحاب دولة الزعيم الأكبر مرفوع الرأس، وافر الكرامة، محتفظا بكرامة بلاده، وذلك بعد أن تحقق من عناد رئيس الحكومة الإنجليزية وعدم إمكانه التساهل في هذه المحادثات، التي كان يؤمل بعدها الدخول في باب المفاوضات النهائية، خصوصا وأن المستر ماكدونلد بين لدولته تمسك الحكومة الإنجليزية بالسيطرة على السودان، فلم يجد بدا بعد حبوط هذه المحادثات من العودة إلى مصر، وما كاد يصل لمصر حتى أسرع في نفس الأسبوع الأول من قدومه إلى تقديم استقالته لجلالة المليك المعظم، فاحتج مجلس النواب والشيوخ وكونا وفدا تشرف بمقابلة جلالته ملتمسا عدم قبول هذه الاستقالة، كما قد هاج الشعب المصري على بكرة أبيه، وقامت المظاهرات في طول البلاد وعرضها مؤيدة لهذا الوفد، فما كان من جلالة المليك المعظم إلا وحقق رغبته، ووافق على عدم قبولها تحقيقا لرغبة الأمة بوجه عام وجلالته بوجه خاص، فلم يجد دولته بدا من الرضوخ لإرادة جلالة المليك المعظم، والشعب المصري الكريم الذي قدر جهاده حق قدره.
وحدث عقب ذلك تلك المناوشات التي قامت في السودان، وأعقبها أيضا مقتل المرحوم السير لي ستاك باشا سردار الجيش المصري، وحاكم عام السودان، واحتلال الإنجليز لجمرك الإسكندرية، فبادر بالاحتجاج الشديد وأعقبه تقديم استقالته للمرة الثانية، وشدد في قبولها فقبلت فعلا بتاريخ 24 نوفمبر سنة 1924، وسنأتي إن شاء الله في الجزء الثاني على وصف منفى الرئيس الجليل في عدن وسيشل وجبل طارق، وشيئا كثيرا من خطبه السياسية الرنانة التي ألقاها عقب عودته من منفاه.
صفاته وأخلاقه
ليس بين العالمين الغربي والشرقي من يمكنه إنكار بطولة هذا المجاهد العظيم والزعيم الكبير، وتمسكه الشديد بالدفاع عن حقوق البلاد بهمة لا تعرف الملل مع شيخوخته وكبر سنه، وأن التاريخ والواقع يؤيدان هذه الصفات السامية في شخصه الكريم، ولا مشاحة في أنه بطل مصر الأوحد، وعلمها المفرد صاحب المبدأ القويم والحزم الأكيد، ولا يتزحزح عن الحق قيد شعرة ولا يلين لمخلوق يريد خدعه قوى العارضة عظيم الذكاء، جرئ المخاطبة صادق النية خالص الطوية محبوبا من جميع طبقات الأمة على اختلاف أنواعها وتباين مذاهبها.
أدامه الله للأمة المصرية إماما ولقضيتها قائدا أمينا.
حضرة صاحب الدولة الجليل محمد توفيق نسيم باشا رئيس الديوان العالي الملكي وسنأتي على تاريخ حياته المجيد في الجزء الثاني إن شاء الله.
حديث ذو شأن خطير لصاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون للتوفيق بين الأحزاب
وقد كان في عهد الوزارة الزغلولية ومن قبل ومن بعد ثلاثة أحزاب مخالفة لمبدأ الوفد المصري، وكان كل منها يرمي إلى غاية مخصوصة، وهي: حزب الأحرار الدستوريين، والحزب الوطني، وحزب الاتحاديين، ولهذه الأحزاب صحف يومية خاصة بها تعبر عن آرائها، وكثيرا ما كانت تحمل على الوفديين من أنصار الزغلوليين، وكانت هذه الحملات الشديدة نراها بارزة في أعمدة تلك الصحف ، مما دعا لتداخل سمو الأمير الجليل عمر طوسون وإرساله دعوة خاصة لرؤساء هذه الأحزاب الثلاثة بقصد التوفيق بينهما، وجمع الكلمة ليتيسر لمصر مناهضة السياسة الاستعمارية بقوة الاتحاد، فقوبلت هذه الدعوة بما تستحقه من التجلة والاحترام، ونحن ندون لسمو الأمير الجليل تلك الدعوة الهامة شاكرين لسموه هذا المسعى الجميل، فقد قصد سموه مندوب من قبل جريدة الأهرام الغراء، واستأذن سموه في محادثته في هذا الشأن، فأذن له ودارت بينهما المحادثة الآتية:
س:
هل توافقون سموكم على عقد مؤتمر وطني عام للنظر في الحالة الحاضرة؟
فأجاب سموه: «الصحيح أني أحللت هذا المقترح محل الاعتبار والنظر، ويمكن بعد ذلك البحث فيما إذا كان ممكنا أم لا.»
س:
وما هو رأي سموكم بعد النظر فيه؟
ج:
رأيي أن التكلم في عقد المؤتمر الآن سابق لأوانه، فإذا زالت الخصومة القائمة بين الأحزاب زوالا حقيقيا، وذهب هذا الانقسام الضار بالوطن وضحيت الشهوات الحزبية في سبيل المحبة الحقيقية للبلاد، فعندئذ يحسن أن يترك الأمر لرغبة الأحزاب، فإذا هي وافقت على عقد المؤتمر أو على شيء آخر كان كذلك؛ لأنه لا يمكن ما دامت الخصومة باقية أن يجيب الدعوة إليه من لا يزال مصرا عليها، وإذا عقد والأحقاد مستقرة في النفوس كان ضرره أكبر من نفعه.
س:
وهل ترون سموكم أن الصلح بين الأحزاب ممكنا؟
ج:
هو طبعا ممكن ولكنه غير سهل على النفوس، ولا تزال في طريقه عقبات كثيرة ليس من الهين تذليلها، ولقد دعا إليه بلاغ الأمراء الذي نشر في 27 ديسمبر سنة 1923م، فلم تثمر الدعوة في ذلك الحين، غير أن طول اختبار الأمة والمصائب التي حاقت بها من جراء الاختلاف ربما سهلت هذا المطلب العسير.
س:
إن الأمة متوجهة إلى سموكم لتحقيق هذه الأمنية العظيمة، فهل سموكم مستعدون للسعي في هذا الصلح على الرغم مما في طريقه من العقبات الكأداء؟
ج:
إننا مستعدون للسعي في هذا الصلح لما نرجو فيه من الخير العميم للبلاد، ولكن ذلك لا يكون إلا إذا رأينا من رؤساء الأحزاب استعدادا لقبوله، وآنسنا منهم رغبة فيه وتناسيا لسيئات الماضي، وتنازلا عن شخصياتهم لشخص واحد هو الوطن المفدى، ولقد كتبنا فعلا إليهم لاستطلاع آرائهم في هذا الشأن.
س:
وما هو رأي سموكم في الأحوال الحاضرة؟
ج:
إن الأحوال الحاضرة سيئة جدا، وهي ظاهرة غير خافية على الناس، ولكن الشيء الذي يؤسف له أشد الأسف أنه وجد ويوجد مصريون يقبلون مناصب الوزارة في هذه الظروف السيئة.
س:
ألا تعتقدون سموكم أن طلبات الحكومة البريطانية كان لا بد من تنفيذها، سواء أوجد من يقبل الوزارة أم لم يوجد؟
ج:
نعم ولكن الفرق عظيم بين تنفيذها بقوة بدون رضانا، وقبول الوزارة لها وتنفيذها باسمها، فالأول بلا شك أفضل وكان هو الأجدر بوطنيتنا.
س:
لا شك في صحة ذلك ولكن الحكومة تقول: إنها بهذا القبول حصلت على أمر مهم ألا وهو رفع الاحتلال عن الجمارك.
ج:
لقد جعلت الحكومة أهمية كبرى لاحتلال الجمارك، كأنها احتلت من دولة أجنبية ليس لها جنود تحتل هذا القطر ، وبسعيها زال هذا الاحتلال مع أن الأمر بخلاف ذلك، فالقطر جميعه تحتله جنود الحكومة البريطانية، وكل بقعة من أرضه في حكم المحتل بهم، وإن لم يوجدوا فيها بالفعل فسيان احتلالهم الجمارك وجلاؤهم عنها ما دام في البلاد جندي واحد من الإنجليز، وقد كان الأجدر بالوزارة السابقة أن تعلق قبول ما قبلته من طلبات الحكومة البريطانية على رضاها بسحب باقي المطالب، فإن لم يتم لها هذا الرضا كان لها العذر في رفض الجميع.
حضرات أصحاب الدولة رؤساء الأحزاب المؤتلفة: لقد كان لحديث صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا المنشور بالصفحة 157، للتوفيق بين أقطاب الأحزاب السياسية أثر محمود لصيانة الدستور، وعودة الحياة النيابية باتحاد حضرات أصحاب الدولة سعد زغلول باشا وعدلي يكن باشا وعبد الخالق ثروت باشا، بعد انعقاد المؤتمر الوطني العام بسراي سعادة محمد محمود سليمان باشا، وكيل حزب الأحرار الدستوريين في 19 فبراير سنة 1926.
س:
وما هو رأي سموكم في طلبات الحكومة البريطانية؟
ج:
إنني مع أسفي الشديد وحزني العظيم لاغتيال حياة السردار الذي كانت له منزلة خاصة عندي، لما امتاز به من حسن الأخلاق، أرى أن طلبات الحكومة الإنكليزية فاقت كل حد معقول، ولم يبق ريب عند الجمهور أن هذه الحادثة التي تألمت لها كل الهيئات المسئولة في البلاد، قد اتخذتها الحكومة البريطانية وسيلة لتنفيذ رغائبها.
س:
وماذا ترون سموكم في قرار بلدية الإسكندرية الأخير؟
ج:
هو قرار على جانب عظيم من الصواب من الوجهة الحقوقية، وفضلا عن ذلك فإنه في غاية الوجاهة؛ وإني أفتخر به لأنه صادر من أبناء بلدتي الإسكندرية، وهنا انتهى الحديث وخرج المندوب شاكرا حسن تفضله بالإجابة عن كل سؤال بصراحته المعهودة ووطنيته العالية.
وكانت النتيجة الأولى لهذا التصريح ولدعوة الأمير الجليل أن جاء صاحب السعادة وكيل الوفد المصري إلى الإسكندرية، وحظي بمقابلة سموه وباحثه في الموضوع باسم الوفد، وورد على سموه تلغراف من حضرة صاحب السعادة محمد باشا محمود وكيل حزب الأحرار الدستوريين، وكتاب من حضرة صاحب العزة محمد حافظ بك رمضان رئيس الحزب الوطني، ويلوح لنا أن ورود هذه الأجوبة على سموه يوافق مقتضى الحال، وكنا نتمنى أن يكون بعض الصحف المتحزبة أقل حدة في الحمل على خصومها، مما هي عليه إذا كانت تحبذ المسعى المبذول في سبيل الاتحاد وجمع الكلمة، ولكن مع الأسف الشديد، رأينا منها العكس إذ وقفت دعوة سمو الأمير الجليل إلى هذا الحد، ولم تقدم هذه الأحزاب يدها للتضامن المنشود.
حضرة صاحب العزة الأستاذ حافظ بك رمضان رئيس الحزب الوطني: وكان بينهم أيضا حضرة صاحب العزة الوطني الغيور الأستاذ محمد بك حافظ رمضان، رئيس الحزب الوطني، وهو من الأحزاب المؤتلفة. وسنأتي إن شاء الله في الجزء الثاني على ترجمتي حضرة صاحب الدولة عبد الخالق ثروت باشا والأستاذ حافظ بك رمضان.
ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل عدلي باشا يكن
كلمة تاريخية للمؤرخ
لقد تقلبت القضية المصرية إلى أدوار مختلفة، وكان من جملة هذه التقلبات تعيين جلالة المليك المعظم فؤاد الأول وفدا رسميا برياسة حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا؛ ليتولى مفاوضة الحكومة الإنكليزية بنية الوصول إلى الاتفاق المنشود بين الحكومتين، وعدلي باشا - كما هو معلوم - من أركان الوزارة الرشدية، التي استقالت في سبيل تأييد الوفد المصري الذي يرأسه حضرة صاحب المعالي «صاحب الدولة الآن» سعد زغلول باشا، ولما دعي هذا الوفد إلى لندن قام عدلي باشا بمهمة الوسيط بينه وبين لجنة ملنر.
ومما سيذكره التاريخ لعدلي باشا بمداد الفخر والإعجاب، على أثر تعيينه رئيسا لمجلس الوزراء أنه نشر برنامجا سياسيا بين فيه للأمة المصرية الخطة التي ينوي اتباعها، ولم تعهد مصر من قبل مثل ذلك البرنامج الذي يعد فوزا للروح الديمقراطي، وقد جاء فيه ما يأتي:
إن الوزارة ستجعل نصب عينيها في المهمة السياسية التي ستقوم بها لتحديد العلاقات الجديدة بين بريطانيا العظمى وبين مصر؛ الوصول إلى اتفاق لا يجعل محلا للشك في استقلال مصر، وستجري في هذه المهمة متشبعة بما تتوق إليه البلاد ومسترشدة بما رسمته إرادة الأمة، وستدعو الوفد المصري الذي يرأسه سعد باشا زغلول إلى الاشتراك في العمل لتحقيق هذا الغرض.
حضرة صاحب الدولة الجليل عدلي باشا يكن رئيس وزراء الحكومة المصرية سابقا والعضو المعين بمجلس الشيوخ.
غير أنه بعد الأخذ والرد وبالرغم من المساعي الكثيرة، التي بذلت للتوفيق بين عدلي باشا يكن وسعد باشا زغلول لم يحصل الاتفاق المرغوب، فعين الوفد الرسمي برئاسة عدلي باشا يكن مؤلفا من: حسين رشدي باشا، إسماعيل صدقي باشا، محمد شفيق باشا، أحمد طلعت باشا، يوسف سليمان باشا، ومهما تكن نتيجة المفاوضات، فقد أصبح لعدلي باشا منذ الآن شخصية تاريخية خطيرة الشأن، ولنقدم إذا إلى ذكر شيء عن سيرته وأخلاقه ومناقبه. •••
إن كلمة يكن التركية تعني «ابن الأخت»، وقد أطلقت في مصر على الأسرة المتفرعة من أخت محمد علي باشا الكبير مؤسس العائلة المالكة، فعدلي باشا يكن بن خليل باشا يكن بن إبراهيم باشا يكن ابن أخت محمد علي الكبير.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة الجليل سنة 1866م، ونشأ كريما بين أعضاء أسرته الكريمة، حتى إذا بلغ الثامنة من عمره توجه مع المرحوم والده إلى الأستانة العلية، وأقام فيها نحو ثلاث سنوات قضاها في درس مبادئ العلوم وإتقان اللغات بذكاء نادر وفطنة وقادة تلوح منهما علائم النجابة، ثم عاد إلى مصر ودخل مدرسة «الفرير»، ثم مدرسة اليسوعيين، فحصل على مجموعة علمية تشهد له بالتفوق والنبوغ، وامتاز بالآداب السامية وتقوت لديه ملكة الإنشاء فسمت به آدابه ومواهبه إلى الانتظام في سلك الخدمة سنة 1880م بمصالح الحكومة، فألحق بقلم الترجمة بوزارة الداخلية، ونقل منها إلى قلم المطبوعات، ثم انتخب سكرتيرا خاصا لنوبار باشا، وكان وزيرا للخارجية، وبعد ذلك صار يتنقل في الأقاليم لرقيه في الوظائف الإدارية.
ففي سنة 1891م عين وكيلا لمديرية المنوفية، ووكيلا لمديرية المنيا، ثم وكيلا لمحافظة القنال، وفي سنة 1895م عين مديرا للفيوم فالمنيا فالشرقية فالدقهلية فالغربية ثم محافظا لمصر، ثم مديرا لعموم الأوقاف، ثم ارتقى إلى منصب الوزارة فكان وزيرا للخارجية، ثم وزيرا للمعارف ثم عين أخيرا رئيسا لمجلس الوزراء ورئيسا للمفوضين الرسميين لعقد الاتفاق بين مصر وإنكلترا، وهي المهمة السامية التي تليق بقدره ومزاياه، وتشهد كفاءته بأنه خير من يتولاها من المصريين كافة؛ ولذا حسن اختيار جلالة الملك لدولته فتولاها بمهارة سياسية فائقة، وعاد عاطر الذكر عزيز الجانب حافظا لحقوق وطنه، محافظا على علاقات حسن التفاهم مع قطع المفاوضة.
فيرى القارئ مما تقدم مقدار تعدد الوظائف التي نقل إليها عدلي باشا يكن، وتدرجه في الوظائف من أبسطها إلى أرقاها، ثم إلى أسماها مقاما فكان ذلك من أهم الأسباب - مع استعداده الفطري - لتوسيع دائرة أفكاره، وتقوية المشاهدات الدالة على متانة اختباره، وأنضج في شخصيته البارزة سلامة الذوق وقوة العارضة بمتانة في الرأي لا تبارى، وأعده لإتمام المهمة الخطيرة التي كلف القيام بها، فتخلص بما يشهد له بالبراعة الأمة بأسرها بإعلان اعتداله، والعرفان لفضله، وتخليد ذكرى ماضيه الشريف بجميل يدوم مدى الدهر. •••
ولعدلي باشا يكن سجايا وميزات يندر أن تجتمع لشخص سواه، فمن المشهور عنه أنه عزيز النفس شديد الإباء، مترفع عن السفاسف، رقيق الطبع، لطيف الشمائل، شديد المحافظة على كرامته، واسع الحلم، قليل الكلام، نزيه النفس واللسان، وقد كان في جميع أدوار حياته مثلا أعلى في الاحتفاظ بكرامته، فلم يعرف عنه ملق ولا محاباة ولا تصاغر أمام مستشار أو مفتش، كما كانت سنة زملائه المديرين في ذلك العهد وكان بينهم قدوة حسنة لا تسامى.
وقد صرح أحد أصدقائه الذين يوثق بإنصافهم وصدق نظرهم يصف شيئا عن أخلاقه وصفاته فقال:
ومن أخص صفاته مواظبته على المطالعة والدرس فتعلم الإنكليزية، ودرس السياسة والاقتصاد السياسي على معلم خاص، وتعلم ميوله من زيارة دقيقة لمكتبته فإنك ترى فيها المؤلفات الممتعة لرجال السياسة والقوانين الدولية والاقتصاد ما لا يوجد عند غيره، وترى آثار الدرس والإمعان ظاهرة على صفحات تلك المصنفات، وترى سلامة الذوق في أحاديثه وجدله حتى تظن أنه ممن تعمقوا في درس المنطق، وكثيرا ما لاحظ عليه أصدقاؤه ومعارفه أنه شديد الإصغاء لمحدثه قليل الإشارات، فلا يلبث أن يهدم محدثه بكلمة نقد أو سؤال يكبر الرجل في أعين سامعيه، ويدلهم على فضله ومكانته من التعقل وزنة الأمور .
وهو لا يعرف الأنانية، فقد ظهر تواضعه في مسألة الوكيلين التي أثارها سعد باشا زغلول في عهد الجمعية التشريعية، وقد كان صاحب الترجمة الوكيل الحكومي وسعد باشا زغلول الوكيل المنتخب، ومع هذا فقد أوعز إلى الأعضاء بترجيح وكيل الأمة على وكيل الحكومة بالجمعية، وكذا سعيه الحميد بين سعد باشا واللورد كتشنر في أيام الجفاء بينهما مما لا يزال عالقا بالأذهان.
عود إلى بدء
قلنا في بدء هذه الترجمة: إن جلالة الملك فؤاد الأول عين وفدا رسميا برياسة حضرة صاحب الدولة عدلي باشا، والذين انتخبوا لأن يكونوا معه؛ ليتولى مفاوضة الحكومة الإنكليزية بغية الوصول إلى الاتفاق المنشود.
ونقول الآن: إنه قضى الوزيران عدلي باشا ورشدي باشا ومن معهما من أعضاء الوفد المصري الرسمي أشهر الصيف في مفاوضات متقطعة مع رجال الوزارة الإنكليزية، وكانت نتيجة ذلك أن عرض اللورد كرزون على عدلي باشا مشروع الاتفاق بما تراه الحكومة الإنكليزية لحل المسألة.
وعرض عدلي باشا هذا المشروع على أعضاء وفده، فاتفقوا على رفضه، وقدموا إلى اللورد كرزون مذكرة بقطع المفاوضات يوم 16 نوفمبر سنة 1921م، وتقابل اللورد المذكور ورئيس الوفد المصري للمرة الأخيرة في 19 نوفمبر سنة 1921م، وفي اليوم التالي برح أعضاء الوفد مدينة لندن فوصلوا إلى مصر يوم 6 ديسمبر سنة 1921.
ولما بلغ عدلي باشا مصر رفع استقالة وزارته إلى جلالة الملك المعظم، فلم يعلن جلالته قبولها إلا يوم 24 ديسمبر بعد إلحاح كثير من دولته في قبولها، حتى لا تتحمل وزارته تبعة ما تفعله السلطة العسكرية.
وعرض تأليف وزارة جديدة، فقبلها صاحب الدولة عبد الخالق باشا ثروت، ومن ذاك الحين لزم حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا داره، واعتزل الأعمال العامة اعتكافا على حب الخير لوطنه، وقدره خاصة الرجال تقديرا يكافئ مزاياه، فانتخبه نخبة أعضاء مجلس إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية بالإجماع رئيسا لها، وأقرتهم الجمعية العمومية السنوية، فتوافق العدل والإنصاف في أمياله الخيرية مع مزاياه الإنسانية، وخصها بوقته الثمين ولا تزال نهضتها تسمو فيها في زمنه، كما كانت في عهد الأمراء والرؤساء السابقين، ثم عين رئيسا للمؤتمر الجغرافي الدولي الذي عقد لأول مرة بالقاهرة في أبريل سنة 1925م، وهو اختيار صادف أهله وخير كفء للقيام بأعباء هذا العمل العلمي، وهو لا يألوا جهدا في بذل أقصى مجهوده لخير البلاد أضعاف ما لو كان في دست الحكم، ولما رأت الحكومة أن في انضمامه لمجلس شيوخها فوائد عظيمة لا يستهان بها، فقد عينه جلالة مولانا المليك المعظم عضوا فيه بمرسوم ملكي، صدر بتاريخ 4 مارس سنة 1925م، وقد أحسنت الحكومة صنعا في تعيين هذا العامل الكفء والوطني الصميم؛ لتنتفع البلاد بمواهبه السامية وكفاءته العالية، وفوق ذلك فقد صدر مرسوم ملكي لدولة صاحب الترجمة بتعيينه رئيسا للمؤتمر الجغرافي العام، الذي أقيم بالقاهرة في أوائل أبريل سنة 1925، ووفد إليه 450 عضوا من عموم أنحاء البلاد المتمدينة والممالك ذوات الشأن، وقد افتتحه رسميا جلالة مولانا المليك المعظم باحتفال مهيب.
أدامه المولى وأبقاه رافلا في بحبوحة السعادة والهناء لمصر وبنيها.
ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل السير حسين رشدي باشا
مولده ونشأته
إذا عدت العائلات العريقة في مجدها كانت عائلة دولة رشدي باشا في طليعتها، وإن عد عظماء مصر ونوابغها الأفراد كان دولته في مقدمتهم.
ولد حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا بالقاهرة لثلاثة وستين عاما خلون بعد الألف والثمانمائة، فهو الآن في العقد الستين من عمره المجيد الملآن بجلائل الأعمال، وهو ابن المرحوم طبوزاده محمود حمدي باشا وكيل وزارة الداخلية، وكان جده لوالده حسين بك طبوزاده حاكما على إقليم البرلس، وكان جد أبيه محمد طبوزاده قائدا عاما في عهد مؤسس العائلة الملوكية «محمد علي باشا الكبير»، وهو الذي قهر الجنرال فريزيه القائد العام الإنجليزي في معركة السنانية بقرب رشيد، تلك المعركة التي ترتب عليها خروج الإنجليز من مصر، ومما يستحق الذكر أن استعرض محمد علي الجيش في ميدان القتال، ثم ترجل عن جواده، وقبل قائده المنتصر وأنعم عليه بالتزام إقليم البرلس، أما جده لوالدته فهو أحمد قوله جي بك، وكان قائدا في الجيش المصري، وقد اشترك في محاربة الأتراك في معركة نعيبش، وإليه سلم القائد العام التركي سيفه.
حضرة صاحب الدولة الجليل السير حسين رشدي باشا رئيس وزراء الحكومة المصرية سابقا والعضو بمجلس الشيوخ.
أما دولة صاحب الترجمة فمن رجال مصر الذين تلقوا دروسهم وعلومهم العالية في كليات باريس، وقد درس علم الحقوق فنال فيه شهادات عالية، وقد أجيز له فيه وفي العلوم الأدبية، والسياسية وكان مدة التلمذة آية من آيات النبوغ الشرقي والاقتدار محبوبا من رفاقه مكرما من أساتذته.
وفي عام 1892ميلادية عاد لوادي النيل وطنه السعيد؛ ليخدمه ويفيد أمته بعلمه وأدبه، فتوظف في قلم قضايا المالية، ثم جعل مفتشا في نظارة المعارف فأقام في هذا المنصب ست سنوات، وانتقل منه إلى المحاكم المختلطة قاضيا فيها سبع سنوات كان فيها مثال العدل والنزاهة والاستقامة، ثم جعل مستشارا في محكمة الاستئناف الأهلية، فمديرا لديوان الأوقاف إلى أن اختير في شهر نوفمبر سنة 1908 وزيرا للحقانية. ارتقاء متوال في تقدير الكفاءة والاستحقاق فأظهر فيها مواهبه العالية، وأصلح من شؤون القضاء ما عاد على العدل بأحسن النتائج.
ولدولته وقفات مشهورات في مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، فكثيرا ما كان يناضل عن القوانين التي وضعها، وكان في مناضلته لا يعتمد على غير الحقيقة فلا يتقدم إلى نواب الأمة بمقدمات طويلة، ولا يحاول التأثير عليهم بفصاحة اللسان وقوة البيان، بل كان يشرح لهم الغرض المقصود من القانون المعروض على بساط البحث، ثم يبين لهم نبالة هذا الغرض، ومع اعتماده على الإيجاز الكلي في المناقشات النيابية كان الفوز دائما حليفه لما له من المكانة العليا في القلوب، ووطنيته التي لا غبار عليها.
تعيينه رئيسا لرئاسة النظار ونظارة الداخلية
ولما سقطت الوزارة السعيدية في 3 أبريل سنة 1914، كلف الجناب الخديوي عباس باشا الثاني الخديوي الأسبق حضرة صاحب الدولة أن يؤلف وزارة جديدة، فألفها متوليا مع رئاسة النظار نظارة الداخلية، فأجمعت الأمة وصحافتها على إكباره وإجلاله، والتفت قلوب الشعب حوله لما يعهدون في كفاءته ومعارفه الواسعة وحبه للعدل، وشهرته بحسن تصريف الأمور وإنجاز الأعمال وماضيه الطاهر.
وقد استقبلت الجمعية التشريعية وزارته وقتئذ بحفاوة لم يكن لها مثيل من قبل؛ لأن دولته رئيسها الذي كان من قبل كاسبا جاذبية الجمعية وثقتها، وقد عرف كيف يجعل استقبال وزارته محاطا بمظاهر الثقة والاحترام؛ ولأنه رجل محب لوطنه، دستوري الأفكار والمبدأ ولتشبعه بالحرية الصادقة في ذاتها، ومحبته للارتقاء الدستوري افتتح أعمال وزارته بما يشف عن ذلك حتى اعتقدت الأمة ونوابها بخلوص نيته، وشريف غيرته على البلاد وساكنيها.
وعندما حدث الانقلاب الكبير في مصر، واستبعد سمو عباس حلمي باشا الثاني عن مصر، وجلس المغفور له السلطان حسين كامل على عرش السلطة المصرية، اتجهت الأنظار كلها إلى صاحب الدولة حسين رشدي باشا، فثبت في مركزه السامي الخطير، وأظهر ما أدهش الجميع إذ عرف كيف يحافظ على كيان الأمة والعرش، ويفوز بأمانيه الوطنية في أشد الأزمات تحرجا.
وقد برهن دولة رشدي باشا على غيرته الوطنية السامية، بأنه أبي أن يتخلى عن رئاسة الحكومة، عندما حدث هذا الانقلاب لا عن رغبة في وجاهة المنصب؛ لأنه وجيه بعلمه وحسبه وفضله، ولا طمعا بالراتب؛ لأنه في سعة من العيش وعلى جانب كبير من الثروة، ولكنه رضي بمنصبه عملا بالواجب الوطني، وقياما بما تتطلبه مصر من ابنها البكر في الشدائد ومعظمات الأمور، وظل ساهرا على مصلحة البلاد بكل همة وذمة وأمانة ونشاط إلى أن استقالت الوزارة.
عضويته بالوفد الرسمي المصري
ولما تقلبت القضية المصرية في السنتين الماضيتين لهذا التاريخ إلى أدوار مختلفة في عهد جلالة الملك فؤاد الأول، عين جلالته وفدا رسميا برئاسة صاحب الدولة عدلي يكن باشا، وعضوية حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا صاحب هذه الترجمة، ومعالي إسماعيل صدقي باشا ومحمد شفيق باشا وأحمد طلعت باشا، ويوسف سليمان باشا وغيرهم من الماليين والمهندسين المصريين بصفة خبراء ومستشارين؛ ليتولى هذا الوفد الرسمي مفاوضة الحكومة الإنجليزية بغية الوصول إلى الاتفاق المنشود في مصير مصر، غير أنه بعد الأخذ والرد وبالرغم من المساعي الكثيرة التي بذلت، والمناضلات والمجادلات التي حصلت والتي دلت على حنكة أعضاء هذا الوفد السياسية وخبرته الكبرى، أسفر كل ذلك عن عدم قبول الإنجليز مطالبه ، والإذعان إلى قبول مشروع اللورد كرزون، فلم يجد الوفد الرسمي حيال هذا التعنت سوى رفض قبول أي مطلب من مطالب اللورد المذكور، وقفل عائدا إلى مصر فوصلها في شهر ديسمبر سنة 1921م، وعقب حضوره قدم دولة رئيسه استقالته المعروفة، وبقيت البلاد بلا وزارة حتى أول مارس سنة 1922، حيث دعي عبد الخالق ثروت باشا لتأليفها.
وقد برهن صاحب الترجمة وحضرات زملائه الكرام على شمم عال، وتمسك شديد بحقوق البلاد كما رفعوا بعملهم هذا هامة الوطن في أعين الأمم الغربية، وهذا دليل ساطع وبرهان قاطع يضاف إلى البراهين الكثيرة المعززة لصدق وطنية دولة حسين رشدي باشا.
ثقة مليك البلاد بكفاءته
ولعظم ثقة جلالة الملك فؤاد به وبمقدرته وكفاءته أسند إليه رئاسة سن قانون الدستور للبرلمان المصري، بعد أن رفعت الأحكام العرفية عن البلاد، فقام بهذه المهمة الهامة خير قيام باشتراكه مع حضرة صاحب المعالي أحمد حشمت باشا، الذي عين نائبا وقتئذ لدولة الرئيس، فجاء هذا القانون بعد إدخال التعديلات القانونية اللازمة له بمعونة القائمين بوضعه وافيا بالمرام، وسيكون هذا القانون معمولا به بعد نشره بالوقائع الرسمية، التي نشرته بحذافيره، ويرجع الفضل كل الفضل لحضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا، الذي قام بأداء هذا العمل الهام رغم ضعفه وانحراف صحته وقتذاك.
الأوسمة والنياشين التي حازها
ودولته حائز من الأوسمة أسماها وأعلاها، فنال المجيدي الأول والعثماني الأول، ثم أنعم عليه المغفور له السلطان حسين كامل بالوشاح الأكبر من نشان محمد علي، ووجه إليه رتبة الرئاسة مع لقب صاحب الدولة كما جاءته الأوسمة والنياشين من أكبر الدولة الأوربية، فأنعمت عليه الجمهورية الفرنساوية بالليجون دونور من درجة جيراند أوفيسيه، وأنعمت عليه بريطانيا العظمى بنشان القديس ميخائيل وجورج مع لقب سير، وأنعمت عليه الدولة الإيطالية بالوشاح الأكبر من نشان تاج إيطاليا، وكذلك نال الوشاح الأكبر من تاج بروسيا، ووشاحا أكبر من دولة القياصرة في روسيا وغيرها.
وقد خدم دولته الجمعية الخيرية الإسلامية خدما جلى عندما كان بين أعضائها العاملين، وله أيضا في كل مشروع خيري اليد الكبرى، وليس بين المصريين من ينكر على دولة الرئيس الجليل فوزه بما أرضى به الله تعالى ومواطنيه حتى امتلك المشاعر والقلوب.
ولما رأت الحكومة المصرية أن في تعيينه عضوا لمجلس شيوخها فوائد عظيمة لا يستهان بها، فقد عينه جلالة مولانا المليك المعظم عضوا فيه بمرسوم ملكي، صدر بتاريخ 4 مارس سنة 1925م، وقد أحسنت الحكومة صنعا بتعيينه؛ لأنه كفء ووطني صميم لتنتفع البلاد بمواهبه السامية.
أمد الله في حياته ونفع به هذه البلاد لخيرها ورفع شأنها.
صفاته وأخلاقه
مشهور دولته في كل مواقفه الشريفة بسداد الرأي، والحنكة السياسية، والثبات في المبدأ، والكفاءة التامة في الشؤون الإدارية والسياسية، كما اشتهر بلطف الحديث، والدعة، ومكارم الأخلاق والأدب الجم. أكثر الله من أمثاله بين عظماء الأمة المصرية في ظل حياة مليكها المحبوب فؤاد الأول.
ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل السير يحيي باشا إبراهيم
نشأته الأولى
شب حضرة صاحب الترجمة محبا للدرس، منكبا على التعليم تتجلى على محياه سمات الذكاء والنباهة والنجابة، وترتسم على وجهه آيات الفطنة، فالتحق بالمدارس الابتدائية فكان خير مثال للجد والاجتهاد، وبعد أن أتم الدراسة الابتدائية التحق بالمدارس الثانوية، فظهرت مواهبه العلمية وما أتيح له من ذكاء فطري ونبوغ طبعي، حتى أتم الدراسة الثانوية، وتخرج من مدرسة الإدارة «الحقوق الآن»، ونال شهادتها النهائية في أكتوبر سنة 1880م؛ ولما عرف به من حسن الاستقامة والهمة العالية وقوة الذكاء قررت الوزارة إرساله بالبعثة المصرية في فرنسا، ولكن بعد قليل رأى ناظر المدرسة «فيدال باشا» أن يبقيه للتدريس للاستفادة من علمه الفياض، ومعلوماته الواسعة ومعارفه الجمة.
حضرة صاحب الدولة الجليل السير يحيي باشا إبراهيم رئيس وزراء الحكومة المصرية ووزير الداخلية سابقا والعضو المعين بمجلس الشيوخ.
حياته العملية
فتعين في 14 ديسمبر سنة 1880 معيدا بمدرسة الألسن، وكان سنه وقتئذ تسع عشرة سنة فقام بتدريس ما عهد إليه خير قيام، وأبدى من الكفاءة النادرة وحسن الإفادة ما دل على علم وافر وتبحر عميق، حتى لهجت بذكره الألسن. وقد عين معيدا بمدرسة الإدارة «الحقوق» علاوة على وظيفته في 16 أكتوبر سنة 1881م، وأحيل عليه تدريس القوانين والترجمة.
وفي أول سبتمبر سنة 1884 أضيفت إليه وكالة مدرسة الحقوق، وكانت الفروع التي يدرسها هي القوانين الرومانية وقانون التجارة فضلا عن تدريس القوانين الأخرى، فأظهر همة عالية ونبوغا فائقا دل على مقدرته الكبيرة، وبراعته العظيمة، واستمر بالمدرسة إلى أن صدر أمر عال بتعيينه في المحاكم الأهلية.
فتعين بوظيفة نائب قاض بمحكمة الإسكندرية في 2 أغسطس سنة 1888، وتدرج في وظائف القضاء فكان مثالا عاليا للنزاهة والاستقامة، وعنوانا كاملا للعدل والإنصاف، واستمر كذلك في دائرة القضاء إلى أن تعين نائب مستشار بمحكمة الاستئناف سنة 1892، ثم مستشارا بها فقام بما عرف عنه من الكفاءة والخبرة، ونال احترام زملائه المستشارين في هذه المحكمة.
ولما وجدت محاكم الجنايات رأس دائرة محكمة جنايات طنطا، وذلك في سنة 1905، وكان يرأس بعض الدوائر المدنية إلى أن خلت وظيفة رئاسة محكمة الاستئناف، فتعين رئيسا لها في 10 فبراير سنة 1907، ومكث بها مدة 13 سنة أظهر فيها من حسن الكياسة ، وأصالة الرأي ما أحله محلا ساميا، وانتظم في سلك الوزارة الوهبية.
تعيينه وزيرا للمعارف
وفي 20 نوفمبر سنة 1919 صدر أمر عال بتعيينه وزيرا للمعارف في وقت عصيب، فلم يثن ذلك من همته ولا أنقص في عزيمته، وظل يواصل العمل بالرزانة والوقار المألوفين فيه، حتى سقطت الوزارة الوهبية في 20 مايو سنة 1920م، فاستقال عن كرسي الوزارة بعد أن ظل فيه 181 يوما كان بارا فيها بطلاب العلم يعطف عليهم كأبنائه عاملا على ما فيه مصلحتهم ومصلحة البلاد.
تعيينه رئيسا لمجلس الوزراء ووزيرا للداخلية
ثم عاد حضرة صاحب الترجمة إلى الوزارة التي كان صاحب الدولة نسيم باشا رئيسها، وبعد زمن يسير استقالت هذه الوزارة، وكلف دولة يحيى باشا بتأليف غيرها، ولم يكن الجمهور يتوقع له النجاح لما كان يظن من قلة خبرته بالشؤون السياسية والأمور الإدارية، ولكنه لبى رغبة جلالة مولاه، وألف الوزارة ومضى في العمل بهمة لا تعرف الكلل، ونشاط لا يعتريه ملل فحل كثيرا من العقد السياسية، التي حار في حلها رجال السياسة، وفي أيام وزارته صدر الدستور وقانون الانتخاب وغير ذلك من القوانين ، وألغيت الأحكام العرفية، وقد وقف بوزارته إزاء الانتخابات البرلمانية وقفة الحياد، وشدد على عمال الحكومة في وجوب التزام هذه الخطة بالدقة التامة حتى إنه اعتذر إلى الذين رشحوه عن دائرة الصنافين لمجلس النواب، تنفيذا لمبدئه الجاد الذي جاهر به وأوصى باتباعه، أما الأمر الملكي الكريم الذي صدر بسراي عابدين بتعيين دولته رئيسا لمجلس الوزراء، ووزيرا للداخلية فكان يوم 15 مارس سنة 1923م، وإننا لا ننسى مطلقا مجهوداته في تحقيق الرغبات الوطنية، وإزالة بواعث الانتقام والشحناء.
هذا والذين يعرفون ماضي دولة رئيس الوزراء ونشأته القانونية وابتعاده عن التحيز والمحاباة وثقوا بأنه يفوز برعاية جلالة الملك المعظم، وقد تم له هذا الفوز فعلا، ومما يجدر بالذكر أنه في مدة رئاسته فك اعتقال معالي سعد باشا زغلول وصحبه، الذين كانوا مبعدين عن أوطانهم وأفرج عن كثيرين ممن حوكموا أمام المحاكم العسكرية وغيرهم، فانطلقت الألسن بالشكر والثناء لحسن مسعاه.
ونظرا لأهمية الاستقالة التي قدمها حضرة صاحب الدولة من الوجهة التاريخية، فقد آثرنا نشرها هنا ليدرك القارئ مقدار الخدمات الجليلة التي قام بها في أثناء تربعه في كرسي الرئاسة، كما ننشر أيضا رد جلالة الملك عليها وها هي الاستقالة بالحرف الواحد:
مولاي صاحب الجلالة
أوليتموني جلالتكم ثقتكم العالية بإسناد رياسة مجلس وزرائكم، في وقت كانت فيه البلاد تجتاز أزمة لا تزال ذكراها حاضرة في الأذهان، فصدعت بالأمر قياما بواجبي نحو الوطن مستعينا بالله عز وجل ومعتمدا على تعضيد جلالتكم، وقمت بتأليف الوزارة على الوجه الذي حاز القبول، وقد أتمت الوزارة في عهدها مهمة الدستور وقانون الانتخاب الذي كانت تتشوق إليهما الأمة في عصركم السعيد، ومهدت السبيل في تنفيذها برفع الأحكام العرفية عقب إصدار قانون التضمينات، الذي روعيت فيه مصلحة البلاد، وتلا ذلك تحقيق جملة أماني أعادت إلى البلاد حريتها الشخصية، فسادت بذلك الطمأنينة والسكينة، واتخذت لدوام هذه الحالة الوسائل المشروعة التي تلجأ إليها الحكومات المتمدينة، وتوصلا إلى تحقيق مبدأ إحلال المصري محل الأجنبي عالجت الوزارة مشكلة خروج الموظفين الأجانب من وظائف الحكومة بكيفية تضمن عدم الإخلال بسير العمل، وبالحالة الاقتصادية والمالية في البلاد، وذلك بإصدار قانون التعويضات، الذي خفف كثيرا من وطأة الطريقة التي رسمت بتعويض الموظفين، الذين يعزلون خدمة الحكومة، ودفع مضار خروجهم دفعة واحدة بما كان يترتب عليه وقوف حركة الأعمال في مختلف الإدارات، ولما تمهد السبيل لإنقاذ الدستور جرت الحكومة في إجراء الانتخابات على مبدأ الحياد التام، فأحاطت الانتخابات في جميع أدوارها بالضمانات الكافلة بتحقيق حرية الآراء إلى أن تمت عملية الانتخاب لمجلس النواب، ويسعد الوزارة أن تكون عملية الانتخاب قد انتهت مقرونة بمظاهر الارتياح والرضا العام، وقد كان في عزم الوزارة أن تتم عملها في انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ بوسائل الحياد، والضمانات التي اتبعت في انتخاب أعضاء مجلس النواب، غير أن فريقا من الأعضاء المنتخبين لهذا المجلس أظهروا نزوعا إلى الرغبة في تغيير الوزارة قبل إتمام عملية الانتخاب لمجلس الشيوخ، ولو أن هذه الرغبة ليس من شأنها أن تؤدي إلى تغيير الوزارة إلا أني رأيت أنا وزملائي عملا بمبدأ الحياد، الذي لزمناه إلى الآن أن نرفع إلى جلالتكم هذه الاستقالة.
الأمر الملكي بقبول الاستقالة
أمر ملكي رقم 13 لسنة 1924 بقبول استقالة حضرة صاحب الدولة يحيي باشا إبراهيم.
عزيزي يحيي إبراهيم باشا
إن ما أعربتم عنه في كتاب دولتكم المرفوع إلينا بتاريخ 17 يناير سنة 1924، من التماس إقالتكم من مهمتكم كان له عظيم الأسف لدينا، وإنا لمقدرون صدق إخلاصكم، وشاكرون لكم ولحضرات الوزراء زملائكم تلك الأعمال الجليلة التي أديتموها أثناء قيامكم بمهمتكم، وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم بذلك.
صدر بسراي عابدين في 21 جمادى الثانية سنة 1342ه و27 يناير سنة 1924.
فؤاد
أوسمة المجد والفخر
أما أوسمة المجد ونياشين الفخر التي أنعم عليه بها فكانت كلها تدريجية كما يأتي:
نال الرتبة الرابعة في 3 محرم سنة 1303، والثالثة 29 محرم سنة 1305، والرتبة الثانية في 14 محرم سنة 1313، والمتمايز في سنة 1316، ورتبة الميرميران سنة 1325، ورتبة رئاسة الوزراء ووزارة الداخلية سنة 1923م.
والنشانات التي أنعم عليه بها هي المجيد الثالث في شوال سنة 1321، والعثماني الثالث في ذي القعدة سنة 1323، والمجيدي الثالث في 15 ذي الحجة سنة 1326، والعثماني الثاني في 4 جمادى الآخرة سنة 1329 والمجيدي الأول في 8 يناير سنة 1913.
ثم رتبة الباشوية في 29 ذي الحجة سنة 1333، والنيل الثاني أيضا في ذي الحجة سنة 1333، ثم نيشان النيل الأول في محرم سنة 1338، وهو رئيس لمحكمة الاستئناف، ثم الوشاح الأكبر المصري عند تقليده الرياسة، فالوشاح الأكبر من نشان القديس ميخائيل وجورج، ويلقب حامله عند الإنجليز بلقب «سير».
ولما رأت الحكومة المصرية أن في انضمامه لمجلس شيوخها فوائد عظيمة لا يستهان بها، فقد عينه جلالة مولانا الملك المعظم عضوا فيه بمرسوم ملكي، صدر بتاريخ 4 مارس سنة 1925، وقد أحسنت الحكومة صنعا في تعيينه؛ لأنه كفء ووطني صميم لتنتفع البلاد بمواهبه السامية وكفاءته العالية، وعند تعديل الوزارة المصرية في عهد رئاسة صاحب الدولة أحمد زيور باشا عرض على دولته منصب وزير المالية، فقبله وغرضه الوحيد من هذا القبول خدمة جلالة مليكه وبلاده.
أخلاقه
دولة الرئيس الجليل متصف بالرزانة والاستقامة والنزاهة والعدل طلق المحيا، لين العريكة وديع الأخلاق حسن المحضر لطيف المعشر، وعدا ذلك فهو في غاية التواضع بعيد عن الكبرياء والزهو، وما ذلك إلا نتيجة صلاحه وتقواه، أمد الله في حياته السعيدة، ونفع به هذه البلاد في ظل جلالة مليكها المحبوب.
ترجمة حضرة صاحب الدولة الوزير الجليل محمد سعيد باشا
كلمة للمؤرخ
يعد حضرة صاحب الدولة محمد سعيد باشا من رجال مصر المعدودين، الذين امتازوا بأصالة الرأي وبعد النظر وحسن الإدارة والمقدرة التامة في الشؤون السياسية، وفوق ذلك فهو موصوف بكبير وطنيته، والدفاع عن مصلحة البلاد وخيرها ورفع شأنها، ولا ينسى المصريون ما كان له من مواقف مشهورة، وجهاد عظيم إبان الحركة الوطنية المعلومة.
وإننا نفخر كل الفخر بتدوين تاريخ هذا الوزير الجليل، والعامل المجد، سائلين الحق أن يكثر من أمثال دولته بين رجال مصر؛ كي تنال الكنانة حظها الأوفر بين الدول المتمدينة بفضل غزير علمهم وكبير فضلهم.
مولده ونشأته
ولد دولته في ثغر الإسكندرية في 18 يناير سنة 1863م من والدين فاضلين، غذياه بلبان الفضيلة والعلم، وحلياه بالأخلاق الكريمة.
حضرة صاحب الدولة الجليل محمد سعيد باشا رئيس وزراء الحكومة المصرية سابقا.
ودرس علم الحقوق فنبغ فيه ونال شهادته بتفوق عظيم، وكان أول الوظائف التي تقلدها منصب وكيل نيابة في محكمة الاستئناف المختلطة سنة 1882م، وبعد أن أقام في هذا المنصب سبع سنوات نقل إلى نيابة المحاكم الأهلية، فما لبث طويلا حتى أسندت إليه رئاسة نيابة محكمة الإسكندرية الكلية، ومن ذلك الوقت أخذت تظهر مواهبه العالية، ولم تكن خدمة الحكومة بمتاعبها الجمة تنسيه واجباته نحو بلاده، فأنشأ في الإسكندرية جمعية العروة الوثقى، وتعهدها برعايته وصانها بذكائه، وأعلى شأنها بهمته وعزمه، وما غادرها إلا ولها مدارس شتى بين ابتدائية وثانوية وصناعية، وملاجئ للأيتام، ومجلة ترشد الناس إلى الطريق القويم، فأكبرت الأمة شأنه وأجلت الحكومة قدره.
انتقل في سنة 1895م مفتشا في لجنة المراقبة القضائية، ثم جعل مستشارا في محكمة الاستئناف الأهلية سنة 1905، فكان عادلا في أحكامه منصفا بعيدا عن كل ما يشين القضاء ورجاله.
ولما كان أكثر وزراء مصر من رجال القانون مثل أكثر الوزراء في البلدان الأخرى، وكان صاحب الترجمة حائزا على رضاء الأمة، ومحبة حاكم البلاد اختبر ليكون وزيرا للداخلية، فأسندت إليه في 12 نوفمبر سنة 1908م، وهي أوسع الوزارات نطاقا وأعمالا، وأكثرها متاعب وتعقدا فأظهر اقتدارا عجيبا حتى ذلل حزونها، وسار بها إلى الغاية المرومة، وهي استتباب الأمن والسكينة في البلاد، والأعمال النافعة التي عادت على العباد بالخير والإسعاد.
وبذكائه وحسن دهائه أسند الوظائف الرئيسية والمناصب العالية إلى أبناء البلاد الأكفاء، فلقبته الأمة عن حق وعدل بابن مصر البكر، ورجلها الأوحد. ولما اغتيل المرحوم بطرس غالي باشا رئيس الوزراء السابق، وانتقل إلى رحمة ربه جعل صاحب الترجمة رئيسا للوزراء في 23 فبراير سنة 1910، وبقي وزيرا للداخلية فقام بأعباء الرئاسة خير قيام، وتمكن بسعة حيلته العقلية وحكمته واقتداره من إنقاذ البلاد من المخاطر الكثيرة، التي كانت تتهددها وخرج بها من المآزق الحرجة بسلام، وكان الزمن الذي جعل فيه رئيسا للوزراء زمن مشاكل كمشكلة شركة قنال السويس.
ثم أخذ يعالج أسقام الأمة فشرع في إصلاح المحاكم الشرعية، والمجالس الحسبية والجامع الأزهر الشريف، واستمر تحسن الحال على هذا المنوال إلى آخر مدة وزارته.
فأبدلت الجمعية العمومية ومجلس شورى القوانين بالجمعية التشريعية، التي انتخب أكثر أعضائها من نوابغ الوطنيين، واتسع نطاق مجالس المديريات فتولت صغار الملاك من رهن أطيانهم، ومنعت وزارة الأشغال الضرر الكبير من انخفاض الفيضان، وجعل ديوان الأوقاف ومصلحة الزراعة وزارتين.
وقد أبطلت الوزارة السعيدية القلق والاضطراب من البلاد، وجرت في عهدها أعمال كثيرة من أنفع الأعمال، فاطرد سير الإصلاح، ولولا الأزمة المالية التي سبقتها لكان النجاح تاما من كل الوجوه، وقد تعرض بعض الموظفين في عهدها للانتقاد بحق أو بغير حق، وحدثت أمور أخرى لم ترض أمير البلاد، فغيرت الوزارة، وتغيير الوزارات أمر عادي في كل الممالك.
ولما ولي المغفور له السلطان حسين كامل الأول عرش مصر، اختص صاحب الترجمة برعايته وشمله بعنايته، فما كان يمضي يوم إلا ويتشرف بالمثول بين يديه.
تعيينه وزيرا للمعارف في عهد الوزارة السعدية
ولما كان لدولة صاحب الترجمة الجليل أن يتقاعد يوما ما عن خدمة بلاده بوافر علمه، وعظيم كفاءته العلمية والسياسية وأن يلازم داره بعيدا عن متاعب السياسة وكبير مسئوليتها، بل فضل التضحية من ثمين صحته، ووضع يده بيد الرئيس الجليل سعد باشا زغلول الذي اختاره وقت أن تولى رئاسة مجلس الوزراء في 28 يناير سنة 1924 أن يكون وزيرا للمعارف العمومية، وإلى هنا لا يسعنا إلا أن نذكر مآثره العديدة على العلم وأهله، مما لا ينسى على ممر الأيام وكرور الأعوام، ولقد كان الساعد الأيمن والعضد الأكبر لدولة سعد باشا زغلول لما يعرفه فيه جيدا من الكفاءة والمقدرة في حل العقد السياسية، وقد انتخب وهو في منصبه هذا للإشراف على وزارة الحقانية، فكان في كلتا الوزارتين المثل الأعلى والقدوة الكاملة لمن يريد اكتساب المجد والفخر.
وقد استقال باستقالة الوزارة السعدية ولزم الحياد في كافة الشؤون السياسية.
صفاته وأخلاقه
كامل الصفات كريم الأخلاق كفء في إدارة كافة الشؤون العلمية والسياسية والإدارية، أبي النفس عالي الهمة محترم الجانب محبوب من جميع عارفي فضله بشوش الطلعة، أكثر الله من أمثاله العاملين لخير مصر ورفع لواء مجدها وإسعادها.
ترجمة حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل يوسف سليمان باشا
هو ذلك الشهم الذي بصفاته
تثني عليه مشارق ومغارب
صافي السريرة لا يزال على المدى
كرما على الفعل الجميل يواظب
يحوي الوداعة والخلوص مع التقي
في طي قلب للإله يراقب
متواضع سام علت شرفا له
في ذروة الكرم الأشيل مراتب
لا عيب فيه غير أن بلطفه
هو للقلوب بكل حين ناهب
حفت به العليا فزان بهاءها
حسنا كما زان السماء كواكب
إذا شاء الفخر أن يذكر في موضعه، والإقدام في مركزه، والنجابة في شخصها، والشهامة في إنسانها، فلا تجد غير صاحب الترجمة حضرة صاحب المعالي الجليل يوسف سليمان باشا، فهو سليل بيت المجد كريم المحتد، شريف الحسب، طاهر النسب، تغذى بلبان الفضيلة، وشب على إغاثة الملهوف، ومحض على الخير، وظهرت كفاءته، وتجلت عبقريته في الشؤون القضائية والإدارية، فبلغ بهما أسمى وأرفع الرتب في الحكومة المصرية حتى قبض على زمام وزارتي الزراعة والمالية يوما ما.
حضرة صاحب المعالي يوسف باشا سليمان وزير المالية سابقا.
مولده ونشأته
ولد معالي صاحب الترجمة ببلدة سندبيس من أعمال مركز قليوب قليوبية في 11 فبراير سنة 1862م/2 شعبان سنة 1287ه، وقد تركه المرحوم والده طفلا صغيرا فعني بتربيته شقيقه الأكبر المرحوم عطا الله أفندي سليمان، فأدخله في مدرسة الأقباط الكبرى بشارع كاوت بك بمصر، حيث تلقى فيها التعليم الابتدائي والثانوي، وأتقن من اللغات العربية والفرنساوية والقبطية، وكان مثال الذكاء والنشاط، فاكتسب رضاء أساتذته وعطف زملائه، وبعد أن أتم دراسته بها كان المتبع وقتئذ أن المرحوم فيدال باشا ناظر مدرسة الإدارة «مدرسة الحقوق الآن»، يمتحن في كل عام الطلبة المنتهين الذين أتموا دراستهم في هذه المدرسة لإلحاق من يختاره منهم في مدرسة الإدارة، وفي عام 1878م وقع اختيار الباشا المومى إليه على صاحب الترجمة ضمن الطلبة الذين اختارهم، كما آنس فيه من الذكاء المفرط والجد والاستقامة والنبوغ الفطري للالتحاق بمدرسة الإدارة، فالتحق بها في السنة عينها، وذلك بعد أن أدى امتحانا ثانيا بها أمام لجنة مؤلفة من ناظر المدرسة المشار إليه، والأستاذ الأكبر الشيخ حسونة النواوي، فاز فيه على جميع أقرانه، ودرس في هذه المدرسة اللغة الطليانة أيضا، ونال منها شهادة «ليسانس» في سنة 1881 بدرجة أعلى، حيث كانت الدرجات وقتئذ على ثلاثة أقسام أعلى وعال ومناسب.
أشغاله الحكومية
وفي تاريخ نواله هذه الشهادة ألحق بوظيفة كاتب ظهورات بمحكمة مصر المختلطة بمرتب شهري خمسماية قرش، ثم عين كاتبا مستديما في تلك المحكمة في 30 يونيو سنة 1882 بمرتب قدره ستماية قرش، ثم نقل في 13 نوفمبر سنة 1883 إلى المحاكم الأهلية بالوظيفة عينها، بمرتب قدره ثمانماية قرش وفي 12 أبريل سنة 1884 عين مساعدا للنيابة، وألحق بنيابة محكمة مصر الابتدائية الأهلية، ثم ترقى إلى درجة وكيل بالنيابة عينها، وصار يتدرج في هذه الوظيفة من الدرجة الثالثة للثانية إلى أن عين وكيلا من الدرجة الأولى، واستمر في هذه الوظيفة بجده المشهود، ونزاهته المعروفة إلى أن رقي رئيسا لنيابة محكمة مصر في 30 ديسمبر سنة 1890، وكانت النيابة وقتئذ يتبعها في الإدارة القضائية العاصمة ومديريتي الجيزة والقليوبية، وفي هذا العهد كان مركز رئيس النيابة غيره في العهد الحاضر، فإن كثيرا من الأعمال التي تقوم بها إدارة الأمن العام المنشأة حديثا في وزارة الداخلية، والتي تقوم بها حكمدارية البوليس كان محولا على النيابة، فكان صاحب الترجمة قائما بهذه الأعمال أحسن قيام بجد ونشاط، ساهرا على مصلحة القضاء والأمن العام مدة سنوات، حتى انتدب رئيسا بنيابة الاستئناف في سنة 1902م، ومن ثم نقل قاضيا بمحكمة المنصورة المختلطة في 9 مارس سنة 1906، وظل شاغلا لهذه الوظيفة في المحكمة المذكورة إلى أن نقل قاضيا في محكمة مصر المختلطة في 21 نوفمبر سنة 1909، واستمر فيها إلى أن رقي إلى وظيفة مستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية في 6 مارس سنة 1916، وقد قدرت له الحكومة المصرية هذه الخدمات الجليلة، وتحققت من علو كعبه في المسائل القانونية والإدارية، ونزاهته وعدله وجده وكفاءته، فولته وزيرا للزراعة في 22 مايو سنة 1920 في عهد رئاسة حضرة صاحب الدولة محمد توفيق نسيم باشا الأولى، واستمر آخذا بشؤونها معليا من شأنها ساهرا على رقيها إلى أن استقالت الوزارة المذكورة في 16 مارس سنة 1921، وعند تشكيل وزارة الرئيس المشار إليه للمرة الثانية أعيد معالي صاحب الترجمة وزيرا لوزارة المالية في 30 نوفمبر، سنة 1922 إلى أن استقالت في 9 فبراير سنة 1923.
عضويته بالوفد الرسمي
ولما تقلبت القضية المصرية في السنتين الماضيتين لهذا التاريخ إلى أدوار مختلفة، كان آخرها أن عين جلالة الملك فؤاد الأول وفدا رسميا برئاسة صاحب الدولة عدلي يكن باشا؛ ليتولى مفاوضة الحكومة الإنكليزية؛ بغية الوصول إلى الاتفاق المنشود، ولما دعي هذا الوفد الرسمي إلى لندن قام عدلي باشا بمهمة الوسيط بينه وبين لجنة ملنر.
ومما يذكره التاريخ لرئيس هذا الوفد أنه على أثر تعيينه لمجلس الوزراء سنة 1919، نشر برنامجا سياسيا بين فيه للأمة الخطة التي ينوي اتباعها، ولم تكن مصر تعهد من قبل مثل ذلك البرنامج، الذي يعد فوزا للروح الديمقراطية، وقد جاء فيه:
إن الوزراء ستجعل نصب عينيها في المهمة السياسية، التي ستقوم بها لتحديد العلاقات الجديدة بين بريطانيا العظمى وبين مصر، الوصول إلى اتفاق لا يجعل محلا للشك في استقلال مصر، وستجري في هذه المهمة المتشعبة بما تتوق إليه البلاد ومسترشده بما رسمته إرادة الأمة، وستدعو الوفد المصري الذي يرأسه سعد زغلول باشا إلى الاشتراك في العمل لتحقيق هذا الغرض.
غير أنه بعد الأخذ والرد وبالرغم من المساعي الكثيرة، التي بذلت للتوفيق بين عدلي باشا وسعد زغلول باشا لم يحصل الاتفاق المرغوب، فعين الوفد الرسمي برئاسة عدلي يكن باشا مؤلفا من حسين رشدي باشا وإسماعيل صدقي باشا ومحمد شفيق باشا وأحمد طلعت باشا ويوسف سليمان باشا صاحب هذه الترجمة، وغيرهم من الماليين والمهندسين بصفة خبراء ومستشارين.
وهناك أخذ الوفد الرسمي يناضل ويجادل ويناقش بما أوتي من دراية وحنكة سياسية عظمى، ومقدرة كبرى، حتى أدهش أقطاب ساسة الأمة الإنكليزية، ولكن رغما مما أتاه هذا الوفد الرسمي من الأدلة الناصعة، والبراهين القاطعة والبيانات الهامة عدا التصريحات الرسمية التي قطعتها الحكومة الإنجليزية على نفسها، وسبق وعودها أسفر كل ذلك عن عدم قبول الإنجليز مطالبه، والإذعان إلى قبول مشروع اللورد كرزون، فلم يجد الوفد الرسمي إزاء هذا التعنت سوى رفض قبول أي مطلب من مطالب اللورد كرزون، وقفل عائدا إلى مصر فوصلها في ديسمبر سنة 1921، وعقب حضوره قدم دولة رئيسه استقالته المعروفة وبقيت البلاد بلا وزارة حتى أول مارس سنة 1922، حيث دعي عبد الخالق ثروت باشا لتأليفها محتفظا لنفسه برئاسة مجلس الوزراء ووزارتي الداخلية والخارجية. وقد سئل حضرة صاحب المعالي يوسف سليمان باشا فيما إذا كان يقبل الدخول في هذه الوزارة، فرفض وفضل عدم الدخول فيها، وقد استقالت هذه الوزارة وأخلفتها وزارة دولة نسيم باشا الثانية، التي دخل فيها حضرة صاحب المعالي صاحب هذه الترجمة وزيرا للمالية.
وقد برهن معاليه وحضرات زملائه الكرام على شمم عال، ولم يتهاونوا في حقوق البلاد، كما رفعوا منزلة مواطنيهم في أعين الأمم الغربية، وزاد احترام الكل لهم.
خدماته ومآثره الجليلة بالمجلس الملي العام والجمعيات الخيرية وغيرها
وقد يرتاح ضمير المؤرخ من إثبات الحقائق الواقعة، وتجنب التزلف والتملق لغايات دنيئة في النفس، كما قد يسر إذا هو دون لأصحاب المروءات مروءاتهم، ومآثرهم الخالدة أمثال أعمال معالي صاحب هذه الترجمة، وهي صحيفة بيضاء، نثبتها له تظل ناطقة له بالفضل والإعجاب بين دفتي التاريخ ما دامت السماوات والأرض.
وإننا نفخر بتسطير جلائل أعماله، وعظيم خدماته لأبناء طائفته وكذا المعاهد العلمية والجزئية التي مدها بثاقب فكره وغزارة ذكائه؛ ليقف عليها أبناء الأجيال المقبلة فيسدونه ما يستحقه من الشكر والثناء.
انتخب معاليه عضوا بالمجلس الملي العام للأقباط الأرثوذكس عام 1890م بطريق الانتخاب، وكان هذا المجلس مركبا من اثني عشر عضوا واثني عشر نائبا، يختارون بطريق الانتخاب في جمعية عمومية تعقد بالدار البطريركية من أبناء الطائفة القبطية عموما، ثم انتهت مدة عضوية هذا المجلس في سنة 1891، واستعيض عنه باللجنة الملية، التي اختير فيها أيضا معالي صاحب الترجمة لأن يكون عضوا فيها في سنة 1892، ثم انتخب عضوا بالمجلس الملي العام للمرة الثانية عام 1906 بطريق الانتخاب بالكيفية السالفة الذكر، وكان المجلس أيضا حافظا لعدد أعضائه ونوابه السابق بيانه، وعند الانتخاب نال صاحب الترجمة أكثر الأصوات، فكان أول المنتخبين لجدارته، وعظيم كفاءته في تصريف الأمور بحنكة ودراية، وحل المشكلات القضائية حلا مرضيا بضميره الطاهر وبعده عن التحيزات الشخصية، ثم استمر إلى أن انتهت مدة هذا المجلس، وتجددت بالكيفية عينها إلى سنة 1912، حيث صدر دكريتو بأن يكون الأعضاء المنتخبون ثمانية فقط، فانتخب معاليه ضمن هؤلاء الأعضاء، كما انتخب أيضا بعد انتهاء هذه المدة في سنة 1918 عضوا بالكيفية ذاتها، واستمر في هذه العضوية يفصل في القضايا والإشكالات بعين ملؤها العدل والنزاهة، إلى أن حاز رتبة الوزارة سنة 1920، فطلب الإقالة وقتئذ من عضوية المجلس الملي العام لما رآه من عدم ملاءمة استمراره في عمله هذا مع الأعمال الجديدة التي أسندت إليه بمسند الوزارة.
ولا يمكن لنا أن نحصر كثرة أعماله المجيدة، والمآثر الفريدة التي قدمها للجمعيات الخيرية، التي يعتبر معاليه عضوا ومؤسسا لها، حيث قدم لها من ماله الخاص الشيء الكثير، وقام بإصلاح المختل من نظامها، فأطلق الألسن بالشكر والثناء والدعاء بحفظ ذاته الكريمة من كل سوء.
استقباله لسمو عقيلة ولي عهد المملكة الحبشية والاحتفاء بها
وقد دل احتفاؤه العظيم ومروءته العالية يوم أن شرفت حضرة صاحبة السمو الإمبراطوري الأميرة منن عقيلة صاحب السمو ولي عهد المملكة الحبشية في سراي معاليه بعد زيارتها للقدس الشريف.
حضرة صاحب المعالي يوسف باشا سليمان وزير المالية سابقا بملابسه الملكية.
وذلك أنه عندما زارت سموها القدس الشريف أرسلت كتابا لغبطة بطريرك الأقباط، تظهر فيه رغبتها في زيارة مصر حال عودتها لاستمداد دعواته، وبركاته الصالحة من فمه الطاهر، وإنها ستقيم من أسبوع إلى عشرة أيام وفي الوقت نفسه أرسلت لسكرتير غبطته يوسف لما الحبشي تلغرافا تكلفه فيه بأن يحجز لها ولحاشيتها المؤلفة من أميرة من أمراء البيت المالك هي الأميرة ويزرو كاسلاورك والدحاز ماتوس «الجنرال» هيلا ثلاثي وبلانا هروي رئيس محكمة الأجانب، والأب ولد مريم كاهن الأميرة وغيرهم جناحا في منزل شبرد، فلما أطلع غبطة البابا على هذا التلغراف أرسل لسموها كتابا أعرب فيه عن مزيد سروره بمقدمها السعيد إلى القطر المصري، وإن غبطته يرى أن تنزل على الرحب والسعة والإجلال في سراي معالي صاحب الترجمة الكائنة بالعباسية «وهي تلك السراي التي قل وجود نظيرها في فخامة البناء، وجمال الموقع وطلاقة الهواء، ذات الحديقة الغناء البعيدة عن الغوغاء»، فجاء من سموها الرد في الحال تشكر غبطته ملبية الطلب، وحلت وحاشيتها فيه يوم السبت الموافق 14 أبريل سنة 1923 الساعة 11 مساء، حيث استقبل سمو الأميرة في محطة مصر مندوب من قبل جلالة الملك هو معالي سعيد ذو الفقار باشا كبير الأمناء، ومندوب آخر من قبل فخامة اللورد اللنبي وهو جناب السير سكوت مستشار دار المندوب السامي وصاحب النيافة الأنبا متاؤس مطران المملكة الحبشية، الذي كان قد جاء لمصر من قبل قدومها للتبرك من غبطة البابا المعظم والاستشفاء من مرض ألم به، وكذا جناب قنصل إيطاليا وجناب قنصل فرنسا، وعدد كبير من أعيان الأقباط، وفتح لسموها الباب الملكي، فخرجت منه ويممت سراي حضرة صاحب المعالي يوسف سليمان باشا صاحب هذه الترجمة، حيث نزلت هي وحاشيتها ضيوفا أعزاء على مضيفهم الكريم، وفي صباح وصولها وكان يوم الأحد 15 أبريل سنة 1923 بكرت سموها وحاشيتها لحضور الصلاة في الكنيسة المرقسية الكبرى، التي اكتظت بألوف من أفراد الشعب القبطي رجالا وسيدات، وكانت الأعلام الحبشية والمصرية تخفق على الدار البطريركية.
وقد زين المدخل وفناء المدرسة القبطية الكبرى بزينة تبهر الأبصار، وبعد انتهاء القداس صعدت سموها إلى القصر البطريركي يحفها الوقار والإجلال، فاستقبلها غبطة رئيس الأحبار مرحبا بها مهنئا إياها بسلامة الوصول مباركا إياها داعيا لها، ولجلالة الإمبراطورة، ولسمو ولي العهد ولجميع رجال المملكة الفخام.
وقد أقامت سموها بالعاصمة في سراي معالي صاحب الترجمة أسبوعا زارت في خلاله قصر عابدين، ودار فخامة المندوب السامي البريطاني، حيث أدب لها مأدبة فخمة ثم طافت بالكنائس القبطية الأثرية والمعاهد العلمية، كالمدرسة الكبرى البطريركية والمشغل البطرسي، ومدرسة البنات التابعة لجمعية التوفيق، كما أنها زارت البطريركية الأرمنية وكنيستها، وسافرت إلى الأقصر في قطار خاص أعدته الحكومة المصرية خصيصى لسموها، حيث شاهدت آثار وادي الملوك، والآثار التي اكتشفت من قبر توت عنخ أمون، وكانت في كل هذه الزيارات موضعا للحفاوة والإكرام.
وفي يوم الأحد التالي «22 أبريل سنة 1923» حضرت سموها صلاة القداس بكنيسة المعلقة بمصر القديمة، وتناولت الأسرار المقدسة من يد نيافة الحبر الجليل الأنبا متأوس مطران المملكة الحبشية، والذين رأوها في الكنيسة الكبرى، وفي كنيسة المعلقة واقفة بكل ورع وخشوع من أول صلاة القداس إلى نهايتها، يتمنون أن جميع الناس يقتدون بها في احترام بيوت العبادة، وفي تقديس أوقات الصلاة. وفي عصر ذلك النهار جاءت الأميرة إلى الدار البطريركية؛ لكي تودع قداسة الحبر الأعظم، فاقتربت من قداسته حاسرة الرأس وركعت عند قدميه بكل أدب واحترام، وكذلك فعل كل رجال حاشيتها فباركهم غبطته، ودعا لهم ولبلادهم بالخير والنجاح، وكلف سموها تبليغ تحياته، ودعواته لجلالة الإمبراطورة ولسمو ولي العهد، ولجميع رجال الحكومة الحبشية وسائر الشعب الحبشي.
مأدبة الكونتننتال
وفي مساء الأحد المشار إليه أقامت سمو الأميرة مأدبة في فندق الكونتننتال لعدد من أكابر الأقباط وعقائلهم؛ لكي تعرب لهم عن شكرها على احتفالهم بها، وكان في مقدمة الذين لبوا دعوتها لحضور هذه المأدبة صاحب النيافة الأنبا متاؤس مطران المملكة الحبشية، والأنبا يوساب مطران كرسي الفيوم، وجناب الأب المحترم القمص بطرس عبد الملك رئيس الكنيسة الكبرى، وأصحاب المعالي يوسف سليمان باشا مضيفها الكريم صاحب هذه الترجمة، والسيدة الجليلة كريمة قرينة حضرة صاحب العزة المفضال كامل بك إبراهيم المستشار بمحكمة مصر الأهلي، وفوزي باشا المطيعي وزير الزراعة والسيدة عقيلته، ونجيب غالي باشا والسيدة عقيلته، وغيرهم من كبار وأعيان الأمة القبطية، ولما انتظم عقد المدعوين دخلوا قاعة المائدة التي كانت مزينة أبدع زينة، وفي صدرها العلم الحبشي بين علمين مصريين، وبعد تناول العشاء وقف معالي فوزي باشا، فألقى كلمة شكر فيها سمو الأميرة لهذه الزيارة المباركة، التي كان من طلائع يمنها على مصر أن دستور الاستقلال أعلن في خلالها، وأشار إلى الحبشة ومحافظتها على استقلالها منذ فجر التاريخ، وتمنى لها مزيد التقدم والنجاح، وبعدما دعا لجلالة ملك مصر الدستوري طلب لسمو الأميرة سفرا سعيدا وعمرا مديدا.
خطبة معالي صاحب الترجمة
ومن ثم وقف حضرة صاحب المعالي الجليل صاحب الترجمة، فألقى بين يدي سموها خطبة شيقة حازت قبولا واستحسانا لديها، وإننا نثبتها هنا ضمن ترجمة معاليه؛ ليقف القراء على مكانته السامية في عالم الخطابة والتاريخ.
تعلمون حضراتكم أن تاريخ بلاد الأحباش قديم جدا ومجيد، واشتهر ملوكهم منذ القدم بالتدين وحب الحكمة وطلبها أينما وجدت، فقد جاء في التوراة أن ملكة سبأ «الحبشة» لما سمعت عن حكمة سليمان الملك ابن داود ملك إسرائيل، جاءت من أقصى بلادها رغما عن صعوبة الأسفار في هاتيك الأيام، وتحملت مشاق الأتعاب لتسمع وتتحقق بنفسها حكمة سليمان، وقد امتحنته بمسائل عديدة وطوبته وطوبت رجال حاشيته، وقد مدحها السيد المسيح على عملها هذا في الإنجيل المقدس، ويدلنا التاريخ أن الأجانب اعتنقوا الديانة المسيحية منذ الجيل الرابع على يد فرومنيوس، الذي رسمه القديس أيناسويس الرسولي أسقفا عليها، وسماه الأنبا سلامه ومن ذلك العهد حتى الآن ومبادئ المسيحية حية نامية في تلك البلاد، حتى اشتهر شعبها بشدة تمسكه بالدين، واشتهر ملوكها وأمراؤها بهذه المزية المحبوبة، وهي شدة التقوى والمحافظة على مبادئ الدين، فهم مثال في التقى والفضيلة والعبادة، ومن أخص المزايا التي يمدحون عليها استمساكهم الوثيق بعرى المبادئ الأرثوذكسية، فبينما ترى كثرة المذاهب المسيحية وانتشارها في جميع الممالك، وترى العالم المسيحي متفرقا إلى مذاهب عديدة، وشيع كثيرة تجد الأحباش لا يزالون على عهدهم الأول، ولا تجد بينهم من يميل إلى تغيير عقيدته أو التحول عنها بأية حال من الحالات، وليس تمسك الأحباش بعقائدهم ومبادئ دينهم بالقول فقط، بل إنهم متدينون بالفعل تدينا حقيقيا، فلهم إيمان وثيق حي ويحافظون على إتمام فروضهم، وواجباتهم الدينية بكل حرارة لا فرق في ذلك بين الأمراء وعامة الشعب، ولقد سمعنا كثيرأ عن تدين وتقوى جلالة الإمبراطورة زودينو ملكة ملوك الحبشة، وورع ولي عهدها الرأس طفري، وهو ذا أمامنا ومعنا المثال العالي على ذلك حضرة صاحبة السموالإمبراطوري الأميرة منن فان سموها، والحق يقال: خير مثال للفضيلة والكمالات المسيحية والورع والعبادة ، كما شاهدنا ذلك في سموها، وكم أنا سعيد عندما أعرب عن سروري واغتباطي بالحظوة الشريفة، التي نلتها بتنازل سموها وقبولها بتشريف داري، وإني أعلن بمزيد السرور أنها أعظم حظوى نلتها في حياتي، فلقد كسبت فوق الشرف الذي شرفتني به بتنازلها هذا أن أضحت أعظم قدوة، وأفضل مثال نحتذيه من تقوى الأمراء، وسيبقى هذا المثال حيا أمامي وأمام أولادي وأحفادي يذكرونه جيلا بعد جيل، ويقتبسون منه أثمن الفضائل والأخلاق العالية.
ولقد سمعت كثيرا من سموها حسن تقديرها، ومحبتها للعلاقة الثابتة التي تربط الأحباش بالأقباط، ولا شك أن جميع الأحباش يذكرون ذلك، ويقدرون هذه العلاقة الروحية المتينة حق قدرها.
ولا يفوتني في هذه الفرصة أن أنصح لسيداتنا وبناتنا أن يتخذن هذه الأميرة الجليلة الفاضلة خير قدوة لهن في التربية المسيحية، والحشمة، والورع والفضائل، وتربية الأولاد على المبادئ المقدسة، ويتبعون خطواتها لخير العائلة القبطية.
واختتم معاليه خطبته هذه بأن قال:
وأرجو من سمو الأميرة أن تتفضل وتبلغ عنا احترامات الأمة المصرية، وأماني الشعب المصري لحضرة صاحبة الجلالة الإمبراطورة زوديتو، وحضرة صاحب السمو ولي العهد الرأس طفري، ولجميع الأمراء والشعب الحبشي، وأسأل الله تعالى أن يديم سلامة المملكة الحبشية، ويؤيدها بكل قوة وسعادة من لدنه، ويحفظ لنا جلالة مليكنا فؤاد الأول المعظم وسمو الأمير فاروق ولي عهده فهو السميع المجيب.
وأعقب معاليه سعادة مرقص سميكة باشا، فألقى كلمة حازت رضاء سموها وقوبلت بالاستحسان.
ثم وقف بعد ذلك سعادة بلاته هروي نائبا عن سموها، وخطب بالحبشية شاكرا للأقباط خصوصا وللمصريين عموما، ما لاقت الأميرة من عظيم الحفاوة بها، وقال: إنها ستخبر أهالي بلادها بهذه المحبة الفائقة، وهذا الإخلاص الوافر وإنها لن تنسى ما لاقته من مروءة معالي يوسف سليمان باشا صاحب الدار، وتوفر أسباب الراحة لها ولحاشيتها، مما سيدوم ذكره عالقا في فؤادها ما عاشت.
وأنه والحق يقال لقد أتى معالي صاحب الترجمة من ضروب الكرم، وحسن الضيافة والحفاوة المتناهية بسموها ورجال حاشيتها الكرام ما جعلهم يلهجون بالشكر والثناء لمعاليه.
تشريف جلالة الملك بسراي معاليه
ولما كان معالي صاحب الترجمة من أكبر المخلصين لجلالة مليك البلاد مولانا صاحب الجلالة فؤاد الأول، وحائزا على رضائه العالي، فقد تفضل جلالته حفظه الله فشرف سراي معالي صاحب الترجمة بالعباسية، بعد زيارة سمو الأميرة منن أثناء وجودها في سراي معاليه، وقد تفضل جلالته فصافحه معربا له عن ارتياحه باشا في وجهه، وقد قابل معاليه هذه المنة الكبرى والتعطف السامي بالدعاء بحفظ جلالته، وسمو الأمير ولي العهد، وعاد كما جاء بالإجلال والتعظيم إلى سراي عابدين العامرة.
الرتب والنياشين التي حازها معاليه
وقد حاز معاليه من أوسمة الفخار أكبرها وأعظمها ورتب المجد أرفعها وأفخرها، إذ منح الرتبة الثانية في 26 سبتمبر سنة 1892، والنيشان العثماني من الدرجة الرابعة في 2 فبراير سنة 1896، ورتبة البكوية من الدرجة الأولى في 20 مارس سنة 1916، ورتبة الباشوية في 31 مارس سنة 1920، ورتبة الوزارة في 22 مايو سنة 1922، ووشاح النيل الأكبر في 2 محرم سنة 339، ورتبة الامتياز في 22 ربيع الثاني سنة 1341، وفي كل ذلك أكبر دليل على ما لمعاليه من الجدارة والكفاءة والنزاهة.
صفاته وأخلاقه
وأما مكانة حضرة صاحب المعالي الجليل في الأمة المصرية عامة والأقباط خاصة، فقد نالت الدرجة القصوى من الاحترام والإكبار والإجلال، وذلك بفضل سمو أخلاقه وعالي مروءته، وتواضعه المتناهي والدعة التي لا ينفك لسان الرائي يلهج بالثناء عليها، فقد عرف بين جميع الطبقات بالبشاشة، وحسن اللقاء وطيب الحديث، فيستميل نفوس مجالسيه جاذبا إليه قلوبهم بعذوبة لفظه، ورقة عبارته، ولا نستطيع إثبات أعماله الخيرية الكثيرة، التي يجهد معاليه في كتمانها عن الناس عملا بنص الإنجيل المقدس، ولكن رغما من هذا الاجتهاد، فقد شهد له عموم أبناء الأمة القبطية بأنه يمسح دموع الأرملة، وعبرات الشيخ بيد الإحسان، ويتوجع للحزين، ويتفجع للكئيب، ويجد ويكد في تفريج كروب المتضايقين، وإغاثة الملهوفين وإيصال عيش أهل البيوت التي كانت عامرة، فجارت عليها صروف الزمان، وأناخت بفنائها كوارث الحدثان فانطلقت ألسنتهم بالدعاء والابتهال للعزة الإلهية أن يحفظ معاليه وعائلته الكريمة من كل سوء، وقد انتخب معاليه عضوا بمجلس النواب المنحل عن دائرة الأزبكية، وفاز بأغلبية الأصوات وكنا نود أن يظل المجلس منعقدا لتحقق مطالبه، ونسمع آراءه السديدة وأفكاره الصائبة لو لم تفاجئه عواصف السياسة التي قضت بحله.
بعض مآثره المعروفة
وأما عن مآثره المعروفة لنا فقد قام معاليه وأفراد عائلته الكرام بتشييد كنيسة كبرى ببلدته «سندبيس»، وهي من أعظم الكنائس رونقا وبهاء، وأحسنها طرازا وهي على النمط «البيزنتي» القديم كما شيد أيضا وعائلته في البلدة عينها مدرسة للبنين، وأخرى للبنات ملحقتين بدائرة الكنيسة لتعليم العنصرين، وهما الآن تحت إشراف مجلس مديرية القليوبية.
وبالإجمال فإننا إذا عددنا مآثر هذا الشهم النبيل، وفضائله العديدة على الإنسانية لضاق بنا المقال، فنكتفي بهذه النبذة تنويها بفضله.
ومن نعم الله الكبرى على معاليه أن رزقه أنجالا كراما على جانب عظيم من الرقي الأخلاقي، والأدب الجم والخصال السامية منهم حضرة صاحب العزة القاضي النزيه العادل فهيم بك سليمان، القاضي بمحكمة مصر الأهلية، فإنه والحق يقال مثال معالي والده الجليل من كل الوجوه، ولا يدع في ذلك فمن شابه أباه فما ظلم.
أدامه الله تعالى وحضراتهم وباقي أفراد لعائلة الكريمة رافلين في بحبوحة السعادة والهناء، وأكثر من أمثالهم في أبناء الأمة العاملين.
ترجمة حضرة صاحب المعالي القانوني النزيه أحمد ذو الفقار باشا وزير الحقانية
مولده ومنشأه
ولد معاليه في ثغر الإسكندرية من والدين كريمين عريقين في المجد والنبل عام 1862م الموافق لعام 1277ه، ووالده هو المغفور له أحمد علي ذو الفقار باشا أحد وزراء مصر السابقين، الذين اشتهروا بالنزاهة والاستقامة والجد والكفاءة.
درس علم الحقوق ونبغ فيه نبوغا أدهش متشرعي القوانين أنفسهم، ونال شهادة الليسانس بتفوق عظيم، وكان أول الوظائف التي تولاها منصب مساعد بالنيابة المختلطة بتاريخ 21 يناير سنة 1892، وفي يوليو سنة 1894 عين قاضيا من الدرجة الثالثة بمحكمة أسيوط الأهلية، وفي 18 مارس سنة 1896 نقل لمحكمة مصر الأهلية، ورقي لدرجة قاض من الدرجة الثانية في 26 مارس سنة 1900، ونقل لمحكمة أسيوط وبتاريخ 16 مايو سنة 1901 نقل لمحكمة طنطا، وفي يناير سنة 1902 رقي للدرجة الأولى، فكان في كل هذه الوظائف السامية عادلا في أحكامه نزيها منصفا بعيدا عن كل ما يشين القضاء، وفي 29 نوفمبر سنة 1902 عين وكيلا لمحكمة أسيوط الأهلية فرئيسا لمحكمة قنا، وفي 28 يناير سنة 1905 عين رئيسا لمحكمة الزقازيق فقاضيا لمحكمة المنصورة المختلطة، ولما تجلت نزاهته وعرفت استقامته وطهارة ذمته رقي مستشارا بمحكمة الاستئناف الأهلية، فكان مثال الجد والذكاء والعدل بعيدا عن المحاباة والتحيز، وقد أذيعت هذه الفضائل بين الملأ كما اتصلت بمسامع جلالة المليك المعظم، فقدرها حق قدرها، وأحله في أسمى وأرقى مركز في حكومته السنية، إذ جعله وزيرا للحقانية بتاريخ 21 مارس سنة 1919 في رئاسة صاحب الدولة محمد سعيد باشا، واختير لها في وزارة صاحب الدولة يوسف وهبه باشا، وفي وزارتي صاحب الدولة محمد توفيق نسيم باشا الأولى والثانية، وقام بأعبائها للمرة الخامسة في رئاسة صاحب الدولة يحيى إبراهيم باشا وفي تعدد توليه هذه الوزارة دليل قاطع وبرهان ساطع على ما له من الكفاءة والمقدرة، وسمو المكانة لدى الهيئتين الحاكمة والمحكومة.
حضرة صاحب المعالي القانوني أحمد ذو الفقار باشا وزير الحقانية.
وفي هذا العهد نالت مصر دستورا نيابيا شبيها بدساتير الأمم الدستورية فاستبشرت الأمة به خيرا، واغتبط الشعب على بكرة أبيه وانهالت الرسائل البريدية والبرقية من أعضاء الهيئات النيابية وغيرها، مهنئه جلالة المليك المعظم داعين له بدوام ملكه وتثبيت عرشه.
ونظرا لما لمعاليه من المكانة السامية لدى جلالته، ووثوقه التام من كفاءته العلمية ومقدرته الشخصية عينه وزيرا مفوضا لدى حكومة إيطاليا بروما؛ ليمثل جلالة مصر وعظمتها هنالك، فقوبل هذا التعيين السامي بالارتياح العام من الأمة التي تعرف في شخصه الجليل كل الصفات الممتازة والمناقب المحمودة.
ومكث هناك حتى يوم 13 سبتمبر سنة 1925، إذ فيه تعدلت هيئة الوزارة الزيورية للمرة الثالثة، وعين صاحب الترجمة وزيرا للحقانية للمرة السادسة.
الرتب والنياشين التي حازها
الرتبة الثانية سنة 1892 والمتمايز سنة 1908 والباشوية سنة 1915، والمتمايز الرفيعة، ومنح المجيدي الخامس مع النجمة المصرية سنة 1883، والمجيد الثالث في يوليو سنة 1911، والنيل من الطبقة الثالثة سنة 1918، والوشاح الأكبر سنة 1919.
ومعاليه يتقن من اللغات العربية والفرنسية والتركية إتقانا تاما.
ترجمة صاحب المعالي الوزير الجليل محمد توفيق رفعت باشا
صفاته وأخلاقه
عرف بين طبقات الشعب بالبشاشة - وطيب الحديث يستميل نفوس جلسائه بعذوبة ألفاظه، ورقة عبارته وغزارة مادته، وإذا وقف على حقيقة أمر من الأمور جد في تأييده غير حائد عن رأيه.
أطال الله حياة معاليه وأكثر من أمثاله لخير مصر ورفع شأنها.
صاحب المعالي الوزير الجليل محمد توفيق رفعت باشا وزير المعارف السابق ووزير المواصلات حالا.
كلمة للمؤرخ
معالي صاحب الترجمة من رجال مصر النبغاء العاملين، وأفرادها المعدودين الذين امتازوا بسمو المدارك وغزارة العلم، وإدارة الأعمال وأصالة الرأي.
وإننا نلخص تاريخه المجيد بقلم الإعجاب والفخر، سائلين الحق أن يكثر من أمثاله في أبناء مصر لرفع لواء العلم والعرفان في ربوع البلاد.
مولده ونشأته
ولد معاليه بالقاهرة في يوم 25 سبتمبر سنة 1866م من أبوين شريفين كريمين، غذياه بلبان الأدب والفضيلة، وأدخلاه مدرسة الألسن «مدرسة المعلمين الآن»، فأبدى من ضروب الذكاء والجد والنشاط وحسن الاستقامة والمواظبة ما حبب فيه أساتذته وأقرانه الطلبة، وبعد أن أتم دروسه فيها عين مدرسا بها، ومكث في مهنة التدريس مدة سنتين تقريبا، ثم سافر إلى فرنسا في إرسالية بعثت بها الحكومة المصرية، فدرس علم الحقوق ومكث ثلاث سنوات أي: من سنة 1885م إلى أن عاد لمصر في شهر أكتوبر سنة 1888، وعند عودته عين مساعدا للنيابة العمومية في 13 مايو سنة 1889 بالدرجة الثالثة، ثم رقي إلى الدرجة الثانية في مارس سنة 1891، وللدرجة الأولى في 18 نوفمبر سنة 1891، ثم عين قاضيا لمحكمة بني سويف الأهلية في سبتمبر سنة 1892 من الدرجة الرابعة، ورقي إلى الدرجة الثالثة في 9 سبتمبر سنة 1900، ونقل إلى محكمة أسيوط ثم عين مفتشا بلجنة المراقبة القضائية في مارس سنة 1902، ومن ثم رقي قاضيا من الدرجة الثانية في نوفمبر سنة 1903، ونال الدرجة في فبراير سنة 1906، وعين ناظرا للإدارة القضائية بوزارة الحقانية في شهر مارس سنة 1907، وفي شهر نوفمبر سنة 1907 عين مستشارا بمحكمة الاستئناف الأهلية، ثم نائبا عموميا في يونية سنة 1919، وفي شهر مايو سنة 1920 عين وزيرا للمعارف العمومية، وفي ذاك الوقت حدث تعديل في الوزارة، فاختير لأن يكون وزيرا للمواصلات، وأعيد وزيرا للمعارف في 15 مارس سنة 1923، وفي شهر يوليو من السنة المذكورة حدث تغيير في الوزارة فقلد وزارة الخارجية مع مباشرة أعمال وزارة المعارف إلى أن سقطت الوزارة، وظل بعيدا عن منصة الحكم حتى يوم 13 سبتمبر سنة 1925، حيث عين وزيرا للمواصلات في عهد الوزارة الزيورية للمرة الثالثة من تعديلها.
فيرى مما تقدم من سلسلة ترقيات معاليه المتوالية إلى وصوله لكراسي الوزارات مقدار كفاءته الشخصية، والعلمية، وجدارته في الشؤون الإدارية والقضائية، وعلو كعبه في إدارة المصالح التي تولاها بحزم وعزم وهمة عالية وعزيمة ماضية.
رتب الفخر ونياشين الشرف التي حازها
الرتبة الثالثة في أبريل سنة 1899، والثانية في يناير سنة 1905 والمتمايز والباشوية في مايو سنة 1918، ونشان النيل من الطبقة الثالثة في سنة 1916، والمجيدي الثالث في يوليو سنة 1911، ونشان المتمايز في فبراير سنة 1909، ومنح رتبة صاحب المعالي والوشاح الأكبر عند تعيينه وزيرا، ولمناسبة عيد جلالة الملك فؤاد الأول الموافق 10 أكتوبر سنة 1925، أنعم على معاليه بالوشاح الأكبر من نشان إسماعيل.
صفاته وأخلاقه
اشتهر بالرزانة وأصالة الرأي والحكمة في القول والذكاء الخارق والكفاءة العلمية، وهو من رجال الأمة العظام الذين خدموا بأمانة وإخلاص لمصلحة البلاد، أدام الله معاليه ومتعه بالصحة والهناء.
ترجمة حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل محمد فتح الله بركات باشا
كلمة المؤرخ
لا يندهش القراء بعد أن رأوا من فتح الله باشا بركات ما رأوا من شدة الذكاء، وقوة العارضة وحمية الأنف، والدأب في خدمة المجموع أن نقول بأن هذا النابغة المصري ينتمي نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ففي دمائه تجري روح ثلاثة عشر قرنا كاملا بل تكاد تكون روحه قطعة من روح الإسلام كله، تفيض جميع مميزاته النفسية وخلاله ووجداناته وأفعاله من طبيعة الدم، الذي يسري في عروقه.
فكل ما ترى من وجداناته أثر من آثار ذلك الفيض الذي نبع منه، ولتجدن ماء الغدير الفياض في حلاوة مساغه، وعذوبه مذاقه لا يختلف عن ماء النهر العظيم الذي فاض منه واستمد، وكل ما ترى من غيرته وحميته طليعة من طلائع مزاجه ، يمدها قلب كبير وروح حارة، وليس كأولئك الذين لا تكون الحمية فيهم والغيرة إلا نتيجة الظروف، حتى لا تكاد تفرق بين غيرتهم، وبين انفعالاتهم ومثلهم في ذلك مثل الجياد غير الصافنات إذا عرضت في السوق للبيع، وجرى بها سمسارها شوطا صغيرا أظهرت نشاطا وخفة، وأبدت عنفا وكرما، فإذا ابتاعها مبتاع وانطلق بها لم يجد أثر لذلك النشاط الوقتي الذي شاهده.
حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل محمد فتح الله بركات باشا وزير الداخلية سابقا والعضو بمجلس الشيوخ.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة في اليوم الخامس عشر من شهر شعبان عام 1282 بمنية المرشد، وكانت يومذاك تابعة لمركز دسوق، وهي الآن تتبع مركز فوه من أعمال مديرية الغربية، وأبوه عبد الله أفندي بركات، وكان إذ ذاك عمدة لمنية المرشد، ثم رفع بعدها إلى وظيفة مأمور مركز دسوق، وجده الشيخ عبده بركات، وكان من ذوي الثراء الطائل والغنى الوافر، وكان موظفا في عهد محمد علي الكبير رأس الأسرة المالكة يشغل وظيفة كاتب، تسمى حينذاك ناظر قسم أو ما هو في معنى ذلك، وبدأ مقام هذه الأسرة بمنية المرشد منذ ثلاثماية سنة، وقد نزحت إليها من البرلس، وتنتمي إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
فلما درج إلى الحول السابع دفعه والده إلى كتاب البلد شأن كل مصري حتى اليوم «في بعض القرى»، فلبث في هذا المعهد الصغير حتى كان عام 1293ه، فأرسله والده إلى مدرسة رشيد الأميرية وظل بها حتى أتم التعليم الابتدائي، ثم انتقل حوالي عام 1297ه إلى مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالإسكندرية، وكان ناظرها إذ ذاك السيد عبد الله نديم، وبقي بها عاما كاملا، وفي سنة 1298ه دخل المدرسة التجهيزية بدرب الجماميز بالقاهرة، ومكث بها حتى السنة الثالثة، وإذ ذاك ثارت الثورة العرابية، وقد تقدمت بوالده السن، وألفى الحاجة ماسة إلى المترجم؛ ليقوم بإدارة مزارعه ورعي شؤونه وتدبير ثروته، إذ كان أكبر أولاده فانقطع عن الدراسة والمدرسة، وما نفس النابغة إلا قبس من قبس الله يريد مضطربا واسعا ومكانا طلقا، وما روح العظيم في المدرسة إلا في محبس.
وأقام بعد ذلك ببلده وكانت المشاحنات والفتن والضغائن فاشية بين أهل البلد سارية بين أسرته وعشائره، حتى كان بالبلد على صغره سبعة عشر محاميا يشتغلون بقضايا الخصومات الثائرة بين أهلها، أمام المحاكم التي أنشئت إذ ذاك للفصل في أمثال هذه الخصومات والمشاحنات، وكانت أراضي أهل البلد في ذلك الحين مرهونة للمصارف «البنوك» والحكومة، واندفعوا في الفتن والمشاحنات حتى ضجت المديرية والمركز في أخريات عام 1886م من هذا البلد، وحال أهليه ففزعت الأهالي والحكومة إلى صاحب الترجمة، يريدونه على أن يكون عمدة للبلد، وكان إذ ذاك في ريعان الشباب لم يجز بعد الربيع الأول بعد العشرين، على حين أن القانون لم يكن ليبيح وقتئذ تعيين من هو في مثل سنه في منصب العمدة، وكان المترجم لا يميل إلى إسناده إليه لما كان يراه في ذلك الحين من عسف الحكام وبلوغهم من الإرهاق والاستبداد الحد الذي لا يلتئم مع رجل يشعر بكرامة نفسه وشخصيته، ولكنه اضطر إلى قبوله إذ رأى إلحاح الأهالي، ووعود الحكام إياه بأنهم سيأخذون بالحسنى ويجنحون إلى اللين والعرف.
ومضى في منصبه ذاك حتى عام 1907م يصلح ذات بين القوم، ويرد الحزازات والضغائن حتى كان من أثر ذلك أن انفرط خمسة عشر عاما لم ترفع فيها قضية واحدة لأحد من الأهالي إلى محكمة من المحاكم، لا بينه وبين آخر من أهل البلد نفسه، ولا بينه وبين الغير، وأخذ ينشر الأمن في بلده والتحاب والتواصل بين أهليه، وكان من ذلك أن ديون الأهالي سددت واستخلصت أراضيهم من قيود الرهون، وحسنت حالهم ونمت ثروتهم، وابتاعوا من أرض البلدان الأخرى المجاورة، وبلغت الثقة بينهم إلى حد أن الرجل منهم إذا احتاج إلى مال قليل أو كثير اقترضه من إخوانه بدون سند أو إيصال أو شهود، وذلك بفضل روح التضامن والائتلاف والتضافر الذي حل بينهم حتى أضحوا جميعا يدا واحدة.
وعند إنشاء لجنة الشياخات وتأديب العمد والمشايخ منذ نيف وعشرين عاما، انتخب صاحب الترجمة عضوا نائبا عن مركز فوه في لجنة الشياخات بإجماع الآراء، وإن كان أحدث العمد سنا، فكان له في هذه اللجنة مواقف مشهورة حيال مديري هذه المديرية، وكانوا هم أصحاب النفوذ والسيطرة على هذه اللجنة التي كانوا بطبيعة الحال يرأسونها، وكان هو الرجل الفذ الذي كان يخالف أميال المديرين وأهوائهم ونزعاتهم، غير مبال بسخطهم ولا حافل بغضبهم.
وبقي بهذه اللجنة حتى نهاية سنة 1901م وكان يعاد انتخابه في كل عام بإجماع الآراء، كما انتخب في سنة 1899م في لجنة تعديل الضرائب بمركز فوه، ونهض فيها بواجبه حتى إن الضرائب المقررة على مركز فوه كانت أخف بكثير من سائر الضرائب المقررة على بلاد القطر، ولا يغيب عنك ما لاقى من المشاق وعانى من الصعوبات في سبيل المحافظة على الصدق والأمانة في هذا التعديل.
وفي سنة 1902م انتخب عضوا لمجلس مديرية الغربية، فلم يستطع أن يظهر مواهبه وكفاءته إذ كانت مجالس المديريات ضيقة الدائرة، لا تنعقد إلا مرة واحدة في كل عام للتصديق على ما تقرره وزارة الأشغال، وبقي عمدة إلى أوائل سنة 1908م، إذ انتخب عضوا لمجلس شورى القوانين، وإذ ذاك جالت مواهبه العالية جولاتها وتجلت كفاءته الشخصية في أبهى مظاهرها، ولا جرم أن تكون كفاءة صاحب الترجمة في مجلس الشورى غيرها في مجلس المديرية، فليس من يقف مدافعا عن حق فئة قليلة كمن يقف في جماعة ناصحا عن حقوق الأمة جمعاء، ولعل الناس لم ينسوا بعد ما كان له من مواقف مشهورة، ومواطن مأثورة، مما لا يتسع المقام لذكرها الآن.
وظل في مجلس الشورى حتى انفض في سنة 1911، وجاءت بعده الجمعية التشريعية، فانتخب عضوا بها عن مركزي فوه ودسوق وبعض بلدان من مركز كفر الزيات، فأبدى من ضروب الاقتراحات الهامة، والمشروعات النافعة لدائرته ما أطلق الألسنة بالثناء عليه، والإعجاب بهذه الروح العالية والنفس الكريمة والوطنية الصادقة.
دخوله عضوا في الوفد المصري
ولما تبين لحضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول رئيس الوفد المصري، وهو ابن شقيقة حضرة صاحب الترجمة، شديد إخلاصه وغيرته الوطنية ومواقفه المشهورة وحميته العالية، فقد أدخله ضمن أعضاء هيئة الوفد المصري، فعمل فيه أعمالا وطنية صادقة تخلد له بقلم الفخر والإعجاب أبد الدهر، وقد ناله من جراء هذا الإخلاص أن نفي إلى جبل طارق وسيشل مع الرئيس الجليل سعد باشا زغلول، وظل يقاسي وصحبه المخلصون آلام النفي والغربة مدة سنتين، ولم يعد للوطن العزيز إلا بعد عودة دولة الرئيس من منفاه، غير أن الشعب المصري على بكرة أبيه عرف قيمة هذه التضحية الغالية، التي ضحاها صاحب الترجمة في سبيل خدمة الوطن المفدى فقدرها قدرها، وظل عاملا مع حضرات زملائه أعضاء الوفد المصري تحت إشراف صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد زغلول باشا بكل أمانة وإخلاص.
دخوله وزيرا في الوزارة السعدية
وعندما تشكلت الوزارة السعدية في 28 يناير سنة 1924م برياسة حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول، اختار حضرة صاحب الترجمة لأن يكون وزيرا لوزارة الزراعة؛ لما له من الخبرة الواسعة في هذه الشؤون، فأبدى من ضروب الإصلاحات الشيء الكثير، ولم يمض عليه زمن طويل في هذه الوزارة حتى اختير لأن يكون وزيرا للداخلية، وهي كما لا يخفى أكبر وزارات الحكومة مسئولية وعملا، فأحسن إدارتها.
وعندما استقالت الوزارة السعدية في 24 نوفمبر من العام المذكور ظل صاحب الترجمة محتفظا بمركزه في هيئة الوفد المصري، يعمل إلى ما فيه صالح الوطن وفائدة مواطنيه الكرام إلى أن أعيدت الانتخابات البرلمانية للمرة الثانية، فرشح نفسه لأن يكون عضوا برلمانيا عن دائرة فوه غربية.
صفاته وأخلاقه
ولا يفوتنا أن نصف لك في بضع كلمات هيئة صاحب الترجمة وأخلاقه ومبادئه، إذ كانت الطبيعة تنم في الإنسان عن روحه، وتخرج للناس منها صورة دقيقة الحجم.
فلو أنت طالعت المترجم له لألفيت رجلا خفيف اللحم ربعة القوام أسمر اللون بشوشا قد وخط الشيب مفرقيه وشاربيه، ولوجدت إزاءك رجلا نشيطا حلو الحديث طيب المحاضرة، ثم إذا أنت خالطته ومازحته وآنست إليه رأيت منه أخلاقا سامية وصفات حرية بإعجابك، خليقة بمديحك واستحسانك، وجملة هذه الأخلاق ثقته بنفسه، والثقة بالنفس من أخلاق العبقريين؛ لأن الرجل العبقري كوكب في نفسه لا يستمد من نور غيره، ويأتي بعد ذلك ميله إلى الجد وبعده عن اللهو، فهو رجل عمل لا يجد اللذة إلا في قضاء عمله بهمة عالية.
والمترجم له من أشد الناس حرصا على الفروض الدينية، وأدائها في حينها لا تفوته فريضة ولا يشغله عن صلاته شاغل.
والمبدأ الذي يسير عليه في جميع أعماله هو تحقيق مطالبه في ظل السكون بعيدا عن لغط اللاغطين بنجوة من هذا الاضطراب العصبي الذي تحدثه السياسة في أبعد الناس عنها، والذي يفسد على قادة الأمة أمرهم هذا، وإنه قد انتخب لأن يكون عضوا بمجلس الشيوخ المصري؛ لتنتفع الأمة بآرائه الصائبة ومواهبه العالية.
الرتب والنياشين الحائز عليها
ومعاليه حائز لنيشان الفلاحة من الدرجة الأولى سنة 1914، ورتبة الباشوية من صاحب السمو عباس حلمي باشا الخديوي السابق، وباشوية الوزارة.
صفاته وأخلاقه
جليل الشيم عالي الهمم بشوش الطلعة دمث الأخلاق ظريف الحديث راجح العقل ذكي الفؤاد، كفء لكل شأن من الشؤون، ثابت العقيدة قوي في مبدئه وهو مبدأ الوفد.
حفظه الله وأبقاه وأكثر من الأبطال أمثاله.
ترجمة صاحب المعالي الوزير الجليل الأستاذ مرقص حنا باشا
حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل الأستاذ مرقص حنا باشا وزير الأشغال العمومية والمحامي الشهير بمصر.
مقدمة المؤرخ
نابغة من آحاد النوابغ الذين تذكرهم مصر في أجمل صفحة من تاريخ نهضتها السياسية والعلمية الحديثة، ومتشرع من كبار المتشرعين الذين عرفوا بسعة الفضل وصائب الرأي وقوة الذاكرة، وبعد النظر، بل وطني من صميم الوطنيين المخلصين لبلادهم، والعاملين بما أوتوا من رجحان العقل، وطلاقة اللسان لما فيه ترقية أمتهم وإصلاح شؤونها، وهو أحد الذين لاقوا العذاب وسجنوا واضطهدوا في سبيل الدفاع عن حقوق الوطن المقدس، وكاد يذهب ضحية الظلم لو لم ترمقه العناية الصمدانية، فأنقذته من مخالب الموت ليتمم جهاده المعروف حتى تتحقق أمانيه.
مولده ونشأته
ولد في مدينة القاهرة يوم 4 سبتمبر عام 1872م من أبوين تقيين، عرفا بحسن الصفات والتقوى فعنيا بتربيته وتهذيبه أشد عناية، ثم توفي والده القمص يوحنا وكيل شريعة الأقباط بطنطا سابقا، وهو لم يتجاوز السادسة من عمره، فأدخلته والدته وجده المرحوم جبران أفندي واصف (الذي كان باشكاتبا في مصلحة السكة الحديد الأميرية، ثم نقل إلى المعية السنية، ثم مفتشا بوزارة المالية) مدرسة الأقباط الكبرى، وكانت وقتئذ في سمو مجدها، فلم يلبث أن فاز بنصيب وافر من العلوم والمعارف، ثم انتقل إلى المدرسة التوفيقية؛ ليدرس بها العلوم الثانوية فنال في حداثة سنه مكانة سامية بين إخوانه وأساتذته؛ لذكائه الوقاد واجتهاده الفطري، وما زال مواليا الدرس والمطالعة حتى أنهى دروسه ونال الشهادة الثانوية، وتخرج شابا تلوح على سيمائه مخائل النجابة والنبوغ، فأرسلته والدته إلى أوربا؛ ليتمم بها علومه فدخل كلية مونبلييه بفرنسا أولا، ثم كلية فرنسا ثانيا، وما هي إلا سنوات قليلة حتى حاز شهادة الليسانس في علم الحقوق، وشهادة العلوم الدالة على تفوقه في العلوم والمعارف تفوقا جعل له أكبر منزلة بين مواطنيه والعارفين بفضله وعلمه من الأجانب، سيما وأن الحائزين على هذه الشهادة من المصريين قليلون.
ولما أن عاد إلى الوطن في أواخر سنة 1892 بدأت حياته تدخل في ميدان جهاد واجتهاد بهمة تناطح السحاب، برز بها إلى مضمار العمل ونفسه تتقد بالغيرة على صالح وطنه، وبالنشاط في إظهار نبوغه فعينته وزارة الحقانية في أواسط سنة 1893م مساعدا للنيابة في محكمة أسيوط، فأظهر من التضلع في القوانين ومن النزاهة في العمل ما استدعى ترقيته إلى وظيفة وكيل للنيابة، لكنه لم يلبث طويلا في خدمة الحكومة، حتى تاقت نفسه لأن يكون حرا في عمله، فاستقال سنة 1898م واشتغل في مهنة المحاماة، فأفسحت له خبرته في المحاماة وتبحره في علوم التشريع أسمى مكان رفيع في الصف الأول من كبار المحامين المعدودين في وادي النيل، بفصاحة الإلقاء وسعة الإطلاع وصدق الفراسة والبراعة في الدفاع مع التفاني في خدمة البلاد.
والذي يؤثر عن المترجم ويدل على نبوغه وفضله أن ألف عقب تعيينه في خدمة الحكومة كتابا في نظام الحكومة المصرية، كان أول كتاب وضع من نوعه باللغة العربية، فجعلته مدرسة الحقوق الملكية بين كتب التدريس، ثم كتابا آخر عام 1899 عن التحقيق الجنائي باللغة الفرنسية، أثبت فيه تضلعه في تلك اللغة كتضلعه في التشريع، وأردف هذا وذاك بعدة خطب ورسائل علمية وتشريعية، تعد كسلسلة كبيرة من المآثر الجليلة والأعمال الخالدة.
ومن الجمعيات العلمية الكبرى التي انتخب عضوا بها لجنة مقارنة الشرائع في باريس، ومجلس إدارة الجامعة المصرية، ولجنة التشريع السياسي، وغيرها من اللجان العلمية التي ترى منه العامل المجد، والعالم الفاضل، والعضد النافع في معظم أعمالها وفي إنماء مواردها.
ولم يكتف صاحب الترجمة بما يؤديه لأمته من الخدم الجليلة، بل جاهد جهاد الأبطال في إصلاح شؤون طائفته، ولا يخفى ما وراء ذلك من المشاق والجهد وشق النفس؛ لأن الطريق محفوف بالمخاطر، وسبيل الإصلاح صعب المسلك على من طرقه بهمة كبيرة، ونفس مجردة عن المآرب والغايات، ولكن ذلك كله لم يثنه عن عزمه، بل أظهر حزما كبيرا في إعادة تشكيل المجلس الملي العام سنة 1905، وانتخب عضوا به فخدمه أجل خدمة، وله فيه أعمال مشكورة يذكرها كل من يعلم الأدوار الصعبة التي تقلب عليها المجلس في ذلك العهد، وأقلها تصميم صاحب الترجمة على تنفيذ لائحة المجلس، كما هي قياما بواجب الخدمة لأمته وعملا بنواميس التقدم والإسراع في درء الخلل، وقلب الانحطاط وما فتئ المترجم يجاهد، ويناضل في هذا السبيل كما أنه ما فتئ منذ نشأته كثير الاهتمام بأحوال بلاده، وإصلاح أحوالها الاجتماعية، فوجه التفاته إلى حث الأمة لتهذيب ربات البيوت، وتعليمهن تعليما راقيا يؤهلهن لأن يكن أمهات صالحات وزوجات وفيات يقمن بواجباتهن، كما كان صوته أول صوت سمعته الأمة يتردد في كل مكان لمطالبتها بإنشاء كلية كبرى للبنات، تسد هذا النقص العظيم في التربية والأخلاق.
وناهيك بذلك الخطاب البليغ الذي ألقاه في هذا الصدد بنادي رعمسيس أوائل عام 1908م، حيث أبان فيه ضرورة تربية المرأة تربية عالية تؤهل الأمة إلى الرقي والتمدين، وحث الجميع على التبرع لإنشاء الكلية، وفعلا جمعت عقب ذلك التبرعات من الأهالي، ثم أخذت الفكرة تنمو شيئا فشيئا، حتى اختمرت ودفعت الأمة إلى إنجاز المشروع الذي أصبح على وشك التمام. وهو فوق ما تقدم من صفات الإقدام وانتهاز الفرص ميال بطبيعته إلى إزالة الفوارق بين عناصر الأمة، التي يخدمها بولاء وإخلاص؛ لتكون عاطفة الإخاء بينها شديدة تدفعها، وهي متحدة متماسكة إلى الرقي والتمدين، ولا يجد دليلا على ذلك أكثر من خطبه وآرائه العامة.
وفي سبتمبر عام 1912م كوفئ على اجتهاده وجهاده بالرتبة الثانية، بناء على طلب دولة الأمير أحمد فؤاد باشا رئيس إدارة الجامعة المصرية (جلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر)، فجاء هذا الإنعام شهادة صريحة على فضل المترجم ونبوغه، وعلى تقدير الأمة وحكومتها لما يؤديه لها من الخدم وجلائل الأعمال.
وفي عام 1914م انتخب وكيلا لنقابة المحامين، ثم نقيبا لها بإجماع الآراء، وجدد انتخابه نقيبا أربع سنوات متواليات مما لم يحدث في بلد من بلاد العالم، ولم يسبق له مثيل.
وكان عضوا عاملا في مجلس إدارة الجامعة المصرية، وأستاذا بها ومديرا لها استمر يعمل على ما فيه ترقيتها، ومصلحة العلم حتى سنة 1921م، إذ قدم استقالته منها، عندما رأى أن روح الحزبية بدأت تدب في مجلس إدارتها، وقد منحه مجلس إدارتها لقب أستاذ شرف وهو لقب دائم.
وهو عضو عامل في جمعية التوفيق ورئيس لجنة إدارة مدارسها يعمل على ما فيه ترقية مدارسها، والسير بها إلى طريق التقدم ومنفعة العلم.
وقد عرضت عليه الوزارة مرارا، ولكن أبت وطنيته أن يقبلها؛ لأن مصلحة البلاد تقضي برفضها فرفضها.
جهاده في سبيل الوطن
ولا يمكن لمصري أن ينكر فضل جهاد حضرة صاحب الترجمة ومواقفه المشهورة، وكيف تحمل النكبات والشدائد والسجن أشهرا عديدة في سبيل دفاعه الشريف عن حقوق البلاد، وقد وصف حضرته كل ما حاق به وبإخوانه في خطبته الرنانة، التي ألقاها بدائرة محرم بك بالإسكندرية عقب الإفراج عنه إذ قال:
في صباح يوم 23 ديسمبر سنة 1921 اصطف عدد عظيم من الجنود الإنجليزية، ومن حولهم الأوتوموبيلات المسلحة والغير مسلحة، واقتحموا بيت الأمة دار صاحب الدولة سعد زغلول باشا وكيل الأمة المصرية؛ ليقبضوا على دولته؛ وليبعثوا به إلى المنفى الذي عين له، ذلك المنفى الذي أرادت الوزارة الثروتية أن تقذف إليه به هو وإخوانه، وفي الوقت نفسه قبضوا على باقي أعضاء الوفد بالطريقة عينها، وقد كان صدور الأمر بالقبض في مساء ذلك اليوم. أمر سعد باشا بأن يمتنع عن الدفاع عن الأمة المصرية، وكلكم تعلمون جوابه التاريخي بأنه سيقوم بأداء الدفاع عن الأمة وأن للقوة أن تفعل به ما تشاء.
وفي فجر يوم 24 يوليو سنة 1922 في الساعة السادسة صباحا أحاط العساكر الإنجليز، وكانوا نحو ثلاثين بكل منزل من منازل أعضاء الوفد السبعة ومن حولهم الأتومبيلات، بل حصل أمر بإبدال الأتوموبيلات لأعضاء الوفد بالأتوموبيلات المسلحة، وكان ذلك أمام منزل حمد باشا الباسل، فجاءوا به في أتوموبيل مسلحة معدة لحمل العساكر، ولم يحمل في أوتوموبيل ضباط كما حمل الأعضاء الآخرون، وسيقوا إلى المحاكمة وكان كل دفاعهم محصورا في كلمة واحدة هي أن قالوا للإنجليز: «لكم أن تحكموا علينا وليس لكم أن تحاكمونا.
هذه الكلمة كلمة الوفد المصري أمام المحكمة العسكرية قالوا فيها: إنك غير مختصة بمحاكمتنا، فإن كان هناك إجرام فموقفنا لا يكون أمام المحاكم الإنجليزية، بل أمام المحاكم المصرية، فإذا حكمتم علينا فليس لنا إلا أن نقبل حكم القوة باسمين.
فكان جزاء الأعضاء السبعة أن حكم عليهم بالإعدام على تهمة لا أساس لها ولا صحة. قال حفظه الله: أقرر ذلك بصفتي عضوا في الوفد المصري وبصفتي نقيبا للمحامين، وبصفتي شاهدا على أعمال الوفد.
ولما جاءوا لأعضاء الوفد المصري بمنطوق الحكم ليتلى عليهم في ثكنة قصر النيل، وإذا هو قاض بالإعدام صاحوا جميعا «فلتحيا مصر».
إلا أن اللورد اللنبي أنزل العقوبة من الإعدام إلى الأشغال الشاقة سبع سنوات، علاوة على خمسة آلاف جنيه مصري غرامة على كل واحد منهم.
وقد قادونا إلى سجن قره ميدان، وهو السجن الذي يسجن فيه القتلة والمجرمون واللصوص، ووضعونا فيه ونفذوا علينا نظام السجون. شعر اللورد اللنبي نفسه بأن هذا النظام ظلم وقاس، وأنه يجب أن يستبدل السجن بمكان آخر، إلا أن الوزارة الثروتية عارضت في ذلك الأمر.
قال: ولبثنا مدة في هذا السجن ولم نحزن في الواقع أثناء إقامتنا فيه، إلا لحادث واحد أثر في أفئدتنا كل التأثير وهو نقل الرئيس الجليل سعد باشا من سيشل إلى جبل طارق منفردا.
هذا وقد ظللنا في السجن إلى أن سقطت الوزارة الثروتية.
فكر أولوا الأمر حينئذ في الإفراج عن المعتقلين والمنفيين، وجاءنا هذا الخبر في ألماظة فخشينا أن يكون هذا الإفراج بثمن، وأن تدفع مصر هذا الثمن فأوصينا مخبرنا بأننا لا نقبل مطلقا أن يكون بطريقة المساومة، ولا نقبل مساومة ما في حريتنا فأبلغ هذا القول للوزارة «أي: وزارة يحيي إبراهيم باشا»، وفي النهاية عرض علينا أن نحصل على هذا الإفراج في مقابل مبلغ من المال، وأخيرا انتهى الأمر بأن علمت أم المصريين السيدة الفضلى صفية هانم زغلول «حرم الرئيس الجليل سعد باشا زغلول» أن الإفراج موقوف على مبلغ من المال، فلم يرضها أن نلبث دقيقة واحدة في السجن إن كان الأمر موقوفا على دفع المال، فأمرت بأن يدفع هذا المال فورا من جيبها الخاص حتى يفرج عن نواب الأمة أعضاء الوفد المصري، ولكن أعضاء الوفد المسجونين أبوا عليها هذا الدفع، حينئذ تقدم الكثيرون منكم، وصمموا على الدفع وتم فعلا وتم في أثره الإفراج عنا، وقد قال صاحب الترجمة أيضا:
ذلك أيها السادة هو تاريخ وجيز عن إقامتنا في ألماظة، أو إن شئتم تاريخ وجيز لإثم صغير من آثام ثروت باشا، وإذا أردنا أن نسرد الحوادث الثروتية لطال بنا المقام.
وقد أنحى حضرة الخطيب على مساوئ الوزارة الثروتية، التي كان يرأسها عبد الخالق ثروت باشا الذي كان عونا للإنجليز على مشاكسة الأمة المصرية عامة، ورئيس الوفد المصري وأعضائه خاصة.
وليست هذه بأول أو ثاني مرة اعتقل فيها حضرة صاحب الترجمة، أو كان له شأن في الدفاع عن بلاده، فقد كان منذ صغره شغوفا بتحرير بلاده من سلطة الأجنبي، والسير بها إلى مصاف الأمم المستقلة، فكان من المؤيدين للجناب العالي الخديوي سنة 1892، عند تعيين وزارة فخري باشا رغم إرادة إنجلترا، فقبض عليه وأبقي في القسم ليلة حتى صدر الأمر بإخلاء سبيله.
وكان من أكبر أنصار المرحوم مصطفى باشا كامل يعمل معه حتى توفي إلى رحمة الله، واحتج من أوربا على محاكمة دنشواي بكتاب شهير في الجرائد.
وقد عين وكيلا للجنة الوفد المركزية على أثر اعتقال صاحبي السعادة محمود سليمان باشا رئيسها، وإبراهيم سعيد باشا وكيلها، وهو الذي وقع بهذه الصفة على منشور مقاطعة لجنة ملنر الإنجليزية.
وعين عضوا في الوفد المصري على أثر نفي دولة الرئيس وصحبه، واعتقل في يناير سنة 1922 على أثر إمضائه مع أعضاء الوفد بيان الوفد المصري في دعوة الأمة لمقاطعة الإنجليز وعدم معاونتهم.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن السيدة المحترمة قرينته كانت عونا عظيما له في حياته وجهاده، وقد اشتهرت بشجاعتها وإقدامها، حتى لقد قالت للضباط الإنجليز، الذين حضروا للقبض على زوجها: «لقد امتلأت سجونكم بالرجال، فعليكم أن تعدوا سجونا أخرى للسيدات.»
ترشيحه نائبا بالبرلمان المصري
ويرى مما تقدم من جهود حضرة صاحب الترجمة، وثبات جنانه وتحمله صنوف العذاب بصدر رحب، وإخلاص متناه أنه أهل لأن يكون نائبا للبرلمان المصري لكفاءته النادرة، وعلمه الواسع ووطنيته الخالصة المتقدة، وفعلا قد أجمع الناخبون لقسم الأزبكية على انتخابه نائبا عنهم بالبرلمان المصري، وقد ظهرت نتيجة التزكية بالفعل يوم 17 نوفمبر سنة 1923 الساعة الخامسة مساء، وكان انتخابه بالإجماع فأصبح بحكم قانون الانتخاب نائبا بالبرلمان عن دائرة الأزبكية، وحضرته والحق أولى أن يقال جدير بهذه الثقة، وسيحقق أماني دائرته بفضل ما أوتي من حكمة وسداد في الرأي وعلم صحيح ورجحان عقل.
تعيينه وزيرا لوزارة الأشغال العمومية
وما كادت الوزارة السعدية تعتلي منصة الحكم حتى اختير صاحب الترجمة وزيرا للأشغال العمومية ومنح رتبة الباشوية، ولم يقع هذا الاختيار موقع الدهشة من الأمة التي تعرف مكانة هذا البطل والوطني الصميم، الذي ما كاد يتربع في منصبه الجديد ويستلم زمامه بقبضة من حديد، حتى برهن في وقت وجيز على أن في السويداء رجالا، وفي الكنانة أبطالا، فأصدر التعليمات الدقيقة لرجاله بوجوب اليقظة في أعمالهم، وأبطل تعيين الموظفين من طريق المحسوبية مهددا بصارم العقاب لمن يخالف هذه الأوامر، وفي عهده طهر الوزارة من كبار الموظفين الأجانب، واستعاض عنهم بالوطنيين الأكفاء، وأمر برفع اللوحات المكتوبة باللغة الإنجليزية على أبواب أقلام الوزارة، ووضع مكانها لوحات باللغة العربية وهي لغة الدولة الرسمية، وفي عهده أصدر الأوامر بالمحافظة على آثار توت عنخ أمون الثمينة التي وجدت بالأقصر، ولما اتصل بمسمعه تعنت المستر كارتر شريك المرحوم اللورد كارنارفون، الذي كان مباشرا رفع هذه الآثار والمحافظة عليها، وعدم سماحه لكثيرين من المصريين بدخول تلك المقبرة، والتفرج على ما بها من الآثار وتفضيله الإنجليز عنهم؛ أسرع فأصدر أمرا بالكف عن العمل وتسليم مفاتيح المقبرة لجناب مدير مصلحة الآثار المصرية، الذي أوفده معاليه خصيصى لهذه الغاية، فاستحق على هذا العمل ثناء عموم الأمة على بكرة أبيها، وأمطرته الصحف على اختلاف أنواعها بالمدح والثناء، ولا ننسى لمعاليه سياحاته المتوالية في عواصم مديريات القطر؛ لتعهد شؤون الري، وكذلك لا تنسى خطبه الرنانة في كل مركز أو مديرية حل بها، كما لا يمكنا أن ننسى لمعاليه أجوبته السديدة، وآراءه الصائبة في كل سؤال يوجه إليه من أعضاء مجلسي النواب، فقد دل حقيقة على مقدرة عالية وكفاءة نادرة، ومواهب سامية قل أن تتوفر في عظيم من عظماء الغرب، وأظهر من التفاني في حب بلاده ما يصح أن يسجله التاريخ بقلم الفخر والإعجاب.
صفاته وأخلاقه
ومعالي صاحب الترجمة مشهور باللطف وبشاشة الوجه والدعة ودماثة الأخلاق.
ترجمة حضرة صاحب المعالي الشهم الجليل محمود فخري باشا
كلمة للمؤرخ
لا يوجد شخص من سكان العاصمة يجهل حضرة صاحب المعالي محمود فخري باشا بالذات، فقد كان محافظا للقاهرة وكان كثير التجوال في أنحاء العاصمة، لا يفوته تفقد أحوالها وزيارة محالها وحضور حفلاتها، ولا نغالي إذا قلنا: إن جميع سكان مصر يعرفونه لما شملهم به من الخدمات الخالدة، والمساعي المشكورة في ذاك الحين لا سيما طبقات العمال ونقاباتهم، التي أيدها معاليه بعطفه وشملها برعايته، وسوى أمورها بحكمته، فحفظ الموازنة بين أصحاب المتاجر والأغنياء وعمالهم المتوسطي الحال الفقراء ومنع الحيف والظلم جهد المستطاع أن يقعا، فحفظ له هؤلاء العمال جميله وفضله، وتغنوا بمديحه وشكره، وجعلوا يشيرون إليه بأطراف البنان:
حضرة صاحب المعالي الجليل محمود فخري باشا وزير مصر المفوض لدى عاصمة الفرنسيس.
مولده ونشأته
هو نجل المغفور له حسين فخري باشا وزير مصر المشهور بالاستقامة، وشرف النفس وعلو الهمة فرباه التربية المنزلية على أحسن تقويم، ومن ثم أدخله مدرسة الآباء اليسوعيين في مصر، وظل مكبا على تلقي علومها بشغف عظيم حتى حصل منها على شهادة البكالوريا عام 1903، والتحق بعد ذلك بمدرسة الحقوق الملكية وهناك تجلت مواهبه السامية بما كان يبديه من الذكاء الفطري حتى ظفر بشهادة ليسانس عام 1907م بتفوق عظيم، ولم يلبث طويلا بعد نواله لهذه الشهادة حتى عين وكيلا بالنيابة العمومية، وأخذ يتدرج في الوظائف القضائية حتى عام 1910، إذ تعين سكرتيرا خاصا لرئاسة الجمعية العمومية، ومجلس شورى القوانين فوكيلا للنيابة في محكمة مصر المختلطة.
فمفتشا في وزارة الداخلية فوكيلا لمحافظة الإسكندرية عام 1914م، والإسكندريون يذكرون له همته الصادقة، وخدماته الجليلة النافعة في أوائل الحرب الأوربية العصيبة.
وفي سنة 1915 عينه ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين كامل الأول أمينا أولا لعظمته، وفي سنة 1919 قلدته الحكومة المصرية وظيفة محافظ العاصمة، وإن المقام ليضيق هنا عن أن يستوعب طرفا من تعداد مناقب هذا الشهم الجليل المقدام.
وقد عني معاليه عندما كان محافظا للعاصمة بوضع مجموعة صور فوتوغرافية لأسلافه محافظي مصر، من عهد المغفور له محمد علي باشا إلى وقته، فكان عددهم 95 محافظا، ورأى أن يضع ترجمة حياة المغفور له قاسم رسمي باشا أحد محافظي مصر السابقين، وصاحب الوقف الخيري الشهير في وسط المجموعة ذكرى خالدة لمقامه الجليل، وقدم هذه المجموعة هدية إلى ديوان المحافظة لتحفظ دائما في مكتب المحافظ.
وقد حياه جلالة المليك المعظم بعطفه وشمله بعين عنايته، فعينه وزيرا لوزارة الخارجية في 9 ديسمبر سنة 1922 في عهد وزارة عبد الخالق ثروت باشا، ثم وزيرا للمالية ولا يمكن لمصري أن ينسى سعيه المتواصل لمصلحة البلاد، خصوصا حل أزمة القطن، وتفريج الضائقة المالية التي استحكمت حلقاتها في ذاك الوقت بسبب تدهور أسعاره، وبفضل ما بذله من المساعي المشكورة تداخلت الحكومة تداخلا فعليا لحفظ كيان أسعاره في الأسواق، فكانت النتيجة مرضية لا غبن فيها ولا حيف.
الأثر التذكاري الذي وضعه سفير مصر على ضريح الجندي المجهول في باريس.
ولما كان معاليه ممن اشتهروا برجاحة الفكر وقوة العارضة وحسن الإدارة، وعلى علم تام بالشؤون السياسية، فقد اختاره جلالة مولانا المعظم حفظه الله وأبقاه لتمثيل مصر في حكومة الفرنسيس، فعينه وزيرا مفوضا بها فجاء هذا الاختيار في محله، حيث صادف أهله وقوبل لدى الشعب المصري بالسرور والبشر؛ لما لمعاليه من المكانة السامية، والحب الأكيد في قلوب الجميع منذ كان محافظا للقاهرة.
وفي أول مارس سنة 1924م احتشد جمهور غفير عند قوس النصر في باريس حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، ووصل معالي صاحب الترجمة، حيث مكان قبر الجندي المجهول يحف به الجنرال غورو والكردينال دبوا، وكان المدفن مزدانا بالأزهار تتخللها أوراق الغار، التي أوحت إلى النحات فالير الأثر التذكاري، الذي أتم صنعه وأحاطه بستار أخضر ونصبه تحت قوس النصر.
وعندئذ ألقى معالي فخري باشا خطبة نفيسة، رد عليها الجنرال غورو بكلمات مناسبة للمقام، ثم انصرف الحاضرون وهم يتحدثون بجلال ذلك الاحتفال وشمائل هذا الشهم الجليل.
ومعالي صاحب الترجمة حائز لشرف مصاهرة حضرة جلالة مولانا الملك فؤاد الأول، فهو متزوج صاحبة السمو الملكي الأميرة الجليلة فوقية هانم كريمة جلالته، وقد رزقه الله منها بمولود سعيد أقر الله به عين والديه الكريمين، وجعل له حظ والده من خدمة البلاد.
صفاته وأخلاقه
لا نكران في أن معالي صاحب الترجمة من أرقى طبقات الأمة علما وأدبا وكمالا وتهذيبا، وأشرف العائلات حسبا ونسبا ومن أجلهم فضلا وظرفا، كريم الشيم عالي الهمم بهي الطلعة لين الجانب دمث الأخلاق أدامه الله، وحضرات أفراد عائلته الكريمة، متمتعين بدوام السعادة والهناء في ظل جلالة المليك المعظم.
سفير مصر في باريس يلقي خطبته عند ضريح الجندي المجهول أمام الجنرال غورو في جمع من أفاضل المصريين والفرنسيين.
ترجمة ساكن الجنان المغفور له حسين فخري باشا
مولده ونشأته
كان مولد حسين فخري بقصر والده المعروف باسمه إلى الآن بخط المغربلين من أحياء القاهرة في 25 سبتمبر سنة 1843، وما وصل العشرين من عمره حتى ظفر بأعلى الشهادات الدراسية من المدارس المصرية الأميرية، فصدر الأمر العالي، أي: الإرادة السنية، في 30 برمودة سنة 1579ق/7 مايو سنة 1863ميلادية بتعيينه معاونا بمحافظة القاهرة، وكان تاريخ الإرادة السنية 19 صفر سنة 1279، فبقي حسين فخري في هذه الوظيفة سنة واحدة ونصف سنة، ثم صدر الأمر في 3 هاتور سنة 1581 / 12 نوفمبر سنة 1864 بنقله معاونا بنظارة الخارجية، ولبث هناك مدة تناهز العامين إذ في ذاك العهد اشتركت الحكومة المصرية في معرض أوربي للمرة الأولى، فأرسلته في أول يناير سنة 1867 مندوبا عنها في الوفد المصري، الذي بعثت به ليمثلها في «الإكسبوزسيون»، كما كانوا يقولون؛ لأن لفظة معرض لم توضع للدلالة على ذلك المسمى الحديث إلا بعد أن انتعشت اللغة العربية في أخريات أبي الفداء إسماعيل.
ساكن الجنان المغفور له حسين فخري باشا وزير مصر الشهير.
ولما كان حسين فخري أفندي يميل بطبيعته إلى التبسط في العلم، ورأى في عاصمة الفرنسيين مناهل عذبة للطالبين وموارد سائغة للشاربين، فقد سعى وسعى والده حتى أبقته الحكومة المصرية في فرنسا، بعد انتهاء الوفادة فاندمج في سلك الإرسالية المصرية، وأقبل على تلقي الدروس في علوم الإدارة والقانون إلى سنة 1870م، حين ارتفع زئير المدافع فأخرس الأساتذة وكشرت الحرب عن أنيابها، فانزوت التلامذة ونادى المنادى متمثلا بقول الشاعر العربي:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
ولما كان صاحب الترجمة من الألي يميلون بفطرتهم إلى السكينة والسلام، فقد أودع دفاتره أدراجه وودع أترابه وعاد أدراجه ولم يعاود فرنسا وديارها إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وتقرر الصلح واستقر السلام وعاد الرجحان، وما زال عاكفا على البحث والدرس في مدينة أليس من أعمال الإقليم المعروف عند جغرافي العرب باسم «برونيصه» تعريبا للفظه الإفرنكي
Trouence
إلى أن فاز بإحراز الإجازة، التي كان يفتخر بتوقيع جول سيمون عليها، وهو ذياكم الوزير الخطير والكاتب القدير والفيلسوف الشهير.
وما هو إلا أن تقدم حسين فخري أفندي في 22 نوفمبر سنة 1874، بين يدي الخديوي إسماعيل يحمل بيمناه تلك الشهادة وبين جنبيه تلك المعارف، حتى بهر ولي الأمر فأنعم عليه بالرتبة الثالثة اعترافا بفضله ورفعا لقدره؛ لأنه تخطى به رتبتين مرة واحدة وهما الخامسة والرابعة.
وقد كان لهما في ذلك الزمان شأن تتطال إليه أعناق الرجال، وصدر الأمر الخديوي أيضا بتعيينه في جملة الموظفين بنظارة الحقانية.
فكانت هذه هي الخطوة الأولى الصحيحة لمن يحق لنا أن نسميه من الآن بأبي الوثبات والسباق إلى الغايات، إذ لم يمض عليه سوى سبعة شهور حتى قفز قفزة ثانية، فقد استصدر المرحوم شريف باشا ناظر الحقانية في ذاك العهد أمرا عاليا في 21 يونيو سنة 1875 بتعيين حسين فخري بك «وكيلا للأهالي» لدى النائب العمومي بالمحاكم المختلطة، وبقي في هذه الوظيفة أربع سنوات تقريبا، فلما جاء يوم 21 سبتمبر سنة 1879 دخل في الخامسة والثلاثين من عمره وطفر الطفرة الكبرى، فانتظم في سلك الوزارة التي ألفها حينئذ شيخ الوزراء صاحب الدولة رياض باشا.
وبهذه المناسبة وثب صاحب الترجمة من الرتبة الثالثة إلى رتبة الميرميران، متخطيا رتبتين أيضا في هذه الكرة، عملا بالقاعدة العربية «العادة تثبت بمرة».
وما زال حسين فخري باشا متقلدا نظارة الحقانية، حتى تنحت الوزارة عن الأعمال في 9 سبتمبر سنة 1881، ولكنه اشتغل في خلالها بتمهيد السبيل لتحويل المجالس القديمة إلى المحاكم الأهلية الزاهرة بيننا الآن، ووضع مشروعات القوانين الخاصة بهذا التنظيم، تلك القوانين التي ستبقى فخرا خالدا له مهما اعتورها من التعديل والتبديل؛ لأنه تشرف بوضع اسمه عليها في وزارته الثانية.
ولقد كان في اعتزاله الأعمال دليل جديد على مهارته في فرع يكاد لا يخطر لنا على بال، فلا شك أن الكثيرين يظنون أن حسين فخري باشا، إنما كان من رجال القانون فقد تناسى الناس أنه كان أيضا من أهل البراعة في تدبير الشؤون المالية، فما كاد يستريح في عقر داره حتى توسل إليه بنك مينا البصل في شهر نوفمبر سنة 1881، وكان من البيوتات المالية التجارية المشهورة بالإسكندرية، فتولى رئاسة مجلس إدارته بعد أن استأذن الحكومة، ولم يأخذ منه مرتبا على هذا العمل، وكل الذين اختلطوا بالفقيد يشهدون له بالدراية في استثمار المال، ولكن مع الصدق والنزاهة والاستقامة.
وفي 28 أغسطس سنة 1882 انتظم حسين فخري باشا مرة ثانية في سلك الوزارة، التي ألفها ذلك الرجل الغني عن التعريف، وأعني به الوزير الشريف شريف - طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه - فصدرت القوانين التي أشرنا إليها وصدر القانون النظامي وقانون الانتخاب، وظهرت المحاكم الأهلية في ثوبها القشيب ونظامها الجديد، وكان صاحب الترجمة متقلدا نظارة الحقانية إلى أن قضت الظروف بسقوط الوزارة في 7 يناير سنة 1884م، ولكنه في هذه المدة من الفراغ لم يشتغل بالأمور المالية، بل دعته الأحوال إلى الاهتمام بالمسائل السياسية، فقد انتدبته حكومة الجناب الخديوي لحضور المؤتمر الدولي الذي انعقد في باريس سنة 1885 للإقرار على حياد القتال، فقام بهذه المهمة بما أوجب رضا فرنسا عنه؛ لأنها منحته وسامها العلمي عند اختتام المؤتمر.
فلما كانت سنة 1888م عاد إلى نظارة الحقانية مرة ثالثة في الوزارة، التي ألفها صاحب الدولة رياض باشا، وبقي فيها إلى يوم اعتزالها في شهر مايو سنة 1891م، ولكنه دخل في تلك الوزارة التي أعقبتها تحت رئاسة الوزير الكبير صاحب العطوفة مصطفى فهمي باشا، على أنه استقال وحده منها في أواخر تلك السنة.
وبقي بعد ذلك بعيدا عن أعمال الحكومة إلى أن جاءت سنة 1893، وفيها كانت خطوته الثالثة وهي خطوة قصيرة المدى، وذلك أنه تقلد رئاسة مجلس النظار ولكن ثلاثة أيام كوامل.
إن هذه الوزارة التي كانت أقصر الوزارات عمرا جاءت كالمقدمة لأطولهن حياة، بعد فترة يسيرة فيما بينهما ظهرت فيها وزارتان إحداهما برئاسة دولة رياض باشا، ولم يكن لصاحب الترجمة نصيب في أحد مناصبها، وأما الثانية فهي التي ألفها في 16 أبريل سنة 1894 يافعة الزمان، ونادرة الشرق في الذكاء والدهاء، وأعني به المرحوم المبرور نوبار باشا، فإنه استدعى صاحب الترجمة وقلده الوزارتين في الأشغال العمومية والمعارف العمومية، فلما سقطت وزارة نوبار بقي صاحب الوزارتين في منصبه تحت رئاسة صاحب العطوفة مصطفى فهمي باشا، وتلك هي الوزارة التي أشرنا إليها بأنها كانت أطول الوزارات عمرا في مصر، وفي غير مصر في هذا العهد الحاضر؛ لأنها استمرت ثلاثة عشر عاما بالتمام، ولكن صاحب الوزارتين تنحى عن مسند المعارف العمومية في سنة 1906، وانفرد بنظارة الأشغال العمومية.
غير أنه كان في خلال هذه الوزارة تتجمع في شخصه أثناء الصيف أكثر الأعمال الرئيسية الكبرى بطريق النيابة عن القائم مقام الحضرة الخديوية، وعن رئيس مجلس النظار وعن كثير من زملائه أثناء تغيبهم بالإجازة، فكانت أشغال الحكومة كلها تكاد تنحصر في بعض الأحايين في شخص ناظر الأشغال العمومية، ولقد بلغت ذات مرة العدد الكامل على طريقة أهل الحساب من الأعراب وهو عدد السبعة.
وماذا بعد الكمال إلا الزوال
فذلك الذي كان يضع توقيعه على القوانين والأوامر العالية بأمر لحضرة الفخيمة الخديوية، وبالنيابة عن رئيس مجلس النظار، وعن ناظر الداخلية وعن ناظر الخارجية، وعن ناظر المالية وعن ناظر الحقانية، وبصفته ناظر الأشغال قد اعتزل الأعمال مرة واحدة في 11 نوفمبر سنة 1908 مع ما بذلوه من الإلحاح عليه في الدخول كرة أخرى في الوزارة الجديدة؛ لأنه أصر على الانقطاع إلى الراحة والسكينة، وهما من أخص الصفات التي امتازت بها حياته في أيام العمل وفي أيام الفراغ.
ولكنه كان في الحالين عنوان المواظبة والمثابرة على الحضور في جميع الجلسات، التي تعقدها الجمعيات العلمية والفنية التي انتظم فيها، فلا يكاد يخلو من اسمه محضر من محاضر المجمع العلمي المصري والجمعية الجغرافية الخديوية، ولجنة العاديات المصرية، ولجنة حفظ الآثار العربية، وكل أقرانه يشهدون بأنه كان على الدوام يحضر في الميعاد المضروب بالتمام بلا تقديم ولا تأخير.
وقد خدمه التوفيق في أيام توفيق، وابتسم له الزمان في أيام مولانا العباس، وخصوصا في وزارته الأخيرة بالأشغال العمومية، فأتمت الحكومة الخديوية بناء الدار الكبرى للمحاكم الأهلية ودار الكتب الخديوية، ودارالعاديات المصرية وكبارى جزيرة الروضة وكل هذه الآثار بالقاهرة، هذا فضلا عن المدارس المتعددة للبنين والبنات والورش الصناعية بالقاهرة والإسكندرية وغيرها من أمهات المدائن، وناهيك بخزان أسوان وقناطر أسيوط، وقناطر زفتى وتحويل الحياض بالوجه القبلي ونحو ذلك من الآثار الكبيرة النافعة، والعمائر المفيدة الخالدة التي ازدهى بها عصر مولانا العباس، وله في افتتاحها تلك الحفلات المشهورة، التي ألقى فيها خطبة الرئاسة المأثورة، وأخصها تلك المقولة التي ألقاها بين يدي ولي النعم في حفلة افتتاح الخزان في 10 ديسمبر سنة 1920.
صفاته وأخلاقه
أما أخلاقه فحدث عنها ولا حرج، شمائل تسري مسرى النسيم، وصدر رحيب، وصدق في القول وبساطة في المعيشة، وتواضع في المعاملة لذلك كان محبوبا من الجميع مرضيا عنه من القريب والبعيد، وقد أشبه أباه في سجاياه اللهم إلا فيما يتعلق بالحرب وآلات الكفاح ، وأنجب لنا مثله نجلين موفقين هما حضرة صاحب المعالي الجليل محمود فخري باشا وزير مصر المفوض لدى حكومة الفرنسيس، وصاحب العزة الأستاذ جعفر بك فخري المحامي الشهير.
سلام عليك يا ابن جعفر ويا أبا جعفر.
والموت نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد
تاريخ إجمالي وجيز لبطل الحروب والمعارك المغفور له جعفر صادق باشا
ذلك الذي شهد المعارك الكبرى وجنى يافعا ثمر الوقائع يانعا خصوصا في حرب القرم، وناهيك بسيف الفخار الذي أهداه السلطان عبد الحميد سلطان تركيا لهذا البطل المغوار.
تولى هذا القائد الباسل في أيام إسماعيل حكمدارية عموم السودان، وجلس توفيق وهو متربع في دست الرياسة بمجلس الأحكام «أي: محكمة النقض والإبرام»، وهو الذي أنجب حسين فخري، وأحسن تربيته حتى دارت الأيام فكان الأب رئيسا لابنه في الدار ومرءوسا له في الديوان.
وذلك أن صاحب الترجمة امتاز وهو في كرسي النيابة بالمحاكم المختلطة، وقد صادفه التوفيق الخديوي، فارتقى منها طفرة واحدة إلى مسند النظارة في الحقانية، وكان أبوه حينئذ رئيسا لمجلس الأحكام، فكان فخري في الدار مثالا للولد البار، وفي الديوان ممثلا للرئيس المطاع.
تاريخ إجمالي وجيز لبطل الحروب والمعارك المغفور له جعفر صادق باشا حاكم عام السودان سابقا.
بماذا وصل إلى هذه المكانة التي يندر مثيلها
بالعلم الذي جعله سباقا إلى الغايات، وقد عرف له ذلك الفضل فكان يرعاه في حياته الرسمية وفي حياته العامة، وما زال يفتخر بخدمته إلى أن تولاه الله برحمته.
وقد قضى معظم سني حياته في دست الوزارة في مظهر يبهر الأنظار، ولكنها في الحقيقة لم تتجاوز نصاب الوسط وحد الاعتدال؛ لأنها لم تزد عن السبع والستين من الأعوام إلا قليلا، بخلاف أبيه الذي خاطر بالروح وبالجسم وقارع الدهر في حرب وسلم، فقد كان من المعمرين؛ لأنه عاش ما ينيف على السبع والتسعين سنة.
رحمهما الله رحمة واسعة ووهب الكنانة الكثير من أمثالهما.
ترجمة حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل عزيز عزت باشا
سفير مصر في لندن ووزيرها المفوض
مقدمة وجيزة للمؤرخ
حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل عزيز عزت باشا.
خصت الحكومة المصرية أفرادا من رجالها الأكفاء بتمثيلها في الخارج، وراعت في ذلك اختيار هؤلاء الممثلين من عظماء الأمة، الذين اشتهروا بالعلم الغزير والفضل والنبل والمكانة السامية فكان من نصيب حضرة صاحب المعالي الجليل عزيز عزت باشا صاحب هذه الترجمة، أن يكون سفيرا ووزيرا مفوضا لدى حكومة بريطانيا العظمى، وقد وقع هذا الاختيار أحسن وقع لدى عموم المصريين لما لمعاليه من الميزات العالية، والصفات النادرة، وقد برهن عقب تقلده هذا المنصب السامي على قدرته السياسية، فكم خطب في القوم هنالك مبينا لهم ما لمصر من الحقوق، وما عليه المصريون من الكرم والعطف على الأجانب، فكان لخطبه هذه تأثير عظيم في المقامات الرسمية، وكانت أكثر الجرائد الإنجليزية الكبرى تعلق عليها منوهة بما لهذا الخطيب من المقدرة العلمية، والكفاءة العالية في الشؤون السياسية والمقامات الاجتماعية، وإنا نسطر بقلم الفخر تاريخ هذا السياسي القدير والمصري الصميم، سائلين الحق تعالى أن يكثر بين عظماء الأمة من أمثال معاليه؛ لتنال مصر مركزها السامي الذي يليق بها بين الممالك المتمدينة، وتحظى بأمنيتها وليس ذلك على الله والعاملين المجاهدين بعسير.
مولده ونشأته
ولد معاليه في القاهرة سنة 1869 من أبوين شريفين حسبا ونسبا، فوالده هو المرحوم طيب الذكر خالد الأثر عبد الله باشا عزت رئيس مجلس الأحكام العسكرية في عهد المغفور له الخديوي إسماعيل بن محمود بك ، ناظر الحربية في عهد ساكن الجنان محمد علي الكبير.
تلقى معاليه علومه منذ نشأته على أساتذة أخصائيين، ودرس من اللغات الغربية والتركية والفرنسية والإنجليزية، فكان مثال الذكاء والنشاط، ومن ثم التحق بكلية كمبريدج في إنجلترا فأتقن فيها اللغة الإنجليزية، وبعد أن تمم دراسته فيها التحق بمدرسة ويلدج الحربية، وتخرج منها وانضم إلى الجيش البريطاني ضابطا بسلاح الطوبجية، ثم تعين ياورا بالمعية السنية إلى أن ترقى إلى رتبة لواء، وعين بعد ذلك وكيلا لوزارة الخارجية المصرية، واستقال منها سنة 1908م، وقد نال من الأوسمة المجيدي الأول، وأنعم عليه جلالة الملك فؤاد الأول بالوشاح الأكبر من نيشان النيل.
ونظرا لما هو معروف عنه من المقدرة العلمية، ورجاحة الفكر وعلو الكعب في الشؤون السياسية أسند إليه جلالة الملك فؤاد الأول تمثيل مصر لدى حكومة بريطانيا العظمى، فبرح القاهرة مع عائلته الكريمة في أواخر شهر ديسمبر سنة 1923، ومعالي صاحب الترجمة يعد من سراة الأمة المصرية، ومن كبار أغنيائها وله دائرة كبرى ملأى بالموظفين والمستخدمين، يدل ظاهرها على ما لصاحبها من الجاه العظيم والخير الجزيل، وقد زاد الله تعالى عليه فرق هذه النعم نعمة الجود والكرم والفضل والإحسان، فكم رأينا من بؤساء أخنى عليهم الدهر بكلكله يلتجئون إليه، فيشملهم بلطفه المعهود، وكرمه الحاتمي فينطلقون وألسنتهم لاهجة بالشكر داعية له بطول العمر.
صفاته وأخلاقه
مشهور معاليه برجاحة الفكر، وصفاء الذهن، والذكاء الخارق، والكفاءة التامة، وعلو الهمة مع اللطف، وكرم الأخلاق والدعة، والعطف على الفقراء ومساعدة البؤساء.
أدامه الله وأبقاه وأكثر من أمثاله لسعد مصر وخيرها.
ترجمة حضرة صاحب المعالي الجليل سعيد باشا ذو الفقار
من عظماء المصريين ونوابغ رجالها الذين امتازوا بالعلم والفضل والأدب، وجلائل الأعمال هذا الشهم الجليل وريث بيت المجد حضرة صاحب المعالي الجليل سعيد باشا ذو الفقار، نجل المغفور له صاحب العطوفة ذو الفقار باشا، سر تشريفاتي خديوي سابقا في عهد ساكن الجنان الخديوي توفيق باشا الأسبق، الذي نال محظوظية سموه ورضاه العالي.
مولده ونشأته
ولد معالي سعيد باشا (حرسه الله) في سنة 1863، فهو الآن في الثانية والستين من سنى حياته الزاهرة، فرباه والده تربية عالية في بيت المجد والشرف، وتلقى علومه في المدارس المصرية، ورحل إلى أوربا، ودخل في مدارسها وارتشف من بحور العلم أكثرها وأنفعها وحاز أهم الشهادات في العلوم التي برع فيها كاللغات العربية والفرنسية والتركية والإيطالية.
حضرة صاحب المعالي الجليل سعيد ذو الفقار باشا كبير أمناء جلالة الملك فؤاد الأول.
وبعد أن عاد إلى مصر دخل في قلم الترجمة بسراي عابدين العامرة، ثم انتقل إلى الديوان الإفرنجي، وأخذ يتدرج في المناصب إلى أن بلغ المكانة، التي تليق بنجل والده العظيم ذو الفقار باشا، واختارته عابدين العامرة زمنا طويلا في مناصبها الرفيعة، إلى أن نال أسماها وأدلها على كرامة أصله وعلو همته، وواسع خبرته وكبير عمله.
وفي سنة 1892م نقل إلى ديوان التشريفات، وترقى في هذا الديوان إلى أن وصل إلى منصب سر تشريفاتي، وهو أسمى مناصبها وأرفعها.
ثم عين مديرا لمديرية الدقهلية في عام 1912م، فأحسن تدبير الأمور وإدارة الشؤون على محور الحكمة والنزاهة والعدل.
ثم رقي بعدئذ إلى الوزارة في عام 1913م، فكان وزيرا للمالية وظهر حبه للأمة، وحب الأمة له فعين وكيلا للجمعية التشريعية.
وفي 19 ديسمبر سنة 1914م جعله ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين كامل الأول من أعوانه، وخواص حاشيته فأسند إليه منصب كبير الأمناء، وأنعم عليه بنيشان النيل الأول وهو أكبر النياشين المصرية الجديدة، ولقبه بصاحب المعالي كسائر الوزراء الكرام فقام بمهام منصبه خير قيام.
ولمعاليه منزلة سامية عظمى عرفتها الدول كما عرفتها الحكومة المصرية، فقد منح أسمى الناشين من الحكومة المصرية، والعثمانية، والنمساوية، والألمانية، والفرنسية، والإيطالية، واليونانية، والبلجيكية، والسياسية، والبرتوغالية، والإيرانية، والحبشية وجميع هذه النياشين تشهد برفعة مقامه وكبير فضله وعلمه الجم، وما لمعاليه من المكانة العالية في القلوب.
ولما جلس جلالة مولانا الملك المعظم أحمد فؤاد الأول على سرير جده الأكبر، وتأكد من إخلاص معالي سعيد باشا ذو الفقار صاحب الترجمة للسدة العلوية الملكية، ولا سيما نحو المليك المعظم (أدام الله ملكه) شمله بعين عنايته العالية، وتعطفاته السامية ، وأبقاه في هذا المنصب السامي الجليل؛ كي يكون مقربا من لدن جلالته وإن هي إلا نعمة كبرى من جلالته مليك البلاد قوبلت من عموم الشعب المصري بالشكر والدعاء بحفظ الذات الملكية العلوية، وولي عهدها بدوام العز والرفاهية لخير البلاد وعزها.
صفاته وأخلاقه
أما شهرة معاليه فيما يختص بصفاته العالية وأخلاقه السامية لا سيما بين الشعب المصري الكريم، فحدث عنهما ولا حرج: دمث الأخلاق بشوش الوجه صبوحه لين العريكة كريم الطباع مقدام في كل الأمور شجاع عند الحق، وبالإجمال فهو من كبار الرجال العاملين لخير البلاد ونفع العباد. حفظه المولى وأبقاه وأكثر من أمثاله العاملين.
تاريخ حياة المغفور له المرحوم الفريق راشد حسني باشا
مقدمة موجزة للمؤرخ
لا غاية للمؤرخ النزيه الحر المجرد من الغايات الشخصية، والذي يستخدم قواه العقلية والبدنية للجري وراء إثبات حقائق الأمور من صميم مصادرها وتدوينها في سجل التاريخ سوى خدمة أمته، وفائدة قومه من ذكر سير أولئك العظماء الذين ضحوا بكل مرتخص وغال، وبذلوا كل قواهم للاحتفاظ بشريف حياتهم في مواقفهم الجليلة، وأعمالهم المجيدة، وشهامتهم النادرة مما يسطر لهم في بطون التاريخ بقلم الفخر والإكبار؛ لتدوم ذكراهم خالدة ما دامت السماوات والأرض.
فمن أولئك العظماء البواسل والقواد الشجعان، الذين تفخر البلاد بشهامتهم وإقدامهم ذلك البطل العظيم صاحب هذه الترجمة الذي لو عددنا ذكر مآثره الغراء، وأعماله البيضاء، ومواقفه الشريفة لاحتجنا إلى مجلد ضخم، وإننا نكتفي بذكر الحقائق الواقعية متجنبين الغلو في المدح - ولو أن كل صغيرة من أعماله جديرة بكل مدح وثناء - تاركين الحكم في النهاية إلى القراء الكرام، الذين يقدرون حقوق المجاهدين من أبناء البلاد فنقول:
مولده ونشأته
صفحة من تاريخ مصر المجيد
رسم وتاريخ حياة المغفور المرحوم الفريق راشد حسني باشا بطل من أبطال مصر.
كان المغفور له الفريق راشد حسني باشا جركسي الجنس، ولد بالقوقاز عام 1258 عربية، وتوجه إلى الأستانة وعمره إذ ذاك تسع سنوات، ومكث بها سنتين ثم حضر إلى مصر عام 1269ه في عهد المغفور له عباس باشا الأول والي مصر في ذاك العهد، والتحق في السنة المذكورة بمدرسة المفروزة البيادة، فتفوق بالذكاء والجد والاستقامة مما دعا الحكومة إلى اختياره ضمن البعثة التي أوفدتها إلى فرنسا سنة 1270ه في أوائل عهد المغفور له سعيد باشا؛ للتمرن على الأعمال الحربية والتعليمات العسكرية، فأقبل عليها بشغف عظيم، وأخذ منها مدة عامين بقسط وافر، وبعد أن عاد إلى مصر مع الإرسالية في عام 1272ه برتبة ملازم أول ألحق في 3 جي بلك بأورطة الشيشخانة، ثم رقي إلى رتبة يوزباشي ثاني وألحق في 2 جي بلك بأورطة الشيشخانة بالقلعة العامرة، وفي عام 1273ه رقي إلى رتبة يوزباشى أول، وألحق في 3 جي طابور بيادة في الفرقة الشرخجية التابعة للواء شريف باشا، وفي 29 جمادى عام 1274 رقي إلى رتبة صاغ قول أغاسي في 1 جي طابور 2 جي سعيدية، وفي عام 1275ه رقي إلى رتبة بمباشي في 123 جي طابور، وصار يتنقل بين أورط السعيدية وأورط الشرخجية إلى أن رقي إلى رتبة ميرالاي، وفي 23 ربيع الآخر سنة 1276ه تعين على 2 جي ألاي سعيدية، ومنها صار الاستغناء عنه وعن جملة ضباط لإخلاء عساكر السبعة جي أورطة في سنة 1277ه، ثم صار استخدامه بتفتيش أقاليم الوجه القبلي برفقة عبد الله باشا الأرناءوطي عام 1279ه، وحضر من التفتيش المذكور إلى 5 جي بيادة لسفرية السودان، وفي سنة 1280ه تعين على 4 جي بيادة بالتاكة بالسودان، ومنها أيضا انتقل إلى 1 جي بيادة بالخرطوم، ومنها تعين على 7 جي بيادة حجاز، وبعد ذلك بمدة قليلة تعين على 9 جي بيادة التي قامت من مصر إلى السودان، ثم تعين على 7 جي ألاي بيادة، ثم صار مأمورا على نزل العساكر السودانية في مديرية بربرة، ولما حضر لمصر تعين 7 جي ألاي لسفرية كريت في 18 رجب سنة 1283، ثم ترقى إلى رتبة لواء في عام 1284ه، ثم حضر من كريت إلى مصر لواء على 7، 11، 3 جي بيادة، وفي غرة رجب عام 1284ه ترقى إلى رتبة الفريق على ألايات الغاردية، وفي عام 1291 انتقل إلى 2 جي فرقة غاردية، وفي سنة 1293ه تعين ياور خديوي للمغفور له إسماعيل باشا خديوي مصر في ذاك الوقت وفريق الألايات الغاردية، وبعد ذلك إلى حرب الصرب والروس في العام المذكور، ولما ألغيت الألايات الغاردية تعين رئيسا عسكريا عام 1296ه، ومنها تعين على فرقة الغاردية التي جعلت 1 جي فرقة بهذا التاريخ.
بدء انتصاراته الباهرة ومواقفه الحربية المشرفة
لا نريد أن ندل على ما كان له رحمه الله من شجاعة وخبرة في الشؤون الحربية، وما وقفه فيها من مواقف شريفة بأكثر مما أظهره من البسالة والإقدام في بلائه بجزيرة كريت مع الجيش المصري، الذي أرسل بأمر المغفور له الخديوي إسماعيل باشا لمساعدة الدولة العلية في إخماد تلك الثورة التي شبت ضدها في تلك البلاد، فقام بواجب الجندي الشجاع، الذي لا يهاب الموت في سبيل الواجب، فاستحق الشكر والثناء، وأنعم عليه برتبة اللواء اعترافا ومكافأة له على حسن بلائه.
فأول خطاب جاءه من سموه بتاريخ 18 جمادى الثاني سنة 83 باللغة التركية، وهذا تعريبه:
عزتلوا راشد بك أفندي
إن ما جاء في تقرير الوقائع العسكرية الوارد من سعادة الباشا ناظر الجهادية، وما ورد في المحررات والأوراق الأخرى، وما جاء في تقرير ياورنا الأول سعادة حسين رأفت باشا الشفهي عن حميتكم وغيرتكم الملية، وصدقكم في المواقع المختلفة، وفي المحاربات والهجوم في أبو فردين على العصاة الأشقياء المتحصنين في جبلية صعبة المسالك هو من مقتضى استقامتكم، وموجبات إعلاء شأن وشرف الصفة العسكرية الجليلة، كما أنه يزيد في مزية البسالة والإقدام والشجاعة المأثورة عن العساكر المصرية ضباطا وجنودا، والتي اعترف بها العالم، ويؤيد إقدامكم وغيرتكم وعظيم شجاعتكم المعروفة عندي والباعثة لمزيد سروري وارتياحي، ولإعلان سرورنا الزائد وارتياحنا أمرنا بإصدار هذا الأمر وتحريره، وإرساله إليكم بوجه خاص لتأييد، وتأكيد ما لكم عندنا من حسن الظن وحسن النظر.
18 جمادى الثانية سنة 83
إسماعيل
ختم
وهذا هو النص التركي.
ومن مواقفه الحربية المجيدة أيضا مهاجمته لدير أركازي بجزيرة كريت ذلك الدير المنيع، بل الحصن الحصين وما أتاه من ضروب المهارة في تسلق الجدران بحركة عجيبة، وسرعة مدهشة حتى ظهر فجأة فوقه، فكان هو الأول في ركز العلم المصري على رأسه، فكان في عمله هذا خير قدوة لجنوده البواسل الذين تتبعوه ، مما أدهش العدو فلم يحسب للموت حسابا ولا للحياة قيمة شأن الجندي البطل، وقد رفع الفريق إسماعيل سليم باشا ناظر الجهادية المصرية في ذاك الوقت، الذي كان مرافقا لهذه الحملة تقريرا لسمو الخديوي إسماعيل باشا، أتى فيه على وصف هذه المعركة وما قام به صاحب الترجمة من الإقدام، وهاك نصه العربي مترجما عن التركية:
12 رجب سنة 83
تحركت في الصباح خمس أورط من جنودنا مع طابور ونصف من جنود الأستانة، فوصلت إلى القرى الثلاث الآنف ذكرها، وبينما كانت يفرق بعضها عن بعض، وتوزع على المنازل أبلغنا مصطفى نائلي باشا أن الجنود، التي سيقت لحصار الكنيسة وأحاطت بها ليست بكافية لمواصلة الحصار وصد عادية الأشقياء الذين يتواردون للإمداد من الروابي والأطراف، وأن من الواجب تعزيز قوة الحصار بأورطتين ومدفعين يصلان على جناح السرعة، فهيأنا في الحالة أورطة من لواء البيادة السابع بقيادة وكيل اللواء راشد حسني باشا، وأورطة من اللواء الثالث بقيادة الميرلاي إسماعيل كامل بك، ومع كل أورطة مدفع واحد، وسارت الأورطتان فوصلتا قرب الساعة الحادية عشرة إلى المكان المذكور، وتحققنا أن الحالة وفق ما وصفت، ورأينا الفريقين يتبادلان إطلاق الرصاص فنصبنا المدفعين اللذين جئنا بهما، ووجهنا فوهتهما صوب باب استحكامات الكنيسة، ثم أطلقنا عليها عدة قنابل وكان الظلام قد بدأ يرخي ذيوله، فحال دون مواصلة الضرب وانقطع إطلاق النار من الفريقين.
وقد أرسلنا تحت جناح الظلام كلا من المهندس الحربي عبد القادر فهمي أفندي وعلي أفندي أحد ياوراننا؛ لدرس حالة الاستحكامات المحيطة بالكنيسة، والمحال الأوجب أن تصب عليها النيران، ووزعت الجنود على النقط وقد تمت في ساعة متأخرة من الليل عملية إنشاء المتاريس، طبقا لما أشار به المومأ إليهما فنقل الأرناءوط الذين جاءوا هذه الجهات من قبل إلى جانب العساكر الشاهانية المعسكرة في الجناح الأيمن، الذي يفصله واد سحيق وكانت الأمطار تهطل بغزارة على الجنود، الذين قضوا سحابة ليلهم في المتاريس إلى أن طلع الصباح.
13 رجب سنة 1983 يوم الأربعاء
وصل حضرة مصطفى نائلي باشا قرب المساء مع أورطة من الجنود ، وبات تلك الليلة قادما إلى محل الواقعة من قرية ميس، وقد بدأ الفريقان باكرا بالقتال، فبعد أن ضربت المدافع نحو ساعة القلعة الحاكمة على طول الخط والمحصنة أحسن تحصين، وهي ذات منافذ مطلة على الأطراف مساعدة على ضرب جميع الجهات، تقدمت عدة بلوكات من الجند الشاهاني مقتربة من القلعة.
ولما رأينا ذلك أخذ وكيل اللواء راشد بك أربعة بلوكات، كما أخذ الميرالاي إسماعيل كامل بك مثلها، وسار في الحال نحو القلعة وعندما قربا منها شاهد راشد بك في الجانب البحري من الدير زهاء 400 من الأرناءوط والباشبوزق، قد أعجزهم رصاص القلعة فسد فراغها «الكوى الضيقة التي يطلق منها النار»، وأضرم النار بالبناء المتصل بالقلعة فالتهمت كمية البارود الموجودة داخلها، وأحس الأشقياء المحصورون بالضيق، فرمى ثلاثة منهم بأنفسهم من شاهق وهم يحاولون النجاة من إحدى الثغرات المفتوحة من جراء ضرب المدافع، وكانت روحهم قد بلغت التراقي من الدخان المتصاعد في القلعة، فتلقى القائد المشار إليه أحدهم بسيفه كما قتل الاثنين الآخرين.
ورمى عدة أشخاص آخرين من الأشقياء أنفسهم إلى خارج القلعة فأعدموا، وهلك غيرهم في الطابق الأسفل تحت تأثير النار وكانوا 14 شخصا.
وقد صوب لطيف أفندي ببكباشي المدفعية مدافعه على الاستحكامات، وبعد أن أطلق نحو 40-50 قنبلة كسر باب الدير المشهور بمتانته العجيبة وضخامته فسقط مع توابعه إلى الأرض، وأطلق مثلها على جهاته الأخرى فخرق الجانب الغربي من السور، وهنا رؤي أن عناد المدفعية يوشك أن ينفذ، فعين من ياوراننا البيكباشي علي أفندي لإحضار ستة صناديق من ذخيرتنا في قرية ميس، وقد أتى بها في أسرع وقت، وبذلك لم ينقطع إطلاق القنابل، بل ظلت مستمرة، وكان الأشقياء يطلقون بنادقهم بتواصل، ولم يجرأ أحد على الهجوم إلى أن بلغت الساعة التاسعة، فأرسلنا أحد الياوران خلوصي أفندي إلى راشد بك؛ ليصدر أمره بالهجوم، فوجد أنه على أتم استعداد، وما كاد يعلن من قبلنا نفير الهجوم حتى انقض راشد بك بمن معه وهو في الطليعة على باب استحكام الدير، فبلغه واجتازه إلى الداخل حيث رأى سدا آخر أقيم هنالك، فتجاوزه واقترب من حائط غرفة في جانب باب الاستحكام هدمتها القنابل، وكان خلفه مصطفى خلوصي أفندي حامل لواء الألاي، فتناول اللواء من يده وصعد إلى أعلى القلعة، حيث فتح العلم وركزه ثم أخذ الضباط والجنود الذين كانوا وراءه، فصعدوا الواحد بعد الآخر وكان عددهم غير قليل.
وثارت الحماسة في صدور ضباط وعساكر الأستانة، عندما رأوا هذه الشجاعة النادرة فاندفعوا بالهجوم على باب القلعة، وكان راشد بك المومأ إليه يصعد الجند، ويملأ بهم الغرف في الطابق الأعلى، والأشقياء ينسحبون من نواحي القلعة الخالية من الجنود، ودخل إسماعيل كامل بك مع جنوده من الثغرة التي أحدثتها المدافع، فاحتل الطابق الأسفل ثم الأطراف العليا من الجهة البحرية، وكان الأشقياء في الطابق السفلي متحصنين في عضادة ضخمة غاية في المتانة، يمطرون جندنا المهاجم في داخل القلعة وخارجها وابلا من الرصاص، وفي غضون ذلك أوقدت النار في مستودع ذخيرة الأشقياء في الشرق الشمالي من القلعة، فنسفت تلك الناحية وصعد دخان كثيف ملأ المكان، وتراجع الجند الشاهاني والباشبوزوق إلى مركز الحائط المتهدم، وما إن تبدد الدخان ونفخ نفير الهجوم حتى عادوا للقتال.
أما عساكرنا التي ضبطت المحال الآنف ذكرها، فبينما هي تصلي الأشقياء نارا حامية أشعل الأشقياء في الجانب البحري المتوسط لغما جسيما، فارتد عسكرنا مع الجند الشاهاني إلى الداخل وعلاهم دخان كثيف ظلوا في وسطه، وعندما شاهدنا ذلك أرسلنا محمود سامي بك البارودي، وقد كان معنا ياور حرب على جناح السرعة، فاجتاز عدوا الوادي الفاصل وصاح بالجنود والضباط يشجعهم على القتال، وينفخ فيهم روح الحمية والإقدام، وعاد بالعساكر والأرناءوط والباشبوزوق إلى ميدان القتال، فتم ضبط الضلعين الباقيين والاستيلاء عليهما، ولم يبق سوى الجهتين الشرقية والقبلية، وكان وراء محمود سامي بك أربعة بلوكات من العساكر الموجودة بمعيتنا، فأرسلها مددا إلى جندنا الذي يقاتل هنالك فانضمت إليهم في الهجوم، وفي تلك الأثناء ذهب أيضا حضرة مصطفى نائلي باشا إلى جهة الجنود الشاهانية، فاقترب من مرمى الرصاص في الجهة الشرقية؛ ليشرف عن كثب على الواقعة ، ودنت العساكر الشاهانية في الشرف مع مدفعها ففتحت الطريق بإطلاق بعض القنابل، ودخلت الجهة الشرقية التي أصبح استيلاؤنا عليها تماما، أما البقية الباقية من الأشقياء فقد حصرت في الضلع القبلي الذي كان لم يضبط بعد، وعندها اندفع ثلاثون شخصا من الأشقياء نحو الثغرة، التي أحدثتها المدافع في الجدار، وعلى النافذة ابتغاء النجاة من المضيق، والدخان المحيط بهم فتناولهم أسياف الجنود، وحدث انفجار آخر في مستودع الذخيرة، فلم يصب به سوى الأشقياء، ودامت المعركة إلى الصباح ثم جاء محمود سامي بك بنبأ مؤداه أن جميع الأشقياء دفنوا تحت الأنقاض وانتهى أمرهم، وبعد ذلك أطلقت النار في جميع أنحاء الكنيسة واستحكاماتها، وشدد الحصار على الضلع القبلي وكان في داخله ثمانية وتسعون نسمة من أطفال وعائلات الأشقياء وثمانية وأربعون راهبا مع عدد من رجال الحرب، فنادوا الأمان مسلمين وأخرجوا جميعا من دون أن يلحقهم أذى، وفي تلك البرهة دخل الأرناءوط والبشبوزوق إلى داخل الكنيسة واستحكاماتها، وفتشوا غرفها العديدة وفحصوها فوجدوا مقادير وافرة من الأمتعة والذخائر والمهمات، فحملت هذه الغنائم وبدئ بإرسالها إلى رسمو بالتتابع من دون أن يترك شيء، وهكذا ختمت هذه الحادثة على الوجه المحرر أعلاه، واستبعد عسكرنا من ذلك المكان، وجيء به إلى مكاننا للمبيت فيه ودفنا شهداءنا الذين ذكروا، وترك للأطباء أمر مداواة الجرحى والعناية بهم، ووضعوا في داخل كوخ للرعاة لوقايتهم من المطر والبرد.
في أثناء حصار الكنيسة وصل عدد من الأشقياء لإمداد رفقائهم، فأشرفوا من رابية على جميع الأعمال العسكرية، ولم يجسروا على الدنو من هذه المعركة الجسيمة الهائلة، بل اكتفوا بإظهار أسفهم وتألمهم من بعيد، وفروا بعد ذلك مخذولين.
في 14 رجب سنة 83
أركب المجروحون في الصباح على بغال، وأرسلوا مع بلوكين للمحافظة عليهم إلى مستشفى رسمو.
ذهب الياوران الموجودان بمعيتي إلى الدير للكشف عليه ومعاينته، ووضع مصور هندسي وقد أخذ يتصمم الرصاص بسبب ما نحن فيه، وقد اتضح أن الدير واستحكاماته متينة ومحكمة كل الإحكام، وأن داخله متسع وفيه غرف متعددة في الطابق السفلي والعلوي وكلها ذات كوى، وفيه فرن ومطحنة وصهريج وآبار ومخازن وحظائر للماشية، وهو عبارة عن قلعة عادية، وظهر أيضا من هذه المعاينة أن أرض الكنيسة الداخلية وغرف الاستحكامات القائمة في أطرافها مغطاة بجثث الأشقياء، أما البقية الباقية من الأطفال والنساء، فقد استسلمت وأسرت، وكذلك شوهدت جثث كثيرة من جثثهم تحت الحجارة والأنقاض، وسألنا الأسرى الذين سبق ذكرهم عن مجموع عدد هؤلاء، فقالوا: إنه كان في داخل الاستحكامات نحو 450-500 شخصا من المحاربين ما عدا النساء والأطفال، ويزيدون عن المئتين، وقد تحقق أنه لم ينجو من هؤلاء سوى من سقط في الأسر، وبين الذين هلكوا في داخل الكنيسة الراهب الأكبر فوميتوس وطاقم البترولي والقبودانية، ونحو 40-50 شخصا جاءوا منذ شهر من المورة، وقد عادت عساكرنا والعساكر الشاهانية إلى القرى التي سبق ذكرها، وهي ميس وموطرا وبباتام ووزعت على القرى.
وجاء بعض أهالي ناحية تامو التي تتألف من 32 قرية طالبين الأمان وقابلين بمطالب الدولة العلية، ولما التمسوا ذلك من مصطفى نائلي باشا أجابهم بأنهم ليسوا من الذين يوثق بهم ويعتمد عليهم، ثم منحهم مهلة ثلاثة أيام لإحضار معتمد موثوق به من كل قرية يحضر مع الراهب، بشرط أن يكون مع ذلك تسليم السلاح، وإذا لم يحضروا في خلال هذه المدة يزحف الجيش عليهم، ويضربهم ونحن الآن في حالة الانتظار.
وليحيط علم الجناب العالي الخديوي بهذه الأسباب، أرسلنا هذا وفي كل الأمر لوليه.
18 رجب سنة 83
بنده
ناظر الجهادية
إسماعيل سليم
ومزيل هذا التقرير بحاشية هذا نصها:
يعرض العبد الحقير أنه وصل في هذه الساعة نحو 40-50 راهبا ومعتمدا من أهالي ناحية ميديوتامو، ملتمسين الأمان باسم جميع أهل الناحية، ومتعهدين بتسليم السلاح، وبذلك لم يبق سوى ناحيتي كيامو وستدوز، وليحيط علم الجناب العالي الخديوي حررنا ذلك والأمر لوليه.
18 رجب سنة 83
ناظر الجهادية
إسماعيل سليم
وبعد أن اطلع المغفور له إسماعيل باشا على ذلك التقرير، وأعجب به أيما إعجاب بما أتاه صاحب الترجمة من البطولة أرسل إليه الخطاب التالي، وهذا نصه العربي مترجما عن التركية وقد أنعم عليه فيه برتبة اللواء الرفيعة الشأن:
إلى راشد حسني باشا أمير ألاي البيادة السابع سابقا، والموجهة لعهدته سابقا رتبة اللواء الرفيعة.
سعادة الباشا
إن ما أبرزتموه منذ ابتداء مأموريتكم في جزيرة كريد من ضروب الشجاعة والإقدام والبطولة في المحاربات التي اشتركتم بها حتى الآن، قد أيدت وأثبتت حليتكم الذاتية وما اتصفتم به من شجاعة وبسالة وغيرة زائدة وحمية وبذل الروح في سبيل الوطن، علاوة على ما أظهرتموه في هذه المرة في الهجوم على دير أركازي التابع لقضاء رسمو، والذي يحاكي القلعة متانة ورصانة، وهجومكم في الطليعة واقتحامكم قبل الجميع وزحفكم على الأصابع رويدا رويدا متسلقين الدير، وإسراعكم بركز علم الألاي مع بعض الجنود هو والحق يقال همة وغيرة وشجاعة خارقة للعادة لا تنسى على ممر الأيام؛ ولذلك فلا أستطيع أن أصف لكم مقدار سروري منكم وامتناني من أعمالكم، فأسأل جناب الحق أن يشمل بعين التوفيق والظفر كل أمر من أموركم وشأن من شؤونكم.
ولما كنتم استحققتم كل الاستحقاق بغيرتكم ذات الآثار الباهرة رتبة اللواء الرفيعة الموعودين بها، فقد وجهت وأحيلت إلى عهدة لياقتكم فأبشركم بذلك وأهنئكم وأبارك لكم بحسن توفيقكم وزيادة قدركم وحيثيتكم بين أقرانكم.
رجب 83 (إسماعيل)
ختم
وهاك نصه التركي:
وعلى أثر الخطاب المذكور أعقبه صدور الفرمان العالي الشأن بتوجيه رتبة اللواء الرفيعة، وهذا نصه العربي نقلا عن التركية:
إلى سعادتلو راشد حسني باشا حضرتلري
إن أهليتكم الذاتية وما اتصفتم به من كمال الصدق وفرط البسالة والشجاعة، وما أظهرتموه أيضا في أثناء مأموريتكم في جزيرة كريد من أعمال توجب الافتخار، وقد بدت آثارها للعيان؛ دعت والحق يقال إلى مكافأتكم واستلزمتها، ولما كنت أعرف أن تلطيف الذوات الذين يبرزون مآثر الصدق والغيرة، كأمثال ذاتكم الكريمة ويبذلون الأرواح في سبيل الوطن هو فريضة، فقد أرسلنا إليكم طيه الفرمان العالي الشأن الوارد بتوجيه رتبة اللواء الرفيعة، وإني أهنئكم وأبارك لكم بما اكتسبتموه من حسن الشهرة وثمرة الذكر الحسن، مما أدى إلى ترقيتكم ورفعة قدركم وحيثيتكم بين الأقران، فأسأل جناب الحق أن يوفقكم في كل أمركم وأحوالكم .
9 شعبان سنة 83 (إسماعيل)
ختم
وهاك نصه التركي:
وبعد أن انتصر في مواقع كريت وعاد لمصر وهو لواء على 7، 11، 3 جي بيادة رقي إلى رتبة الفريق لألايات الغاردية، وذلك في غرة رجب سنة 1284، وهاك نص الخطاب الوارد له من المغفور له إسماعيل باشا خديوي مصر بتوجيه هذا المنصب السامي إليه منقولا عن التركية:
إلى فريق البيادة غاردية سعادتلو راشد حسني باشا حضرتلري، إن تفوقكم في الأمور العسكرية المعروف قديما ومعلوماتكم الفنية، يضاف إليهما ما أبرزتموه هذه المرة في أثناء مأموريتكم في جزيرة كريد من حسن المساعي والغيرة وكمال الصدق والاستقامة، كان عندي والحق جديرا بالإعجاب والإكبار والافتخار وقد استوجب تلطيفكم ومكافأتكم؛ فلذلك وجهت لعهدتكم رتبة الفريق الرفيعة وقد انتخبتكم وعينتكم فريقا للبياة غارديا، وأصدرنا أمرنا هذا وأرسلناه إليكم لتحيطوا به ولتداوموا على مأموريتكم.
غرة رجب سنة 84 (إسماعيل)
ختم
وهذا نصه التركي: نمرة 14 ظهورات
وفي سنة 1291 انتقل إلى 2 جي فرقة غارديا، وفي سنة 1293ه عين ياورا للمغفور إسماعيل باشا فشمله بتعطفاته السنية وغمره بمكافأته العظيمة، ومنحه بأن يكون فريق آلايات الغاردية.
سفره إلى محاربة الصرب والجبل الأسود
ولما قامت الحرب بين الدولة العلية والصرب سنة 1293 سافر هذا البطل بأمر من الخديوي إسماعيل باشا أصدره إليه، وقبل أن نأتي على نصه نذكر هنا خطاب الشكر، الذي ورد إليه من سموه يثني عليه، وعلى من كان بصحبته من الضباط لمناسبة الموقعتين اللتين وقعتا في أطراف سبنچه، وهاك نصه العربي نقلا عن التركية:
إلى سعادتلو راشد حسني باشا حضرتلري
إن ما أظهرتموه أنتم واللواء إسماعيل كامل باشا والميرالايان زكريا بك ويوسف شهدي بك، وجميع الضباط والجنود المصريين من الشجاعة والبسالة في المحاربتين، اللتين وقعتا في أطراف سبنچه، وقد عرضهما دولة درويش باشا على مقام الصدارة الجليل، وعرضت علينا بواسطة طلعت باشا صارت معلومنا، ونالت وافر ارتياحنا وسرورنا، فأشكركم جميعا وذلك ما كنا نأمله منكم.
بناء عليه أودع إلى همتكم إبلاغ إسماعيل بك كامل والأميرالايين البكوات وضباطنا وجنودنا كافة سلامنا الخاص وامتناننا.
8 أغسطس سنة 76 و18 رجب سنة 1292 (إسماعيل)
ختم
وهذا نصه بالتركية:
وهاك أيضا نص الأمر الصادر له من الخديوي إسماعيل باشا عند قيامه لمحاربة الصرب سنة 1293:
إلى فريق الغاردية سعادة الباشا لما كنتم قد عينتم لقيادة الفرقة العسكرية، التي سيقت للحرب الناشبة في الروم إيلي فإني أصدر إليكم الأوامر الآتية:
تسافر هذه الفرقة أولا إلى الأستانة وتسير طبقا للأوامر والتنبيهات السامية التي يصدرها الباب العالي، وتسافر فورا إلى المكان الذي يتفضلون بتعيينه إليكم من دون أن يبدو منكم تقصير في إيفاء الوظائف العسكرية .
ولما كان حسن إدارة هذه الفرقة على الوجه الأعلى وضبطها وربطها محولين إلى عهدتكم، فأنتم مرخصون بتعيين درجة مكافأة الذين يبرزون بسالة ويظهرون لياقة والاستئذان بذلك، كما أنكم مأذونون بتشكيل المجلس الحربي لتطبيق المجازاة القانونية بحق الذين يأتون أعمالا تخالف الشرف والناموس العسكري أي: أنكم مأذونون بإجراء المجازاة جميعها في الإعدام رميا بالرصاص.
إن اعتمادنا وثقتنا بكم وبمن بمعيتكم من الضباط والجنود كافة على أتم ما يرام، وإني أسأل جناب الحق أن يحسن بنصركم وتوفيقكم وبيسر عودتكم مسرورين ومبتهجين.
22 جمادى الأخرى سنة 93 (إسماعيل)
ختم
وهذا نص الأمر بالتركية:
سفره إلى محاربة الروسيا
ولما وقعت الحرب مع الدولة العلية والروسيا، وكان صاحب الترجمة معروفا بانتصاراته الباهرة في الحروب التي وقعت مع أعداء الدولة سافر إلى محاربة الروسيا مع الجيوش المصرية، التي كانت تحت قيادة الأمير حسن باشا ابن المرحوم الخديوي إسماعيل باشا، ولقد أبدى في هذه الحرب أيضا من شجاعته المعروفة وشهامته المشهورة «ما لهجت الألسن بذكره، وصار مضرب مثل المصريين ببسالته وشجاعته» التي أبداها في تلك الحروب.
وقد ورد إليه تلغراف من سر ياور جلالة أمير المؤمنين المغفور له السلطان عبد الحميد بتاريخ 20 كانون أول سنة 92، يفيد إبلاغه شكر الحضرة الشاهانية وثناءها عليه، وهذا نصه العربي نقلا عن التركي:
إلى حضرة راشد باشا قائد العساكر المصرية الشاهانية، التي تنزل اليوم إلى دارنة عرضت على العتبة الشاهانية ما أظهرتموه أنتم وعساكركم من الشكر والامتنان حينما أبلغتكم أمس السلام الشاهاني، وقد كان في النية دعوة ذاتكم العلية إلى الحضور الملوكاتي بالذات؛ لتكونوا مظهرا للالتفات السامي ولكن وفرة العمل وسفركم بسرعة إلى محل مأموريتكم في هذه الأيام حال دون ذلك، فأعرض لكم وأبشركم أن الإدارة السنية الملوكاتية صدرت بإبلاغ ذاتكم العلية أن هذا الأمر سيتم في عودتكم إن شاء الله.
سر ياور الحضرة السلطانية
20 كانون أول سنة 92 ميرلوا
21 منه وصول تاريخي
محمد
وحدث أثناء محاربته للروس أن عقدت هدنة بينهما فأرسل صاحب الترجمة من يقضي له حاجة من الروس، وكان قومندان الجيوش الروسية من كبار المعجبين بشهامته وبسالته، فانتهز فرصة عقد الهدنة فأظهر ما يكنه جنانه من عوامل الإعجاب نحوه، فأرسل له من دوبر سيجة الخطاب الآتي وهاك نصه باللغة العربية:
لسعادة حسني راشد باشا قومندان العساكر المصرية في بازاجق في 2 فبراير سنة 78.
سيدي القائد
سررت جدا لما تلقيت من سعادتكم كتابكم اللطيف، وأمرت بأن يسمح لرسوليكم بأن يبتاعوا ما تحتاجون إليه، واسمحوا لي أن أقدم لكم بعض عينات المحاصيل. إن الروسيين يحبون أكل المسكرات والحلويات كما يحب أكلها الشرقيون.
إن الجيوش الممتازة التي تقودونها قد قامت بالواجب عليها في بازاجق، ومن واجبي أن أعترف بذلك وأتمنى أن يكون هذا القتال هو آخر ما يدور بيننا، وأن تكون بين المصريين والروس في المستقبل علاقات تنطوي على المودة، وإن أسرى الحرب الذين أعيدوا إلينا بأمر سمو الرئيس حسن يمتدحون كثيرا أعمال المصريين وإنسانيتهم، وتقبلوا يا سيدي القائد اعتباري الفائق.
ا. دي كرما
وقد عاد لمصر في عام 1295 مكللا بأكليل الظفر والنصر، فاستقبل بما يليق بمقامه الجليل من كرامة وإجلال يليقان بشجاعته الفائقة وبسالته النادرة، وقد قدم عقب وصوله تقريرا لنظارة الجهادية مفصلا تلك الموقعة الحربية التي دارت رحاها بين الجيوش المصرية وجيوش الروس ورفع هذا التقرير لسمو الخديوي إسماعيل باشا، فما كاد يطلع عليه حتى أرسل إليه الخطاب التالي مترجما عن التركية:
سعادتلو راشد حسني باشا - حضرتلري
قرأت بالحرف التقرير الشامل الذي قدمتموه في هذه المرة إلى نظارة الجهادية عن الهجوم على استحكامات يادور، وإن ما أظهرتموه من الشجاعة والبسالة في الهجوم على العدو في هذه المرة والصولة عليه، والمفادة في سبيل الملة والدولة وثناء حضرة صاحب الدولة درويش باشا في التلغراف، الذي أرسله إلى مقام الصدارة العظمى على الجنود المصريين من قبل سرنا نحن جميع المصريين كبارا وصغارا ابتداء مني أنا، وجعلنا نفاخر وقد كان هذا أملنا منكم في كل وقت، وإننا نفاخر جميعنا باشتراكنا مع مواطنينا الجنود المتفانين في هذه المحاربة بقتال العدو المعتدي على وطننا ووقاية ناموس الوطن وإنني أسأل جناب خير الناصرين أن يوفق حضرة صاحب الجلالة والقدرة والمهابة أفندينا الملك دائما، وأن يطيل عمره وأن ينصر ويوفق عساكره الشاهانية.
وقد أرسل إليكم محمود سامي بك حاملا أمرنا هذا لإعلان سرورنا منكم جميعا؛ ولإبلاغ الضباط والجنود كافة سلامنا الخاص.
18 شعبان سنة 93 / 6 ديسمبر سنة 76 (إسماعيل)
ختم
وهاك هو النص التركي:
تعيينه سر ياور خديوي
وعندما ولي المغفور له الخديوي توفيق باشا عين صاحب الترجمة سر ياورا له فكان موضع الإكبار والاحترام لشهامته وبسالته، وظل في هذا المنصب السامي إلى أن اتقدت نيران الثورة العرابية، فكان صاحب الترجمة من قوادها الذين أبلوا بلاء حسنا في الدفاع عن الوطن والملة، ولا يتسرب إلى الأذهان أن موافقته للعرابيين من قبيل التحيز أو الثائرين ضد سمو الخديوي أو الضباط، كلا إنما دخلها مدافعا عن الوطن كارها احتلال الأجنبي له شأن كل وطني صميم محب لبلاده، وقد حضر في واقعة التل الكبير في شهر أغسطس سنة 1882، وقد ذكره المرحوم مصطفى كامل في كتابه «المسألة الشرقية» صفحة نمرة 252 حيث قال:
وكان معهم «أي: العساكر المصرية» الشهم الصادق راشد حسني باشا، وليعتبر بهذا الشهم سائر المصريين فإنه مع كونه جركسي الأصل انضم إلى جيش عرابي عندما علم بأن الإنجليز احتلوا الإسكندرية، وأنهم عازمون على دخول البلاد المصرية، وقام للدفاع عن الوطن ناسيا كراهة الجراكسة للعرابيين، وكراهة العرابيين للجراكسة.
وفي إشارة هذا الفقيد العظيم الكفاية لمعرفة ما كان عليه هذا البطل من الحب المتناهي للوطن، وكرهه الشديد لاحتلال الأجنبي وكبير إجلاله وتعظيمه لسمو الجالس على عرش مصر.
نياشين الفخر وأوسمة الشرف
وقد حاز الفقيد العظيم أسمى نياشين الفخر وأعلا أوسمة الشرف، حيث نال نشان قوماندور أروليدبولد بمناسبة حضور ملك النمسا حال فتح قناة السويس في 26 نوفمبر سنة 1869، وميدالية روسيا في حرب سنة 1294، وميدالية حرب كريد سنة 1285، والنشان المجيدي الرابع في 15 ذي الحجة سنة 1279، والمجيدي الثالث في 9 جمادى الآخرة سنة 1283، والمجيدي الثاني في 15 رمضان سنة 1286، والعثماني الرابع في 9 جمادى الآخرة سنة 1283، والعثماني الثالث في 27 ربيع الآخر سنة 1284، والعثماني الثاني في 17 محرم سنة 1295.
صفاته وأخلاقه
كان رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه حميد السيرة نقي السريرة على جانب عظيم من الصلاح والتقوى، مؤديا حقوق الله تعالى كما يجب على كل مؤمن، كريم الطباع دمث الأخلاق رغم شخصيته الحربية، برا بالفقراء مواسيا للبؤساء، شديد البطش وقت حومة الميدان. تغمده الرحمن بواسع رحمته، وأكثر من أمثاله الأبطال الشجعان بين رجال مصر لرفع لواء مجدها وإسعادها.
وقد كان الفقيد معروفا «بأبي شنب فضة»، وذلك لمناسبة اصفرار شاربيه ومقاربة لونه مع تلويح الشمس إلى لون الفضة. وما زال هذا النعت معروفا لدى سكان القاهرة إلى يومنا هذا.
ترجمة حضرة صاحب العزة أحمد إحسان بك
كلمة المؤرخ
يكفيه فخرا ورفعة أن يكون نجلا لذاك البطل العظيم والقائد الحكيم المرحوم الفريق راشد حسني باشا، ويكفي القارئ الكريم للإدلال على سمو أخلاقه أن يكون والده ومربيه، والغارس في نفسه بذور الجد والإقدام والشهامة ولا غرابة ولا عجب أن يكون هذا الشبل من ذاك الأسد، فقد شب هذا الشهم على منوال المرحوم والده في الأدب والكمال والاستقامة، ولم تغره تلك الأموال الموروثة له عن والديه الكريمين، فتنزل به إلى طرق باب الفساد، بل بالعكس زادته تمسكا بأهداب الأدب الصحيح والاستقامة التامة.
مولده ومنشأة
ولد حضرة صاحب الترجمة عام 1888 وتربى في أحضان والديه الفاضلين، فاغترف منهما كئوس الأدب والفضل والجد والميل للعمل والبعد عن اللعب واللهو، فشب متطبعا بهذه الصفات العالية والخصال النادرة، ودخل المدارس وقلبه يطفح سرورا وغبطة فرضع لبان علومها، وكان فيها مثال الذكاء والجد ومضرب المثل بين أقرانه محبوبا لدى جميع عارفي وداعته وأدبه وكرم أخلاقه.
ولما أن تولى حضرة صاحب الجلالة مولانا المليك المعظم فؤاد الأول ملك مصر 1917م، قربه إليه وعينه تشريفاتيا لجلالته لما عرف فيه من الإخلاص للسدة الملكية الكريمة، وأنعم عليه عقب تعيينه بالبكوية من الدرجة الثانية، وأنعم عليه أيضا بنشان النيل الرابع في 3 محرم سنة 1337، ونشان إسماعيل الرابع في 5 ربيع الأول سنة 1342ه، كما أنعم عليه بنشان شيرخورشيد من الدرجة الرابعة من دولة العجم.
حضرة صاحب العزة المفضال أحمد إحسان بك التشريفاتي الأول لجلالة الملك فؤاد والنجل الوحيد للمغفور له الفريق راشد حسني باشا.
صفاته وأخلاقه
ويمتاز صاحب العزة أحمد إحسان بك بين أولاد الأعيان بعدم الظهور، والبعد عن سفاسف الأمور متتبعا في ذلك الخطة المثلى والحياة السعيدة التي سلكها ساكن الجنان المرحوم والده أيام حياته، وهو مشهور باللطف والدعة وبشاشة الوجه وبمساعدة البؤساء وسد حاجة الفقراء.
ومرجع الفضل في سمو أدبه وفضله ونبله إلى ذاك المربي العظيم والقائد الكبير المرحوم والده الجليل.
أدامه المولى وأبقاه وأكثر من أمثاله النجباء.
ترجمة حضرة صاحب العزة المفضال أحمد بك حسنين
الرحالة المشهور والأمين الثاني لجلالة الملك المعظم فؤاد الأول
مقدمة المؤرخ
حضرة صاحب العزة المفضال أحمد محمد حسنين بك الأمين الثاني لجلالة الملك فؤاد الأول.
لا مشاحة ولا جدال في أن حضرة صاحب هذه الترجمة هو الشخص الوحيد الذي امتاز بين المصريين برحلاته العديدة، واكتشافاته العلمية المفيدة في مجاهل السودان وواحات الكفرة وغيرها، وقاسي من المشاق والأهوال، وتحمل أشق الصعوبات ولاقى من ضروب المتاعب ما يشيب لهوله الولدان، وليس الغرض من هذه الرحلات ترويح النفس ونية التنزه كلا إنما الغرض أسمى من هذا، وهو الوصول إلى إظهار دفائن تلك المجاهل النائية واستطلاع ما خفي معرفته عن كثيرين من الناس: عادات وأخلاق ووصف شعوب لم تعرف بعد، وكذا معرفة طرق مواصلاتها، وغير ذلك مما يهم معرفته جماعة المشتغلين بعلم الجغرافيا وغيرهم من المستشرقين.
وأيضا لفائدة بلاده العزيزة وتحقيق رغبة جلالة مولانا مليك البلاد المعظم، الذي عرف في حضرة صاحب الترجمة المقدرة الشخصية والكفاءة العلمية، فحقق غايته السامية حيث عاد للوطن العزيز حاملا معلومات هامة وفوائد علمية جمة، تفضل حضرته فألقاها تباعا ضمن محاضراته النفيسة في الحفلات العديدة، التي أقيمت خصيصى لهذا الغرض بين مواطنيه الكرام، ولا سيما تلك المحاضرة النفيسة التي ألقاها ببهو الجمعية الجغرافية «من السلوم إلى الفاشر بالسودان واكتشاف الواحات» وذلك في مساء يوم الجمعة الموافق 17 أبريل سنة 1925 حيث ألقاها باللغة العربية ، وكان قد سبق له أن ألقاها أيضا باللغة الإنجليزية في بهو الجمعية المذكورة ليفهمها علماء أعضاء المؤتمر الجغرافي، الذين وفدوا من مختلف مدن أوربا لعقد مؤتمر علمي جغرافي بالقاهرة، حيث عرض عليهم عدة مناظر بديعة بمختلف الألوان كان قد أعدها أخيرا في أمريكا إبان قيامه بمهام وظيفته في مفوضية الدولة المصرية بواشنطن ولندن.
فلتهنأ الكنانة بهذا الشهم الذي أوتي من علم وفضل وكفاءة رفع بها مصر والمصريين فوق ذروة المجد والفخار، وإنا نسطر لحضرته تاريخه الناصع البياض بقلم الفخر والإعجاب سائلين الحق تعالى أن يكثر من أمثاله، فيقتفوا أثره ويحذوا حذره ليعيدوا مجد آبائنا وأجدادنا، وأن يمتع الكنانة بحياة موجد نهضتها المباركة، ومجدد سؤددها جلالة مولانا المليك المعظم فؤاد الأول أدام الله ملكه وحفظ سمو ولي عهده.
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة بمصر القاهرة في 31 أكتوبر سنة 1889 من عائلة شريفة المحتد عريقة في المجد، فوالده هو المرحوم محمد أحمد حسنين المشهور بالصلاح والتقوى ومن كبار علماء الأزهر الشريف، وجده لأبيه هو المرحوم الفريق البحيري أحمد باشا مظهر حسنين، فأدخله المدارس الابتدائية والثانوية والعالية فحاز الشهادة الابتدائية عام 1903م والبكالوريا عام 1907، ثم التحق بمدرسة الحقوق، وبعد تمضية ثلاث سنوات فيها سافر إلى إنجلترا، والتحق بكلية بليول بجامعة أكسفورد وأتم دراسته بها عام 1914، وكان أثناء تلقيه العلوم مثال الذكاء والنشاط والاستقامة، محبوبا من جميع أساتذته محترما بين أقرانه، وقد رفع رأس مصر في نظر الأجانب بفضل مواهبه السامية وتربيته العالية.
وظائفه الحكومية
وبعد أن عاد من أوربا تعين مفتشا بوزارة الداخلية ثم اختير سكرتيرا أول للسفارة المصرية بواشنطون في الولايات المتحدة، ثم عين سكرتيرا أول للسفارة المصرية بلندن وأخيرا اختاره جلالة الملك فؤاد الأول أمينا ثانيا لما عرف فيه من الصفات العالية والكفاءة العلمية التامة والإخلاص للسدة الملكية.
وقد قام برحلته الأولى عام 1921 إلى واحات الكفرة، وقام برحلته الثانية عام 1923 فاخترق بها صحراء ليبيا من ساحل البحر الأبيض إلى دارفور بالسودان، واكتشف واحتي أركنو والعوينات، ووضع خريطة عن صحراء ليبيا وواحاتها وهي لم تكن معلومة من قبل، وقد عين نائب رئيس للاتحاد الجغرافي الدولي العام سنة 1925.
وفوق ذلك فهو بطل مصر الأوحد في لعب السيف من سنة 1910، حيث نال جوائز شتى في عواصم أوربا عدا الميداليات ونياشين الفخر التي حازها جزاء مهارته وشجاعته، فقد حاز نيشان النيل الثالث، ونوط الجدارة، ونيشان الإمبراطورية البريطانية، وميدالية الحرب الأوربية لسنة 1914، وميدالية النصر البريطانية، وميدالية النصر للحلفاء، وميدالية المدسس الذهبية للجمعية الجغرافية الملوكية بلندن، ثم الميدالية الذهبية للجمعية الجغرافية الملوكية بلندن، ثم الميدالية الذهبية للجمعية الجغرافية بفيلادلفيا بأمريكا عام 1925.
وفي كل ذلك برهان جلي علي فضله وسمو مكانته لدى عارفي شخصه الكريم، ولحضرته مكانة خاصة لدى جلالة الملك المعظم.
صفاته وأخلاقه
جمع بين اللطف وكرم الأخلاق والأدب الجم وعزة النفس غزارة العلم والهمة العالية والمقدرة الفائقة، والشجاعة التي مكنته من اقتحام الخطوب وتحمل المشاق والأهوال، أدام الله في حياته وأكثر من أمثاله الأكفاء.
ترجمة حضرة صاحب العزة النزيه المفضال أتربي بك أبو العز
حضرة صاحب العزة النزيه المفضال أتربي بك أبو العز المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية بمصر.
كلمة للمؤرخ
قد كان بودنا لو اتسع مجال الوصف في هذا السفر أن نوفي هذا النابغ الفذ ما يستحقه من الوصف مع جمال الصفات، التي امتاز بها في كل أدوار عمله، وإننا مع تقديرنا واحترامنا الكلي لشخصه الجليل، واعترافنا بمقدرته العلمية ومواهبه العالية نرى أنفسنا مقصرين في الإسهاب، فليعذرنا حضرات القراء إذا نحن اكتفينا بتدوين الأهم عن المهم من تاريخ حياته المجيد، سائلين الحق تعالى أن يكثر من أمثاله بين شباب مصر الناهض.
مولده ونشأته
ولد في 12 ربيع الأول سنة 1309ه، وأتم دراسته المنزلية بين أحضان والدين تقيين صالحين غذياه بلبان التقوى والفضيلة، وأدخله حضرة والده الجليل المدارس الابتدائية، فارتشف علومها بنفس تواقة للعلم متطلعة إلى حسن المستقبل ونال شهادتها، كما نال من المدارس الثانوية شهادة البكالوريا بنجاح عظيم، ولما كانت نفسه العالية طموحة إلى العلا فقد أرسله حضرة والده إلى فرنسا في يوليو سنة 1901، حيث التحق بكلية مونبليه فأقبل على تلقي مختلف علومها القانونية بتلك الهمة العالية التي شب عليها، ولم يمض طويل زمن في تلك الكلية حتى فاز منها بشهادة الليسانس في العلوم القانونية.
حياته العلمية
ولما عاد إلى مصر حاملا لواء الظفر وشهادة الفخر اشتغل بالمحاماة أمام المحاكم المختلطة سنتين وبضعة أشهر بإسكندرية ومصر، فكان سحبان زمانه في الفصاحة وزلاقة اللسان وقوة البرهان والحجة في الدفاع، إلا أنه رام العمل بالنيابة العمومية؛ ليؤدي بعض ما يجب عليه نحو حكومته بفضل ما اكتسبه من خبرة وذكاء ومجهود، فعين مساعدا للنيابة بمحكمة الزقازيق الكلية الأهلية في 15 مارس سنة 1904، ونقل منها إلى نيابة المنصورة الجزئية، ثم أعيد إلى نيابة الزقازيق الكلية في سنة 1907 فكان مثال الجد والنزاهة لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يدخر مجهودا في أداء أعماله على الوجه الأكمل فترقى إلى درجة وكيل نيابة، وعين وكيلا لنيابة الزقازيق الجزئية في 14 أكتوبر سنة 1908، ثم نقل وكيلا لنيابة السنبلاوين فتضاعفت جهوده وأظهر من الكفاءة والجدارة ما استحق تقدير المراجع العليا له، فصدر الأمر العالي بتعيينه قاضيا من الدرجة الرابعة بمحكمة قنا الكلية، فكان مثال العدل والإنصاف حتى إن وزارة الحقانية اختارته قاضيا للتحضير بالمحكمة المذكورة في مارس سنة 1910 لتطبيق قانون قاضي التحضير، الذي كان قد وضع حديثا، ويحتاج لمجهود كبير وفي 24 ديسمبر سنة 1910 صدر أمر عال بنقله قاضيا بمحكمة الإسكندرية، وندب قاضيا لمحكمة دمنهور حيث مكث بها إلى يوم 5 ديسمبر سنة 1911، ومنها إلى محكمة إسكندرية ثم ندب سنة 1912 قاضيا بمحكمة منيا البصل الجزئية «محكمة اللبان الآن »، وفي 15 فبراير سنة 1913 نقل إلى محكمة المنشية ومكث بها إلى 29 مايو سنة 1914، وكان في كل منصب يتقلده من هذه المناصب مثال النزاهة والعدل، وقد صدر الأمر العالي بترقيته إلى الدرجة الثالثة ونقل إلى دائرة محكمة المنصورة، وندب قاضيا لمحكمة ميت غمر الجزئية ومكث في هذه المحكمة إلى أن صدر مرسوم ملكي بنقله مرة ثانية إلى دائرة محكمة إسكندرية في 12 نوفمبر سنة 1917، وندب للقضاء بمحكمة دمنهور الأهلية للمرة الثانية فكان خير جزاء صادف أهله وحل محله.
وفي 29 نوفمبر سنة 1919 ندب قاضيا للإحالة بمحكمة إسكندرية، وفي 21 يوليو سنة 1920 صدر مرسوم ملكي بتعيينه وكيلا للنائب العمومي من الدرجة الأولى، وتعيينه نائبا لنيابة دمنهور واختير في سبتمبر سنة 1921؛ ليكون وكيلا لقسم قضايا وزارة الأوقاف فترك خدمة الحكومة في 26 سبتمبر سنة 1921، وترك وراءه أحسن ذكرى في القضاء يخلدها له التاريخ بالفخر والإعجاب، كما قام بأعباء وظيفته الجديدة خير قيام إلى أن تعين في سبتمبر سنة 1921 مديرا لقسم الإيرادات بوزارة الأوقاف، ثم طلب أن يعود إلى القضاء فصدر المرسوم الملكي في 24 سبتمبر سنة 1923 بتعيينه رئيسا للنيابة العمومية لدى المحاكم الأهلية، ولقد وقع عليه اختيار صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول؛ ليكون في خدمته، وصدر الأمر الكريم بتعيينه أمينا ثانيا لجلالته، وهذا جزاء المخلصين من أبناء الأمة العاملين، غير أنه في ديسمبر سنة 1924 صدر مرسوم ملكي بتعيينه وكيلا لمحكمة الإسكندرية الأهلية لاقتداره وكفاءته في الشؤون القانونية وعدله ونزاهته، ونقل رئيسا لمحكمة مصر في أبريل سنة 1925، وفي أكتوبر سنة 1925 رقي مستشارا لمحكمة الاستئناف الأهلية جزاء كفاءته وغزارة علمه.
مؤلفاته
ولحضرته مؤلف في التاريخ يسمى «الدر المنتخب في تاريخ المصريين والعرب»، ونشر كتابا عن الصين بمعاونة أصدقائه، بمناسبة ثورة البوكسر، وله مقالات قيمة طلية في السياحة والتاريخ في مجلة الموسوعات وجريدة المؤيد، ولما كان في القضاء أصدر أحكاما ذات مبادئ قانونية هامة، نشر بعضها في المجموعة الرسمية للمحاكم وبعضها بمجلة الشرائع.
صفاته
تتقد عيناه ذكاء وهو ذو عزيمة ثابتة قوي الإرادة شديد في الحق سهل الطبع محب لعمل الخير، مفطور بطبيعته على حب مصر والاهتمام بالمحافظة على الواجب، دقيق في أداء كل عمل في وقته، مخلص في خدمة جلالة مليكه المعظم.
ففي مثل أعماله فليتنافس المتنافسون، ويقتفي أثره المقتفون في كل عمل جليل يعود على أنفسهم ومواطنيهم بالفخر والإعجاب.
ترجمة حضرة صاحب السعادة الشهم الجليل رشوان باشا محفوظ
الناس تكتب في سجل رجالها
ما قد أتوه وما عليه أقاموا
والدهر يصدر بعد ذلك حكمه
بالحق لا نقض ولا إبرام
ولقد بدى من نور عدلك حكمه
حكم أغر عنت له الحكام
كتب الزمان صحيفة عنوانها
رشوان باشا عادل وهمام
فلنعم «محفوظ» بخير عناية
ولنعم ما صدرت به الأحكام
لك في القلوب مكانة ومهابة
وعلى حماك تحية وسلام
الأمم برجالها والرجال بأعمالها وأخلاقها، والأمم تغنى بالرجال قبل أن تغنى بالأموال؛ لذلك يسرنا أن نسطر ترجمة نابغ من نوابغ الأمة المصرية، وعظيم من أبنائها البررة خدمها أجل الخدم، الإخلاص شيمته والحكمة حليفته والمصلحة العامة وجهته. هذا هو حضرة صاحب السعادة رشوان باشا محفوظ صاحب هذه الترجمة.
رسم وتاريخ حضرة صاحب السعادة الشهم الجليل رشوان باشا محفوظ وكيل وزارة الزراعة.
ولد سعادته ببلدة الحواتكة مركز منفلوط من أعمال مديرية أسيوط سنة 1299 هجرية من أبوين كريمين عريقين في المجد، فوالده المرحوم محفوظ بك الكبير يتصل نسبه بالدوحة المحمدية الطاهرة، وقد عني بتربية أنجاله عناية تتناسب مع مجد العائلة ومكانتها الرفيعة فأدخل صاحب هذه الترجمة مدرسة أسيوط الابتدائية الأميرية، وبعد أن حصل منها على الشهادة الابتدائية ألحقه بالمدرسة التوفيقية الثانوية بمصر، وسرعان ما قطع هذه المرحلة الثانية وهو فتى يافع فأدخله مدرسة الحقوق الملكية، فأتم دراستها وحصل منها على الليسانس سنة 1903 وهنا حصلت المشادة الحقيقية بين النفس والعقل، وإن شئت فقل: بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة فإن صاحب هذه الترجمة وقد بلغ مبلغ الرجال رأى نفسه مطالبا أمام نفسه وأمام أمته بأن يعمل لهما ولا بد من أن يسلك أحد سبيلين:
الأول:
أن يتفرغ لأعماله الخاصة ويشرف على أراضيه وضياعه فينميها، كما يعمل أبناء هذه الطبقة الثرية، وله من عمله وتربيته ما يضمن نجاحه في هذا الميدان.
الثاني:
أن ينخرط في سلك الوظائف فيخدم بلاده بالطريق المباشر.
وازن بين الأمرين ولكنه أمام المصلحة العامة وأمام الفريضة الوطنية لم يتردد في أن يسلك الطريق الثاني، وهكذا دخل خدمة الحكومة معاونا للضبط بمديرية الجيزة فتوسم فيه رؤساؤه الكفاءة والإخلاص في العمل، ولم يلبث إلا قليلا حتى رقي مأمورا للضبط بمديرية الدقهلية، وكان سعادته من أكبر عوامل توطيد الأمن في تلك المديرية العظيمة، وقد كوفئ بترقيته مأمورا لمركز ميت غمر وهو ذلك المركز الهام فكان عند ظن ولاة الأمور به، إذ نهض به نهضة كبيرة وأنشأ بعاصمته مجلسا مختلطا ومنتزهات عامة، حتى أصبحت مدينة ميت غمر أرقى في العمران والمدنية من عواصم بعض المديريات، ولما كانت سنة الرقي تقضي مكافأة العامل المجد المخلص؛ لذلك كان من الطبعي أن يرقى صاحب هذه الترجمة إلى وظيفة وكيل مديرية، وكان لمديرية الفيوم الحظ الأول غير أن الفيوميين ما كادوا ينتهون من الاحتفاء بوكيلهم حتى فاجأهم خبر نقله إلى مديرية الغربية، فودعوه بمثل ما قابلوه من الحفاوة والتكريم.
وقد كان نصيب مديريتي الغربية والبحيرة أكبر عندما اشتغل بكلتيهما وكيلا للمديرية، ولم يلبث فيهما طويلا حتى صدر النطق الكريم بترقيته مديرا لأسوان سنة 1916 فكان ذلك بشير خير وبركة لأهل تلك المديرية، فإنه عني بشؤونها وسهر على مصلحتها حتى إن ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين الأول أهداه ساعته الخاصة عند زيارته لهذا الإقليم سنة 1916 رمزا لرضاء عظمته التام، وتقديرا لكفاءته الممتازة ثم نقل مديرا لبني سويف، فتابع السير على خطته القومية وأسرع إلى شد أزر التعليم بتلك المديرية التي لم تكن نالت حظها منه فأنشأ بها عددا كبيرا من المدارس الأولية توطئة لنشر التعليم الأولي بأرجائها، وإعداد مدرستي ببا والواسطى الابتدائيتين بعد أن كانتا حولتا إلى مدرستين أوليتين، ثم عمد إلى إصلاح عاصمة المديرية فأنشأ بها الشوارع العظيمة وناديا للرياضة البدنية، وهكذا أوجد للموظفين وغيرهم من ذوي الحيثية مكانا رحبا حيث يتعارفون ويتريضون، وهي أجل خدمة لهذه الطبقة التي تتوق إلى استثمار أوقات فراغها، وقد قوبلت هذه المآثر بمزيد الثناء وخالص الولاء.
ثم رقي سعادته مديرا لقنا وسرعان ما تحقق كثير من أمانيها على يديه، فقد كانت الشؤون الصحية تتطلب عناية خاصة، فجمع التبرعات من الأعيان والمحسنين لإنشاء مستشفى مناسب للرمد في عاصمة المديرية، التي كانت الوحيدة المحرومة من هذا المشروع النافع، وفعلا وضع الحجر الأساسي بيد حضرة صاحب الجلالة الملك مولانا فؤاد الأول أثناء سياحته بالصعيد في شهر يناير سنة 1921، وأنشأ أيضا مستشفى للأمراض العفنة في قنا وآخر في الأقصر، فخففت كثيرا من الويلات والكروب، ثم وجه عنايته المشهورة للتعليم فأنشأ مدرستين ابتدائيتين إحداهما في دشنه، والأخرى في قوص عدا المدارس الأولية الكثيرة في البلاد الأخرى، وسهر على الأمن العام ونجح في استتبابه أيما نجاح، يدل على ذلك نقص الجنايات في عهده نقصا محسا، وإليه يرجع الفضل الأكبر في الصلح التاريخي الذي عمل بين قبيلتي الأشراف والحميدات، وقد كان الجفاء بينهما متأصلا والأمن العام مهددا، ولكن حكمته الكبيرة ذللت الصعب العسر وحقنت الدماء واستبدلت الجفاء بالصفاء والشقاق بالوفاء. وقد أتت الصحف وقت ذاك على تاريخ هذا النزاع العظيم ومساعي سعادة المدير المشكورة، فنكتفي بما أشرنا إليه ثم صدر الأمر العالي بترقية سعادته مديرا للمنوفية في مايو سنة 1921 والإنعام عليه برتبة الباشوية الرفيعة، فاستلم زمام هذه المديرية العظيمة في وقت عصيب، ولكن بالحكمة وطول الأناة لم يعد الأمور إلى مجراها الطبيعي فقط، بل ونهض بالمديرية نهضة كبيرة في كل مرافقها، وكان للتعليم نصيب وافر من عنايته ووقته، فأصبح لمجلس المديرية 61 مدرسة أولية و6 مدارس ابتدائية للبنين بعد أن كان له مدرسة أولية إدارية فقط، ومدرستان ابتدائيتان، هذا إلى معاهد التعليم الليلية للعمال والأقسام التجارية الليلية التي أنشئت في عهده، وعاد نفعها على كثير من الرجال والشبان الذين حرموا من نعمة التعليم في صغرهم.
ولقد شعرت جمعية المساعي المشكورة بحاجتها إلى إدارته النزيهة، فقررت إسناد رياستها إلى سعادته والتمست منه القبول، فلبى الطلب خدمة للتعليم والمصلحة العامة وكانت باكورة أعماله استثمار ضريبة ال5٪ التي أصدر ولي النعم أمره الكريم لمجلس مديرية المنوفية بتحصيلها، فاشترى ألف فدان من أجور أطيان الحكومة بمركز السلطة بثمن منخفض وجعلها وقفا على هذه الجمعية، ثم وضع لها القوانين والأنظمة الحديثة المحكمة، ونظم ماليتها وسجلاتها، وراقب سير مدارسها مراقبة دقيقة فارتقت وحسنت سمعتها وكثر الإقبال عليها، وجاءت نتائجها الباهرة في الامتحانات الرسمية ناطقة بفضله ومآثره.
كذلك كان لعاصمة المديرية حظ كبير من همته واهتمامه، فقد حقق رغبات الأهالي التي كانوا يطمحون إليها من قديم فأتم مشروع مياه الشرب، وأوشك أن يتم مشروع إنارة البلدة بالكهرباء ورصف شوارعها، وهكذا تقدمت مدينة شبين الكوم إلى الأمام بعد جهود سعادة مديرها العامل، بعد أن مكثت سنين عدة متأخرة في مدنيتها عن كثير من عواصم المديريات كذلك أنشأ مستشفى متنقلا لعلاج المصابين «بالبلهارسيا والأنكلستوما»، يؤمه أكثر من مائة وخمسين مصابا يوميا للعلاج مجانا، فخفف ذلك من حدة هذه الأمراض الفتاكة التي كان انتشارها مفزعا في المديرية، وهذه منة أخرى لسعادة المدير الجليل طوق بها جيد آلاف من الفقراء.
أما عناية سعادته بالأمن العام فعظيمة، وإن في نقص الحوادث الجنائية نقصا بينا، واستتباب الأمن في عهده لدليل على سهر هذا الحاكم على مصلحة المديرية وحسن إدارته لها.
وحدث عندما وليت وزارة دولة سعد باشا زغلول الحكم، وكان سعادة صاحب الترجمة من خصومها السياسيين الذين يخالفونها في المبدأ أن انعقد مجلس الوزراء، وقرر إحالته على المعاش فما كان منه إلا أن أخذ ينشر على الشعب سلسلة مقالات بواسطة بعض الجرائد اليومية كجريدة السياسة والأخبار وغيرهما شارحا مظلمته وما أصابه من حيف وإجحاف، إلا أن الحكومة اعتبرتها طعنا عليها، فأقامت عليه النيابة العمومية الدعوى، ولكن سرعان ما جرى التحقيق معه فيما نسب إليه فتقرر حفظها لعدم توفر وجوه الطعن المنسوبة إليه.
وعقب استقالة الوزارة السعدية بقليل صدر مرسوم ملكي بتعيينه مديرا لمديرية الغربية؛ لتنتفع هذه المديرية الكبرى بمواهبه العالية وكفاءته النادرة.
تعيينه وكيلا لوزارة الزراعة
ولم تكتف الحكومة في عهد الوزارة الزيورية بترقيته إلى هذا الحد، بل رفعت مكانته وكافأته على عظيم شهامته بأن ولته وكالة وزارة الزراعة وهنا تجلت مواهبه السامية وكفاءته الشخصية، بما أظهره من الخبرة والحنكة والتجارب العديدة بما حقق آمال الحكومة والأمة.
هذا مجمل تاريخ سعادة النابغة رشوان باشا محفوظ، وهذه صحائفه وأعماله ننشرها بإيجاز على أبناء وطننا؛ لأنها مثل أعلى في علو الهمة والوطنية الحقة، وما نجاحه حينما حل إلا نتيجة جهاد صادق وعزيمة ماضية، وأخلاق كريمة قويمة.
أدام الله به النفع العميم وأكثر من أمثاله العاملين المخلصين آمين.
ترجمة حضرة صاحب السعادة المفضال صالح باشا عنان
كلمة للمؤرخ
تتباهى مصر ويحق لها أن تتباهى بصفوة شبانها الذين حصلوا على قسط وافر من العلوم والمعارف، ونزحوا إلى بلاد الغرب ابتغاء الاستزادة من مناهلها العذبة وتغذية مداركهم بما يعود على وطنهم وأنفسهم بالنفع الجزيل والخير العميم، ومن الذين نبغوا من شبابها وفازوا في مضمار العلوم والآداب، ونجحوا نجاحا باهرا حضرة صاحب هذه الترجمة صالح باشا عنان، الذي توصل بحسن جده وبفضل كفاءته ومعلوماته إلى وظيفة وكيل وزارة الأشغال العمومية، وهو الذي أدهش عموم أساتذته بتوقد قريحته، وذكائه المفرط وجده ونشاطه، فحق لمصر أن تغتبط جزلا وسرورا بأمثال هذا الشهم المفضال.
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة ببندر المنصورة عاصمة مديرية الدقهلية في 25 أبريل سنة 1885 من أسرة عريقة في المجد، يرجع نسبه إلى السيد خضر عنان الذي حضر إلى مصر مع أولاده الأربعة في الفتح العربي، وأسسوا لهم مجدا في مصر والجزائر وتونس ومراكش حتى عرفوا في جميع هذه الأقطار بأولاد عنان، ولهم فيها زوايا وجوامع وتكايا وقفوا لأجلها معظم أملاكهم لتوزع على الأعمال الخيرية والدينية.
حضرة صاحب السعادة المفضال صالح باشا عنان وكيل وزارة الأشغال العمومية.
فدخل صاحب الترجمة المدارس الابتدائية والثانوية، فأبدى الكثير من ضروب النشاط والذكاء والمواظبة حتى أتم علومها المقررة، وحصل على شهادتها عام 1900م، ولما رأى نفسه تواقة إلى الاستزادة من بحر العلوم سافر إلى إنكلترا؛ لإتمام رغبته فالتحق بالجامعة الملكية في لندن وقد نال منها في شهر يوليو سنة 1907 شهادة الشرف في فن الهندسة الميكانية والعمرانية بدرجة فائقة، وتفوق على أقرانه من الأجانب الإنكليز، حيث كان الوحيد الذي حاز هذه الدرجة مما دعا إلى إعجاب الممتحنين بفرط ذكاء المصري وسرعة خاطره، وبعد عودته إلى مصر دخل في خدمة وزارة الأشغال العمومية بوظيفة مهندس بتفتيش ري القسم الثاني، بماهية قدرها عشرون جنيها شهريا ابتدأ من أول نوفمبر عام 1907م إلى وظيفة مساعد مدير أعمال، ومن ثم نقل إلى وزارة المالية في أول ديسمبر 1916م، وتدرج في وظائفها واضعا نصب عينيه نفس المنهج الذي اتخذه لنفسه شعارا، وهو الصدق والنزاهة والاستقامة إلى أن رقي إلى وظيفة مدير إدارة وذلك في أول شهر أبريل سنة 1920.
ولما انتدب وكيل المراقب للمستخدمين والمعاشات دخل عضوا في اللجنة المالية، وكان أول مصري دخل في اللجنة المذكورة، فدل على مقدرة نادرة وكفاءة عظيمة واستقلال في الرأي، ولما أنشئت وظائف السكرتاريين الماليين لوزارة الحكومة عين فيها كلها موظفون بريطانيون، ولم يبق منها إلا وظيفة سكرتير مالية لوزارة الزراعة، فبحثت وزارة المالية عن موظف مصري كفء لهذه الوظيفة، فوقع اختيارها على حضرته وعين فيها، ثم انتدب سكرتيرا ماليا لوزارة الحقانية، وذلك في أكتوبر سنة 1922.
ولما تبين لمعالي إسماعيل صدقي باشا وزير المالية وقتئذ ما عليه حضرة صاحب الترجمة من الكفاءة التامة في الأعمال المالية والإدارية أيضا، وما أظهره من الحزم والنشاط والجد أمر بتعيينه سكرتيرا ماليا لوزارة الحقانية، وذلك في أكتوبر سنة 1922م وقد دعت حالة العمل في وزارة المالية إلى إعادة إنشاء منصب مساعد وكيل المالية، فأسند إليه في 18 سبتمبر سنة 1923، ولما عين صاحب السعادة عبد الحميد مصطفى باشا وكيل المالية سابقا، مستشارا ملكيا في شهر نوفمبر سنة 1923 قام سعادة صاحب الترجمة بأعماله، وكاد يصدر المرسوم الملكي بتعيينه وكيلا لوزارة المالية.
وكانت خدمته مع سعادة وكيل المالية الحالي على أتم ولاء واتفاق، وحاز ثقته التامة ولم يترك الوزارة إلا وهما صديقان، ولما خلت وظيفة وكيل وزارة الأشغال عين حضرته فيها بتاريخ أول ديسمبر سنة 1924.
أما معاملته للموظفين وغير الموظفين ومحبة الموظفين له وانتصاره للحق، وإنصاف المظلوم فحدث عنه ولا حرج وقد اشتهر بعدم تحيزه لأي حزب من الأحزاب، فأجمع الكل على حبه؛ لأن مبدأه نصرة الحق أينما وجده وله من الأفكار النيرة والمشروعات الجليلة ما عاد على وزارة المالية وغيرها من المصالح بفوائد عظيمة.
ومن مشروعاته الخصوصية التي قام بها لنفسه إنشاء فابريقة كبرى لطحن الجبس بكفر العلوة بحلوان، وهي من أحدث الفابريقات الأوربية وأفخمها.
وبالإجمال فإن حضرته أتى من ضروب الإصلاحات في كل وظيفة تولاها ما يخلد لسعادته بمداد الشكر والثناء والإعجاب.
وسعادته له ولع بالألعاب الرياضية وبالأخص الصيد، حيث يدير أكبر جمعيات الصيد في القطر حتى حاز قصب السبق فيه، وما كدنا نأتي على وضع ترجمته حتى تفضل جلالة مولانا المليك المعظم، فأنعم عليه برتبة الباشوية جراء حسن خدماته وكفاءته.
صفاته وأخلاقه
والمشهود لدى الخاص والعام عن أخلاق سعادة صاحب الترجمة دماثة الأخلاق وكرم الطباع، والنزاهة، والاستقامة، واللطف والدعة والصراحة الدالة على منتهى الشجاعة الأدبية مع الهمة والنشاط في الكفاءة العالية والاستقلال في الرأي، وعدم التردد فيما يراه عدلا وصالحا وعدم الميل إلى المظاهر الخادعة.
أدامه الله وأبقاه وأكثر من أمثاله الأذكياء.
ترجمة فقيد الطب والعلم المغفور له الدكتور محمد طلعت باشا
ماذا أبا الطب قد قررت من مرض
قد كنت من قبل تبريه وتقصيه
هل جاء مختفيا يدنو إليك وقد
تعمد الفتك قصدا في تخفيه
أم هل سرى مطمئنا غير مكترث «بطلعة» منك توديه وترديه
أو هل دعيت إلى مثوى النعيم وقد
وفيت لله حقا في توخيه •••
قل «لابن سينا» و«داود»: لقد هدم
الركن المكين الذي كنا نرجيه
وانعم بدار التقى في ظل مغفرة
والتك من فضل ما قد كنت توليه
أحمد حسني - بالحقانية
حقا لقد خسرت مصر خسارة لا تعوض، وفقد العلم رجلا من كبار رجاله العاملين في مصر بوفاة المغفور له الدكتور محمد طلعت باشا وكيل وزارة الداخلية للشؤون الصحية، وكانت وفاته رحمه الله إثر مرض لم يمهله أكثر من ثلاثة أيام، فعظم الحزن والأسى عند نعيه، وبكى المصريون نابغة من نوابغهم العاملين، وعصاميا كبيرا من علمائهم العاملين.
فقيد الطب والعلم المغفور له الدكتور محمد طلعت باشا وكيل وزارة الداخلية في مصلحة الصحة.
توفي الفقيد عن 61 سنة قضاها في خدمة وطنه وحكومة بلاده، وقد تخرج في الطب من جامعة مونبليه بفرنسا وظل متصلا بمدرسة الطب المصرية ربع قرن معلما ومؤلفا ومطببا، فتخرج على يديه مئات الأطباء، كما وقد أنقذ ألوف المرضى من الأخطار، وتعين رئيسا لأطباء وزارة المعارف سنة 1912م، وفي سنة 1923م تعين وكيلا لوزارة الداخلية في الشؤون الصحية، وكان رحمه الله مثال الجد والاجتهاد عالما بارعا بفنون الطب نابغة في الأمراض الباطنية، وحياة الفقيد الأخيرة في وزارة الداخلية تشهد بخدماته الجليلة، ويقظته لخدمة الأمة وحرصه على حياتها. فما من مرض ينتشر أو وباء يذاع عنه إلا وتظهر منشورات مصلحة الصحة بالإرشادات لعموم الأطباء، مع بيان نوع المرض وطرق الوقاية منه وكل ذلك ينشر على صفحات الجرائد السيارة؛ ليطلع الناس ويكونوا في مأمن من عدوهم المهاجم للصحة، وهي سنة حديثة لم تظهر إلا في عهد المغفور له طلعت باشا الذي يعد موته خسارة فادحة للطب في مصر.
ولقد أقامت جمعية الأطباء المصرية حفلة تأبين لهذا الفقيد العظيم في الساعة الخامسة ونصف من مساء الجمعة 3 أغسطس سنة 1923، فأم نادي مدرسة الطب الملكية عدد عظيم من الأطباء يتقدمهم سعادة الرئيس المرحوم الدكتور السيد عيسى حمدي باشا، وافتتحت الجلسة تحت رئاسته بقراءة آي الذكر الحكيم، ثم قام حضرة الدكتور نجيب إسكندر وألقى رثاء مؤثرا أسال العبرات، ومما ذكره عن الفقيد بالنيابة عن سعادة رئيس الحفلة قوله:
عرفت فقيدنا العزيز المرحوم الأستاذ طلعت باشا في باريس في صيف عام كنت أقضيه في رحلة في فرنسا مع أنجال سمو الخديوي المغفور له توفيق باشا سنة 1891، وقد أخبرني بأنه اشتغل في معمل باستور، فسألت عنه صديقي الأستاذ الشهير الدكتور رو وكيل معمل باستور وقتئذ ومديره حالا فمدح ذكاءه وجده؛ ففرحت لأن مدرستنا الطبية كانت محتاجة إلى أستاذ يدخل فيها العلوم الميكروسكوبية، وفعلا تقدم فقيدنا لامتحان المسابقة لوظيفة أستاذ ثان وفاز بنجاح باهر، وتعين لتدريس التشريح الدقيق والعلوم الميكروسكوبية الأخرى، وأنشأنا له المعامل الخاصة بها وقد كان رحمه الله في الوقت نفسه مساعدا لي بقسم الأمراض الباطنية وبعد سنوات قليلة تعين أستاذا أول للتشريح الدقيق والبكتريولوجيا، وقد كان طول هذه المدة نشطا في أشغاله مجتهدا مجدا معطيا للطلبة أقصى عناية، وبعد تركي للمدرسة نقل الفقيد إلى وزارة المعارف العمومية بوظيفة حكيمباشي، ومنها إلى وكالة الصحة العمومية منذ سبعة عشر شهرا، وقد كان من نوابغ الأطباء الذين تفتخر بهم البلاد والعلم، وإننا لنأسف أشد الأسف إذ عاجلته المنية قبل أن يتم ما بدأه من الإصلاحات الكثيرة لتحسين الحالة الصحية بقطرنا العزيز.
وهكذا أخذ حضرات زملائه الأطباء يسردون علم الفقيد وفضله، وما امتاز به من المهارة في فنه والحذق خصوصا في الأمراض الباطنية، وفوق ذلك فقد امتاز الفقيد بالاستقلال في الرأي لدرجة التشدد فيه والاستقامة الكاملة، ولا يمكن للإنسان أن يكون مستقلا في رأيه مرفوع الرأس بين كل الناس إلا إذا كان مستقيما وشريفا مرتاح الخاطر والضمير منزها عن كل نقيصة؛ لذلك عاش محترما وكان دقيقا ولذلك نجح في عمله وفي فنه إذ جمع بين المهارة الفنية والأخلاق المنزهة عن النقايص، وهذا سبب نجاحه وسبب حب الجميع له.
وألقى حضرة الدكتور أحمد بك حلمي في مرثاة مؤثرة، نقتطف منها الأبيات الآتية:
اليوم يا عين سحي الدمع هتانا
وأمطري وأملأي ما استطعت غدرانا
وإن أبى الدمع سحا فاسمحي بدم
وابكي فقيدا سما بدر السما شانا
وأنت يا قلب فاخلع حلة جعلت
للأنس فالأنس ولى بعدما بانا
قد كنت أدعوك صبرا كلما عرضت
لي النوائب في صعب وما هانا
ألا على طلعت فاجزع وذب كمدا
واشرب عن الراح أكدارا وأحزانا
فالصبر يحمد إلا إن قضى رجل
كان الأنام له في العلم غلمانا
يا راحلا والحشا من هول فرقته
يسقي من الهم أشكالا وألوانا
ومنها قوله:
قد كنت في العلم نبراسا تضيء به
دجى الشكوك إذا صادفت حيرانا
بل كنت في الطب من آيات من سعدت
له البرية إخلاصا وإيمانا
إن عظم الناس بقراطا لحكمته
وألبسوا رأس جالينوس تيجانا
فأنت أرفع من هذين منزلة
وأنت أكثر إبداعا وإتقانا
أجدت كل فنون الطب معرفة
حتى غدوت لأهل الطب عنوانا
ما جس كفك من داء وأنكره
كأن طبك من إيحاء مولانا
ولا لمست مريضا أهله يئسوا
من الشفاء وسحوا الدمع طوفانا
إلا وهب نسيم البرء فانكشفت
عنه السقام وبات الكل جذلانا
ترجمة فقيد المروءة والهمة والإقدام السري المشهور المرحوم محمد باشا الشواربي
كبير سراة مديرية القليوبية
وجه يبين عن الكمال ويسفر
وينم عن طيب الفعال ويخبر
هذا محمد بل وحاتم عصره
لو قام ينعته اللبيب الشاعر
أمست تذكرنا به أحفاده
فنبيت نحمد صنعه ونكرر
قوم إذا حل الذليل رحابهم
أضحى يصول بعزة ويفاخر •••
يا حامد مهما أطلت مديحكم
فأنا لعمر الحق فيه مقصر
عمر أخوك أخو المكارم والندى
وصلاح يغبطه السحاب الممطر
سرتم بمصر على وتيرة جدكم
فغدا الزمان بذكركم يتعطر
السري المشهور محمد باشا الشواربي.
مولده ونشأته
هو ابن محمد سالم بن منصور بن محمد بن إبراهيم، قدم جده الأكبر ورئيس هذه العائلة المباركة إلى مصر من نحو 750 سنة من الأقطار العربية عن طريق الشام في زمن الظاهر بيبرس البندقداري، وعائلته قديمة عريقة في الحسب والنسب من أصل عربي، ومن أعلى القبائل العربية نسبا وجاها، لها الشأن الرفيع والذكر الجميل في كل أدوارها.
ولد صاحب الترجمة سنة 1841م وتعلم العلوم الأولية، وشب على محبة الزراعة والتفكير في إصلاح الأراضي وتنسيقها على الطرق التي جعلت أراضي دائرته خصبة نامية، وكل أمة لا تذكر حسنات من تقدم من رجالها وفضائل أعمال أبنائها تضيع حلقات الاتصال بين ماضيها وحاضرها، حلقات الماضي التي تذكر بعظيم الشكر والثناء والإعجاب لهذا الشهم الجليل، والرجل الكبير محمد الشواربي باشا الذي يصح أن نلقبه «بالأمير العربي»؛ لأننا عرفناه شديد العصبية العربية متينها، حتى كان يهتم لأقل نبأ عن العرب وبلادهم وشؤونهم، وآخر عهدنا به في مجلس الشورى يدافع عن العرب بحماس شديد يوم وقف سعادة مرقص باشا سميكة، وطلب أن يساوى عرب مصر بفلاحيها أو بسائر الأهالي وتلغى امتيازاتهم، استمر هذا الاقتراح مدة ثلاث سنوات متوالية والشواربي باشا صامت رزين كعادته، ثم هب كالعاصفة بكل حماس ونشاط أثبت أن هذه الامتيازات نالتها العرب بدمائهم؛ لأنهم كانوا سورا متينا للديار المصرية شرقا وغربا ، أمناء لكل أمير تبوأ كرسي الخديوية، وقد قال: «الأجدر بالمجلس أن يخفف العبء عن الفلاحين فينال الفخر والأجر.»
ويكفينا أكبر برهان على سيرته السياسية حادثة عرابي باشا، إذ كان ينذر رفاقه «كما يؤخذ من سجلات المجلس» بالويل من طغيان الجيش، ولما لم يذعنوا لمشورته وحاصر الجيش النواب في منزل سلطان باشا، وأكرههم على إصدار قرارات لم يريدوها ولم يوافق عليها الخديوي، التفت إذ ذاك شواربي باشا إلى زملائه، وقال لهم: هذه نتيجة تساهلكم فقد كنتم بالأمس أقوى منهم وكانت البلاد سائرة إلى غرضها وحسن مستقبلها، والآن أنتم محاصرون وغدا يقذفون بكم وبالوطن من حالق»، ولم يمض يومان حتى طغت الثورة وقام الجيش بمظاهرته الكبرى أمام سراي عابدين، وتبع ذلك ما تبعه من الشر والبلاء وفي ذلك الحين كانت جريدة الأهرام تجاهد في سبيل الأمن العام، وتنصح الثوار بأن يخضعوا للخديوي حتى لا يعرضوا البلاد للخطر، فهب العرابيون يتهمونها بالخيانة والغدر فلما بلغ مسمع المترجم له، وهو عالم أن جريدة الأهرام على حق وأن الجرائد الممالئة للثوار قد سممت عقول الأمة فتح منزله الكائن في شارع الساحة بمصر لوكيل جريدة الأهرام، وكان يرسل معه خدمه يستلمون أعداد الأهرام من السكة الحديد، ويحملونها إلى داره وتوزع من هناك، وقد كان الفقيد أول من حافظ على حياة «أديب إسحاق»، الذي عينته الحكومة كاتبا لضبط محاضر المجلس، إذ آواه في منزله مدة شهرين، والعرابيون يظنونه في منزل سلطان باشا، وللمترجم له أقوال وحكم عظيمة ونصائح نفيسة.
الوظائف السامية التي تقلدها
أما أدوار حياته فإنه تقلد وظيفة وكيل مديرية القليوبية، ثم مديرا لمديريتي الجيزة والمنوفية ثم تعين عضوا بمجلس النواب سنة 1882، وكان أشد مراسا وأحزم رأيا مع أحمد باشا عرابي ثم تعين عضوا لمجلس الشورى، ثم وكيلا للمجلس أيضا وكان في كل هذه الوظائف مثال الجد والنزاهة والإخلاص الحقيقي لوطنه.
الرتب والنياشين التي نالها
نال الفقيد العظيم رتبة البكوية في زمن المغفور له إسماعيل باشا، وحاز المجيدي الأول والعثماني الأول ونياشين سامية من دولة إيطاليا ، وأنعم عليه بالميرميران الرفيعة في زمن ساكن الجنان توفيق باشا الخديوي الأسبق، والرومللي بيكاريبكي «بيلربيه» في زمن الخديوي عباس الثاني.
إدارته المالية
كان الفقيد العظيم رجلا حازما فإذا صح لنا أن نذكره مصريا فهو من الأغنياء المثريين، وإن قارناه بالإفرنج فإنه يضع الأمور في مواضعها الحقيقية؛ ولذلك سار سيرا حميدا معتدلا وحفظ ثروته من التبديد، ولقد كان شفوقا رحيما حتى أبت نفسه الكريمة رفع أجور الأدوار والعمارات وقال: «إنني لا أريد أن أظلم إنسانا حتى لا يظلمني أحد»، ولقد عرض عليه أحد الكتاب كتابا ليشتريه فأجابه «إن مثلك يجب على الأمة أن تساعده لتنشطه وتقوي عزيمته»، ثم أخذه منه ودفع له ثمن نسخة واحدة عشرين بنتو. فرجل مثل الشواربي باشا لجدير بالأمة أن تفتخر به وجدير بالمؤرخين أن يسطروا تاريخه الناصع البياض بين دفتي كتبهم؛ لتظل أعماله ناطقة له بالفخر والإعجاب ما دامت السماوات والأرض.
أعماله الخيرية
كان من أعمال الفقيد الخيرية إنشاء مستشفى قليوب الشهير، هذا المستشفى الذي خفف ويلات الفقراء والمساكين، إذ به من الأطباء ما يغني المريض عن الاستشفاء بمصر وإسكندرية، وهو أعظم حسنة وأجمل معروف عمله الباشا عن حب لفعل الخير لا عن إرادته الشهرة الكاذبة والجاه العريض. أقام مسجدا فخما بمحطة قليوب، أوقف وقفا خيريا للحرم النبوي، رتب مالا مخصوصا لينفق على النجف النبوي. أوقف أوقافا خيرية لتكية أنشأها بقليوب، رتب مرتبات خصوصية للأضرحة والعائلات الفقيرة، ولقد حج البيت الحرام مرتين وزار المصطفى
صلى الله عليه وسلم
ثلاث مرات، وبالإجمال فهو رجل تربى على البر والتقوى والصلاح وحب الفقراء ومواساة البؤساء وتخفيف ويلات المنكوبين.
أخلاقه وصفاته
كان رحمه الله وأسكنه فسيح جناته لين العريكة لطيف المحادثة وديع الأخلاق يحب العلماء ويجلهم، مشهور بالحزم وبعد النظر، وأصالة الرأي وطهارة الذمة والجد في كل أعماله.
قضى حياته الطاهرة حتى كانت الساعة العاشرة من ليلة 13 يونيو سنة 1913 أصابته سكتة بالمخ فاضت بعدها روحه الطاهرة لملاقاة ربها الكريم، ولقد كان خبر وفاته مؤثرا جدا في نفوس الأمة رحمه الله وأحسن إليه وسقى ثراه بالرحمة والغفران.
ترجمة حضرة صاحب السعادة السري الجليل حامد باشا الشواربي
كبير أعيان بندر قليوب وعضو مجلس النواب المنحل عن دائرتها
مقدمة للمؤرخ
إن الأمة التي تنجب أمثال سعادة حامد باشا الشواربي صاحب هذه الترجمة لجدير بأن تكون في مصاف أرقى الأمم وأسعد الشعوب حظا، وإن مصر التي أنجبته لفخورة بهذا الابن البار الذي رفع هامتها بغزير علمه، وعظيم نزاهته، وعلو همته، وشهامته وسمو تربيته وجمال أخلاقه، ورفيع حسبه ونسبه، وإن التاريخ نفسه لمعجب بهذه الصفات الفريدة والمزايا الجليلة التي تحلى بها هذا الشهم، والتي قل وجودها بين كثيرين من فطاحل الغرب.
حضرة صاحب السعادة السري الجليل حامد الشواربي باشا كبير وجهاء مديرية القليوبية.
وإلى القارئ الكريم نسرد تاريخا بل صفحات بيضاء؛ ليكون في ذكرها خير مثال يحتذى لأبناء الأجيال المقبلة عسى يحذون حذوه، ويهتدون بهديه فيشرفون وطنهم ويعلون قدر أنفسهم والله الهادي إلى سواء السبيل.
مولده ونشأته
سطعت أنوار مولده الزاهر في 3 مارس سنة 1889 في قصر والده العامر بقليوب (مديرية القليوبية)، فانشرحت لمولده القلوب وابتسمت الوجوه وأقيمت الأفراح، وأخذ والده في تربيته في مهاد العز والمجد حتى بلغ سن التعليم فأدخله والده الجليل مدرسة قليوب الابتدائية، فكان مضرب المثل في الذكاء المفرط وحسن الاستقامة والإقبال على العلم، ومكث بها إلى أن فاز بشهادتها الابتدائية عام 1898 ومن ثم أدخل مدرسة الآباء اليسوعيين بالقسم الثانوي، فساعده هذا الذكاء الفطري على إتقان اللغة الفرنسية والعلوم العربية والفلسفية والتاريخية ونال شهادتها عام 1906، فطمحت نفسه العالية إلى المزيد وتطلب كئوس العلوم العالية فالتحق بمدرسة الحقوق الملكية، فنال منها قسطا وافرا ونصيبا كبيرا من التشريع والقانون، وباقي العلوم العالية ونال شهادة «ليسانس» عام 1910 بتفوق عظيم.
وظائفه الحكومية
رأى حضرة المترجم له أن يقوم بالواجب المفروض عليه لخدمة بلاده المصرية المحبوبة، التي أنجبته ويسعد مواطنيه بإظهار فضائله وغزير علمه، وعرف ولاة الأمور فيه طهارة الذمة وعلو الهمة، فعين سكرتيرا بلجنة المراقبة القضائية عام 1911م، فكان في هذا المنصب محط الإعجاب والإكبار من جميع رؤسائه الذين رأوا فيه الكفاءة والمقدرة؛ ثم انتخب ليكون سكرتيرا لصاحب السعادة طيب الذكر المغفور له علي باشا أبو الفتوح وكيل وزارة المعارف العمومية سابقا، فنال عطفه وميله الشديد إليه، ثم اختير سكرتيرا لحضرة صاحب السعادة شكري باشا وكيل وزارة الحقانية في ذاك العهد؛ لما عهد فيه من الصدق والإخلاص والجد أو كما قال فيه الشاعر.
كملت شمائله فكان نموذجا
للناشئين على الفضيلة والأدب
ولما كان صاحب الترجمة محبوبا كثيرا من المرحوم محمد باشا الشواربي كبير الأسرة الشواربية، وقد توسم فيه الرأي الصائب والفكر الثاقب فقد أوصى له بنظارة أوقافه الشاسعة يتولى إدارة شؤونها بنفسه، وذلك بعد أن تأكد لديه مقدرته وكفاءته وسعة مداركه وقوة عزيمته، فقام فيما عهد إليه أحسن قيام وسلك في ذلك السبيل القويم مما يرضي الله تعالى والناس أجمعين، ولم يغفل لحظة واحدة عن تنفيذ ما قد أوصى به المرحوم الواقف في وقفيته مما بعث السرور إليه في مرقده.
ولما كان المغفور له الباشا المتوفى رحمه الله قد أوصى بمرتبات تصرف لفقراء العائلة، فقد قام حضرة الوصي بإعطاء كل ذي حق حقه مما حبب إليه عموم أولئك الفقراء خاصة والعائلة عامة.
وقد تولى الوصاية على تربية وتهذيب حضرة عبد الحميد بك الشواربي نجل المرحوم الباشا المولود في يونيه سنة 1906، حيث وجه إليه عناية خاصة لتثقيف مداركه بلباب العلوم والمعارف ليهيئ له مستقبلا باهرا ومركزا لائقا يليقان بشرف أسرته العظيمة الجاه.
وظائفه القضائية
وقد تعين حضرة المترجم له قاضيا بالمحاكم الأهلية، فكان في كل أدواره فيها مضرب المثل في طهارة الذمة والتأني في النطق بالأحكام بعد التثبت من وقائع الدعاوى، وكان عادلا فيها كما وقد شغل قبل ذلك مركزا في النيابة العمومية، حيث كان وكيلا لنيابة محكمة الزقازيق فكان والحق يقال مثال الموظف المجد النشط والعالم المقدام.
انتخابه عضوا بمجلس النواب المصري
وقد انتخب حضرة صاحب الترجمة عضوا بمجلس النواب المصري عن دائرة مركز قليوب بأغلبية ساحقة، ذلك بعد أن تأكدت هذه الدائرة من مقدرته العلمية وكفاءته الشخصية، وإنه جدير بهذه الثقة وقد كان بودنا أن يدوم هذا المجلس منعقدا زمنا طويلا؛ لنرى وقفات هذا النائب الجليل ونسمع آراءه الصائبة واقتراحاته المفيدة، التي لا شك ستكون من ورائها فائدة عظمى لتلك الدائرة التي انتخب لها.
وقد لا تقف مجهودات هذا العامل المجد عند هذا الحد فحسب، بل إنه قدم نفسه ليسافر على نفقته الخاصة متجشما صعاب السفر؛ ليحضر مؤتمر بروكسل النيابي الاقتصادي، وليس بغريب على حضرة النائب إذا قام بهذا العمل وقدم هذه التضحية، فله في كل عمل يد بيضاء تذكر له بالتجلة والاحترام.
وقد حباه جلالة مولانا المليك المعظم حيث شمله بعطفه، فأنعم عليه في شهر سبتمبر سنة 1925 برتبة الباشوية فجاء هذا الإنعام مؤيدا لما لحضرة المنعم عليه من المنزلة العالية والمكانة السامية، وقد كان له رنة فرح وسرور لدى كل عارفي هذا الشهم المفضال.
صفاته وأخلاقه
أما أخلاق سعادة صاحب الترجمة وصفاته فحدث عنهما ولا حرج، إذ اشتهر بالوداعة ودماثة الأخلاق ولين العريكة والميل لعمل البر ومساعدة الفقراء يتألم لمصائب الناس معزيا للبؤساء، يبذل الكثير من ماله الخاص إلى كل ما فيه رقي البلاد.
فجدير بمصر أن تفاخر بأمثاله، وتجاهر بفضله وعلمه أكثر الله من أمثاله بين أبناء الكنانة العاملين على رفع لواء مجدها.
ترجمة حضرة صاحب السعادة السري الجليل قليني فهمي باشا
إن المسئولية التي تلقى على عاتق المؤرخ عظيمة الشأن، كبيرة الأهمية، إذ يدعوه واجبه التاريخي إلى البحث والتنقيب دائما وراء الحقائق حتى يبرزها في ثوبها القشيب مرآة لهذا الجيل وقدوة ونبراسا لهداية الأجيال المقبلة، وإن ما يقاسيه المؤرخون في سبيل تخليد هذه المآثر يجعلهم يصادفون عناء جما كسهر الليل وكد القريحة، ولولا ذلك لضاعت القدوة بعظماء الرجال وأرباب جلائل الأعمال، ولا التذ سمع بخبر عن سلف من الأبطال؛ ولذلك كانت مسئولية المؤرخ خطيرة الشأن أمام أفراد الأمة وأمام ضميره وبلاده، وعليه، أصبح من المقرر علينا إجابة هذه المسئولية العظيمة بالبحث الدقيق والاستقصاء العظيم لمعرفة الحقائق، فنسطر بقلم الإعجاب والفخر ترجمة حضرة صاحب السعادة الجليل قليني فهمي باشا الوطني الصميم، والفذ العظيم شبل أسرة وجيه قومه المرحوم طيب الذكر خالد الأسرة يوسف بك عبد الشهيد أشهر مشاهير الأقباط، وأحد أركان حكومة مصر في عهد الخديوي إسماعيل باشا الأسبق لأجل أن يقف القارئ الكريم على مجد تلك الأسرة العريقة في الجاه، وقد رأينا من الواجب أن نأتي أولا بلمحة من جليل تاريخها في عهد رجلها الأول ورئيسها الأساسي، ألا وهو المرحوم يوسف بك عبد الشهيد.
رسم وتاريخ حضرة صاحب السعادة السري الجليل المفضال قليني فهمي باشا من عظماء الأمة المصرية.
تاريخ المغفور له يوسف بك عبد الشهيد
المرحوم يوسف بك عبد الشهيد هو النجل الوحيد للمرحوم والده عبد الشهيد شهير وقته، وقد اعتنى بتربيته وغذاه بلبان الفضيلة والأدب حتى أخذ نجم يوسف بك يسطع بين كبار المفكرين في الأمة المصرية بصفته العالية، وهمته الشماء فنال المكانة الرفيعة بين كبار الحكام ورجال العلم والفضل الذين كانوا يحبونه لمقدرته وكفاءته، وحدة ذهنه وذكائه وكان صديقا حميما للمرحومين الشاعرين الجليلين الشيخ علي الليثي والسيد علي أبو النصر شاعر الحضرة الخديوية إذ ذاك، والمرحومين العالمين الكبيرين الشيخ عيسى والشيخ المهدي، فما وصل صيته إلى مسامع ساكن الجنان الخديوي إسماعيل باشا، حتى أكبر قدره وأنزله منزلة العظماء بين أمته وشمله بتعطفاته طول مدة حياته، ولا عجب إذا نال المترجم هذه المكانة السامية؛ لأنه عاش معروفا بين قومه بعمل الإحسان والبر وتعضيد كل عمل خيري أو أدبي، وكان يميل بفطرته إلى فض المشكلات والمنازعات التي كانت تقوم بين الأهالي والحاكمين، حتى كان الناس يقصدونه من كل الأقاليم القبلية ؛ ليوسط لهم في أمر أو يحسم لهم نزاعا، كما كان عمد وأعيان البلاد يعتبرونه كأب شفيق لهم لا يعملون عملا إلا بعد استشارته، والأخذ برأيه ولا يسيرون في طريق إلا بعد نصيحته لهم التي كانت تصدر من نفس رجل طيب طبع على التقوى والورع، وقلب إنسان جبل على محبة الإنسانية، وتأدية فروض الذات الإلهية بما يرضيه تعالى ويرضي عباده أجمعين، وقد شاد جملة كنائس للأقباط في جهات مختلفة منها كنيسة طحا العمودية، وأخرى بنزلة الفلاحين وغيرها بدمشير، وساعد بماله على تشييد كنيسة المنيا الكبرى ويذكر تلك المآثر الجمة والأيادي البيضاء.
حضرة صاحب المعالي الوزير الجليل محمد فتح الله بركات باشا وزير الداخلية سابقا والعضو بمجلس الشيوخ.
العين وقف للبكا من شافعي
يا مالكي أنا عبد بيعك والشري
أبصرت من ضوء الجبين وشعره
واللحظ ملء الكون بدرا مقمرا
يحلو لدى قلبي الغرام كما حلا
مدحي (لقليني) الهمام مكررا
يا قدوة البيت الذي جاز السهى
شرفا فأصبح في الورى سامي الذرى
قد عرفتك إلى العلاء معارف
أما سواك فلا يزال منكرا
هيهات أن مدحوك حتى خلتهم
ملأوا الصحائف أسطرا أو أسطرا
بك ألبست هذي البرية عزة
فغدت كروض بالسعادة أثمرا
يا آسر الأحرار أنت أسرتني
فغدوت مملوكا وكنت محررا
حسبي من الأيام أنك موئلي
وملاذي الأقوى إذا خطب عرا
وكفى من الدنيا بقاؤك راقيا
في ذروة العليا المقام الأكبرا
يا واهب المعروف مبتدئا به
عذرا إذا مدحي أتاك مؤخرا
يا أيها المولى الذي بمديحه
وثنائه هذا اللسان تعطرا
ما زالت الآمال نحوك قصدا
تبرى مطاياه الأزمة والبرى
حتى إذا لاقت رحابك واسعا
قالت: حمدنا ها هنا غب السرى
لك في الحشار ناران نار في حشا ال
أعدا وأخرى في المواطن والقرى
فلإن مدحتك في الحياة وبعدها
عرف الثناء يفوح من طي الثرى
ولأغبطنك في الفصاحة كلما
نمقت طرسا أو علوت المنبرا
هذا ثناء أخي الولاء وإنه
ما زال في عرف الثناء مقصرا
لا زلت في وفد العلاء مقدما
وسواك في وفد العلاء مؤخرا
تسعى فتشكر والمساعي جمة
وتنال حظا في المعالي أوفرا
قليني باشا رجل ديموقراطي المبدأ يقيم في مصر سبعة أشهر وفي أوربا خمسة، ومشتاه في حلوان، وهو على جانب من الثروة، ومن أكبر الأسر في الأقباط.
وله ولع بالأسفار وشدة شغف بالسياحة، ساح في فرنسا، وإنجلترا، وإيطاليا والنمسا، والمجر، وألمانيا، وسويسرا، وروسيا، وزار تركيا، واليونان، وبلغاريا ورومانيا، وهو من المصريين الأفذاذ الذين قاموا بالسياحات في الجزائر وتونس.
ولو قدر لك ورأيت صاحب الترجمة لرأيته رجلا حاضر الذهن، قوي الفكر رقيق الشعور، يخيل إليك أنك تقرأ في أسارير وجهه مكنون سريرته، وإنك لتجد منه استئناسا وبشرا ورقة خلابة، فإذا ما سايرته وبادلته الرأي وقارضته الحديث أيقنت ساعتئذ أنك في حضرة عظيم يضطرك إلى احترام رأيه، والتسليم به وأن تذهب معه المذهب الذي يريد وقد يبهرك بالحجة، ويبغتك بالبرهان فلا ترى وجها لمنازعة القول ولا تفارقه إلا وأنت مطمئن الرأي موفور الإقناع قوي الفكر، ذلك لأن للقوة عدوى سريعة الظهور فكل ما يجعلنا أقوياء في الرأي والروح والوجدان يزيد في قوتنا، ويفتح أمامنا أبواب العمل ويبسط قبالتنا ميدان الفعل ونحن بني الناس مدينين لكل قلب كبير، وعقل عبقري، ولسان عذب، وروح متقدة، ونحن لا نستمد شيئا من المجتمعات وإنما من تلك الأرواح الرقيقة، والقلوب الشريفة التي تخرجها لنا القوة الإلهية بين عديد ما يتخرج في كل يوم من تلك القوالب الإنسانية المعتادة، التي لا يفترق بعضها عن بعض إلا في أحجامها وأشكالها واختلاف تركيبها.
وإنك ليتبادر إليك في لغة حديثه إذ أنت جلست إليه معان جمة ما شئت من أدب وعلم وفضل واستمكان، وإن من الناس من يحاجك كأنك خصمه، فلا يزال يعطيك من صخبه وشدة جدله حتى تقوم من حضرته وأنت لحديثه كاره، ولكن الأناة والتؤدة والقول العذب اللين من شأن الرجل العظيم، وهذا ما نشعر به في حديث صاحب الترجمة وإنك لتصغي إلى قوله وهو يتدفق متدبرا متئدا، فيخيل إليك أنه يتناول من ذاكرة حافلة مترعة وليس بمرسل القول للعفو والساعة، وهذه خلة كانت ولا تزال نصيب راجحي العقول موفوري الحجى.
وقليني باشا بالإجمال عبارة عن حركة عمل لا تهمد، وشعلة من نار لا تخمد، فإنه بينما كان يدير جملة مصالح في آن واحد، نذكر منها مصلحة الدخوليات بمصر وإسكندرية وعموم مدن القطر المصري، كان يدير أيضا مصالح الملح والنطرون، ومصالح مصايد الأسماك بالنيل وفروعه وبالبحر الأبيض المتوسط، ومصلحة الملاحة من وابورات ودهبيات ومراكب وفلايك ومعادي، ونحو ذلك من كباري وأهوسة، ومصلحة الضربخانة ودمغة المصاغات، وقسم المستخدمين كان أيضا مديرا للإدارة العمومية ورئيسا لمجلس التأديب، وفي الوقت عينه كان عضوا بلجنة تعيين المستخدمين بالحكومة وبلجان عديدة أخرى، وفضلا عن سعيه المتواصل في إبطال جملة ضرائب كانت ثقيلة على النفس، فإن الإيرادات للمصالح التابعة إليه زادت 50٪ خمسين في المئة من ضبطه للأعمال ودوام يقظته، وعند استقالته من خدمة الحكومة لم يتبع سنة أرباب المعاشات من الانكماش عن العمل، كلا بل ظهر في ميدان العمل بحرية أكثر من قبل ونشاط فوق نشاطه المعتاد، حتى كان يتصور للإنسان أن وجوده في خدمة الحكومة كان مقيدا لحريته، وقد بث مبادئه ونشر معلوماته فاشتغل في نشر أفكاره على صفحات الجرائد بما يعود بالخدمة النافعة لمصلحة البلاد خصوصا بالمسائل الاقتصادية، فعرض جملة اقتراحات نافعة منها إنشاء بنك وطني رأس ماله يكون من ضريبة القطن حتى يكون أمره منه وإليه؛ ليحمي البلاد من الأزمات المالية التي وقعت فيها بسبب قفل البنوك الأجنبية في وجه العامة عند الاقتضاء والحاجة، ومنها اقتراح على الحكومة بسد ديون الأهالي وقيامها مقام البنوك العقارية حرصا على ثروة البلاد العقارية من ضياعها ووقوعها بين أيدي الأجانب، وكثير من المشروعات النافعة السديدة، ومن مبادئه التي اشتغل بها على الدوام حب الصلح والسلام، ودوام المسالمة بين العناصر، وخصوصا القبطي والمسلم حتى عده الخطباء والعقلاء برسول السلام عندما كان يسعى لإزالة الخلاف الذي تسبب بسبب المؤتمرين القبطي والمسلم، فهو القبطي الوحيد الذي لم يستحسن إقامة المؤتمر القبطي، حيث كان يرى أن ذاك يكون سببا لعداوة إخواننا المسلمين وقاموا عليه الأقباط وقتها، ولكنهم في النهاية قدروا رأيه السديد، وهو كثير الاهتمام بالشؤون العمومية غير مبال بما يطعن في حقه ما دام يحقق نفع عمله للمجموع، وله مواقف عديدة بالجمعية التشريعية تشهد له بعلو الهمة واستقلال الرأي مع سرعة الخاطر، وهو رجل حاد المزاج شريف العواطف مخلص وفي يميل لإنشاء دور العلوم والمعارف، يحب المطالعة ويحترم الرأي العام ويعظم قدر الجرائد النافعة المجردة عن الغاية والمصلحة الذاتية، وله ولع بتربية أولاد الفقراء والمساكين، ويزور مدارس الأيتام من حين لآخر، ويمدهم بالمساعدة، لطيف المعاشرة بشوش الوجه يسحرك بلطفه إذا تكلم، وتقوم من مجلسه وأنت مسرور الخاطر شاكرا ما لقيته من لطفه المتناهي وحديثه العذب، وولعه بنشر راية العلم، قد أوقف عشرين ألف متر لإقامة دائرة معارف عليها للبنين والبنات، وقدرت بعشرين ألف جنيه.
أما الآن وقد حررنا هذه المقدمة بإجمالية ما عرفناه عن صفات المترجم، فنأتي الآن على تاريخ حياته بالتفصيل فنقول:
مولده ونشأته
سطع كوكب ميلاده الوضاء في غضون سنة 1860م بنزلة والده يوسف بك عبد الشهيد، وهي قرية من قرى الصعيد في مديرية منية ابن خصيب (المنيا) تعرف قديما بنزية الفلاحين، وكان المرحوم والده شديد العناية بتربيته، ولما توسم فيه مخائل الفطنة ودلائل النجابة أدخله مدرسة الأقباط الكلية في مصر القاهرة، وكان يومئذ يناهز الثانية عشرة من العمر، فجاء في جملة فريق من إخوانه، ولبث مكبا على الدرس باذلا جهد استطاعته فيه.
أقام صاحب الترجمة في المدرسة وهو كلما انتهج سبيلا من سبل العلم استنفد وسعه في إتمام تحصيله، حتى أصبح مثلا سائرا على السنة الطالبين والمعلمين، فقرأ العربية على الشيخ محمد القنائي النحوي الشهير وأخذ الفرنساوية عن مصطفى بك رضوان أشهر العارفين بها في ذاك الزمان، وحفظ ألفية ابن مالك وشرح ابن عقيل، وكان مولعا بالكتابة والمناظرة ينتقد كل فاسد من الأخلاق والعادات، ونال من نظارة المعارف العمومية مدة دراسته جوائز جمة مكافأة له على اجتهاده وفوزه ونجاحه، واشتهر صاحب الترجمة بالجرأة على مخالطة كبار القوم إلى حد هو بالمناظرة أشبه.
أشغاله الحكومية
عين المترجم في 18 أبريل سنة 1875 سكرتيرا بديوان جفالك الدائرة السنية، وكان موضع ثقة جميع الناس لما عرف به من النشاط والصدق في أدائه عمله، وكانت أعمال الدائرة السنية في تلك الأيام سائرة بطريق السخرة، وما أدراك ما السخرة فالزارعون والحاصدون وحافرو الترع، يؤتى بهم من أقاصي بلاد الصعيد زرافات وأفواجا، وكلهم عاملون من غير أجر فكنت ترى القائمين بهذه الأعمال الشاقة شيوخا وولدانا كهولا وشبانا نسوة ورجالا أرامل وأيتاما، ومنهم المرضى وذوو العاهات، ومنهم الحبالى من النساء، وأخريات يحملن في يد رضيعهن وهن مثقلات بالأحمال في اليد الأخرى وعلى الرءوس. كان لهذه السخرة من نفس صاحب الترجمة موقع استياء واشمئزاز يدب في إحساسه، ويستفز من عواطفه كلما شاهد من آثارها أثرا، ولكنه لم يستطع أن يشير بما يشتم منه رائحة اللوم أو عدم الرضا، وكيف وكل من عرض بشيء من هذا في تلك الأزمان انصبت عليه مصائب الطرد والحرمان، ولم يزل قليني باشا ساخطا على تلك السخرة الممقوتة ناقما عليها إلى أن تشكلت في مصر وزارة للمرة الأولى برئاسة المأسوف عليه نوبار باشا، وابتدأت يد الانتظام تتناول كل مختل من الأحكام، فدار في خلد المترجم أن يجعل هذه البداءة نهاية لتلك المظالم الفادحة، لذلك حادث في أمر هذه السخرة صاحب الفضل المأثور رجل المروءة وكل عمل مشكور، سلطان باشا رئيسه في ذاك العهد، مبينا مضارها بمصلحة البلاد والعباد، طالبا إليه بذل وسعه في أن يؤدي أعمال الدائرة عمال يتقاضون أجورهم على شروط عادلة كافلة بالمرام. وقال في ذلك كلمة حق: إن كل عمل لم يؤده خبير به يرى إليه نفعه ومنه كسبه ساءت فيه آماله، وانثنت عنه أمياله فكانت رغبات المرحوم سلطان باشا موافقة تمام الموافقة على هذه المبادئ، فتابعه فيها واتفق معه عليها؛ لأنه رحمه الله كان من خيرة القوم وأشرف أهل عصره نفسا وإحساسا، فكتب في هذا الصدد كتابا وأنفذ به صاحب الترجمة إلى رئيس الوزارة، فقابله نوبار باشا بالترحاب والإيناس، وكان أن استدعى المرحوم سلطان باشا إلى مصر، وأخذت هذه السخرة دورا كبيرا في دائرة الحكومة، وانتهى الأمر بإلغائها، وقام بتنفيذ ذلك سلطان باشا، وكان صاحب الترجمة عضده الأقوى فيه.
وفي سنة 1882م تعين قليني باشا وكيلا لديوان عموم الجفالك، وقد انتابت البلاد في تلك الأثناء الحادثة العرابية المشهورة، وألصق بالمرحوم شاكر باشا مدير المنيا وقتها تهم باطلة أخذ من أجلها مغللا بالقيود، ولاقى من جرائها ضروب الذل والهوان، فلما رأى ذلك المرحوم نعماني باشا مفتش عموم الجفالك إذ ذاك، خاف أن يصيبه ما أصاب هذا المدير فتمارض واستصدر الإذن في إجازة له، وغادر ديوان الجفالك يديره صاحب الترجمة ويتولى جميع أمره تحت مسئوليته.
وقف قليني باشا إزاء هذا الموقف الحرج بثبات قلما يثبت في مثله غيره، وما لبث أن جاءته ثلاثة أوامر من مدير المنيا الذي وليها بعد مديرها الأول يقول له فيها: إنه بناء على ما صدر من حامي حمى الديار أفندينا عرابي باشا يلزم تنفيذ الأوامر الآتية فيما لا يتجاوز أربعا وعشرين ساعة وهي:
أولا:
قطع قطبان السكك الحديدة الزراعية في أرض التفاتيش جميعها، وإرسالها هي والأدوات المتعلقة بها إلى مخازن الحربية، وكذا أخشاب ومهمات التلغراف الزراعي.
ثانيا:
قطع كل أشجار تفاتيش الدائرة وتهيئتها لمطابخ الجيش.
ثالثا:
إنفاذ كل المحصولات الموجودة في الجفالك والفابريقات.
فتلقى صاحب الترجمة ذلك باستغراب لا مزيد عليه، وكتب للحال إلى المدير يقول له: إنني أود تنفيذ الأوامر التي بعثتم بها إلي إذا كنت في مقام المالك لهذه التفاتيش، ولكني موظف بها أتبع في مثل هذه الحال أوامر مجلس الإدارة الأعلى، فهو رقيب علي في جميع أعمالي محاسب لي على كل كبيرة وصغيرة آتيها، وهو وإن كان لكل دولة عضو عامل فيه إلا أنه لا يعظم على قوة الجيش أن يستصدر أمره بكل شيء أراده، ثم قال: ولو فرضنا بصدور أوامر بإجابة الطلبات المنوه عنها، فليس من المعقول أن يتيسر نفاذ كل ذلك في مسافة 24 ساعة.
كان عاقبة هذا أن عد المترجم من العصاة، وجاء الأمر بإرساله إلى الطوبخانة مكبلا بالأغلال فدعاه المدير إليه لإبلاغه هذا الأمر فلم يجزع ولم يضطرب، وقال له: إنني آسف أن مديرا مثلك لا يفهم ما يكتب إليه فيؤديه جهله به إلى سوء العاقبة والإضرار بالناس، فإني ما عصيت أمرا، ولم أعارض فيه، ولكني بسطت لك الحالة، وكأني أريك به الباب الذي منه تدخل توصلا إلى نيل مطلوب العرابيين ؛ ولكي أنال تخلصا من شر التبعة فيه. وأطال معه الكلام على هذا الأسلوب المؤثر موهما إياه أنه سيلقيه عند العرابيين تحت ذنب كبير، فلم يجد المدير مناصا من التماس العفو عنه، وقد كان، وخرج قليني باشا من هذه الورطة فائزا بفضل ثباته وفرط دهائه وقوة بيانه.
وجاء صاحب الترجمة مصر بعد خمود نيران هذه الثورة يوم كان المرحوم سلطان باشا نائبا عن الحضرة الفخيمة مكلفا بإدارة شؤون البلاد، وقائما بعمل تحقيق عمومي فكان بيته أشبه شيئا بيوم الحشر تؤمه الألوف من الناس ما بين متظلم ومبلغ ومنفذ ورسول، والأوامر تتوالى بسجن كل من وجهت إليه تهمة الاشتراك في الثورة، وإرجاء التحقيق إلى ما بعد، وبينما كان المترجم على مائدة المرسوم سلطان باشا في محضر من أعاظم القوم، إذ ورد تلغراف يوهم فيه مرسله أن نيفا وأربعين من عمد مديرية الفيوم ليسوا بمخلصين للذات الخديوية ومن أكبر العصاة للأوامر الحكومية، فأشار سلطان باشا بالاتيان بهم محتفظا عليهم، فقال له صاحب الترجمة: أيأذن لي الباشا أن أقترح عليه شيئا يذهب بكثير من متاعبه هذه؟ قال: نعم. قال: الأولى أن تصدر أمرا بحبس جميع أهل القطر كله، فكلهم ما بين مشترك في الثورة ومجامل للعرابيين ومعتزل عنهم لا يأمن شر الواشين الآن. فأطرق الباشا قليلا وقال له: إن في قولك لحكمة وعظة. وقد استدعى كلام المترجم شفقته على من زج في السجن إلا من ثبت عليهم أمر، وانتهج سبيل رحمة غير هذا السبيل.
وفي أول أبريل سنة 1886م عين قليني باشا عضوا في الدائرة السنية، وكانت هذه بمثابة مجلس ابتدائي لمجلسها الأعلى.
ومما يذكر له بالمدح والإطراء من أعماله فيها أن جل القواعد الأساسية، التي وضعت للدائرة السنية إنما هي من موضوعاته ومقترحاته، وله من الطرق الإصلاحية والاقتصادية في أحوالها الزراعية أعمال كثيرة، نال بسببها ثقة قلما حازها غيره من وصفائه، فكانت كتب الشكر تترى عليه من جانب المجلس الأعلى حينا بعد حين.
وفي مارس سنة 1887 أنعم الجناب العالي المغفور له توفيق باشا الخديوي الأسبق عليه برتبة المتمايز الرفيعة الشأن.
وفي أول شهر يناير سنة 1888 عين مفتشا عاما للدائرة السنية، فلم يكن من مشكل في أعمالها إلا كانت له اليد البيضاء في حله.
أخبرني أحد العارفين بسيرته قال: ورد إلى الدائرة ذات يوم كتاب من مفتش لها في بلاد الصعيد، وكان موثوق بقوله لديها قال فيه: إنه لا ثقة له بجميع مستخدمي ذلك التفتيش، وطلب نقلهم كلهم إلى تفاتيش الدائرة الأخرى مبينا لذلك أسبابا يتوهم المطلع عليها صدقها، وأن في الأمر غاية غير محمودة العقبى، وقال في آخر كتابه هذا: إنه إذا لم تجبه الدائرة إلى ما يطلب فلا مسئولية عليه فيما يكون، فارتجت لذلك الكتاب أرجاء الدائرة، وأوشك المجلس الأعلى أن يقرر فيه بالإجابة، لولا أن قام من بين أعضائه طالب يسأل التروي قبل هذا القرار، وارتأى أن يعهد إلى صاحب الترجمة في التحقيق أولا، فإذا ظهر أن القول حق لم يكن لاحتمال الظلم مظنة في النفوس، فذهب قليني باشا واستبان شيئا ما كان ليخطر بالبال، ذلك أن المفتش المذكور من أحقر أسر تلك الجهة، وكأنه لما خفقت على رأسه راية هذه الوظيفة عز عليه أن يكون بين جماعة من المستخدمين عارفين بحقيقة نسبه، فلا يرونه بالنظر الذي يود أن يروه به من التجلة وعلو المقام، فكتب ما كتب من غير أن يكون لذلك من سبب، ورفع صاحب الترجمة تقريره بما انتهى إليه في التحقيق على هذه الحال طالبا عقاب المفتش على افترائه، وأن تسلخ عنه كل ثقة للدائرة فيه، قال: وإلا فإذا دامت الدائرة على وثوقها به فلا تجعل هذه الفئة الضعيفة من المستخدمين ضحية عاجلة له، بل تعمل في نقلهم على سنة التدريج حتى لا يكون من ذلك اضطراب في الخواطر والأفكار، فأجيب إلى طلبه الأول ونال مزيد الثناء والشكر لاهتدائه إلى الحق، وله مواقف عديدة من هذا القبيل منها ما يأتي:
كان المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق وهب المرحوم خيري باشا خمسمائة فدان من أراضي تفتيش طناح، وكأن المساح الذي سلمها إليه كان يتوقع منه رشوة، فلم يجبه إليها لذلك أنقص من الأرض المذكورة عشرين فدانا موهما إياه أنه حاصل على حقه تماما، فلما علم المرحوم خيري باشا ذلك كتب إلى الدائرة مرارا يشكو معاملة المساح ويسأل إنصافه منه، فعينت لهذا الغرض قومسيونا إثر ثان عقب ثالث بعد رابع إلى أن بلغ عددها اثني عشر، والكل يرجع قانعا بقول المساح، فعهد إلى صاحب الترجمة أخيرا في حل هذه المشكلة، فلما توجه إلى تلك الناحية علم مما حققه أن المساح قد غدر بصاحب الأرض فيما شكا منه، فاستدعاه إليه وسأله في ذلك فأنكر، فأصدر أمرا أن يمسح أطيان الدائرة السنية في طناح على حدة، ثم أراضي المرحوم خيري باشا أيضا، وأن يكون هذا بمحضر جماعة المساحين انتخبهم المترجم، قال له: فإن كان في أراضي الدائرة زيادة يقابلها نقص مثلها في أرض المشتكي فهي من حقه، وإلا فلا. ارتعدت فرائص الرجل ووقع على قدميه معترفا بالحقيقة سائلا العفو مدعيا أنه فعل ما فعل على ظن أنه خدمة منه للدائرة يقابل أوفى الجزاء عليها، فأهانه الباشا أشد الإهانة وطلب طرده من خدمة المصلحة، وأمر بتسليم القدر الناقص إلى مستحقه مكلفا الدائرة بتأديتها إجارة في المدة التي لبثت فيها مالكة له من غير حق.
وفي سنة 1888 أنعم عليه بالنشان المجيدي من الدرجة الثالثة، وفي يوليو سنة 1890 وقع اختيار صاحب الدولة رياض باشا رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية والداخلية وقتها عليه، فعينه مديرا للإدارة العمومية ومراقبا للأموال الغير مقررة في وزارة المالية، فجاءه مزودا من الدائرة السنية بجواب كله مديح له وثناء طيب عليه؛ لما أظهره في خدمته فيها من عالي الهمة والنشاط والجد بأفضل ما عرف عن كبار الموظفين، فسار إليها سيرا حميدا دل على فضله وقدرته على رتق الفتوق، وإصلاح كل فاسد من الأعمال، وكان محط آمال المصلحين فيما أصلحوا، وفي أكتوبر سنة 1891م منح من لدن الحضرة الفخيمة الخديوية النيشان العثماني من الدرجة الثالثة، وفي ديسمبر سنة 1892 حاز النيشان المجيدي الثاني.
وقد أحيلت عليه أعمال الدخوليات بالمملكة المصرية علاوة على ما تقدم، وفي يناير سنة 1893 عين مراقبا عموميا للأموال غير المقررة والدخوليات، فلما تولى هذه الإدارة جعل يعمل فيها بما حقق الثقة به، وأطلق الألسنة بشكره والثناء عليه، وناهيك برجل شهد الناس بجدارته وذكائه، فأصبح في مصاف المصلحين في هذا العصر، ولو أني عددت من مآثره في هذه الإدارة كل ما وصل علمي إليه لأسهبت في البيان بما لم أرتسمه لنفسي في كتابة هذه الترجمة، ولكنك إذا ما رأيت هذين الساحلين العظيمين في مصر: ساحل روض الفرج، وساحل أثر النبي بأحسن نظام خصت به أوسع البلاد تمدنا وحضارة؛ علمت سعي الرجل في إعلاء شأن مصلحته ومستخدميها، حيث مهد لهم درجات يرقون إليها على القاعدة المتبعة في الحكومة، وجعل منهم رجالا للضابطة القضائية وآخرين في وظائف عالية، وعرفت ما يعامل به المتمولون من اللطف والدعة في قضاء مصالحهم، وما يصادفونه من دواعي التسهيل والمساعدة.
واستطلعت عواطف الرجل نحو بني الإنسان بسعيه على الدوام في إلغاء عوائد الأصناف الكثيرة التداول بين الفقراء وإبطالها أصلا، من نحو اثنتي عشرة عائدة في أرياف مصر مما كان يبلغ دخله 100000 جنيه، ومعافاة جميع المراكب وإضرابها من رسوم الهويسات، التي كانت تقدر بمبلغ 80000 جنيه، وتجاوزه عن عوائد الغيطان والجنائن في داخل مدينة مصر.
ورأيت مع هذا التجاوز وذلك التسهيل كله أن إيرادات مصلحته قد زادت عما كانت عليه قبل أن تلقى إليه مقاليدها بمبلغ 334320 جنيها، ولاحظت رفقه بالحيوان إلى حد أنه لم يستطع أن يسمع أو يرى تلك القسوة التي كانت تعامل البهائم بها من كيها بالنار فأبطلها قائلا: إنه ليس لهذه الحيوانات من ذنب جنته علينا فنؤاخذها بعذاب أليم مثل هذا، وأن لا سبيل لنا إلا إذا كان ثم ذريعة أخرى أدعى إلى الغاية المقصودة منه.
واستتب نظام إدارته في جميع الأعمال الإدارية وضبط نقط الملاحظة بتمهيده سبيل المواصلات بها؛ لإحاطته علما بكل حادث في حينه، وإصلاحه نظام مصلحة المطرية بما دعا إلى ربح الحكومة منها أضعاف ما كانت تربحه قبل، مع أنه سهل الضرائب فيها وألغى منها جانبا عظيما، ورفق بالأهالي كل الرفق فوهبهم بعد الاستئذان أرضا يبنون فيها دورهم، وأنشأ لهم أسواقا ومخازن ومد في طرقهم السكك الحديدية.
إذا استغربت كل هذا على ذلك الإجمال ترى الرجل آية في الناس خليقا بما هو فيه من الرفق وعلو المقام، جديرا بأن يتولى عظائم الأمور ويرقى كل منصب عال، وقد قام من بين طائفة الأقباط حزب وجه سهام العدوان إلى غبطة بطريكهم الجليل، وكان منشأ هذا سعي بعضهم في سلبه اختصاصه منكرا عليه تلك السلطة الواسعة، دون أن يكون له شريك فيها من أبناء الطائفة، وقد استمال ذلك الحزب جانب الحكومة، واستصدر أمرها بنفي البطريك إلى دير البرموس، وكان صاحب الترجمة يومئذ في إجازته بأوربا، فما اتصل إليه نبأ هذه الحادثة حتى أسرع في الأوبة إلى مصر، واتفق أنه على أثر حضوره تقلد صاحب الدولة رياض باشا رئاسة الوزراء، فسعى لديه كثيرا ولدى الجناب الخديوي المعظم، فظهر فساد زعم الذين استصدروا ذلك الأمر بنفي غبطة البطريرك، مما أوجب استدعاءه، فقوبل بالإجلال والإكرام من طائفته، ووثق المترجم صلات المسالمة بينه وبين الحزب المضاد له.
معلوماته الزراعية
ويعد قليني فهمي باشا في أول طبقات العارفين بأصول الفلاحة في هذا القطر، المتدربين على أعمالها الراسخي الأقدام في فنونها لمزاولته إياها زمنا طويلا حين خدمته في الدائرة السنية، واشتغاله بها في تلك الأطيان الشاسعة لآبائه وآله العديدين في مديرية المنيا.
ومما يدل على ذلك أن وزارة المعارف العمومية لما أن أعيتها كل حيلة في سبيل إصلاح الوادي التابع لها، كتبت في سنة 1894م إلى وزارة المالية ترجو تكليف صاحب الترجمة أن يذهب إليه ويتعهد مواضع خلله، ويبين الطرق التي يتوسم له الخير فيها فاستدعاه جناب المستشار المالي، وأفهمه أن المالية تهتم لهذه المسألة اهتمام المعارف لها وأزيد، وطلب إليه إجراء كل بحث يتعلق بها وموافاته بآرائه السديدة فيها، فبعد أن أقام قليني باشا هناك أياما كلها بحث واستطلاع جاء الوزارة المشار إليها بتقرير أوضح فيه العلل التي أوجبت انحطاط هذا التفتيش الواسع، وبين العلاج اللازم لإزالتها فعملت الحكومة طبق آرائه، مما أعاد التفتيش إلى مرتبة عالية جاءت بكل الخيرات على وزارة المعارف.
وفي يناير سنة 1901 أنعم الجناب الخديوي عباس باشا الثاني عليه برتبة الميرميران الرفيعة، فازدحمت على بابه ألوف المهنئين ووردت عليه رسائل التهنئة من جميع الطبقات، وقدم له لفيف من الشعراء شيئا كثيرا من القصائد والمقطوعات، مما لو جمع على حدة لكان ديوانا كبيرا، أخص من بين هذه تاريخا لرب الفضل وحامل لواء الأدب الشاعر الشهير المفلق، نابغة فضلاء الشرق صاحب السعادة المرحوم علي رفاعة باشا وكيل وزارة المعارف سابقا، قال أعزه الله:
ألا يا ابن الأماجد زدت فخرا
بأشرفه على الأقران سدتا
فشرف فوقه والآن أرخ
بميرميران قليني صعدتا
سنة 1318
553 200 565
وقال حضرة الأستاذ العلامة المرحوم الشيخ سليمان العبد أحد العلماء الكبار للأزهر الشريف:
قليني باشا ميرمران الأمرا
وعزمه يعلو النجوم الزهرا
وهمة فوق السماك قد علت
وعصره بحزمه قد فخرا
تلقاه في وقت السؤال باسما
فجوده قد عم فينا الفقرا
خديو مصر قد حباه رتبة
قد زفها فيا له مفتخرا
فمصر من سعوده قد أرخت
قليني باشا ميرمران الأمرا
سنة 1318
200 304 541 273
وقال الأديب الكامل أحمد الكاشف:
يا ماجدا بلغ المحامد والعلى
فغدا له قدر بمصر خطير
أنت الأحق برتبة أولاكها
مولي بتقدير الأمور خبير
قررت أموال البلاد كما ابتغى
فعلى العدالة ذلك التقدير
وصرفت في تصريفها ما نالها
غرض ولا طمع ولا تبذير
ما صغت هذا المدح إلا بعدما
أيقنت أنك للأديب نصير
وإليك غاية كل حر تنتهي
وعليك صادق مدحه مقصور
وقال شاعر القطرين المفضال خليل بك مطران:
ذاك خير للمخصلين جزاء
وهو في أنفس المحبين أعلى
رتبة تقصر العزائم عنها
أنت أهل لمثلها ولأعلى
ومما قاله أديب من رشيد:
لم يولك العباس أرفع رتبة
إلا لأنك أنت خير عماد
هتفت بها بشرى المعية في الضحى
وبها امتداحك كان أعظم شادي
نبأ مسر سار من مصر إلى
بصري ومن بصري إلى بغداد
أسعادة الباشا الرفيع جنابه
ذو المجد قليني أخو الإرشاد
قصب السباق إلى العلى أحرزته
بعفاف نفس لا بسبق جواد
لله يوم حزت فيه من الثنا
ومن التهاني منتهى الأعداد
فلو استطعت تصرفا بجوانحي
لبعثت من فرحي إليك فؤادي
وقال حضرة الشيخ إبراهيم سعيد مصحح الوقائع المصرية في ذاك العهد:
هات المدام وغن لي واشجني
في روض أنس يا رشا واسقني
فبشير سعدي بالتهاني قد أتى
ببشائر أفراحها تحيني
لما ارتقى أوج المعالي مبجلا
رب السعادة والعلا قليني
وعزيز مصر خصه بمواهب
وبرتبة عليا بها هنني
بطالع الإسعاد قلت مؤرخا:
بشرى لنا فقد ارتقى قليني
سنة 1318ه
512 82 214 310 200
أعماله وخدماته الجليلة
ومما يدل القارئ الكريم على علو همة المترجم وشأنه الخطير خطابات التهنئة الرسمية، التي توالت عليه من الحكومة المصرية منها خطاب تهنئة ورد لسعادته نظير تقدم إيرادات المصالح التي تحت إدارته وحسن نظامها، وخطاب من جناب السير بلمر المستشار المالي الأسبق، وخطاب كله مدح وثناء من المرحوم لورد كرومر، وخطاب من المستر موني من أعضاء صندوق الدين، وخطاب من المستر براون مفتش عموم الري، وخطاب من مدير عموم الجمارك المستر كليار، وخطاب من البارون مالو ريي، وخطاب من المستر ولسن ناظر المالية المصرية الأسبق، وقد أحيل على صاحب الترجمة جملة أعمال خارجة عن وظيفته، فقام بها أحسن قيام، وإفادة من ناظر المالية لسعادته المترجم بتاريخ 29 يناير سنة 1891 نمرة 33 بتعيينه عضوا من قبل المالية باللجنة المستديمة المشكلة بنظارة المعارف لامتحان مستخدمي الحكومة، وإفادة من ناظر المالية لسعادته بتاريخ 8 نوفمبر سنة 1890 نمرة 315 بانتخاب سعادته عضوا في القومسيون، الذي تشكل بالحقانية تحت رئاسة سعادة وكيل الحقانية للاطلاع على ترتيب الدروس المرغوب إعطاؤها في علم الإدارة، وتقرير ما يلزم إدخاله في تلك الدروس من الإصلاحات، وتعيين سعادته عضوا في لجنة انتخاب المستخدمين، وعضوا لمجلس تأديب نظارة المالية، ورئيسا لمجلس تأديب مصالح الدخوليات بمصر والأقاليم، وقد اكتفيت بهذا التلميح بما كان يقوم به من الأعمال الجليلة، وإذا أعددنا مناقب الرجل المحمودة وما توالى عليه من كتب الثناء، وإفادات الشكر الرسمية لاستغرقت مجلدا ضخما.
ترجمة رسم وتاريخ حضرة صاحب السعادة السري الجليل المفضال قليني فهمي باشا.
والإنسان في هذه الحياة الدنيا إما شاكر حامد وإما ناكر جاحد، فالأول لتربيته الصحيحة وفطرته السامية تراه يفكر دائما في حسن صنع أخيه الإنسان، فيستزيده ويواليه بالدعاء ويجهد نفسه ليل نهار في النظر إلى المصلحة العامة، ويبيت وحب الوطن بين جوانحه فلا يهدأ باله إلا لخير بلاده، ولا تقر عينه إلا لسعادة أمته، والثاني هو الذي يحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله، وينظر حاقدا لكل جليل من الأعمال، ولا يعترف بفضل كل عظيم من الرجال، وسيان عنده خراب الأوطان وبؤس كل إنسان، وهو ذاك الذي يقول: «بعدي الطوفان»، ولقد ألفيت ذلك الإنسان الأول يمثل شخص سعادة الوفي الغيور والوطني الهمام قليني فهمي باشا أحد نواب الأمة في الجمعية التشريعية سابقا، الذي أخذ ينشر بيراعه البليغ وفكره الثاقب في الجرائد العربية والإفرنجية اليومية، والمجلات ما من شأنه رقي وطنه، فكتب تحت عنوان «الحكومة وديون الأهالي» «وبنك البنوك» ووقاية البلاد من الأزمات المالية، وهذا الاقتراح ولله الحمد قد تنبهت إليه الأمة، وكتب عن زراعة الدخان ومصلحة الوطن بما له من الخبرة الزراعية والسداد في الرأي، ومن نصائحه وإرشاداته الثمينة إلى شبان اليوم ما هو مذكور بعدد مجلة الهلال شهر أكتوبر سنة 1925، وهي المجلة الغنية عن البيان والتي تعد من أكبر أمهات العربية في هذا الوقت، فقد قال حفظه الله لمندوب هذه المجلة: (1)
أرى مع الأسف أن أخلاق السواد الأعظم من الأمة قد تسممت، وأصبح الناس كلهم يبيتون في خداع، والبارع من يخدع أخاه أو صديقه بأية وسيلة ليقنص منه ما يمكنه، ولكن يجب أن أقول: إن أحسن الصفات التي تؤهل الإنسان في الزمن للقيام بخدمة عامة هي التحلي بالصدق والوفاء والصراحة، ولو لاقى في أول أمره صعوبات جمة. (2)
كان للتربية العائلية تأثير عظيم في تهذيب الأخلاق، فكان الصغير يكرم الكبير، والكبار يتشاورون ويعملون برأي أحكمهم. ولنحو ثلاثين سنة، تطورت الأخلاق والآداب، وأصبح الصغير يحتقر الكبير، ولم تهتم المدارس بتربية الأخلاق وترقيتها، بل أضرت بنا الكتب من حيث أردنا النفع، ومن رأيي أن مطالعة الكتب الدينية تساعد على تقوية الفضائل وتردع النفس عن القبائح. (3)
يمكن الشاب أن يحافظ على صحته إذا اتبع القواعد الآتية. (أ)
يبتعد عن شرب الخمور وتناول المخدرات. (ب)
ينام مبكرا ويستيقظ مبكرا. (ج)
يزاول الرياضة البدنية ما استطاع.
وأرى أنه لا يحسن بالشاب أن يتزوج قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين، بشرط أن يكون في مركز مالي يساعده على الحياة براحة واطمئنان ضامنا تربية من يرزقه الله بهم من الأولاد. (4)
يحسن بالشبان الانصراف إلى الصناعات كلها، سواء أكانت كبرى أم صغرى تزاول باليد أو بالعدد والآلات. (5)
لا استحسن أن يتعرف الشاب مساوئ الحياة الاجتماعية بنفسه لما يترتب على ذلك من الضرر والخطر على مستقبل الشاب، إذ قد يستحسن إحدى الموبقات فيعلق بها.
فيجدر بالمربين من والدين وأساتذة أن يبعدوا الشاب عن ذلك الدرس العملي، وخير لهم أن لا يدخلوا بابه بأية حال.
بعض ما ذكر عن صاحب الترجمة في الصحف
وقد توالى عليه الثناء الجم في الصحف العربية والإفرنجية والمجلات إزاء خدماته الجليلة وأعماله المجيدة المفيدة، ندرج هنا بعضها اعترافا بفضله وجليل خدماته.
وقليني باشا له أعمال في خدمة الإنسانية قام بقسط جميل منها في جمعية الهلال الأحمر المصري.
وله ولع عظيم بنشر المعارف؛ ولهذا الغرض قد وهب من أرضه عشرين ألف متر لإنشاء دائرة معارف تشمل جملة مدارس للبنين والبنات أوقفها عليها قدرت بعشرين ألف جنيه، وقليني باشا عضو بالمجلس العالي بوزارة الزراعة، وعضو بالمجلس العالي الاقتصادي بالمالية، وعضو بالنقابة الزراعية، يعمل في كل منها لمصلحة الأمة، وقليني باشا أحد الرجال الذين صاغوا الدستور للبلاد.
لكل أمة أدوار تنتقل فيها صعودا وهبوطا، فإذا صارت إلى ما يضعضع قوتها ويذيل زهرتها وينضب ماءها، ويجدب أرضها وأحاط بها الشقاء جيلا أو أجيالا، وأراد الله له النهوض من الكبوة والانتعاش من الهمود والسلامة من المرض أتاح لها رجلا أو رجالا يأسون جراحها، ويعالجون داءها ويتعهدونها بما يعيد إليها الحياة والقوة، ويصلحون شؤونها ويأخذون بيدها إلى ما تتوق إليه من السعادة والعزة والمقام الكريم، وما ذلك إلا أن يستعينوا بنبوغهم على إزالة العقبات من طريق ارتقائها وإيجاد الوسائل المؤدية إلى بلوغ آمالها.
وإنا لنرى حياة جديدة ونزوعا إلى العمل والتقدم في سبيل السعادة، وليس في مظاهر هذه الحياة الجديدة أجمل من هذا المشروع الجديد الذي يقوم به هذا النابغة المصري المتوقد الغيرة والذكاء، فإن مصر محتاجة إلى الشؤون المالية، والمال أساس لبناء العلم والحضارة في كل أمة من الأمم، وكل قطر من الأقطار، ولا ريب في أن المصرف المالي الوطني الذي يقوم بمشروعه هذا النابغة سيكون ينبوعا للثروة لا ينفد ولا يغيض وبه تقوى آمالنا في بلادنا، وبما ينبعث منه من القوة والنظام تعرف مصر كيف تؤسس الشركات للتجارة والصناعة والفنون والعلوم وغيرها من أسباب الإصلاح والفلاح، وتعرف كيف تستفيد بخصوبة أرضها وذكاء أبنائها، فمشروع سعادة قليني فهمي باشا من أجل المشروعات التي تدعو كبراءنا وأهل الجد في بلادنا إلى الاشتراك فيها؛ ليشتركوا مع سعادته في الفخر الخالد والمجد الثابت الأركان.
أما عن مبادئه وخطته في عهد نيابته بالجمعية التشريعية، فإن سعادته يذهب إلى وجوب العمل المطمئن الهادي والتفاهم المبني على حسن الثقة، فالتشريع لا يكون بالمخاصمة والتحمس والمنابذة، ويرى أن حسن التفاهم بين الأمة والحكومة سيأتي بالفائدة العامة للبلاد وأهليها؛ لأننا إذا ظننا بالحكومة سوءا واعتقدت فينا سوء النية ظللنا متنافرين كل يعمل على معاكسة الآخر، ولا يخفى ما في ذلك من الضرر الذي يعود على الأمة، ونحن نقول: إن سعادته ممن يهمهم أن يخرجوا من المسائل التشريعية بنتيجة تجر إلى المنفعة والربح للأمة.
أما قليني فهمي باشا فإنا لا نستطيع أن نوفيه ما هو أهله من شكر أياديه البيضاء، والصحيفة أضيق من أن تسع ما نود ذكره من أعماله السالفة وكلها عظيم باهر ناطق بفضله ونبوغه، فلنا العذر إذا اكتفينا بثناء أعماله عليه وشكر الأمة إياه .
صفاته وأخلاقه
هذا هو الرجل من حيث تربيته ونشأته، أما من حيث أخلاقه وأطواره فهو لين العريكة رقيق الفؤاد جدا تنال منه بلطف الكلام ما لا تنال من الأعداء بالسيوف والسهام، طلق اللسان عذب اللفظ حاضر البديهة، قوي الحجة هادئ البال، طيب النفس غير أنه إذا ما تكبر عليه أحد يأنف من الضيم، ويكره المعارضة إن لم تكن مع التواضع والأدب بالحق، لا يتحيز لدين من الأديان حسن التصرف في الأمور ذو رأي سديد وعزيمة ماضية، قلما قصد أمرا وخاب فيه، بعيد النظر طويل الأناة، يدبر رأيه إذا أراد نيل بغية في نفسه، وهكذا تكون الرجال.
ترجمة حياة فقيد الشهامة والشبيبة والمروءة والإحسان المغفور له عمر سلطان باشا
قف بالديار وجد بالدمع منتحبا
واندب شبابا بظفر الموت قد خلبا
وابك الذي لو ظللت الدهر تندبه
لما وفيت له بعض الذي وجبا
ونح على من دهاه الموت مختطفا
قبل الأوان وفي جوف الثرى احتجبا
واقرن بدمع جفون منك منهمل
دم الفؤاد الذي قد سال منسكبا
الفاجعة الأليمة
فجعت الأمة المصرية عامة، والشبيبة خاصة، بفقد عظيم من عظمائها، ونبيل من نبلائها، وشبل من أشبالها، وركن من أركانها، ألا وهو فقيد المروءة والإحسان سليل بيت المجد والشرف المغفور له طيب الذكر خالد الأثر.
المرحوم عمر سلطان باشا كبير أعيان مديرية المنيا
فكبر الخطب، وعز العزاء، وعظم الداء وخاب الدواء، كشرت المنية عن أنيابها، وانشبت مخالبها فخطفت من بيننا كريما له في القلوب أعز المنازل، ووجيها احترامه في الأفئدة حالل، وأديبا تتفاخر بأدابه الأدباء، وفاضلا يعترف بفضله الفضلاء، وجوادا محسنا يجاهر بجوده البؤساء والفقراء، دهمت المنون هذه الزهرة اليانعة ، والغصن الرطب، والشباب الناضر، فجاءة بعد منتصف ليلة 21 فبراير سنة 1917 بمدينة المنيا، فدهش الناس عامة لهذا النعي وكل شيء غريب إلا الموت. لأن الفقيد العظيم كان غض الشباب فتى الإهاب لا يشكو علة، ولا ينتابه داء ولم تنقض بضعة أيام على سفره من القاهرة إلى مزارعه في المنيا، وقبل أن ينبثق فجر يوم النعي في أرجاء العاصمة تناقلته الألسنة كنبأ رزء أليم أصاب شابا من شبان الأمة، جمع بين الوجاهة والثروة وطارف المجد وتليده.
المغفور له عمر سلطان باشا كبير أعيان مديرية المنيا ونجل المغفور له محمد سلطان باشا.
مولده ونشأته
ولد الفقيد العظيم بمدينة المنيا من أبوين شريفين سنة 1882، ومن أعرق بيوت المجد حسبا ونسبا وجاها وثرة وكرما وفضلا ووالده هو فقيد الأمة والوطن والشهامة والرجولية الصحيحة، ساكن الجنان محمد سلطان باشا رجل مصر السياسي الوحيد الذي كان رئيسا لأول مجلس نيابي في مصر ودعامة من أبنائها يوم هبت العواصف الثورية، فرباه أعظم تربية وشب في مهد العز والجاه، فورث عن والده اسما كبيرا وحفظ كرامة بينه ونفسه جهد ما يتسع لمثله المجال وجهد ما تسمح الظروف والأحوال، فكان اسمه في كل مشروع نافع مفيد في مقدمة الأسماء، وكانت منزلته في كل عمل عمومي مقصد العاملين، يهتز للحسنة اهتزاز كل كريم، ويميل إلى الحسنة والإحسان ميل كل طيب العنصر، ولما جاز سن الفتوة وجه همه إلى إدارة ثروته الواسعة وتدارك ميراث أبيه الكبير.
اقتناؤه الآثار العربية
ومما يذكر له بالإعجاب جمعه في داره الرحبة الفنية المشيدة بالقاهرة على أتقن الطرز العربية متحفا عربيا نفيسا جمع من الآثار ما يعود تاريخ بعضه إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثم يتنزل إلى عهد المماليك والأيوبيين حتى عهد الأسرة المالكة الآن على عرش هذا القطر المبارك، وكان هذا المتحف مقصد العارفين بالفن والمغرمين بتاريخه فهو قد جمع بجمعه كنزا ثمينا.
كان الفقيد العظيم وحيد أبيه فكان عماد بيت محوط بإكرام الأمة وإجلالها؛ لأن الأمة تتوق إلى صون كرامة بيوتها القديمة وعظمائها الذين خلفوا اسما وجاها، ومات وهو لم يعد يبلغ الخامسة والثلاثين عن طفلين صغيرين - بنت وصبي - لم تكد تحل عنهما التمائم رزء جلل في بيت كبير زال شبابه بزوال صاحبه، وأقفرت رحابه إلى أن يشب نجله - حفظه الله مهجته - فيعيد إلى ذلك البيت الكبير عظمته وجلاله.
تأصيله للخيل العربية
ومما اهتم به الفقيد في حياته أيضا تأصيل الخيل العربية وتحسين نتاجها، وقد اقتنى عددا كبيرا من الجياد المطهمة في مصر والمنيا، وكان وهو في المنيا ينشط هذه الأعمال بإقامة السباقات ويدعو إليها الأعيان من مصر القاهرة وسواها.
أعماله الجليلة في الجمعية الزراعية والجمعية الخيرية الإسلامية
وقد كان المرحوم الكريم عضوا في الجمعية الزراعية، وعضوا أيضا بالجمعية الخيرية الإسلامية بمدينة المنيا، فبرهن فيها على كفاءة ومقدرة فائقة وسداد في الرأي وما من مشروع خيري عام يفيد مديريته، ويجعلها في مصاف الأمم الراقية إلا ويكون الزعيم الأول فيه يساعده بمجهودات فكره وماله الفياض، ولا يمكن لهذا القلم أن يثبت أعمال هذا الفقيد الجليل، ومآثره الخالدة، ومجهوداته الفائقة واهتمامه الشديد في طرق الإصلاح والعمران وهذه مآثره الجليلة في مدينة المنيا ناطقة له بالفضل والشكر والفخر والإعجاب.
أخلاق الفقيد وصفاته
من كان شاهد يوم تشييع جنازة هذا الرجل العظيم، وسمع صراخ وعويل الرجال والنساء ودموعهم التي كانت تسيل من العيون كالمطر، والجموع المحتشدة والوابورات البخارية العديد التي أقلتهم إلى مدفن العائلة بقرافة الزاوية، حيث دفنت المروءة والإنسانية والشهامة ومكارم الأخلاق والإحسان والشفقة والمواساة؛ لإدرك ما كان عليه الفقيد العظيم من الصفات الحميدة، والخصال الفريدة، والتربية العالية والأدب الجم، والكرم الحاتمي، والبشاشة، والوداعة، واللطف، والمروءة، وحبه الأكيد لمواطنيه، وللقارئ الكريم أن يقدر ذلك من مشاهدة حوانيت المدينة المغلقة، وعويل القوم ونحيبهم حتى كادوا يدفنون أنفسهم أحياء لهول المصاب وعظم الخطب.
وصف تشييع الجنازة
لبست المنيا كلها الحداد على فقدها رجلها العظيم المغفور له، وغص بندرها بالعمد والمشايخ والتجار والأعيان الوافدين من جميع بلدانها إليه للتعزية والاشتراك في تشييع الجنازة، وجاءت القطارات الخاصة من القاهرة مكتظة بالعظماء والأعيان والأصدقاء الوافدين لهذا الغرض نفسه.
وتفضل عظمة السلطان حسين «رحمه الله وأسكنه فسيح جناته» فأناب عنه في تشييع الجنازة حضرة صاحب العزة محمود نصرت بك مدير المنيا وقتئذ، وفي حضور المأتم حضرة عباس الدره مللي بك الأمين الثاني في الديوان العالي في ذاك العهد، وأمره بإبلاغ آل الفقيد أرق عبارات التعزية.
هذا وقد شيعت جنازة الفقيد باحتفال مهيب جدا تحيط بالنعش عساكر البوليس السواري والبيادة، وتتقدمه الموسيقى الأميرية بأنغامها المحرنة، وأرسلت السلطة العسكرية فرقة من جنودها البريطانيين للاشتراك في تحية الراحل العظيم، وسار في الجنازة وجوه وذوات وعمد وموظفو مديرية المنيا، والجهات المجاورة، ووصل إلى المنيا سعادة شعراوي باشا (رحمه الله) فسار وأسرة الفقيد علي بك إسماعيل ومحمد بك إبراهيم وفؤاد بك سلطان وتوفيق بك إسماعيل وغيرهم من أفراد عائلة سلطان باشا، وأغلقت التجار حوانيتها ووضعت شعار الحداد عليها، وقد نحرت الذبائح الكثيرة ووزعت الصدقات على الفقراء والمساكين، الذين نكبوا في أكبر المحسنين، وعاد القوم والحزن يفتت الأكباد على الفقيد العظيم الذي فقدت به البلاد المصرية ركنا قويا.
وقد أوقفت المدرسة الأميرية حفلتها السنوية للألعاب الرياضية، وكذا جميع الحفلات الرسمية والأفراح في عموم المديرية حدادا على فقيد البلاد الكريم.
رثاء الشعراء
وما كاد هذا النبأ العظيم يصل إلى مسمع الكتاب عامة والشعراء خاصة، حتى قاموا برثاء الفقيد الكريم ووصفوا شمائله الغراء وأياديه البيضاء وأعماله الجليلة ومناقبه الفريدة، ومنها قصيدة عصماء لفقيد الشعر والشعراء المرحوم عبد الحليم المصري شاعر جلالة الملك فؤاد الأول قال رحمه الله:
أأنذرتم باحتباس المطر
ربى مصر لما نعيتم عمر
أتعمون غير مضاء الحسام
وفيض الغمام ونور القمر
وغصن الشبيبة لما ترعرع
وازدان في روضه بالثمر
رماك الردى رمية يستوي
شباب الفتى عندها والكبر
فما قيل: كيف يموت الصحيح
ولا قيل: كيف يخون القدر
وما مت عن علة لا تزول
ولكن حياتك فيها قصر
وكم حاذر المرء في عيشه
وهل ينفع المرء فيه الحذر
وكنت بنقض الصبى زهرة
كذلك يقصر عمر الزهر
لقد أغلق الباب ما بيننا
وحق السكوت وقل الضجر
فلا كيف أمسيت فوق التراب
ولا كيف أصبحت تحت الصخر
فإن تك سافرت في حاجة
فقل لي: ما بعد هذا السفر
مصير بني آدم من قديم
إلى مورد ليس عنه صدور
فساع من الناس فوق التراب
وآخر تحت التراب انتظر
فهل عاد منهم ذكي الفؤاد
فينشر للناس عنهم خبر
يود عفاتك لو أنهم
فدوك وإن قصروا بالبصر
وإن حجب البدر عن ناظر
فماذا انتفاع الفتى بالنظر
أبعد غيابك يحلو الحضور
وبعد رقادك يحلو السمر
مضى في خطاك صفاء الحياة
ولم يبق بعدك إلا الكدر
لقد صفرت منك تلك القصور
وامتلأت منك تلك الحفر
فأخضلت تحت الثرى جنة
وأوقدت في كل قلب سقر
بساط الربيع عليك انطوى
ودمع الغمام عليك انحدر
يقولون: أغرق في جوده
وهل كنت إلا السحاب انهمر
وهل كنت من كثرة الوافدي
ن تعلم من غاب منهم أو حضر
إذ ما استعد امرؤ للندى
فجودك مرتجل مبتكر
فيا سائلا عمرا كف عنه
فإن الذي قد سألت اعتذر
وما كان يعرف ما الاعتذار
ولكن هو الموت إحدى العبر
نقضي الحياة وما همنا
سوى أن نقوم بترك الأثر
يزول الأنام ويبقى الكلام
وما الناس في الدهر إلا سير
أسكب الحق تعالى على جدثه شآبيب الرحمة والغفران، وجزاه خيرا بعدد حسناته العديدة التي لا تعد ولا تحصى، وأن يشمل مصر الحزينة وأبنائها الصبر والسلوان، وأن يكثر من أمثاله النبلاء في شبابها الناهض، حتى يقوم بسد هذا الفراغ الشاسع الذي خلفه هذا الراحل الجليل بعد مماته.
ترجمة العالم الأثري الجليل نابغة مصر المغفور له أحمد باشا كمال
مولده ونشأته
ولد أحمد كمال باشا العلامة الأثري الشهير نابغة زمانه في القاهرة عام 1267ه، من أبوين شريفين طاهرين غذياه بلبان الأدب والعلم الصحيح حتى إذا ما بلغ الثانية عشرة دخل مدرسة المبتديان بالعباسية سنة 1280، وانتقل منها عام 1284ه إلى المدرسة التجهيزية، وبعد عامين دخل مدرسة اللسان المصري القديم، وتلقى دروس اللغة الهيروغليفية وفن الآثار على الأستاذ بروكش باشا الأثري الألماني الشهير، وبعد أن أتم الدراسة تقلد وظائف عدة لم تدخل في دائرة العلم الذي أوقف نفسه لتحصيله، ويرجع ذلك إلى تعصيب الإفرنج وعدم ميلهم إلى رؤية مصري ينافسهم في دراسة الآثار المصرية، حتى تبقى أثار البلاد كأنها محتكرة في أيديهم، غير أن هذا الفقيد العظيم تمكن بفضل دهائه وحنكته، ووفرة علمه من الدخول في المتحف المصري بوظيفة «أمين مساعد حوالي عام 1873م»، وذلك أنه تمكن من الدخول في المتحف بصفته كاتب للمدير مريت، فأراد المدير أن يمتحنه في الآثار فأظهر المترجم له جهلا عمديا حتى تمكن من استلام وظيفته، وإن تكن فنية إلا أنها كانت بالمتحف، وبعد عدة سنين أرادت الحكومة الإنجليزية أن تدخل أحد العلماء الإنجليز وتدفع هي ماهيته، فاعترض المدير على ذلك وقال: لماذا ندخل أجنبيا إذا كان عندنا المصري الكفء؟ فأصبح بذلك كمال باشا فنيا أي: أمين مساعد؛ لأن وظيفة أمين أصبحت وظيفة إنجليزية. ومن أبحاثه العلمية النفيسة ما نشرته مجلة المقتطف بالمجلد التاسع والخمسين بالجزء الثالث تحت عنوان «بحث لغوي» في براءة القرآن الشريف عن بعض الألفاظ الأعجمية قال رحمه الله:
قد وفقني الله إلى تمهيد السبيل المؤدي إلى ذلك أي: إلى إرجاع كل كلمة إلى أصلها وتدوين قاموس اللغة تدوينا مؤسسا على أصول ثابتة تظهر اللغة بمظاهرها الحقيقية، والذي حملني على ذلك ما ظهر من نقوش قديمة محفورة على جدران معبد الدير البحري في طيبة الغربية وإزاء الأقصر من الغرب، تدل على أن المصريين القدماء أرادوا تخليد ذكر أصلهم، فأثبتوه بالحفر على آثارهم قائلين إن أجدادهم يدعون الأعناء «جمع عنو» أي أنهم أقوام من قبائل شتى اجتمعوا في وادي النيل وأسسوا فيه مدنا كثيرة، منها مدينة عين شمس، ويقال لها بالمصرية: العين البحرية ومنها العين الجنوبية وهي أرمنت، ومنها العين التي سميت فيما بعد دندرة، ولما نموا وكثروا تفرقوا في الجهات المجاورة لوادي النيل، ففريق منهم وهو المعروف باسم أعناء الحنو أو اللوبيين توجهوا إلى بلاد القيروان وتونس والجزائر وسكنوا فيها، وفريق آخر يسمي أعناء المنتو هاجر إلى بلاد الصومال واجتاز البحر الأحمر إلى بلاد العرب وانتشر ممتدا إلى فلسطين، وفريق ثالث يسمى أعناء اليتو سكنوا القسم الجنوبي من مصر حيث جنادل النيل، وفريق رابع يقال له: أعناء الكنوز وهم من أهل النوبة.
العالم الأثري الجليل نابغة مصر المغفور له أحمد باشا كمال أمين شرف المتحف المصري.
وهكذا إلى أن قال :
قيوم، في قوله تعالى:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم (البقرة 255:2) قال عنها الشيخ حمزة فتح الله رحمه الله: معناه الذي لا ينام، بالسريانية، وفي المحيط القيوم والقيام الذي لا ند له من أسمائه عز وجل، وهو مشتق من مادة قام قوما وقياما، وقد ورد هذا اللفظ في المصرية وذكره أرمان في مفرداته «الصحيفة 136»، فقال: المصرية من لفظين معناهما قيم الأم أي: زوج الأم أي: زوج وأم في آن واحد أوجد نفسه بنفسه، ثم ركب تركيبا مزجيا، فصار صنعة يراد بها الموجد لنفسه، فهو ليس من مادة قام العربية والمصرية، بل هو كلمة قائمة بذاتها عريقة الأصل في كلتا اللغتين. إلخ.
وأخذ يثبت في هذا المقال البديع صحة بحثه متخذا أمثال هذه الكلمات قاعدة صدق لنظرياته العلمية، فتمكن بذلك من نشر نتائج أبحاثه العلمية الدقيقة في العالم، وكان يسعى جهده في نشر علم الآثار بين أفراد الأمة المصرية، رغم ما كان يلاقيه من العقبات ففي عام سنة 1910 سعى لدى صاحب المعالي أحمد حشمت باشا وزير المعارف حينذاك في إنشاء قسم لتعليم فن الآثار المصرية بمدرسة المعلمين العليا، وفعلا كلل الله مسعاه بالنجاح وانتخبت أول فرقة تلقت عليه درس اللغة الهيروغليفية، وكانت مؤلفة من حضرات الأفندية سليم حسن ومحمود حمزة وأحمد عبد الوهاب ومحمد فهيم والدكتور حسن كمال ورياض جندي ملطي ورمسيس شافعي وأحمد البدري، تخرج هؤلاء الأساتذة عام 1912م فحاول الفقيد العظيم إدخالهم بالمتحف المصري؛ ليتفرغوا للبحث العلمي أسوة بالإفرنج حتى يكون لدى الأمة المصرية عدد وافر من الأثريين الأخصائيين، ولكنه لم ينجح في هذا المسعى ويا للآسف؛ لأن رؤساء الحكومة وقتئذ على ما يظهر لم يفقهوا معنى الآثار المصرية؛ ولأن الإفرنج كانوا يعاكسون كل مشروع من هذا القبيل، فاشتغل هؤلاء الأساتذة بالتدريس، وفي عام 1921م نهضت الأمة المصرية نهضة مباركة وأدركت قيمة علم الآثار المصرية فقام صاحب المعالي ووزير الأشغال بانتخاب ثلاثة من المصريين؛ لتعيينهم أمناء بالمتحف المصري وهم سليم أفندي حسن ومحمود أفندي حمزة وسامي أفندي جبره وتقرر إرسالهم إلى فرنسا وإنجلترا لإتمام دراسة الآثار هناك، فهذه الحركة المباركة يرجع الفضل فيها إلى الفقيد، وفضلا عن ذلك فقد سعى لدى صاحب المعالي محمد توفيق رفعت باشا وزير المعارف في إنشاء مدرسة عالية لدراسة الآثار المصرية، ونجح في هذا المشروع نجاحا باهرا رغم معارضة المسيو لاكو مدير المتحف المصري له، وكان رحمه الله عازما على أن يقوم زمام هذه المدرسة بنفسه، فيدرس اللغة الهيروغليفية حسب طريقته العلمية الفائقة التي وضحها في قاومسه، وخلاصة رأيه العلمي أن اللغة المصرية القديمة هي أصل اللغة العربية، ووضح ذلك في قاموسه توضيحا يدل على براعته العلمية الفائقة ويا حبذا لو اهتمت الحكومة المصرية بهذا القاموس، وقررت طبعه على نفقتها لخدمت بذلك الأمة خدمة جليلة ولبرهنت على أنها بدأت تقدر قدر الآثار المصرية، الأمر الذي كان يجدر بالحكومة أن لا تتركه منذ عشرات السنين قبل أن يستفحل الأمر، ويستحوذ الغربيون على ما نسميه بحق احتكار إدارتهم له في مصر.
مؤلفات الفقيد
وقد ألف هذا الفقيد العظيم والعالم الجليل مؤلفات عديدة منها باللغة الفرنسوية صفائح القبور في العصر اليوناني الروماني، وهو كتاب أثري في مجلدين الأول فيه نصوص مشروحة بالفرنسوية، والثاني فيه تسعون لوحة بها رسوم الصفائح والدر المكنوز في الخبايا والكنوز في مجلدين: الأول عربي، والثاني فرنسي والموائد القديمة في الطبقة الوسطى إلى عهد الرومان، وهو كتاب أثري في مجلدين الأول فيه نصوص مشروحة بالفرنسية والثاني فيه خمس وخمسون لوحة بها رسوم الموائد، وذلك عدا النبذ العلمية التي ألفها ونشرت في مجلة المتحف المصري السنوي وغيرها.
أما مؤلفاته التي باللغة العربية فهي العقد الثمين في تاريخ مصر القديم، واللآلئ الدرية، وهو أجرومية هيروغليفية ، وبغية الطالبين في علوم قدماء المصريين، وترويح النفس في مدينة عين شمس، ودليل متحف إسكندرية، ودليل متحف القاهرة، ورسالة في مدينة منف، ودروس الحضارة القديمة في مصر والشرق لغاية ظهور الإسلام.
وكان رحمه الله يسعى جهده في تأسيس متاحف في كل عواصم مديريات مصر، فنجح في إنشاء متاحف أسوان والمنيا وأسيوط وطنطا، وكان غرضه من ذلك أن لا تتسرب آثار بلادنا المصرية إلى أوربا وأمريكا، وسوف تفقه الحكومة المصرية أهمية تلك الأفكار السامية وتتولى هي الحفر والتنقيب إن شاء الله.
وفاة الفقيد العظيم
انتقل هذا العالم الجليل إلى جوار ربه في يوم 6 أغسطس سنة 1923 بالقاهرة، وقد حزن عليه جميع أفراد الأمة؛ لأن الفقيد العظيم كان يعد نابغة زمانه في هذا العلم الذي يهم مصر وأبناء وادي النيل، إذا ما أرادوا الرجوع بذكراهم إلى تاريخ الفراعنة العظام مشيدي مجد مصر، وقد خسرت البلاد بوفاته ركنا عظيما وأستاذا فردا هيهات أن يأتي الزمان بمثله، ولئن فات المصريين اليوم إدراك عظيم خسارتهم بوفاته، فسيدركون ذلك بعد سنين عندما يبحثون عن جهابذة علمائهم الذين قضوا العمر درسا وبحثا وتنقيبا في آثار الأسلاف الخالدة، وإثبات المعلومات والحقائق عنهم رغم المشقات والمعاكسات، وقد أدرك هذا الفقيد العظيم الأسرار التي حسده عليها علماء الغرب، وفطن إلى أهمية إثبات الحقائق والمعلومات في بطون الأوراق؛ ليتوارثها الخلف عن السلف، فلله دره من نابغة جاء وراح قبل الأوان، وجاهد جهادا عظيما لبلوغ غاية المطلوب ومنتهي المقصود، ونحن لا نرى بدا من إثبات تاريخ حياة هذا العالم العامل في سفرنا هذا التاريخي إقرارا بفضله على طول الزمان، وإحياء لجليل آثاره وعظيم مجهوداته وخدماته للمصريين خاصة وللشرق عامة.
وقد مات هذا الفقيد العظيم الجليل عن 75 سنة قضاها في خدمة العلم والتاريخ المصري، بينما كان يجهد نفسه في إتمام قاموسه الضخم الخاص باللغة المصرية القديمة، وقد ترك أشبالا كالنجوم الساطعة في سماء مصر غذاهم بلبان العلوم والمعارف، وهذبهم فشبوا على مبدأ والدهم الجليل في الطهارة والفضيلة والمروءة العالية، وهم حضرات الدكاترة المحترمين حسن بك كمال وزكريا بك كمال وأحمد بك كمال، فتراهم نهارهم وليلهم في خدمة الإنسانية يعطفون كثيرا على البؤساء ابتغاء مرضاة الله، ويواسون المرضى بما أوتوا من لطف ودعة، ومكارم أخلاق حتى لهجت الألسن بالشكر المستطاب والثناء عليهم والدعاء بحفظهم رافلين في بحبوحة السعادة والوفاء، وأن يتغمد هذا الفقيد العظيم برحمته ورضوانه، وأن يجعل هذا المصاب العظيم خاتمة الأحزان.
صفاته وأخلاقه
ولقد مضى عمره في العمل لا يعرف البطالة، فكان كل يوم في مكتبه من الشروق إلى الغروب وكلما تسنح له الفرص سواء في مكان مريح أو غير مريح توفرت معه الكتب أو لم تتوفر، وسواء اشتدت الحرارة أم البرودة فلا يقل شغله عن العشر ساعات يوميا.
ومن خصاله الشخصية أنه كان صادقا فلم يقبل الكذب ولو ضحكا، ولا يغالي في قوله وكان أمينا صادقا يسعى للخير جهده متواضعا، وكان مثال التقى والصلاح شديد التمسك بأحكام الدين.
ترجمة فقيد القضاء والقانون المغفور له المرحوم علي مظلوم باشا
كلمة للمؤرخ
فقدت الأمة المصرية عامة والقضاء خاصة أستاذا ضليعا وقانونيا متشرعا وعالما جليلا، ورجلا من خير ما أنجبت الكنانة وركنا من أركانها، ألا وهو العالم الجليل المغفور له المرحوم علي مظلوم باشا المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة سابقا.
فإذا نحن عددنا مناقب هذا الفقيد وما له من أثر محمود وعمل مشهور في مدة وجوده في دست القضاء لاستخلصنا منها صفحة نقية بيضاء، وتاريخا وضاء يفخر كل مؤرخ أن يدونه بقلم الإعجاب بين تواريخ عظماء الأمة المصرية، الذين أدوا الأمانة في دنياهم وكانوا لله من الخائفين عاقبة الآخرة.
ترجمة فقيد القضاء والقانون المغفور له المرحوم علي مظلوم باشا المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة سابقا.
وإني كمؤرخ لي الفخر كل الفخر بأن أبيض صفحات سفري التاريخي الحديث بقطرة من محيط أعمال هذا الراحل العظيم، والقانوني الضليع، ونرجو من حضرات القراء الكرام معذرة لعدم إمكاننا الوصول إلى ما يحتاجه المؤرخ من الإثباتات والأسانيد التاريخية؛ لعدم وجود من يذلل لنا هذه الصعاب ويعاوننا على الاسترشاد بمعلوماته ورأيه من أهل الفقيد فنقول:
مولد ونشأته
ولد الفقيد الكريم في الثغر الإسكندري عام 1855م من والدين فاضلين شريفين حسبا ونسبا، وترعرع على بساط العز والهناء، فأدخله والده دور العلوم فاغترف من مناهلها واقتطف من شهي ثمارها ما جعله يوما ما من أركان الهيئة الاجتماعية، وفحلا من فحول رجال القانون، ولا شك أن البيئة الصالحة كثيرا ما تظهر شبابا بمعترك الحياة فمن نفوس مهذبة، وأخلاق سامية، ومبادئ قويمة، وآداب عالية وعقول نامية ناضجة، وهكذا كان حال البيئة التي شب الفقيد الكريم في أحضانها وترعرع في أركانها.
كان رحمه الله طموحا إلى المعالي ميالا بفطرته إلى الاشتغال بالقانون، فكان له ما أراد، ولكم خدم الإنسانية وأنصف المظلوم وعمل إلى ما فيه راحة المتقاضين، بدون ظلم ولا رياء، مراعيا في ذلك خوف الله تعالى والضمير، فكان في كل أدوار حياته في القضاء المثل الأعلى في طهارة الذمة والعدل والإنصاف، والبعد عن التحيز لفريق دون الآخر، كما كان رحمه الله على جانب عظيم من الورع والتقوى ومكارم الأخلاق والوداعة، لا يبت في حكم إلا بعد روية وتؤدة فكان مضرب المثل.
وكأن الله تعالى قد خص عائلة هذا الفقيد العظيم بالذكاء المفرط، وتوقد القريحة والنبوغ، فإنك لن تجد فردا من أفرادها الكرام إلا ومتحليا بحلل الأدب والكمال والكفاءة العلمية والعملية، حتى اشتهر بين كبار العائلات المصرية، وأصبحت مضرب المثل في الذكاء، ونكتفي للإدلال على ذلك أن نذكر من بين حضرات أفرادها ذاك العالم الجليل، والمتشرع الكبير حضرة صاحب المعالي أحمد مظلوم باشا شقيق الفقيد ورئيس الجمعية التشريعية سابقا، ووزير الأوقاف في عهد الوزارة السعدية، ورئيس مجلس النواب المصري المنحل، وحسبك أيضا أن يكون ولداه حضرتي صاحبي السعادة الجليلين النابغة القدير حسن مظلوم باشا مدير عام مصلحة البريد، الذي اكتسب بفضل علمه ومقدرته الإدارية وكفاءته الشخصية كل شكر وثناء، وكذا سعادة شقيقه المفضال القانوني البارع أحمد مظلوم بك رئيس نيابة الإسكندرية المختلطة، فإنهما والحق يقال كالكواكب الساطعة في سماء هذا العصر، وقد يعود الفضل لنوالهما هذه الشهرة إلى ذلك المربي الجليل والعالم الكبير المرحوم والدهما.
وقد كان لخبر منعاه رنة حزن وأسى في عموم القطر، حيث اختطفه المنون فجأة في يوم 28 مارس سنة 1923 بالثغر الإسكندري، فذهب مبكيا على أفضاله ونزاهته وعدله وعلمه الواسع وأدبه الجم.
وإننا وأن قدمنا مراسيم العزاء على فقد هذا النابغة الكبير، فإلى الأمة المصرية عامة ولسعادة نجليه الفاضلين ولحضرة صاحب الدولة صهره الجليل محمد سعيد باشا رئيس مجلس الوزراء سابقا بوجه خاص.
أسكنه الله فسيح جناته وأثابه خيرا بعدد حسناته.
ترجمة المرحوم خليل باشا إبراهيم المحامي الضليع والعصامي الكبير
ولد عام 1832م وتوفي في 7 مايو سنة 1924
هو المرحوم خليل بن شحاته بن زغلول، ولد في بلدة شندويل من أعمال مديرية جرجا سنة 1832م من أبوين كريمين، اعتنيا بتربيته وتثقيف مداركه وكان يوم ميلاده فأل سعد لأسرته العريقة في المجد.
رسم وتاريخ حياة المغفور له المرحوم خليل باشا إبراهيم.
وبعد أن أتم تربيته المنزلية أرسله والده مع حداثة سنة، إذ كان لا يتجاوز العاشرة من عمره إلى مصر لتلقي العلوم بها على الرغم من صعوبة المواصلات في ذاك العهد، إذ كان خط السكة الحديدية لم يمتد بعد إلى تلك المديرية، وفي سنة 1847م نكبه الدهر بوفاة المرحوم والده، فالتمس له عملا كتابيا، إذ التحق بإحدى الدوائر بمرتب ضئيل فكان لا يألو جهدا فيما وكل إليه من الأعمال حتى أصبح بعد مدة قصيرة باشكاتب لتلك الدائرة.
ولم تكن نفسه العالية لتقنع بذلك شأن النفوس الطموحة إلى المجد والعلا، بل جعل يهزأ بحاضره ويبتسم لمستقبله، وما أنشئت المحاكم الأهلية في سنة 1880م، حتى اندمج في سلك المحاماة وابتدأ طورا جديدا في حياته، وهنا بدأ ذكاؤه النادر يتجلى فأخذ في درس القوانين بشغف عظيم حتى أحرز السبق على جميع معاصريه فيمن تقدموا معه لنوال جواز مهنة المحاماة، ولم تكن همته العالية لتقعد به عند هذا الحد إذ رأى في المحاماة مجالا ضيقا لمواهبه، فاشتغل بالزراعة بجده المشهور وعزيمته الحديدية، حتى كون لنفسه ثروة طائلة يحسده عليها جميع معاصريه.
ولم تكن مشاغله الخصوصية لتصرفه عن الاهتمام بالشؤون العامة، إذ قد صرف فيها جهدا لا يقل عما صرفه في المحاماة والزراعة، وكان يري في العلم خير السبل لإنهاض وطنه ولانتشال بني قومه من غياهب الجهل، فعمد إلى إنشاء الجمعيات الخيرية وساعدها بجهوده وماله، وخدمها بعلمه وفضله وأسس جمعية التوفيق القبطية الكبرى، وجمعية ثمرة التوفيق التي إليه وحده يرجع الفضل في إنشائها، ورأس الجمعية الخيرية القبطية الكبرى عدة سنوات متوالية، وسار بهذه الجمعيات وغيرها في طريق النجاح والرقي.
وكان يعلم أيضا أن الأمم لا ترقى إلا برقي الأمهات؛ لأنهن أول مؤسس لترقية الأمة فلم يحرمهن من حقهن في التعليم في الجمعيات التي أسسها، والتي رأسها وقد وضع بذلك أحسن مثل لغيره من سراة الأمة وأغنيائها الذين قل أن نرى من بعضهم اهتماما في مثل هذه الشؤون الهامة.
وتاريخ الفقيد سواء في المحاماة أو في غيرها ناصع البياض لا يشوبه أقل شائبة من الشك والريب، وقد فقدته الأمة المصرية عامة والقبطية خاصة قانونيا ضليعا وعاملا مجدا ونزيها فاضلا، كما بكته البائسات وولولت عليه الفقيرات وذرفن عليه بدل الدمع دما؛ لما كان عليه الفقيد من العطف والإشفاق نحوهن.
وقد أنعم عليه بوسام الكوموندور من الجمهورية الفرنساوية، وبكثير من الرتب والنياشين من الحكومة المصرية إلى أن نال رتبة ميرمران.
وبالجملة كانت حياته مثالا حيا للمجد والجد والاعتماد على النفس، وكان رحمه الله يمتاز باللطف، وبعد النظر وأصالة الرأي والأخلاق الكريمة، ويعد من رجال الأمة المصرية العاملين وأفاضلها المشهورين، وقد لبى نداء ربه في 7 مايو سنة 1924، وقد بكاه كل من عرف فضله، وكل من يقدر في الرجال النبوغ والذكاء والإقدام والنشاط.
ترجمة حياة فقيد الجد والإقدام المغفور له حسين باشا واصف
إن غاب عنا بجوف الرمس محتجبا
فرسمه من أمام العين ما حجبا
ولا يدور لنا في مجلس سمر
إلا نرى شخصه في الوهم منتصبا
وذكره كلما جال الحديث به
أثار فينا جراحا برؤها صعبا
كم من فؤاد حسين بات منسحقا
حزنا عليك وقلب ذاب منعطبا
أواه من جور دهر في تقلبه
إن سر يوما فيبكي بعده حقبا
فقيد الجد والإقدام المغفور له حسين باشا واصف عضو الجمعية التشريعية عن العاصمة سابقا.
قضف المنون رجلا من رجال مصر المعدودين، وركنا من أركانها العاملين على رفع شأنها، والمجاهدين في سبيل نهضتها، ألا وهو المرحوم «حسين واصف باشا» فقيد الجد والإقدام، وقليل بين آحاد مصر من يشابه الفقيد الراحل همة وعزما وعلما وكفاءة، فهو من الأفراد الذين نالوا من الرقي شأوا كبيرا.
مولده ونشأته
ولد الفقيد في القاهرة سنة 1857م من أبوين شريفين غذياه بلبان التربية العالية، وربياه على بساط العز والنعمة، فشب ذكيا أديبا فاضلا، وأدخل المدارس فكان مثال الجد والذكاء والنشاط، وبعد أن تخرج منها قلد منصب النيابة العمومية في المحاكم المختلطة، وهي في فجرها الأول فكان أول منصب قلد لوطني، فأظهر من النبوغ والاقتدار ما جعله موضع احترام القضاة الأجانب ومطمح أنظارهم، لا سيما ذاك المشرع المشهور والقانوني الضليع المسيو روكاسيرا، وقد أدهشته فصاحته وبلاغته في اللغة الفرنسية في المرافعات وقوة حججها في هيئات مركبة من فحول الرجال الأجانب، إذ قال: «إذا كانت هذه كفاءة المصريين فلا حاجة لهم إلينا في بلادهم».
وقد كان الفقيد سكرتيرا عاما لوزارة الحقانية مذ كان السكرتير يعتبر كوكيل للوزارة، وله اليد الطولى في وضع قوانين المحاكم الأهلية وترتيبها، وتعين رئيسا لمحكمة إسكندرية الأهلية في أول تشكيلها، فكان مثال العدل والنزاهة، ثم عين بعدئذ مستشارا لمحكمة الاستئناف الأهلية، فأبدى من ضروب الكفاءة القانونية ما أدهش القضاء، ثم رأت الحكومة المصرية الانتفاع بمواهبه وكفاءته النادرة في الوظائف الإدارية، فشغل منها كما شغل من وظائف القضاء عدة مناصب، إلى أن نيطت به وظيفة محافظ عموم القنال، فكان في كل هذه الوظائف التي تولاها مثال الاقتدار الشرقي، وأنموذج الموظف الأمين الحازم الذي يقدم الواجب المفروض عليه نحو بلاده بكل معنى الكلمة.
نبوغ الفقيد في الفنون الجميلة
وإذا قلنا إن المرحوم حسين واصف باشا كان من نوابغ رجال الإدارة والقضاء، فإن ذلك لا يمنعنا من القول: بأنه كان من رجال الفنون الجميلة ومن أكبر أنصارها والعاملين على ترقيتها علما وعملا، فهو الذي أنشأ المعهد الموسيقي فصارت إليه رئاسته، وهو الذي كان يشجع معاهد الفن بكل وسائل التشجيع، فإذا بكاه الأهل والأصدقاء فإن العلم والفن يشتركان في هذا البكاء، وفي ترديد الزفرات حزنا وأسفا على ذلك الراحل العظيم.
خدماته الجليلة في الجمعية التشريعية
وقد رشح الفقيد نفسه لعضوية الجمعية التشريعية عن دائرة بولاق بعد أن تنازل دولة سعد باشا زغلول عن تلك الدائرة وقتئذ، فانتخب بإجماع الناخبين نظرا لما له من الشهرة العامة التي جعلته موضع ثقة الأمة ومحط أمالها، ولو أطال الله في أجل تلك الجمعية، ولم تحل الحرب الأوربية العظمى دون موالاة انعقادها لأدى الفقيد للبلاد وللأمة أجل الخدم نظرا لما جمع في شخصه الكريم من جليل المزايا، وكان الفقيد أيضا من كبار المزارعين فتمكن من إنماء ثروة طائلة فكان القدوة الصالحة للرجال العاملين.
والذي يؤسف له كثيرا أن الفقيد لم يعقب ذرية، وإنما الآمال كبيرة في صاحب العزة المفضال حسن بك واصف شقيقه، الذي يرى رسمه الكبير فيما بعد في تخليد ذكر الفقيد بخير الأعمال، وليس هذا الأمل على همته بعزيز.
وقد عاش الفقيد طول حياته مع زوجه الوحيدة البارة كريمة المرحوم إبراهيم باشا حليم ووحيدته، وهي من فضليات السيدات، عرفت بعمل البر ومساعدة البؤساء والبائسات.
وفاة الفقيد والاحتفال به
وقد انتقل الفقيد من دار الفناء إلى دار البقاء بالإسكندرية يوم السبت الموافق 14 سبتمبر سنة 1923م، واحتفل بتشييع جنازته بمنزله بشارع القصر العيني بالقاهرة، وكان يتقدم نعش الفقيد ثلة من رجال البوليس السواري والبيادة والمولوية التركية وحملة القماقم وتلامذة المدارس، وقد أوفد دولة يحيى باشا رئيس الوزراء في ذاك الحين مندوبا من قبل الحكومة المصرية للسير في مشهد الفقيد كما سار فيه عموم الوزراء، وجمع غفير من علية القوم حتى جامع قيسون حيث صلي عليه، ومن ثم دفن بقرافة الإمام رحمه الله بعدد أعماله ومآثره الجليلة.
وقد رثاه الشعراء بقصائد بليغة آثرنا أن ننشر قصيدتين منها من نفثات المخلص في وده وعهده حسن بك الدرس مأمور مركز أبو تيج سابقا.
كل من عليها فان
عزاء المكارم والمعالي في فقيدهما الجليل وكوكبهما الذي خلد ذكرا ساطعا ساكن الجنان «حسين واصف باشا»:
رثائي حسينا واصفا ذا الشهامة
أؤدي به بعض الوفا وذمامه
ومن جزعي قد ألجم الوجد منطقي
وأرسل من جفني الحسير ركامه
وهل تدرأ الأحزان صيحة آسف
إذا ما قضاء الله أمضى سهامه
ولكن عزاء الأكرمين فريضة
فقد فقد المأموم منهم إمامه (حسين) على حب الفضائل والعلا
وأسمى السجايا ربه قد أقامه
إلى الله لبى داعي القرب واللقا
وخلف في قلب الحزين ضرامه
ومن صرفت في المكرمات حياته
له الفخر في الدنيا ويوم القيامه
وإن (حسينا واصفا) كلما سعى
إلى الخير سباقا ووالى اهتمامه
وبالخير يجزي الله أجرا مضاعفا
لمن رام وجه الله فيما استدامه
وما مات من دامت مآثر مجده
وترعى المعالي فضله واحترامه
لمأواه في الجنات حسن مآبه
وتحمد في دار الكريم الإقامه
وفي الملأ الأعلى تكرم روحه
بروح وريحان وأسنى فخامه
ومذ فاز بالرضوان قلت مؤرخا:
لواصف بالجنات مرقى الكرامة
سنة 1342ه 1
270 487 530 297
لذي الفضل شكران الورى يتجدد
فلو فارق الدنيا ثناه يخلد
لقد غاب عنا فرقد المجد والنهى
وهل يستضيء الأفق إن غاب فرقد
أجاب نداء الله شوقا لقربه
وآثاره بالفضل في الكون تشهد
فكان نصير العدل في كل منصب
وكان لبذل الجاه يرجى ويقصد
وكان لنيل الفخر مغتنما كما
بهمته تسمو العلا وتشيد
وما الفخر لفظ يستهان بنطقه
ويرغى به من لا يعيه ويزبد
ولكنه صدق النهى ومروءة
وإسداء جاه والوفا والتودد
بموت فقيد المكرمات تيتمت
وريع بهول الخطب صحب وحسد
وليس وبالا موت ألف وإنما
وبال على الآلاف إن مات سيد
على موته في كل حي مآتم
ومن كل قلب زفرة تتصعد
ولولا التأسي بالتقى لحقت به
نفوس عليها منه كم أنعمت يد
به رحبت دار النعيم وأرخت
حسين بجنات الخلود ممجد
سنة 1342
128 456 671 87
حسن الدرس
مأمور مركز أبي تيج سابقا
آثار الفقيد الخالدة
ولسعادته مآثر عديدة ومفاخر جليلة على العلم وأهله والوطن وبنيه، ومن جملة هذه المآثر إنشاؤه في بور سعيد المدرسة الواصفية الموسومة باسمه الكريم، وخصص لها ريعا من ماله الخاص، وأيضا بناؤه منازل ومساجد كثيرة في نواح عديدة لعماله، وقد شاد مسجدا فخما بأول شارع القللي بالقاهرة هو آية من آيات الجلال والرواء، وفرشه بثمين الأثاث، وله عدا ذلك مآثر أخرى قام الفقيد بها لا تنسى له مدى الأيام وكرور الأعوام.
صفاته وأخلاقه
كان رحمه الله على جانب عظيم من الذكاء الفطري وأصالة الرأي والهمة والشجاعة الأدبية، وغزارة العلم وحسن الإدارة مع كرم حاتمي رحمه الله رحمة واسعة، وأطال في حياة حضرة شقيقه الذي تؤمل الأمة في شخصه الكريم كل الخير.
ترجمة حضرة صاحب العزة حسن بك واصف مدير مديرية جرجا سابقا
هذا هو شقيق الفقيد الراحل والمؤمل فيه إحياء ذكره، ولا غرابة ولا عجب فيمن همته تعادل همته، وكفاءته العالية تضارع كفاءته؛ بأن يؤدي الواجب الذي تفرضه عليه الأخوة وتتطلبه منه الأمة، فقد عرف هذا الشهم بالجد والنشاط والإقدام وحسن الإدارة والعلم الغزير، وقد برهن في خلال المدة التي تولى فيها إدارة دائرة المرحوم شقيقه باليقظة وحسن تصريف الأمور والحزم مما اطمأن له بال الفقيد قبيل وفاته وبعد انتقاله.
حضرة صاحب العزة حسن بك واصف مدير مديرية جرجا سابقا شقيق الفقيد الراحل المؤمل فيه إحياء ذكره.
مولده ونشأته
ولد في مصر القاهرة سنة 1863م من والدين كريمين وتعلم بالمدارس الأهلية، ولما كان شديد الميل للاشتغال بالتجارة فقد دخل في محل سهر بالإسكندرية، فتمرن فيه على معاطاة الأشغال وتدرب عليها أحسن تدريب، واتفق مع هذا المحل على الذهاب لإنجلترا لفتح محل تجاري بها، وبما أنه كان جاهلا للغة الإنجليزية، فقد دخل مدرسة بريطانيا الواقعة في ضواحي منشستر، وهي مدرسة شهيرة خاصة بعلية القوم فرضع لبان علومها مدة ثلاث سنوات، وكان يتلقى أيضا دروس خصوصية على أشهر أساتذة هذه المدرسة حتى نبغ في اللغة الإنجليزية نبوغا عظيما خصوصا في علم الاقتصاد؛ ولكي يطبق العلم على العمل دخل بنك «جل بريت» الشهير، وأخذ يتعاطى أشغاله ويتدرب على الأمور المالية، وبعد أن مكث سنتين أظهر في خلالهما ذكاء غريبا وعلما واسعا وغيرة على العمل، وإذ لم يتمكن من بلوغ أمنيته أي فتح محل تجاري عاد إلى وطنه حاملا الشهادات العالية.
وعاد إلى الوطن العزيز في أواخر سنة 1888م، وبعد وصوله استخدم في وزارة المالية وعين في قلم تحريراتها، وبعد مضي شهر نقل إلى قلم حسابات وزارة الأشغال بديوان المالية، وتثبت في هذه الوظيفة استثنائيا بقرار صدر في 7 مارس سنة 1889م، ثم عين نائبا من الحكومة في شركة سكة حديد حلوان بموجب قرار وزاري، ثم عين سكرتيرا خاصا للسير الون مستشار المالية.
كما أنه تعين بمأموريات عديدة أهمها تحقيق المتأخرات بمديريتي الدقهلية والقليوبية، وكان يقدم التقارير النافعة حتى إن بعضها أصبح قواعد أساسية، وقد سعى في رفع كثير من هذه المتأخرات، فأصابت اقتراحاته من الحكومة صوابا وخففت منها عن عاتق الأهالي.
وفي 28 نوفمبر سنة 1894 عين وكيلا لمديرية جرجا وأنعم عليه بالرتبة الثانية في أوائل سنة 1895م، وبذل جهده في هذه المديرية حتى جمع قلوب أهاليها ووفق بينهم في كل اختلافاتهم، ثم عين مديرا لمديرية الفيوم في 13 يناير سنة 1897م، فعمل فيها كما عمل بالسالفة وأزال التباين الموجود بين الأهالي، وهكذا صفت القلوب وشكر الجمهور له مآثره، وقام بفتح مدرسة أهلية بسوهاج وكان من أعظم مساعديها أدبيا وماديا، وإذ وجد أن الحالة الصحية بنفس مدينة الفيوم سيئة جدا أمر بردم المستنقعات التي حول المدينة، وتمم ما قرره سلفاؤه من فتح الشوارع مثل شارع عدلي ونوحي، ولم يكتف بل أجرى فتح شارع طويل على شاطئ البحر اليوسفي، مبتدئا من أول المدينة إلى آخرها، وسمي بشارع واصف تيمنا باسمه الكريم حتى يبقى ذكره حيا في مدينة الفيوم، وأنشأ 250 كيلو مترا من السكك الزراعية في جهات مختلفة من المديرية، واهتم كثيرا بإحياء زراعة البلاد، وحث على تأسيس الشركات النافعة، فأنشأ على أيامه شركة حديدية زراعية سميت «شركة السكك الحديد الزراعية»، ومدت الخطوط الحديدية في الأنحاء المهمة بالمديريات وسارت عليها القطارات.
وبحسن إدارته ودماثة أخلاقه ومحبة رجال الحكومة إليه تمكن من تخفيض ضرائب الأطيان عن الأهالي، ورفع الأموال عما تلف منها. ونقل من الفيوم مديرا لمديرية جرجا.
ونظرا لكثرة أعماله الخصوصية وميله إلى القيام بتعهدها بنفسه ولظروف خصوصية عززت معه هذا الميل، فقد ترك الحكومة ومسئولية أعمالها موجها جل التفاته واهتمامه إلى شؤونه الخاصة، التي نجح فيها نجاحا باهرا فوق ما حازه من النجاح الباهر في أعمال دائرة المرحوم شقيقه بفضل حسن جدارته وكفاءته الشخصية.
صفاته وأخلاقه
دمث الأخلاق، كريم الطباع، جواد على كل الأعمال والمشروعات النافعة للبلاد، على جانب عظيم من اللطف، ذو مآثر كثيرة خيرية وغيرة عظيمة على الأدب تشهد له بطيب العرق وشرف النفس.
ترجمة حضرة صاحب العزة المفضال والعالم الكبير محمود بك شاكر
مقدمة المؤرخ
لو أن كل مصري وخاصة أبناء الموسرين الأغنياء حاز بعض ما حازه هذا العالم الجليل والمهندس الكبير من المعلومات القيمة، التي أهلته للارتقاء إلى الدرجة التي يحسد عليها من كثيرين بفضل حسن تربيته ونزهته وسمو أخلاقه ووفرة ذكائه، إذن ما وجدنا شابا يشكو حيفا أو يبدي تظلما من أبناء البلاد.
وإن الأمة المصرية لن تنسى فضل المجاهدين من أبنائها البررة، الذين توجوا جبينها بتاج الظفر وطوقوا نحرها بقلائد الفخر، وإننا نسطر هنا ترجمة هذا الشهم الجليل العامل المجد بقلم الإعجاب، رافعين أكف الضراعة للعزة الإلهية أن تهب مصر العزيزة الكثيرين من أمثاله من شبابها؛ ليرفعوا من شأنها ويكونوا خير معوان على وصولها إلى أعلا درجات الكمال والرقي.
مولده ونشأته
صاحب الترجمة هو نجل حضرة صاحب العزة محمد بك إبراهيم مأمور وزارة الأوقاف بمديريتي أسيوط وجرجا سابقا، والموظف الآن مأمورا لأوقاف قسم مباني.
حضرة صاحب العزة المفضال العالم الكبير محمود بك شاكر وكيل مصلحة المساحة، والآن وكيل وزارة المواصلات المساعد.
ولد عزته عام 1887م وتربى في بيئة صالحة وتلقى علومه الابتدائية في مدرسة محمد علي الأميرية، وحصل منها على شهادتها الابتدائية ومن ثم دخل المدرسة الخديوية، فحصل منها على شهادتها الثانوية، وفي عام 1906م دخل مدرسة المهندسخانة فقضى بها أربع سنوات كان فيها مثالا للذكاء المصري والنبوغ الشرقي، وحاز شهادة الدبلوم عام 1910م وعين في العام نفسه مهندسا لمركز ديروط وعهدت إليه وزارة الأشغال العمومية في ذاك الحين بمهمة تحويل مجرى النيل أمام قناطر أسيوط، فأظهر همة فائقة واقتدارا عظيما، ثم اختير ضمن الإرسالية لتتميم علومه الهندسية، فسافر إلى إنجلترا سنة 1912م ودخل جامعة ليدز حيث أتم بها العلوم العالية، وقضى زمنا في التمرين العملي على الآلات الرافعة، ثم عاد إلى مصر سنة 1914م وعين مهندسا بتفتيش ري القسم الرابع بمديرية بني سويف، ثم رقي بعد فترة قصيرة إلى وظيفة مساعد مدير بالتفتيش ذاته، وفي عام 1920م رقي مديرا لأعمال هذا التفتيش ونقل عام 1922م مديرا لأعمال تفتيش ري قسم أول بالقاهرة، وفي 12 نوفمبر سنة 1923م رقي وكيلا لمصلحة المساحة بالجيزة: وفي شهر ديسمبر سنة 1925م رقي لوظيفة وكيل مساعد لوزارة المواصلات وهو دائب على عمله بعزيمة ماضية وهمة عالية لا يعتورها أدنى كلل، وحضرته معدود من رجال العمل والإقدام مشهور بالكفاءة الشخصية وعلو النفس، ويرجع الفضل في وصوله إلى هذا المركز السامي لحضرة والده الجليل الذي ربى حضرات أنجاله على أقوم أسس الفضيلة، فكانوا نجوما زاهرة في سماء مصر تضيء بهم المحافل، وتفتخر بهم نوادي العلوم والآداب وبمثله فليقتدي العاملون وليتفاخر المتفاخرون.
انتدابه عضوا لمؤتمر المساحة الدولي بمدريد
وقد انتدبته الحكومة المصرية صيف عام 1924م؛ لتمثيل مصر في مؤتمر المساحة الدولي الذي عقد في مدريد حيث قام معه جناب المستر ديد المفتش بمصلحة الطبيعيات بالحكومة المصرية، ويسرنا أن نقول: إنهما قاما بمهمتهما خير قيام ورفعا اسم مصر في أعين الأمم المشتركة في ذلك المؤتمر، إذ جاء بحل المسائل الفنية التي كانت معلقة.
مؤتمر مدريد الدولي.
وقد قدم صاحب العزة محمود بك شاكر تقريرا بأعمال «الجيودبري» بمصر، وهو قسم المساحة العالية مشتملا على ثمانين صفحة، وقد اشترك في المؤتمر المذكور 27 دولة وحضره كثيرون من رجال الدول المشتركة فيه.
وقد أخذ هذا الرسم في قاعة مجلس النواب، ويرى شاكر بك في الصف الثالث في وسط الجهة اليسرى وإلى يساره المستر ديد، وفي الزاوية صورة شاكر بك.
كما انتدبته الحكومة المصرية في اللجنة الخاصة بتسوية الحدود الغربية بين إيطاليا ومصر، التي يرأسها حضرة صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا في أوائل شهر نوفمبر سنة 1925 وفي هذين الانتدابين وغيرهما الدليل الناصع على ما لحضرة صاحب الترجمة من الكفاءة الشخصية. وفي شهر ديسمبر سنة 1925 عين وكيلا مساعدا لوزارة المواصلات.
صفاته وأخلاقه
والمعروف عن حضرة صاحب الترجمة طهارة القلب، والنزاهة والإخلاص في العمل وتعضيد الأدب ومعاونة الأدباء ومساعدة البؤساء.
أكثر الله من أمثاله بين شباب مصر؛ لتفتخر بهم ولتدون جلائل أعمالهم في بطون التاريخ بالفخر والإعجاب كما تفتخر اليوم بهذا النابغة الكبير.
ترجمة حضرة صاحب العزة المهندس العالم الكبير السيد محمود بك صبري محبوب
إن تلك الكفاءة الباهرة التي تتجلى في كل أفق لدليل قائم على أن النبوغ، الذي كان أمس ملكة للأجداد هو اليوم صفة مميزة للأحفاد.
وإن في حياة النابغة صاحب الترجمة لحجة أخرى يجتلي فيها العصر نباهة المصري واستعداده، وتقوم من نفسها مقام التزكية لتلك الشهادة.
حضرة صاحب العزة المهندس العالم الكبير السيد محمود بك صبري محبوب مدير تخطيط المدن والمساكن بتنظيم مصر بوزارة الأشغال.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة الحسيب النسيب عام 1888م، وربي على الفضيلة والأدب الصحيح وهو ابن المرحوم الأستاذ السيد عبد الحميد محبوب المحامي بن المرحوم الدكتور السيد محمد محبوب.
وبعد أن أتم صاحب الترجمة دراسته بمصر وظف مهندسا بالري في وزارة الأشغال العمومية، وبقي بها حتى تاقت نفسه إلى إتمام دراسته بجامعة أوربية فقصد في فبراير سنة 1911م جامعة مدينة ليدز بإنجلترا، حيث تخرج منها في يونيه سنة 1914م ووظف مهندسا بمصلحة المجاري بتلك المدينة ولم يكد يمضي عليه في هذه الوظيفة حول آخر إلا ورقي إلى درجة مساعد مهندس المدينة، فأسند إليه القيام بمشروع تخطيط هذه المدينة التي تبلغ مساحتها نحو الثلاثين ألف فدان إنجليزي مربع، وسكانها نصف المليون وقد بلغ ما تقرر إنفاقه لتنفيذ ذلك المشروع أربعة ملايين جنيه إنجليزي، فقام صاحب الترجمة بما وكل إليه قياما انعقد به الإجماع على تفرده وكفايته.
وفي يوليو سنة 1916 أضيف إلى عمله الهندسي مسئولية كبرى في بوليس تلك المدينة، فكانت معلوماته الهندسية أكبر مساعد على نبوغه، وفي فترة قصيرة رقي إلى مفتش فباشمفتش فمأمور قسم، وأصبح من اختصاصه وضع الأنظمة الخاصة لشرطة الطرق والمواصلات، وتحقيق بعض القضايا الجنائية حتى لقب منظما للبوليس.
وفي هاتين الوظيفتين الإداريتين كما في الوظائف الهندسية السابقة أظهر من الجدارة والمهارة ما استحق كل إعجاب، وكان على اتصال دائم بتلقي العلوم الهندسية، فلم يكتف بفرع واحد منها، بل اهتم لهندسة السكة الحديدية والهندسة الصحية وهندسة البلديات، حتى حصل في النهاية على دبلوم أخصائي في فن تخطيط المدن.
كتب الثناء عليه
وقد عرفت له صحافة ليدز ما أسداه إلى تلك المدينة من الخدم الثمينة، فكتبت عنه معجبة بمهارته مكبرة لنبوغه.
ولما وضعت الحرب أوزارها حن إلى وطنه فأبدى رغبته في العودة إليه، فعرضوا عليه أن يزيدوا مرتبه ويرفعوا مرتبته على أن يبقى في تلك المدينة فاعتذر عن ذلك، واضطرت المصلحة التي كان يعمل فيها أن تأتي بموظف آخر على أن يدربه ذلك النابغة المصري على أعمال منصبه ستة أشهر؛ ليستطيع بعد ذلك أن يحل محله وكتبت للحكومة المصرية بذلك.
وليس أدل على عظيم فضل ذلك المصري من ذكر بعض الشهادات التي نالها بعد تركه الخدمة، فقد كتب قاضي تلك المدينة ورئيس مجلسها ما ترجمته:
عرفته - «يريد صاحب الترجمة» - منذ ست سنوات حيث كان يطلب العلم في جامعة ليدز لغاية يونيه سنة 1914م، ثم ألحق بمصلحة المجاري لمدة سنة، ثم رقي إلى منصب مساعد مهندس المدينة في مصلحة تخطيط المدينة، فألفيته على علم تام بأعمال البلدية، وهو مهندس ذو كفاءة عالية، وقد دلني قيامه بأعماله وواجباته على عظيم مقدرته، وعلى أن براعته باعتباره جنديا ومنظما للبوليس لا تقل عن براعته باعتباره مهندسا، وهو نعم العضد لعدة معاهد علمية في إنجلترا تتطلب كفايات عالية وقد قدم استقالته إلى مجلس المدينة؛ ليعود إلى وطنه وإني واثق أنه سينفع بلاده أجل نفع، وستذكره مدينة ليدز دائما وترحب به ترحيبا عظيما في أي وقت يشاء فيه العودة إليها، وإني آسف جدا لقبول استقالته وحرماننا من خدماته، ولا سيما أني عرفت هذا الموظف الكبير مثالا للأخلاق الكريمة والفضائل، وإني أرجو له مستقبلا سعيدا.
صورة أخرى لصاحب الترجمة.
وكذا كتب له مهندس تلك المدينة ما ترجمته:
ليس في استطاعتي أن أعبر عن مقدار إعجابي بالطريقة التي يؤدي بها أعماله، وإن له ثقة تامة بأن مصر ستجد فيه رجلا موثوقا به ذا ضمير حي.
وقد كانت الوظيفة التي أسندت إليه في وزارة الأشغال المصرية وهو بليدز مساعد مدير أعمال، ولما رجع وظهرت كفايته طلبت هذه الوزارة من وزارة المالية استبدال هذه الدرجة بدرجة مدير أعمال، وقد اختارته الحكومة المصرية بعد أن اقترح مسألة التحكيم في اعتصاب سنة 1919 لشركة ترامواي مصر، ونجحت نجاحا باهرا وكانت نتيجة ذلك أن عين مندوبا للحكومة بمكتب التحقيق لشركتي الترام للقاهرة ومصر الجديدة، فكان من أعماله أن حل الوطنيون محل الأجانب في الوظائف التي تخلو وجعل أمام العمال مجالا واسعا للترقي لوظائف المفتشين وخلافه، وكان في الوقت نفسه موضع الإجلال والإكبار من جميع مديري الشركات لقوة حجته، وما مارسه بخصوص مسائل العمل في المدة الطويلة، التي أقامها بأوربا وقد رأت الحكومة المصرية أخيرا انتدابه ممثلا لها في جميع المشاكل التي بين أصحاب العمل والعمال، كما وقد وقع اختيار الحكومة عليه في تمثيلها في المؤتمر الذي انعقد في لندره في سنة 1920 الخاص ببناء المساكن وتخطيط المدن، وأيضا المؤتمر الذي انعقد لهذا الغرض بأمستردام.
وإننا نترجم هنا ما قالته جريدة يوركشير ويكلي بوست بخصوص الخريطة القمرية، التي قام بوضعها صاحب الترجمة بعد أن توجت عدد الجريدة بصورته الفوتوغرافية.
إن هذه الخريطة القيمة التي تبين جميع أوجه القمر في سنة 1918م قد رسمت لإرشاد بوليس مدينة ليدز، وقد نشرناها بتصريح من واضعها محمود صبري - «الذي ترى صورته في الصفحة المقابلة» - ومن حكمدار بوليس ليدز المستر برنس ليدلي ، وقد وضعت خريطة كبيرة للستة الأشهر من السنة الماضية، وكانت الفائدة التي حققتها عظيمة لدرجة أن الحكمدار تلقى كثيرا من الطلبات بإرسال صورة منها للسلطات الحربية والبوليسية الأخرى من جميع أجزاء المملكة؛ وهي ذات فائدة مزدوجة لأنها علاوة على كونها المرشد الوحيد للأوقات التي تستدعي احتياطات خاصة، واستعداد لمفاجئات الحوادث فهي أيضا المرشد الوحيد للأهالي عند عقد اجتماعاتهم ليلا.
صورة أخرى لصاحب الترجمة حينما كان في أوربا.
محمود صبري هذا شاب مصري يقوم بخدمات عظيمة لمدينة ليدز، فهو إلى جانب المجهود الفني الذي يقوم به في مصلحة تخطيط المدينة رئيس قسم الشرطة والمواصلات.
وقد ولد في مصر سنة 1888 وقبل أن يلحق بجامعة ليدز كان مهندسا للري في الحكومة المصرية.
تعليق صحف مدينة ليدز عند عودة صاحب الترجمة لوطنه
قالت جريدة الإيفننج بوست بتاريخ 30 يوليو سنة 1919 بمناسبة استعفائه تحت عنوان «خدمات مصري جليلة لمدينة ليدز» ما يأتي:
يبارحنا محمود صبري عائدا إلى وطنه، وكان قد جاء ليتلقى العلم في جامعاتها. قام هذا الشاب بخدمات جليلة للمدينة، إذ عين بعد خروجه من الجامعة في وظيفة مهندس في مصلحة مهندس المدينة، ووظيفة أخرى هامة بالبوليس حيث اشترك في تنظيم شرطة الطرق والمواصلات ... إلخ.
وقد حاز صاحب الترجمة نشانا رفيعا نظير أعماله مدة وجوده بمدينة ليدز بإنجلترا، ومما يدل على تفانيه في خدمة الفن الذي تخصص له، ويصحبه جل يومه بعزيمة ماضية وجنان ثابت قيام بعض ظرفاء مدينة ليدز بعمل ثلاث صور رمزية «كاريكاتورية»:
الأولى:
تمثله واقفا في ساحة كبرى وسط جملة مصالح حائرا لا يدري إلى أي مصلحة يذهب أولا لنجاز أعماله الكثيرة.
والثانية:
عندما كان قاصدا الاستراحة الساعة الخامسة مساء، وأنه لما هم بالخروج رأى من ورائه جيشا من هيئات المصالح الأخرى على شكل كلاب تقصد اللحاق به؛ لتثنيه عن عزمه.
والثالثة:
تمثله واقفا وسط غرفة نومه بعد أن خلع ملابسه نصف الليل ويده على آلة التلفون، وإذ حضر جاويش ومعه أوراق يريد عرضها عليه.
ويرى مما تقدم جميعه أن صاحب الترجمة رجل جد ونشاط وعمل لا يكل ولا يفتر ساعة واحدة عن الاشتغال والتفكير، وإبداء الاقتراحات الدقيقة والسعي وراء ما يفيد البلاد والعباد .
خدماته الجليلة في الحكومة المصرية
ولا يمكننا مطلقا أن نأتي بجميع الخدمات الجليلة التي أداها صاحب الترجمة لخير بلاده المصرية، فمنها ذاك التقرير الضافي الذي وضعه لتخطيط المدن والمساكن والعمل والعمال وعرضه على وزارة الأشغال العمومية، فنال استحسانا عظيما ووافقت على طبعه ونشره وشفعته بمقدمة مفيدة بقلم جناب المستر توتنهام وكيل الوزارة، وقد وزع على كبار الموظفين ونواب الأمة وغيرهم، وقد رأت الوزارة تعميما للفائدة أن تعرضه للمبيع بالعربية والإنجليزية في مكتب النشر؛ لينتفع الجمهور بفوائده، وقد ترتب على ذلك اهتمام الحكومة أخيرا اهتماما عظيما بأمر تخطيط المدن والمساكن فأنشأت قسما خاصا به.
وكم له من مشروعات حيوية جليلة وأعمال مفيدة واقتراحات صائبة ترمي جميعها إلى الرقي العمراني، منها اقتراحه أن تؤلف الحكومة لجنة صناعية للنظر في مسائل شركات الترام والإنارة والمياه، ويعهد إليها تعيين أجور العمال والإجراءات التي تتبع بشأنهم، وتكون قراراتها قطعيا نافذة المفعول فيما يتعلق بالشركات والعمال على السواء.
وكم له من آراء صائبة ومواقف مشهورة في لجان تحقيقات بلدية الإسكندرية، وكانت مواقفه فيها معروفة ومشهورة، وعادت على عمال البلدية بالخير العظيم.
انتدابه لتخطيط مدينة بيروت
ولقد ذاع صيت صاحب الترجمة واشتهر في تخطيط المدن والمباني، فقرر مجلس بيروت البلدي انتدابه لتخطيط مدينة بيروت والنظر في مواصلاتها، وقد دل هذا القرار على ما لحضرته من علو الكعب في هذا الفن، وما أحرره من شهرة في فنه حتى وثق به القريب والبعيد، كما دعته دولة إسبانيا لإبداء رأيه فيما يتعلق باقتراحاتها بشأن بناء مساكن بها، وهو على اتصال تام مع جميع ممالك أوربا في تبادل الآراء بما يفيد بلاده وبلادهم، وقد انتخب أخيرا عضوا بمجلس الإدارة الدولي لتخطيط المدن والمساكن.
منزلة المترجم له عند مليك البلاد
لقد حظي صاحب الترجمة بمقابلة جلالة المليك المعظم فؤاد الأول غير مرة، فنال تعطفات جلالته ورضاه التام على ما قام به من جلائل الخدم مشجعا إياه مثنيا على همته، كما أنه حظي بمقابلة صاحب الجلالة ملك إنجلترا أثناء وجوده بها، كما وقد تعطفت عليه السطانة ملك وأوفدت حضرة صاحب العزة محمود خيري بك ياور عظمتها بهديتين ثمينتين، إحداهما لجناب المستر هزول مدير مصلحة التنظيم، والأخرى لصاحب الترجمة مكافأة لهما على مساعدتهما لعظمتها في مشروعها الخيري الخاص ببناء مسجد وسبيل ومستشفى شرقي العباسية في شارع السلطان أحمد بقرب مسجد الأمير كبير على الطراز المصري الأثري، فقابلا من عظمتها هذا التعطف السامي بالدعاء والشكر.
ولصاحب الترجمة آثار خالدة وأياد بيضاء عدا ما تقدم بيانه، منها وضع خارطتين مهمتين للعاصمة، إحداهما للصناعات في مصر على اختلاف أنواعها وأماكنها مع التفاصيل الوافية لكل صناعة منها، بحيث يقف الناظر على كل ما يهمه من أمر هذه المصنوعات حالما يلقي نظره على الخريطة المذكورة، والثانية ببيان دور العلم في مصر من كليات ومدارس وكتاتيب وغير ذلك وعدد من فيها من الطلبة، وما يجب إنشاؤه من جديد من المكاتب والمدارس، مع مقارنته بعدد المواليد في العام لنشر التعليم فيها، وجعله عاما إجباريا، وتحتوى هذه الخارطة على جميع المدارس الحالية، سواء أكانت أميرية أم أهلية أم تابعة للأوقاف، وظاهر فيها أيضا الأماكن التي تشاد فيها المدارس والكتاتيب للتعليم الإجباري بنسبة عدد المواليد في كل حي من أحياء المدينة، بحيث لا تزيد المسافة بين مكتب وآخر أكثر من نصف ميل واحد، فلا يبعد كثيرا عن منازل التلاميذ ولا يتكلف التلميذ عناء الانتقال لمسافات بعيدة، وجملة خرط أخرى حافلة بمصنوعات حيوية.
هذا ولما كانت القاهرة أعظم مدن أفريقية ومن أكبر عواصم الشرق، سواء كان بالنسبة لكثرة السكان أم لفخامة الأضرحة والجوامع والمباني والآثار، أو انتظام الشوارع وسهولة الانتقال، ولها تاريخ حافل بجلائل الأمور ومحفوظات مكتوبة تتضمن بيانا وافيا عن كيفية إنشائها، وبيان ما بني فيها من الأحياء والمباني الشهيرة على توالي السنين، وقد سارت في عصور هذا التاريخ طبقا المقتضيات نواميس التقدم والارتقاء، فصارت كما هي اليوم عروس هذا الوادي ودرة من درر الشرق الغوالي، وذلك بفضل اهتمام مصلحة التنظيم هذه الأيام بتاريخ القاهرة الخاص، كما اهتمت بمستقبلها الذي يقتضيه انتشار العمران فيها، وازدياد السكان واتساع أعمال الحكومة ودائرة الصناعة والتجارة، فرسم صاحب الترجمة في لوحة كبيرة رسوما عديدة تبين القاهرة في جميع أدوارها، وتظهر ما طرأ على مجرى النيل بجوارها وما أنشئ من المباني الفخمة وتاريخ إنشاء كل منها من العصر الروماني إلى العربي إلى زمن المغفور له الخديوي إسماعيل، وهذه مأثرة كبرى تضاف إلى مآثره الجزيلة التي صادفت من الأمة ارتياحا وشكرا عظيما.
ورغما من رفيع منزلته وكبير مركزه وكثرة مشاغله وانهماكه في الأعمال أناء الليل وأطراف النهار، تراه بشوش الوجه ضاحك السن لطيف الحديث حسن الوفادة لا عيب فيه سوى تفانيه في خدمة بلاده ومساعدة الفقراء، وكل من أخنى عليه الدهر بنابه، وإن مصر لتفخر كل الفخر بأمثال حضرته ونبوغه وتفوقه، ونرجو الحق تعالى أن يكثر من أمثاله لرفع لواء مجدها وإسعادها، وأن يمتعه بدوام الهناء والرفاهية إنه على ما يشاء قدير.
ترجمة حضرة صاحب العزة الإداري الحازم أحمد بك صديق
مقدمة للمؤرخ
لسنا في حاجة إلى تبيان ما لسعادة هذا المدير الإداري الحازم من جلائل الأعمال، وحسن الإدارة والكفاءة، ورجاحة العقل وقوة الإرادة، ومن نعم الله تعالى عليه أن جمع كل هذه المواهب السامية والخصال العالية في شخصه الكريم مع حداثة سنه، مما يبشرنا بوصوله إلى أسمى المراتب وأرفع الدرجات؛ لتنتفع البلاد بغزير علمه وكبير فضله وعالي همته.
حضرة صاحب العزة الإداري الحازم أحمد بك صديق مدير جرجا.
مولده ونشأته
ولد المترجم له بالقاهرة في 17 نوفمبر سنة 1887 من عائلة شريفة المحتد عريقة في المجد، فوالده هو حضرة علي بك صديق وكيل محافظة مصر سابقا، وجده لأبيه البكباشي أحمد بك صدقي بكير، رباه والده على الفضيلة والأدب فأدخله مدرسة الناصرية فحصل منها على علومها الابتدائية حتى نال شهادتها، ومن ثم أدخل المدرسة الخديوية بدرب الجماميز، وأبت نفسه العالية وتربيته الصحيحة القويمة القعود عند هذا الحد، فطلب المزيد من العلوم العالية فأدخل مدرسة الحقوق الملكية، وأخذ يواصل ليله بنهاره مكدا مجدا حتى فاز بأمنيته ونال شهادة الليسانس، وعقب نواله هذه الشهادة أوفدته وزارة الداخلية المصرية إلى إنجلترا وألمانيا لدرس أنظمة الإدارة والبوليس في هاتين المملكتين المشهورتين، فكان له ما أراد وعاد إلى الوطن العزيز محاطا بالفخر والظفر عاملا على خدمة البلاد بما أوتي من فطنة وذكاء.
خدماته الحكومية
وبفضل النزاهة المكتسبة من تربيته الأولية وميله الكلي لبث روح العلم الصحيح، وما حازه من آداب الغربيين فقد أراد نفع بلاده وحكومته بهذه المعلومات والأخلاق السامية، فعين مفتشا بوزارة الداخلية، وما كاد يتولى هذا المنصب حتى شمر عن ساعد الجد والنشاط وكوفئ على هذه الكفاءة بتعيينه وكيلا لمحافظة الثغر الإسكندري، وما لبث بها طويلا حتى رقي مديرا لمديرية الفيوم، ثم مديرا لمديرية القليوبية، ثم مديرا لمديرية الجيزة، ثم نقل مديرا لمديرية قنا في 8 أبريل سنة 1925، ومن ثم نقل مديرا لمديرية جرجا، وهو المركز الذي يشغله الآن بهمته المشهودة، وقد أنعمت عليه الحكومة المصرية بنشان النيل كما أنعمت عليه الحكومة الإنجليزية بنشان الإمبراطورية الإنجليزية، وحاز الرتبة الثانية من الحكومة المصرية.
صفاته وأخلاقه
وهبه الله تعالى فوق مواهب الكفاءة والذكاء والجد والإقدام والشهامة مواهب الدعة واللطف، وكرم الأخلاق مع المروءة العالية والأدب الجم، والأخذ بناصر المظلوم، ومساعدة مهضوم الحقوق، وهو نزيه في كل أدوار حياته، أكثر الله من أمثاله الحازمين بين كبار رجال حكومتنا المصرية.
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم الإداري سيد بك فؤاد الخولي
كلمة للمؤرخ
لا يستتب الأمن العام في ربوع البلاد ولا يسود السلام إلا إذا شمر الحاكم عن ساعد الجد والإقدام، ومسك بزمام شؤون وظيفته بيد من حديد، وكان كفؤا لإدارة الأعمال نزيها مخلصا ذي همة ماضية ونفس عالية، وقد أتاح الله لمديرية قنا مديرا عادلا يشتعل غيرة على مصالح البلاد فتراه يسوس بحكمته العالية وكفاءته النادرة كافة شؤون هذه المديرية، ألا وهو حضرة صاحب العزة سيد بك فؤاد الخولي الذي اشتهر بين الحكام الإداريين بالجد وعلو الكعب في تذليل الصعاب، والسهر على ما فيه رفاهية الأهلين فاستحق شكر المحكوم وثناء الحاكم.
حضرة صاحب العزة الشهم الإداري سيد بك فؤاد الخولي مدير قنا.
مولده ونشأته
هو السيد فؤاد الخولي نجل سيد أحمد بك الخولي، ولد بناحية بسيرباي بمركز طنطا بمديرية الغربية عام 1879م، وتربى التربية المنزلية العالية التي تتناسب مع قدر عائلته الشهيرة العريقة في الحسب والنسب، فأدخله والده الجليل مدرسة طنطا الأميرية فكان المثل الأعلى في الذكاء وحسن الأخلاق والاستقامة، ونال الشهادة الابتدائية ومن ثم دخل المدرسة الخديوية بالقاهرة.
وظل بها إلى أن أتم علومها، ومنها أدخل المدرسة الحربية فتضاعفت جهوده وبرز نشاطه ولبث بها إلى أن تخرج برتبة ضابط عام 1896، والتحق بخدمة الجيش الذي كان زاحفا وقتذاك على السودان، فاتسع أمامه ميدان الجهاد وأصبح قادرا على خدمة مصر، وأبلى البلاء الحسن مما دعا رؤساءه إلى تقدير همته وكفاءته، فعين ضابطا للبوليس بحكومة السودان، وصار يتنقل فيها من مركز إلى آخر حتى وصل إلى مركز «الكوه» على البحر الأبيض، ثم نقل إلى الخرطوم فمركز صودا، ثم رقي مأمورا له، فمركز «الكيلي» على حدود الحبشة، ثم أعيد مأمورا لمركز الخرطوم بحري، فكانت سيرته في عمله الحكومي آية من آيات الرشد والمنار، وما من مركز حل فيه إلا وترك أثرا وحسن سمعة شهد بهما الخاص والعام.
وفي سنة 1909 ميلادية انتقل إلى سلك وظائف الحكومة المصرية، فعين مأمورا لمركز إطسا فمركز سنورس من أعمال مديرية الفيوم، ثم نقل مأمورا لمركز أشمون فمركز تلا من أعمال مديرية المنوفية، فكان في كل هذه المراكز موضع الثناء والإعجاب نظرا لسهره على حفظ الأمن العام، وقيامه بمهام وظيفته خير قيام، ومن ثم رقي إلى درجة حكمدار لمديرية القليوبية سنة 1914 فحكمدارا لمديرية أسيوط، ثم مكث بها سنتين كاملتين كان فيهما مثال الجد والنشاط، وكانت المدينة على أتم حالات الصفاء والسكينة، ومن ثم نقل إلى مديرية المنيا ولم يلبث بها سوى شهرين حتى رقي وكيلا لمديرية بني سويف في أوائل سنة 1917، فوكيلا لمديرية القليوبية سنة 1919، ولما بدأت وقتئذ الحركة الوطنية المعلومة ظهرت وطنيته العالية بأجلى معانيها وبرز إلى ميدان الجهاد مضحيا بمركزه وحياته العزيزة في سبيل الوطن، ولم ترهبه قوة الغاصب ولا أساطيله بل كان يحتقر الصعاب ويقتحم الأهوال؛ لذلك قبضت عليه السلطة العسكرية ونفته إلى رفح، حيث أمضى بها الثلاثة أشهر تحت شمسها المحرقة فلم يزدد إلا ثباتا وصدق إيمان بوطنه، وبعد أن عاد من منفاه عين وكيلا لمديرية جرجا، فمديرية الشرقية، وفي عهده بتلك المديرية حدثت فتنة وطنية عامة، فكان فيها ذاك الوطني الغيور المتدفق حماسا وشمما وحكمة، وبعد ذلك نقل وكيلا لمحافظة العاصمة وبدأت عملية الانتخابات لمجلس النواب والشيوخ، فأظهر من الدراية والدربة والنزاهة ما لهجت به الألسن بالشكر والإعجاب، وسارت العاصمة بفضل جهوده العظيمة على أتم ما يرام وكان ذلك داعيا لترقيته محافظا لدمياط عقب نهاية تلك الانتخابات، وظل بها شهرا ونقل منها مديرا لمديرية القليوبية، ومنح رتبة البكوية من الدرجة الأولى عام 1925، وفي هذا العام نفسه نقل مديرا لمديرية قنا، وما زال بها حتى الآن.
حضرة صاحب العزة الشهم الإداري سيد بك فؤاد الخولي مدير قنا.
صفاته وأخلاقه
رجل النزاهة والشهامة والإقدام، صريح في القول مخلص لوطنه ميال إلى عمل الخير، وديع الأخلاق أبي النفس على جانب كبير من الكفاءة الإدارية والأدب الجم؛ لذلك نراه ميالا لمساعدة الأدباء وأهل العلم.
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم المفضال الأميرالاي عبد الفتاح بك رفعت
مقدمة للمؤرخ
عرفنا في هذا الإداري الحازم قوة الإرادة والكفاءة الإدارية والدأب على الأعمال والنشاط والإقدام، وزرناه مرارا في مكتبه فشاهدنا ما لم نشاهده في كثير من كبار الموظفين من التدقيق في كل شاردة وواردة، وتوقيع الجزاءات على من يراه مقصرا من الموظفين والعمال الذين تحت رئاسته، رأيناه مكبا على الأعمال بنفسه دون أن يحيل شيئا منها على أحد ممن تحت إدارته، شأن الإداري الحازم الذي يتلقى كل مسئولية على نفسه، وعرفنا فيه الذكاء المفرط عند توليه مديرا لمخازن عموم البوليس، وكيف أظهر بفراسته تلك الألاعيب والاختلاسات المشينة، وقدم فاعليها لمجالس التأديب وقضى عليهم بالرفت بعد ثبوت تهمة الاختلاس ثبوتا لا يدع مجالا للشك، فهذا هو عبد الفتاح بك رفعت الذي نسطر تاريخه بقلم الفخر والإعجاب في سفرنا التاريخي، سائلين الحق أن يكثر من أمثاله بين كبار موظفي الإدارة.
حضرة صاحب العزة الشهم المفضال الأميرالاي عبد الفتاح بك رفعت المدير العام لقوة نظام البوليس والخفر بوزارة الداخلية.
مولده ونشأته
ولد بمدينة القاهرة يوم 2 أكتوبر سنة 1872 بشارع المغربلين بعطفة عبد الله بك من أبوين شريفين، فوالده هو البكباشي عبد الرحمن أفندي طلعت بن المرحوم يوسف أفندي عصمت باشمهندس مديرية البحيرة. دخل أولا مكتب السلطان مصطفى الكائن في أول شارع الكومي بالقرب من السيدة زينب، ومكث به سنتين ثم انتقل إلى مكتب الفراش الكائن أمام قسم بوليس السيدة - وكان هذا المكتب متمما لمكتب السلطان مصطفى - فمكث به سنة واحدة، ثم التحق بمدرسة المبتديان - التي مكانها الآن المدرسة السنية - وذلك عام 1882م ومكث بها أربع سنوات، ثم انتقل إلى المدرسة الخديوية سنة 1886م في عهد ناظرها المرحوم صادق بك شنن، فمكث بها ثلاث سنوات وكان في كل مدة الدراسة عنوان النجابة والذكاء الفطري، ثم ألحق بالمدرسة الحربية في سنة 1890 من وترقى منها إلى رتبة ملازم ثان في 30 يونيو سنة 1892، وتعين في 13 جي أورطة بيادة في سواكن، وفي سنة 1894 ألحق بوزارة الداخلية، ونقل ملاحظا لبوليس مركز السنطة فمكث بها سنة واحدة، ثم نقل ملاحظا لبوليس بندر شبين الكوم، وكانت مديرية المنوفية مقسمة إلى بنادر ومراكز غير مراكزها الحالية، فلما غير المرحوم محمود صبري باشا حدود مراكز المديرية وأوضاعها بأن نقل مركز مليج إلى شبين الكوم، وسماه مركزا وضم إليه بندر شبين، ونقل مركز سبك إلى أشمون وسماه أشمون؛ تعين صاحب الترجمة بعد إلغاء بندر شبين - وكان يرؤسه ملاحظ بوليس فقط - إلى نقطة بركة السبع، فمكث بها إلى أكتوبر سنة 1896 حيث رقي إلى رتبة معاون بوليس قبل أقدميته بنحو 54 ملاحظا، وهذا أكبر دليل على نشاطه خصوصا في حوادث السرقات، التي أظهر فاعلوها أثناء وجوده بنقطة بركة السبع، ونقل لمركز بلبيس ومكث به مدة خمسة عشر يوما فقط، ونقل منه إلى ههيا لمناسبة كثرة حوادث السطو والسرقات، ومكث حتى أبريل سنة 1897م وكان حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا مديرا إذ ذاك للشرقية فأحسن شهادته فيه، ونقلته وزارة الداخلية إلى مركز مغاغة عقب حادثة قتل المستر كمب السائح الإنجليزي المشهور، وكان لحادثة قتله هذه أهمية عظمى في دوائر الحكومة عموما والداخلية خصوصا؛ لأن اللورد كرومر اهتم بها اهتماما فوق العادة فلم يمض أكثر من عشرين يوما حتى أظهر القاتلين، وكانوا من طائفة الأعراب المقيمين بعزبة المرحوم علي باشا فهمي المجاورة لمغاغة، وقدمهم للقضاء وحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة بعد أن ضبطت عندهم معظم السرقات، ويرجع الفضل ليقظة صاحب الترجمة وما أبداه من الهمة والإقدام.
وكان مركز مغاغة من أكثر المراكز حوادثا حتى قد لا تمر ليلة إلا ويقع فيه أكثر من حادثين جنائيتين، غير أن حسن التفاهم بين حضرة صاحب الترجمة ومأمور المركز، وهو حضرة محمد بك وهبي حكمدار المنوفية سابقا جعل الأمن مستتبا في ذاك المركز، وساد السلام وحلت الطمأنينة في قلوب الأهلين.
ومكث في ذاك المركز ثلاث سنوات ونصف سنة كان في خلالها مثال الجد والهمة والنزاهة واليقظة، ثم نقل معاونا لبوليس مدينة الإسكندرية في شهر مارس سنة 1901 ومكث بها ستة شهور، ثم رقي معاونا لبوليس بندر المنصورة - الآن وظيفة مأمور بندر - وكان ذلك في عهد صاحب المعالي أحمد حشمت باشا ومكث بها ستة شهور، ثم رقي مأمورا لمركز واحة سيوه ومكث بها سنة واحدة. وفي ديسمبر سنة 1903 عين مفتشا لبوليس الإسكندرية في عهد سعادة هوبكنسون باشا، وكان من اختصاصه التفتيش على أقسام محرم بك والكمرك وكرموس ومينا البصل، ومكث في هذه الوظيفة سنة كاملة، وفي ديسمبر سنة 1904 تعين مأمورا لمركز شبين الكوم حيث كان معالى محمد شكري باشا مديرا للمنوفية إذ ذاك، واشتغل في وظيفته هذه بضعة شهور فلم تطب نفسه للبقاء فيها، وطلب العودة إلى الكادر العسكري، وبعد إلحاح ومساعدات من سعادة المدير تعين حكمدارا لمديرية بني سويف في يناير سنة 1906 ومنح رتبة البكباشي، وعقب نقله لهذه الوظيفة مباشرة منح النيشان المجيدي الرابع نظير خدماته الصادقة وكفاءته الشخصية التي أداها منذ كان مأمورا لمركز شبين الكوم، ومكث في بني سويف عامي 1906 و1907م وكان المرحوم مصطفى بك سري مديرا لها في ذاك العهد، ثم أخلفه عبد الرحمن بك فهمي ثم خليل نايل بك، وفي ديسمبر سنة 1907 منح رتبة القائمقام وتعين حكمدارا للشرقية، وكان مديرها إذ ذاك المرحوم خليل جمال الدين باشا ثم أخلفه صاحب المعالي حسن حسيب باشا، وفي يناير سنة 1910 عين حكمدارا للغربية وكان صاحب المعالي محمد محب باشا مديرا لها، وفي أبريل سنة 1911 نقل حكمدارا لأسيوط بسبب خلاف حدث بين سعادة إبراهيم صبري باشا مدير أسيوط وأحمد حمدي بك حكمدار أسيوط عقب انعقاد المؤتمر القبطي، وعقب نقله لأسيوط منح النيشان العثماني الرابع، وقد أخلفه صاحب المعالي المرحوم إبراهيم فتحي باشا، وفي فبراير سنة 1914 منح رتبة الأميرالاي وتعين باشمفتشا لنظام الخفر بوزارة الداخلية، وفي سنة 1916 منح نيشان النيل من الطبقة الثالثة جزاء خدماته الصادقة وشهامته العالية. ثم عين مديرا لعموم مخازن البوليس، فأظهر نشاطا واقتدارا وكفاءة واكتشف اختلاسات في مخزن المهمات كادت تندثر لولا شدة يقظته وفائق ذكائه، وقدم مرتكبيها لمجالس التأديب، وقضى عليهم بالرفت لثبوت تهمة الاختلاس.
وعندما استقال جناب وايز بك المدير العام لقوة نظام البوليس والخفر بوزارة الداخلية، رأت حكومتنا السنية العادلة أن تسند هذا المنصب الكبير لصاحب الترجمة نظرا لجدارته وكفاءته في هذه الشؤون.
أخلاقه وصفاته
لين العريكة، دمث الأخلاق، على جانب عظيم من الوداعة، يميل بفطرته لعمل الخير وتعضيد البؤساء وهو والحق يقال نصير للفقراء يتألم لمصابهم ويتوجع لبؤسهم، ومن مميزاته الصراحة في القول والإقدام في العمل أكثر الله من أمثاله بين رجال الأمة.
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم الإداري حسين بك وهبي
كلمة المؤرخ
يحق لنا أن نأسف شديد الأسف لحرمان الحكومة والأمة معا من خدمات هذا الشهم الإداري الحازم، الذي لزم عقر الدار وهو في مقتبل الشباب وزهرة العمر، لا لجريمة ارتكبها، إنما هي الغايات والحزازات قضت بإبعاده من أعماله الحكومية، وأوجبت إحالته على المعاش دون أن يبلغ السن القانونية، فلقد كان صاحب الترجمة في كل أدوار حياته مثالا للنزاهة والجد والإقدام والكفاءة الشخصية، ولم يضره سوى كبير وطنيته وقوام مبدئه وثقته بالزعيم الجليل صاحب الدولة سعد زغلول باشا. وإن الأمة المصرية على بكرة أبيها لن تنسى له تلك الخدمات الشريفة التي أداها بكل شمم لخدمة الوطن المفدى، وهو إن ابتعد عن مركزه الحكومي فله في قلب كل مصري المقام السامي والمركز اللائق بشهامته وغيرته الوطنية.
حضرة صاحب العزة الشهم الإداري حسين بك وهبي باشمفتش النظام بوزارة الداخلية سابقا.
مولده ونشأته
الدنيا جنة أغصانها النشء، وثمار تلك الأغصان أعمال رجالها المجدين، هذا الشهم أثيل المجد عريق المحتد حسين بك وهبي أينع غصن في شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فهو سليل عائلة عربية كريمة في مصر شب على الأدب والفضل والاستقامة، ودخل المدارس الابتدائية فالثانوية وتربى على الآداب الإسلامية العالية فتراه لا يفوته فرض من فروض الصلاة، وقد صبت نفسه العالية منذ الصغر إلى الجندية ومفاخرها، فدخل المدرسة العسكرية وخرج منها برتبة ملازم ثان عام 1893م، وكان عمره في ذاك الحين ثمانية عشرة عاما وانضم إلى فرقة السواري.
أعماله في السودان
وذهب إلى السودان بقيادة إرل كتشنر سردار الجيش المصري وقتئذ لمحاربة المهدويين، وتطهير السودان من الفوضى التي عمت ربوعه، وأبدى من البسالة والشجاعة والذكاء ما أعجب المرحوم إرل كتشنر به، وأثنى عليه غير مرة بنشرات رسمية، وعندما انتهت هذه الحرب الشعواء كان اسم الملازم الثاني حسين أفندي وهبي في مقدمة أسماء الضباط الشجعان في هاتيك الحرب، ونال وقتئذ مكافأة على بسالته وشجاعته حيث منح الوسام المجيدي العالي الشأن وكذا ميدالية الحرب السودانية.
وعندما ساد السلام في السودان واستتب الأمن بين ربوعه كان صاحب الترجمة في جملة الضباط والشجعان، الذين اختارهم المرحوم كتشنر بفراسته المعهودة لإدارة البلاد وحكمها وتجديدها، فتولى حضرته عدة وظائف قام بها خير قيام مما أكسبه رضاء وثناء المرحوم إرل كتشنر، وخلفه الجنرال ريجينلد وينجت حاكم السودان العام السابق الذي كان كثير العطف على صاحب الترجمة، وأخذ يطريه ويمتدحه مدحا جزيلا كلما ذكر أسماء الضباط الذين خدموا بمعيته في تجديد السودان، وما انفك السير وينجت يثني عليه ويذكره بالخير إلى أن غادر الديار المصرية.
صاحب العزة حسين بك وهبي وهو بالبدلة الرسمية.
ترقياته العسكرية
ثم رأت الحكومة المصرية أن تكافئه على حسن جهاده، وشريف خدماته في السودان حربيا وإداريا فرقي إلى رتبة يوزباشي، ونقلته من السودان إلى مصر وأناطت باقتداره العمل في سبيل الأمن العام بتنظيم نظام الخفر، فقام بهذه المهمة على أحسن ما يمكن، وأدخل على مصلحة الخفر من النظم ما استوجب ثناء سعادة مستشار الداخلية، ومن ثم رقي حكمدارا لمديرية القليوبية على أثر تكاثر الجنايات فيها، فحقق نظر الوزارة وأعاد إلى البلاد الأمن والطمأنينة، ثم انتدبته وزارة الداخلية إلى مثل هذه المهمة بمديرية أسيوط، فترك بين أهلها الذكر العاطر والأثر المحمود، وكذا أوفدته وزارة الداخلية لهذه الغاية وعينته حكمدارا لمديرية الغربية، وهي كما لا يخفى أكبر مديريات القطر المصري، فأبدى فيها من الهمة وحسن الإدارة ما أعجب وأطرب، ولما اتصلت هذه الأعمال الفائقة والكفاءة النادرة بمسامع جلالة المليك المعظم فؤاد الأول أنعم عليه برتبة ميرالاي الرفيعة، وأبلغه رضاءه العالي بصورة مخصوصة.
ثم أناطت به وزارة الداخلية وظيفة باشمفتش النظام، وهي الوظيفة التي كان يشغلها أخيرا وقد تفضل جلالة مولانا المليك المعظم، فمنحه نشان النيل الرابع ثم الثالث، وأنعم عليه أيضا بنشان الإمبراطورية البريطانية لسياسته الحكيمة التي استعملها أثناء وجوده بمديرية الغربية في اضطرابات عام 1919، حيث كانت هذه الأعمال موجبة لثناء الأمة والسلطة واستوجبت رضى الجميع.
إحالته على المعاش
ونظرا للمنافسات التي كانت بين صاحب الترجمة ومدير مديرية الغربية عند وجوده بها، والذي كان وزيرا في عهد الوزارة الزغلولية، فقد انتهز فرصة تأييد صاحب الترجمة لمبدأ الزعيم الجليل لا سيما من إرساله البرقية التي قال فيها لدولة الزعيم: اقبل الوزارة ولا تتردد وأدر دفة الحكومة بيدك اليمنى وباليسرى زمام قياد الأمة. فقد نكل به هذا الوزير أشر تنكيل، إذ ما انعقد مجلس الوزراء لأول مرة في ذاك العهد حتى قرر إحالة صاحب الترجمة على المعاش دون أن يصل للسن القانونية، وهكذا حرمت الأمة المصرية من خدماته الجليلة وكفاءته النادرة.
صفاته وأخلاقه
الدعة التي لا ينفك لسان الرائي يلهج بالثناء عليها، ولين الجانب وحسن المعاشرة ودماثة الأخلاق والميل الكلي لإيصال عيش أولي الفاقة والعاطلين، للفقراء والمحتاجين، وبالإجمال فهو على جانب عظيم من التقوى والصلاح والصفات العالية والمواهب السامية.
ترجمة حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل أحمد بك لطفي السيد
مقدمة للمؤرخ
من نوابغ الرجال الذين تفتخر بهم مصر؛ لأنهم من سلالتها الخالصة وتباهي بهم رجالات الغرب في العلوم والأخلاق والفلسفة والآداب بما تركوه من حسن الأثر في جلائل الأعمال، وما حصلوا عليه من المراكز الممتازة في الهيئة الاجتماعية وبما أوتوه من الجد الفائق والذكاء الخارق، وبما اكتسبوه من التربية العالية والتبحر في العلوم القانونية والاجتماعية والسياسية، حتى بلغوا بذلك أسمى المناصب العلمية - الأستاذ أحمد لطفي السيد بك.
حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل أحمد بك لطفي السيد مدير الجامعة المصرية.
مولده ونشأته
ولد حضرة الأستاذ المترجم له في 5 ذي القعدة سنة 1288ه ببلدة برقين من أعمال مركز السنبلاوين بمديرية الدقهلية، وكان أبوه المرحوم السيد باشا علي رجلا ذا مواهب فطرية في قوة المراس والذكاء، ومكارم الأخلاق، وعزة النفس، وعفة اليد والقلب واللسان والنزاهة والصدق وما كان لأحد عليه فضل في ذلك سوى نفسه وتربية زمنه، فنشأ الأستاذ لطفي بك على هذه الخلال المرضية من طريق الموهبة الوراثية، ثم زاد عليها ما اكتسبته نفسه أو ما لقنه العلم الذي تلقاه في معاهده.
دخل الأستاذ في أول عهده مكتب برقين، ومنه انتقل إلى مدرسة المنصورة الأميرية، ومنها إلى المدرسة الخديوية بمصر فمدرسة الحقوق سنة 1889، ومنها تخرج حاملا «الليسانس» في أقل من سنواتها المدرسية، ولا يمكننا أن نقول: إنه انقطع بعد ذلك عن المدارس فلقد كانت له من نفسه مدرسة أخرى بما طالعه من مختلف الكتب في أنواع العلوم والفنون باللغتين العربية والفرنسية.
وعلى أن المترجم له ولد في بيت مجد وربي في معاهد علم ونشأ في كفالة أب ذكي مدرب - وهذه كلها أسس صالحة لبنيان الرجال - ولكنه كان ولنفسه أيضا على نفسه نشأة أخرى جعلت له ذاتية من صنع يديه، فكأنه وهو الناشئ في خير التقاليد الموروثة أبى إلا أن يكون ابن نفسه أو نسيج وحده كما ضرب المثل.
وظائفه وأعماله
قبل أن نذكر شيئا من الوظائف التي تولاها والأعمال الجليلة التي باشرها، نأتي هنا بطرف من أخلاق نفسه التي كانت هي قوام أعماله.
فالرجل نقادة يقدر الرجال بنظره، ذكي يعرف ما وراء الحديث بكلمة، أبي يهون كل شيء في سبيل كرامته، سخي ليس لنفسه ما ملكت يده، حيي للمستضعفين مصعر خده للمستكبرين.
ولو أن للطفرة مجالا لكان آخر ما تولاه من المناصب هو أول ما كان له في بدء حياته العملية، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها.
فما تخرج الأستاذ من مدرسة الحقوق سنة 1895 حتى تعين عضوا بالنيابة، فمساعدا فيها ببني سويف فالفيوم سنة 1896م، ثم صار وكيلا لها في ميت غمر سنة 1901 فنائبا للفيوم سنة 1904م، وفي سنة 1906م استقال من الحكومة واشتغل بالمحاماة إلى سنة 1908.
فهذه السنوات التي مضاها في الحقوق فالنيابة فالمحاماة قد أكسبته فوق مقدرته الشخصية، ومطالعاته الخاصة خبرة قضائية جعلته من صفوة رجال القانون والتشريع.
وفي سنة 1908 ألف حزب الأمة فكان ناموسه، وأنشئت الجريدة فكان مديرها، وبذلك ابتدأت حياته السياسية الأولى، وأضاف الأستاذ إلى ألقابه العلمية لقب «الكاتب الكبير والصحافي القدير».
ومن هاهنا تجلت مواهبه بلونها الناصع، في مجالها الواسع، فاتجهت إليه الأبصار بعد أن أصبح رجل الأقلام والمنابر، فالناس إن تنس لا تنسى خطبه الرنانة حين كان ناموس الحزب أو بعد ذلك في محاضراته السياسية أو الاجتماعية، ولا تنسى مقالاته الرائعة التي كان يمليها على قلمه الفياض قريحته الوقادة وذهنه الحاد.
نعم كانت جميع خطاباته ومقالاته حفيلة بالأفكار العالية، والآراء السديدة السامية فوق ما في أسلوبها الفذ من قوة البيان، وابتكار الموضوعات والألفاظ والمعاني.
فالجريدة في عهده كانت مبدأ نهضة أدبية مباركة، وكم ربت من كبار الكتاب والمفكرين والأدباء والشعراء من هم اليوم موطن الرأي في البلاد، كما أوجدت طورا جديدا في الحركة الفكرية والأخلاقية والسياسية، أساسها استقلال الوطن عن كل سيادة أجنبية، وقمتها أن تكون الأمة وحدها هي مصدر السلطة في الحكم.
وكان الأستاذ لطفي في هذه الحركة عرقها النابض ولسانها الناطق، غادر الأستاذ الجريدة سنة 1914م بعد أن ترك فيها أو في الأمة على أصح تعبير أحسن الأثر في مختلف نواحيها.
فمن الوجهة الأخلاقية كان في الأمة من يعيش على النفاق والرياء تقربا إلى ذوي السلطة والحكم، فأرى الناس أنه لا زلفى في الحق لأمير أو لوزير.
ومن الوجهة الاجتماعية كان فريق من المحافظين يستميت في القديم ويقدسه عن طريق الوراثة لا عن طريق العقل، فخرج عليهم بمبادئه الجديدة، فجذبت إليه أبصارهم سواء كان ذلك في أمر البيئة أو العادات الموروثة.
ومن الوجهة الأدبية، كانت طائفة من أرباب الأقلام تكتب بأسلوب مقيد، وتفكر في دائرة محدودة، فأطلق الأقلام بما كتب وفكر من تلك القيود العقيمة وكان إماما أو قائدا لدولة جديدة في الرأي والتعبير، ومن الوجهة السياسية كان بعض الزعماء يدعون الأمة بقبول سيادة خاصة، وإنهم وإن دعاهم حسن القصد في الخدمة الوطنية إلى هذا المنزع من الرأي، إلا أنه على نقيض ذلك كان يرى الحكمة في مجابهة هذا الرأي مهما استهدف للوم من أجله، وكانت هذه الحقيقة أكبر خدمة أداها الأستاذ لقومه وبلده.
مالت نفس الأستاذ لطفي بعد ترك الجريدة إلى العمل النيابي فانتخب عضوا في مجلس مديرية الدقهلية، فكان فيه مرجع الاستشارة ومصدر الآراء القيمة، على أنه ما لبث أن حن إلى بيئته الأولى القضائية فأجاب داعي الحكومة حين أسندت إليه رئاسة النيابة في بني سويف سنة 1915.
وحين خلا مركز مدير دار الكتب من شاغله الألماني اختير هو له ليكون أول مدير وطني يسد عن الأجنبي في هذا المركز الجليل، فنقل إليه وظل فيه إلى أن تألف سنة 1918 الوفد المصري المطالب لمصر بالاستقلال التام، فصادف ذلك هوى في نفسه وآثر الاستقالة ليتفرغ للخدمة في أكبر تطور سياسي أدركه، وكان في الحقيقة من الممهدين له من سنوات خلت كما تقدم بيانه.
جاهد في الوفد مع من جاهد ثم فاوض فيمن فاوضوا، ولكنه اعتزل السياسة بعد بلاء فيها، وحين رأى أن انقسام الآراء لا يجديه نفعا ولا يجد بها عاد إلى وظيفته بدار الكتب في سنة 1922 إلى سنة 1925، ومنها تعين أول مدير وطني للجامعة المصرية بعد انتقالها إلى يد الحكومة فأصبح بذلك في أكبر منصب علمي في الديار المصرية.
وللأستاذ سياحات عديدة في أوربا وبعض البلاد الشرقية، وكان القصد منها فوق طلب الرياضة الشخصية الدراسة العلمية والخلقية والمباحثات السياسية:
ففي سنة 1892 سافر إلى تركيا.
وفي سنة 1893 توجه إلى فرنسا.
وفي سنة 1897 قصد إيطاليا فسويسرا.
وفي سنة 1904 يمم سوريا فجبل لبنان والمدينة المنورة.
وفي سنة 1916 وما بعدها ذهب إلى فرنسا وإنجلترا مع الوفد المصري.
وحين كان بدار الكتب اشتغل بترجمة كتاب الأخلاق لأرسطو، وطبعه في جزأين ثم تنازل عنه بنفقاته للجنة التأليف والترجمة والنشر التي تتولى هي الآن نشره، وكان لظهور هذا الكتاب رجة في عالم الأدب والتأليف لما لصاحبه ولمترجمه من المنزلة الخاصة في علم الفلسفة والأخلاق، وللكتاب نفسه من الأثر العلمي والتاريخي.
هذه هي الأدوار التي مر بها الأستاذ المترجم له، وإذا كنا قد أتينا بشيء من صفاته الشخصية فجدير بنا أن نذكر هنا أنه كان في وظائفه التي تولاها رجل الجد والنزاهة والعدل، فالناس عنده سواء، وأحبهم لديه أصدقهم قولا، وأرفعهم نفسا، وأحسنهم عملا، وأكرمهم عنده أطهرهم يدا وأبرهم خدمة وأجزلهم نفعا، وإذا كان من فطرته حب الاستقلال في جميع الأعمال، فلقد كان يترك لمرءوسيه حرية العمل في دائرة القانون، ولا يجعلهم يحسون بالرقابة عليهم ثقة أن يجعلوا منها الرقابة على أنفسهم، فإن زل أحدهم عن فرط إهمال لا تأخذه فيه رحمة وإن بدر ذلك منه جدا.
وهو رجل مهيب بفطرته وربما كان في هيبته ما يغني عن استخدام شدته، على أنها ليست من طبيعته.
ثم هو فوق ذلك دمث الأخلاق لين العريكة بشوش عند اللقاء لا يكذب ولا يغتاب، أنيس في الألفة، وإن أحب العزلة، ميال للمطالعة وخصوصا في كتب الفلسفة والمنطق، غيور على أمته، وإن آلمه كثير من طبائعها.
وصفوة القول: إنه رجل والرجال قليل، أدامه الله لأمته وأسبغ عليه من نعمته، ووفقه إلى آماله وأكثر من أمثاله.
ترجمة حضرة صاحب العزة العالم الجليل الدكتور عبد الحميد بك أبو هيف
كلمة وجيزة للمؤرخ
حضرة صاحب العزة العالم الجليل الدكتور عبد الحميد بك أبو هيف مدير دار الكتب المصرية.
نابغة من نوابغ الأمة المصرية الذين تفردوا بالذكاء المفرط والجد والإقدام والخدمة الوطنية الحقة، ثم هو صورة حية للفضيلة والنزاهة وركن منيع للأدب والعلم وهو وإن كان كما يعهد كل مصري فيه لا يحتاج إلى مدح وثناء لما له في كل عمل أدبي أو علمي من الأثر الخالد والذكرى المحمودة إلا أن واجبنا يحتم علينا أن ندون تاريخه المجيد الحافل بجلائل الأعمال والمآثر الغراء؛ لما فيه من الأسوة الحسنة لمن يريد أن يخلد له الذكر في بطون التاريخ؛ ليكون خير نبراس يستضيء به أبناء الأجيال المقبلة.
مولده ونشأته
ولد الأستاذ أبو هيف بك صاحب الترجمة بمدينة الإسكندرية في 3 فبراير سنة 1888م، وهو ابن المرحوم السيد إبراهيم بك أبو هيف بن السيد خليل أبو هيف وهو شريف من سلالة النبي
صلى الله عليه وسلم
كذلك ينتمي نسبه من جهة والدته كريمة المرحوم السيد محمد عبد الحي البطاشي من أعيان إسكندرية بضعة الرسول
صلى الله عليه وسلم .
دخل الأستاذ في مبدأ نشأته التعليمية مدرسة الأقباط بالإسكندرية، ومنها إلى مدرسة جمعية العروة الوثقى التي نال منها الشهادة الابتدائية بتفوق عظيم بفضل غريزته في الجد والاجتهاد المصحوبين بالذكاء والنشاط، ومن ثم دخل مدرسة رأس التين الأميرية الثانوية متنقلا من سنة إلى سنة إلى أن نال شهادتها الثانوية عام 1905م، وتاقت نفسه الطماحة للمجد إلى دراسة القوانين، فدخل مدرسة الحقوق الخديوية وحصل على شهادة الليسانس عام 1909، وعلى أن لشهادة الليسانس هذه قيمتها العلمية الممتازة ، فإن مدى الأستاذ العلمي غير محدود بما فطرت عليه نفسه من الميل للاشتغال بالحقوق حتى لقد يعد من كبار رجال القانون في مصر؛ ولذلك فإنه ما كادت تظهر نتيجة الليسانس التي كان فيها ثاني الناجحين، حتى دعاه وزير المعارف في ذاك العهد «سعد زغلول باشا»، وطلب إليه أن يسافر إلى فرنسا ليعد نفسه لأن يكون مدرسا في مدرسة الحقوق نفسها، فصادفت هذه الدعوى هوى في نفسه فسافر إلى تولوز، فدرس في جامعتها الكبرى القانون والعلوم الجنائية وعلم المعاقبات وتعلم اللغة اللاتينية، ثم ساح في أغلب ممالك أوربا، وبعد أن حاز على الدكتوراه رجع إلى مصر.
تعيينه مدرسا بمدرسة الحقوق
عين الأستاذ عقب حضوره من فرنسا مدرسا في مدرسة الحقوق، وعهد إليه بتدريس مادة المرافعات المدنية والتجارية فأخرج فيها باللغة العربية أول كتاب من عمله، فكان مرجع رجال القضاء والمحاكم في كشف ما استعصى من مسائل المرافعات، وقد حل في تدريسه هذا محل أكبر عالم أجنبي عرف في المرافعات وهو السنيور أوجد لوزينا بك المحامي الشهير، فما مضت بضعة أشهر على تدريسه إلا وقد ظهر أثر علمه فكان موضع الفخر بين الطلبة والزملاء.
وفي سنة 1917 افتقرت مدرسة الحقوق إلى من يدرس القانون الدولي بقسميه العام والخاص؛ نظرا لتلبية الأساتذة الإنجليز والفرنسيين داعي الوطن أثناء الحرب العظمى، فطلب إليه تدريس هذا العلم فكان فيه أبرع من أهله وظهر له في عالم التأليف سفر نفيس في القانون الدولي الخاص باللغة الإنجليزية تفوق به على المؤلفين الأجانب، وشهد له بذلك كبار العارفين في مصر مثل الأستاذ أرمانجون، الذي كان مدرسا لهذا العلم نفسه في المدرسة، والسير موريس إيموس المستشار القضائي السابق الذي كان ناظر المدرسة الحقوق، والمستر والتون الذي تولى نظارتها بعده.
تعيينه ناظرا لمدرسة الحقوق
وفي شهر أكتوبر سنة 1922 ألقيت إليه كأول وطني مقاليد إدارة مدرسة الحقوق الملكية على أثر استقالة ناظرها الأجنبي، فكان أول همه جعل التدريس فيها باللغة العربية، وقد نجح في ذلك وأصبح كل العلوم يدرس بها ما عدا القانون الروماني.
ولما رأى أن المدرسة لم تكن لتقبل غير عدد محدود من الحاصلين على شهادة الدراسة الثانوية، يؤخذ بالترتيب كما يقبل عدد آخر يؤخذ بالاستثناء بناء على رغبة الوزير المختص عمل على إبداله، وفتح أبواب المدرسة على مصراعيها لطلاب الحقوق على السواء، ما دامت تتوافر فيهم الشروط القانونية، ثم أنشأ القسم الليلي فيها ليتلقى فيه الطلبة الخارجون دروسهم على نفس أساتذة المدرسة بعد العصر من كل يوم، وأغلب طلبة هذا القسم هم من الموظفين الناجحين في أعمالهم والطامحين إلى الرقي العلمي والمادي، فكانت التجربة ناجحة من أول يوم أنشئ فيه أي من يوم 18 نوفمبر سنة 1922 إلى يومنا هذا، ويؤمه الآن نحو ثلاثمائة طالب وبمناسبة هذا النجاح الباهر أقام له طلبة القسم الليلي حفلة تكريم كبرى في شهر يناير سنة 1923 في مدرسة المعلمين العليا برئاسة رئيس محكمة الاستئناف الأهلية معالي أحمد طلعت باشا، تبارى فيها الخطباء والشعراء منوهين ومهللين بفضل منشئ القسم الليلي المذكور، كما أقام له طلبة الحقوق جميعا حفلة تكريم حارة في شهر فبراير سنة 1925م على أثر نقله مديرا لدار الكتب المصرية، ظهر فيها أعظم آيات الإخلاص والولاء من خيرة شباب مصر الناهض، وتنافس المتنافسون من أدباء وخطباء بما لم يسبق عمله من قبل لأي أستاذ آخر، وفي ذلك الدليل الواضح والبرهان الجلي على ما لحضرة الأستاذ الجليل من الفضل والمنزلة الأدبية في قلوب أبنائه والشهرة العلمية بين طبقات الأمة المصرية، حتى أصبح يشار إليه بأطراف البنان.
بعض أعماله الفرعية
ومن أعماله المجيدة التي تخلد له بمداد الشكر والثناء قبوله وظيفة سكرتير بلجنة التعويضات، التي أنشئت في سنة 1919م لتخفيف مصايب من حلت بهم الخسائر من جراء اضطرابات تلك السنة وما بعدها، فكان خير معين للعاجز والفقير، وكان عنوان العدل والقانون في اللجنة وسطر له الثناء العاطر في تقريرها النهائي.
ومنها أيضا أنه في شهر سبتمبر سنة 1920م عرض على الأمة المصرية مشروع الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر، وهو المسمى بمشروع ملنر ، فحارت فيه الأفهام وظنه العدد الأكبر من الناس استقلالا، فأخرج المترجم له رسالة بعنوان: «التكييف القانوني لمشروع قواعد الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر»، فكانت نورا اهتدت به الأمة في دياجير الظلمة السياسية، وأثبتت الأيام صحة رأي صاحب التكييف أنه حماية.
مؤلفاته
وله من المؤلفات القيمة النفيسة الشيء الكثير نذكر منه ما يلي: (1)
حق اختصاص الدائن بعقارات مدينة في مصر وهو مكون من 300 صفحة.
Le Droit d’affectation sur les immeubles en egypte . (2)
المرافعات المدنية والتجارية والنظام القضائي في مصر. (3)
طرق التنفيذ والتحفظ في المواد المدنية والتجارية في مصر.
وهذان الكتابان في طبعتهما الثانية، ويقع كل منهما في ألف صفحة من القطع الكبير والحرف الصغير، وهما الحجة أمام المحاكم المصرية في مسائل المرافعات والتنفيذ. (4)
القانون الدولي الخاص باللغة الإنجليزية
A Concise Treatise in Private International Law . (5)
القانون الدولي الخاص في أوربا وفي مصر ويقع في نحو ألف صفحة، وهو خلاصة علم الغرب في القانون الدولي الخاص، والمحجة الكبرى في مادة تنازع القوانين والاختصاصات داخل القطر المصري. (6)
التكييف القانوني لمشروع قواعد الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر وهو مشروع «ملنر - زغلول».
هذا ملخص وجيز لتاريخ الأستاذ الحافل بجلائل الأعمال.
ولقد كان بودنا أن ندون تلك الخطب الرنانة والقصائد العامرة التي ألقيت لمدح هذا الأستاذ العظيم والأديب الكبير، لولا كثرتها وضيق المقام هنا، خصوصا وأنها تحتاج إلى مجلد ضخم، فنكتفي منها بالمختارات الآتية من القصائد فقط ملتمسين من حضرات القراء المعذرة:
قال شاعر النيل حافظ بك إبراهيم قصيدة غراء، وقد ألقاها في حفلة التكريم التي أقامها طلبة الحقوق للأستاذ عند نقله مديرا لدار الكتب، نقتطف منها الأبيات الآتية:
دار الحقوق ستبكي بعد عالمها
عبد الحميد ودار الكتب تبتسم
لا تحسبوا أن دار الكتب تحجبه
عنكم وأن عرى العرفان تنفصم
فبين داركم والله يحرسها
ودارنا رحم لم تعلها رحم
دور العلوم سواء في نفاستها
بها ومنها وفيها تنهض الأمم
فإن تنقل فيها وهو نيرها
فأيقنوا أنه لا زال عندكم
فللشموس بروج في تنقلها
وضوءها لبلاد الله ينتظم
ثم أنشد في الحفلة أيضا زكي أفندي عكاشة، الممثل المعروف الأبيات الآتية، وهي من نظم حضرة الشاعر البليغ الهراوي أفندي بدار الكتب المصرية:
هكذا البر والخلال الزكية
وسجايا أبناء مصر الوفية
دفعتهم إلى الوفاء نفوس
ذات صدق وغيرة وحميه
نشأت حرة بفضل أبي هي
ف مثال الوفاء والحرية
كرموا العلم والحقوق جميعا
في فتاها وكرموا الوطنية
وقال الشاب الأديب عثمان أفندي عبيد ضمن قصيدة:
دار الحقوق تحيي فيك نابغة
قد نال ما شاء من علم ومن أدب
فما ارتضى غاية في السبق نائية
مهما تكلف إلا جد في الطلب
لئن بعدت فما غابت مآثركم
وتلك أبقى على الأيام والحقب
مرافعاتك كنز لا نظير له
يسمو به عالم التأليف والكتب
وليس غيرك في التنفيذ من ثقة
به بلغت بحق غاية الأرب
وقال: (عبد الحميد) لنا في عودكم أمل
فإن معهدنا يسري إلى العطب
والبدر إن حجبت في السحب طلعته
يعود مؤتلقا في ذروة السحب
وقال أيضا:
هيهات أن ينمحي بالبعد ذكركم
أنت المقرب في بعد وفي كثب
فاقبل تحياتنا حرى مرددة
بألسن الصدق من أبنائك النجب
وقال الأديب المفضال محمود أفندي زهدي طالب ليسانس من قصيدة:
لا زلت تعظم والثناء ضئيل
ويزيد فضلك والمديح قليل
حملتني ما لا أطيق أداءه
شكرا وعجزي في القصور دليل
عبد الحميد وأنت أنت أبو الحجى
هب لي حجاك عساي فيك أقول
علمتنا معنى الوفاء فهل إلى
إيفاء حقك في الثناء سبيل
ونشرت ذكرك في القلوب وإنه
ذكر على مر الزمان جليل
وقال:
أضحى بفضلك كل عقل راجحا
وبنور علمك فاته التضليل
فاسلم لمصر وللعلوم جميعها
إن الزمان بمثلكم لبخيل
إلى أن ختمها بهذا البيت:
والله نسأل أن يبلغك المنى
إن الإله بنيلهن كفيل
صفاته وأخلاقه
وديع الأخلاق كريم النفس ذكي الفؤاد بشوش الطلعة طاهر القلب، لين العريكة أديب بكل معنى الكلمة، وعالم قانوني متضلع عادل الحكم محبوب عند عارفيه مهيب الجانب ذو أثر خالد في جميع أعماله.
أدامه المولى وأبقاه وأكثر من أمثاله بين رجال الأمة المصرية.
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم المهذب عمر بك الشواربي
كلمة للمؤرخ
لو أن كل سري من سراة الأمة المصرية ربى أولاده التربية الحقة التي ترفعهم إلى درجات الرقي والكمال، والمستوى اللائق بشرف أسرهم ودفع بهم إلى الغرب حيث هناك الجامعات العلمية العالية، فاغترفوا من بحور علومها حتى إذا ما عادوا لأوطانهم أمكنهم أن يقوموا بالواجب المقدس المفروض عليهم نحو بلادهم، إذن لوجدنا أمامنا رجالا عاملين مخلصين مجدين نحو خدمة بلادهم أمثال هذا الشاب النابه، والعامل المجد الذي يسرنا كما يسر كل والد أن يرى أبناءه قد حذوا حذوه، وسلكوا مسلكه وسعوا سعيه، فبقلم الفخر والإعجاب ندون تاريخه المجيد ضارعين للحق تعالى أن يهيب شبابنا سداد الرأي، وصائب العمل لخير البلاد ونفع العباد، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
حضرة صاحب العزة الشهم المهذب عمر بك الشواربي من كبار وجهاء مديرية القليوبية.
مولده ونشأته
هو غصن شجرة خضراء، وسليل بيت من أمجد عائلات القليوبية وأعرقها حسبا ونسبا، تربى في أحضان العز والرفاهية فكان نجمه سعيدا وطالعه عاليا، كأنما السعد كان رفيقه والعز نصيبه ترعرع في أحضان النعمة، وتربى التربية اللائقة بأمثاله وكان مولده المبارك في سنة 1893 ميلادية، ولما كان عمره خمس سنوات تدرج على التعليم الأولي بواسطة معلمين أخصاء، حتى إذا ما بلغ التاسعة أدخله المرحوم والده الجليل المدرسة الابتدائية الأميرية، فكان في مقدمة إخوانه الطلبة ذكاء ونشاطا، وثابر على التعليم وتلقى مبادئه الصحيحة، فنال شهادتها والتحق بالمدارس الثانوية فسار إلى سلم التقدم والنجاح، حتى أحرز شهادة الدراسة الثانوية «البكالوريا» في سنة 1912م وقد طمحت أنظاره إلى المزيد من العلوم، فسافر إلى إنجلترا عام 1913م وعرج في طريقه على مدينة نابولي من أعمال إيطاليا، ثم رحل منها إلى فرنسا حيث تمم مرسيليا، ومنها إلى باريس حيث شاهد فيها ما شاهد من المناظر المدهشة والكليات العلمية العظيمة، والأبنية الفخمة التي تدل على حسن ذوق الفرنسيين، ومن ثم رحل إلى إنجلترا وليرى بنفسه رقي تلك البلاد العامرة بالصناعة والتجارة، وكان نصيبه أن التحق بإحدى كليات أكسفورد الشهيرة، وبقي هنالك يستقي من علومها العذبة ما أهله لأن يكون رجلا نافعا مفيدا لبلاده.
وإذا رأيت من الهلال نموه
أيقنت أن سيكون بدرا كاملا
ومكث في هذه الكلية مكبا على الدراسة ساهرا على البحث فيما يفيده من علوم رياضية واقتصادية وغير ذلك، حتى إذا ما برق بارق أمله أشعلت نيران الحروب الأور بية، واضطرمت تلك البلاد بشرر المصائب فخاف من البقاء بها، فعقد النية على العودة للوطن المفدى حتى ترجع مياه السلام لمجاريها، فيعود إليها مرة أخرى، وما زال عاكفا على المطالعة في ثمين الكتب من أدب وهندسة وفلسفة وغيرها في كل برهة يخلو فيها.
أخلاقه
جمع من الأدب أكمله وحاز من اللطف أجمله، أبي النفس، رقيق الإحساس طيب القلب، عالي الهمة - وبالإجمال فهو كما قال فيه الشاعر:
كملت شمائله فكان نموذجا
للناشئين على الفضيلة والأدب
أدامه الله وأبقاه وزاده علما وأدبا ليكون نبراسا يستضيء بنوره العاملون.
ترجمة حضرة صاحب العزة توفيق بك خليل
كلمة للمؤرخ
للوالدين الأتقياء فضل عظيم في ملاحظة شؤون تربية أولادهم منذ الصغر، وتعهدهم بتثقيف عقولهم وتغذية مداركهم حتى إذا ما قطعوا هذه المرحلة الوعرة وشبوا عن الطوق، ودخلوا ميدان الحياة كانوا حقا من رجال الأمة العاملين على رفع لواء مجدها وسعادتها وتركوا الذكر الحسن، وهاكم هذا الشهم الفاضل الذي اقتبس من تقوى والده واستقامته وصلاحه، ما جعله من رجال الأمة العاملين الفالحين، وأصبح يشار إليه بالتجلة والاحترام، وإنا نفخر كما يفخر كل محب يريد السعادة والرفاهية لأبناء جلدته، كما نسطر ترجمته الشريفة بالإعجاب سائلين الحق أن يهدي شباب الكنانة إلى ما فيه إسعادها وخيرها.
حضرة صاحب العزة توفيق بك خليل سكرتير «كنشلير» قنصلية مصر بمدينة جنيف بسويسرا.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة بالقاهرة سنة 1880م وتغذى بلبان الفضل في بيئة صالحة تقية، وأدخله والده كلية الآباء اليسوعيين بالقاهرة، فشب على الكمال وكان مثال الجد والذكاء والنشاط، واستمر بها حتى أتم علومه وحاز أعلى شهاداتها والتحق بإحدى كليات فرنسا، واغترف الكثير من علومها حتى نال جزاء تعبه ومجهوده، وكان موضع إعجاب أساتذته الأجانب لما توسموا فيه من الذكاء الخارق ، ومواصلة ليله بنهاره على تلقي العلوم كما اشتهر بين أقرانه الطلبة بالاستقامة، حتى حفظوا له مكانة خاصة تتناسب مع بعد نظره ومقداره إخلاصه الوطني، الذي كان موضع إعجاب كل عارفيه منذ نعومة أظفاره، ذلك الإخلاص الذي دفعه إلى خدمة بلاده بكل ما أوتي من قوة، إذ قد يختار كل مخلص الطريق الذي يسلكه لخدمة وطنه المحبوب بحسب ميوله الفطرية ومميزاته الخصوصية، فالتاجر يخدم أمته في دائرة أعماله وهي التجارة، التي يميل إليها بفطرته، والزارع مثلا يجد باهتمامه بالشؤون الزراعية التي يميل إليها، كذلك العالم يخدمها باشتغاله بالعلم، وقد رأى صاحب الترجمة أن خير وسيلة يتمكن بها من أداء واجبه نحو بلاده، هو أن يكون أحد العوامل الحية في جسم الحكومة، فتقلب في جملة مناصب رئيسية بالسكة الحديد المصرية، فأظهر من الحكمة وسداد الرأي والمهارة ما جعل المناصب التي تقلدها تفاخر به، حتى إنه نقل إلى وزارة المواصلات فتضاعفت جهوده وخدماته لأمته؛ لأن الإنسان بطبيعته إذا رأى نجاحه فيما سعى إليه تضاعفت جهوده، وتلذذ بالمتاعب في سبيل المصلحة، فكان موضع محبة رؤسائه ومرؤسيه، وهو جدير بأن يملك قلوب عارفيه بما هو عليه من دماثة خلق وكرم طبع، ولما رغب أخيرا في تعيينه سكرتيرا خاصا لحضرة صاحب المعالي وزير المواصلات، طلبته وزارة الخارجية فعين سكرتيرا «كنشلير» لقنصلية مصر بمدينة جنيف بسويسرا، فكان ولم يزل مثال الجد والاستقامة، ومما يذكر عنه أنه اكتسب الشيء الكثير من تجوله في أنحاء أوربا وبعض جهات الشرق، فعرف كثيرا من مميزات الأمم.
صفاته
عالي النفس، كريم الأخلاق، ميال بطبيعته إلى الخير، كثير المحبة للفقراء والبؤساء، يحترم كل من يبدي له رأيا صائبا، وبالإجمال فهو على جانب عظيم من كمال الخلق.
أطال الله حياته وأكثر من أمثاله.
ترجمة حضرة صاحب العزة نقولا بك خليل
كلمة للمؤرخ
إذا توافر الأدب والذكاء مع العلم الصحيح في شخص، فبشره بحسن الطالع وسعادة المستقبل والوصول بصاحبه إلى المركز اللائق بهذه المميزات في الهيئة الاجتماعية، ويسرنا أن يكون أيضا حضرة صاحب الترجمة من أولئك الأفذاذ الذين وهبوا هذه الصفات الفريدة والمواهب السامية، وإننا نغتبط سرورا من إثبات ترجمته هنا لعل يكون في إثباتها هدى ونورا لقوم يعقلون.
حضرة صاحب العزة نقولا بك خليل سكرتير سفارة الحكومة المصرية لدى الولايات المتحدة بواشطن سابقا والمنقول أخيرا إلى براج.
مولده ونشأته
ولد بالقاهرة سنة 1882 من أبوين كريمين أحسنا تربيته، وخير ما يورثه الآباء للأبناء التربية والذكر الحسن، فقد التحق بكلية الآباء اليسوعيين، فكان فيها الطالب المجد الذي لا يلهيه ما تزينه للصبية عقولهم البسيطة من تشاغله عن الدرس، وضياع الوقت فيما لا يفيد من لعب وغيره، بل بالعكس وهو في تلك السن الصغيرة كان يقسم وقته ما بين جد ورياضة، كثير الاهتمام بضبط كل وقت لما خصص له، فكان موضع عطف معلميه واحترام إخوانه ومحبة ذويه، فاستمر في هذه الكلية حتى تمم دروسه فالتحق بمدرسة الحقوق الملكية، حيث كان مثال الجد والذكاء، فكبرت معه مميزاته الخصوصية التي كانت أساس إحرازه الشهادات العالية.
إن تلك النفس العالية الحرة العزيزة التي فطر عليها كانت تطمح إلى أن يكون ذلك القانوني الضليع، يفهم قضية أمه مصر فيخدمها ويكون محاميها المخلص، فبعد أن أتم الدراسة اشتغل بالمحاماة أمام المحاكم الأهلية فكان المدره المفوه يزهق الباطل بفصيح لسانه وقوة بيانه وساطع برهانه، فعين وكيلا للنائب العمومي فكان مثال النظر الثاقب، والمقدرة الفائقة على كشف الستار عن كثير من القضايا، فكان هو النزاهة المجسمة رجل العدل والقسطاس المستقيم، سديد الرأي، يرغب في الصلح بين المتخاصمين، فكانت أحكامه أمثلة قانونية عادلة يصح أن يستشهد بها رجال القانون، ورجل كهذا جدير بما أولاه إياه صاحب الجلالة الملك الدستوري فؤاد الأول حرسه الله، فعينه سكرتيرا لسفارة الحكومة المصرية لدى الولايات المتحدة في واشنطن، ومنها إلى سفارة براج، ومن الثابت أن سفارتنا في الخارج هي صورتنا التي نحب أن نتمثل بها، فلا يختار لها إلا خيرة رجالنا الذين يكونون أحسن صورة لنا في البلاد الأجنبية، وقد أنعم على عزته بنشان النيل جزاء كفاءته وإخلاصه.
صفاته
رجل العدل ومثال النزاهة، وإنه لعلى خلق عظيم، ميال للخير محب لإصلاح ذات البين، مثال الجود، وديع لا يرى غير مبتسم، أبقاه الله لأمته ولا أحرمها من خدماته.
ترجمة حضرة صاحب العزة الإداري المفضال إسكندر بك مسيحه
مقدمة للمؤرخ
جزى الله العاملين المخلصين لخير البلاد ونفع العباد خيرا، وأثابهم على جلائل خدماتهم ومجهوداتهم الطيبة ثوابا عظيما، فإن أولئك الذين يراعون حقوق المظلومين ويقضون على الظالمين بالعدل، ويضحون في سبيل تخفيف آلام البائسين والبائسات شطرا عظيما من راحتهم لهم المقربون عند الله تعالى، وإننا نرى في تاريخ حضرة صاحب الترجمة مثلا حيا لمن يريد التقرب نحو عزته الإلهية، فقد قدم لبلاده بوجه عام ولطائفته بوجه خاص خدما جليلة دلت على عدله ونزاهته، وسمو تربيته ومكانته الإدارية، مما أرضى الله والناس أجمع، واستوجب كل شكر وثناء مواطنيه الكرام، الذين عرفوا فيه الصفات الممتازة والخصال النبيلة، التي قل أن توجد في كثير من العظماء، فمن المميزات الخاصة التي امتاز بها حضرة صاحب العزة إسكندر بك مسيحه صاحب هذه الترجمة نبوغه في الشؤون المالية والإدارية مما أعجب كبار الممولين من مصريين وأجانب ومما دعا لانتخابه عضوا لمجلس إدارة بنك مصر، ذاك البنك الذي مع حداثة تأسيسه وصل بفضل أعضائه ومؤسسيه إلى مصاف المصارف الكبرى، من حيث حسن الإدارة والكفاءة العلمية والعملية وثقة الشعب المصري برجاله العاملين المفكرين.
حضرة صاحب العزة الإداري المفضال إسكندر بك مسيحه مدير إدارة بطريكخانة الأقباط الأرثوذكس والعضو بمجلس إدارة بنك مصر.
مولده ونشأته
هو نجل المرحوم مسيحه أفندي حنا من رؤساء إدارات وزارة المالية سابقا. ولد صاحب الترجمة في 17 ذي القعدة سنة 1280ه، وتعهده والده بالتربية العالية، وفي 21 برمودة سنة 1591 قبطية انتظم في سلك الوظائف الحكومية بوزارة المالية، ثم عين بدائرة بلدية مصر في 11 سبتمبر سنة 1875 ميلادية، ثم أعيد لوزارة المالية للمرة الثانية في 16 أكتوبر سنة 1881م، ومكث بها حتى يوم 3 ديسمبر سنة 1915 حيث قدم استقالته بعد أن اشتغل باستمرار مدة أربعة وثلاثين عاما في وظائف عدة في تلك الوزارة كان ختامها رئيسا لإدارة الخزينة العمومية، وكان محافظا في كل أدوار حياته على استقالته بعد أن اشتغل باستمرار مدة أربعة وثلاثين عاما في وظائف عدة في تلك الوزارة كان ختامها رئيسا لإدارة الخزينة العمومية، وكان محافظا في كل أدوار حياته على استقلاله وكرامته الشخصية، كما كان مثالا للجد والنزاهة؛ ولذلك أنعم عليه بالرتبة الرابعة في 23 ذي القعدة سنة 1324 وبالرتبة الثالثة في 4 جمادى الآخرة سنة 1328ه، وبنشان النيل من الطبقة الرابعة في 29 جمادى الثاني سنة 1334ه.
وبما أن الديوان البطريريكي للأقباط الأرثوذكس كان قد وصل في ذاك الحين الى حالة سيئة، سواء من الوجهة المالية أو الإدارية فقد وقع اختيار المجلس الملي العام بموافقة غبطة البطريرك المعظم على صاحب هذه الترجمة؛ ليكون مديرا عاما لإدارة هذا الديوان، وإصلاح ما اختل به من شؤونه، وفعلا أصدر المجلس قرارا بتاريخ 2 نوفمبر سنة 1916، وقد وقع هذا الاختيار موقع السرور في قلوب الطائفة القبطية الأرثوذكسية نظرا لما لعزته من المقدرة والكفاءة والخبرة التامة في مثل هاته الشؤون، ومع أن استقالته من الوظائف الحكومية كان أساسها الرغبة في الاستراحة من عناء الأعمال، إلا أن صاحب الترجمة لم ير مناصا من تلبية هذا الطلب والقيام بأعمال هذا المنصب رغما عما يستلزمه من المجهودات، وذلك حبا في الخير العام، وفي الواقع قد حقق الآمال التي كانت مرجوة من إسناد هذا المركز إليه، فإنه بفضل مجهوداته تحسنت حالة مالية البطريكخانة تحسنا واضحا، وانتظمت أعمالها الإدارية فانقطعت أسباب الشكوى التي كان يبديها على الدوام أصحاب الأعمال، وذلك بما أدخله من الأنظمة الحديثة على كل فروع أقلام الديوان؛ لذلك شكره المجلس الملي العام وغبطة البطريرك على هذه الخدمات الجليلة.
ولظروف حالت دون استمراره في المجهودات الإصلاحية، التي كان أخذ على عاتقه القيام بها قدم استقالته، فسعى المجلس لعدوله عن هذه الاستقالة غير أن صاحب الترجمة صمم عليها، فاضطر المجلس إلى قبولها، وأرسل إليه بتاريخ 18 نوفمبر سنة 1919 جواب شكر على ما قام به من الأعمال الجليلة.
بعد ذلك انتخبه المؤسسون لشركة مساهمة بنك مصر ، التي صدر المرسوم السلطاني بتاريخ 3 أبريل سنة 1920 باعتمادها؛ ليكون عضوا في مجلس إدارة هذا البنك الذي خطا خطوات واسعة في سبيل النجاح والنماء، وقد حدث بعد استقالة صاحب الترجمة من أعمال الديوان البطريريكي أن رأي المجلس المللي العام بموافقة غبطة البطريرك، أن الحالة ماسة إلى إعادته مديرا لأعمال هذا الديوان للمرة الثانية، وقرر ذلك فعلا بجلسة يوم 20 نوفمبر سنة 1920، فلم ير صاحب الترجمة تلقاء سعي حضرات أعضاء المجلس إلا أن يقبل هذا القرار رغبة منه في الخير لذاته، فاستأنف مجهوداته السابقة، وقرر المجلس في 11 أبريل سنة 1921 أن يكون له حق الحضور في كل جمعية عمومية.
ثم تجدد انتخابه عضوا بمجلس إدارة بنك مصر في الجمعية العمومية التي عقدت في 29 مارس سنة 1923.
وفي 25 مايو سنة 1923 انتخب عضوا لمجلس الجمعية الخيرية العام للأقباط الأرثوذكس، وعندما تحولت شؤون نظر الحضانة والقوامه والأوصياء على المجلس الحسبي، عين حضرة صاحب الترجمة عضوا معينا من قبل ذلك المجلس للنظر في شؤون أبناء طائفته.
ثم إظهارا للارتياح التام من الأعمال النافعة، التي قام بها صاحب الترجمة بالديوان البطريريكي رجا المجلس الملي العام بجلسة أول يناير سنة 1923 غبطة البطريرك في مخابرة الحكومة، بالتماس الإنعام عليه برتبة البكوية من الدرجة الأولى مكافأة له، وتقديرا لخدماته المتواصلة، فطلب غبطته من رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 7 مارس سنة 1923 وبتاريخ 19 يناير سنة 1924 العرض للاعتاب الملوكية بمنحه هذه الرتبة، وبناء على المذكرة التي رفعها حضرة صاحب الدولة وزير الداخلية بتاريخ 16 فبراير، سنة 1924 لرئاسة مجلس الوزراء، تعطف حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول أدامه الله بمنح صاحب الترجمة رتبة البكوية من الدرجة الأولى، وتسلمت إليه البراءة الخاصة بها المؤرخة 22 رجب سنة 1342ه، بعد أن حظي بشرف المثول لدى جلالة الملك، ونال من العطف الملوكي ما أطلق لسانه بالدعاء. وإليك صورة المذكرة المرفوعة من حضرة صاحب الدولة وزير الداخلية بتاريخ 16 فبراير سنة 1924:
لحضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء
طلب غبطة بطريرك الأقباط الأرثوذكس بالقاهرة بكتابة دوسيه رقم 10-2-19، بناء على طلب المجلس الملي العام الإنعام برتبة البكوية من الدرجة الأولى على حضرة إسكندر أفندي مسيحه؛ لأنه منذ أسندت إليه وظيفة مدير الديوان البطريريكي برهن على كفاءة ممتازة، حيث أدخل الترتيبات والأنظمة بفروع الإدارة، مما نشأ عنه حسن سير الأعمال وضبط الإجراءات وازدياد موارد الإيرادات، وفضلا عن ذلك فإنه يؤدي عملا خيريا بصفته عضوا بالمجلس الملي العام للجمعية الخيرية القبطية الكبرى، وهو في الوقت نفسه أحد أعضاء مجلس إدارة بنك مصر. وقد رأينا نظرا لهذه الخدمات التي يؤديها إجابة الطلب، فنرجو التفضل برفع أمر حضرته إلى الأعتاب الملكية بالتماس الإنعام عليه برتبة البكوية من الدرجة الأولى، مع الإحاطة بأن آخر إنعام عليه كان بالرتبة الثالثة في شهر يوليو سنة 1910، ونيشان النيل في أوائل سنة 1916 وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
16 فبراير سنة 1924
وزير الداخلية
سعد زغلول
ختم
صفاته
رجل الذمة والشهامة والمروءة طيب الطباع حسن المعاشرة لطيف الأخلاق، وديع محسن يقدر التربية والتعليم فوق كل اعتبار، وأكبر برهان على ذلك تربيته لأولاده وتعليمهم التعليم الراقي، ولا غرابة فهو والد حضرتي الدكتور نجيب إسكندر والأستاذ راغب إسكندر المحامي، العضوين بمجلس النواب، الأول عن مدينة مصر «دائرة شبرا»، والثاني عن دائرة النعناعية من أعمال مديرية المنوفية.
ترجمة حضرة صاحب العزة المفضال حنا بك عياد
كلمة للمؤرخ
أدرك صاحب الترجمة ألا قيمة للمرء في الحياة الدنيا إلا بالسعي وراء ما يخلد للإنسان بالفخر والإعجاب في سجل التاريخ، فسعى هذا المسعى المحمود وشمر عن همة عالية وكفاءة نادرة وخطا خطوات واسعة في سبيل البر وعمل الخير، فحاز رضى الخالق والمخلوق، واستوجب شكر المروءة والإنسانية على ما قدمت يداه من عمل خالد وذكرى حسنة تدوم له بالفخر ما دامت السماوات والأرض، وإنا وإن أثنينا على ما قام به هذا الشهم المفضال من جلائل الخدم نحو الإنسانية ونحو بلاده، وأثنينا في هذا السفر التاريخي ما نعرفه عنه، فلا يتوهم القارئ أن هذه الأعمال هي مجمل آثاره البيضاء الغراء، وإن هي إلا قطرة من بحر فضله وغزير جوده.
حضرة صاحب العزة المفضال حنا بك عياد مدير إدارة عموم الأموال المقررة بوزارة المالية سابقا.
مولده ونشأته
ولد صاحب العزة المفضال حنا بك عياد في بندر رشيد في 21 أكتوبر، سنة 1861 من أبوين كريمين شريفين اشتهرا بالتقوى والصلاح، وربياه على الفضيلة والتمسك بأهداب الاستقامة، وأدخله والده المدارس الأهلية بالإسكندرية، فاغترف من بحور علومها، وكان موضع إعجاب أساتذته نظرا لجده واجتهاده، وانكبابه على تلقي العلوم بشغف عظيم.
وما كاد ينتهي من دور العلوم حتى لحق بعموم الجمارك بالثغر الإسكندري في أول فبراير سنة 1876، وظل بها لغاية 19 نوفمبر سنة 1877، ثم نقل إلى قلم الموازين بوزارة المالية ومكث به لغاية 9 نوفمبر سنة 1879، فكان في وظيفته هذه ميزانا صادقا في حسن الاستقامة والنشاط في العمل، ثم نقل بقلم التحريرات بوزارة المالية أيضا، ومكث بها حتى 3 سبتمبر سنة 1892 ثم نقل لقلم السكرتارية الإفرنجية بالوزارة نفسها، وظل عاملا مجدا بها حتى 2 أبريل سنة 1894، ونقل منها إلى إدارة عموم الأموال المقررة بوظيفة رئيس قلم المستخدمين بها، ثم تدرج لوظائف أخرى، وأخيرا تعين مديرا، ومكث في وظيفته هذه لغاية 21 أكتوبر سنة 1921 ثم أحيل على المعاش.
هذا مجمل حياة الرجل الإدارية وإلى هذا الحد وصلت خدماته الحكومية، ولكن من تأمل للخدمات الجليلة التي قدمها للحكومة والمساعدات الطيبة التي أداها لبني وطنه، والتي أبي علينا إثباتها هنا خدمة للتاريخ تواضعا منه لاستطاع القارئ أن يحكم عن حق وصدق بأنه فذ قد أنجبته الطبيعة لخير الإنسان ولمحض عمل الخير، فهو بلا جدال نصير الإنسانية وغرس المروءة.
أعماله الخيرية
أوجدت الطبيعة كل صفات العطف والمروءة والحلم بين جنبي هذا الفذ، فتحركت أوتارها ضاربة على نغمة الأخذ بيد الفقير ومساعدة المحتاج مع بذل المستطاع لإرضاء إخوته في الإنسانية، فطالما رأيناه يواسي ويكفكف دموع الحزانى والفقراء، ويمدهم بالمساعدات المالية من حين لآخر، فينطلقون وألسنتهم لاهجة بالدعاء بطول حياته.
وقد عين في 30 نوفمبر سنة 1909 عضوا في المجلس العام للجمعية الخيرية القبطية الأرثوذكية، ثم مراقبا لحساباتها ثم عين نائبا لها، وهكذا ظل يخدم الأعمال الخيرية بكل ما أوتي من قوة وحنكة، وميل غريزي ولد معه حتى الآن .
الرتب التي حازها
أنعم عليه بالرتبة الثالثة سنة 1910 من الخديوي عباس حلمي باشا السابق، والثانية سنة 1912 منه أيضا وبالبكوية من الدرجة الأولى سنة 1921 الموافقة 7 رجب سنة 1340 من جلالة الملك فؤاد الأول.
صفاته وأخلاقه
نعود فنكرر بعض صفات المترجم له، الذي جبل على كرم الأخلاق والتواضع، وشب على العطف بالبؤساء ومساعدة الذين أخنى عليهم الدهر بكلكله، فاستحق كل شكر وثناء من الخالق والمخلوق، وبات كل فرد من هؤلاء التعساء قانعا بهذه التعطفات المرضية.
فبمثل هذا العالم العامل الذي كرس البقية الباقية من حياته السعيدة في تخفيف آلام الفقراء والفقيرات فليتنافس المتنافسون.
متعه الله بالصحة وشمله بالسعادة والهناء.
ترجمة حضرة الشهم الوطني الغيور عفيفي بك حسين البربري
مقدمة للمؤرخ
أعيتنا كل حيلة ووسيلة للحصول على معلومات وافية بالمقصود يكون لها علاقة بتاريخ حياة هذا الوطني والعامل المجد، صاحب المبدأ الثابت والوطنية الصادقة والذي لا يمكن لمصري تظله سماء مصر، وشرب جرعة من نيلها المبارك أن يجحد فضله وعظيم خدماته نحو بلاده.
وقد أبى علينا حضرته معاونتنا بإعطائنا هذه المعلومات الهامة؛ لنقوم بإثباتها هنا خدمة للتاريخ، رغما من كثرة ترددنا على سرايه العامرة بمصر القديمة؛ ذلك لأن الرجل بعيد كل البعد عن حب الظهور والتبجح بالوطنية قائلا: إنه لم يقم بأي عمل يستحق أي شكر وثناء، وإن هو إلا فرد عمل مع العاملين على نهضة بلاده ورفع لواء مجد الكنانة.
وإننا وإن شكرناه على هذا التواضع وإنكار الذات ونفوره الشديد من التنويه بجلائل أعماله وصدق خدماته إلا أننا نعارضه في فكرته هذه التي أحرمت حضرات القراء الكرام من الاطلاع على صحيفة نقية بيضاء، خالية من كل شائبة ناطقة له بالشكر والثناء؛ لتدوم في بطون التاريخ بالفخر والإعجاب ما دامت السماوات والأرض.
حضرة صاحب العزة الوطني الغيور عفيفي بك حسين البربري كبير وجهاء مصر القديمة والعضو بمجلس الشيوخ المصري.
وليعذرنا حضرة القارئ الكريم، والحالة هذه إذا نحن اقتصرنا على ذكر القليل من الكثير من أعمال هذا الشهم الغيور، وأثبتنا قطرة من بحر خدماته فنقول :
مولده ونشأته
ولد هذا الشهم الفاضل في مصر «القاهرة» عام 1880 ميلادية من أبوين كريمين شريفين، اشتهرا بالفضيلة والتقوى فالوالد هو المرحوم حسين أحمد البربري، الذي اتصف بالوداعة وكرم الأخلاق وعلو النفس، والعطف على البؤساء والبر بالفقراء، فأدخله المدارس الأميرية المصرية، فأقبل على ارتشاف العلوم بشغف عظيم، حتى إذا ما كملت صفاته وتجلت مواهبه ترك دور العلوم ليعمل لمستقبله، ففضل الاشتغال بالشؤون الزراعية لعلمه أن عليها وحدها تتوقف ثروة البلاد، فشمر عن ساعد الجد وأخذ يعمل في أطيانه الخاصة بعزيمة ماضية، وهمة عالية واكتسب خبرة عظيمة مكنته من مضاعفة مقدارها، وأصبح موضع احترام وإعجاب الجميع خصوصا لشرف معاملاته وصدقه، وطهارة ذمته لدى الجميع ولطفه وعالي مروءته.
خدماته الوطنية الصادقة
وقد بدأت وطنيته تتجلى بأجلى معانيها منذ قامت مصر بحركتها الوطنية العامة، وقامت قيامتها لنوال حقها في الاستقلال التام، فتألفت لجان كثيرة من رجال الوفد المصري المخلصين في جميع أنحاء القطر المصري، فما كان من اللجنة التي ألفت بدائرة مصر القديمة إلا وانتخبت من بينها حضرة صاحب الترجمة رئيسا، وأخذت تجاهد وتناضل وتعمل عمل الأبطال المخلصين حتى نال شهرة لا حد لها، وأصبح يشار إليه بأطراف البنان وقد اتصلت هذه الشهرة، وتلك البطولة بأسماع الزعيم الجليل حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا، وتحقق من صدق إخلاصه وكبير وطنيته، فلم يبخسه حقه في المدح والثناء عليه، بل صرح في كثير من خطبة التي ألقاها على المخلصين من رجاله باستحالة وجود من يضارعه، أو يشبهه في ثبات المبدأ وصدق الإيمان الوطني الراسخ والجهاد المتواصل.
وقد انتخب حضرته عضوا عن دائرة مصر القديمة لمجلس النواب المصري في الانتخابات البرلمانية الأولى بأغلبية ساحقة، ولكن أبى تواضعه وكرهه الشديد للأنانية وحب الذات قبولها، بل تنازل عنها للأستاذ عبد الحليم البيلي المحامي، وفي هذا التنازل لأكبر دليل على بعده عن الخيلاء الكاذبة والجعجعة الفارغة، وأن لا مقصد له من دخوله ميدان الجهاد الوطني سوى أن يرى بلاده قد نالت حقها من الاستقلال التام، مهما كلفه هذا الجهاد من متاعب ومشاق وذاق في سبيله كل اضطهاد.
وليس في مقدورنا مهما أوتينا من قوة الإدراك وصفاء الذهن أن نأتي على كل ما أداه من جلائل الخدم نحو بلاده، مما يخلد له في بطون التاريخ بمداد الفخر والإعجاب ما دامت السماوات والأرض.
وقد حفظ له أهالي مصر القديمة تلك الخدمات العظيمة والوطنية الحقة، فأجمعوا على انتخابه عضوا لمجلس الشيوخ لعلمهم أنه الشهم الوحيد الذي يمكنه أن يقوم بواجب النيابة عنهم، كما لحضرته من المكانة السامية والاحترام الكلي لدى جميع مواطنيه الكرام.
مآثره الخيرية الخالدة
ومما يخلد بالفخر والشكر والثناء لحضرة صاحب الترجمة تشييده مسجدا فخما بمصر القديمة، قل وجود نظيره في كبرى عواصم القطر في البهجة والرواء وضخامة البناء، وجميل الأثاث وكذا تأسيسه مدرسة لتثقيف عقول النشء من بنين وبنات، وقد أوقف عليهما وقفا خيريا عظيما يقوم بحاجاتهما، فاستحق شكر الخالق والمخلوق، وإنه وايم الحق لعمل جليل وأثر خالد يدوم لحضرة صاحبهما المفضال بالثناء أبد الدهر.
صفاته وأخلاقه
آية من آيات الله في اللطف والمروءة وكرم الأخلاق وعلو النفس والشهامة، يتقد غيرة على مصالح بلاده، ويتمنى لها الخلاص من قيود الذل والاستعباد، وقد اشتهر بثبات المبدأ، والعمل على كل ما فيه الخير لمنفعة البلاد بعيدا عن حب الظهور، والتبجح بما يقوم به من جلائل الخدم، وبالإجمال فقد خصه الرحمن بمميزات قل أن تجمع في إنسان.
أدامه الحق وأبقاه وأكثر من أمثاله الغيورين على مصلحة البلاد.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الشهير إبراهيم بك فرج أبو الجدايل
كلمة للمؤرخ
إن مصر لسعيدة الحظ بصفوة رجالها المفكرين العاملين على رفع شأنها الذين يسعون بإخلاص وغيرة إلى ما فيه الخير والنفع لبلادهم ومواطنيهم، وجدير بكل امرئ احترام أمثال هؤلاء المخلصين وإجلالهم وإكبارهم، وتقدير خدماتهم ومجهوداتهم في سبيل بذل الخير والبر والمعروف للناس، وحق لنا والحالة هذه أن تهنئ أنفسنا وبلادنا المحبوبة في شخص هذا الشهم الجليل الذي تتجلى غيرته وإخلاصه وتفانيه نحو أمته ضارعين إلى الله تعالى أن يكثر من أمثاله لتعميم النفع والخير .
حضرة صاحب العزة السري الشهير إبراهيم بك فرج أبو الجدايل من وجهاء السويس والعضو بمجلس الشيوخ عن دائرتها.
مولده ونشأته
هو إبراهيم بك فرج أبو الجدايل بن مصطفى أبو الجدايل، ولد بمحافظة السويس سنة 1275ه من أبوين كريمين، اهتما بأمره وربياه التربية المنزلية على أحسن منوال وكان الذكاء منذ الطفولة يبدو عليه بأجلى معانيه، فأحضر له المرحوم والده المعلمين الأكفاء المشهورين بالتقوى والعلم الغزير، فلقنوه أصول الدين الحنيف، وقاموا بتثقيف مداركه فشب على حب التفكير والجد لا يمر على نظره شيء إلا ويتخذ لنفسه منه درسا صحيحا؛ ونظرا لميله إلى الاشتغال بالشؤون التجارية فقد فضل الاشتغال بها، وكان سنه حينذاك الخامسة عشرة فابتدأ أعماله بالاشتراك مع أحد مشاهير تجار السويس المدعو الشيخ محمد المنشاوي، الذي رأى فيه من الصفات والمميزات ما يبشر بحسن المستقبل، فأوفده إلى بلاد الحجاز واختار بلدة ضبا مركزا لأعماله حيث ذاع ذكره وفاح شذى طهارة ذمته، ومكث بها مدة سنتين كان في خلالهما محل ثقة كل إنسان بها، ومن ثم عاد إلى مصر حاملا معه الأرباح الطائلة، ولظروف خصوصية طرأت إليه عدل عن الاستمرار في الاشتغال بالتجارة مؤقتا، وفضل أن يكون وكيلا لأحد البيوتات، وفعلا تم له ما أراد، فقام بوظيفة وكيل لتجارة المرحوم إبراهيم بك جليدان في أوائل سنة 1293ه، وظل في وظيفته هذه مدة سنتين ومن ثم عاد إلى الاشتغال بتجارته الخصوصية عملا بمبدئه الخاص، وميله إلى الحرية وعدم التقيد بقيود الوظيفة، وفي ذلك الميدان الفسيح تتحرر النفس، وتتجلى المواهب فيظهر النبوغ الصحيح بمعناه، ونظرا للشهرة التي حازها، وما هو عليه من طهارة الذمة وحسن المعاملة؛ اختاره أحد تجار القاهرة وهو إبراهيم عبد النبي لأن يكون شريكا له، واتفق أن يكون مركز عمله التجاري بمدينة جده من أعمال الحجاز، وقد سافر إليها في أوائل سنة 1295ه برأس مال قدره اثنا عشر ألفا من الجنيهات المصرية، وأدار أعماله التجارية بكفاءته المعهودة وهمته التي لا تعرف الكلل، وبمهارة فائقة أعجب بها كل من عرفه أو كان له به احتكاك في أعماله التجارية، حتى أصبح موضع إعجاب واحترام كبار التجار، وقد عاد من تلك المدينة بالأرباحات الطائلة بعد أن مكث بها ست سنوات حتى أواخر سنة 1300، وكان سنه وقتئذ لا يتجاوز الخمسة والعشرين ربيعا، ولقد رأى من أهم واجباته عدم مبارحة مصره العزيزة خصوصا وهي في أشد الحاجة لمن كان له مثل مزاياه النادرة وهمته العالية؛ ليسد فراغا عظيما بها، وعلى ذلك اشترك مع أكبر تجار السويس ألا وهو الحاج محمد مصطفى أبو الجدايل، وبعد أن تزوج من كريمته ترك للمترجم الانفراد بأعمال تجارته، فشمر عن ساعد الجد واستحضر البضائع من البلاد الأجنبية، مثل: الهند وأستراليا واليمن وغيرها، وعمل توكيلا خاصا لحساب كبار التجار فاتجهت نحوه الأنظار، وسارت تجارته بفضل جهوده واعتماده على نفسه بعد الله تعالى إلى أقصى درجات التقدم حتى الآن.
ولقد أنعم عليه سمو الخديوي السابق عباس حلمي باشا بالمجيدي الخامس في 12 شوال سنة 1328، كما جادت مكارم صاحب الجلالة مولانا الملك فؤاد الأول حرسه الله فأنعم عليه بالرتبة الثانية في 10 جمادى الثانية سنة 1336ه.
ولم تقتصر مجهودات هذا العامل النشيط إلى هذا الحد، بل أراد أن يكون له يدا فعالة في الأعمال الخيرية، ورأى من العار أن تخلو محافظة كبيرة كالسويس من مدرسة لتعليم البنات وأمهات المستقبل، فقام باستنهاض الهمم مشجعا ذوي الرأي والمكانة، وتبرع بالمبالغ الطائلة لذلك العمل النافع، فحذا حذوه من كان مثله من رجال الفضل والنبل، وهكذا تم له ما أراد وتم هذا المعهد العلمي على أحدث طراز، ولقد كان الرأس المفكر في مشروع إنشاء الطريق الجبلي الموصل إلى القاهرة، ومن أوائل المتبرعين له، وقد كاد يتم في العام المنصرم لولا ظروف قهرية حالت دون ذلك.
ونظرا لسمو مركزه الأدبي ومكانته العظمى لدى عموم أهالي محافظة السويس، وكان من الضروري انتخاب عضو ينوب عن المدينة في مجلس الشيوخ، فقد قر الرأي على انتخابه بأغلبية ساحقة، وهكذا قبل أن يتحمل هذه المسئولية العظيمة واقفا جهوده على خدمة لبلاده.
صفاته وأخلاقه
رجل الجد والنشاط والإقدام وديع الأخلاق لين الجانب، شديد في الحق، محب للخير سباق إلى ما فيه نفع البلاد، ميال بفطرته السامية إلى العطف على البؤساء والفقراء جاعلا مصلحة بلاده فوق كل مصلحة.
أبقاه الله لمصر العزيزة ولا أحرمها من صادق جهوده.
ترجمة نيافة الأب الجليل والراعي الكريم الكلي الطوبى والاحترام الأنبا لوكاس
كلمة للمؤرخ
إذا كان الله تعالى قد خص بعض الناس ببعض المواهب السامية، وميزهم بسجايا باهرة فقد خص هذا العالم الجليل والراعي الصالح الكريم بكل المواهب، وجمع فيه السجايا المحمودة إذ رأى فيه خلاصة الطهر ومعنى الزهد وتمام الإيمان وكمال الفضل، وإن الطائفة القبطية الأرثوذكسية بوجه عام وأقباط أبروشيته بوجه خاص لأسعد خلق الله حظا بوجود هذا الشهم العامل، والكاهن العالم بينهم، كيف لا ونيافته بلا شك ولا جدال من أذكى وأكفأ كبار رجال الكهنوت الأرثوذكسي علما، وأتقاهم ورعا وأحكمهم زهدا وأكملهم فضلا وأدبا، ثم أضف إلى كل هذه الصفات ما وهبته الطبيعة من رخامة الصوت، تلك الرخامة التي امتاز وتفرد بها حتى يخيل لسامعه، وهو قائم بخدمته اللاهوتية أنه يسمع نشيدا ملائكيا أو نغمات موسيقية من أشهر العازفين، وكم أشجى وأبكى العيون من تأثير صوته الشجي عندما يقف واعظا في الشعب، فإنه متى وعظ أثر في قلوب سامعيه، وجذب إليه الأفئدة الصخرية طائعة تحت تأثير كلماته الذهبية وحكمه وإرشاداته المنطقية.
نيافة الحبر الجليل والراعي الصالح الأنبا لوكاس مطران كرسي قنا وقوص والعضو المعين لمجلس الشيوخ.
ولكم دعي في أفراح سراة الأمة لإجراء عقد الأكاليل، فسر السامعين بفصاحة لسانه وقوة بيانه وسحر كلامه وشجي ألفاظه، ولا تسل عن مقدار تلهف سكان مصر القاهرة لرؤية شخصه الكريم، عندما تذيع الجرائد اليومية خبر تشريفه لقضاء بضعة أيام بها، فترى القوم يتساءلون في أي كنيسة سيخدم هذا العالم الجليل والحبر الكريم، حتى متى عرفوا مقرها ذهبوا أفواجا حتى تضيق بهم الكنيسة على سعتها؛ وذلك لسماع سحر بيانه ورقيق ألفاظه وجمال منطقه وشجي صوته العذب، وفي كل ذلك الدلالة الكافية على ما له من المكانة العالية والاحترام الكلي لشخصه الكريم.
مولده ونشأته
ولد هذا الشاب التقي ببندر دمنهور سنة 1873م من أبوين تقيين، فسمياه ميخائيل، وربياه على التقوى والصلاح، حتى إذا ما بلغ الثامنة من العمر أدخلاه المدرسة القبطية بها، ولم يمض طويل زمن حتى كان موضع إعجاب أساتذته لذكائه، وفرط نباهته ولتفوقه على زملائه الطلبة، وقد رأى وهو في الثانية عشرة من عمره دافعا غريبا وميلا كليا للرهبنة، وترك زخرف الدنيا فتوجه إلى دير قريب هناك، فلما علم أبواه بغيابه لحقا به وأثنياه عن عزمه، وأرجعاه مرغما وأدخلاه المدرسة، فظل بها حتى أتم دروسه، وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، ولما أخرج من المدرسة شعر أنه لم يدرس من العلوم إلا قشورا فعول على مطالعة الكتب الأدبية والتاريخية والفلسفية، فأقبل عليها بشغف عظيم، وفي سنة 1892م تعين مدرسا بمدرسة منفلوط القبطية وعمره وقتئذ تسع عشرة سنة، ومكث بها سبع سنوات متواليات كان فيها مثال العفة والاستقامة والجد والإقدام، ولم يتركها إلا لكي ينفذ تلك الإرادة الإلهية، ويجيب دعوة من دعاه واختاره فدخل دير البرموس بوادي النطرون، وذلك في أول توت سنة 1616ق، وهو في السادسة والعشرين من العمر ودعي باسم ميخائيل البرموسي، وبعد خمسة شهور من تاريخ دخوله للدير كتب نيافة مطران الإسكندرية إلى رئيس الدير بأن يبعثه إلى الإسكندرية، وذلك لما بلغه عما عليه صاحب الترجمة من دلائل الزهد وليتحقق بنفسه مما سمعه عنه فرأى فيه علما وورعا وذكاء ونباهة، ففكر في عدم حرمانه من تتميم علومه اللاهوتية، فأرسله إلى مدرسة رسيدابرموث بأثينا، فعاد منها بعد أربعة شهور فرسمه قسا في أول فبراير سنة 1901، ثم وكيلا لمطرانية الإسكندرية وواعظا بها فكان فمه يقطر الآيات الذهبية، ثم رسمه قمصا في فبراير سنة 1903، ثم رسم أسقفا لكرسي قنا وقوص في 15 مارس سنة 1903، ثم عند رسامته انتقل إليه وفد من كبار الإسكندريين نيابة عن أقباط الثغر حاملا هديتين ثمينتين، وهما صليب من الذهب الخالص مكتوب على أحد وجهيه «رأس الحكمة مخافة الله»، وساعة ذهبية سلسلتها من ذهب أيضا مكتوب عليها ما هو مكتوب على الصليب، وذلك تقديرا لخدماته وعظيم إرشاداته وحكمته وصدق وطنيته ومكانته السامية في القلوب، ثم رسم مطرانا في 19 أغسطس سنة 1906م، ولم ير أمام عينه سوى ما يجب أن يعمله لأبنائه المخلصين، فشكل جمعية من كبار أسرهم وقاموا بتأسيس مدرسة بلغت نفقاتها ما ينوف عن الألف وخمسمائة جنيها، وأنشأ قصرا فخما للمطرانية، وهو أول من فكر في إنشاء قسم ثانوي بالصعيد حتى صار هذا القسم من عداد المدارس الأميرية، وله عدا ذلك مآثر كثيرة لا يحصى عددها، كما أنه جدد عدة كنائس وأصلح كثيرا من الكنائس القديمة؛ ولذا أجمعت رعيته إلى محبته حتى امتلك القلوب والمشاعر، حيث وجدوا في شخصه الجليل الراعي الصالح والأب التقي، الذي يمكنه أن يسوس شعبه بأصالة الرأي والحزم والكفاءة التامة مع التقوى والفضيلة.
تعيينه عضوا معينا لمجلس الشيوخ المصري
ولما ذاع فضله وفاح ورعه وتجلت كفاءته الشخصية عدا مواهبه الدينية والأدبية والعلمية، فقد وقع اختيار حكومتنا الدستورية في عهدها الجديد على تعيين نيافته عضوا بمجلس الشيوخ المصري، نظرا لسعة علمه وجمال صفاته وسمو أخلاقه، وعالي تربيته فصادف هذا الاختيار ارتياحا من جميع طبقات الشعب المصري عامة والأقباط خاصة؛ لأنه والحق يقال جدير لهذا الالتفات السامي وبكل رعاية.
صفاته وأخلاقه
ونيافته مشهور بدماثة الأخلاق وطلاقة الوجه وحلاوة الحديث والذكاء المفرط، وغزارة العلم والتواضع المتناهي، وسلامة القلب والورع والتقوى، فتجده مخلصا لشعبه غيورا على دينه، محافظا على الفروض الدينية كارها لنعيم الدنيا راغبا عنها.
أدام الله حياته ومتعه بدوام الصحة والسعادة، وأكثر من أمثاله بين رجال الأكليروس الأرثوذكسي، إنه كريم قدير.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الوجيه سمعان بك غبريال القمص
حضرة صاحب العزة السري الوجيه سمعان بك غبريال القمص عضو مجلس الشيوخ عن دائرة ديروط.
كلمة للمؤرخ
من العائلات العريقة في المجد والسؤدد وشرف المحتد وطيب العنصر عائلة القمص، وهي أشهر من أن تذكر في مركز ديروط بمديرية أسيوط وعميد هذه الأسرة المرحوم طيب الذكر خالد الأثر الورع القمص حنس الذي خدم رتبة الكهنوت أربعين سنة، وقام بعبء الشعب الأرثوذكسي فكان قطبا من أقطاب الشريعة الغراء، ونبراسا يهتدى بنور عرفانه عموم شعب أبروشيته، وكان نور الفضيلة ينبعث منه نيح الله روحه الطاهرة وتغمده برحمته ورضوانه.
أما والد حضرة صاحب الترجمة هو المرحوم غبريال أفندي القمص ابن المرحوم حنس القمص، فعهد والده بتثقيف عقله وتهذيبه على التقوى والصلاح، ولما أتم علومه وظهرت مواهبه تعين في جملة وظائف بالدائرة السنية حتى وصل إلى وظيفة باشكاتب جفالك الروضة في عهد المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، فقام بعبء أعماله بكل نزاهة وإخلاص، وهذا هو الأمر الذي كان يحبه من أجله سمو الخديوي، وكان يركن إليه في كل مهام أشغال جفالك الروضة، ونقل إلى جوار ربه مأسوفا عليه من كل من عرف فضله.
مولده ونشأته
أما حضرة صاحب الترجمة سمعان بك فهو ابن غبريال بن حنس القمص، ولد في سنة 1870 ميلادية ببلدة ديروط الشريف من أعمال مديرية أسيوط، فنشأ نشأة صالحة على الفضيلة منذ نعومة أظفاره، ثم دخل مكتب بلده وتعلم فيه القراءة والكتابة، فبز على أقرانه وشهد له معلموه بالذكاء الفطري.
ولما بلغ سن الشيبوبة أخذت مواهبه تظهر بأجل معانيها في مديرية أسيوط، فأجمع الكل من حاكم ومحكوم على تعيينه عمدة لديروط الشريف سنة 1907م، فقابل الأهالي هذا التعيين بمزيد الارتياح والسرور؛ لأنه اشتهر بالعدل والإنصاف ومساعدة المظلوم، ودفع الاستبداد الذي كان يأتيه بعض عمد البلاد، فاستحق رضا الخالق والمخلوق ورفرفت الطمأنينة على بلده ولشدة بطشه بالأشقياء اعتدى عليه شقي بطلق ناري في سنة 1914م أصابه إصابة بسيطة؛ لأن الله تعالى يحافظ على حياة أتقيائه المخلصين له ولبلادهم.
ولعلو كعبه وهمته الشماء انتخبه أهالي مركزه لأن يمثلهم في مجلس مديرية أسيوط، فكان لهذه الإنابة الأثر المحمود والأيادي البيضاء في نشر العلم في أنحاء مركز ديروط وغيره، وله الآراء السديدة في كل مشروع هام، وقد طلب تدريس الدين المسيحي للمسيحيين، وعزز هذا الاقتراح ببراهين قوية، وأسلوب حسن؛ لأن الدين أساس العمران، ينهى عن ارتكاب المفاسد والموبقات، وفعلا نفذ هذا الطلب وصار معمولا به إلى الآن.
وقد انتخب عدة مرات في لجنة الشياخات، ومخالفة النيل والترع والجسور وغيرها، ومع كل هذه المشاغل لم يضن على طائفته بأن يقوم بخدمتها، فمن سنة 1892م وهو قائم بوظيفة عضو المجلس الملي وهو في الحقيقة قائم بأعمال هذا المجلس كله في عموم أبروشية كرسي صنبو وقسقام.
أعماله الخيرية الخالدة
أما الأعمال الخيرية فله فيها القدح المعلى فطالما مد يد المساعدة لمن أخنى عليهم الدهر بكلكله، وهو ممن ساعد على تشييد المدرسة الصناعية بديروط، والمستشفى الرمدي، وكذا مستوصف الأطفال وملجأ الأيتام، وكلية البنات، كما وقد شيد كنيسة كبرى لإقامة الفروض الدينية الأرثوذكسية، أنفق عليها من ماله الخاص نحو 6000 ستة آلاف جنيه مصري، ويفصلها ومنزله الخصوصي حديقة غناء بل جنة فيحاء، وفتحت أبواب هذه الكنيسة الفخمة التي قل وجود نظيرها في أشهر مدن القطر المصري في شهر أبريل سنة 1924، وقد أوقف عليها ثمانية أفدنة ونصف من أجود أطيانه، يبلغ ريعها السنوي أكثر من مائتي جنيه.
ومن نعم الله تعالى على حضرة صاحب الترجمة المفضال أن رزقه بشبلين هما عنوان النجابة والفطنة والذكاء: أكبرهما حضرة يونان أفندي، وهما على مثال حضرة والدهما في الاستقامة والطهارة وجمال الخلق.
وقد طلب حضرة صاحب الترجمة من مصلحة الصحة التصريح له ببناء مدفن خصوصي داخل الكنيسة التي شادها حديثا وأشرنا إليها، بل التي تعتبر صورة طبق الأصل من الكنيسة المرقسية الكبرى بمصر من كل الوجوه، وتمتاز الأولى بجمال زخرفها وبهاء رونقها، فأجيب إلى طلبه.
كفاءته الشخصية
ونظرا لكفاءته الشخصية العالية وآرائه السديدة، واقتراحاته الصائبة التي بلغت مسامع عظمة جلالة الملك أحمد فؤاد الأول ملك مصر والسودان أنعم الله عليه برتبة البكوية من الدرجة الثانية في أوائل سنة 1918، كما وقد انتخب عضوا في مجلس الشيوخ المصري، وقد صادف هذا التعين ارتياحا عظيما وحل السرور في قلوب عارفي فضله وشهامته وغيرته الوطنية وصفاته الجليلة.
صفاته وأخلاقه
ومن الصفات المحمودة الممتازة التي اتصف بها حضرة صاحب الترجمة: دماثة الأخلاق، وعلو الهمة، والشهامة، والرجولية الصحيحة، والكفاءة الشخصية ، والكرم الحاتمي، والعطف المتناهي نحو البؤساء مع التقوى والصلاح.
أدام الله حياته وحضرات أشباله الكرام، وأبقاهم جميعا لخير مصر وإسعادها.
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السيد محمد علي الببلاوي
كلمة للمؤرخ
لسنا في حاجة إلى كلمة مدح نوجهها إلى هذا العالم الجليل الذي اشتهر بين طبقات الأمة المصرية بالتقوى والصلاح والعلم الغزير والأدب الجم، وعلو الكعب في مختلف العلوم والذكاء المفرط، ويكفينا ما قد وصل إليه من سمو المكانة والرفعة في قلوب عارفي فضله وكماله، بفضل تلك المواهب السامية والخصال النبيلة التي أودعها الله تعالى في شخصه الكريم.
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة في الرابع عشر من شوال سنة 1379 (3 أبريل سنة 1863) من أبوين كريمين، والد حسيني ووالدة حسينية أعني والده المرحوم السيد علي الببلاوي «نقيب السادة الإشراف بالديار المصرية ثم شيخ الجامع الأزهر سابقا» بتربيته، فابتدأ بإرساله إلى مكتب الأستاذ المرحوم الشيخ أحمد البقشيشي، أحد مشاهير القراء في عصره، وفي مكتبه تعلم القراءة والكتابة، ثم أخذ عنه القرآن الكريم حفظا وتجويدا، ثم أرسله والده بعد ذلك إلى مدرسة العقادين فتعلم فيها بإرشاد والده ما يلزمه في الأزهر من فنون هذه المدرسة كالحساب والجغرافيا ومبادئ الهندسة، وشيء من النحو والصرف.
حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السيد محمد علي الببلاوي نقيب عموم السادة الأشراف بالقطر المصري ومراقب إحياء الآداب العربية بدار الكتب المصرية والعضو المعين بمجلس الشيوخ.
ولما آنس منه والده قوة على تلقي العلوم المعتاد تدريسها في الأزهر أرسله إليه، وكان ذلك في شوال سنة 1292 فانتظم في سلك طلبته وجد في تحصيل فنونه على نخبة من أفاضل أساتذته، وكان في مدة طلبه العلم بالأزهر نابغة بين إخوانه يشهد له كل من شاركه بالذكاء والفطنة، وكان مولعا في أثناء طلبه العلم بالأزهر بجمع نفائس الكتب العربية مغرما بالبحث عنها في مظانها، واتفق أن خلت بالكتبخانة الخديوية في المحرم سنة 1300 وظيفة مغير للكتب العربية، فعين المترجم فيها فصادف تعيينه فيها هوى في نفسه فجد في ترتيب فنونها، وتنسيق فهارسها والبحث عن تواريخ المؤلفين وسيرهم، حتى كان كثير من الأفاضل الذين يقصدون هذه الدار يعجبون من سرعة خاطره في الإجابة عما يسأل عنه منها، ويتحدثون بقوة ذاكرته لأسماء المؤلفين ومواليدهم ووفياتهم، وكانت له اليد الطولي في تحرير الفهارس المطبوعة للكتب المحفوظة في هذه الديار، وما زال يجد في أعمال وظيفته ووزارة المعارف تكافئه على جده واجتهاده، حتى صار وكيل هذه الدار، ولم يشغله قيامه بالواجب عليه في أعمال وظيفته عن إتمام دراسة علوم الأزهر الشريف، فكان في أوقات فراغه يحضر مهمات الدروس في الأزهر على كبار أساتذته حتى حصل على شهادة العالمية فيه.
ولما وجهت وظيفة نقابة الأشراف إلى والده السيد الببلاوي الكبير نزل المترجم لولده عن وظيفة الخطابة في المسجد الحسيني، فكانت خطبه في هذا المسجد على المنوال الذي احتذاه محل إعجاب السامعين.
وكان من آثار منهجه في خطبه أن الخديوي السابق لما عزم على الحج في سنة 1326ه أدى صلاة الجمعة في المسجد الحسيني قبل سفره، فخطب المترجم خطبة في الحج وقعت من نفسه أحسن موقع، وكانت موضوع حديثه بعد خروجه من المسجد، وأمر بأن يحج المترجم معه في معيته، فسافر في ركابه وأدى فريضة الحج معه وحظى بزيارة جده المصطفى
صلى الله عليه وسلم .
وحدث أيضا أن الخديوي كلفه فجأة بعد صلاة الجمعة في الحرم النبوي أن يخطب للقوم ارتجالا، فخطب خطبة في الاتحاد والائتلاف كانت آية في بابها دهش لحسنها كل من سمعها، وتجلت عليه فيها بركات جده
صلى الله عليه وسلم
وقد منحته الحكومة المصرية مكافأة على جده النيشان المجيدي، ثم العثماني ثم نيشان النيل من الدرجة الرابعة، وما زال حفظه الله يقوم بما عهد إليه من وكالة دار الكتب المصرية والخطابة في المسجد الحسيني بما هو معروف عنه، ومشهور بين إخوانه وعارفيه من سعة الخلق ولين الجانب وخدمة قاصديه يشهد بذلك كل من عرفه.
ولما توفي المرحوم السيد مكرم نقيب السادة الإشراف بالديار المصرية في أغسطس سنة 20 صدر الأمر الملكي الكريم بإسناد منصب نقابة عموم السادة الإشراف بالقطر المصري إلى صاحب الترجمة؛ لما هو معروف عند صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول حفظه الله من أن أسرة المترجم عريقة في الحسب صحيحة النسب إلى الحضرة النبوية، ومنحه نيشان النيل من الطبقة الثانية، ولما كان جلال هذا المنصب لا يتفق مع التوظف في دار الكتب رأت الحكومة إحالة المترجم على المعاش؛ ولكي لا تحرم دار الكتب من تجاريبه ومعلوماته الفنية. وفي أثناء سنة 1921 توجهت إرادة حضرة صاحب الجلالة الملك إلى جمع نفائس المؤلفات العربية النادرة، وحفظها في دار الكتب المصرية، فعهد إلى سماحة السيد المترجم بالسفر إلى الأستانة؛ ليبحث في مكاتبها العديدة النفيسة عن نوادر المؤلفات العربية التي لا توجد في مصر، فصدع السيد المترجم بالأمر وسافر إلى الأستانة في نوفمبر سنة 1921 وزار كل كتبخاناتها، وبحث ونقب عن نوادر أسفارها واختار منها نحو مئة وخمسين مؤلفا من نوادر المؤلفات التي لا توجد في مصر، وأخذ صورها تامة كاملة بالفتوغرافية وهذه المؤلفات الآن في دار الكتب المصرية درة في تاجها وغرة في جبينها، وكان مسكنه في الأستانة موردا للأدباء والفضلاء والأمراء زاره فيه كبار القصر الملكي، وقد حظي في أثناء إقامته بمقابلة السلطان محمد وحيد الدين سلطان تركيا في ذلك الوقت، فلقي منه كل عطف وتلطف ومنحه في أثناء هذه الزيارة النيشان العثماني من الطبقة الثانية، وعاد المترجم إلى القاهرة في فبراير سنة 922 موفور الكرامة مرموقا بالإجلال والاحترام، ولما شرعت المملكة المصرية في تكوين البرلمان عين حضرة صاحب الجلالة الملك سماحة السيد المترجم عضوا في مجلس الشيوخ، ولما انتظم عقد هذا المجلس انتخب السيد من هيئة المجلس عضوا في كثير من لجانه، وما زال يشتغل مع زملائه بجد ونشاط في هذه اللجان؛ أملا في إصلاح بلاده وإيصال الخير إليها.
صفاته وأخلاقه
وحضرة السيد صاحب الترجمة على جانب عظيم من الرأفة بالبؤساء، مشهور بالدعة وكرم الأخلاق وحسن المعاشرة محبوب عند الجميع لفضله وصلاحه واستقامته، وغزارة علمه وأدبه الجم. أكثر الله من أمثاله لخدمة البلاد ونفع العباد.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل والمالي الشهير يوسف دي بيشوتو بك
كلمة المؤرخ
إن الثقة العظيمة التي حازها هذا المالي الجليل لدى الخاص والعام وشهرته التي لا حد لها بالذمة والاستقامة، والعطف على البؤساء، وإسداء الإحسان ومديد المساعدة لكل عمل خيري لمما يسر كل غيور على تقدم شعور الأمم نحو بني الإنسان، ورقي إحساسه وسمو تربيته، وسيجزي الله تعالى أولئك الساعين للخير، ويثوبهم جزاء حسن فعالهم ثوابا عظيما، إن الله لا يضيع أجر العاملين المخلصين.
حضرة صاحب العزة السري الجليل والمالي الشهير يوسف دي بيشوتو بك كبير تجار الإسكندرية والعاصمة والعضو المعين بمجلس الشيوخ.
مولده ونشأته
هو يوسف بن دي بيشوتو ولد بالإسكندرية في أبريل سنة 1872 من أبوين كريمين حسبا ونسبا، ويعد بيته من أقدم البيوتات المعروفة بحسن المعاملة وطهارة الذمة.
فقد والده وهو في السادسة من عمره، فقامت السيدة والدته الفضلى بتربيته التربية الأولية ألا وهي التربية المنزلية السامية، وكان منذ الطفولة تلوح على محياه سيما الذكاء ومخايل الجد والنشاط.
ولما أن بلغ الخامسة عشرة من سنه اضطر لترك المدرسة والتوظف في إحدى المحلات التجارية؛ للقيام بأود عائلته، وفي الوقت ذاته لم يكن يترك لحظة من فراغ وقته، دون أن ينتهزها للمطالعة والدرس، مما جعله من خيرة الرجال العاملين المفكرين، ولما كان من الميالين للاشتغال بالتجارة لا سيما وقد توفرت له أسبابها من قوة في الإرادة، وبعد في النظر وهمة عالية وثابة إلى المعالي تحفها الروية والرزانة وأصالة الرأي، فقد فضل الاشتغال بها حتى أسس من المحال التجارية ما يعد من أكبر البيوتات ثقة وحسن معاملة، فمنها محلات بيشوتو وأخيه وشركاهم بالإسكندرية ومصر ومنشستر للمنسوجات القطنية وكل من زار إحدى هذه البيوتات العظيمة، ورأى ما بها من البضائع الجيدة وحسن المعاملة وإدارة محكمة؛ لا يسعه إلا الاعتراف بقدرة الخالق، تلك القدرة التي وهبت يوسف دي بيشوتو بك من المميزات أحسنها ومن الأفكار أحكمها؛ ونظرا لما هو عليه من هذه الصفات السامية والمواهب العالية قد انتخب رئيسا للغرفة التجارية للواردات، فأظهر من العقل الراجح ما أعجب الخاص والعام، وكان موضع ثناء كبار التجار؛ ولذلك اختير عضوا بمجلس إدارة بنك الخصم والتوفير، وصار موفقا في كل عمل أسند إليه من الأعمال وبرهن على أنه من أنبغ رجال العمل وأحكمهم، فاختير قاضيا محلفا بالمحكمة المختلطة لما له من الدراية، وما اشتهر عنه من محبة العدل والصدق، ولقد انتخب رئيسا لمحفل أبناء العهد وهو رئيس وعضو مجلس إدارة جملة شركات صناعية وتجارية ومالية، وله مواقف عديدة وخدمات جليلة في الحركة الوطنية لا سيما في حوادث مايو المشئومة، وتهدئته لخواطر الجاليات الأجنبية لأخذ اعترافات من هؤلاء ببراءة الوطنيين من هذه الحوادث، وأنها عبارة عن حادث محلي، وغير ذلك من الخدمات الجليلة التي يضيق بشرحها المقام؛ ونظرا لما له من تلك الصفات وهذه الهمة النادرة فقد تعين عضوا بالمجلس الاقتصادي المصري؛ ولثقة مولانا صاحب الجلالة فؤاد مصر ومليكها المحبوب به عينه عضوا في مجلس الشيوخ؛ حتى يواصل جهوده في تأدية ما تتطلبه الكنانة من الخدمات من مثله من ذوي الرأي والمكانة والتفكير، والرجل العظيم لا تقف همته عند حد، بل كلما وصل إلى درجة وثب إلى أخرى، وعلى ذلك فإنه لم تقتصر همته على ذلك فحسب، ولكنها تعدت ذلك إلى القيام بأداء المساعدات العظيمة لصالح أبناء الطائفة الإسرائيلية بالإسكندرية، وهو نائب رئيسها ورئيس لجنة مدارسها المجانية حتى أصبحت تلك المدارس بفضل جهوده تضم 2300 تلميذا، وجمع لها رأس مال وهو وقف تبلغ قيمته 22000 جنيه اثنين وعشرين ألفا من الجنيهات المصرية، وقد كافأه جلالة الملك المعظم فأنعم عليه برتبة البكوية سنة 1919، وفي سنة 1921 حاز رتبة ضابط المعارف العمومية من الحكومة الفرنساوية.
صفاته وأخلاقه
وديع محب للخير ميال إلى مساعدة الفقراء والضعفاء، يلقى محدثه بكل بشاشة وانعطاف، كثير التفكير فيما يعود على البلاد والعباد، دمث الأخلاق كريم جواد يعمل أكثر مما يقول.
حفظه الله للإنسانية عونا ونصيرا.
ترجمة رجل الشهامة والفضل صاحب السعادة أحمد باشا جاد الرب
كلمة وجيزة للمؤرخ
اشتهر صاحب الترجمة بين عارفيه العديدين بالشهامة وكرم الأخلاق والجد والإقدام، وطالما رأيناه يدافع عن قضية الوطن دفاع الأبطال، ولما له من مواقف مشرفة تدل على واسع خبرته وكبير كفاءته الشخصية فوق ما له من أياد بيضاء، ومآثر غراء على الأعمال الخيرية، مما يخلد لسعادته ولعائلته الشريفة بقلم الشكر ومداد الثناء.
صاحب السعادة أحمد باشا جاد الرب عضو مجلس النواب المنحل عن دائرة القوصية بمديرية أسيوط.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة ببلدة القوصية من أعمال مركز منفلوط بمديرية أسيوط حوالي سنة 1303ه، وهو ابن المرحوم محمد بك جاد الرب الذي كان مديرا لمديرية المنيا ابن أحمد جلبي بن أحمد، ويرجع تاريخ هذه الأسرة الكريمة إلى زمن بعيد، ولما ترعرع دخل المدارس ومكث بها نحو الأربع سنوات، وخرج منها بعد أن تغذى بلبان العلم الصحيح وعرف كيف يخدم بلاده وأمته بما فيه خيرها وصلاحها، وبعد وفاة المرحوم والده عاد إلى بلده الذي تربى تحت سمائه وشرب من مائه، واشتغل بالزراعة التي هي مصدر سعادة البلاد وجد واجتهد في كل ما يعود بالفائدة العامة، فنمت ثروته وكثرت أراضيه الشاسعة حتى صار من أكبر العاملين في تعضيد الهيئة الاجتماعية، ومما يخلد لهذه العائلة المجيدة بالشكر والإعجاب أنها شيدت ثلاثة مساجد لم تزل قائمة إلى الآن، وتقام بها شعائر الدين الحنيف حافظة لأفراد هذه الأسرة الذكرى على مدى الدهور، وقد انتخب حضرة صاحب الترجمة عمدة لبلدة القوصية فكان عنوان الشهامة والحزم وحسن الإدارة كما انتخب عضوا لمجلس النواب عن هذه الدائرة، وفي هذه الانتخابات الدليل الكافي على غزارة علمه وفضله وقد أنعم عليه برتبة البكوية سنة 1910، فصادف هذا الإنعام محله وصادف أهله لما لحضرة المنعم عليه من الوجاهة وعلو النفس، واحترامه من الجميع، وتفضل جلالة مليكنا المعظم فأنعم عليه برتبة الباشوية رفيعة الشأن جزاء عظيم إخلاصه، وعالي مروءته، وذلك في أكتوبر سنة 1925.
صفاته وأخلاقه
وقد اشتهر صاحب الترجمة باللطف ولين الجانب ودماثة الأخلاق وتعضيد العلم وذويه والبر بالفقراء والمحتاجين.
أدامه الله وأبقاه وزاد من أمثاله الأكفاء.
حضرة صاحب العزة الوطني الصميم الدكتور البارع حسن بك كامل
كبير أطباء بندر طنطا والعضو بمجلس النواب الأول والثاني المنحلين عن دائرة بندر طنطا (غربية)
مقدمة للمؤرخ
من عظماء الأمة الذين برهنوا على وطنية عالية، وتمسكوا بأهداب المبدأ القويم، وتتبعوا الجهاد في سبيل استقلال البلاد، وجاهروا بما تكنه عواطفهم من شعور سام وعواطف عالية ولهم في ذلك مواقف مشهورة تشهد بعظيم وطنيتهم وسمو مبدئهم، هذا الوطني الصميم والنائب الجليل صاحب العزة الطبيب البارع الدكتور حسن بك كامل، الذي له اليد الطولي من بدء النهضة الوطنية حتى الآن، ويعد من أكبر أركانها والعاملين على رفع لواء مجد الكنانة، وإن التاريخ ليسجل له صفحة نقية بيضاء لهذه المجهودات الفائقة، والخدمات الجليلة تدوم ناطقة له بالفضل والإعجاب ما دامت السماوات والأرض.
صاحب العزة الدكتور البارع حسن بك كامل.
مولده ونشأته
ولد حضرة الدكتور البارع حسن بك كامل بمدينة القاهرة من أبوين شريفين طاهرين، فوالده المرحوم اليوزباشي أحمد أفندي شكيب الإجزاجي بالجيش المصري سابقا، وكان مولده في شهر أكتوبر سنة 1870، وتربي على بساط العز والنعمة ومن ثم أدخله والده المدارس الابتدائية وهو في السابعة من سنه، فارتشف كئوس علومها وحاز شهادتها الابتدائية والتحق بالقسم الثانوي، فأظهر من الذكاء والجد ما مكنه من الحصول على شهادة البكالوريا، وهو لم يصل إلى الخامسة عشرة من سني حياته، وأراد بعد ذلك الدخول بمدرسة الطب بالقصر العيني، فكان صغر سنه مانعا من قبوله فيها لو لم يكن أول الممتحنين في امتحان القبول بمدرسة الطب، وفي الوقت ذاته ممن أتموا الدراسة الثانوية، فمكث بها ست سنوات وهي سني مدرسة الطب في ذاك العهد، وتخرج منها في 15 مايو سنة 1892 وكان أول الناجحين، ثم عمل انتخاب مسابقة للدخول بالاسبتالية بصفة نائب، فكان الأول أيضا وحصل على شهادة امتياز في الجراحة، وهذا دليل قاطع على نباهته وغزارة علمه.
حياته العملية
رأى حضرة صاحب الترجمة أن يشتغل حرا وأبى الالتحاق بالوظائف الحكومية، وفضل خدمة الهيئة الاجتماعية بهذه المهنة الشريفة ألا وهي مهنة الطب، فمكث بطنطا مدة سنة ونصف سنة صادف في خلالها إقبالا عظيما وثقة كبرى، غير أنه عاد بعد ذلك فعدل عن رأيه الأول واندمج في سلك الوظائف الحكومية، حيث تعين مفتشا لصحة مركز ببا بمديرية بني سويف وطبيب أجزاخانتها، ثم مفتشا لصحة مركز نجع حمادي بمديرية قنا وطبيبا لأجزاخانتها أيضا، وكان هذا التعيين بناء على رغبة مستخدمي شركة السكر ومستخدمي الشركة التي أخذت مقاولة عمل كبري نجع حمادي، واستمر عاملا مجدا في هذا المركز إلى أن انتقل منه في 5 نوفمبر سنة 1897 حكيما لاسبتالية دمياط، ومكث بها إلى أوائل سنة 1904 حيث استعفى من خدمة الحكومة وعاد إلى عزمه الأول والرجوع إلى الأعمال الحرة بعيادته الخصوصية.
جهاده الوطني وخدماته الصادقة
ولم تكن مهنته هذه مع كثرة متاعبها لتنسيه واجبه نحو خدمة بلاده والسعي وراء رقيها، فانتخب رئيسا لنادي طنطا الأهلي وهو من مؤسسيه، وذلك عام 1909م واستمر انتخابه سنويا إلى وقتنا هذا وكذا انتخب عضوا بمجلس بلدي طنطا، فأبدى من الهمة والخدم الصادقة والمجهودات الفائقة ما استوجب كل شكر وثناء، واستمر ينتخب ويجدد انتخابه من سنة 1910 إلى هذا الوقت، أي إلى أن أعيد انتخابه أربع دفعات، ثم أسس شركة التعاون المنزلي، وانتخب رئيسا لها وتعهدها برعايته وصانها بذكائه، وأعلى شأنها بهمته وعزيمته الماضية، وما زال رئيسا لها من سنة 1912 إلى وقتنا هذا، وهو أيضا مؤسس ورئيس جمعية المواساة الإسلامية المنشأة في سنة 1920م، ومؤسس ورئيس جمعية الإسعاف بطنطا المشمولة برعاية حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد المعظم المؤسسة في أواخر سنة 1920 ثم أعيد انتخابه عام 1923.
جهاده الوطني
هذا الشهم الوطني الجليل من روح الوطنية العالية، ويجاهر بمجهوداته الفائقة وتضحيته بكل غال ونفيس في سبيل استقلال بلاده المحبوبة، إذ له أياد بيضاء ومآثر غراء في هذا السبيل تشهد له بالشهامة والتفاني في حب الوطن المفدى، وهو سعدي بكل معني الكلمة ونظرا لما أبداه في كل أدوار هذه النهضة الوطنية المباركة، ولعظيم مركزه في الهيئة الاجتماعية انتخب دفعتين لأن يكون عضوا بمجلس النواب عن دائرة طنطا في دوريه الأول والثاني المنحلين، ولكم أطلعنا على بيانات هامة ملؤها الإخلاص والدفاع عن حقوق البلاد تشهد لحضرته بطول الباع والذكاء التام.
صفاته وأخلاقه
دمث الأخلاق لين الجانب عالي الهمة، كبير النفس، ذكي الفؤاد، قوي الحافظة، شديد العارضة في الحق، وهو حائز لرضاء عموم مواطنيه لما تأكدوا فيه من الشهامة والجد في القول والدفاع عن الحق.
نسأل الله أن يسدد خطواته في سبيل خدمة البلاد ورفع شأنها.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري المفضال إبراهيم بك الزهيري
كبير أعيان مديرية الدقهلية وعضو مجلس النواب المنحل عن دائرة الزرقا دقهلية
مولده ونشأته
هو رجل الفضل وغوث الفقير وعضد البائس ونصير المظلوم، هو إبراهيم بك الزهيري ابن المرحوم إبراهيم الزهيري ابن الحاج أحمد الزهيري ابن الحاج سيد أحمد الزهيري ابن الحاج علي الزهيري ابن الشيخ يوسف الزهيري، الذي يصل نسبه إلى عرب الحمراء تلك القبيلة المشهورة بين قبائل العرب بالشجاعة والإقدام، وفضلها لا يحتاج إلى إقامة دليل أو برهان.
صاحب العزة إبراهيم بك الزهيري.
كان المرحوم إبراهيم بك الزهيري والد المترجم له عمدة لبلدة شرمساح مدة 45 سنة، كان فيها مثال الجد والاستقامة يغير على مصلحة بلده مع حبه الشديد وتفانيه في العمل لراحة الأهالي، وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الاثنين 7 مايو سنة 1897م.
ولد حضرة صاحب الترجمة ببلدة شرمساح مركز فارسكور بمديرية الدقهلية سنة 1870م، فرضع الفضيلة منذ حداثته وتغذى بلبان الشهامة والمروءة والنخوة العربية والأريحية الشماء، فما بلغ السابعة حتى أدخله المرحوم والده مدرسة المنصورة الابتدائية، وظل بها خمس سنوات تعلم في أثنائها العلوم التي كانت تدرس فيها إذ ذاك، وكان من رفاقه وهو تلميذ حضرتا صاحبي العزة أحمد بك لطفي السيد مدير الجامعة المصرية وحسن بك صبري مفتش وزارة الأوقاف سابقا والمحامي المشهور الآن.
ولما رأى والد المترجم له أنه محتاج لابنه لمباشرة أعماله الزراعية، وأشغاله التجارية أخرجه من المدرسة، ولولا ذلك لاستمر عاكفا على تحصيل العلوم العالية، ومع كل ذلك فقد وهبه الرحمن عقلا راجحا وفكرا سديدا وذكاءا فطريا، وقد ساعده كل ما أوتي من جد ونشاط على زيادة مورد تجارته في الأقطان والأرز ، وقد حاز بفضل هذه المواهب السامية أطيانا شاسعة وشاد قصرا فخما على النيل وفتح أبوابه لكل قاصد ومحتاج، فذاع فضله في عموم مديرية الدقهلية، وخصوصا مركز فارسكور فانتخبوه عضوا لمجلس المديرية، فكان عضوا عاملا يعمل جهده لراحة أهالي مركزه، ونشر دور التعليم في جميع أنحاء المديرية مرتبطا مع حضرات زملائه الأعضاء، متعاضدين متكاتفين إلى كل ما يعود على مديريتهم الزاهرة بالخير والإسعاد، ثم انتخب عضوا في مجلس الشياخات عدة مرات متتابعة، وفي هذا أكبر دليل على تمام الثقة به.
ومن مآثره المشكورة وأعماله المبرورة تشييده مسجدا فخما ببلدته عام 1324ه، وسماه مسجد «أولاد حامد» وقد وصل إلى مسامع سمو الخديوي السابق عباس حلمي باشا الثاني ما يأتيه حضرة صاحب الترجمة من جلائل الأعمال وخير المآثر، فأنعم عليه بالرتبة الثانية سنة 1909م مكافأة له وتشجيعا لغيره، كما أنعم عليه ساكن الجنان السلطان حسين كامل بنيشان النيل الزراعي سنة 1915، وأنعم عليه أيضا برتبة البكوية من الدرجة الأولى سنة 1916م.
أعماله الخيرية
ومن أعماله الخيرية التي تنطق بعظيم فضله أنه أسس مكتبا بجوار مدفن المرحوم والده، وهو الآن محتشد بالتلاميذ وينفق عليه بسخاء لا مزيد عليه، وإذا نحن عددنا الجمعيات والمشروعات الخيرية الأخرى لوجدنا حضرة المترجم له أول سباق لعمل الخير فيها، فضلا عن أنه يخرج زكاة ماله سنويا، ويوزعها على الفقراء والمحتاجين، فرجل تتجلى فيه الشهامة والمروءة والتقوى والصلاح لجدير بأن تزين به وبأعماله جيد كتب التواريخ، وقد من الله تعالى عليه فوق ثروته الواسعة بأنجال هم آية من آيات الذكاء والنجابة، جعلهم الله قرة عيني حضرة والدهم الجليل ووفقهم إلى نفع البلاد والعباد.
كفاءته الشخصية
ولكي يدرك القارئ الكريم جدارة صاحب الترجمة وكفاءته الشخصية أنه حاز الأغلبية الساحقة في الانتخابات البرلمانية، حيث زكاه أكثر من عشرين عضوا ثلاثينيا عن دائرة الرزقة ولا شك أن أهل هذه الدائرة سعداء جدا لاختيارهم هذا الشهم الجليل نائبا عنهم، وسوف تتحقق جميع آمالهم بفضل ما أوتي من علم وفضل وذكاء وإخلاص، وفقه الله تعالى إلى ما فيه إسعاد البلاد.
صفاته وأخلاقه
هو مثال الرجولية الصحيحة طيب القلب، سليم الضمير، كريم الأخلاق يتأثر من رؤية البؤساء جواد سباق إلى عمل الخير كي يرضي الله تعالى وضميره، متعه الله وألبسه ثوب الصحة والعافية وكافأه خيرا جزاء أعماله المبرورة.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الوجيه بشرى بك حنا ميخائيل
هذا هو الشهم العظيم والنائب الكريم والسري المعروف، والمزارع الموصوف المشهود بعلو المقام، وجليل الأعمال وسعة الإطلاع وحسن الأخلاق وكثرة الاختبارات، بل هو الرجل الذي تتطاول إليه الأعناق وتتجه إليه الأفكار والأبصار عند حدوث الأزمات ونزول الملمات، وإلى القارئ الكريم نذكر قطرة من تاريخ هذا العظيم الذي يعتبر ركنا متينا في قوام أساس الهيئة الاجتماعية.
مولده ونشأته
ولد حضرة بشري بك بمدينة أسيوط عام 1866م، فغذاه والده العصامي الكبير فقيد النشاط والإقدام والجد والعمل المرحوم الخواجه حنا ميخائيل أحد كبار سراة مديرية أسيوط بلبان الفضيلة والاستقامة، وبث في نفسه حب العمل والاعتماد على النفس فشب مقتبسا خصال والده ومبادئه السامية، وبعد أن حصل على نصيب وافر من العلوم والمعارف والفنون، واشتد ساعده وتسامت مداركه ترك المعاهد العلمية، ودخل في سلك التجارة وساعد المرحوم والده في أشغاله الكثيرة وإدارة شؤونه.
حضرة صاحب العزة السري الوجيه بشري بك حنا ميخائيل المالي المعروف والعضو بمجلس النواب المصري عن دائرة مركز الفشن.
ولما اضطربت الأمة القبطية وقررت عقد مؤتمر عام للبحث في مصالحها، والنظر في شؤونها جالت الأبصار واتجهت الأنظار للتفتيش عن عالم كبير، وقائد خبير يتولى رئاسة هذا المؤتمر ليسير بالأمة في طريق النجاح وسبيل السعادة والفلاح، ولا عجب أن صوت الأمة القبطية أقر على صاحب الترجمة إذ وجد منه رجلا وجيها وعالما أصيل الرأي سامي العواطف، ذا قلب يطفح إخلاصا لقومه، وغيرة على ترقيته، ورفع شأنه، فلما اعتلى رئاسة المؤتمر زال الاضطراب، وذهب القلق وابتسم ثغر الأمة التي بشت للمترجم، وحفظت جميله وأرخت أعماله بمداد من الشكر والثناء العاطر.
وقد ذاع اسم صاحب الترجمة وظهرت كفاءته الشخصية في جميع الشؤون المالية والاقتصادية والزراعية، حتى بلغت مسامع الحضرة الخديوية، فأنعم عليه سمو عباس حلمي باشا خديوي مصر السابق برتبة البكوية، فجاء هذا الإنعام في محله وصادف أهله كما قد أنعم عليه جلالة الملك بنيشان الفلاحة من الدرجة الأولى.
ونظرا لتفوقه المتناهي في الشؤون الزراعية والاقتصادية بوجه خاص تعين عضوا في الجمعية الزراعية السلطانية، ثم عضوا في النقابة الزراعية وعضوا في لجنة بحث حالة مصلحة الأملاك الأميرية، وعضوا في لجنة تعديل نظام بورصة مينا البصل وبورصة العقود، وهذا من أكبر الأدلة على علو كعبه في كل هذه الشؤون.
وكثيرا ما ندب حضرة صاحب الترجمة من قبل الحكومة المصرية لحل العويص من مشكلات الشؤون الاقتصادية والزراعية، فكان لها حلالا بفضل كثرة تجاريبه وأصالة رأيه.
ونظرا لما قام به حضرة صاحب الترجمة من جليل الخدمات والفوائد العظيمة، التي عادت على مواطنيه بالفائدة العظمى، ولسمو مكانته في قلوب عارفي كفاءته وفضله قد انتخب نائبا لمجلس النواب المصري عن دائرة مركز الفشن، ولا شك أن هذا المجلس الموقر سعيد بوجود هذا النائب السري والعامل الوطني الصميم.
ورغما من وجاهته ووفرة ثروته وسمو مركزه في الهيئة الاجتماعية، فإنه والحق يقال مثال الدعة واللطف، ودماثة الأخلاق، ومحسن كريم مشهود بإخلاصه وصدق خدماته نحو وطنه ومواطنيه.
وطالما جاد بالأموال الطائلة لكل عمل خيري يرى منه فائدة لأبناء وطنه، وحسبه ما جادت به أريحيته للجمعيات الخيرية والمدارس والمستشفيات وغيرها، فإن له في كل منها أثر خالد ينطق له بالشكر والثناء والإعجاب بكرم هذا المحسن الكبير ما دامت السماوات والأرض.
أدام الله حياة هذا العامل المجد الأمين والنائب الجليل، وأكثر من أمثاله بين سراة مصر لرفع لواء مجدها وإسعادها.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل والنائب الحر الجريء سينوت بك حنا
مقدمة للمؤرخ
لا يمكن لكاتب مهما أوتي من قوة البلاغة أن يصف وطنية هذا الشهم، أو ينسى تلك المقالات الشيقة المملوءة شعورا ووجدانا وحماسا التي كان يتوجها بهذا العنوان «الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا»، وليس لفرد أن ينكر ما تحمله هذا الغيور من التضحيات من اعتقال ونفي وحبس حرية، وهو السري الغني بثروته ونفوذه وجاهه، ويكفيه أن حاز من عموم الشعب المصري لقب «النائب الحر الجريء» عن جدارة واستحقاق لجراءته في الحق وثباته على المبدأ، وبسبب ذلك حل به كل أنواع النكال والآلام التي كان يقابلها بصدر رحب ورباطة جأش، متمثلا بقول الشاعر:
ومن تكن الأوطان همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
حضرة صاحب العزة السري الجليل والنائب الحر الجريء سينوت بك حنا عضو مجلس النواب المنحل في دوريه الأول والثاني عن دائرة بندر أسيوط.
مولده ونشأته
بزغت شمس ميلاده في بندر أسيوط عام 1880م وهو ابن المغفور له الخواجه حنا ميخائيل أحد سراة مديرية أسيوط، فنشأ نشأة كاملة وأنبته الله نباتا حسنا ، ولما بلغ السابعة من عمره أدخل مدرسة الأليانس الفرنساوية بأسيوط، فظهرت نجابته وتم ذكاؤه وصار المثل الأعلى لأترابه، فتاقت نفسه إلى الاستزادة فيمم ثغر الإسكندرية ودخل كلية الفرير بها وارتشف العلوم الراقية من منبعها، وظلت مواهبه تتجلى كلما انفتح أمامها باب من العلم يساعدها على الظهور كاملة، أساتذة صاغوا هذه الجوهرة الثمينة وأخرجوها للناس كاملة تمتعهم بجمالها وجلالها، فتخرج من هذه الكلية حاملا لواء العلوم والمعارف.
سياحته في البلاد الأوربية
وقد ساح كثيرا في عواصم أوربا وعاشر الطبقات الراقية، وكان في مسامراته معهم يحادثهم عن مجد مصر وآثارها وأهرامها ومسلاتها، ولا يغمض له عين في تلك الزيارات إلا ويذكر استقلال مصر، ومن ذاك الحين أخذ يخدم بلاده بما أوتيه من ذكاء وحكمة، فأخذت مواهبه تسطع بين كبار المفكرين في الأمة المصرية، كما كان الصديق الحميم للمغفور له مصطفى كامل باشا، فكان له المقام الأسمى والقسط الأوفر والرأي الأسد عند ذاك الصديق الذي أحبه حبا مفرطا لسمو مداركه وكبير وطنيته وحسن جهاده.
انتخابه عضوا في الجمعية التشريعية
ولما ذاع فضله في دوائر الحكومة وقع اختيارها عليه، فعينته عضوا في الجمعية التشريعية في أواخر سنة 1913م، ومما يجب ذكره هنا أنه في بادئ بدء الجمعية التشريعية حصل انقسام بين الأعضاء المنتخبين،
1
والحكومة وأعضائها
2
على اختيار أحد وكيلي الجمعية التشريعية للإنابة عن الرئيس إذا تخلف عن إحدى الجلسات، فكانت الحكومة وأعضاؤها ترغب اختيار الوكيل المعين من قبلها أن يكون عضدها الأيمن وساعدها القويم في تنفيذ رغائبها «وكان إذ ذاك صاحب الدولة عدلي يكن باشا وكيلها المعين»، والأعضاء المنتخبون يرغبون اختيار العضو الحر الذي اختارته الأمة بأسرها، وكان صاحب الدولة الزعيم الأكبر سعد زغلول باشا رئيس الوفد المصري في باريس، فوقف النائب الجريء سينوت بك حنا في المجلس وأعلن على رءوس الأشهاد انضمامه وموافقته مع الأعضاء المنتخبين على اختيار الوكيل المنتخب من قبل الأمة؛ ليمثلها تمثيلا حقيقيا ويعرف ما تحتاج إليه.
وجد الدساسون من هذه الحادثة فرجة يلجون منها إلى نفث سمومهم، حتى تمكنوا من تغيير أولياء الأمر على صاحب الترجمة الذي لم يتزحزح قط عن رأيه فقال له بعضهم: إن التشبث برأيك قد يضرك منصبك. فأجاب: إن رأيي لي ومنصبي لهم ولن أضحي لهم ما يدوم في سبيل ما يزول»، وهذا أكبر دليل على إخلاصه لأمته في كل أطوار حياته.
جهاده الوطني
وفي سنة 1918م هزته الأريحية الشماء والحمية الوطنية على المنادات بطلب الاستقلال التام وتحرير البلاد من رق العبودية قائلا:
أيا قوم ساءت حالنا فإلى متى
نظل عبيدا والأرقاء تعتق
فهب كالليث من عرينه دون مبالاة بالمصاعب والمتاعب مهما كلفته، وانضم إلى حضرات أعضاء الوفد المصري في شهر نوفمبر سنة 1918م، وأخذ الأهبة للسفر إلى باريس مع رفاقه أعضاء الوفد وصاحب الدولة رئيسهم؛ لبسط شكوى الأمة لدى الدول الأوربية.
وفي يوم 13 أبريل سنة 1919 سافر مع أعضاء الوفد ميمما باريس، فكان يوم وداعهم يوما تحفه القلوب فشيعتهم الأبصار، وسافر على ظهر الباخرة «كالدونيا»، ولما وصل باريس وطلب حضور مؤتمر الصلح بناء على التفويضات المأخوذة من جميع أفراد الأمة قوبل طلبه بالرفض، وهذه أول صدمة اصطدم بها الوفد المصري في طريقه، غير أنه قبلها بصدر رحب ولم تثن من عزم هؤلاء الأبطال المجاهدين، فأخذوا يشرحون مظلمتهم على صفحات جرائدهم الأوربية الحرة ولأعضاء مجلس النواب الأحرار، ويقدمون المستندات القوية حتى استلفتوا أنظار العالم الأوربي، وتطوع كثيرون من أحرارهم وأعضاء مجالسهم وكبار محاميهم مثل المستر فولك المحامي الأمريكي ذائع الصيت للدفاع عن القضية المصرية، حتى اعترف بأحقيتها وعدالتها مجلس شيوخ أمريكا، وبعد جهاد عظيم عاد صاحب الترجمة لمصر في شهر سبتمبر سنة 1919، وترك الزعيم الأكبر ورفاقه يعملون لما فيه الوصول لبغيتهم وضالتهم المنشودة.
ومن ثم أخذ صاحب الترجمة ينشر في أمهات الجرائد المصرية مقالاته المشهورة:
الوطنية ديننا
والاستقلال حياتنا
تلك المقالات التي كان لها التأثير العظيم في نفوس الأمة لغزارة مادتها، وجرأة محررها، فكانت تقابل من الشعب المصري بالارتياح العظيم والشغف الشديد.
ولما رغبت الدولة الإنجليزية في إرسال لجنة ملنر أخذ صاحب الترجمة ينشر درره الغوالي وينبه أذهان الأمة بوجوب مقاطعتها، وذكر الوزارة السعيدية بواجبها إزاء هذه اللجنة مما اضطرها إلى تقديم استقالتها في شهر نوفمبر سنة 1919 فيا لها من خدمة جليلة تذكرها الأمة له بجميل الشكر وعظيم الثناء، وما كادت اللجنة المذكورة تطأ أقدامها أرض وادي النيل في يوم الأحد 7 ديسمبر سنة 1919، حتى كانت الحكومة قد أخذت حيطتها لمنع المظاهرات خوفا من الاضطرابات، وأمرت بإبعاد الزعماء السياسيين وقادة الرأي العام الوطني عن العاصمة، والحجر عليهم في عزبهم دون أن يغادروها، كما وقد حذرت على الكتاب والأدباء الخوض والأبحاث في ما جاءت لأجله هذه اللجنة، فكان نصيب نائبنا الحر الجريء أن نفي بالقوة إلى عزبته بمركز الفشن، ولما رأت اللجنة الملنرية والحكومة أن هذه الخطة لم تجدهما نفعا عدلت عنها، وأمرت بعودة أولئك الأبطال من منفاهم، فما وصل هذا الخبر مسامع أعيان ووجهاء مركز الفشن حتى أخذوا يفدون إلى عزبة صاحب الترجمة أفواجا أفواجا؛ لرفع التهاني الخالصة لإطلاق سراحه، واحتفلوا به عند عودته للقاهرة احتفالا شائقا حيث أعدوا لعزته قطارا خاصا زين بالزهور والرياحين والأعلام المصرية، وجاءوا معه، وما وصل القطار محطة العاصمة حتى استقبله كبار رجال الأمة، وعموم أعضاء الوفد المصري وطلبة المدارس، فأنزلوا سينوت بك من القطار محمولا على الأعناق تكريما له وإظهارا لعواطفهم، ومن ثم أخذ ينتقد ما يجب انتقاده في أعمال الوزارة اليوسفية، وكان من وراء نقده عدم صلاحية إقامة الخزان في أعلى النيل لإرواء ثلاثمائة ألف فدان من أراضي السودان لوقوع الضرر بالأراضي المصرية، مفندا أسباب ذلك بمقالاته التي نشرت تباعا بجريدة الأفكار من عشرة إلى 20 فبراير سنة 1920، فكان من وراء نقده الحر أن قدم معالي إسماعيل سري باشا وزير الأشغال استقالته في الشهر نفسه.
نفيه مع الزعيم إلى عدن وسيشل
وحدث أن السلطة العسكرية الإنجليزية قررت نفي زعيم الأمة إلى عدن في 23 ديسمبر، وما كاد يذاع هذا الخبر حتى أصبح الناس والسماء ملبدة بالغيوم والسحب القائمة، وكأنما كان ذاك اليوم العبوس القمطرير ينذر بمصائب وأرزاء، وكل مصري يعرف ما انتحل من الأسباب لتبرير ذلك الاعتقال، كما وقد صدرت أوامر أخرى باعتقال صاحب الترجمة والأستاذين مصطفى النحاس باشا ووليم مكرم عبيد، وفي اليوم ذاته أقلت السيارات الإنجليزية المسلحة حضرات الأعضاء المذكورين، وكذا محمد فتح الله بركات باشا والمرحوم عاطف باشا بركات، حيث أحاطت بمنازلهم هذه القوات وانتزعتهم قوة واقتدارا، كما ذهبت قوة أخرى في الوقت نفسه لصوب بيت الأمة معها سيارة، حيث أنزلت حضرة صاحب الدولة سعد باشا زغلول وأخذته، وواصلوا السير بهم إلى عدن إلى أن بلغوها أصيل يوم 24 يناير سنة 1922، وما عدن إلا صخور سوداء وأراضي جرداء قاحلة، وظل القوم بها يقاسون سوء مناخها ورداءة طقسها حتى يوم أول مارس سنة 1922، حيث صدرت الأوامر بنقل الرئيس الجليل بمفرده إلى سيشل مع خادمه الخصوصي، ولا تسل عما شمل صحبه من الغم والحزن لهذا الفراق المريع، وبتاريخ 17 مارس سنة 1922 صدرت الأوامر لباقي صحبه المخلصين الموجودين بعدن بالسفر إلى سيشل، وما كاد يستقر بهم المقام طويلا حتى فوجئوا بنقل دولة الزعيم إلى جبل طارق، وهناك احتج بخطاب أرسله إلى حاكم جبل طارق بسوء الحال ورداءة المناخ بالنسبة لصحة صحبه إلى أن قال: وجميع صحبي يعانون كثيرا من تأثيراته، وإن صحتهم لفي خطر من عدم وجود التسهيلات الطبية اللازمة، وطلب منه نقلهم من سيشل إلى مكان آخر، فأبى السماح له بما طلب، وظلوا بها حتى شهر نوفمبر سنة 1922، حيث صدرت الأوامر بالإفراج عنهم والعودة إلى الوطن المحبوب.
تعيينه عضوا بمجلس النواب المصري
ولما أعلن تصريح 28 فبراير وأرادت الحكومة المصرية إجراء عملية لانتخاب أعضاء مجلس نوابها وشيوخها، كان حضرة صاحب هذه الترجمة أول من نال أغلبية الأصوات الساحقة عن دائرة بندر أسيوط، وفاز بالتزكية فوزا عظيما في دوريه الأول والثاني، ولا عجب فقد رأوا فيه من الشجاعة وقوام المبدأ والتضحيات الغالية ما لا يمكن لغيره احتماله.
صفاته وأخلاقه
الوداعة والشهامة ولين الجانب والانتصار للفضيلة، وهو عصبي المزاج صلب عند الحق لا يخشى فيه لومة لائم، ولا يرده عن العدل خشية أمير ولا محاباة عظيم، وقد جملته الشهامة، وألبسته الشجاعة وعلو الهمة وشرف النفس ثوب الوقار والجلال، يميل بفطرته إلى مواساة المنكوبين، وهو الضلع الأكبر في التبرعات الخيرية في عدة جمعيات نافعة للبلاد بما لا يقع تحت حصر، كذا مساعدته لمنكوبي الحرب البلقانية الأوربية، وجمعية الهلال الأحمر وغيرهما من مختلف الجمعيات تغنينا عن الشرح.
فشهم هذا شأنه يحق للقطر المصري عامة والوجه القبلي خاصة المفاخرة به، وإن في من يقتدون به قدوة حسنة لمن يعبر سبيل الحياة؛ ليخلد له ذكرا مجيدا يدوم ما دامت السماوات والأرض.
ترجمة أحد أبطال النهضة الوطنية الأستاذ القانوني البارع راغب إسكندر بك
مقدمة وجيزة
هو من أكبر أنصار الزعيم الجليل صاحب الدولة سعد باشا زغلول، وهو الذي قاسى الشدائد، وتحمل الكروب بصدر رحب، ورباطة جأش وهو الذي اشتهر بثبات المبدأ وصدق الوطنية وأخيرا هو المعروف بمواقفه الشريفة، وكتاباته الشيقة، ودفاعه المجيد في سبيل استقلال بلاده، والذي انتقد سياسات الوزارات المختلفة التي جلست على منصة الحكم من سنة 1919، وما بعدها بدون خوف ولا وجل فنحن ندون تاريخ هذا الشهم الغيور بالفخر والإعجاب في سفرنا التاريخي، سائلين الحق تعالى أن يكثر من أمثاله العاملين المجاهدين لخير الوطن المفدى، وأن يمده بروح من عنده لتحقق أمنيته؛ لتتم الغاية الشريفة التي نكل به من أجلها أشد تنكيل.
صاحب العزة راغب بك إسكندر المحامي الشهير والعضو بمجلس النواب المنحل عن دوريه الأول والثاني عن دائرة النعناعية بمديرية المنوفية.
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة يوم أول ديسمبر سنة 1888 وهو النجل الثاني لحضرة صاحب العزة الإداري الحازم إسكندر بك مسيحه، وشقيق حضرة النطاسي البارع والوطني الصميم الدكتور نجيب بك إسكندر.
تلقى علومه الأولية بمدرسة الأقباط الكبرى بالدرب الواسع، وانتقل منها إلى مدرسة عابدين الأميرية وفيها تجلت مواهبه السامية من ذكاء ونشاط ونجابة حتى أدهش أساتذته بهذا النبوغ الفطري، وبعد أن أتم علومه الابتدائية، وحصل على شهادتها عام 1913م دخل المدرسة التوفيقية بشبرا، ومكث بها مدة الثلاث سنوات المقررة، وفي السنة الأخيرة منها كان قد تقرر تقسيم الفصول النهائية بالقسم الثانوي إلى أدبي وعلمي، فرغب الدخول بالقسم الأدبي، وأخذ يرتشف العلوم بكل جد ونشاط وعزيمة لا تعرف الملل حتى فاز منها بالحصول على شهادتها الثانوية، ومن ثم دخل مدرسة الحقوق الملكية فامتاز بين أقرانه الطلبة بالذكاء الحاد والاستقامة المتناهية، وحصل على دبلوم الحقوق في مايو سنة 1910م بتفوق عظيم.
ولشدة ولعه بالأعمال الحرة افتتح له مكتبا للمحاماة فنبغ في هذه المهنة الشريفة نبوغا عظيما، فأصبح في مقدمة نوابغ المحامين، ويمتاز بتأثيره في الدفاع وبحسن معاملته ووداعته، وحلمه وهو مقرر أمام محكمة الاستئناف العليا.
جهاده السياسي
كان حضرة صاحب الترجمة أول المتتبعين لحركة البلاد السياسية، وطالما جاهر بآرائه في طريق النشر في أمهات الجرائد اليومية وكم أبدى من تصريحات سياسية هامة فيما يختص بالحركة الوطنية، وكم له من مقالات رنانة في المواضيع العامة تدل جميعها على صراحة تامة ومبدأ قويم.
انتخب عضوا لمجلس إدارة الحزب الديموقراطي المصري المرة، ولكنه استقال منه سنة 1921م نظرا للخطة التي اتبعها هذا الحزب إزاء السياسة العامة في البلاد.
وانضم إلى العاملين في الحركة الوطنية من أواخر سنة 1918م، واشتغل بمنتهى الإخلاص في جميع الأدوار العمومية المتعلقة بسياسة البلاد، وظل مستمرا على الجهاد بإخلاص عظيم تحت لواء زعيم الأمة حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا، وخدمة الوفد المصري حتى انتخب عضوا فيه بعد اعتقال أعضاء الوفد في شهر أغسطس سنة 1922، وقد اعتقل بسبب مواقفه السياسية في الوفد في مارس سنة 1923، ثم أفرج عنه بعده واعتقل ثانية في شهر مايو سنة 1923.
وقد تجلت شجاعته الأدبية ومبدئه الراسخ في هذه الظروف العصبية، ولم تكن هذه الأهوال المتوالية لتزحزحه قيد شعرة عن عزيمته الماضية، بل بالعكس زادته رسوخا وثباتا، الأمر الذي أوجب إطراء دولة الزعيم الجليل له على شجاعته الأدبية في أشد المواقف خطرا.
وقد انتخب نائبا في مجلس النواب المنحل في دوريه الأول والثاني عن دائرة النعناعية بمديرية المنوفية.
أعماله الجليلة في المحاماة
انتخب عضوا في مجلس نقابة المحامين في ديسمبر سنة 1922، وله في هذا المجلس أراء صائبة واقتراحات سديدة ومواقف مشهورة دلت جميعها على علو كعبه في العلوم القانونية، والكفاءة الشخصية وهو محترم جدا في نظر حضرات زملائه المحامين للصفات السامية التي تجمل بها، وقد اشتهر بطهارة الذمة في مهنته؛ ولأنه من المحامين الذين يدرسون القضايا درسا دقيقا من كل وجوهها؛ ليقفوا على كل كبيرة وصغيرة فيها، ويكون لهم من وراء هذا الوقوف حسن الدفاع، وخدمة أربابها بالذمة والأمانة والنزاهة، وهذا هو السبب الوحيد الذي أكسبه هذه الشهرة الفائقة والوثوق التام.
أعماله الاجتماعية
ولقد نشأ بعد ولوجه المدرسة التوفيقية في وسط اجتماعي محض، فقد ألف هو وكثير من إخوانه جمعية أدبية إصلاحية للاجتماع وإلقاء المحاضرات، وقد كان صاحب الترجمة من المنكبين على الاشتغال بأعمالها مع أداء واجبه المدرسي، وفي العمل على ما يعود على المجموع بالخير فيها، وقد أنشأت هذه الجمعية مجلة أدبية اجتماعية وكان من القائمين بعملها، والمباشرين لتحريرها وطالما نشر فيها من المقالات العلمية والأدبية والتاريخية والقانونية والإصلاحية، وهو الذي جمع أدق وأضبط تاريخ للمرحوم بطرس غالي باشا، وكانت له اليد الطولى في تأليف كتاب مار مرقس الإنجيلي الذي ألفته هذه الجمعية، وهي التي قامت بحفلة «مصريين قبل كل شيء» التي ألقى فيها العالم الكبير أحمد زكي باشا خطبته المشهورة في التوفيق بين عناصر الأمة المصرية ناهيك بالحفلة الكبرى التي أقيمت في تياترو عباس لمشروع كلية البنات، ومثلت فيها رواية «لويس الحادي عشر»، وهو عضو بلجنة إدارة كلية البنات القبطية وبجمعية التوفيق الخيرية القبطية، وقائم بالاستشارة القضائية لكثير من الجمعيات والنقابات، ومنها نقابة معلمي العربات التي هو مستشارها القضائي، ولحضرته اليد المشكورة في كثير من الأعمال الخيرية، وله كتابات عديدة في المسائل الطائفية والإصلاحات القبطية.
وفي سنة 1921م أقام بالاشتراك مع كبار القوم حفلة شائقة للنيروز، وخطب فيها صاحب الدولة سعد زغلول باشا خطبة رنانة وشرفها سمو الأمير الجليل محمد علي باشا، وقد خصص إيراد هذه الحفلة لمساعدة ملجأ الحرية، وفوق ذلك له كثير من الأعمال المأثورة والأيادي المشكورة مما يشكر عليه بكل شفة ولسان.
صفاته وأخلاقه
عنيد للحق راسخ للمبدأ، صبور وقت نزول الشدائد والمحن، جريء في القول شهم في كل مواقفه، نزيه النفس وقد خصه الرحمن باللطف والدعة والدفاع عن الفضيلة بكل ما أوتي من قوة وبيان.
وإذا كانت للبيئة الصالحة تأثير عظيم في النفوس والأخلاق، فالأستاذ راغب إسكندر أكثر الناس حظا من ذلك، فإنه نشأ نشأة صالحة في بيئة صالحة كان له منها فضيلة الشجاعة وعلو الهمة، والتمسك بالحق والعدل ونصرة المظلوم مع العفة، وإن هذه الأخلاق السامية يعرفها فيه عشائره ويشهد له بها حتى خصومه وأعداؤه المتطرفون، وهو وقت الشدة لا يحب العنف، ووقت اللين لا يعرف الضعف، كثير الحلم والأناة، راجح العقل رزينه.
أدامه الله قدوة صالحة، وأحياه لمصر التي جاهد في سبيلها، وأكثر من أمثاله بين شبابها الناهض.
ترجمة حضرة الوطني الصميم النطاسي البارع الدكتور نجيب بك إسكندر
مقدمة للمؤرخ
هو آية من آيات الولاء والإخلاص لوطنه ومثال لكل تضحية، بل هو ابن بار من أبناء مصر البررة العاملين على رفع شأنها ومجدها، وهو أحد أصحاب دولة الرئيس الجليل والزعيم المحبوب سعد باشا زغلول، والذي تحمل في سبيل استقلال بلاده العزيزة كل تنكيل وعذاب وامتهان بصبر وجلد وشمم وإباء، فناضل وجاهد واعتقل وأهين، ولكن لم تكن كل هذه المحن لتزحزحه قيد خطوة عن سامي مبدئه، وشريف معتقده ، بل بالعكس زادته تمسكا بأهداب الحق، فإذا نحن قمنا بتدوين ترجمة هذا الشهم الجليل المفضال، فإنما ندونها إقرارا بفضله، واعترافا بمجهوداته ومواقفه المشهورة، وتضحياته الثمينة، التي دلت جميعها على تربية عالية ووطنية صادقة ومدارك سامية، وصفات قل وجودها في كثيرين من شباب هذا العصر مع نزاهة وعزة نفس اتصف بهما في أحرج المواقف، بل وفي أشد أوقات الشدة، فبقلم الفخر والإعجاب نثبت نقطة صغيرة من بحر أفضال هذا النطاسي البارع والوطني المحبوب.
حضرة الوطني الصميم النطاسي البارع الدكتور نجيب بك إسكندر أحد زعماء الحركة الوطنية القومية والطبيب المشهور بمصر والعضو بمجلس النواب المنحل عن دائرة شبرا.
مولده ونشأته
حضرة صاحب الترجمة هو النجل الأكبر لحضرة رجل الجد والعمل والإصلاح إسكندر بك مسيحه رئيس إدارة الخزينة العمومية بالمالية سابقا، ومدير إدارة البطريكخانة القبطية الأرثوذكسية حالا وجده لوالده هو مسيحه أفندي حنا من رؤساء الأقلام بالمالية، الذي اتصف بالعطف على الفقراء والبؤساء، وله أياد مشكورة وأعمال مبرورة لمحض عمل الخير، والذي انتقل إلى جوار ربه عام 1888م.
ولد حضرة صاحب الترجمة بالقاهرة في 2 يونيو سنة 1887 فغذاه والده بلبان الفضيلة والاستقامة، وأدخله مدرسة الأقباط الكبرى فتلقى علومه الابتدائية، فكان مثال الجد والذكاء والنشاط حتى أعجب به عموم أساتذته فضلا عن ميل الطلبة إليه؛ ونظرا لتفوقه على باقي زملائه سواء في العلوم أو الإقدام والشجاعة كان يكلف بإلقاء كلمة ترحيب أمام كبار الوافدين لزيارة المدرسة من عظماء القوم، وكثيرا ما منح جوائز مدرسية بصفة خاصة، ورغم حداثة سنه في ذاك الوقت تعلم اللغتين القبطية والحبشية عدا علومه المدرسية الأولية، حيث كان لم يتجاوز سنه الحادية عشرة سنة، وفي ذاك البرهان القوي على فائق ذكائه وسمو مواهبه.
وعند إلغاء الأقسام الفرنساوية من المدارس انتقل إلى مدرسة عابدين الأميرية، وفيها حصل على الشهادة الابتدائية عام 1901، وكان من أوائل الناجحين، ومن ثم دخل المدرسة التوفيقية ومكث بها سنتين، وانتقل منها لمدرسة الأقباط الكبرى فأخذ يتغذى من لبان علومها مشمرا عن ساعد الجد حتى نال الشهادة الثانوية «البكالوريا» عام 1904م بتفوق عظيم أيضا، ثم دخل مدرسة الطب الملكية ومكث بها المدة المقررة للدراسة، وحصل منها على شهادة دبلوم في يناير سنة 1909م، وقد زادت سني الدراسة في ذاك الوقت نظرا لاعتماد امتحانات هذه المدرسة أمام جامعة لوندرة، وكانت علاقاته مع زملائه الطلبة حسنه للغاية فكان محبوبا من الجميع وكذا من عموم حضرات الأساتذة؛ لما آنسوا فيه من سمو الأخلاق والنبل والذكاء المتوقد، وقد حاز على هذه الشهادات المدرسية بمصر وهو حائز للنهاية الصغرى للسن المقرر أمام وزارة المعارف.
وفي أثناء وجوده طالبا بمدرسة الطب حصل اعتصاب المدارس العليا، الذي تداخل فيه اللورد كرومر عام 1906 وكان حضرة صاحب الترجمة ضمن الطلبة الأربعة الذين انتدبوا عن المدرسة في لجنة المدارس العامة للنظر في أمر هذا الاعتصاب، وكان أهم طلباته رفع ظلم وقع على بعض الطلبة في مدرسة الحقوق، وهذه تعتبر أول مرة ظهر فيها بين الجمهور المصري جماعة متضامنة تطالب بحقوقها معتزة بكرامتها، وقد قام صاحب الترجمة مع بعض زملائه أثناء وجوده في هذه المدرسة بتأليف جمعية قبطية للحض على التمسك بأهداب الفضيلة، وصرف شباب مصر عن ورود القهاوي وإشغال بالهم فيما لا يفيد، وكانت هذه الجمعية مكونة من طائفة من ذوي العائلات العريقة في الشرف، فقامت بإلقاء محاضرات قيمة من كبار رجال العلم والفضل في مختلف الأندية والمجتمعات، نذكر منها خطبة شيقة لحضرة العالم المدقق صاحب السعادة أحمد زكي باشا سكرتير مجلس الوزراء سابقا موضوعها: «مصريون قبل كل شيء» وهي حركة كان المقصود منها إيجاد روح الوفاق والوئام بين العنصرين المسلم والقبطي، وقد كان حضرة المترجم له رئيسا لهذه الجمعية لحين سفره إلى أوربا للتخصص في علم الأمراض الباطنية، ولم تدم حياة هذه الجمعية المباركة طويلا؛ نظرا لتفرق أكثر أعضائها في جهات مختلفة.
وقبل سفره إلى أوربا عين بوظيفة طبيب باسبتالية الأمراض العقلية حبا منه في درس علم البيكولوجيا، وقد تعلق بهذا العلم بعد أن انتظم في عضوية الجمعيات القبطية المهتمة بالشؤون الطائفية، ولكنه لم يلبث في هذه الوظيفة زمنا طويلا عندما تحقق له من أن مستقبل المصريين في سلك الوظائف الحكومية مقفول خصوصا للموظفين الذين يحافظون على كرامتهم متمسكين بشخصيتهم، معلنين أفكارهم بكل صراحة، وهو مبدأ حضرة صاحب الترجمة الذي نشأ عليه ونكل به من أجله، وله مع مدير مدرسة الطب الكرومري الدكتور كيتنج جملة وقائع أبى فيها النزول عن كرامته قيد شعرة، وقد كان أثناء وجوده باسبتالية الأمراض العقلية مثال الكفاءة الإدارية المتناهية، وقد اعترف له بذلك الموظفون الإنجليز أنفسهم، وقد كتب له الدكتور شاندويث من مديري الصحة سابقا يخبره بأن الدكتور وارتوك أخبره في رسالة بأنه يعترف بما عليه الدكتور نجيب إسكندر من الصفات العالية والكفاءة الصحيحة، وفوق ذلك كان محبوبا جدا من عموم الموظفين المصريين، وكذا من خدمة المستشفى وقد ظل محافظا على كرامته الشخصية ضاربا بوشايات الواشين عرض الحائط، وقد كان يترفع من أن ينقل أية وشاية في حق الغير رغما من حض بعض الإنجليز له على ذلك من طريق غير مباشر، فترك هذه الوظيفة ورحل إلى الأقطار الأوربية طالبا الاختصاص في علم الأمراض الباطنية، فقضى في تلك الربوع الحافلة بينابيع العلوم والمعارف ثلاث سنوات أي: عام 1910 و1911 و1912م وكان يشتغل في تحصيل علومه آناء الليل وأطراف النهار، وحصل في أثنائها على شهادة صحة وأمراض بالبلاد الحارة من جامعة باريس، وانتخب عضوا في الجمعية الملوكية البريطانية لصحة وأمراض البلاد الحارة، وتخصص في العلوم البكتريولوجية من كلية باستور بباريس وعلوم الأمراض الجلدية من جامعة فينا، ثم قفل راجعا بعد ذلك إلى مصر في أواخر سنة 1912 ميلادية، فآنس فيه الدكتور الأستاذ بيذ مدير المعاهد الفنية بمصلحة الصحة في ذاك الوقت حسن إلمامه بالمباحث العلمية الطبية، فعرض عليه تعيينه بوظيفة بكتريولوجي، وفعلا أقر مجلس الوزراء هذا التعيين في وظيفة مربوطها من 25-35 جنيهافي الشهر، وقد أنشئت هذه الوظيفة خصيصا له، وافتتح في الوقت ذاته عيادة خصوصية نالت شهرة فائقة؛ ولأن خبرته القصيرة الماضية في الوظائف الحكومية، جعلته أن لا يعلق مستقبله على وجوده في تلك الوظائف الحكومية بالنسبة لتسيطر الإدارة الإنجليزية فيها.
مجهوداته الصادقة نحو بلاده
وعلى أثر هدنة سنة 1918م جمع زملاءه وبعض الإخوان المصريين وتشاوروا في حالة البلاد السياسية، فقر قرارهم على وجوب انتداب وفد لمؤتمر فرساي، وعلى أثر ذلك، علموا فكرة تأليف الوفد برئاسة حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل المحبوب سعد باشا زغلول، فذهب حضرة صاحب الترجمة مع إخوانه لبيت الأمة «وهو منزل دولة الرئيس الذي خصصه لعقد اجتماعات الوفد المصري فيه»، موكلين الوفد المصري في العمل على استقلال البلاد، ومن ذلك الوقت بصفة خاصة وهو يشتغل في المسألة المصرية مرتبطا ارتباطا وثيقا مع الخطة المثلى التي سار عليها الوفد المصري، وقد ناله في سبيل ذلك كل تنكيل وعذاب واضطهاد من السلطة الإنجليزية، ومن الهيئات الرجعية في مصر خصوصا في عهد وزارتي عدلي يكن باشا وعبد الخالق ثروت باشا، حيث منع من الترقية وأحيل على مجلس تأديب؛ لأنه كان من أعضاء لجنة الموظفين التي قامت بتكريم الزعيم الجليل رغم إرادة الوزارة العدلية، وهو أيضا أحد الذين رفضوا بشمم وإباء كل الطرق التي قام بها عدلي باشا أو ثروت باشا بإزائه؛ لكي يمتنع عن مناوأة وزارتيهما علنا، وقد كان نائبا عن مصلحة الصحة العمومية والأطباء في تمثيلها في لجنة الموظفين العليا، وكان فيها مثال الجرأة والإقدام والشجاعة فيما كان يبديه من الآراء. وقد بلغ صدق شعوره السياسي إلى درجة أن أوفده مدير عام مصلحة الصحة؛ لتهدئة خواطر عمال الكنس والرش الذين كان يخشى من استمرار إضرابهم خوفا على حالة البلاد الصحية، وقد ذهب إليهم فعلا وخطب فأعلنهم طبقا لقرار لجنة الموظفين العليا بأن الإضراب العام لا يتناول أمثالهم محافظة على صحة الأهالي، هذا وقد ألقت السلطة العسكرية القبض عليه بعد أن فتش منزله، واعتقلته في القلعة وقصر النيل وذلك في صيف عام 1922م، حيث مكث مدة ثلاثة شهور تقريبا واحتمل هذا الاعتقال من أوله إلى آخره بكل شجاعة وثبات، وكان محافظا على كرامته الشخصية بإزاء الضباط والعساكر الإنجليز فكان موضع احترامهم الصحيح، وقد كان حضرة صاحب الترجمة ضمن الأعضاء الثمانية، الذين أشار دولة الرئيس الجليل سعد زغلول باشا بأن يكونوا هيئة الوفد المصري بعد نفيه وزملائه في أوائل عام 1921م إلى سيشل، وقد ظل مدة الحركة الوطنية وهو مثال الشجاعة محافظا على شرف مبدئه مهما قاسى في هذا السبيل من الآلام.
خدماته الصادقة نحو مهنته الطبية
ولحضرة صاحب الترجمة فضل جميل وأثر لا يمحى في تأسيس جمعية الأطباء المصرية، ونقابة الأطباء المصرية وكان ينتخب دائما في عضوية مجالسها الإدارية بإجماع الآراء، وله كذلك في الجمعية مباحث علمية كثيرة الفائدة وكتابات ومقالات طبية في مجلتها، وكذلك في النقابة التي كان أخص مظاهرها إبداء الرأي السياسي في الأحوال الحاضرة، وقد كان يؤيده في آرائه جميع حضرات الأطباء، وطالما أصدروا من القرارات الجريئة في أشد الأوقات شدة ما حفظ نفسية الجمهور أمام حكم الإرهاب الذي كان سائدا في مصر بمعرفة لورد اللنبي، وقد كان لهذه الآراء أيضا تأثير كبير جدا عند نشرها في جرائد إنجلترا؛ لأن الأطباء كهيئة وطنية لها رأيها المحترم بالنسبة لما هو معروف عند رجالها من صدق النظر ودقة البحث ووزن الأمور.
وقد بعثت إليه نقابة الأطباء الخطاب التالي وقت اعتقاله؛ تقديرا لصادق مواقفه الشريفة ومجهوداته الفائقة نحو خدمة بلاده، ندونه وهذا نصه:
إلى الزميل الأعز في معتقله
إن التضحية التي قدتها من جديد لوطنك ليست الأولى من نوعها، بل هي حلقة في سلسلة تتبع الواحدة الأخرى وقد عرفنا عن روحك العالية أنها مشبعة بحب الوطن المفدى إلى حد التقديس والعبادة، إذ خلقت بطبيعتك مثالا للشهامة والمروءة والنجدة، ونكران الذات بحكم مولدك وماضيك وبحكم مهنتك، فرجل هذا شأنه لا شك يستصغر كل كبير في سبيل بلاده وأمته، ويهون عنده كل صعب في سبيل إعزاز بلاده ونصرتها، وإن قلوب زملائك الأطباء لتحن إليك حنين الطيور لأوكارها والأسود لعرينها، وإن أرواحهم لترفرف عليك فتظلك من لحف الشمس وزمهرير البرد مهما أقاموا دونك من المعاقل والأسوار، ومهما حجبوك عن الأنظار فكن على بركة الله هادئ البال، فقد نلت مكانك من الشمس عن كفاءة وجدارة، ومثل مكانك لا ينال.
هذا وقد انتخبته الجمعية الطبية الملكية في اجتماع جمعيتها العمومية لسنة 1924م لأن يكون عضوا لمجلس إدارتها.
أعماله الاجتماعية
لا يفوتك أيها القارئ الكريم أن حضرة صاحب الترجمة رغما من كثرة أعماله الطبية في عيادته الخصوصية، التي ربما أخذت كل أوقاته، فقد قبل أن يكون طبيبا للأمراض الباطنية والجلدية بالمستشفي القبطي، وهو من أشد المخلصين لإعلاء شأنه، والذي تطوع لخدمته بدون أجر ابتغاء مرضاة الله واختيارا منه لخدمة الإنسانية.
انتخابه عضوا لمجلس النواب
ونظرا لصدق إخلاصه وكبير وطنيته وثبات مبدئه وسمو مركزه الأدبي، انتخب عضوا في مجلس النواب عن دائرة شبرا في كل من أدوار انعقاده، وكان شديد الغيرة على مصلحة هذه الدائرة، كما كانت له الآراء الصائبة والاقتراحات السديدة، ولا بدع في ذلك، فكفاءته الشخصية ومقدرته الأدبية وشهامته التي لا حد لها معلومة لدى الخاص والعام، وقد جاء هذا الانتخاب في محله حيث صادف أهله.
صفاته وأخلاقه
عالي الهمة، كبير النفس، ذكي الفؤاد، قوي الحافظة، شديد العارضة، دمث الأخلاق، ضاحك السن وله أياد بيضاء ومآثر غراء في مواساة المرضى وتخفيف آلام البؤساء، وإنه والحق يقال مثال النجابة والأدب والذكاء والدأب على العمل، فضلا عن أنه مملوء بالعواطف السامية الشريفة والخصال النبيلة.
أدامه الله وأبقاه لمصر العزيزة التي نكل به من أجلها، وتحمل عذاب الاعتقال في سبيلها، وأكثر من أمثاله العاملين على رفع لواء مجدها.
ترجمة حضرة الوطني الغيور الحسيب النسيب والرياضي الشهير السيد محمد بك تهامي
خشبه
كلمة للمؤرخ
قد يغتبط صدر المؤرخ سرورا، ويبتهج حبورا؛ إذا هو دون لأصحاب الفضل الحقيقي أعمالهم، وأثبت لأبناء الأجيال المقبلة نبلاء القرن العشرين وما كانوا عليه من علم وفضل وذكاء ومقدرة وكفاءة؛ ليحذوا حذوهم ويقتدوا بسمو أعمالهم وكبير مجهوداتهم فيرفعون شأن بلادهم.
حضرة الوطني الغيور الحسيب النسيب والرياضي الشهير السيد محمد بك تهامي خشبه من وجهاء بندر أسيوط والعضو بمجلس النواب المنحل عن دائرة بني رافع مركز منفلوط.
فمن هؤلاء النبلاء العاملين الذين ضحوا في سبيل المنفعة العامة الثمين من مالهم وصحتهم وزهرة حياتهم، ولهم مواقف شريفة وشهامة عالية؛ حضرة صاحب هذه الترجمة الحسيب النسيب السيد محمد بك تهامي خشبه من كبار وجهاء بندر أسيوط، وأحد أفراد أسرة خشبه الشهيرة بالمجد الأثيل والجاه العريض، فهذا الشهم رغم كثرة ثروته وشهرة عائلته أبى إلا العمل لخير بلاده، وفائدة مواطنيه وفضل الجهاد في ميدان الحياة عن زخرف الدنيا وأباطيلها، فشمر عن ساعد الجد وأتى من ضروب الإصلاح، وجليل المشاريع والمقدرة والكفاءة ما دل على نبوغ فطري وذكاء نادر.
مولده ونشأته
ولد حضرة المترجم له في بندر أسيوط عام 1888م من أبوين شريفين كريمين، اشتهرا بالصلاح والتقوى وهو ابن المرحوم السيد محمد بك خشبه بن المرحوم السيد محمد بك علي خشبه، سر تجار أسيوط، فغذياه بلبان العلوم وأرضعاه لبان الأدب الصحيح، فنشأ بطبيعته ميالا إلى العلوم وجنى المعارف، وقد تجلت مواهبه السامية منذ كان صبيا، مما دعا والده إلى مضاعفة الاهتمام بأمره في هذا الباب، فما كاد يلتحق بالمدارس حتى ضرب فيها بسهم من الذكاء والاجتهاد، وجعله دائما في طليعة فرقته وطفق يتفوق ويتدرج يانعا حتى إذا ما نال الشهادة الثانوية، وهو في الثامنة عشر ربيعا آنس في نفسه ميلا خاصا إلى العلوم الرياضية، فالتحق بمدرسة الهندسة السلطانية (الملكية الآن)، فحذق فيها، ولو لم يعقه المرض قبل الامتحان النهائي لفاق الناجحين عموما، ولكنه مع ذلك كان الثاني في شهادة الهندسة العليا وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين.
وظائفه الهندسية
ولما كان من سجاياه التمتع بالحرية والصراحة المطلقة في القول والعمل والحرية في الإرادة، كان يرغب كثيرا عن الانتظام في سلك التوظف، غير أن فريقا من أصدقائه ألح عليه مرارا في التحاقه فيها، فامتثل بوحي آدابه وما انفطر عليه من تقديس رأي الجماعة، وانتظم في الري مهندسا عام 1910م، حيث مكث فيها سنتين كان فيها مثال النزاهة والهمة والنشاط، ثم تغلبت عليه عاطفته الفطرية فاعتزل المنصب وتفرغ لمزاولة أراضي عائلته الخاصة فابتكر طريقه لبناء المجاري في الأراضي الرملية على طريقة حديثة هندسية من الحصى والرمل، وبعض المواد أتت بالمرغوب مع قلة النفقة، ومتانة البناء، وبذلك تحولت تلك الأراضي القحلاء الجدباء إلى جنة فيحاء، أينعت ثمارها وتدانت قطوفها ووقفت تباهي بمحاصيلها أخصب الأراضي جودا ونموا.
ولما انتهى من ذلك المشروع حسن إليه أخلاؤه الكثيرون العودة إلى التوظف، فالتحق مهندسا بالطرق الرئيسية بوزارة الأشغال، وفيها أتى من ضروب الاقتدار وفنون الهمة ما اقتاد به قلوب عموم رؤسائه، وجعله مرموقا بعيون الإجلال والاحترام منهم.
غير أنه لما علم بمشروعات الحكومة الصيفية بمركز منفلوط الزراعية الصيفية، هناك من مياه الترعة الإبراهيمية التي تخترق أراضيه، وأراضي أسرته؛ وجد أن الميدان أفسح لإظهار مواهبه، فاستقال رغم تردد رؤسائه في قبولها ومعاودتهم له بالبقاء، ثم أخذ في مباشرة هذا المشروع الخطير بما عهد فيه من الهمة والإقدام وأجرى الترع هناك.
ونهر الأنهار بطرق فنية تشهد له بالمقدرة والكفاءة، ولا أدل على ذلك من تمكنه من إرواء خمسة آلاف فدان بالراحة وبغير كلفة، فزادت بذلك ثروة أهالي تلك البلاد بما يربو على الخمسين ألف جنيه سنويا، وقد قابل الأهالي ذلك بالبشر والارتياح؛ لأنهم ما كانوا ليتخيلوا أن أراضيهم الجدباء تعود يوما جنة فيحاء.
تعيينه عضوا بلجنة الوفد المركزية
ونظرا لما قام به من الخدم الوطنية بعد الحرب التي دلت على روح عالية، ووطنية صادقة، دخل عضوا في الوفد المصري للجنة الوفد المركزية بأسيوط، وقد اشتهر أيضا بتأليف الكتب الثمينة المفيدة، ومن ذلك كتاب وضعه في الفلسفة العملية في الطبيعيات جامع لكل ما يهم رجال الفن، كما وقد كان عضوا في لجنة المعهد العلمي بأسيوط وله فيه مآثر غراء وأياد بيضاء تدل على علو كعبه وكفاءته العظيمة في الأعمال الهندسية، وقد عرف الجميع له هذه المواهب السامية، فأخذوا ينادون بترشيحه للبرلمان المصري، كما نادى بذلك الوفد المصري لدائرة بني رافع التابعة لمركز منفلوط مديرية أسيوط، ولا شك أن هذا التعيين صادف أهله وحل محله؛ لأن حضرة المترجم له خير ما أنجبت مصر من أولادها علما وفضلا ونشاطا وإقداما وذكاء، وسترى مصر من ثمرات مجهوداته فوائد جمة، ومن معلوماته التي سيبديها في قاعة البرلمان والآراء الناضجة والاقتراحات الصائبة ما يعزز صدق معلوماتنا فيه هذا إذا ظل مجلس النواب منعقدا للآن.
صفاته وأخلاقه
رغما من انكبابه على أعماله الهندسية الهامة ومشاريعه الجليلة، نراه دائما بشوش الوجه دمث الأخلاق لطيف المعشر حلو الحديث دائب العمل لما فيه فائدة مواطنيه، وفوق كل ذلك تراه يضحي النفس والنفيس في حب بلاده المصرية العزيزة، وله في حركتها الوطنية الكبرى أثر خالد وعمل مجيد.
أدامه الله وأبقاه وأكثر من أمثاله الأدباء العاملين لخير البلاد ورفع شأنها.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري إبراهيم بك بهجت
كلمة للمؤرخ
من سراة مصر وأغنيائها الذين امتازوا وتفوقوا في الشؤون الزراعية، ودرسوا معدن الأراضي بأنفسهم وخصصوا مجمل حياتهم في سبيل فائدة أنفسهم ومواطنيهم فاستفادوا وأفادوا، وخلدوا لهم تاريخا مجيدا في هذا العصر حضرة صاحب العزة السري المعروف إبراهيم بك بهجت، الذي خدم بلاده أجل خدمة تسطر له بقلم الإعجاب والشكر والثناء، فحبذا لو اقتدى سراة الأمة به وسلكوا سبيله وصرفوا مجهوداتهم وثمين وقتهم فيما يعود بالخير العميم على ذواتهم وذويهم، وبلادهم أولى من تسرب أموالهم فيما يضر، وفي ذكر تاريخ هذا السري الجليل فليتنافس المتنافسون.
حضرة صاحب العزة السري إبراهيم بك بهجت عضو مجلس النواب عن دائرة قلين غربية في الدور الأول المنحل.
مولده ونشأته
هو إبراهيم بهجت بك ابن المرحوم محمد أفندي بهجت بن عبد الله أفندي، سطعت أنوار مولده بمصر يوم 29 مايو سنة 1863، ولما ترعرع أحضر له المرحوم والده المعلمين الذين لقنوه من العلوم والمعارف ما جعله يعد رجلا من خيرة الرجال، وقد بث فيه المرحوم والده من روحه الوطنية الصحيحة ما جعله يجود بنفسه في سبيل مصلحة بلاده، ولما رأى أن ثروة البلاد تتوقف على الزراعة؛ لأنها حاجة البلاد وينبوع حياتها فضل أن يعمل لخير بلاده من هذا الطريق؛ حتى يؤدي لأمه مصر ما هو واجب عليه، وفعلا له ما يجعل القلم عاجزا عن أن يفيه حقه من الشكر على تلك الجهود العظيمة، التي ارتكزت على خير أساس وعمت فوائدها على الناس.
وفي سرد ما ناله من الميداليات الذهبية والفضية؛ تقديرا لجهوده العظيمة وخدماته الجليلة في الشؤون الزراعية لمصر أكبر دليل على همته العالية ومواهبه السامية.
صاحب العزة إبراهيم بك بهجت بملابسه الملكية.
فقد نال ثمان ميداليات دفعة واحدة في المعرض الذي أقيم تحت رئاسة المغفور له السلطان حسين كامل، وفي المعارض التي أقيمت بمصر عام 1920و910 و902 و909 و912 كما حاز شهرة فاقت السهى، واتصلت بمسامع سمو الخديوي السابق عباس حلمي باشا الثاني، فزاره في منزله العامر بطنطا في أول مايو سنة 1914، فأقام له رب الدار زينة فخمة امتازت بجمال تنسيقها وبديع مسلاتها، وقد استقبل سموه فيها حضرات أشقائه إبراهيم بك بهجت وحسين أفندي بهجت وأحمد أفندي بهجت بالحفاوة والإجلال وجلس سموه على كرسي أثري من آثار الفراعنة مأخوذ رسمه من الأنتكخانة الخديوية، وألقى حضرة نجله الأديب المهذب محمد أفندي منير بهجت - الذي كان طالبا وقتئذ بمدرسة طنطا الثانوية والحائز لدبلوم الزراعة العليا، وسافر إلى أميركا للحصول على الشهادات العالية، حيث اندمج في سلك كلية كليفورينا ونال شهادة الامتياز عام 1923م في علم الزراعة، واستعد لتأدية امتحان لشهادة الدكتوراه الذي تم في مايو سنة 1925م بفوزه ونجاحه - خطبة ترحيب جمعت من درر المعاني، ودقيق المباني ما أعجب سمو الخديوي، وقد نقلتها أمهات الصحف في حينها، وتنازل سموه فأخذ صورة من أربع ورقات من أصل محفوظ لتلك الآثار المدونة بمحفظة قديمة، فذكر هذه الجملة أن الروابط تزداد وتدوم إلى ما شاء الله، وقد تفضل أيضا فقبل نجليه الصغيرين قبل مبارحة السراي العامرة، وقد يمنعنا ضيق المقام هنا من إثبات تلك الخطبة النفيسة، ولكن هذا لا يمنعنا أن نثبت صورة هذا النجل الذكي، الذي سيكون له في مستقبل الأيام حظ وفير.
حضرة الأديب محمد أفندي منير بهجت.
أما النجل الثاني لحضرة صاحب الترجمة ألا وهو حضرة الأديب محمد أفندي أنور، فقد أرسله والده إلى بلاد الإنجليز حيث التحق بكلية واي الزراعية، وبعد أن أحرز الشهادات العالية عاد إلى مصر لمباشرة زراعة حضرة والده الواسعة ، وأما باقي حضرات أنجاله المهذبين فطلبة بالمدارس السعيدية بمصر.
وقد كان حضرة صاحب الترجمة عضوا مؤسسا في لجنة الملجأ العباسي، والمدرسة الثانوية والمستوصف بطنطا، وأمينا لصندوق الملجأ، فكان خير قطب تدور حوله رحى الأعمال الخيرية، وكان ولا يزال عضوا بالجمعية الخيرية الإسلامية من عشرين سنة، وعضوا بالجمعية الزراعية الملكية، وعضوا بمجلس حسبي مديرية الغربية، ومجلس حسبي مركز طنطا أكثر من خمسة عشر عاما إلى الآن وهو أيضا عضو بلجنة وفد لوزان بمصر، ولجنة الوفد الرئيسية بطنطا، وقد اشترك في عدة مشاريع خيرية، وفي جمع الاكتتابات لحريق ميت غمر وإعانة حرب البلقان وطرابلس وغير ذلك من الأعمال التي تجل عن الحصر، وتخلد في بطون التاريخ بالفخر والإعجاب.
ولا يفوتنا أن نذكر بأن أكبر شاهد يعترف بقيمة هذا الرجل العظيم ما ناله من كثرة الأصوات عند انتخابه عضوا بمجلس النواب الأول المنحل، وفي ذلك لعمر الحق ما يشهد بما له من المكانة السامية في قلوب مواطنيه.
صفاته
كريم السجايا عالي الهمة سباق إلى عمل الخير، ذو نفس كبيرة تأبى عليه إذاعة ما تعمل يداه، يقابل ذوي الحاجات بلطف غريزي فيه لا يشوبه أي تصنع، يغيث الملهوف، محب لوطنه، كريم لضيوفه وقاصديه، مخفف بلوى البؤساء.
فلا أحرم الله الكنانة من خدماته الجليلة.
ترجمة حضرة صاحب العزة محمد سعيد بك
هو السيد محمد سعيد بك بن السيد سعيد أبو زيد بن السيد أبو زيد بن السيد علي، متصلا نسبه الجد الأكبر بسيدي محمد الغازي الحسيني المشهور بسيدي غازي بزاويته بالعزبة بمركز كفر الشيخ غربية.
حضرة صاحب العزة محمد بك سعيد عضو مجلس النواب المنحل عن دائرة الكوم الطويل غربية.
مولده ونشأته
ولد سنة 1269ه ولما ترعرع تعلم الكتابة والقراءة ومبادئ الحساب ببلدة الكوم الطويل، ثم التحق طالب علم بالجامع الأحمدي بطنطا، فأظهر من النجابة ما بشر بمستقبل زاهر ثم انتقل إلى الجامعة الإسلامية الكبرى بالقاهرة (الأزهر الشريف)، حيث تلقى فيه العلوم العالية وقد كان موضع إعجاب مشايخه، ثم انتخب عمدة لناحية الكوم الطويل وتوابعها سنة 1890م، واستقال منها سنة 1913م، ولما أبداه من الخدم والكياسة فيما يقوم به من الأعمال قد انتدب سنة 1900م لتعديل الضرائب بمركز كفر الشيخ، فكان فيها مثال الدقة والعدل وأظهر من سداد الرأي والحكمة ما جعل الأهالي تلهج بالشكر والثناء عليه الأمر، الذي دعا الحكومة أن تشكره رسميا، وقد أنعم عليه بالرتبة الثالثة، والذي يشهد بسمو مكانته الأدبية، ومقدار احترام الأمة له أنه دعا سمو الخديوي عباس حلمي الثاني خديوي مصر السابق سنة 1899 ببلدة عزته لافتتاح الخط الحديدي، وكان الاحتفال الذي أقيم يومئذ فاخرا أمه علية القوم من كبار رجال مصر العاملين وأعيانها، ورفع لسموه قصيدة تعد فريدة يحلى بها جيد الزمان فسر منها سمو الخديوي سرورا عظيما، وشكره عظيم الشكر اعترافا بقيمته الأدبية والعلمية، ثم زاره سموه مرة أخرى سنة 1914 عند مروره العام وكان الاحتفال بالغا حد الوصف من الجمال والجلال، فذكره سمو الخديوي بزيارته السابقة له، وأشار لعزته بأنه يحفظ لذلك اليوم أحسن أثر في مخيلته، وتعاطي المرطبات والحلوى وزاره ثالثة بين هاتين الزيارتين عند مروره بالسكة الحديد، وكان قد دعاه سعادة مدير الغربية لافتتاح مصارف الغربية سنة 1912 ومزرعتي بيلا وشلماه، ذلك الافتتاح الذي شهده الجناب الخديوي واللورد كتشنر، حيث أقيمت المقاصف الفاخرة وصفت المقاعد الذهبية وتباهت في ذلك الاحتفال المهيب حضرات الحكام والأعيان، وعزته حفظه الله شديد التعلق بالعائلة المالكة عظيم الإخلاص لصاحب الجلالة مليك البلاد فؤاد الأول حرسه الله، فلا يرى بمجلس من المجالس الخاصة أو خلافها إلا ويترنم بأفضال مليكه المحبوب والدعاء له ولولي عهده السعيد الأمير فاروق وللأنجال الفخام، وانتخب سنة 1909 في لجنة حصر الأشقياء فكان خير مثال يحتذى به، وانتخب في لجان وجمعيات كثيرة بالمديرية وبالمركز، وانتدب في لجان تحكيم وانتخب عضوا في مجلس النواب، وانتدب لافتتاح المجلس في ذلك اليوم التاريخي المشهور بصفته أكبر الأعضاء سنا، فاستقبل جلالة الملك عند تشريفه دار النيابة وودع جلالته عند مغادرته إياها، وكان يرأس الوفد الذي توجه إلى قصر عابدين للتشرف بتقديم فروض الشكر بالنيابة عن المجلس، واستمر في رئاسة المجلس إلى أن انتخب الرئيس الدايم صاحب المعالي مظلوم باشا، فألقى خطابا حيا فيه النهضة المباركة ودعا بالتوفيق للقائمين بالإصلاح في ظل جلالة المليك المعظم بمعاونة الزعيم المفدى ووزرائه الفخام، وسلم الكرسي للرئيس الدائم وانضم إلى إخوانه المجاهدين بين تصفيق الاستحسان منهم وإعجابهم البالغ له.
الرتب والنياشين
الرتبة الثالثة سنة 1901 والرتب الثانية سنة 1910 هذا عدا شهادات الحكام له واعترافاتهم بفضله.
أعماله الخيرية
له اليد الطولى في الأعمال الخيرية فلقد تبرع بالمبالغ الطائلة للملجأ العباسي بطنطا، والمدرسة الصناعية ودار الكتب والأنتكخانة بطنطا، وأسس مدرسة بالكوم الطويل، وصرف على تأسيسها مبلغا جسيما، وأوقف عليها عشرة أفدنة من أجود أطيانه وأحضر لها المعلمين الأكفاء، وسهر عليها فأتت بأحسن النتائج الأمر الذي دعا وزارة المعارف إلى إدخالها تحت تفتيشها وتقديرها لخدماتها للعلم، وقدمت مساعدتها السنوية للمدرسة ومعلميها، ولم تقف همته إلى هذا الحد الذي يترنم بشكره وادي النيل بل تجاوز فبنى مسجدا فاخرا بالناحية تقام به الشعائر الدينية، وصرف المال الكثير على تشييده وأوقف عليه خمسة وعشرين فدانا من أجود أطيانه.
الكفاءة الشخصية
إن رجلا يقوم بهذه الأعمال الخطيرة ويكون فيها مثال الكفاءة والنبوغ، وينتخب رئيسا لمجلس النواب لجدير بأن توصف كفاءته الشخصية بأسمى عبارات التمجيد والتكريم، خصوصا ما حازه من الأصوات في الانتخابات لمجلس النواب.
صفاته
كبير الهمة، عالي النفس، رحيم بالضعفاء، يحنو على الصغير فيشجعه إلى أن تظهر مواهبه الفطرية، شديد المحافظة على شعور مجالسيه وإحساساتهم، كثير الحركة فيما يفيد، ثابت الرأي، قوي الإرادة، مثال اللطف بين معاشريه، كثير التسامح إلا في حقوق دينيه ووطنه وشرفه.
ترجمة حضرة السري الوجيه محمود بك حسن جازيه
إذا عد شباب هذا العصر الذين اتصفوا بالإقدام والجد في القول والعمل، كان حضرة صاحب الترجمة في مقدمة الجميع فقد خصه الرحمن بالذكاء الفطري والأدب الجم والشهامة العالية والمروءة المتناهية، ولقد ادخر لنفسه أحسن دخر ألا وهو الاشتغال بفن الزراعة التي هي حياة مصر وثروة البلاد.
حضرة السري الوجيه محمود بك حسن جازيه نجل المرحوم حسن بك جازيه من كبار أعيان بلدة أبو الغر مركز كفر الزيات غربية وعضو مجلس النواب المنحل عن دائرة بسيون غربية.
مولده ونشأته
سطعت شمس مصر بمولد حضرة صاحب الترجمة في الحادي عشر من شهر مايو سنة 1889 ببلدة أبو الغر مركز كفر الزيات مديرية الغربية، وهو نجل المرحوم الطيب الذكر حسن بك جازيه بن المرحوم عيسوي بك جازيه، وعائلة أبو جازيه هي من أشرف العائلات حسبا ونسبا، ومعروفة للخاص والعام بمديرية الغربية، فهو من أبوين شريفين طاهرين أحسنا تربيته، وعوداه على حب الفضيلة حتى إذا ما بلغ السنة التاسعة من عمره، أدخله والده إلى مدرسة ابتدائية ثم نقل إلى المدرسة الناصرية وحصل منها على الشهادة الابتدائية عام 1905، ثم نقل إلى مدرسة رأس التين بالإسكندرية، وحصل منها على البكالورية سنة 1909 ثم دخل مدرسة الحقوق، ولما وجد من معلميها الإنكليز تعصبا على الحزب الوطني وأنصاره غادر صاحب الترجمة البلاد المصرية إلى جامعة كامبردج ببلاد الإنجليز، وهي أكبر جامعة بأوربا، ثم دخل كلية تارانتي هول وحصل على درجة ب 10 في علم الاقتصاد والزراعة ودرجة ب
BA
في علوم الزراعة والاقتصاد السياسي والمالي سنة 1913، وعاد للحصول على شهادة تخصيص في علم الزراعة، فنشبت الحرب الكبرى فخاف من البقاء بها فعقد عزمه على الرجوع لمصر، ثم دخل في خدمة الحكومة المصرية، ولما لم تنصفه وتعطه حقه في الوظائف الإدارية استقال سنة 1914 مفضلا الاشتغال في الأعمال الزراعية في مزارعه الواسعة، وقد قام بتجارب زراعية عديدة الأصناف كالحبوب والأقطان، فنظم الأراضي تنظيما حديثا يسهل على الفلاح الزراعة والري، وقد أدت هذه الطريقة إلى زيادة المحصولات، واجتناء الخيرات كما أنه غرس أشجارا جميلة تروق للناظرين في تلك الطرق المنظمة حتى أصبحت أراضيه الواسعة كجنة غناء، هذا عدا عن البساتين التي أحدث فيها مثل هذا الغرس، فأصبحت غاية في الرواء وجمال المنظر.
ومن حسن إدارته ورزانة عقله أنه درس أخلاق الفلاحين درسا تاما، فأصبح يخاطب كلا على قدر ما استطاع من الإدراك والفهم؛ ولذا تراه محبوبا جدا منهم، لا يذكرون اسمه إلا مقرونا بالثناء والإعجاب بلطفه وكرم أخلاقه ومروءته والجد في العمل.
أعماله الخيرية
ومن أعماله الخيرية التي تنطق بعظيم فضله وكفاءته أنه اتفق مع الغيورين من رجال طنطا المعدودين على تأسيس جمعية الإسعاف، وانتخب حضرته وكيلا لها منذ نشأتها سنة 1921 إلى الآن، وقد تبرع لها بأوتومبيل من ماله الخاص لنقل المصابين فيه يقدر ثمنه بخمسماية جنيه، فاستحق الشكر والثناء من أعيان وأهالي مديرية الغربية، وحضرته من مؤسسي جمعية البر والإحسان بطنطا، وجمعية المؤاساة بطنطا، ومن وطنيته المشهورة بين أهالي المديرية أنه تطوع لوفد مؤتمر لوزان، وتبرع أيضا ببناء فخم لمجلس مديرية الغربية لإيجاد مدرسة ابتدائية ببلدته أبو الغر مركز كفر الزيات غربية، وأسس محفلا ماسونيا يسمى محفل الغربية بطنطا.
فرجل تتجلى فيه الشهامة والمروءة والتقوى والصلاح لجدير بأن نزين به وبأعماله جيد كتب التاريخ.
كفاءته الشخصية
ولكي يدرك القارئ جدارة صاحب الترجمة وكفاءته الشخصية أنه حاز الأغلبية الساحقة في الانتخابات البرلمانية، حيث ذكاه أكثر عدد من المندوبين الثلاثيين عن دائرة بسيون، ولا شك أن هذه الدائرة سعيدة لاختيارها هذا الشهم الجليل نائيا عنها، وسوف تتحقق جميع آمالها بفضل ما أوتي من علم وفضل وذكاء وإخلاص، هذا إذا ظل مجلس النواب منعقدا حتى الآن وفقه الله تعالى إلى ما فيه إسعاد البلاد.
صفاته وأخلاقه
هو مثال الرجولية الصحيحة طيب القلب سليم الضمير كريم الأخلاق، بشوش الوجه يتأثر من رؤية البؤساء، سباق إلى عمل الخير؛ كي يرضي الله تعالى وضميره، متعه الله وألبسه ثوب الصحة والعافية، وجزاه خيرا جزاء أعماله المبرورة.
ترجمة حضرة صاحب العزة الوجيه الأمثل والنائب المحترم عمر بك مراد
كلمة للمؤرخ
من رجالات مصر الذين أخذوا قسطا وافرا من العلوم وتحلوا بالفضيلة والشهامة والوطنية العالية، واستماتوا في خدمة بلادهم بعزيمة ماضية لا تعرف الكلل وهمة شماء لا تعرف الملل، حضرة صاحب العزة عمر بك مراد قاسم صاحب هذه الترجمة، فهو من سلالة عائلة شريفة المحتد عريقة في المجد، تربى في بيئة صالحة، وتغذى بلبان الفضيلة فشب مصوغا في قالب الكمال والجلال.
حضرة صاحب العزة الوجيه الأمثل والنائب المحترم عمر بك مرادعضو مجلس النواب المنحل عن دائرة بلبيس شرقية.
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة نائبنا المحترم ببلبيس سنة 1286 من أبوين كريمين شريفين، فوالده هو المغفور له الطيب الذكر خالد الأثر المرحوم قاسم باشا مراد، عين أعيان بلبيس بمديرية الشرقية، الذي اشتهر بمكارم الأخلاق وحسن الصفات مع الصلاح والتقوى، فأخذ يعلمه مبادئ العلوم بسراياه الخصوصية الكائنة بأبعاديته الواسعة ببلبيس، حيث استحضر له أساتذة أكفاء فأرضعوه لبان الأدب والفضيلة والصلاح، وبثوا في نفسه العالية حب الجد في العمل والعلم، فوجدوا منه ذكاء فطريا خارقا وقلبا واعيا، ثم أدخله المرحوم والده المدارس الابتدائية والثانوية، فنال قسطا وافرا من علمها وآدابها، فكملت محاسنه وتجلت جميل صفاته.
ولما آنس الحاكم والمحكوم فيه هذه الصفات السامية، وبرزت لهم هممه العالية اختير لأن يكون عضوا بلجنة الري بمديرية الشرقية، فأخذ يعمل بجد ونشاط مستعملا في ذلك كل ما أوتي من ذكاء وهمة، مما استحق كل شكر وثناء ثم عين عضوا بالمجلس الحسبي بمديرية الشرقية، فكان مثالا للإقدام والنشاط وصواب الرأي كما كان كذلك في عضويته بلجنة الشياخات بتلك المديرية، فازداد احترام الجميع له وأعلوا مكانته حتى إذا ما جاء دور انتخاب أعضاء الجمعية التشريعية، أجمع الكل على انتخابه؛ ذلك لأنهم لم يجدوا من هو أكفأ منه علما وذكاء ونشاطا وهمة، فكان يعمل في مركزه هذا عمل الأبطال في ميدان القتال: آراء صائبة، واقتراحات ملئوها الفائدة، وخدمات صادقة، مع وطنية عالية، وقد استمر عاملا مجدا بها حتى ألغيت، وقد نال من ثمار جهاده أن أنعم عليه سمو عباس حلمي باشا الثاني خديوي مصر الأسبق رتبة البكوية من الدرجة الثانية جزاء إخلاصه في العمل، وسداد الرأي، وطالما طلب أن تمنحه المعية رتبة المتمايز الرفيعة مكافأة له على جليل أعماله، فكانت المعية تستعمل التسويف من وقت لآخر، وذلك نتيجة مسائل شخصية لا محل لذكرها هنا.
وما كادت مصر تنال استقلالها وتعمد حكومتها إلى انتخاب الأعضاء الأكفاء بواسطة الانتخابات؛ لتعين نوابها في برلمانها؛ حتى فاز حضرة صاحب الترجمة الجليل في الانتخابات، فعين نائبا من دائرة بلبيس بمديرية الشرقية، ولقد أجاد الناخبون صنعا بانتخاب هذا الشهم الكفؤ والمتعلم الراقي، وسوف تتجلى مواهبه السامية وعبقريته الفائقة، ومواقفه الشريفة بالدفاع عن مصالح منطقته، ولا شك أيضا أن هذه الدائرة قد ساعدها الحظ في تمثيل هذا النائب الجريء عنها، وستنال قسطا وافرا من الإصلاحات الهامة بفضل حسن جهاده، وبراعة دفاعه عن مصالحها، وليس تحقيق هذه المطالب والإصلاحات على همة حضرته بعزيز، هذا إذا ظل مجلس النواب منعقدا حتى الآن دون أن تفاجئه الظروف المعلومة للجميع والتي استوجبت تعطيله.
صفاته وأخلاقه
ومن الناس من إذا أعطى وظيفة سامية تكبر وشمخ، فيصغر في نظر مواطنيه ومنهم من يزداد رقة ولطفا وكمالا وشعورا بالواجب المفروض عليه مثل حضرة صاحب الترجمة الذي جملته وظيفته النيابية بجمال الخلق، فكان مثال الدعة ومكارم الأخلاق.
أدامه المولى وأبقاه وألهمه سداد الرأي للدفاع عن مصالح البلاد، وأكثر من أمثاله الأكفاء.
ترجمة حضرة الأستاذ القدير عبد المجيد بك إبراهيم من وجهاء مديرية أسيوط
حضرة صاحب العزة الأستاذ القدير عبد المجيد بك إبراهيم من وجهاء مديرية أسيوط والعضو بمجلس النواب عن دائرة البداري في الدر الثاني المنحل والذي انتخب مراقبا ثانيا لمجلس النواب في جلسة 21 نوفمبر سنة 1925.
نسبه
صميم في أسرة صاحب السعادة محمود باشا سليمان تلك الأسرة المصرية العريقة، التي لها مقامها الرفيع، ومجدها العظيم في أسر مصر المعروفة.
نشأته
ولد ببلدة «ساحل سليم» من أعمال مركز البداري مديرية أسيوط.
علمه
بدأ الدراسة في مدارس مصر الأميرية، وأتمها في فرنسا معهد العلم والمدنية فأضاف إلى ذكاء المصري وعلم الغربي، وعاد إلى وطنه يحمل شهادة الليسانسية في الحقوق من جامعة باريز فكان آية النبوغ والتفوق.
جهاده الوطني
هناك عاملان يكفيان المرء في الكيفية التي يحرز بها في الحياة هما: الغريزة، والتربية، ثم يزكيهما «الظرف». متى كانت الغريزة واقعة إلى حب الوطن والمرء ناشئا في أسرة أشربت في قلوبها حب الوطن والظرف ملائما، متى كان كل ذلك نال الإنسان أحسن أحدوثة في ميدان الجهاد الوطني.
والمترجم عنه من الأفذاذ الذين منحتهم الطبيعة ميلا قويا إلى بلاده، كما منحته آباء تاريخهم في الجهاد لبلادهم أشهر من أن نفصله؛ ولذا بدا عليه النشاط القومي من حداثته فكان عضوا عاملا في الحزب الوطني مع فقيد الوطن والوطنية المرحوم «مصطفى كامل باشا».
ورأي إخوانه الطلبة في جامعة «مونبليه» أنه خير من يصلح لرياستهم وأولى من يمنحوه ثقتهم، فانتخبوه رئيسا لجمعيتهم مكافأة له على صدق وطنيته وجهاده المستمر.
ولما استيقظ المصري من نومه، وهب من رقدته، وزأر أسدا في المطالبة بحقوقه سنة 1919، كان الأستاذ في طليعة العاملين بعقل وروية والخادمين لقضية مصر خدمة المحنك المجرب، فاختاره الوفد المصري عضوا عاملا في لجنة الوفد المركزية في القاهرة.
وله مبدؤه الذي هو أغنيته التي يتغنى بها، وأنشودته التي يطلق حولها البخور وحيدا أو مستأنسا بأصدقائه وذلك المبدأ هو:
الاستقلال التام لمصر والسودان مع الولاء والإخلاص لمليك البلاد المعظم
وحدث أن عندما اتحدت الأحزاب السياسية الثلاثة: الأحرار الدستوريين والسعديين، والحزب الوطني عقب اجتماع مجلس النواب بنزل الكونتنتال يوم 21 نوفمبر سنة 1925، قرر انتخاب حضرة صاحب الترجمة مراقبا ثانيا له، وفي هذا الانتخاب الدليل الناصع على غيرته وإخلاصه نحو بلاده، وتقدير الناخبين لكفاءته وحسن جهاده الوطني.
أعماله
عاد من فرنسا بقسط أوفى من القانون فاشتغل بالمحاماة فبرز فيها، وشهد له زملاؤه بطول الباع، وسعة الإطلاع، وقوة الحجة، مع طلاقة اللسان، وحسن البيان، فنصر المظلوم وأعان العدالة في مهمتها، ثم بدأ بعدئذ أن يتفرغ لأعماله الخاصة يشرف عليها بنفسه فوفق أيما توفيق، وأفلح خير فلاح.
أخلاقه
جمع إلى أخلاق العرب في بداوتهم جمال المصريين في وداعتهم وتفوق الغربيين في مدنيتهم، فأضاف إلى الإباء والهمة والشجاعة والكرم والنجدة دماثة الأخلاق، ولين الجانب، وسعة الصدر، وحلى كل ذلك بمدينة خالية من زائف التقليد.
مكانته
له في موطنه مديرية أسيوط مكانته السامية وأما دائرة بلده فله في كل قلب فيها محبة لا تستثني من ذلك إلا ما استثنى في كل قاعدة باعتبار الشذوذ، ودل على ذلك فوزه الباهر في انتخابه لعضوية مجلس النواب في دوره الثاني، كما أن له في العاصمة شخصيته البارزة، وإذا رأيته وأصدقاءه من ذوي الجاه والمكانة السامية، رأيت شخصيته المقدسة منهم هي ملتقى عقدهم، وملتقى أبصارهم، وما أحوج الأمة إلى كثير من هذا المثال؛ لتتبوأ مكانها اللائق بها فإنما الأمم الأفراد وإنما الأفراد بعلمهم وما يعملون.
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الإمام العلامة الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو الفضل
مقدمة للمؤرخ
لقد هيأ الله تعالى لكنانته من رجال العلم والفضل والصلاح ما لم يهيئه لأمة من الأمم، إذ كثيرا ما طالعنا كتب التاريخ وتصفحنا أخبار من سلفوا من رجال العلم، وأولي الفضل فلم يقع نظرنا على سيرة تحاكي سير علماء هذا العصر الزاهر، الذين امتازوا بالكفاءة العلمية والأدبية، وتفرقوا في الشؤون الدينية أصولها وفروعها لدرجة استوجبت إعجاب سائر الأمم.
وإننا نسطر اليوم بقلم الفخر والإعجاب تاريخ حضرة صاحب الفضيلة الإمام العالم العلامة الأستاذ الكبير الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر الشريف، ورئيس مجلسه الأعلى اعترافا بفضله وعلمه الموفور فنقول:
مولده ونشأته
نشأ فضيلته ببلدة وراق الخضر مركز إمبابة مديرية الجيزة عام 1264ه، وهي السنة التي جرى فيها تعداد القطر المصري، ودخل المكتب المعد لحفظ القرآن الكريم بذلك البلد سنة 1269ه، وحفظ القرآن بتمامه في أواخر سنة 1272ه، ثم دخل الأزهر الشريف في أواخر سنة 1273ه، وكانت سنه إذ ذاك عشر سنوات فاشتغل أولا بتجويد القرآن الكريم، وحفظ المتون، وتلقى بعض الدروس، ثم لازم الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس، وتلقى العلوم العربية من نحو، ووضع، وصرف، وبيان، ومعان، وبديع، وعلم أصول الفقه وأصول الدين، والتفسير والحديث والمنطق على أكابر المشايخ الموجودين في ذاك الوقت، فممن تلقى عليه الفقه والحديث العلامة المحقق والفهامة المدقق شيخ السادة المالكية في ذاك الوقت المرحوم الشيخ محمد عليش، والعلامة العامل الشيخ علي مرزوق العدوي، ومن الذين تلقى عليهم علوم البلاغة وأصول الفقه والمنطق والحديث علامة الوقت الشيخ إبراهيم السقا والعالم العلامة الشيخ الأنبابي، وممن تلقى عليهم أيضا الحديث والتفسير الشيخ شرف الدين الموصفي، والأستاذ الشيخ محمد العشماوي وغيرهم من أجلاء الأساتذة الأعلام.
حضرة صاحب الفضيلة الإمام العالم العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ أبي الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر الشريف ورئيس مجلسه الأعلى.
وداوم على الاشتغال مطالعة وحضورا إلى سنة 1287ه فأمره الأستاذ الشيخ الإمبابي بالتدريس فاعتذر، فألح عليه فامتثل أمره، واستأذن شيخه العلامة الشيخ عليش وكذا الشيخ السقا، وجمع رسالة في البسملة وحديثها المشهور وابتدأ بقراءة كتاب الأزهرية في النحو في أواخر شهر صفر من تلك السنة، وقرأ تلك الرسالة من حفظه في ثلاث ليال، بحضور جمع من أكابر العلماء من مشايخه الأعلام وغيرهم وجميع الطلبة الذين يحضرون معه، وكان ذلك في أواخر أيام مشيخة المرحوم الشيخ مصطفى العروسي شيخ الجامع الأزهر حينذاك.
وقد كان العمل في تدريس المدرس جاريا على ما تقدم من الاستئذان وحضور أكابر العلماء في أول درس يقرأه من يريد التدريس، حتى زمن المرحوم العلامة الشيخ المهدي الذي سن الامتحانات بالطريق المعلوم.
ثم لازم التدريس وقرأ جميع كتب الفقه المتداول قراءتها في ذلك الوقت مرارا عديدة، وكذلك كتب العلوم العربية، وعلم أصول الدين، وعلم أصول الفقه والمنطق مرارا عديدة لطبقات كثيرة، ورزقه الله حظوة إقبال الكثير من الطلبة في كل درس، وقد تخرج عليه غالب أهل الأزهر، وكان حفظه الله أول من أحيا كتاب الخبيصي في المنطق بتدريسه مرارا، وكتاب القطب على الشمسية، وكتاب ابن الحاجب، في الأصول بشرح العضد وحاشيتي السعد والسيد، فقد درسه في الأزهر مرتين لجمع عظيم من الطلبة، الذين هم الآن من أكابر العلماء، ومرة في الإسكندرية في مدة مشيخته لعلمائها، وكتب على الشرح والحاشيتين حاشية قد طبعت في سنة 1232ه وتداولت بين العلماء والطلاب، وقرأ المطول في الدور الثاني وكتب على شرحه وحاشيته نحوا من خمس وأربعين كراسة، وقرأ البيضاوي ولم يتم، وكتب على أوائله نحوا من عشر كراسات.
وفي 3 ربيع الأول سنة 1313ه عين عضوا في إدارة الأزهر في مدة مشيخة المرحوم الشيخ سليم البشري، ثم استقال منها وعين ثانيا في 9 ذي القعدة سنة 1324ه الموافق ديسمبر سنة 1908 في أواخر مشيخة المرحوم الشيخ الشربيني، ثم عين وكيلا للأزهر في 18 صفر سنة 1326ه.
ثم صدر الأمر بتعيينه شيخا للإسكندرية ومكث بها 8 سنوات، ثم صدر الأمر بتعيينه شيخا للأزهر الشريف في 14 ذي الحجة سنة 1335ه الموافق أول أكتوبر سنة 1917، ثم أضيف إليه مشيخة السادة المالكية في 20 صفر سنة 1336ه.
وقد كان في مدة وكالة الجامع الأزهر وعضوية مجلس الإدارة، ومشيخة علماء الإسكندرية ملازما التدريس للكتب المطولة، منها كتاب المواقف، في علم الكلام، وكتاب ابن الحاجب في علم أصول الفقه، وغيرهما.
وصاحب الفضيلة واسع الاطلاع في العلوم العقلية والنقلية والفلسفية، وخصوصا فلسفة تاريخ الإسلام والتمدن الإسلامي وسائر الأمور الدينية.
صفاته وأخلاقه
دمث الأخلاق، لين الجانب، ذو ورع وتقوى، قوي الإيمان، قدير في معلوماته العلمية والأدبية والدينية، لطيف الحديث وقد أجمعت القلوب على محبته وإكباره وعلو شأنه.
حفظه الله وأبقاه وأكثر من أمثاله بين هيئة كبار العلماء.
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الإمام الشيخ محمد بخيت
كلمة للمؤرخ
هذا هو نابغة عصره، وإمام دهره، والعالم الفرد، والإداري الأوحد، حلال المشكلات، ورجل المعضلات، الاختصاصي الأشهر في استنباط الأحكام الشرعية وإسنادها إلى أصولها، وتطبيقها على مختلف حوادث هذا الزمان، ولا تزال أحكامه ومبادئه، وآراؤه نبراس المشتغلين بالعلم والقضاء، كما اشتهر عنه شدة تمسكه بالحق وأنه ينسى مصلحته الشخصية، في سبيل نصرته، لا يعرف للمحاباة رسما، ولا يعرف الباطل إليه سبيلا.
مولده ونشأته
ولد صاحب الفضيلة ببلدة المطيعة بمركز ومديرية أسيوط سنة 1271ه الموافقة سنة 1856م، وتعلم القراءة والكتابة والقرآن الكريم بكتاب البلدة المذكورة وهو في الرابعة من عمره، ومن ثم رحل إلى مصر القاهرة ودخل الأزهر الشريف عام 1882م بعد أن أتم حفظ القرآن وجوده وأخذ في تلقي العلوم الشرعية التي منها الفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان، وتلقى العلوم الفلسفية خارج الأزهر الشريف على السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ حسن الطويل رحمة الله عليهما إلى أن امتحن في شهادة العالمية في أواخر سنة 1292ه، وحاز الدرجة الأولى، وقد أنعم عليه بكسوة التشريفة من الدرجة الثالثة مكافأة له على نبوغه وغزارة علمه، وبعد ذلك استمر على تلقي العلوم على شيوخه الذين هم من كبار علماء الأزهر الشريف.
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الإمام الشيخ محمد بخيت «مفتي الديار المصرية سابقا».
وفي سنة 1295ه اشتغل بتدريس علوم الفقه والتوحيد والمنطق إلى أن توظف قاضيا لمديرية القليوبية في سنة 1297ه، ثم نقل منها قاضيا بمديرية المنيا في سنة 1298، ثم نقل إلى قضاء محافظة بور سعيد سنة 1300ه، ثم إلى قضاء محافظة السويس سنة 1302، ثم إلى قضاء مديرية الفيوم سنة 1304ه، ثم إلى قضاء مديرية أسيوط سنة 1309ه، ثم إلى التفتيش الشرعي بنظارة الحقانية في سنة 1310ه، ثم قاضيا لمدينة الإسكندرية الشرعية ورئيسا لمجلسها الشرعي في سنة 1311ه.
ثم عين عضوا أول بمحكمة مصر الشرعية ورئيسا للمجلس العلمي بها في أوائل سنة 1315ه، ثم عضوا أول بمحكمة مصر العليا الشرعية في سنة 1897م، بعد التشكيل الجديد للمحاكم الشرعية بمقتضى لائحة سنة 1897م، وفي هذه الأثناء ناب عن قاضي مصر الشيخ عبد الله جمال الدين ستة أشهر حال مرضه إلى أن عين بدله، ثم انفصل منها في أواخر سنة 1905م.
ثم عاد إلى خدمة الحكومة وعين رئيسا لمحكمة إسكندرية الشرعية في أواخر سنة 1907م، ونقل منها إلى إفتاء وزارة الحقانية في أوائل سنة 1912م، وأحيل عليه قضاء مصر نيابة عن القاضي نسيب أفندي، ثم أحيل عليه مع إفتاء الحقانية رئاسة التفتيش الشرعي بها.
وفي 21 ديسمبر سنة 1914 عين مفتيا للديار المصرية، وظل مدة إلى أن أحيل على المعاش.
ومن مزايا فضيلته أنه في أي بلد حل به لم ينقطع عن تدريس العلوم الشرعية النقلية والعقلية وغيرهما لطلبة العلم الشريف، خصوصا وهو في مصر، فإنه درس الكتب المطولة في علوم التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والتوحيد والفلسفة والمنطق وغير ذلك، وتخرج على يديه كثير من أفاضل العلماء الذين نفعوا الأزهر الشريف بعلمهم وفضلهم، وتخرج عليهم كثير من العلماء الأفاضل أيضا، وكان لا يزال يتلقى عليه العلم المتقدمون من الطلبة، وكثير من العلماء وغيرهم من المشتغلين بالعلم داخل الأزهر الشريف وخارجه.
مؤلفاته
وفضلا عن كل ما تقدم ومع كثرة مشاغله بأعماله الرسمية، فإنه لم يهمل التأليف بل كان نصيبه منه الشيء الكثير، فمن تأليفه: (1)
الدرر البهية في الصيغة الكمالية. (2)
حاشية على شرح خريدة الدردير. (3)
إرشاد الأمة إلى أحكام أهل الذمة. (4)
حسن البيان في دفع ما ورد من الشبه على القرآن. (5)
القول الجامع في الطلاق البدعي والمتتابع. (6)
رسالتا الفوتوغراف والسوكرتاه. (7)
إزالة الاشتباه عن رسالتي الفوتوغراف والسوكرتاه. (8)
الكلمات الحسان في الأحرف السبع وجمع القرآن. (9)
القول المفيد في علم التوحيد. (10)
أحسن القرا في الصلاة الجمعة في القرى. (11)
الأجوبة المصرية عن الأسئلة التونسية. (12)
مقدمة شفاء السقام للسبكي. (13)
حل الرمز عن معمى اللغز. (14)
إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة. (15)
البدر الساطع على جمع الجوامع في أصول الفقه. (16)
إرشاد العباد إلى الوقف على الأولاد.
صفاته وأخلاقه
وفضيلته موصوف بالتقوى والورع والصلاج ومساعدة الفقراء، والأخذ بيد البؤساء كريم الطباع دمث الأخلاق على جانب عظيم من الكفاءة العلمية والدينية والأدبية، حفظه الله وأبقاه بدوام الصحة والهناء.
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد المجيد اللبان
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد المجيد اللبان مفتش الأزهر الشريف والمعاهد الدينية الإسلامية وعضو مجلس النواب المنحل عن دائرة غرب أبي مندور غربية - عالم كبير ومصلح خطير وعظيم من عظماء رجال الدين في مصر.
صورة أخرى لحضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان.
ولد حفظه الله في شهر شوال سنة 1288ه ببلدة سنويون من أعمال مركز فوه بمديرية الغربية من أبوين شريفين في أسرة كبيرة، ينتهي نسبها إلى الإمام الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
ولما أتم حفظ القرآن الكريم بمكتب بلدته بعث به والده إلى الجامع الأزهر المعمور على عادة الكثير من أعيان الريف في ذلك الوقت، فتلقى فيه العلوم العربية والشرعية والعقلية على كبار علمائه، ومشهوري أعلامه في ذلك الحين أمثال المغفور لهم الأساتذة الأجلاء الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر السابق، والأستاذ الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقا، والشيخ أحمد الرفاعي الفيومي والشيخ محمد البحيري الديروطي، وقد عكف على الاشتغال بالعلوم بهمة لا تعرف الملل، واشتهر في ذلك الدور من حياته بالذكاء النادر وحب الاطلاع والإخلاص للعلم والرغبة فيه، حتى طار صيته في الأزهر بين أقرانه وصار له لدى أساتذته مكانة سامية، فقد كانت له مع بعضهم مناظرات على غير عادة الطلاب في ذلك العصر، وعلى الأخص المغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فكانت هذه المناقشات سببا في بروز شخصيته وظهوره بالاستقلال في الرأي والإصابة في الحكم، وتقدير الأستاذ الإمام لمواهبه، وفي 7 ربيع الأول سنة 1318ه، نال شهادة العالمية بعد أن شهدت له اللجنة التي شكلت لاختباره برئاسة المرحوم الشيخ البشري بالتفوق، وأثنت عليه الثناء المستطاب ثم تصدى للتدريس بالجامع الأزهر الشريف فأقبل عليه الطلاب أيما إقبال، فأفاد إفادة حفظها له الأزهر وبنوه واستمر على ذلك إلى أن تأسس معهد الإسكندرية، واتجهت فكرة القائمين به إلى اختيار المبرزين من العلماء للتدريس به، فكان فضيلته في مقدمتهم وفعلا عين لذلك في أوائل سنة 1324ه، وهناك أعاد سيرته الأولى وقرأ أعاظم الكتب واشتهر بالعطف على الطلبة، والأخذ بناصرهم والعمل على سعادتهم؛ ولذلك اختير عضوا بمجلس إدارة ذلك المعهد فكانت له فيه الآراء الصائبة والأفكار السامية.
وظل بالإسكندرية حتى تقرر نقله إلى الأزهر في 4 أكتوبر سنة 1921، تبعا لنقل القسم العالي من معهدي الإسكندرية وطنطا إليه، واستمر على التدريس فيه حتى اختير مفتشا عاما للأزهر والمعاهد الدينية الإسلامية الأخرى في شهر أكتوبر سنة 1923، ومع قيامه بهذه المهمة فقد أسند إليه التدريس بقسم التخصيص المنشأ حديثا، وفي هذه الأطوار تراه المثل الأعلى والقدوة الصالحة في الإخلاص في العمل والأمانة فيما يكلف به.
وعلى يديه تخرج كثير من أفاضل العلماء من مدرسين وقضاة، كما كانت دروسه مصدر نبوغ طائفة كبيرة من خريجي مدرسي القضاء الشرعي ودار العلوم، الذين بدءوا حياتهم الدراسية على يديه.
وفي أثناء مقامه في الإسكندرية شجر الخلاف بينه وبينه الكتاب في بعض المسائل العلمية، وفي مقدمتهم المرحومان الشيخ علي يوسف وحفني بك ناصف، فكانت دروس عالية في أدب المناظرة وقوة الإقناع، وبعد ذلك توالت مقالاته الممتعة على الصحف اليومية في الموضوعات العلمية والأدبية والدينية والسياسية.
ولما رأى حاجة المسلمين ماسة إلى الإصلاح أسس في سنة 1914م بمدينة الإسكندرية جمعية إرشاد الخلق إلى الحق، التي ضمت كثيرا من العلماء والأعيان لمواساة الفقراء، وإصلاح ذات البين وإبطال شبه الملحدين، وتأسيس المدارس لتعليم مبادئ الدين والأخلاق، ولولا وقوف حكومة ذلك العهد في وجهها لكان لها اليوم شأن عظيم في ترقية الآداب والأخلاق، ونشر الاتحاد والوئام، ولما نهض زعيم البلاد عقب الهدنة لتشكيل الوفد المصري، وكان جمهور العظماء والمفكرين في كل مدينة يجتمعون للتفكير في مستقبل البلاد كان هو أول من رفع صوته بذلك في مدينة الإسكندرية، وكان منزل فضيلته بها مجمع رجال الوطنية المخلصين من أبنائها، وحينما اعتقلت السلطة دولة سعد باشا زغلول في 9 مارس سنة 1919، اعتقلت فضيلته أيضا في اليوم التالي في حجرة خاصة بقسم محرم بك بالإسكندرية، ثم أفرجت عنه في اليوم الذي أطلق فيه سراح دولة الرئيس وزملائه من مالطة، فعاد إلى مكانه في قيادة الحركة الوطنية في ثغر الإسكندرية، وكان أول من رفع علم الاتحاد فيه، وصورته الفوتوغرافية التي أخذت لذلك الحين مع كبار رجال الدين من الأقباط في الإسكندرية تذكار دائم لهذا العمل المجيد، الذي قدره عظماء الطائفتين قدره وقد أهدى إليه عظماء الأقباط بهذه المناسبة علم الاتحاد، فتسلمه منهم في احتفال كبير أقيم لهذا الغرض، وبقي وديعة لديه إلى أن سلمه لدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول في حفلة استقباله بالإسكندرية لدى عودته من أوربا للمرة الأولى في 4 أبريل سنة 1921، وعندما شجر الخلاف بين فريق من الأرمن والمصريين بالإسكندرية سنة 1919، واعتدى الأرمن على المصريين لقيت المدينة في شخص فضيلته عاملا كبيرا من عوامل السلام، ففاوضه زعماء الأرمن في إزالة أسباب الخلاف وفعلا تألف وفد من زعماء الفريقين برياسة فضيلته للعمل على تهدئة الخواطر، فزار كنيسة الأرمن ردا لزيارة زعمائهم منزل فضيلته، وكانت جاليتهم قد التجأت إليها بدسائس المغرضين من السياسة، فأعاد اللاجئين إلى منازلهم بعد أن تبادل الفريقان عبارات المحبة والوئام ، كما كان له الفضل العظيم في إعادة مياه الصفاء إلى مجراها بين المصريين وضيوفهم الأجانب في حوادث مايو المشئومة، فزار مع فريق من الأعيان قناصل الدول، وحادث الصحفيين منهم مؤكدا لهم عطف المصريين على ضيوفهم، فكان لمساعيه أثرها الطيب في إزالة الشقاق.
وقبيل مجيء لجنة ملنر نفته السلطة من الإسكندرية إلى عزبته بمركز فوه مع اثنين من أنجاله، كما نفت كثيرا من زعماء المصريين إلى قراهم، فقضى بها عشرة شهور، ولم يسمح لفضيلته بالعودة إلى الإسكندرية إلا عندما جاء المندوبون الأربعة لعرض مشروع ملنر على الأمة، وقد أبدى فضيلته رأيه في المشروع في اجتماع عقد بقاعة مجلس الإسكندرية البلدي، فرفض المشروع ما لم يعدل تعديلا يضمن استقلال مصر والسودان التام وإلغاء الحماية.
ولقد قدرت الأمة وطنيته وإخلاصه كما قدر الوفد ودولة رئيسه حسن بلائه في خدمة البلاد فرشحه لعضوية مجلس النواب عن دائرة أبي مندور، عندما طلب أهلها فضيلته للنيابة عنهم، وفعلا انتخب لعضوية هذه الدائرة بأغلبية ساحقة، ويعتبر فضيلته العضو الوحيد النائب عن الأزهر في مجلس النواب؛ لأنه يجمع بين عضوية المجلس ووظيفة سامية من وظائف الأزهر هي تفتيش المعاهد الدينية التي نرجو لفضيلته في خدمتها رقيا مستمرا، كما أنه يعتبر العالم الديني الوحيد الذي جاهد بقلمه جهادا صادقا في خدمة بلده بعد الأستاذ الإمام محمد عبده، وأول عالم ديني اعتقل في النهضة الوطنية، وظل فيها وفيا لها من يوم أن قامت إلى الآن معروفا بتأييده للقائمين بها، ومشهورا بإخلاصه لجلالة المليك وولائه لعرشه الكريم، وإجلاله لزعيم الأمة، ورئيس نهضتها الأمين صاحب الدولة سعد باشا زغلول.
بقلم مؤرخ الأزهر
الشيخ محمد علي القاضي الطماوي
مدرس التاريخ وآداب اللغة بالأزهر الشريف
ترجمة فضيلة الأستاذ العالم الجليل السيد أحمد رافع الطهطاوي
من كبار العلماء الأعلام
كلمة للمؤرخ
إن خير البلاد ما أنجب عظماء الرجال، فلا غرو إذا كانت طهطا إحدى مراكز مديرية جرجا في مقدمة البلاد السعيدة بأبنائها، ولا بدع إذا فاخرت أكبر العواصم بمن أنجبت من كبار علماء الأمة وعظماء رجال الدين.
في هذه البلدة الزكية ولد حضرة صاحب الترجمة العلامة الأجل، والفهامة الأكمل صاحب الفضيلة السيد أحمد رافع بن الفاضل محمد رافع بن السيد عبد العزيز رافع الحسيني القاسمي الحنفي الطهطاوي.
فضيلة الأستاذ العالم الجليل السيد أحمد رافع الطهطاوي.
وهو من أسرة ذات مجد أصيل وشرف أثيل كانت ذات عز وفخار وثروة كبيرة ويسار، وكلمة نافذة مع الكرم والسخاء، لها الالتزامات السلطانية والأرزاق الواسعة، والمرتبات الوافرة، وقد استمرت على هذه الحال عدة أجيال إلى أن نزعت من أيديها التزاماتها وقطعت عنها مرتباتها في أواسط العقد الثالث من القرن الثالث عشر، فجارت عليها الأيام بعد أن جرت الغيث في دارها، وأشارت إلى نصبها الأعوام بعد أن نصبت أعلام الراحة في مزارها، ثم ظهر منها أفراد أعادوا إليها رفيع مجدها، منهم المرحوم رفاعة بك العالم الشهير، ثم والد صاحب هذه الترجمة وقد ذكر المرحوم علي باشا مبارك في الخطط الجديدة التوفيقية المؤلفة في سنة 1293ه حالة هذه الأسرة، وما كانت عليه على سبيل الإجمال، حيث قال في الكلام على «مدينة طهطا»: وفيها كثير من الأشراف من سيدي أبي القاسم الحسيني التلمساني الطهطاوي، وهم أكابرها من عدة أجيال، ولهم فيها منازل مشيدة ومضايف وكانت لهم مرتبات واسعة من بيت المال، ثم ذكر والد صاحب هذه الترجمة «حيث قال»:
ومنهم الآن الأجل الفاضل السيد محمد عبد العزيز رافع قد اجتمع له الدين والدنيا ومكارم الأخلاق، تولى الإفتاء مدة في مديرية جرجا، ثم اقتصر على اشتغاله بشأن نفسه من أمر دينه ودنياه وله ابنان، أحدهما له وظيفة نقابة أشراف تلك الجهة، بعد أن جاور بالأزهر مدة، والآخر منهمك في طلب العلم مع النجابة الزائدة. ا.ه.
مولده ونشأته
والثاني هو صاحب هذه الترجمة وقد ولد بمدينة طهطا بمديرية جرجا في جمادى الثانية من سنة 1275ه «الموافقة لأوائل سنة 1859م»، ونشأ بها واشتغل بتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الشريف حتى أتم حفظه وهو ابن عشر سنين، ثم اشتغل بحفظ المتون العلمية على يد والده السالف ذكره فحفظ منها جملة كثيرة حفظا جيدا، وكان مع ذلك يأخذ عن والده وغيره مبادئ علم التوحيد والنحو والفقه، ثم وفد إلى الجامع الأزهر في سنة 1287ه، وسنه إذ ذاك اثنتا عشرة سنة فواظب فيه على تلقي العلم الشريف ومكث به نحو اثنتي عشرة سنة، أخذ فيها جميع العلوم الجاري قراؤها فيه متلقيا عن كثير من أكابر علمائه كالأستاذ الجليل الشيخ محمد عليش، وابنه الشيخ عبد الله والأستاذ محمد الخضري الدمياطي الأزهري، والعلامة شمس الدين محمد الإمبابي، وتلميذه المحقق الشيخ حسن بن رضوان الخفاجي الدمياطي، والشيخ عبد الهادي الإبياري، والشيخ عبد الرحمن الشربيني، والشيخ زين المرصفي، والشيخ محمد أبي النجاة الشرقاوي، والشيخ عبد القادر الرافعي، والشيخ عبد الرحمن القطب النواوي، والشيخ حسن الطويل، والشيخ محمد البسيوني الببياني.
وقد أذن له بالتدريس في سنة 1299ه العلامة شمس الدين الإنبابي شيخ الجامع الأزهر إذ ذاك، وأجاز له أن يروي عنه ما يجوز له رواية وما يصح عنه دراية بعد أن لازمه مدة وأخذ عنه علوما عدة «قال»: فلما لاح لي كوكب صلاحه وفاح لي مسك فلاحه ورأيته أهلا لتلك الصناعة، وجديرا بتعاطي هاتيك البضاعة حيث أخذ من الفنون بأقوى طرف، وأراد الاقتداء في أخذ الأسانيد بمن سلف بادرت إلى طلبه لإعطائه بلوغ أربه، فلم أثن عنه عنان العناية بل أجزت له بما يجوز لي رواية ويصح عني دراية من فروع وأصول ومنقول ومعقول، وأذنت له في التدريس وأن يتخذ العلم خير جليس «إلى آخر ما قال»، وكذا أجاز له العلامة الجليل السيد علي بن خليل الأسيوطي الذي تلقى عن الشيخ علي بن عبد الحق القوصي عن الشيخ محمد الأمير الكبير، وكذا أجاز له والده السابق ذكره الذي تلقى عن الشيخ علي بن محمد الفرغلي الأنصاري عن الشيخ محمد الأمير الكبير، وقد تلقى مسلسل عاشوراء عن الأستاذ الشيخ إبراهيم السقا، وسمع الحديث المسلسل بالأولية من الأستاذ الشيخ محمد الأشموني الشافعي عن الشيخ علي البخارتي عن الشيخ الأمير الكبير، وكان العلامة الشيخ محمد العباسي المهدي مدة مشيخته للجامع الأزهر رغب أن يعين صاحب الترجمة في وظيفة شرعية كبرى، وعرض عليه ذلك فأبى قبولها، واختار البقاء على حالته التي نشأ عليها من مبدأ اشتغاله بالعلم، وهي الاطلاع على الكتب العالية الغريبة والتنقير فيها على غرائب الفوائد؛ ليتهيأ له السلوك في سبيل الأفهام السديدة الانتقادات الصائبة التي يضمنها مؤلفاته، وقد ظهرت فوائده العلمية ومواهبه العقلية وعرفت لدى الخاص والعام، وشهد له بالتفوق في العلوم مشايخ الجامع الأزهر، وكثير من علمائه الأعلام فيما قرظوا به كتابيه بلوغ السول، وكمال العناية الآتي ذكرهما.
وقد اشتغل المترجم في بلدة «طهطا» بالتأليف والدراسة، فقرأ كثيرا من الكتب الجليلة قراءة بحث وتدقيق بمشاركة كثير من أفاضلها كتفسير الخطيب الشربيني، وشفاء القاضي عياض، وشرح السعدي على العقائد النسفية، ومغني اللبيب وغير ذلك.
ثم رجع إلى القاهرة في سنة 1908م وأقام بها بمنزله الذي اشتراه بالحلمية الجديدة، وله مؤالفات كثيرة جمة الفوائد تميزت عن غيرها بقلائد الفرائد في التفسير، والحديث واللغة، والنحو، والمعاني والبيان، والبديع، والمنطق، وتواريخ الرجال، «منها» رسالة بلوغ السول بتفسير
لقد جاءكم رسول
المطبوعة في سنة 1305ه. «ومنها» كمال العناية بتوجيه ما في
ليس كمثله شيء
من الكناية المطبوع في سنة 1313هجرية. «ومنها» القول الإيجابي في ترجمة العلامة شمس الدين الألباني المطبوعة في سنة 1314ه. «ومنها» رفع الغواشي عن مفصلات المطول والحواشي الذي بلغ خمسة أجزاء ضخام طبع الجزء الأول منها في سنة 1333ه. «ومنها » نفحات الطيب على تفسير الخطيب، أعانه الله على إتمامها على النموذج البديع المثال الذي توخاه فيها. «ومنها» الثغر الباسم في مناقب سيدي أبي القاسم الذي طبع في سنة 1333ه. «ومنها» شرح الصدر بتفسير صورة القدر. «ومنها» نظم الدرر الحسان في تفسير آية شهر رمضان. «ومنها» المسعى الرجيح إلى فهم شرح غرامي صحيح. «ومنها» النسيم السحري على مولد الخضري. «ومنها» منصة الابتهاج بقصة الإسراء والمعراج. «ومنها» فرائد الفوائد الوفية بمقاصد خفية الألفية، وقد ألفها وسنه إحدى وعشرون سنة؛ ولذلك قال في خطبتها كما قال الأخضري:
ولبني إحدى وعشرين سنة
معذرة مقبولة مستحسنة «ومنها» هداية المجتاز إلى نهاية الإيجاز وهو شرح على منظومة بيانية، وقد قال في آخره:
فجاء بحمد الله شرحا ونثره
على نظم هذا الدر نظم جمان
به رفلت خود المعاني يزفها
لمن سامها وصلا بديع بيان «ومنها» الرياض الندية على الرسالة السمرقندية. «ومنها» الطراز المعلم على حواشي السلم، وقد ألفه وسنه لم تتجاوز تسع عشرة سنة؛ ولذا قال في خطبته كما قال الفاضل الشيخ عبد العزيز بن أبي الحسن الأنصاري في بعض منظوماته:
عذري أتاك يا أخي فاعذر
إذ كان سني دون سن الأخضرى «ومنها» رسائل المحاضرة في مسائل المناظرة. «ومنها» كتابه الذي لم ينسج ناسج على منواله المسمى «المسعى الحميد إلى بيان وتحرير الأسانيد».
ومختصر نعم الحافظ شمس الدين أبي عبد الله الذهبي الدمشقي مع زيادات عديدة مفيدة.
وملخص معجم تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب السبكي كذلك.
ومختصر معجم الحافظ بن حجر العسقلاني المصري كذلك.
وملخص ما في معجم الجلال السيوطي، وكتاب نظم العقيان له من تراجم شيوخ عصره كذلك.
وجزء يتضمن تراجم كثير من شيوخ الحافظ صلاح الدين أبي سعيد خليل بن كيكلدي العلائي الدمشقي ثم المقدسي. «ومنها» غير ذلك كالتعليقات التي كتبها على هوامش متن المغني وشرح الدماميني عليه، وعلى هوامش الهمزية وعلى هوامش كتاب سيدي محمد بن علي السنوسي الخطابي المسمى «بغية المقاصد في خلاصة المراصد».
وله بعض مقالات إنشاء منها ما سبق طبعه في جريدة الحكومة المصرية «الوقائع المصرية»، ومنها مقالة سماها رايات الأفراح بآيات الانشراح طبعت على حدتها، وفي ضمن رسالة «فرح الصعيد» ومنها مقالة مطبوعة في ضمن كتاب «القول الحقيق» وغير ذلك.
وقد أنعم عليه بكسوة التشريف المظهرية من الدرجة الثانية بإرادة سنية صادرة في 19 جمادى الثانية، من سنة 1319ه الموافق 2 أكتوبر سنة 1901، ثم بها من الدرجة الأولى بإرادة سنية صادرة في 12 شعبان من سنة 1322ه الموافق 21 أكتوبر سنة 1904.
وقد أنشأ ببلدة «طهطا» في سنة 1898م مدرسة خيرية إسلامية، سماها «مدرسة فيض المنعم» تخرج منها كثير من التلاميذ الذين حازوا بعد ذلك الشهادات العالية، ومكث ينفق عليها نحو أربع عشرة سنة، ثم قدمها إلى مديرية جرجا في سنة 1912م لإدارتها بمعرفتها.
وترجمته مذكورة بأبسط من ذلك في كتابين من مؤلفات أفاضل العصر: أحدهما «سمر الأجلاء بتراجم الأخلاء»، والثاني يسمى «سلافة العصر». وقد امتدحه كثير من الفضلاء بقصائد نقتصر منها على قصيدة حضرة الفاضل أحمد أفندي سمير، الذي بعث بها إليه من مدينة «استتجارت» في 30 نوفمبر سنة 1889م قال في أوائلها:
خل من لام في الوفاء ومانع
دون ودي فما هنالك مانع
يا قسيم الفؤاد إني حفيظ
لعهودي فليس عهد بضائع
ثم قال:
يا نديمي وأين مني نديمي
مر بما شئت إنني لك طائع
كيف أنسى ما قد مضى وبقلبي
من أصول الوداد «جمع الجوامع»
إلى أن قال:
يا أخا الفضل لا رميت من الدهر
ببعد فالبعد والله فاجع
دم كما شئت للكمالات أهلا
ولك السعد أينما كنت تابع
إن صرف الزمان رام خفضي
بعد هذا فأنت «أحمد رافع»
صفاته وأخلاقه
ولا شك أن القارئ الكريم بعد تصفحة ترجمة هذا البحر الفهامة والعالم العلامة يتأكد له فضله، وغزارة علمه، وبحر أدبه، وسمو مداركه، مع كرم الأخلاق، ولين الجانب، حفظه الله وأبقاه ولا حرم العلم والأدب من بحر أفضاله.
ترجمة فضيلة الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقا
ولد سنة 1258ه وتوفي سنة 1323ه/1905م
مولده ونشأته
هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد بن عبده بن حسن خير الله ولد سنة 1258ه بمديرية الغربية، وتغذى بلبان الأدب وتربى التربية المنزلية الحسنة، ومن ثم توجه إلى الجامع الأحمدي بطنطا لتلقي العلوم، وفي نهاية سنة 1282ه قدم القاهرة لتلقي العلوم في الجامع الأزهر الشريف، حتى وفد إليها السيد جمال الدين الأفغاني سنة 1286ه فصاحبه الأستاذ، وأخذ يتلقى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمية والكلامية، فبرع في ذلك كما برع في الإنشاء، وتحرير المقالات الأدبية والاجتماعية والسياسية، وقد أتقن اللغة الفرنسية وأجاد التحرير فيها، فساعده ذلك على نفي الشبهات عن الدين الحنيف، وإظهار حقائقه وفضائله للعالم الأوربي، وقد كان الفقيد قوي الحجة سريع الخاطر أبي النفس، شهما غيورا على دينه ووطنه.
صاحب الفضيلة المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده «مفتي الديار المصرية سابقا».
وقد تقلب في بعض المناصب العلمية بين تدريس في المدارس الأميرية وتحرير الوقائع المصرية، وكتابة في الدوائر الرسمية، فوجه همته لإصلاح الحكومة وإرشاد الأمة، حتى كانت الحوادث العرابية فحمله أصحابه على السير معهم، وهو ينصح لهم أن لا يفعلوا وينذرهم بسوء العاقبة، وعندما دخل الإنجليز مصر كان الفقيد في جملة الذين قبض عليهم وحوكموا فحكم عليه بالنفي؛ لأنه أفتى بعزل توفيق باشا الخديوي الأسبق فاختار الإقامة في سوريا، ومكث بها ست سنوات وقد عهد إليه بالتدريس في بعض مدارسها، ثم انتقل من سوريا إلى باريس ولم يمكث بها طويلا حتى عاد إلى مصر بعد أن صدر العفو عنه فولاه الخديوي القضاء، وظهرت مناقبه ومواهبه فعين مستشارا في محكمة الاستئناف وسمي عضوا في مجلس إدارة الأزهر.
وعين أخيرا مفتيا للديار المصرية في سنة 1317ه، فأفاد القضاء الشرعي وخدم الأوقاف الإسلامية أكبر خدمة حتى كاد يكون المرجع الأعلى في الفتوى لجميع مسلمي الأرض، لما ظهر من فضله وسعة علمه.
وقد عين عضوا دائما في مجلس الشورى، فانتقل المجلس به من حال إلى حال ونفخ فيه روحا جديدة، وكان له رحمه الله الرأي العالي والصوت المسموع في كل مسألة وكل مشروع، فكنت تراه في المسائل المالية، حاسبا اقتصاديا، وفي المسائل الإدارية إداريا ماهرا، وفي اللوائح والقوانين، قانونيا خبيرا، وفي الأمور الشرعية إماما فقيها.
وانتخب رئيسا للجمعية الخيرية فوطد دعائمها، وخطت بهمته وحسن إدارته خطوات سريعة، وتقدمت شوطا بعيدا في سبيل النجاح والرقي.
وقد سعى جهده في إصلاح الأزهر الشريف، حتى بلغ بعض ما أمله فأدخله فيه بعض العلوم الحديثة المرقية لأذهان الطلبة.
وبالإجمال فإن الأستاذ الإمام رحمه الله قد أفاد القطر المصري خصوصا، والأمة الإسلامية عموما الإفادة العظمى، ولو أردنا تدوين أعماله الجليلة ومناقبه السامية لاستدعى ذلك أسفارا ضخمة.
وقد كانت وفاته في يوم الثلاثاء 8 جمادى الأول سنة 1323 برمل الإسكندرية ودفن بمصر.
فرحمه الله رحمة واسعة وعوض الإسلام والمسلمين فيه خيرا.
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السيد حسين القصبي
حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السيد حسين القصبي كبير أعيان بندر طنطا والعضو بمجلس الشيوخ.
مقدمة للمؤرخ
من رجال الأمة المصرية العظام الذين برزوا في ميدان الجهاد الوطني، وتجلت مواهبهم السامية في كل أدوار الجهاد، وثبتوا في مبادئهم ثبات الأبطال في حومة الميدان، وكانوا خير عضد ونصير للرئيس الجليل، وامتازوا بلا جدال بأصالة الرأي، والحكمة، والسداد، وحسن المشورة في جلائل الأمور، وأمهات المسائل في أوقات الشدائد، هذا الوطني الصميم والسري الجليل الذي حاز مكانة عالية في قلوب المصريين عامة، والعاملين المجاهدين خاصة.
انضم هذا الوطني العظيم تحت لواء الزعيم الكبير متحملا ما تحمله أعضاء الوفد المصري الكرام من تنكيل، واعتقال، وهو السري بماله، والوجيه بين قومه والعظيم بما تحلى به من أخلاق، وفضائل، ونال ما نال من عسف، وجور، واضطهاد، بصبر وجلد فلم يتزحزح قيد أنملة عن شريف موقفه، بل ناضل وجاهد ولم تزده عوامل الشدة والعنف إلا تمسكا بأهداب الوطنية الصادقة.
فشهم هذه نفسيته جدير بكل إجلال، وإكرام، وجدير بحملة الأقلام والمؤرخين خاصة أن يتباروا في تعداد مناقبه الشريفة، وخدماته الجليلة، ووطنيته العالية؛ ليقتدي به ويتمشى على منواله من رام تخليد حياته في بطون التاريخ لتدوم ذكراهم العاطرة ما دامت السماوات والأرض ناطقة لهم بالفخر والإعجاب .
وإننا مع اعترافنا بالعجز وعدم إمكاننا تدوين كل شاردة وواردة من خدماته وأعماله الكثير عددها، لا سيما ما كان منها خاصا بالحركة الوطنية، إلا أن واجبنا التاريخي يحتم علينا تدوين ما يمكن لنا معرفته من تاريخه المجيد، اعترافا منا بفضله وإقرارا بكبير وطنيته فنقول:
مولده ونشأته
ولد حفظه الله في شهر رمضان المعظم من سنة 1284ه، فاستبشر والده بهذا الطالع خيرا وأخذ يعتني بتربيته وتعليمه، حيث استحضر له بعض كبار علماء الجامع الأحمدي بطنطا ليتلقى عنهم بعض العلوم المختلفة، فكان مثال الجد والنشاط والذكاء في كل ما يلقى إليه فبرع براعة تامة شهد له بها أساتذته، وصارحوا بسرعة خاطره، ووثقوا بنجاح مستقبله، وطالع سعده فكان قرة عين والده ومحط سروره وسعادته، غير أن الدهر الغادر عكر صفو هذه العائلة الكريمة في إبان سرورها بانتقال عميدها المرحوم الطيب الذكر خالد الأثر، والد حضرة صاحب الترجمة من دار الفناء إلى دار البقاء، فانقلب سرورها أحزانا وأفراحها أتراحا، خصوصا لأن الابن لم يكن قد بلغ بعد سن الرجولية حين وقوع ذاك المصاب الأليم، إذ لم يك يتجاوز الخمس عشرة سنة.
غير أن من كان على شاكلته في الجد، والنشاط، والذكاء، والإقدام، لا يحجم عن احتمال بعض الشدائد في بادئ الأمر، فوجه همته واهتمامه إلى تنظيم مزرعته، وإصلاحها الإصلاح الذي بلغ بها أعلى درجات الكمال رغم صغر سنه، فأصبحت واسعة النطاق، غزيرة النتاج، بفضل ما بذله من الهمة في رعايتها وإصلاحها بنفسه، فأقبلت عليه الدنيا بخيراتها ودنت إليه بسعادتها، ونظرا لشهرته العظيمة في الشؤون الزراعية، فقد نال الميدالية الذهبية من حضرة صاحب السمو السلطاني الأمير كمال الدين حسين رئيس الجمعية الزراعية الملكية في المباراة التي تمت بإشراف الجمعية الزراعية الملكية عن سنة 1924-1925 لزراعته التي بناحية إخناوي بمديرية الغربية، كما كتب له سمو الأمير كتابا رقيقا يهنئه فيه بهذه النتيجة السارة.
ولحضرة صاحب الترجمة ولع شديد بالسياحات في بلاد الغرب للوقوف على أحوالها لا سيما شؤونها الزراعية، والتجارية، وقد ساح مرارا عديدة في البلاد السورية وزار الأستانة العلية مرارا فكان في سياحاته هذه موضع احترام الجميع له ومحط إعجابهم به، لا سيما الأعيان والعلماء الذين اعترفوا له بالفضل، وعلو المكانة، والكفاءة الشخصية، في كل حديث دار معهم، وما كان له أن ينسى ذكر مصر، وحب مصر، ومجد مصر، واستقلال مصر، في كل غدواته وروحاته.
دخوله في ميدان الجهاد الوطني
ومن الخطأ المحض أن يقال عن صاحب الترجمة: إنه حديث الظهور في إظهار ما تكنه عواطفه من حبه لمصر أو أن تلك الروح المتشبعة بالوطنية الصادقة لم يشتعل لهيبها إلا وقت تأليف الوفد المصري، فانضم إليه، كلا، فإن ما عرف عن صاحب الترجمة من الإخلاص الأكيد للوطن المفدى، والتمسك بأهداب الحق الصراح، والمجاهرة بما يراه مبدأ وعقيدة، من زمن مديد لا يسعه إلا الاعتراف بكبير وطنيته واستعداده لكل تضحية في سبيل استقلال مصر فقد بذل فضيلته الجهود الكثيرة في خدمة البلد فيما تقلب فيه من المراكز النيابية، وما قام به من الرحلات السياسية، فقد خدم بلاده أثناء انتخابه عضوا بمجلس طنطا البلدي، فتم على يديه إصلاحات كثيرة نافعة، وكذلك لما كان عضوا بمجلس المديرية، فقد كانت له اليد الطولى في المشاريع النافعة والمنشآت الهامة في مديرية الغربية، وإن أنس لا أنسى خدمته الجلى لمصر لما كون وفدا مع إسماعيل أباظة باشا وفريق من عظماء الأمة، حيث سافروا جميعا إلى لندن وجعلوا شعارهم شكوى حكومة إنجلترا إلى الشعب الإنجليزي، فبثوا شكوى مصر إلى عظماء الأمة الإنجليزية من الأحرار وغيرهم، وطلب إليهم السير إدارد جراي أن يقابلوه فرفضوا إلا في غرفته بالبرلمان، وقد كانت المقابلة ذات أثر يذكر في السياسة الإنجليزية في مصر.
وقد جاء تأليف الوفد المصري مطابقا لتلك الروح المتقدة غيرة وحماسا، وعندئذ انفجر ذلك الشعور الدفين الكامن بين جوانحه، واندفع تيار إخلاصه في حب مصر، ولاقى ما لاقى من ضروب القمع والإرهاب والاعتقال من أجل مصر وهو ثابت الجأش، ولسان حاله يقول: «الاستقلال التام أو الموت الزؤام.»
ولا يمكن لمصري ممن حضروا تلك الحركة الوطنية المباركة، وشاهدوها بمرأى العين إلا الاعتراف والمجاهرة بحسن بلاء صاحب الترجمة، ومحافظته على مبدئه إلى النهاية، في حين أن فريقا ممن انضموا تحت لواء هذا الوفد شقوا عصا الطاعة نحو الرئيس الجليل، وحادوا عن مبادئهم لغايات شائنة كشفت الأيام عنها الستار، فغدوا مضغة في الأفواه وأضحوكة بين الشعب المصري الذي أمكنه تقدير خدم المخلصين العاملين ونبذ المارقين المنافقين.
وقد جاهر دولة الزعيم الجليل أثناء خطبه وأحاديثه السايرة بما انطوى عليه هذا المجاهد من الإخلاص الأكيد، والولاء المتين في كل أدوار تلك الحركة المباركة ومن بعدها بأنه يحفظ له في فؤاده كل إجلال وإكبار، وذلك بعد أن خبره وعرف فيه تلك الغريزة السامية، والوطنية العالية، وهكذا يكون نصيب العاملين المخلصين لبلادهم، فإن الأمة ترفعهم إلى قمة المجد ذاكرة لهم حسن بلائهم، وشريف خدماتهم ولن تنسى لحضرة صاحب الترجمة بوجه خاص تلك العزيمة التي لا تهاب الموت في سبيل استقلال مصر، وما تحلى به من كرم النفس وجوده على الفقراء والمعوزين، وبره باليتامي والبائسين، فهو لا يرد سائلا ولا يخيب طالبا.
فلو لم يكن في كفه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائله
وقد مدحه بعض من الشعراء بقصائد رنانة، آثرنا نشر بعض أبيات مختارة مما قاله فيه أحدهم يصف غزارة فضله وعالي نسبه:
نسل الإمام فما ند له أبدا
في الفضل والحلم والأخلاق والنسب
هو الحسين حليف المجد ذو همم
به تجار الملا من شدة النوب
إلى أن قال:
نعماك طنطا فأنت الآن راقية
عرش الكمال بفضل السيد القصبي
صفاته وأخلاقه
شديد التمسك بأهداب الحق، ولا يخشى في المجاهرة به لومة لائم، ثابت في إيمانه ومبدئه، دمث في أخلاقه، ظريف في محادثاته، كريم اليد، وبالإجمال فهو آية من آيات الولاء والإخلاص لوطنه خليق بكل تجلة واحترام.
حفظه الله وحقق آمال الأمة بفضل حسن جهاد رجالها العاملين المخلصين.
ترجمة حضرة صاحب الفضيلة العالم الكبير والوطني الصميم «الأستاذ الشيخ مصطفى
القاياتي»
عضو مجلس النواب المنحل عن ناحية أبا الوقف مديرية المنيا
مولده ونشأته
هو الحسيب النسيب السيد مصطفى القاياتي ابن العالم الكبير المرحوم الشيخ أحمد ابن العالم الورع الشيخ عبد الجواد ابن الصالح الشيخ عبد اللطيف من ذرية الشيخ أبي البقاء المدفون بقلعة الكبش، ويتصل نسبه براوي الحديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه.
ولد بالقايات مركز مغاغة من أعمال مديرية المنيا في آخر شهر الحجة عام 1297، وكان والده من أكابر علماء الأزهر الشريف، وشيخ رواق السادة الفشنية ولقد ذكر صاحب الخطط التوفيقية في ترجمة القايات فضائل ومحامد لآباء صاحب الترجمة وأجداده، تثبت ما لهذه العائلة من مجد تليد وحديث «فليرجع إليها من يريد».
دور العلوم التي تعلم فيها
التحق بالأزهر الشريف في سنة 1311ه، وقد عرف في أول نشأته الأزهرية بالجد في طلب العلوم ومواردها في غير الأزهر، كما عرف بنزعته الوطنية وميله إلى كل إصلاح، وكان وهو في السنة الدراسية الرابعة من مؤسسي جمعية مكارم الأخلاق المشهورة، وكان له فيها مواقف يحفظها له التاريخ ورأس جمعيات كثيرة أفادت المجتمع العلمي فائدة تذكر، وعين وكيلا لرواق السادة الفشنية بقرار من مجلس إدارة الأزهر، وقد نشأ نشأة عالية دينية بين آباء يعرفون قيمة الحياة العلمية والدينية.
صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى القاياتي.
نوع الشهادات
نال شهادة العالمية في سنة 1326ه، وهي أكبر شهادة أزهرية، وعين للتدريس في الجامع الأزهر سنة 1326ه، وانتدب لتدريس آداب اللغة العربية وتاريخها بالجامعة المصرية إلى أن قدم الأستاذ أحمد ضيف من أوربا، ولقد برهن على كفاءة نادرة أعجب بها أساتذة الجامعة وطلابها، وشكرته الجامعة بكتاب رقيق على ما قام به واعترافا بفضله، وحبذا لو وفق الله لخدمة الأدب من يقوم بطبع محاضراته، فهي مرجع تاريخي أدبي لا يستغني عنه معلم ولا متعلم.
والمترجم خطيب كبير، وكاتب قدير، شريف النفس، شديد التمسك بما يراه حقا، لا يحيد عنه ولو لاقى في سبيله أشد الآلام؛ لذلك قام بنصيب كبير في الحركة الوطنية منذ نشأتها إلى الآن لم يثنه عن القيام بواجبه في هذه الحركة الشريفة تهديد ولا وعيد ولا نفي ولا اعتقال ولا سجن ولا تعذيب.
ولا غرو في ذلك فقد لاقى عمه ووالده في سبيل الوطن ما لاقيا أيام الثورة العرابية، التي نفيا بسببها إلى الأقطار الشامية أربع سنوات.
وقد اعتقل صاحب الترجمة بقصر النيل في أول مايو سنة 1919، ومكث به شهرا ثم نقل إلى رفح ومكث به شهرا ونصف، ثم أفرج عنه ثم اعتقل بقصر النيل يوم 25 نوفمبر سنة 1919، ومكث به أربعة أيام ثم نقل إلى رفح ومكث به ثلاثة شهور ونصف، وعاد إلى قصر النيل ومكث به ليلة واحدة ثم نقل إلى معسكر سيدي بشر، ومكث به عشرين يوما ثم أفرج عنه على أن يقيم ببلدته ولا يبرحها، فسافر من سيدي بشر إلى محافظة مصر، ثم نقل إلى البلد برفقة أحد الضباط، ومكث بها إلى أول أبريل سنة 1921 ثم أفرج عنه.
وفي يناير سنة 1922 تقدم لعضوية الوفد المصري عقب القبض على هيئة الوفد الثانية، وفي 4 أغسطس سنة 1922 قبل إعلان الحكم على أعضاء الوفد اعتقل بقصر النيل ومكث به مع إخوانه ثلاثة أشهر ونصف، ثم خرج منه في نوفمبر وبعد يومين من خروجه اعتقل في سجن مصر العمومي، ثم أطلق سراحه بعد أن مكث عشرين يوما في زنزانة، ثم اعتقل في يناير سنة 1923 بسجن الاستثناء ومكث في زنزانة نحو الستة شهور ثم أطلق سراحه.
ولقد كان في هذه الأوقات العصيبة على ما به من ضعف في الصحة كبير الإيمان لا يأسف لما يقع عليه من ظلم وعدوان في سبيل خدمة بلاده، ولقد قرر مجلس الأزهر الأعلى إيقافه عن التدريس، ومنع مرتبة في ديسمبر سنة 1920، ثم في فبراير سنة 1922 حول على مجلس التأديب فقرر نقله إلى معهد دمياط، ثم تنزيله درجة فاستقال مؤثرا خدمة وطنه على أن يتقيد بوظيفة، وليس العهد بجهاده في زمن الانتخابات وقيامه بتأييد مرشحي الوفد، وما تحمله في ذلك ببعيد فنذكره.
ولقد انتخب نائبا لدائرة أبا الوقف وقد قرر مجلس الأزهر الأعلى عودة فضيلته إلى الأزهر في 29 مايو سنة 1924.
ولم يقتصر فخر الأستاذ ولا فخر بيته على تلك الحركات الوطنية في أوقاتها، بل في كل آونة يشهد الزمان والمكان للفرع وأصله بمكرمات يضيق عنها الحصر، ولا يسعها العد إرشادا إلى الدين القويم ونشرا للعلم الشريف، وإغاثة الملهوف وتفريج كرب المكروبين، والأخذ بيد المظلومين، ورد جراح الظالمين.
صفاته
صلب في الحق، قوي في مبدئه، إذا خطب جذب القلوب بشهي ألفاظه، ودرر معانيه، وهو مثال الدعة، وكرم الأخلاق، وعلو النفس والشهامة.
أسبل الله عليه ثوب العافية ولا أحرم الكنانة من كبير وطنيته، وسامي عواطفه، وجليل خدماته.
صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي
هو الشيخ إبراهيم الجبالي ابن فضيلة الشيخ حسن الجبالي، الذي كان من أفاضل رجال العلم في بلدته، ويرجع إليه في الشؤون الدينية وغيرها ابن الحاج يوسف الجبالي سليل بيت المجد، وفرع دوحة الحسب والنسب الطاهر، ولد بناحية الرحمانية مركز شبراخيت من أعمال مديرية البحيرة في غرة المحرم سنة 1295ه الموافق 5 يناير سنة 1878م، فاعتنى المرحوم والده بتربيته التربية المنزلية المؤسسة على الصلاح وتقوى الله، ولما شب على ذلك، وأتم تلك التربية على ما يرام بما يتفق مع أصول الدين الحنيف، وبدت عليه سيما النبل والذكاء والشغف العظيم إلى ارتشاف العلم والتبحر في الدين، لما كان يبدو عليه أثناء اشتغاله بحفظ القرآن الكريم على يد أصلح المشايخ الذين اختارهم المرحوم والده؛ لتغذيته بلبان الدين الحنيف وتثقيفه بما يتفق مع روح العصر الحاضر عملا بالقول المأثور: «علموا أبناءكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم».
عندما بدا عليه ذلك وقد أتم حفظ القرآن التحق بتلك الجامعة الإسلامية الكبرى ينبوع العرفان، ومصدر نور العلم في الشرق الذي هو مهد العلوم والمعارف، ومسقط رأس بني الإنسان، ألا وهو الأزهر الشريف، وذلك في 15 شوال سنة 1307ه، فسار في الأزهر بخطوات واسعة، ووثبات عظيمة في سبيل العلم حتى كان لا يهنأ له زاد، ولا يلتفت إلى شيء ما غير العلم الذي استلذ مذاقه، ووجد فيه أطيب غذاء لروحه ونفسه العالية إلى أن حصل على الكثير من العلوم وفنونها، ونال أعظم شهادة دينية ألا وهي شهادة العالمية من الدرجة الأولى في 18 ربيع الثاني سنة 1322/يوليو سنة 1904م، وكان هذا النجاح الباهر والتفوق النادر مدعاة إلى تعيينه مدرسا بالأزهر على أثر ذلك، فكان أعذب منهل ينهل منه ويعل حتى صار موضع حديث الخاص والعام من العلماء لا يذكرون اسمه إلا مصحوبا بكل تجلة واحترام وإعجاب، ولما كان من أكبر المقاصد التي دعت إلى مشيخة علماء الإسكندرية هو إيجاد نظام متقن للتعليم الأزهري، يتمشى مع روح العصر الحاضر، ويتفق والحياة الجديدة للأمة ويضمن بقاء زمن ميزة التعليم الأزهري، وهي تقوية الملكات وتربية المدارك، وتنبيه قوة التأمل والبحث، فانتخب لذلك أربعة من أفاضل المتفوقين من العلماء عرفوا بالرجحان في الذكاء والقوة في العلم؛ ليواصلوا الجد والتفكير مع شيخ المعهد، على أن يتوصلوا إلى نظام يقوم بتلك الحاجة، فكان المترجم أول من انتخب لذلك مع إخوانه، ونقل إلى مشيخة علماء الإسكندرية في سنة 1905م، وبفضل بحثهم هذا توصلوا إلى وضع هذا النظام الذي يسير عليه معهد الإسكندرية، وقد أنتج النتائج الملموسة التي حققت تلك الفكرة العظيمة، وجرب في معهد طنطا فأنتج النتائج المرجوة، فعمم في جميع المعاهد وهو ذلك النظام المتبع الآن مع بعض التعديل، واستمر بهذه المشيخة يعمل على إعلاء شأنها إلى صفر سنة 1320ه/يناير سنة 1912م، حيث عين مراقبا للتعليم بها، فأظهر من الحزم واليقظة ما جعل حالة المشيخة في تلك المكانة من الكمال.
وفي صفر سنة 1338ه/نوفمبر سنة 1919م ندب للتدريس بالجامع الأزهر، ولمراقبة قسم الوعظ والإرشاد وعهد إليه بتعليم الوعظ والخطابة به، فكان الروح الفعالة التي انبعث منها ذلك الرقي العلمي، وهذا التقدم العظيم؛ ولذلك عين شيخا للمعهد العلمي الديني بأسيوط، وكان ذلك في الثالث عشر من المحرم سنة 1339ه الموافق 26 سبتمبر سنة 1920م، حتى يرقى به ويجعله يسير في طريق التقدم إذ كان ذلك المعهد من المعاهد الصغيرة، التي كانت بالدرجة الثالثة يعلم فيه علوم القسم الأولى فقط، وكان عدد من يحويه من الطلاب هو 354 طالب فقط، فلم يمض به السنتين حتى صار ذلك المعهد العظيم، وأصبح يموج بالطلاب الذين بلغ عددهم 1172 ونقل إلى الدرجة الثانية، وبه من العلماء خمسون عالما وأصبح في صف معهدي الإسكندرية وطنطا؛ لأن الأزهر وحده هو المعهد الذي بالدرجة الأولى، حيث تدرس به العلوم العالية وقد أحرز الطلبة والعلماء ميزة المرتبات المستحقة لأمثالهم في المعاهد الأخرى، التي كانوا محرومين منها قبل ذلك.
وقد جعل للطلاب مساكن خاصة يقيمون فيها مجانا في مكان فسيح طلق الهواء، وكان ذلك أثرا من الآثار الحسان التي استفادتها البلاد من الزيارة الملكية، وتشريف الركاب العالي بلاد الصعيد جعل الله عهده الشريف أبرك عهد سعيد آمين، وعندما رأى ذلك صاحب الجلالة سر كثيرا وأنعم على المترجم بكسوة التشريفة العلمية من الدرجة الثانية، وكان ذلك في 9 أكتوبر سنة 1921م، وفي 2 ربيع الأول سنة 1342ه/12 أكتوبر سنة 1923م، نقل إلى معهد الزقازيق؛ ليجعله في تلك المكانة العظمى التي امتازت بها المعاهد الأخرى على يدي فضيلته، ولما كان هذا المعهد لم يتم إنشاؤه ندب لرياسة التفتيش بالأزهر والمعاهد الدينية الإسلامية، فقام بما عهد إليه خير قيام وفي 23 فبراير سنة 1924م عين عضوا بمجلس الشيوخ مع بقائه بوظيفتيه العلميتين بالمعاهد مشيخة معهد الزقازيق ورياسة التفتيش بالأزهر والمعاهد، وما ذلك إلا لنبوغه النادر وإحسانه لكل عمل يسند إليه، وثقة صاحب الجلالة مولانا الملك، فأنعم به وأكرم وحق لمصر أن تفاخر به أكابر العلماء بجميع الأقطار عامة.
صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي العضو المعين بمجلس الشيوخ سابقا والمفتش بوزارة المعارف العمومية للأمور الدينية.
وحدث أن فضيلته استقال من عضوية مجلس الشيوخ، فرأت الحكومة أن تسند إليه وظيفة علمية سامية؛ لتنتفع بمواهبه العالية فوافقت اللجنة المالية ومجلس الوزراء على مذكرة المعارف بتعيين فضيلته مفتشا بوزارة المعارف العمومية من الدرجة الثالثة الفنية، على أن تكون مهمته الإشراف على أمور التعليم الديني، وسائر الشؤون التي لها علاقة بالمدارس، التي تؤلف منها الجامعة الأزهرية الكبرى.
صفاته
مثال الوداعة والكرم، شريف الخصال، ثابت الإيمان، كثير الاهتمام بما يعود على الدين خاصة بالخير، وعلى البلاد والعباد والشرق عامة بالسعادة والهناء، وهو شديد الإخلاص لمليكنا المفدى شديد العطف، يضحي نفسه في سبيل المصلحة لا أحرم الله الدين والكنانة منه.
ترجمة صاحب الغبطة البابا المعظم الأنبا كيرلس الخامس بطريرك الأقباط الأرثوذكس
غبطة البابا المعظم الأنبا كيرلس الخامس بابا وبطريرك الإسكندرية والحبشة والنوبة والخمس مدن الغربية وسائر الكرازة المرقسية.
علوت يا معدن الأفضال منزلة
تقى عفافا كمالا حكمة وحجى
تفوح منك صفات من نوافجها
نمسي كما نغتدي نستنشق الأرجا
يا سيدا قد غدت تسمو فضائله
فخرا وبحرا طمى في علمه لججا
عن ذاتك اشتهر الفضل الجليل كما
عليك كل لسان بالثنا لهجا
فطرت تعشق ذات الله من صغر
فظلت بالبر تنمو راقيا درجا
حتى بدوت بذا الكرسي منتصبا
وفوق هامك تاج المجد قد رهجا
فيك الإله العلي قد من مفتقدا
من فضله شعبه يحيي بك المهجا
أولاك مولاك أخلاقا مطهرة
في كل أنحاء قطر طيبها نفجا
حويت علما بحسن الفعل مقترنا
وفقت قدرا باسمي اللطف ممتزجا
وحزت بالطهر فضلا كل مكرمة
لما سلكت سبيل النسك منتهجا
بالحزم والعزم تشفي في الورى عللا
كما تقوم في إنذارك العوجا
لا زلت ترتع في روض الهنا ولنا
بك الهناء غدا بالفخر مزدوجا
ودمت فينا بأوج الفضل مشتملا
ثوب السرور مدى الأيام مبتهجا
مولده ونشأته
ولد هذا الحبر الجليل في بلدة تزمنت التابعة لمديرية بني سويف عام 1832 ميلادية 1824 مسيحية قبطية 1548ش، ودعي باسم حنا، وعند بلوغه الخامسة من عمره هجر أبواه مسقط رأسيهما واستوطنا كفر سليمان الصعيدي من أعمال مركز مديرية الشرقية، ولما انتقل المرحوم والده إلى الدار الباقية تكفل شقيقه الأكبر المعلم بطرس بتعليمه وتهذيبه فكانت تلوح عليه مخائل النجابة، وآيات الزهد والطهارة، والميل إلى التعبد والدرس، وإنكار الذات.
ولما أن بلغ العشرين من عمره هجر منزل آله وتوجه إلى دير السريان بالجبل الغربي، فلم يلبث بضعة أيام حتى استرجعه أهله فعاد ولكن روحه تاقت إلى الرهبنة، ولم تكن دعوة الناس تغير دعوة الله، فلبث بين قومه زمانا وجيزا وهم يلاطفونه بكل الحيل، ويزينون له أطايب الحياة العالمية، ويعظمون له أنعاب الرهبنة، فأخذ يتربص الفرص حتى تمكن من الهروب، فذهب رأسا وترهب في دير البرموس ببرية شهات، وهي أبعد دير بالجبل الغربي، وعمره إذ ذاك عشرون سنة.
وكان هذا الدير وقتئذ في أشد حالات الفقر إذ كانت أطيانه في أيدي الغير يستغلونها لأنفسهم، فكانت تمر على رهبانة أيام لا يسدون رمقهم إلا «بالترمس» الذي كان مدخرا في الأديرة من عهد المرحوم إبراهيم الجوهري، فتناقص عددهم إلى أن وصل إلى ثلاثة أشخاص، فسلك صاحب الترجمة بأحسن ما يتصور النسك والزهد، فلما رأى فيه الرهبان ذلك أجمع رأيهم على ترقيته إلى درجة الكهنوت، فكتبوا له «التذكية» وأرسلوه إلى القاهرة، فكرسه الأب سرابمون العجائبي أسقف المنوفية قسا في كنيسة حارة الزويلة عام 1853م، وبعد قليل اختاره الرهبان مديرا لشؤونهم لعنايته التامة بهم ، فتحسنت أحوالهم وأحوال الدير على يديه، وكثر عددهم وتفانوا مثله في الزهد والتعبد، وكان دائما يلقي عليهم المواعظ الروحية ويعلمهم ويفيدهم بما منحه من المعارف الدينية والأدبية.
وفي عام 1855 ميلادية 1863م ق، 1571 ش استدعاه المثلث الرحمة البطريريك دمتريوس ووسمه أغومانوسا وأقامه مساعدا في الكنيسة الكاتدرائية بالأزبكية، فشق على الرهبان مفارقته للدير ولم يستطيعوا الصبر على بعده، فكتبوا إلى البطريريك متوسلين في إعادته لتدبير شؤونهم وألحوا في ذلك مرارا، فلبى التماسهم وأعاده إلى محله فلبث قائما بأعباء وظيفته خير قيام حتى انتخبه المطارنة والأساقفة، وأعيان الطائفة القبطية بطريريكا للكرازة المرقسية في يوم الأحد أول نوفمبر سنة 1874ميلادية/23 بابه سنة 1591ش باسم كيرلس الخامس في الاسم النبيل، وفي العدد الثاني عشر بعد المئة من خلفاء الرسول ماري مرقس الإنجيلي، وكرس باحتفال حافل حضرة عظماء القوم من جميع أنحاء القطر، يتقدمهم حضرات أصحاب السمو أمراء البيت الملكي وكبار الموظفين، ووكلاء الدول، وتواردت على غبطته التهاني من كافة أنحاء البلاد الأوربية.
إنشاء المجلس الملي العام
بعد وفاة المتنيح الأنبا ديمتريوس البطريرك السالف، تعين المتنيح الأنبا مرقس مطران الإسكندرية وكيلا لإدارة الكرسي المرقسي رثما يرسم بطريرك آخر، ولما رأى أن أعمال الطائفة تستدعي أعمال مجلس يعاونه على شؤونها العديدة، فباتفاقه مع أعيان الشعب وقتئذ عملوا لائحة خاصة محتوية على إدارة المدارس والكنائس والأوقاف والأديرة والفقراء.
ولما رسم غبطة البطريرك الحالي ورأى أن هذه اللائحة مجحفة بالسلطة الدينية؛ لأن في نصوصها تداخل الشعب في محاكمة الأكليروس وإدارة أوقاف الرهبان وغير ذلك عز عليه هذا، ولكن رجال المجلس أرادوا الاستبداد بهذه السلطة، فنشأ عن هذا خلاف بين السلطة الأكليركية والسلطة الشعبية، ولقد ناضل غبطته طويلا في هذا الحق المقدس، ولم يثنه عنه لا نفي ولا طرد إذ إنه نفي بدير البرموس في سنة 1892، وعاد معززا مكرما وعدلت اللائحة أخيرا كغرضه؛ لأن الحق يعلو والباطل يزهق بتعديل سنة 1908 وسنة 1912.
ونظرا لاتساع أعمال الطائفة في جهات القطر عمل لهم مجالس فرعية بلائحة خاصة باختصاصها.
تشييده دور العلم والمعاهد الدينية
وأخذ بعد عودته من المنفى في تشييد وترميم الكنائس والأديرة، وأنشأ جملة قصور بها وزين الكاتدرائية الكبرى بأبدع النقوش وأجمل الصور الكنائسية.
وقد أنشأ عدة مدارس للبنين والبنات وله اليد الكبرى في إنشاء مدرسة الفنون والصنائع ببولاق، وكلية البنات، ومعظم نفقات هذه المشروعات النافعة المفيدة كانت من جيبه الخاص ويقال: إنها تزيد عن السبعين ألف جنيه وفضلا عن ذلك فقد اشترى للبطريركية ما يزيد عن الخمسماية فدان من أجود الأطيان، واشترى أيضا السراي الكائنة بمهمشة، وشاد جملة عمارات للاستغلال فنما بذلك إيراد البطريركية نموا كبيرا إذ بلغ ستين ألف جنيه في السنة، بعد أن كان في أول عهده خمسة آلاف جنيه فقط.
وقد عمل على نشر العلوم الدينية، فبعد أن لم يكن يوجد في أول عهده إلا رجل واحد يقدر أن يرقى المنابر للوعظ والخطابة، وهو المتنيح الأيغومانس فيلوتاؤس أصبح الذين يقدرون على الوعظ والخطابة يعدون بالمئات، ووجدت في عهده عدة مجلات دينية بعضها للدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية، وبعضها لنشر العظات والمقالات الحاضة على الفضيلة وتجنب الرذيلة، وأيضا مجلات علمية وجريدتان قبطيتان سياسيتين يوميتان هما جريدتا «مصر والوطن»، وفي عهده أيضا أصلحت أديرة الرهبان بالجبلين الغربي والشرقي، وتعين لها الرؤساء والأساقفة فازداد عدد الرهبان، ووجد منهم كثيرون من المتعلمين؛ فلذا أمر غبطته فأنشئت لهم المدارس الأكليريكية لتثقيف عقولهم، فتأسست لهم المدارس، أولا مدرسة بالإسكندرية يتعلم فيها عدد معلوم من رهبان الأديرة الأربعة بالجبل الغربي، ثم أنشئت أخرى بدير المحرق لتعليم الأذكياء من رهبان ديري الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا، وهذه المدارس الثلاث أعظم واسطة لتخريج رجال منهم يليقون أن تسند إليهم الوظائف الرئيسية، وحبذا لو أنشئت مدارس أخرى في أنحاء القطر إذن لكانت الفائدة كبرى والنتيجة عظمى.
ولقد أنشأ غبطته بالدار البطريركية كتبخانة جمع فيها سائر الكتب القديمة المخطوطة، التي تحسب آثارا للعصور الغابرة، وفي عهده ارتقت الطائفة في سلم مراتب الشرف إلى درجة تسر المحبين، ونمت ثروتها العمومية نموا كبيرا، وفي عهده أيضا تأسس المستشفى القبطي الكائن في أعظم بقعة صحية في شارع عباس بالقاهرة، وهو يعد من مستشفيات الدرجة الأولى من حيث ضخامة البناء وجودة الهواء، وتوفر الأدوات الطبية وانتقاء نطس الأطباء كما أوجد لهذا المستشفى صيدلية «أجزخانة كاملة» الأدوية خاصة به، وانتقى لها أمهر الصيدليين القانونيين وقد صرف على إنشائها مبالغ طائلة وبالإجمال نقول: إن عهد غبطته قد تبلج في أفقه الرقي والعرفان وسعادة الطائفة بلا شك ولا جدال.
الاحتفال الفخم باليوبيل الذهبي الخمسيني لغبطته
وقد احتفل الشعب المصري عامة والأقباط خاصة بيوبيل غبطته الخمسيني الذهبي أي: مرور خمسين عاما على تبوئه كرسي البابوية، وذلك في يوم السبت الموافق 3 فبراير سنة 1923 / 23 بابه سنة 1640ق احتفالا لم يسبق له مثيل، حيث أقيمت الزينات الفخمة وأنيرت الثريات والمصابيح البهجة داخل الدار البطريركية وخارجها، وألقيت الخطب والقصائد ووفد الكبراء والعظماء، وكل ذي حيثية ومقام يهنئون غبطته، ويتقبلون دعواته يعلوهم البشر والسرور، والبهجة والحبور، مكررين الدعاء بحفظ ذاته الكريمة فكان يقابلهم غبطته ببشاشته المعهودة مباركا إياهم داعيا لمصر وبنيها بالعز والرخاء، وقد وزعت الصدقات ونحرت الذبائح، ووزعت على الفقراء والمساكين، فانطلقت ألسنتهم بالدعاء للعزة الإلهية أن تطيل حياة هذا الراعي الصالح، والأب التقي الورع لخير أمته وسعادة طائفته التي نالت الرقي الحقيقي بفضل طهارته وصلاحه وتقواه، التي أصبحت أشهر من نار على علم.
غبطة البابا بملابسه الكهنوتية الرسمية.
وفي صباح يوم الأحد 4 من الشهر المذكور أقيم قداس حبري عظيم بالكنيسة المرقسية الكبرى حضره عموم عظماء وكبراء الطائفة.
هذا ولسمو مركزه الديني قد أهداه أكثر الملوك وسامات الشرف، خصوصا سلاطين آل عثمان وسمو الخديوي السابق عباس باشا حلمي الثاني، أما جلالة الملك يوحنا ملك الحبشة فقد أهداه تاجا مرصعا بأنواع الجواهر الثمينة، وصليبا مرصعا بالياقوت والجواهر الغالية.
صفاته وأخلاقه
هو آية من آيات الطهر، والزهد، والورع، والتقوى، والصلاح، وعلى جانب عظيم من العلم، والفطنة، والذكاء، مع سلامة القلب، والتواضع الكلي.
فتجده مخلصا كل الإخلاص لشعبه، غيورا على مصلحته، محافظا على الفروض الدينية لذا نراه محبوبا محترما كثيرا في نظر عموم الشعب المصري لا فرق بين مسلمه ومسيحه ، والكل داعون لغبطته بدوام حياته السعيدة؛ ليقوم بأعباء خدمة شعبه بما أوتيه من علم وفضل وحنكة وطهارة، أنجح الله مسعاه وأبقاه راغدا في ثوب العافية والهناء أياما طويلة وسنين عديدة.
آمين آمين لا نرضى بواحدة
حتى نبلغها آلاف آمين
ترجمة فقيد الأمة الأرثوذكسية جلالة الإمبراطور منليك الثاني
«ملك ملوك الحبشة»
بيان موجز للمؤرخ
لا نبغي من هذا البيان الموجز أن نأتي بعده بتاريخ حياة هذا الإمبراطور العظيم، الذي فقدته الأمة الأرثوذكسية عامة والممالك الحبشية خاصة، إنما الغرض الوحيد من وضع رسمه في هذا السفر أن نأتي بذاك الخطاب التاريخي المرسل من جلالته عن يد نيافة الأب الموقر الأنبا متاؤس مطران المملكة الحبشية إلى غبطة البابا المعظم، أثناء زيارته الرسمية للأقطار المصرية في أوائل سنة 1902 ميلادية؛ نظرا لما يحويه الخطاب المذكور من آيات الولاء والإخلاص لشخصه الكريم؛ ولأن في إثباتاه الدليل الساطع والبرهان القاطع على ما لغبطة البابا المعظم من المنزلة الكبرى، والمقام الأسمى والاحترام الأكيد لدى ملوك الحبشة الفخام، بما له من حق الرياسة الدينية على تلك المملكة، وما يليها من الممالك الأرثوذكسية الأخرى.
المرحوم جلالة الإمبراطور منليك الثاني.
وهاك نصه حرفيا مأخوذا من كتاب تاريخ الأمة القبطية تأليف المرحوم يوسف بك منقريوس ناظر مدرسة الأقباط الأكليريكية سابقا:
من منليك ملك ملوك الحبشة
إلى غبطة السيد الأب الأنبا كيرلس بطريرك الإسكندرية ومصر والنوبة والحبشة، وما يليها الجالس على كرسي القديس مرقس الإنجيلي والمبشر بكلمة الله وعمود الدين والإيمان الثابت الأركان والكنز الذي لا تطاول إليه أيدي المعتدين، والنور المتألق في سماء الدين الذي سار في الرهبانية مع رسوخ القدم في الإيمان سير المهتدين، ألا وهو عبد ورسول يسوع المسيح، دامت علينا رياسته، آمين.
أما بعد أيها السيد الجليل والحبر العظيم، فإني أنا منليك الثاني القائم بأمر الله ملكا على ملوك الحبشة، أجثوا تحت مواطئ قدميكم مستمدا بركتك التي عمت جميع الناس على اختلاف الأجيال والأجناس، ثم أحيط علم قداستكم أنني بنعمة السيد المسيح رب الجنود، وشفاعة والدته الدائمة البتولية والطاهرة مريم العذراء، رافل في حلل السلامة والهناء، ثم أبدي بأن قدس الأب المعظم الأنبا متاؤس الذي قام بأعباء وظيفته في بلاد الحبشة خير قيام، عاكفا بصلواته المقدسة على خدمة الأمة حسب المرام عرض على سدتي الملوكية، بأنه قد استغرق مدة مديدة من الزمان وهو بعيد عن الأهل والأوطان، وبناء على ذلك التمس منا أن نأذن له في الرحيل إلى وادي النيل، رجاء أن يمتع الناظر بمشاهدة غبطتكم وسائر الآباء وأفراد أبناء الأمة في وطنه المحبوب، وصرحنا له بذلك ولا سيما لزيارة بيت المقدس، الذي هو مطمع الأنظار والقلوب، وكان من العوائد الجارية أن من رسم مطرانا على بلاد الحبش لا يسوغ له أن ينتقل لأي سبب كان من مركز وظيفته إلى سواء البلدان، غير أني وضعت قانونا جديدا مراعاة لأحكام علائق الوداد، وعملا بما جاء في الكتاب المقدس مما لا يخرج عن هذا المراد، وإجابة لطلب أبينا الأنبا متاؤس صرحنا له بالسفر ليعرب لقدسكم عما في صميم الفؤاد من مكانة الحب الذي لو تجسم لملأ ألف واد، هذا وأرجو من قداستكم أن تمدونا وسائر الأمة بالصلوات والدعوات في كل وقت من الأوقات، حتى يثبتنا الله على الصراط المستقيم، وتعم البركة كل باد منا ومقيم، ومتى عاد الأنبا متاؤس إلينا بالسلامة تزودونه بصلات صلواتكم، لنكون ملحوظين بعين العناية ومحفوفين إلى ما شاء الله بكمال الرعاية.
تحريرا في 25 هتور سنة 1618 «كتب بمدينة أديس أبابا»
ترجمة سمو الرأي تفري ولي عهد المملكة الحبشية
لمناسبة زيارته للبلاد المصرية
زار مصر في صيف عام 1924 حضرة صاحب السمو الرأس تفري ولي عهد الإمبراطورية الحبشية، وكان معه رءوس الحبشة وحاشية كبرى نزلوا جميعا بفندق الكونتيننتال، وعقب حضوره تشرف بمقابلة حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول بسراي عابدين العامرة، حيث أقلته إليه عربة التشريفات الكبرى مع الحرس الملكي، فأكرم جلالة الملك وفادته، وتفضل حفظه الله وأنعم عليه بالوشاح الأكبر وهو أكبر وشاح لدى الحكومة المصرية، ثم زار بعد ذلك قداسة الحبر الجليل غبطة بطريرك الأقباط الأرثوذكس، الذي أمر بعمل قداس خاص بداخل الكنيسة المرقسية الكبرى عند وصول سموه للديار المصرية، حضره صفوة الأعيان ووجهاء الأمة القبطية الأرثوذكسية، فكان الاحتفال بمقدمه بالغا حد الأبهة والجلال.
ولما كانت مشكلة دير السلطان الذي للأقباط بالحبشة قائمة على قدم وساق في ذاك الوقت، حيث تريد الحبشة الاستيلاء عليه في حين أنه مملوك للأقباط رسميا منذ زمن مديد، فقد ألف وفد من أعيان الأقباط مؤلف من حضرة صاحب المعالي فوزي باشا المطيعي وزير الزراعة سابقا، وسعادة قليني فهمي باشا، وجناب الأغومانوس بطرس عبد الملك رئيس الكنيسة المرقسية الكبرى للمفاوضة مع سموه في شأنه، وبعد مفاوضات عديدة أظهر فيها الوفد القبطي أحقيته لهذا الدير، طلب سمو الرأس تفري انعقاد الجمعية العمومية لقبط للبحث في هذا الصدد، وفعلا تم انعقاد هذه الجمعية، وبعد عدة جلسات تم قرارها على إعطاء الأحباش جزءا من هذا الدير للمرور منه، وذلك حسما لكل نزاع بين الفريقين المتحابين، وبذا انقضى هذا الإشكال وزال الجفاء الوقتي والحمد لله.
سمو الرأس تفري ولي عهد المملكة الحبشية.
وقد غادر سمو الرأس تفري مصر إلى أوربا؛ ليقف بنفسه على الحضارة الأوربية ويفض المشاكل القائمة الآن بين بلاده وبعض دول أوربا.
وقد رأينا أن نأتي هنا بلمحة عن الحبشة وأهلها خدمة للتاريخ فنقول:
الحبشة وأهلها
الحبشة الآن هي جزء من إثيوبيا القديمة التي كان يعد السودان جزءا منها، وآثار الأثيوبيين لا تزال توجد في السودان، وقد غزا بعض ملوكهم مصر وحكموها مدة كما غزوا أيضا اليمن وحكموها مدة غير قليلة، فحضارة الأثيوبيين القديمة فيها مزيج من حضارة مصر وحضارة العرب القديمتين، واتصال الحبشة الحديثة بكلتا البلادين - مصر وجزيرة العرب - شديد فمعظم التجار في الحبشة من العرب، والكنيسة الحبشية هي فرع من الكنيسة القبطية، يعين البطريرك القبطي أسقفها الذي يمسح قسوسها وملوكها، ووزير معارفها شاب قبطي.
وسكان الحبشة يبلغون ثمانية ملايين والحكومة مطلقة فيها شيء شبيه بالشورى؛ لأن النجاشي يستشير مجلس الرءوس، وهؤلاء الرءوس أمراء مطلقون في إمارتهم، والرق منتشر عندهم، والبلاد جبلية، والزراعة تزكوا هناك لكثرة الأمطار، ولكن جهل السكان يمنع ترقيتها، فالقطن ينمو بريا ولا يزرعه أحد، وكذلك قصب السكر والنخل والكرم كلها تنمو في الجبال، ولا يزرعها إلا القليل من الأهالي، وأكبر مدن الحبشة هرر وعد سكانها 50000، وفي البلاد سكة حديد واحدة، وتصل أديس أبابا ببعض البلاد الداخلية خطوط تلفونية وتلغرافية.
وأعظم من عرف حديثا من إمبراطورة الحبشة منليك، الذي توفي سنة 1913م ولم يكن له وارث، فتعين أحد أولاد إخوته المدعو ياسو «يسوع» إمبراطورا، وكان هذا الشاب طائشا فلما حدثت الحرب الكبرى انضم إلى الأتراك وأعلن أنه مسلم، وحاول أن يجعل الإسلام ديانة البلاد الرسمية، فهاج عليه الناس هياجا كبيرا وخلعوه في سنة 1916م، ثم عينت ابنة منليك إمبراطورة، وتعين الرأس تفري ولي عهد، أما ياسو هذا فأسير الآن عند الرأس تفري.
وقد كتب أحد الإنكليز الذين عاشوا في الحبشة مدة طويلة يذكر عاداتهم، ومما قاله: أنهم يأكلون في حفلاتهم الرسمية اللحم نيا، وليس فيهم من لا توجد الدودة الوحيدة في بطنه لهذا السبب، وهم يشربون نوعا من النبيذ المصنوع من خمير العسل، وإذا جرع الإنسان منه جرعة طارت إلى الرأس وفعلت فعلها.
ومن علامات الشرف في أنحاء البلاد التي لا تصل إليها أيدي الحكومة أن يقتل الإنسان عددا من الرجال، ومن يقتل أسدا أو فيلا عد من عظام الرجال، وأسد الحبشة ليس جريئا، ولكن الفيل ذكي يعرف البندقية فيميز العدو من الولي.
ومناظر الطبيعة في الحبشة تختلف من صحاري قاحلة إلى جبال وسهول تغطيها الخضرة، وليس لأنهارها جسور فيضطر السائر إلى العبور سباحة، ويكون طول ذلك الوقت تحت رحمة التماسيح وأفراس النهر والعلق.
وشر ما في الحبشة ذبابها فهو يطير سحائب تغطي الأشخاص، وهو يكثر لتلك العادة الفاشية بين الأحباش في تطرية شعرهم بالدهن، وأمراض العيون فاشية لهذا السبب.
ومقام المرأة غاية في الضعة، فالزوج يشتريها من أهلها بعدد من الخراف أو الماشية يتفق وجمالها، وكثيرا ما تقرن المرأة إلى بقرة تجران الاثنتان محراثا، والزوج في الخلف يحمل سوطه يقعقع به وراءهما.
وكنائس الحبش تبنى من الطين والقش، وهي مستديرة والقداس يقوم به الكهنة في وسط الكنيسة والناس حولهم جلوس، ويأخذ الكهنة في الترتيل والرقص ودق الطبل ويتحركون في كل ذلك حركات توهم الناظر أنهم يطعنون ثعبان أو يقتلون وحشا بحربة في أيديهم، ونحو خمس رجال الحبشة البالغين قسوس أو شمامسة، ومع ذلك قد تسربت إلى المسيحية هناك جملة عادات وثنية، بل بلغ من ضعف المسيحية أن كان تتغلب عليها اليهودية، ومن التقاليد المرعية الآن احترام يوم السبت كما يحترمون أيضا يوم الأحد، وعندهم نحو 150 عيدا في السنة، وهم إجمالا يكرهون المرسلين الدينيين، ومن أقوال أحد أمبراطرتهم: «إن الأوربيين يرسلون إلينا أولا مرسليهم ثم قناصلهم ثم جنودهم».
والحبشة كما يدل على ذلك اسمها مزيج من جملة شعوب أهمها شعوب الشمال، وهي تشبه في الملامح سكان شمال أفريقيا، وهم خفيفو السمرة ويتكلمون لغة سامية تسمى الأمهرية، ونساؤهم على شيء من الجمال، ويلي الأمهريين شعب آخر يدعى الجالا، وفي الحبشة عدد غير قليل من العرب المسلمين واليهود.
ومقام الرجل هناك يعرف من عدد أتباعه، فالأمير الكبير لا يركب فرسه أو بغلته إلا وهو متبوع بنحو مائة رجل من الخدم يحملون أسلحته وأمتعته، أما الموظف الصغير فيكفيه تابعان أو ثلاثة.
الحبش وعلاقتهم بالقبط
اختلط القبط (أي: المصريين) بالحبش من قبل زمان النصرانية اختلاطا، أدى إلى اعتقاد المؤرخين القدماء بأن المصريين والحبش من أصل واحد لتشابه الجماجم؛ ولأن التوراة تشير إلى ذلك إذ تقول عن المصريين: إنهم أبناء مصرايم بن حام (تك 10: 6) وكوش الذي ينسب إليه الحبش هو أخو مصرايم، حتى لقد اعتقد الكثير أن «كيمي» اسم مصر بالقبطية مأخوذ من حام أبي المصريين والحبش.
ومما ذكره المؤرخون أن جماعة الأتومولة المصريين قد هجروا مصر في أيام بسماتيك الملك وذهبوا إلى بلاد الحبشة، والعلاقة قديمة جدا للمجاورة، وقد ذهب متى الإنجيلي مبشرا هناك، وترك إنجيله مكتوبا بخط يده عند اليهود المتوطنين هناك الذين يقولون عن أنفسهم إنهم من نسل سليمان، والذين أرسلهم إلى هناك مع ابنه من سبأ ملكة التيمن؛ ولغاية الآن يعتقدون أن عندهم تابوت العهد في أكسوم، أخذه منليك الأول من أبيه سليمان الحكيم، وقد ذهب نتينوس معلم مدرسة الإسكندرية، فتمكن من أخذ إنجيل متى وقد استحضره إلى الإسكندرية.
وقد ظلت بلاد الحبشة على حالها حتى أوائل القرن الرابع المسيحي أو القرن الأول للشهداء، ولكن أثناسيوس الرسولي بطل الأرثوذكسية قد وجه التفاته إلى تلك البلاد لعلمه بالرابطة القومية، فتمكن من إرسال مطران عليها يدعى فرومنتيوس، وهو أول مطران في سنة 330م.
وقد اختلفوا في الكيفية التي توصل بها إلى إرسال هذا المطران، فقال بعض المؤرخين: إن أخوين كانا مع صوري في مركب تمخر في البحر الأحمر، فاحتاجت إلى مياه، فعرجت على سواحل الحبش، فأجهز جماعة الحبشان على من فيها، وهرب الشبان فقادوهما إلى النجاشي الذي جعل أحدهما ساقيه، والآخر أمينا لخزانته، وبعد موته اهتما بأولاده اهتماما عظيما، فكافأهما خليفته بعد أن أبلغ رشده بإطلاق سراحهما، وقيل: إنه طلب منهما أن يعمداه ويتوليا أمر حراسة الدين الذي تعب في غرسه، فواعداه بأن يخبرا بطريرك الإسكندرية، ولما أطلق سراحهما ذهب أحدهما إلى صور، فكان هناك قسيسا كبيرا أما الآخر وهو المدعو فرومنيتوس فقصد الإسكندرية، وتقابل مع بطل الأرثوذكسية أثناسيوس الذي بعد أن أرشده رسمه أسقفا، وأعاده إلى تلك البلاد مع جماعة ليكونوا له مساعدين وكان ذلك حوالي سنة 330م.
ولما كانت علاقة الأحباش بالقبط قديمة جدا، وأنهم لا يعرفون أن الكنيسة القبطية أمهم، طلبوا منها توسيع دائرة الرياسة الدينية هناك، وعليه فقد انتقوا مطرانا وثلاثة أساقفة تحت يده، ولم يبق منهم إلا نيافة الأنبا متاؤس الحالي الذي وضعنا صورته، وترجمته الشريفتين في غير هذا المكان، وقد أصبح هو المطران الوحيد هناك أو بالحري هو الرئيس الديني الأكبر في بلاد الحبش.
وقد أظهر القبط في هذه الآونة من أدلة الميل إلى دوام الارتباط بينهم، وبين إخوانهم الأحباش ما قاموا به من الاحتفالات الفائقة لسمو الأميرة الحبشية منن قرينة سمو الرأس تفري، التي زارت مصر بعد عودتها من القدس الشريف وقيام أفاضل القبط بواجب الضيافة.
ولولا أن شرح العلاقة بين الأمتين قد تطول كثيرا لو استقصينا الحوادث التاريخية لما اكتفينا بهذا البيان الوجيز، الذي نعتبره ملخص تاريخ العلاقة الدينية.
ترجمة نيافة الحبر الجليل جزيل الطوبى والاحترام الأنبا متاؤس
ترجمته الشريفة
ما بزغ شهر يناير سنة 1923 إلا وطارت الأنباء للدار البطريركية الأرثوذكسية بقدوم حضرة صاحب النيافة كلي الطهر والورع، الأنبا متاؤس مطران كرسي المملكة الحبشية، فبدأت البطريركية في استقباله استقبالا يليق لهذا الحبر الجليل من التجلة والاحترام، وأرسلت وفدها لمقابلته على ميناء السويس وعادوا بنيافته إلى العاصمة، حيث قوبل فيها من عموم الطائفة بالسرور والابتهاج مهنئينه بقدومه السعيد، وقد تفضل جلالة فؤاد الأول ملك مصر والسودان، فأوفد من قبله مندوبا لتبليغ تحيات جلالته، وغصت الدار البطريركية بكل عظيم ووجيه، ودقت الأجراس سرورا وحبورا وفتحت أبواب الكنيسة المرقسية الكبرى، وأقيمت فيها صلاة شكر لسلامة وصول نيافته، وأنشد الشمامسة أناشيد الابتهاج وساروا أمام نيافته حاملين الصلبان حتى مدخل الكنيسة، ولا يمكن وصف اغتباط الشعب ومنتهى سروره برؤية طلعة هذا التقي الورع، الذي طال اغترابه عن أنظارهم زمنا طويلا، حيث كانت زيارته الأخيرة للوطن عام 1902م.
نيافة الحبر الجليل جزيل الطوبى والاحترام الأنبا متاؤس «مطران كرسي المملكة الحبشية».
ولقد حظي بمقابلة جلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر والسودان صباح يوم الاثنين الموافق 29 يناير، سنة 1923 مصحوبا بحضرات الآباء المحترمين الأنبا يؤانس مطران كرسي الإسكندرية، والأنبا باخوميوس أسقف الدير المحرق، فأكرم وفادته إكراما دل على مكانته السامية في القلوب.
ولما كان مركز نيافته الحالي من أهم المراكز الدينية والسياسية؛ لتدخله في أكثر شؤون المملكة الحبشية وكثيرون يجهلون تاريخ حياة نيافته، فقد رأينا أن نأتي على لمحة من تاريخه الشريف، وسرد ملحوظاتنا عليها وهو كل ما وصلنا إليه فنقول:
ولد نيافته في بلدة بني خالد إحدى قرى مديرية أسيوط، وشب عاكفا على الآداب والتقوى ثم دخل في دير المحرق في عهد المتنيح المثلث الرحمة الأنبا أبرام الذي كان اسمه وقتئذ القمص بولس، وهذا كان رئيسا للدير المذكور قبل أن يرسم أسقفا على كرسي الفيوم، ولما كثرت إحسانات وعطايا هذا القديس المتنيح، عزل بمعرفة الأنبا مرقص مطران كرسي البحيرة في ذاك الوقت للسبب المذكور مدعيا أن إيراد الدير لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكفي لسد حاجة هؤلاء المعوزين، وهكذا كان نصيبه وجزاؤه.
وبعد نهاية المدة التي مكثها نيافة المترجم في دير المحرق، انتقل راهبا إلى دير العذراء بالبراموس بالبرية في عهد المتنيح الأنبا مرقص مطران كرسي البحيرة، ورسم نيافته أسقفا للحبشة سنة 1597 للشهداء/1891 ميلادية، وقد كان هناك الأنبا بطرس، فلما ذهب إلى بلاد الأحباش سار بحكمة لذكائه الطبيعي وبقي هناك في مدينة النجاشي منليك حتى إذا ارتقى عرش المملكة دبر سيادته بأحسن طريقة الملك، فكان جزاؤه أن حاز رضا النجاشي التام، وحصل على درجة لم ينلها مثله ممن تولوا الإمامة إلا نادرا، فإنه فضلا عن أنه صار كبير الأساقفة هناك، فإن النجاشي لا يعمل عملا ولا يصدر حكما إلا بعد أن يستشيره فيه مكافأة له على حسن تدبيره وعنايته التامة، وسعيه المتواصل لإعلاء منار المملكة، وتقوية دعائم الدين المسيحي، وتثبيت أركانه في تلك البلاد الشاسعة الإرجاء، وقد ثبت في يوم الأحد 16 فبراير سنة 1902 في درجة المطرانية عظيمة القدر باحتفال حافل جدا لم يسبق له مثيل من قبل، ولقد ذاع صيته في أقطار المسكونة، كما أن أحد كبار الإفرنج جاهر بما لنيافته من المقام الأسمى والاحترام الكلي، والكلمة المسموعة والباع الطويل في أمور المملكة، وأطنب في صفاته الشخصية إطنابا عظيما، وذكر ما لمكانته بين ذاك الشعب من الإجلال حتى إنه وصفه ببابا رومية عند طائفة الكاثوليك.
ولا غرابة ولا عجب فإن اسم نيافة الأنبا متاؤس سيخلد بمداد الفخر والإعجاب في بطون التاريخ ضمن من جاهدوا، وسعوا في رفع شأن الديانة المسيحية، وتثبيتها في تلك البلاد وإعلاء كلمتها.
ولقد مكث نيافته مدة اثنين وأربعين عاما حتى تاريخ زيارته هذه للأقطار المصرية وهو في تلك الأقطار النائية عن الوطن دائب على العبادة متمسك بأهداب التقوى والصلاح.
أما عن أخلاق نيافته الشخصية وأعماله الخيرية، فحدث ولا حرج فهو مثال اللطف والوداعة وكرم الأخلاق والطهارة، وحسناته العديدة التي يوزعها على البؤساء، ومن أخنى عليهم الدهر بكله وكانوا من العائلات الشريفة، فحدث عنها ولا حرج، وله اليد الطولى في كل عمل خيري مدفوعا إلى ذلك بعامل الإيمان المسيحي الحقيقي المجرد من حب الفخر والفخفخة والتظاهر، اللهم إلا ابتغاء مرضاة رب المجد وضميره الطاهر.
أجزل الله عليه البركة وكافأه بعدد حسناته العديدة ومآثره الفريدة، وأدامه بالصحة والهناء نبراسا وضاء للكنيسة القبطية الأرثوذكسية آمين.
ترجمة نيافة الشيخ الوقور الأب الكلي الطوبى والجزيل الاحترام الأنبا يؤنس
مطران كرسي البحيرة والمنوفية ووكيل الكرازة المرقسية للأقباط الأرثوذكس
مولده ونشأته
ولد نيافته ببلدة تسمى دير تاسا بمركز البداري بمديرية أسيوط، وتربى تربية حسنة، ومن ثم ترهب بدير السيدة بالبرموس في سنة 1592، ولم يمض كبير زمن حتى رقي قمصا ثم تعين رئيسا لدير السيدة برموس وذلك في سنة 1593 ومكث بالرياسة مدة عشر سنوات أتى فيها من الأعمال ما خلد له ذكرا جميلا واسما جليلا في قلوب عموم الرهبان، ولا سيما أعيان طوخ النصارى مركز كرسي رئاسة الدير المذكور، فشيد بها قصرا شاهقا وجدد كنيسة عزبة الرياسة بطوخ، وجدد كنيسة باسم العذراء بالدير المذكور بوادي النطرون، ورقى فن الزراعة وذلك بأن أحضر وابورا للري، وبذلك ازدادت إيرادات الدير زيادة محسوسة، وأخذ بناصر الفقراء والمساكين حتى لهجت ألسنة العموم بالثناء عليه، وعلى خصاله ومبراته، وقد سيم في الصوم الكبير لسنة 1603 لكرسي البحيرة والمنوفية ووكيل الكرازة المرقسية.
وفي سنة 1610 تقلد كرسي المنوفية وقام من ثم بأعمال جليلة دلت على ما اتصف به من الشهامة والأفكار الثاقبة، وساس رعيته بأحسن نظام وأعظم تدبير وقد أتى من المآثر ما حقق مقدرته وعلو مداركه، فقد جدد كنيسة العطف والضهرية وعزبة أبو حمده والطرانة وأنشأ كنيسة دمتيوه، وجدد مدرسة دمنهور بمديرية البحيرة، كما أنه جدد كنيسة حصة برما وأنشأ فيها مدرستين للبنين والبنات، وأنشأ كنيسة بمم منوفية، وكنائس بمنية الواط وزاوية الناعورة وعزبة الملايجة ومنوف وسمادون وسرس الليان ، وجدد كنيسة سبك وكنيسة بي العرب، وأنشأ مدرسة بالبتانون وأخرى بميلج، وكنيسة ومدرسة بناحية ميت خاقان وهذه بعض مآثره بمديرية المنوفية، وقد تبرع من ماله الخاص لكل مشروع حاثا على المثابرة على الأعمال الخيرية بكل اجتهاد.
نيافة الأنبا يؤنس مطران كرسي البحيرة والمنوفية «ووكيل الكرازة المرقسية بالإسكندرية».
ولقد تبرع لمدرسة بولاق الصناعية بمبلغ 500 جنيه ولدير أبي سيفين بمصر بمبلغ 150 جنيه، ولم يحرم باقي الجمعيات الخيرية الأخرى بإسكندرية كجمعية الثبات والاتحاد عند بناء معهدها العلمي وغيرها من تبرعاته ومنحاته المالية.
وقد أنشأ بمدينة الإسكندرية مدرسة أكليريكية لتعليم رهبان دير السيدة برموس وأنبا بشوي والسيدة العذراء بالسريان، وقد خرج منها عدد عديد من الرهبان منهم نيافة مطران كرسي قنا، ونيافة مطران كرسي المنيا ونيافة مطران الفيوم، والرهبان الموجودون فيها الآن حاصلون على أحسن العلوم العصرية.
وجدد المدرسة القبطية بالإسكندرية للبنين والبنات وبحسن رعايته، ومزيد عنايته تقدمتا تقدما محسوسا، فأحضر لهما المعلمين والمعلمات وعين لمدرسة البنين ناظرا مقتدرا وشيد منازل كبيرة للأوقاف، يتحصل منها إيراد كبير وأقرب ما يذكر لقدسه بالشكر الجزل تأسيس مدارس الأحد بالإسكندرية التي سدت فراغا عظيما، وأوجدت روحا جديدة في شبان وشابات بنات الطائفة، فضلا عن عزمه على بناء كنيسة أخرى بالإسكندرية، وتبرعه إليها من ماله الخاص بمبلغ خمسماية جنيه.
هذا وقد قاسم نيافته غبطة البابا المعظم في كل شأن من شؤونه، وشاركه في كل حوادثه مشاركة فعلية خصوصا حوادث الخلاف، التي وقعت عام 1892 بشأن المجلس الملي وسلطة الأكليروس وما تبع ذلك من إبعاد غبطة البطريرك إلى دير البرموس، وإبعاد صاحب الترجمة إلى دير أنبا بولا وهو محترم الجانب محبوب لدى غبطته كثيرا.
ونيافة صاحب الترجمة حائز على المجيدي الثاني من سمو عباس حلمي الثاني الخديوي السابق، والعثماني الثاني من سموه أيضا، وذلك أثناء وجوده عضوا في مجلس شورى القوانين، وكذا نجمتي الحبش من الطبقة الثانية والأولى.
صفاته وأخلاقه
الصلاح ديدنه والتقوى معدنه وطبعه، والفضل منبعه، نقي القلب، طاهر السيرة والسريرة، وقد حاز احترام الكبير والصغير لعظيم فضله وغزارة علمه وطهره.
أبقاه المولى وحفظ حياته السعيدة لخير الطائفة القبطية الأرثوذكسية وأكثر من أمثاله الصالحين.
ترجمة صاحب النيافة الحبر الجليل الورع الأنبا توماس
صاحب النيافة الحبر الجليل الأنبا توماس مطران كرسي المنيا والأشمونين للأقباط الأرثوذكس.
ولد هذا الراعي الصالح بعزبة الدير المحرق التابع لمركز منفلوط من أعمال مديرية أسيوط في سنة 1590 للشهداء، الموافقة لسنة 1873 ميلادية من أبوين تقيين ربياه على الفضيلة والتقوى والصلاح، وأدخله والده مكتب البلدة فتعلم فيه مبادئ القراءة والكتابة العربية والقبطية، ولما بلغ الثامنة عشر من عمره قصد دير البرموس الكائن ببربة بشهات «أي: ميزان القلوب» بمديرية البحيرة في يوم الخميس 4 بشنس سنة 1607، وكان يدعى عبد الملك نصر الله فسافر بمعية نيافة الحبر الجليل الأنبا يؤنس مطران الإسكندرية، وجناب قنصل روسيا بإسكندرية الذي قصد زيارة الدير في ذاك العام، فكان فيه مثال التقوى والورع.
وفي 16 برمودة سنة 1609 الموافقة سنة 1892 ميلادية كرس راهبا بالدير المذكور في عهد رئاسة المرحوم القمص باخوم رئيس الدير، وقد واصل الليل بالنهار في حفظ التسبحة والمزامير والألحان الكنائسية، والاشتراك مع الرهبان في أشغال الدير الضرورية ، وأخذ فضله يظهر منذ ذاك الحين حتى نال عن جدارة واستحقاق وظيفة القساوسة، بوضع يد الكلي القداسة الجزيل الاحترام غبطة البابا المعظم الأنبا كيراس الخامس بطريرك الإسكندرية في يوم الأحد الموافق 13 بابه سنة 1613-1896م، وأطلق عليه باسم القمص عوض تبركا وإحياء لذكر المتنيح الراهب البرماوي، الذي عند ذكر اسمه في وضع يد غبطة البطريرك ذرفت عيناه الطاهرة بالدموع حزنا على ذلك الراهب الراحل الكريم، فكان لهذا المنظر أعظم تأثير عند الحاضرين، مما دل على ما كان عليه ذاك المتوفى من المكانة السامية عند قداسة البابا، ثم تعين صاحب الترجمة وكيلا لأشغال عزبة الدير بطوخ النصارى «منوفية» في شهر هاتور من ذاك العام في عهد رئاسة الأنبا ساويرس مطران كرسي صنبو الآن، وفي 30 هاتور عام 1614-1897م رسم قمصا، وفي أول توت سنة 1616-1899م انتظم في سلك طلبة مدرسة الرهبان الأكليريكية بالإسكندرية، فلبث بها أربع سنوات برز فيها في العلوم اللاهوتية وصار من كبار رجال الدين، وقد وضع نيافته كتابا للمواعظ مرتبا على فصول الحدود والأعياد بطول السنة، وكلها إرشادات روحية، وتعاليم وقواعد أرثوذكسية ولكن لم يطبع بعد. وفي 4 برمهات سنة 1619 الموافقة لسنة 1902، أسند إليه نيافة مطران كرسي الإسكندرية وكالة البطريكخانة، فقام بشؤون وظيفته خير قيام وبرهن على ما له من الخبرة والدراية، ونال ثناء نيافة المطران وإعجاب الإسكندريين لفضله وكمال أدبه، وفي يوم الأحد الموافق 7 برمهات سنة 1621 الموافقة لسنة 1905، أسندت إليه أسقفية كرسي المنيا والأشمونين خلفا للمرحوم الأنبا ديمتريوس، فأظهر حزما واقتدارا ملك بهما قلوب شعبه، كما أسندت إليه درجة المطرانية في 8 بابه سنة 1625 الموافق 18 أكتوبر سنة 1908، وفي سنة 1912 ضم إليه بندر ملوي، وفي سنة 1914 ضمت إليه أبروشية بردونوها التي تحتوي على إحدى عشرة بلدة ذلك؛ لأنه رجل العمل الحقيقي، ولا شك أن القارئ الكريم عند مطالعته للأعمال الهامة التي قام بها نيافة صاحب الترجمة يتأكد قوة عزيمته، وصدق إرادته وبعد نظره وغيرته على رفع لواء الدين والعلم والأدب بين ربوع أبروشيته، التي أصبحت زاهرة بفضل مجهوده، وتفرغ كل أوقاته لخير ورفاهية شعب أبروشيته، الذي يفاخر به في كل مجلس وناد، ولكن من سوء الحظ قد ألمت به الأمراض، فأشار عليه الأطباء بالسفر للبلاد الأوربية وفعلا سافر أولا للقدس الشريف في 16 أبريل سنة 1924 لتأدية الواجب الديني وزيارة الأراضي المقدسة، وهناك وجد الراهب فيلبس الموكل لعمارة كنيسة أريحا، فتبرع نيافته بمبلغ ستين جنيها، وجمع من الذين معه بمعيته خمسة وأربعين جنيها، وسلمها للراهب المذكور، وسافر بعد ذلك لأوربا وقابل أشهر الأطباء الذين قرروا فحصه جيدا، وقرروا بأن المرض ناتج من كثرة الأشغال والمجهودات. وإننا نذكر هنا بعض أعماله الخيرية والعلمية والدينية والمادية، التي خدم بها طائفته وفيها الدليل الكافي على ما لنيافته من الفضل الجزيل. (1)
إزالته دار المطرانية القديمة وتجديدها على الطراز الحديث، ونقشها نقشا بديعا، وجلب لها ثمين الأثاث حتى أصبحت تضارع أعظم المباني في العظمة والأبهة، وبها متسع لإضافة الغرباء والواردين والمترددين، حيث يقابلون بكل ترحاب، وقد أنارها بالكهرباء. (2)
وجه عنايته لإصلاح المدرسة فأنشأ مدرسة جديدة بأرض السراية على الطراز الحديث أيضا، صرف عليها نحو الخمسة عشر ألف جنيه، وأعلا مقامها وجعل فيها قسما ثانويا هو الآن المنهل العذب لطلاب العلم بمديرية المنيا، وقد زارها كثير من وطنيين وأجانب وجاهروا بأنها أحسن وأجمل وأفخم ما بني من نوعها عند الأقباط في القطر المصري، ونتائجها الثانوية في الشهادتين الابتدائية والكفاءة تدل على اختياره أحسن الأساتذة القائمين بالتدريس بها، ونذكر مع الشكر حضرة الأستاذ الفاضل نخله أفندي خليل المحامي بالمنيا، الذي كان أكبر عضد مالي وأعظم مشجع أدبي لنيافته في إنشاء هذه المدرسة، فضلا عن أنه أوقف عليها خمسة أفدنة من أطيانه الخصوصية. (3)
تقسيم المدرسة القديمة إلى خمسة منازل وأوقفها على الدار المطرانية للانتفاع بإيجارها. (4)
أنشأ كنيسة ومدرسة بالروضة. (5)
أنشأ كنيسة الفكرية. (6)
أنشأ مدرسة بالبياضية. (7)
إصلاح وترميم وتوسيع دير القديس أبو يحسن. (8)
تجديد كنيسة أتليدم. (9)
أنشأ كنيسة ومدرسة بأبو قرقاص وجدد الكنيسة القديمة. (10)
أنشأ كنيسة أبشادة. (11)
تجديد كنيسة نزلة أشمنت. (12)
مشترى 10 قراريط أملاك بناحية هور، أنشئت عليها كنيسة والباقي لإيجاد مدرسة. (13)
تجديد كنيسة قصر هور. (14)
اكتشاف دير أثري قديم بالجبل الغربي باسم القديس أبو فانا. (15)
أنشأ كنيسة بصفط الخمار. (16)
تكملة كنيسة بني أحمد. (17)
تصليح وترميم وتبليط كنيسة القديس أبا هور سواده. (18)
أنشأ كنيسة ومدرسة بنزلة الفلاحين من مال الست المرحومة حرم مرقص بك حنا. (19)
تجديد كنيسة بني غني. (20)
أنشأ كنيسة صفط اللبن. (21)
أنشأ كنيسة نزلة فلوصنا. (22)
أنشأ كنيسة نزلة النصارى تبع الديرية. (23)
أنشأ كنيسة ومدرسة بسمالوط. (24)
أنشأ كنيسة ومدرسة بقلوصنا. (25)
أنشأ كنيسة بنزلة المناهرة. (26)
مشتري 4 قراريط أملاك من الحكومة لإنشاء مدرسة عليها بناحية الطيبة. (27)
حصوله على جزء ملك لإنشاء كنيسة بنزلة مسعد حنس. (28)
حصوله على جزء ملك لإنشاء كنيسة بالمطاهرة. (29)
إنشاء كنيسة ومدرسة بجزء من مال المرحومين داود أفندي سيدهم وأخيه سيف بك. (30)
مشتري ملك ببندر المنيا بمبلغ 1361 جنيه أنشأ عليه كنيسة باسم العذراء، وتم تدشينها يوم الأحد 4 كيهك لسنة 1631 الموافق 13 ديسمبر سنة 1914 بتشريف حضرات أصحاب النيافة مطارنة إسكندرية والقدس وقنا وبني سويف والفيوم، بناء على أمر قداسة الأب البطريرك إجابة لدعوة نيافة صاحب الترجمة، الذي شاد على باقي الملك أيضا خمسة دكاكين ومنزلين أوقفهم على كنيسة المذكورة لانتفاعها بإيجارها. (31)
مشتري ثلاثين فدانا لوقف دير العذر بجبل الطير، وسيشتري نيافته ثلاثين فدانا أخرى من ريع هذه الأطيان لهذا الوقف. (32)
تجديد دير مار مينا العجائبي بنمهيري وتصليح كنيسة، وأنشأ عمارتين هائلتين وبهما اثنين وأربعين أودة لراحة الزائرين لهذا الدير من عموم القطر المصري، وضم عليه 16 قيراط من الأطيان المكلفة باسمه خاصة بناحية قهري لاتساع هذا الدير وجنينة تساوي مبلغ 150 جنيها، وغرس بها حديقة غناء تحيط بالكنيسة وهاتيك المباني من كل الجهات، واستحضر لها ماكنة تدار بالغاز لري الجنينة، ولشرب الزرايب وصرف على ذلك من ماله الخاص نحو الأربعة آلاف جنيه مصري؛ لأن هذا الدير ليس له أوقاف مطلقا. (33)
إنشاء كنيسة كوم المحرص. (34)
مشتري ملك من الحكومة ببندر ملوي سنة 1924 بمبلغ 2600 جنيه؛ لإنشاء كنيسة ومدرستين إحداهما للبنين والأخرى للبنات؛ لأن المدرسة والكنيسة الحاليتين ضاقتا بالمصلين والطلبة. (35)
مشتري ثلاثة أفدنة أوقفها على كنيسة القديس يوحنا المعمداني بالشيخ تمي. (36)
مشتري ماية فدان في 13 ديسمبر سنة 1924، وأوقفها شرعا على المطرانية والمعاهد الدينية والعلمية بالمنيا. (37)
أنشأ كنيسة بنزلة عبيد على حساب حضرة صاحب العزة صارو وليم بك مينا عبيد. (38)
أنشأ كنيسة ببندر المنيا على حساب صاحب السعادة المرحوم سعيد باشا عبد المسيح، الذي سبق فأنشأ أيضا مدرسة للبنات في عهد نيافته، وقد أصبح في أبروشية كرسي المنيا والأشمونين عدد 50 كنيسة منها عدد 29 كنيسة ما زالت على عهدها، ومنها عدد 8 كنايس تجددت، وعدد 23 كنيسة أنشئت حديثا، وعدد 21 مدرسة، وهذه الكنائس والمدارس والكتاتيب بعضها انتهى، وبعضها على وشك الانتهاء وبعضها مشروع فيه، والكهنة الذين يؤدون الشعائر الدينية في هاته الكنائس عدد 76 كاهنا منهم عدد 2 رهبان وعدد 32 رسموا في عهد الأساقفة السابقين، وعدد 42 رسموا في عهد صاحب الترجمة، ومعظمهم من خريجي المدرسة الأكليريكية الذين يعتلون المنابر للوعظ والإرشاد بتلك الكنائس، حتى كاد أن يكون الوعظ عاما في عموم الكنائس الأبروشية، ناهيك عن قيامه ومساعدته في طبع كتب الكنيسة سواء قبطية أو عربية واهتمامه بالفقراء والأرامل، وتعضيده المدرسة الأكليريكية والجمعيات الخيرية، وخصوصا جمعية المنيا والمشروعات العامة، وكفى برهانا ما أحدثه بأبروشية المنيا في مدة العشرين سنة، مما يستوجب عليه معنى الشكر والثناء والإعجاب بهذه الهمة العالية، التي قل أن نراها في كثيرين غيره أثابه الله عليها في الآخرة وكافأه عنها خيرا.
صفاته وأخلاقه
من الصفات المحمودة التي امتاز بها نيافته دماثة الأخلاق وحلاوة الحديث والذكاء المفرط، وغزارة العلم مع التواضع المتناهي والتقوى، فتجده مخلصا لشعبه غيورا على دينه محافظا على الفروض الدينية.
أدام الله حياته ومتعه بدوام الصحة والعافية، وأكثر بين رجال الأكليروس الأرثوذكسي العاملين المجاهدين في سبيل الخير العام من أمثاله، وإننا نختم تاريخ هذا المجاهد العظيم في سبيل الإصلاح العام بكلمة شكر نزفها إلى نيافته بنوع خاص، وهي كلمة إعجاب بما له من همة عالية، وكفاءة نادرة اتخذهما له شعارا ولحياته الطيبة نبراسا وضاء، فأنعم به من راع جليل وحبر نبيل، وليتنعم شعبه المبارك الذي يتغذى بلبان فضله وليعش منعما في ظل حياته المباركة.
ترجمة نيافة الحبر الجليل والراعي الصالح الأنبا أثناثيوس
كلمة وجيزة للمؤرخ
يغتبط القارئ الكريم سرورا أن يجد بين حضرات رجال الدين والآباء الروحيين مثل هذا الراعي الصالح، والتقي الورع الذي اقتفى آثار القديسين، ونهج منهجهم في الطهر والورع منذ نشأته حيث شب على الفضيلة والاستقامة والاعتكاف بالصوم والصلاة والانقطاع الكلي لعبادة الخالق، فاكتسب رضاه وحب رعيته واحترامها الكلي لشخصه الكريم، خصوصا وقد تجلت صفاته العالية ومزاياه النادرة، بعد أن رسم أسقفا لكرسي بني سويف والبهنسا في يوم الأحد 27 برمهات سنة 1641 للشهداء/5 أبريل سنة 1925 بمعرفة غبطة البابا المعظم الأنبا كيرلس الخامس والثاني عشر بعد المئة بالكنيسة المرقسية الكبرى، حيث أمطره البرق والبريد رسائل الشكر وآيات التهاني لهذا التعيين الذي صادف أهله وحل محله، ونحن نسطر هنا بقلم الفخر والإعجاب تاريخه المجيد، سائلين الحق تعالى أن يكثر من أمثال نيافته بين حضرات الآباء الروحيين في عموم الطوائف والمذاهب لفائدة الشعوب وخير الأمم.
نيافة الحبر الجليل والراعي الصالح الأنبا أثناسيوس مطران كرسي بني سويف والبهنسا.
مولده ونشأته
ولد نيافته بأسيوط عام 1600 للشهداء الموافقة لسنة 1883 ميلادية، فأدخله المرحوم والده الطيب الذكر والأثر المعلم حنين عبد الملك في أحد الكتاتيب، فتعلم فيه المزامير واللغة القبطية، ثم أدخله مدرسة الأقباط الكبرى فارتشف من بحور علومها ما هو ضروري لأمثاله، وتاقت نفسه الطاهرة إلى الرهبنة، وتكريس نفسه للعزة الإلهية والابتعاد بها عن أباطيل هذا العالم وزخرفه، فذهب إلى عزبة دير البروموس بطوخ النصارى، وذلك في شهر أبيب عام 1619 للشهداء الموافق 8 يوليو سنة 1903، وتمت رهبنته في 24 مسري سنة 1619 الموافق 30 أغسطس سنة 1903، ثم برحه إلى الإسكندرية في شهر مارس سنة 1905، حيث دخل مدرسة الرهبان الأكليرية المؤسسة بمعرفة حضرة صاحب النيافة الحبر الأقدس الأنبا يؤانس مطران البحيرة والمنوفية ووكيل الكرازة المرقسية لتلقي العلوم اللاهوتية، فأظهر ذكاء وورعا وصلاحا، بل كان مثال الاستقامة بين عموم أقرانه، ثم رسم قسا يوم 9 هاتور سنة 1627 للشهداء، الموافق 18 نوفمبر سنة 1910، وظل بها لغاية 1912م ونظرا لكفاءته العلمية والأدبية والدينية عين مدرسا بها، ولمدرسة الأقباط المرقسية بالقسم الديني ومكث مدرسا لهذا القسم حتى أغسطس سنة 1917، ومن ثم تعين وكيلا لبطريريكية الأقباط الأرثوذكس بالإسكندرية في 29 أبيب سنة 1633 للشهداء الموافق (5 أغسطس سنة 1917)، وظل أمينا ووكيلا وعاملا مجدا حتى أبريل سنة 1925، حيث رسم أسقفا لكرسي بني سويف والبهنسا في الشهر المذكور باسم الأنبا أثناثيوس، وكان يدعى قبلا القمص باخوم البرموسي، وفي شهر ديسمبر سنة 1925 رقي إلى رتبة المطرانية.
وقد اشتهر بين أقباط الثغر الإسكندري بكثير من الصفات السامية والأخلاق الفاضلة، والعمل على إحياء الوعظ ونشر الفضيلة، وتعضيد الأعمال الخيرية والمشروعات الإصلاحية والعلمية، فكانت له في نفوسهم مكانة عالية، ووقفوا على شريف نواياه وعظيم أعماله، فصار محبوبا منهم وصاروا محبوبين منه.
وما كاد يقترب يوم رحيله منها حتى أقام له حضرات زملائه المحترمين أعضاء المجلس الملي الفرعي بالثغر حفلة تكريم شيقة، مظهرين لنيافته ما تكنه أفئدتهم نحوه من الحب والإخلاص، مظهرين له شكرهم العميق على ما قام به من الأعمال، التي وكلت إليه وأتمها بكل همة وأمانة ونشاط مع سرورهم المتناهي لترقيته لرتبة الأسقفية وأسفهم الشديد لفراقه.
وكذلك أقامت له جمعية الثبات والاتحاد بالثغر بمركزها حفلة تكريمية أخرى، حضرها عدد كبير من الوجهاء والفضلاء والأدباء وذوي الحيثيات، وقد تبارى فيها كثيرون من الشعراء والخطباء معددين أعمال نيافة المحتفل به مظهرين السرور الكامل بترقيته، والحزن المفرط لفراقه، وكانت تقابل خطبهم بالتصفيق الحاد، وأخيرا وقف حضرة الوجيه الكبير السيد بك مرسي، وألقى كلمة اقترح فيها أن تقدم الجمعية باقة زهور لحضرة المحتفل به إكراما له نظير خدماته الجليلة لها، وقد تبرع حفظه الله بمبلغ عشرة جنيهات مصرية، وقد اقتفى أثره حضرة صاحب العزة بشارة بك نصحي المفتش العام لأقسام الإسكندرية وغيرهما، حتى بلغت قيمة التبرعات نيفا وأربعين جنيها، ولأجل أن يكون هذا التذكار دائما، فقد قدم للجمعية المذكورة ليصير توزيعه على الفقراء والمعوزين تذكارا لترقية المحتفل به.
وأخيرا وقف نيافة الأب المحتفل به وشكر الجميع بأرق عبارات الشكر والثناء؛ لما لاقاه منهم من المحبة الحقيقية والإخلاص المتناهي والعطف الشديد والإكرام العظيم.
مؤلفاته الدينية
وقد قام بوضع عدة مؤلفات دينية قيمة نذكر بعضها هنا للإدلال على غزارة علمه: (1)
السر الجلي لاهوتي، طبع سنة 1919 وقد نفذت نسخه. (2)
طروحات وإيصاليات برموني وعيدي الميلاد والغطاس، طبع سنة 1920. (3)
الثلاثة اللقانات والسجدة، طبع سنة 1921. (4)
البصخة المقدسة قبطي وعربي، طبعت سنة 1932. (5)
قطمارس الصوم الكبير قبطي وعربي، طبع سنة 1923.
صفاته وأخلاقه
مثال الزهد والجد والاستقامة والتقوى فصيح اللسان قوي الجنان ذو تأثير في أقواله، حكيم في منطقة لطيف في معاشرته، دمث في أخلاقه على جانب عظيم من الكفاءة العلمية والدينية والأدبية.
أدامه المولى لأمته نبراسا وللفضيلة نورا وهاجا.
ترجمة حضرة صاحب النيافة الحبر الجليل الورع الأنبا مرقس
أسقف دير أنبا أنطونيوس
هذا هو رجل الله البار الذي شب على الفضيلة منذ نعومة أظفاره، ونأى عن الدنيا وما فيها من لهو باطل، ومتاع زائل، بل هو الشخص الذي يصح أن يكون قدوة لفضائل الدين المسيحي، لما له من ماض حسن، وسمعة بيضاء، وأعمال غراء.
مولده ونشأته
نشأ حضرة صاحب الترجمة كما ينشأ رجال الدين الأتقياء، إذ رغب منذ نعومة أظفاره في الرهبنة ففارق مسقط رأسه ودار والديه، وعكف في دير الأنبا أنطونيوس تاركا الدنيا وزخرفها.
وقد رسم راهبا في ذلك الدير حتى إذا ما برز على أترابه، وظهرت عليه مخائل النجابة والذكاء والإيمان المسيحي الحقيقي، وخوف الله رسمه غبطة الأب الجليل البطريرك المعظم الأنبا المعظم كيرلس الخامس بابا الكرازة المرقسية أسقفا على الدير المذكور في سنة 1897م، فعمل على إصلاح الدير وإنماء ثروته وتوسيع دائرة أملاكه، كما تجلت الطهارة والورع بأجلى معانيها في حضرة صاحب الترجمة، ولما كان لكل إنسان قادح أو مادح مهما كان نزيها شريفا مستقيما، فقد حدث أن فوجئ حضرة صاحب الترجمة بحساد وقفوا حجر عثرة في طريقه المؤدي إلى الإصلاح، مما أدى إلى إصدار أمر بطريركي بإيقافه عن أعمال الدير نحو عام.
ظهور نزاهته وإخلاصه
ولكن شاءت العناية الإلهية أن تنقذ هذا الحبر الورع من كيد الواشين النمامين كذبا ونفاقا، واتضحت لمقام السدة البطريركية الجليلة نزاهته وإخلاصه في كل أعماله، فأعاده غبطة البابا المعظم إلى أسقفية الدير، وقد أخذ منذ ذاك الحين في استئناف جهاده بكل نزاهة وأمانة، كما كان يفعل فيما مضى وباشر في إصلاح الأعمال الجليلة، حتى أخرس حساده وكم أفواههم بما فطر عليه من جدارة وكفاءة وطهارة ذمة وعلو نفس، وها نحن نراه الآن قائما بأعباء خدمة شعبه ماديا وأدبيا بما أوتيه من قوة وفضل وعلم وذكاء فطري، وفقه الله تعالى إلى إرضاء ربه وشعبه.
صفاته وأخلاقه
على جانب عظيم من الورع والتقوى والصلاح، فتراه رغم كثرة إصلاحاته وانهماكه في إدارة الوقف منكبا على ذكر الله أناء الليل وأطراف النهار، وتراه دائما طلق المحيا بشوش الوجه لطيف الحديث حلو المسامرة في الأمور الدينية والأدبية، يجود بسخاء على الفقراء والمعوزين الذين يلجأون إليه طارقين بابه، فكل هذه الأعمال المبرورة تخلد له الذكرى الحسنة عند الله والناس؛ لما هو عليه من الورع والتقوى وسلامة القلب كارها نعيم الدنيا راغبا عنها أكثر الله من أمثاله بين رجال الكهنوت.
ترجمة جناب الأب الفاضل المحترم القمص باسليوس إبراهيم
كلمة وجيزة
من بين رجال الكهنوت الأرثوذكسي رجال اتصفوا فوق معلوماتهم الدينية والروحية بمقدرة إدارية كبرى وعلم صحيح وكفاءة عالية وباع طويل، مع خبرة وحنكة ولسنا نقول هذا القول جزافا إنما نراه واقعا ملموسا في شخص صاحب الترجمة المحترم، الذي قضى طوال حياته متربعا في وظيفته هذا وهو قائم بالشيء الكثير من شؤون الطائفة، والإشراف على دقائق أمورها وحاز ثقة كبرى لدى الشعب الذي ألقى إليه مقاليد الأمور، وإننا نسجل تاريخه المجيد شاكرين له حسن جهاده في سبيل النفع والخير، سائلين الحق تعالى أن يكثر من أمثاله العاملين الغيورين على مصلحة الطائفة، إنه على ما يشاء قدير.
جناب الأب الفاضل المحترم القمص باسليوس إبراهيم «وكيل بطريخانة الأقباط الأرثوذكس».
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة عام 1865 ميلادية بناحية بشتيل التابعة لمركز إمبابة بمديرية الجيزة من والدين كريمين، غذياه بلبان الفضل والاستقامة، وأدخله والده بأحد الكتاتيب بناحية إمبابه، وكان عمره إذ ذاك ثمان سنوات وعندها رسم شماسا لكنيسة وراق الحضر بمعرفة المرحوم الأنبا إيساك أسقف كرسي مديرية الجيزة والفيوم وبني سويف والبهنسا، وفي سنة 1591ق توفي المرحوم والده الذي كان كاتبا بمركز إمبابة وقتئذ، فترك ذاك الكتاب وعمد إلى تعلم القراءة والكتابة جيدا على يد كتبة ماهرين فتوجه إلى الترسانة الأميرية، وهناك وجد ضالته المنشودة ولقنوه أصول العلم، ومن ثم التحق بإدارة عموم السكة الحديد الأميرية، وفيها أتقن معلوماته العلمية على يد صهره المرحوم يعقوب بك نخله، وتعين كاتبا بالدخولية بقليوب.
ولما رأى أن مرتب هذه الوظيفة ضئيل لا يقوم بسد نفقاته توظف بمديرية الجيزة بقلم المقابلة، تحت إدارة فقيد المروءة والإنسانية المرحوم سلامة أفندي عجمي الباشكاتب لتلك المديرية في ذاك العهد، الذي شيد كنيسة بها، وتأهل صاحب الترجمة بتاريخ 5 فبراير سنة 1883.
ونظرا لحسن استقامته وصلاحه اختير للقيام بخدمة الكهنوت، وخادما لتلك الكنيسة، وكان ذلك في عهد طيب الذكر أنبا إبرام الأسقف الذي رسم بدلا عن أسقفها المتوفى، وكان عمره إذ ذاك ثماني عشرة سنة فرسمه قسا في حفلة حافلة في يوم الجمعة الموافق 2 باءونه سنة 1599ق الموافق لشهر يونيو سنة 1883، وفي شهر مسري رقي لدرجة قمص فكان الراعي الصالح والهادي إلى الطريق القويم، واكتسب محبة الجميع نحوه لحسن رعايته، وفي 26 أمشير سنة 1611 الموافق 1895 انتخب وكيلا للبطريريكخانة القبطية ورئيسا لديوانها، وقد تقلب على جملة وظائف بها إلى أن عين وكيلا وعضوا روحيا بالمجلس، وكذا أحيلت عليه رئاسة لجنة الامتحان العليا التي كان يرأسها قبلا المرحوم القمص فلوتاؤس رئيس الكنيسة الكبرى، كما وقد أحيلت عليه رياسة مجلس الجيزة الملي الفرعي عقب وفاة الأنبا يوساب مطران كرسي الجيزة والفيوم، فقام بأعباء كل هذه الأعمال الرئيسية الهامة بكل جد ونشاط وإخلاص، وظل في مركزه الأخير بالجيزة إلى أن رسم لها مطرانا في أواخر سنة 1925 وهو الأنبا متاوس.
أما المدة التي قضاها حضرة صاحب الترجمة خارج الكهنوت، فهي ثمانية عشر سنة علمانيا وشماسا واثنتا عشرة سنة كاهنا وراعيا للجيزة، أما المدة التي قضاها وكيلا للديوان البطريركي فهي واحد وثلاثون سنة.
وقد شيد حضرة صاحب الترجمة مدرسة بجوار الكنيسة، وأحضر لها المعلمين الأكفاء كما وقد اهتم بإتمام الكنيسة التي شادها المرحوم سلامة أفندي عجمي، المتوفى إلى رحمة ربه في سنة 1884، فزخرفها بجميل النقوش وحلاها بالألوان الجميلة، ووضع لها أحجبة بديعة الصنع محلاة بالصور، وجلب لها نفيس الأواني وغالي الأثاث، وأدخل إليها النور الكهربائي، فأصبحت تضارع كنيسة الأزبكية الكبرى من حيث الرونق والبهاء، وأوجد لها وقفا يضمن الصرف على نفقاتها بمعرفة البطريركية، كما وقد غرس بها حديقة غناء وأخرى للمدرسة، وحضرته شديد الاهتمام إلى كل ما فيه فائدة للمصلحة العامة فوق خدماته الجليلة التي لا تعد ولا تحصر لأبناء طائفته بوجه خاص وللبطريريكية بوجه عام.
صفاته وأخلاقه
وديع النفس، كريم الأخلاق، غيور على الدين، ضليع في كافة الشؤون الإدارية والدينية، محبوب عند جميع عارفي فضله وكماله، يعطف على الفقراء، حفظه الله وأبقاه ومتعه بالصحة والهناء.
ترجمة جناب الأب الفاضل القمص يوحنا جرجس
وكيل الدار البطريركية الأرثوذكسية بالإسكندرية
مقدمة وجيزة للمؤرخ
اختار الله تعالى هذا الأب الفاضل لأن يكون من رعاته الصالحين خدام الكهنوت، وأودع في نفسه التقوى والصلاح وطهارة الذمة؛ لتكون روحه الطاهرة سابحة في جنان النعيم مهللة مع الآباء القديسين الذين عملوا لآخرتهم دون دنياهم، أولئك الذين اختصهم الرحمن بالفضائل الحميدة والخصال المحمودة والاستقامة والطهر.
مولده ونشأته
جناب الأب الفاضل القمص يوحنا جرجس.
ولد هذا الأب الفاضل في مدينة أسيوط في شهر الحجة سنة 1272ه من والدين تقيين، فوالده هو طبيب الذكر خالد الأثر المرحوم القمص جرجس جاورجي الذي جاء القاهرة مشتغلا بأحد المحلات التجارية، ثم اختير للكهنوت ورسم كاهنا على كنيسة حارة السقايين، فكان في كل حياته مثال التقوى والاستقامة، فأخذ هذا الوالد التقي يغرس نفحاته وتعاليمه الدينية في روح ولده إلى أن شب مثالا صحيحا وقدوة صالحة لاجتياز مراحل هذا العالم بجنان ثابت، وإيمان لا يتزعزع، واستقامة ترضي الخالق والمخلوق، فأدخله والده مدرسة حارة السقايين القبطية، التي كان ناظرها وقتئذ المرحوم العالم الجليل نخلة رفيله بك، فكان بين أترابه التلامذة مثال الوداعة والجد والنشاط، وبعد أن أكمل دروسه منها اشتغل بورشة اليومية بقلم إدارة وزارة المالية في 29 برمهات سنة 1588، وكان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة ونصف سنة، ومكث في تلك الوظيفة سنة ونصف سنة، وعين بعد ذلك في مخازن وشون ملكية تتبع وزارة المالية، ومكث بها 12 سنة، ودعي أخيرا للاشتغال ضمن موظفي دائرة سمو المرحوم حسن باشا، فمكث بها سنتين، أي: لغاية نوفمبر سنة 1884م، ومن ثم اشتغل في التجارة لنفسه وفتح محلا لبيع الغلال بساحل بولاق ومحلا آخر في بلدة النخيلة التابعة لمركز أبو تيج بمديرية أسيوط، وظل يشتغل مدة ثلاث سنوات ونصف؛ ونظرا لحسن استقامته وطهارة ذمته وصلاحه، أخذ جبرا وقهرا للقسوسية ورسم يوم 21 بئونة سنة 1604 بالدار البطريريكية، وفي اليوم الثاني تم رسمه في كنيسة حارة زويله على دير مارمينا بفم الخليج، ومكث به لغاية 17 أمشير سنة 1609، حيث اختير للإسكندرية ورسم أيغومانسا لكنيستها ثم تعين وكيلا لبطريكخانتها حتى الآن.
وقد طبع صاحب الترجمة كتابا أسماه اللؤلؤة البهية في التراتيل والتواريخ القبطية باشتراكه مع صهره حضرة جبران أفندي نعمة الله الإسكندري، ناظر المدرسة المرقسية سابقا وصاحب سلسلة كتب البدر المنير المستعملة في المدارس المصرية.
وحضرة صاحب الترجمة محبوب لدى عموم أقباط الثغر محترم الجانب لدى الجميع؛ نظرا لحسن معاملته وجمال أخلاقه ووداعته.
صفاته وأخلاقه
على جانب عظيم من اللطف ودماثة الأخلاق، ولين الجانب، عطوف على الفقراء محسن على البؤساء، يصرف جل وقته معتكفا في تقديم الصلوات للعزة الإلهية.
أدام الله حياته المباركة وأكثر من أمثاله بين رجال الكهنوت لخير البلاد وفائدة العباد.
ترجمة فقيد الجد والإقدام الإيغومانس تادرس مينا
كلمة وجيزة للمؤرخ
أعمال خالدة، ومآثر غراء، وخدم جليلة، وجد وإقدام، وصلاح وتقوى، وحزم وجرأة، هذا هو مجمل حياة الفقيد الراحل، وتلك مجهوداته في الحياة الدنيا إلى أن لقي ربه، وهو قرير العين مطمئن الخاطر ليجازي منه جزاء البررة الأطهار الذين جاهدوا جهاد الأبطال في سبيل الإصلاح، وأبلوا بلاءا حسنا يذكره التاريخ لهم بقلم الفخر والإعجاب، لا سيما ما كان عليه هذا الفقيد العزيز من الغيرة على الدين والجرأة في الحق، والإقدام على صعاب الأمور وعدم الإعباء بما سيكون من المشاكل وراء ذلك، وهذه كما لا يخفى صفات جليلة، وخصال فريدة، قل أن تتوفر في كثيرين ممن وهبوا نعمة الذكاء والفطنة.
مولده ونشأته
فقيد الجد والإقدام الإيغومانس تادرس مينا «رئيس دير مارمينا بفم الخليج سابقا».
ولد هذا المجاهد الكبير في 20 هاتور سنة 1564 قبطية الموافق لعيد الأمير تادريس فأسماه والده باسمه، وهو من عائلة جبلت على الطهر والقداسة، فوالده القمص إبراهيم بن القمص يسطس بن القمص منقريوس بن القمص جرجس بن القمص مكرم الله أي: العائلة التي والت رياسة خدماتها المتوالية لدير مار مينا مدة 200 سنة أجل الخدم، وكانت حياة أفرادها ملأى بجلائل الأعمال والمآثر الطيبة، فرباه المرحوم والده على سنن الفضيلة والصلاح، فنشأ نشأة صالحة تليق بأبناء رجال الدين، وأدخله مدرسة حارة السقايين القبطية فتعلم فيها اللغتين العربية والقبطية ، ثم تخرج منها واشتغل في بعض الدواير ثم تعين بمصلحة السكة الحديد الأميرية، ورقي بها إلى أن صار رئيسا لقلم قضاياها، ولما انتقل المرحوم والده القمص مينا إلى رحمة مولاه أرغم أن يكون قسا لدير مار مينا بدلا من المرحوم والده وفعلا تم ذلك؛ ونظرا لما كان عليه من الذكاء والنباهة والجد عين وكيلا للدار البطريركية، وذلك في عهد الأنبا مرقس مطران الإسكندرية لما كان الكرسي البطربركي خاليا، ولما انتخب ورسم غبطة الأنبا كيرلس الحالي بطريركا استقال الفقيد من أشغال البطريركية.
هذا ولما جلس غبطة الأب البطريرك على الكرسي المرقسي، وعلم بمقدرة الفقيد وجده وإقدامه استدعاه وعينه وكيلا للدار البطريريكية، ومنحه أيضا رتبة الأيغومانوسية فأظهر الكفاءة التامة في جميع أعماله، واشتهر بإخلاصه لغبطة البطريرك فكان أول المقربين إليه وأول المحبين له، وفي آخر أيامه اعتزل أعمال البطريكخانة، وبقي مشتغلا في أعمال الوقف الذي تحت نظارته، فأحدث به عمارات كثيرة وإصلاحات جمة دلت على حسن إدارته وقد عاجلته المنية عقب اجتيازه خمسا وثلاثين سنة في الكهنوت، فاحتفل بيوبيله الفضي وكانت وفاته فجأة، إذ بينما كان في وزارة الأشغال العمومية يقابل بعض ذوي الحل بخصوص قطعة أرض كائنة أمام الدير قد علاها تل من الأتربة، أراد أن يثبت ملكيتها للدير وعاد من تلك الوزارة ظهرا، وباشر الأعمال الجارية بالوقف وتناول الغداء إذ بدقات شديدة انتابت القلب، وما كاد يحضر الطبيب لفحصه حتى فاضت روحه الكريمة إلى خالقها، وكانت وفاته في يوم الأحد الموافق 25 فبراير سنة 1906 وله من العمر ثمان وخمسون سنة، فاحتفل بجنازته احتفالا عظيما يليق بمثله من الرجال العاملين المجدين، وقد كان الفقيد مشهورا بحل كل مشكلة من المشاكل الشرعية التي تعرض عليه مما يعجز بعض رجال القانون والتشريع في حله، كما كان جريئا لدرجة لم تكن في الحسبان ومقداما في كل أعماله.
أعماله الجليلة بالدير
عندما عين الفقيد رئيسا لدير مار مينا اتصل به أن أراضيه البالغ مساحتها نحو الخمسة عشرة فدانا مشهورة بوقف الشيخ الأنصاري، فخامره شك عظيم في أمر هذه الوقفية، وأخذ يبحث بحثا حثيثا حتى بحسن مسعاه، وبتداخل فقيد الأمة القبطية النابه العظيم المرحوم بطرس باشا غالي، الذي كان وزيرا في ذاك العهد أثبت للحكومة بالحجج الدامغة والأدلة القاطعة فساد هذه الملكية، وأنها ملك شرعي للدير، وإن انتساب هذا القدر لوقف الشيخ الأنصاري محض خطأ، فاضطرت الحكومة والحالة هذه أن تسلم هذا القدر للدير مع منحه مبلغا قدره ثلاثة آلاف جنيه على سبيل التعويض، فاستلم الفقيد هذا المبلغ وورده لخزينة البطريكخانة، كما أنه أضاف تلك الأطيان إلى وقف مار مينا.
وقام من وقته وساعته إلى تقسيم الأراضي المذكورة أقساما، جعل منها قسما خاصا ببناء منازل الحكر، وقسما خاصا للزراعة فحضر الكثيرون من تلك الجهة من غير الأقباط، واستأجروا بعضا من تلك الأراضي الزراعية المحدودة، كما أقبل البعض الآخر للسكن بمنازل الحكر البالغ مساحتها ثلاثة أفدنة، ثم قام بتشييد منازل جديدة أخرى لانتفاع الدير بريعها، وأصلح جميع الأراضي الأخرى الواقعة بجهات الدير.
وقد وجد بين دفاتره الخصوصية من بعد وفاته أنه أنفق على هاته الإصلاحات الهامة، والأبنية الكثيرة من ماله الخاص مبلغا يربو عن الخمسة آلاف جنيه، فلم تشأ عائلة الفقيد مطالبة البطريكخانة برده، بل سمحت مكارمها عن طيب خاطر لأن يدخل في حساب البطريكخانة، والاكتفاء بما تركه الفقيد الراحل من أثر خالد وعمل محمود عند الله والناس يجزى عنهما ثوابا عظيما، ولما كانت الوارثة الوحيدة لهذا الفقيد هي السيدة البارة التقية حرم حضرة الفاضل المحترم عطية أفندي مشرقي المقاول الشهير بمصر، فبلسان المروءة والإنسانية نقدم لها وافر الشكر وعاطر الثناء على منحتها الخيرية الخالدة، وأن الأمة المصرية عامة والأقباط خاصة لتفخر بمثيلاتها المحسنات - ولما كان الفقيد الراحل لم يترك عقبا ذكرا، فقد اختص ابن شقيقته ألا وهو رجل الجد والنشاط والإصلاح القمص مينا يعقوب كابن له، فقام بتربيته وتثقيف مداركه وهو الذي حل محله في رئاسة الدير بعد وفاته وسيأتي تاريخه بعد.
صفاته وأخلاقه
كان رحمه الله كاهنا بكل معاني الكلمة غيورا على الدين، قوي الحجة في الدفاع، صلبا في الحق جريئا مقداما في القول، حلالا للمعضلات عالي الهمة، دمث الأخلاق ذكي الفؤاد واسع الإطلاع.
رحمه الله رحمة واسعة وأثابه خيرا بعدد حسناته وجليل خدماته.
ترجمة جناب الأب الفاضل القمص مينا يعقوب
كلمة للمؤرخ
حيا الله الرجال العاملين المجدين وبياهم، وجعل الجنة في الآخرة مأواهم ومثواهم، أولئك الذين يعملون بهمة وجد ونشاط وإقدام في سبيل الإصلاح، وإنجاز المفيد من المشروعات فإن مثل هؤلاء وجب شكرهم وحق مدحهم، وقد يكون الشكر مضاعفا والثناء عاما متى كان ذاك الإصلاح، وتلك المشروعات القيمة لمحض عمل الخير والمنفعة العامة المجردة من أية غاية أخرى.
ولقد رأينا وشاهدنا من اهتمام حضرة صاحب الترجمة بالمشروعات النافعة والخدم المتوالية للغاية نفسها ما حدا بنا إلى تدوين ترجمته الشريفة، ومجهوداته الفائقة في هذا الجزء اعترافا منا بفضله الغزير سائلين الحق تعالى أن يسدد خطوات العاملين في سبيل الإصلاح، ويكثر من رجالنا المفكرين.
مولده ونشأته
جناب الأب الفاضل القمص مينا يعقوب رئيس دير مارمينا بفم الخليج بمصر القديمة والعضو بالمجلس الملي العام.
ولد هذا الأب الفاضل بمصر المحروسة عام 1880 ميلادية من أبوين تقيين، ويعد الثامن من سلالة العائلة التي اختارها الله تعالى لخدمة الكهنوت بدير مارمينا، فتكفل المرحوم خاله طيب الذكر خالد الأثر الأغومانس تادرس مينا، الذي كان وكيلا لبطريكخانة الأقباط في ذاك العهد، والمتوفى في 25 فبراير سنة 1906 بأمر تربيته وتعليمه وأدخله مدرسة حارة السقايين القبطية، فتعلم بها العلوم الأولية ومن ثم أدخله مدرسة الأقباط الكبرى، فارتشف من بحر علومها إلى أن فاز منها بشهادة الدراسة الابتدائية عام 1895م، وناهيك بما كانت عليه تلك الشهادة من الأهمية في ذاك الوقت، وبعدئذ التحق بالمدرسة الخديوية، وظل مكبا على تلقي العلوم حتى سنة 1898 ميلادية، وفي شهر أغسطس سنة 1898 تعين في إدارة الأموال الغير مقررة بوزارة المالية، فكان مضرب المثل في الجد والاستقامة والكفاءة، وظل في هذه الوظيفة مدة ثلاث سنوات حتى عام 1901 ميلادية، ومن ثم تاقت نفسه إلى الاشتغال بالأعمال الحرة فاختار أشغال المقاولات، وأوجد محلات خصيصة بجهة فم الخليج بمصر القديمة لحرق الجير، وتصريفه للمقاولين وأصحاب العمارات فانهالت عليه الطلبات، وأقبلت عليه الخيرات نظرا لحسن معاملته وأمانته وطهارة ذمته، وظل مزاولا لهذه الأشغال حتى شهر يونيو سنة 1908.
دخوله في صف الكهنوت
ولقد سعى فقيد الأمة القبطية المؤرخ الكبير المرحوم ميخائيل بك شاروبيم من تلقاء نفسه، ونفر عديد من وجهاء الأمة القبطية بعمل تزكية لرسامته قسا على دير مارمينا بدلا من المرحوم خال، وقدموا تلك التزكية إلى غبطة البطريرك المعظم، فلما علم صاحب الترجمة بأمر تلك التزكية أبى بتاتا، وأرسل إلى غبطته يعتذر عن القبول، غير أن غبطته أرسل إليه خطابا رسميا بتاريخ 17 يونيو سنة 1906 موقعا عليه بخاتمه الكريم بتعيينه ناظرا على الدير والكنيسة، وحفظ أوانيها وموجوداتها بصفة مؤقتة لحين النظر، فقام بهذه المهمة خير قيام مع مباشرة أشغاله الحرة حتى سنة 1908 ميلادية، حيث ألح عليه المرحوم ميخائيل بك وغيره من أبناء الطائفة بقبول هذا المركز، وأبانوا له الميزات الخاصة من خدمة الكهنوت، وعندئذ سمحت العناية الإلهية، ورضخ فرسم قسا لدير مارمينا في يونيو سنة 1908 كما رقي قمصا في يونيو سنة 1909، واستبدل من تاريخ الرسامة اسم عازر أفندي يعقوب، وما كادت يده تمسك شؤون الدير ورياسته حتى شمر عن ساعد الجد والنشاط والإقدام، ووجه عنايته أولا لترميم وتصليح الكنيسة التي كادت تئول إلى السقوط، وأصلح مدخلها وسعى سعيا متواصلا لدى مدير مصلحة الآثار والبطريركية إلى أن توصل بحسن مجهوداته في تنكيس الكنيسة من الداخل والخارج، وحافظ على آثارها النفيسة ورمم عقوداتها ترميما متينا، ونزع بلاطها واستبدله بترابيع حجرية ثم نقل الحجاب الذي كان مشوها للكنيسة، فوضعه في الجهة الغربية منها بحالة منتظمة، وأحدث مقاعد خاصة لراحة المصليين كما خصص جزءا منها للسيدات، ثم أزال ما كان مشوها من المباني بمدخل الكنيسة، حتى أصبحت بفضل عظيم مجهوداته آية في الرونق والبهاء.
ثم وجه عنايته إلى إصلاح وتنظيم طرقات المدافن، ونظم كثيرا منها، وشاد مدفنين خاصين لفقراء الطائفة، ولما رأى أن حالة الدير تستدعي عناية كبرى ومساعدات مالية، سيما لما رأى أن تلك الأراضي قاحلة والأتربة تتصاعد لأقل حركة فكر بأن يشكل لجنة من أبناء الكنيسة المترددين لتعاونه على الأعمال، وجمع الإعانات والتبرعات اللازمة للتحسين، وعرض هذه الفكرة على غبطة البطريرك المعظم، فسر منها كثيرا وكلفه بانتخاب الأعضاء الذين يرى فيهم الكفاءة والنزاهة، وفعلا قام صاحب الترجمة بتشكيل لجنة من بعض الغيورين على مصلحة الطائفة، وشرعوا في نظام وتحسين مقابر الدير، وسن لذلك قانونا بتاريخ 3 سبتمبر سنة 1922 وهو تاريخ البدء في العمل وجمع التبرعات.
أعماله الخالدة لخير الدير ورقيه
وقد شرع أولا وبادر بمفاوضة شركة المياه لجلب الماء اللازم لرش الأراضي والمزروعات، فأجيب إلى طلبه وجاءت المياه بثمن مناسب، ووجه همته إلى تنسيق الحدائق والمنتزهات فيرى الداخل من باب الدير العمومي طرقة فسيحة غرس على جانبها أشجار باسقة ذات أظلال، ويتفرع من تلك الطرقة منتزهات متفرقة تحاكي المنتزهات العمومية في ميادين القاهرة من حيث جمال تنسيقها وحسن منظرها، بحيث إن الطرق التي توصل إلى ساحة القبور صارت تضارع شبيهاتها في المقابر الأجنبية.
وإننا نلخص هنا مجمل ما قامت به تلك اللجنة من الخدمات القيمة والمجهودات الفائقة، فقد قامت بتعميم غرس الأشجار في جميع المماشي والطرقات الرئيسية، وهذه الأشجار من النوع الذي إذا كبر ونمت أوراقه ألقى ظله الوارف على الطريق فيقي المارين فيه حرارة الشمس، ويعطي رونقا جميلا يخفف من وحشة تلك المنطقة، وسعت في إزالة المقابر البارزة التي تظهر في الشوارع الرئيسية من الساحة لتجعلها مستقيمة، وخابرت فعلا أصحابها لاستبدال البارز منها بآخر في الأرض الفضاء التي تجاوره، وقامت أيضا وفوق رأسها هذا المصلح العظيم إلى تنظيم شوارع الساحة الداخلية، ورصفها بالمكدام وعمل أفاريز منزرعة على جوانبها، وإقامة مراحيض صحية على الطراز الحديث مستكملة كل أساليب الراحة، وطرح مشروع بناء مقابر للفقراء والغرباء، وعمل خزان صحي، وهدم وبناء واجهة الدر على الطرز الحديث، وهي جادة في إدخال النور الكهربائي لمدخل الكنيسة والدير، وسيحقق هذا المسعى قريبا بفضل ما يبذله حضرته من المساعي المشكورة وكذا حضرات أعضاء لجنته الكرام، وقد أنشئت سبيلا خاصا للزائرين وأحواضا كبيرة مجاورة للمقابر، ومن فوقها الحنفيات لأخذ ما هو لازم من الماء لري الأشجار والمنتزهات، وأراضي الدير وزائري المقابر أيام المطلع.
وقدرت تلك اللجنة اشتراكا سنويا وشهريا على أصحاب المقابر يحصل منهم بموجب قسائم رسمية مطبوعة، وعينت محلا خصيصا لذلك، وقد خصصت هذه الاشتراكات للإنفاق منها على مرتبات الجنينية واستهلاك المياه إلى غير ذلك من النفقات الضرورية، وما يتبقى منها يصرف لإتمام المشروعات الهامة، وكل ذلك مرصود بدفاتر منتظمة، وفي كل سنة تطبع تقريرا عن مصروفاتها وإيراداتها وبيان المشروعات التي قامت بعملها، ويرفع إلى غبطة البطريرك المعظم، ويوزع على أفراد الطائفة.
ومما يذكر له بالشكر والثناء أنه لما رأى أن شارع الديورة الذي أمام الدير خاليا من النور، سعى سعيا متواصلا لدى مصلحة التنظيم ومحافظة مصر بمد أنابيب الغاز به، وبعد جهد كبير استصدر أمرا من مدير عام مصلحة التنظيم في شهر ديسمبر سنة 1925 بإنارة هذا الشارع، وتركيب فوانيس الغاز اللازمة له وإتمام ذلك في شهر أبريل سنة 1926 أي: أول السنة المالية الرسمية لميزانية الحكومة المصرية.
ونظرا لوثوق غبطة الأب البطريرك المعظم في مقدرته ونزاهته وكفاءته الشخصية، وميله الكلي إلى الإصلاح عينه عضوا بالمجلس الروحي سنة 1911م، وكذا لما شكل المجلس الملي العام سنة 1912 عين عضوا به ولا يزال عاملا به حتى الآن، وعندما تجدد انتخاب المجلس الملي العام في مارس سنة 1923، استمر عضوا به كما انتخب أخيرا سكرتيرا للمجلس الأكليركي العام ولجنة الكنائس.
ولا شك أن في تعيينه لكل هذه المراكز السامية الدليل الساطع والبرهان القاطع على عظيم كفاءته، وغزارة فضله وجده وإقدامه، هذا فوق ما منحته إياه العزة الإلهية من نعمة الإيمان، والتحلي بالفضيلة والأدب الجم والغيرة على الإصلاح بأمانة وإخلاص وجد ونشاط.
صفاته وأخلاقه
حر الضمير، ثاقب الفكر، راجح العقل، يتقد غيرة على مصالح الدير والكنيسة، مشهور بأصالة الرأي، وتصريف الأمور بالحكمة على جانب عظيم من دماثة الأخلاق، والأدب، وكرم الطباع.
حفظه الله وأبقاه وأكثر من أمثاله العاملين الغيورين المجاهدين في سيبل الإصلاح.
ترجمة جناب الأب المحترم والوطني الغيور القمص بولس غبريال
جناب الأب المحترم والوطني الغيور القمص بولس غبريال خادم كنيسة العذراء بحارة الروم.
كلمة للمؤرخ
اشتهر هذا الأب الفاضل بالوطنية العالية، والعزيمة الماضية، والثبات على المبدأ، والصراحة في كل ما يراه عائدا لخير البلاد، وطالما جاهر بصراحته المعهودة وجرأته النادرة، وإليه يرجع الفضل في ربط عرى الاتفاق بين العنصرين المتآلفين بما كان يبديه من صائب الحكم والنصائح الثمينة، وإنا نسطر تاريخه المجيد بقلم الفخر والإعجاب، سائلين الحق أن يكثر من أمثاله بين رجال الدين لخير البلاد ونفع العباد.
مولده ونشأته
القمص بولس هو ابن القمص غبريال بشارة رئيس كنيسة العذراء بحارة الروم، ولد بمصر القاهرة في شهر بابه سنة 1594 للشهداء أكتوبر سنة 1878 ميلادية، وبعد أن شب على التعاليم الدينية رسم شماسا للكنيسة المذكورة، وقد أتم دراسته بمدرسة الأقباط الكبرى سنة 1895م، وبأمر غبطة البابا المعظم ألحق بالمدرسة الأكليريكية «صوت اللاهوت» في أول نشأتها، وأتم دراسة اللاهوت ونال جائزته سنة 1900، فعين ناظرا لمدرسة الأقباط بالسويس وواعظا لكنيستها، ثم استدعاه غبطة البابا المعظم لمزاولة الوعظ بمصر بكنيسة العذراء بحارة الروم، وابتدأ إذ ذاك عهده بالإصلاح الطائفي ففي أكتوبر سنة 1901 تعين وكيلا لمدرسة التوفيق، ومدرسا للدين واللغة القبطية فيها، وفي سنة 1902 اشترك مع منشئ جمعية الإيمان المركزية لنشر الوعظم والإرشاد، ومارس الوعظ بها وبجمعية التوفيق وبجامعة المحبة، وفي سنة 1907 انتدب من قبل اللجنة الملية رئاسة سعادة مرقس سميكة باشا، وعضوية المرحوم يوسف منقريوس بك لاتخاذ الطرق لتعميم تعليم الدين المسيحي بمدارس الحكومة، وبفضل سعي جناب القمص بولس تم تعميمه في مدارس القربية والمحمدية ومحمد علي وعابدين، وساعده في ذلك زعيم مصر الأمجد سعد زغلول باشا وكان وزيرا للمعارف إذ ذاك، ثم عين مدرسا بالقسم التجهيزي بمدرسة الأقباط الكبرى، ومدرستي البنين والبنات بحارة السقايين بمصر، وفي ديسمبر سنة 1909 تفضل غبطة البابا المعظم، ورسمه قسا على كنيسة العذراء بحارة الروم وفي سنة 1910 تعين عضوا أولا للمجلس الملي، وفي سنة 1914 تعين مندوبا بطريركيا لدى محافظة مصر ومديريتي الجيزة والقليوبية ، وفي هذه الأثناء قام بتجديد الكنيسة بحارة الروم، وأنشأ في الجهة البحرية منها كنيسة صغيرة باسم الشهيد الأمير تادرس الشطبي (كل ذلك على حسابه الخاص).
موقفه في خدمة الوطن
وفي سنة 1919 ظهرت بوادر الحركة الوطنية، فتقدم حضرته في أوائل الصفوف فرفع رأس الطائفة القبطية، وأعلا هامتها بين الطوائف المسيحية، فزادها فخرا إذ انتخب في لجنة الإدارة للجمعية العمومية رئاسة سعادة عثمان باشا مرتضى، وكفى الطائفة شرفا إذ أولاه الجمع المحتشد في دار رئاسة مجلس الوزراء (وكان يجمع كل مذاهب الأمة المصرية) شرف النيابة عنهم لدى دولة رشدي باشا، فتقدم بجرأة نادرة طالبا من دولته اعتراف الحكومة رسميا بوكالة الوفد المصري برئاسة سعد زغلول باشا في المفاوضات الرسمية، ولما احتدم الجدل بينهما خاطبه بقوله: (إن لم تخلص للأمة فقدم استعفاءك)، وطالما كان يرأس الوفود العديدة لزيارة دور الحماية والقنصليات مطالبا بحرية البلاد، وقد وقف نفسه على ذلك - ولما عقد الاجتماع في الأزهر الشريف كان حضرته أول من وطئت قدماه ساحة الأزهر الشريف، وافتتح الاجتماع بإبلاغ إخواننا المسلمين كلمة غبطة البابا المعظم، وهو أول من نادى بين جدران الأزهر ذلك المعهد الإسلامي المقدس مطالبا باتحاد العنصرين تنفيذا لإرادة الله ومشيئته، كما أمر بذلك الزعيم الجليل سعد زغلول باشا.
وتعانق القسيس والشيخ الجليل فأوضحا للنشء خير مثال، ثم انتخب عضوا في لجنة الدفاع عن الحرية السياسية برئاسة المغفور له البرنس عزيز حسن، وعضوا بلجنة التوفيق برئاسة البرنس محمد علي، وعضوا بلجنة منكوبي الأناضول برئاسة البرنس عمر طوسن، وعضوا بلجنة إدارة لجنة الاكتتابات للريفيين رئاسة سموه أيضا، وعضوا بلجنة مؤتمر الشرف بلوزان، وقد طاف صحبة فضيلة الأستاذ الشيخ القاياتي، والمغفور له المصري السعدي باشا بمديريات الوجه البحري لترويج الانتخابات الوفدية سنة 1923م، ولما أغلقت السلطة أبواب الجامع الأزهر في وجوه المجتمعين فتح أبواب كنيسته بحارة الروم على مصراعيها، رغم تهديده وإنذاره من السلطة مدة خمسة وأربعين يوما للخطابة تحت مسئوليته. وهو الذي تعهد مسجوني قصر النيل وألماظة بالزيارة مرتين في الأسبوع، وقد لاقى من جراء ذلك اضطهادات كثيرة إلا أنه قابلها بثبات، وقد وقف حياته لخدمة الوطن.
فقيد الأمة والهمة والإقدام المغفور له بطرس باشا غالي
مقدمة للمؤرخ
يحق للعيون أن تدمع، وللقلوب أن تتفجع، وللأبصار أن تتخشع، أسفا وحزنا على أفول بدر الكمال، ولهبا على غروب شمس الأفضال، والتياعا على ذبول زهر الجلال، وشعلة الذكاء النادرة المثال، ومستودع الحكمة والسداد وينبوع الرحمة والرشاد فقد كنت القريب من الضعيف، الرفيق بالبائس، المحب لبلاده العامل لخير وطنه، الذي يعمل كثيرا ولا يتكلم إلا قليلا، المحسن إلى المذنب، والعافي عن المسيء، وكفى باعترافك في آخر كلماتك عند سكرات الموت إظهارا لمحبتك لوطنك قولك الذي سننقشه على صدورنا، وهو: «يعلم الله أني ما أتيت أمرا يضر ببلادي»، فكلما ذكرنا الحكمة والمروءة والفضل وشعرنا بحاجة إلى سداد الرأي ذكرناك وبكيناك واستمطرنا لك الرحمة، وإن تلك الضربات التي أصابتك وقضت على حياتك أصابت كبد الوطن وجرحت قلب الأمة، وستظل متأثرة بهذه الجراح شاعرة بآلامها المرة فقد خسرت بفقدك خسارة لا تتعوض، وتلك الدماء الشريفة التي سالت من جسدك الكريم قد صاغت لك أكليل مجد، وتاج فخر، توجت به قبل مفارقتك للدنيا ونمت عن الوطن الذي تفانيت في خدمته حتى الموت، وكأن روحك الطاهرة أبت الخروج قبل أن تهرق دماؤك، فسلام عليك في نعشك، وسلام على ضريحك، وسلام على ذكراك الدائمة، وسلام على رقادك في منامك، وسلام على حياتك يوم غيبتك.
فقيد الأمة والهمة والإقدام المغفور له بطرس باشا غالي رئيس وزراء الحكومة المصرية سابقا (ولد سنة 1847 وتوفي سنة1910م).
مولده ونشأته
ولد المغفور له في القاهرة سنة 1847 ميلادية، وهو أكبر أنجال المرحوم غالي بك نيروز الذي كان باشكاتبا لدائرة مصطفى فاضل باشا أخو الخديوي إسماعيل بمصر، فعني بتربيته وأدخله مدرسة حارة السقايين فمدرسة الأقباط الكبرى، التي تحت رعاية الأنبا كيرلس الرابع الذي كان صديقا حميما للمرحوم والده، فتلقى فيها بعض العلوم العربية، ومبادئ اللغات الطليانية والإنكليزية والفرنسية، ونبغ بين أقرانه وكان البطريرك المشار إليه يتعهد المدارس بنفسه، ويراقب سيرها فلاحظ في الفقيد ذكاء واجتهادا ممتازين، فتحدث فيما يرجوه من مستقبله، فقضى صاحب الترجمة ثماني سنوات في تلقي العلوم في هذه المدرسة، ثم انتقل إلى مدرسة البرنس فاضل باشا، فأتقن فيها اللغتين العربية والفرنساوية وتعلم الفارسية والتركية أيضا، وفي تلك السنة ظهرت رغبته في العلم وتلذذه بالدرس، حتى إنه كان يقضي ليله ساهرا لا يمل المطالعة، فشكى بعضهم ذلك إلى أبيه خوفا على صحته، وقد ساعده على إتقانه اللغات التي تعلمها أنه كان قوي الذاكرة حتى بهر أساتذته بذكائه النادر.
دخوله في ميدان العمل
خرج من المدرسة فكان أول عمل تعاطاه التعليم في مدرسة حارة السقايين، وكان ناظر المدرسة يومئذ المرحوم يعقوب بك نخله رفيله، لكنه لم يلبث طويلا في تلك المهنة؛ لأن مطامعه كانت أوسع من ذلك كثيرا فعمد إلى الاستزادة من العلم، الذي يؤهله للمعالي وكان شاعرا حتى إنه لما خرج من المدرسة أراد الاستخدام في السكة الحديد، فكتب للمرحوم عمر باشا لطفي قصيدة بهذا المعني، فكان رده عليها : «عندنا من هذا كثير» وأرجعه بخفي حنين، وكانت الحكومة المصرية يومئذ تهتم بتوظيف المترجمين لمصالحها، فتقدم صاحب الترجمة في جملة الطالبين للامتحان، فنال قصب السبق وعين مترجما، لكنه ما زال يرتقي، ويحرز ثقة رؤسائه حتى صار رئيس كتاب المجلس وله فيه القول الفصل.
وقد ارتأى الخديوي أن ينشئ نظارة الحقانية سنة 1874 أفرنكية، وتعين شريف باشا ناظرا لها، وكذا تعين صاحب الترجمة باشكاتبا لها، وكان قد عرفه وعرف قيمة مواهبه السامية فكان موضع ثقته إذ كان يكلفه بترجمة أوراق الحكومة من التركية والعربية إلى الفرنسية، وبالعكس وأنعم عليه بالرتبة الثانية.
ولما ارتبكت مالية مصر عقد قومسيون للتحقيق في سنة 1876 ميلادية، فارتأى هذا القومسيون أن يشكل قومسيون مركب من مندوبي عموم الدول لعمل تصفية لمالية الحكومة المصرية، وتعيين صاحب الترجمة نائبا عنها، وكان ذلك في عهد وزارة رياض باشا، فكان صاحب الترجمة موضع إعجاب أعضاء القومسيون، إذ أخذ يبذل مواهبه العقلية حتى أنقذ الحكومة من وشك الإفلاس، وشكل قومسيون لتعديل الضرائب تحت رئاسة رستم باشا، وكان صاحب الترجمة عضوا فيه فوضع كتابا خاصا لم يزل معمولا به للآن، ويرجع الأمر إليه من وقت لآخر، ويقال إن السير ريفرس ولسن مندوب إنجلترا في ذلك العمل رأى اقتدار صاحب الترجمة فقال له: «إنك ستكون ناظرا للمالية يوما ما»، كما قال له هذا القول عمر باشا لطفي، عندما ارتقى صاحب الترجمة إلى الوزارة.
وبعد الانقلاب الذي تم بخلع الخديوي إسماعيل باشا، وتولية المرحوم توفيق باشا عين صاحب الترجمة «بطرس بك غالي» وكيلا لنظارة الحقانية، ولما تشكلت وزارة شريف باشا في أثناء الثورة العرابية عهدت إليه سكرتيرية مجلس النظار مدة، ثم استقل بوكالة الحقانية وعقب حدوث الثورة العرابية سنة 1882م، وبناء على طلب مجلس النظار تحت رئاسة البارودي باشا، أنعم على صاحب الترجمة برتبة الميرميران، وهو أول من حازها من الأقباط.
ومن الخدم التي يذكرونها له في أثناء الثورة العرابية أن العرابيين بعد أن فروا من التل الكبير، وأتوا إلى القاهرة عقدوا مجلسا للمفاوضة في ماذا يفعلون، ودعوا إليهم كبار الرجال من الأمراء العسكريين والملكيين، وشاوروهم فيما ينبغي عمله فكان رأي صاحب الترجمة التسليم للخديوي، إذ أراد عرابي أن يعمل خط نار لمنع دخول الإنجليز في مصر، وقال له المترجم: إن الأوفق أن تجعل تاريخك ناصع البياض ولا تشوبه بمداد السواد، وبناء على ذلك قبل المجلس الحربي وعرابي ما أبداه المترجم، وعهد إليه ومحمد رءوف باشا وعلي الروبي تقديم عريضة إلى أولي الشأن في الإسكندرية نائبين عن العرابيين.
وظل وكيلا لنظارة الحقانية عدة سنين وفي عهد وزارة فخري باشا تعين المترجم ناظرا للمالية، ثم في وزارة فخري باشا التي لم تمكث سوى ثلاثة أيام ثم في وزارة نوبار باشا، وتعين وزيرا للخارجية في عهد وزارة المرحوم مصطفى فهمي باشا، ومكث فيها حتى سقطت الوزارة الفهمية فوقع موقع الاختيار على تشكيل وزارة جديدة، فشكلها في 10 نوفمبر سنة 1908م، وتولى رئاستها مع وزارة الخارجية وهو أكبر منصب يرجوه ابن النيل.
وفي عهد وزارته همت الحكومة المصرية بتوسيع اختصاصات مجلس شورى القوانين، فقررت اشتراك الأمة في النظر في مشرعاتها بعرضها على المجلس، ويحضر الوزراء للمناقشة فيها. وما زال عاملا مجدا حتى قتل في 21 فبراير سنة 1910، وقاتله شاب اسمه إبراهيم ناصب الورداني، وهو أحد أفراد جمعية فوضوية ظهرت أخيرا في مقتل «المرحوم السردار»، ذلك أنه بينما كان الفقيد نازلا من ديوان الخارجية يوم الأحد الموافق 21 فبراير سنة 1910 في نحو الساعة الأولى بعد الظهر، ووراءه سكرتيره الخاص أرمولي بك وبالقرب منهما حسين رشدي باشا، الذي كان ناظرا للحقانية وقتئذ والذي جاء يودع الفقيد إلى الباب، إذ فوجئ بخمس رصاصات أطلقت عليه من مسدس أصابته في الذراع والعنق والكتف والجنب فأغمي عليه، وسقط من المركبة ثم حاول الضارب أن يهرب، فأسرع أرمولي بك والحجاب الواقفون إليه وأمسكوه وأدخلوه إلى الوزارة، وقدم هذا الجاني الأثيم إلى العدالة، فقضت بإعدامه شنقا، وهذا جزاء الخائنين المارقين وحمل المصاب إلى غرفته، وأسرعوا إلى استدعاء أطباء مصلحة الصحة ورجال جمعية الإسعاف، وعلى الأثر جاء الدكتور نولسن الطبيب الشرعي وتبعه عدد كبير من الأطباء فاتخذوا الاحتياطات الوقتية والإسعافات الضرورية، ثم أخرجوا بعض الرصاصات ومن ثم نقل المصاب إلى مستشفى الدكتور ملتن، وكان حسين رشدي باشا راكبا بجانبه، وأبلغ خبر الحادث تلفونيا إلى سمو الخديوي عباس باشا الثاني خديوي مصر السابق في سراي القبة، فأظهر شديد الحزن ولم تأت الساعة الثالثة حتى كان سموه قد وصل إلى سراي عابدين، فاجتمع بوزرائه وعقدوا مجلسا فوق العادة للنظر في أمر هذا الحادث الفجائي الخطير، وقبيل الساعة الرابعة ركب سموه وإلى يساره نظار الداخلية، ويمم المستشفى حيث دخل إلى غرفة وزيره فلما وقعت عيناه عليه بدت على محياه علامات التأثر، فقبله وبكى مظهرا أجمل مظاهر الانعطاف الملوكي، ثم شجعه وانصرف عائدا إلى سراي عابدين، ولم يعد سموه إلى سراي القبة إلا بعد أن أمر أن تبلغ إليه أخبار حالته ساعة بساعة، وكان الخبر قد بلغ إلى أقاصي بلاد القطر، فتواردت التلغرافات تترى من أعيان البلاد سائلة مستفسرة عن حقيقة الحادث، واشتغلت شركة التلفون بالعاصمة طوال الليل في الإجابة على أسئلة السائلين، وقد ازدحم المستشفى بالمئات من الذوات والأعيان، وفي مقدمتهم الأمراء والوزراء وقناصل الدول وما جاءت الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة عشرة حتى فاضت روحه الكريمة، فسمعت ضجة كبرى ارتجت لها جوانب المستشفى، وماج الداخلون في موجة الحزن تذهب بهم الأفكار كل مذهب.
ولما بلغ خبر وفاته سمو الخديوي أجهش بالبكاء، وأخذ يقول: وا حيرتاه وا حسرتاه عليك يا عظيم الرجال، ويا أقدر الوزراء ويا أكبر المخلصين، وأخذ يعدد مآثره البيضاء التي عرفها سموه أكثر من غيره، وفي الحال عقد مجلس الوزراء برئاسة سموه وقرر أن يحتفل بتشييع جنازة الفقيد احتفالا رسميا على نفقة الحكومة، وأن يسير المشهد في منتصف الساعة الحادية عشرة صباحا من مستشفى ملتون إلى الكنيسة المرقسية الكبرى، ومنها إلى دير أنبارويس، فما أشرقت شمس يوم الثلاثاء إلا والأعلام منكسة حدادا على الفقيد العظيم، وجعلت الفصائل العسكرية تتتابع لتحل في محلاتها تتقدمها موسيقاتها، والمركبات تتقاطر إلى المستشفى ولم تأت الساعة العاشرة إلا ومعظم أسواق العاصمة ومحلاتها ودكاكينها قد أقفلت تعظيما لشأن الفقيد، وأقبلت عربة الفقيد لحمل النعش من الكنيسة إلى المدفن مجللة بالسواد يجرها ثمانية من الجياد، واثنتا عشرة عربة مملوءة بأكاليل الأزهار والرياحين، وازدحمت الجماهير العديدة، ثم أقبل الوزراء جميعا وسمو البرنس محمد علي باشا وساكن الجنان حسين كامل باشا - سلطان مصر الأسبق - والبرنس كمال الدين، وغيرهم من أمراء العائلة المالكة، ودولة رءوف باشا القومسير العثماني في ذلك الوقت، والمرحوم رياض باشا وعطوفة السردار حاكم السودان العام، وقناصل الدول الجنرالية وأكابر موظفي الحكومة المصرية والمحاكم المختلطة، وصندوق الدين ورجال الشورى والجمعية العمومية.
ونزل النعش محمولا على أيدي عساكر من البوليس، حيث كانت عربة من عربات المدافع المصرية، يجرها ستة جياد واقفة بالانتظار، وكان جيش الاحتلال قد أرسل عربة أخرى من عربات مدافعه لنقل الفقيد فشكر أهل الفقيد واعتذروا بوجود العربة المصرية، ثم لف النعش بالعلم المصري، ووضع على المركبة وفوقه سيف الفقيد ونشانه العثماني، ومشى على جانبها حاجبان يحملان نشانات الفقيد العديدة، ومن ثم واروه التراب بين جمع غفير، وقد تقدم من حاملي أبسطة الرحمة التي يبلغ عددها الخمسة صاحب السمو البرنس محمد علي باشا بالنيابة عن الجناب الخديوي، وبعد الصلاة وقف نيافة الأنبالوكاس مطران كرسي قنا مؤبنا الفقيد حتى أسال العبرات.
وقد تبارى الشعراء في رثاء الفقيد معددين صفاته، وجليل أعماله ونظرا لضيق المقام هنا اكتفينا بإثبات تلك القصيدة الفريدة التي ألقاها سعادة أمير الشعراء أحمد شوقي بك، عند نقل رفات الفقيد بعد عام من وفاته إلى قبره الفخم الواقع داخل كنيسته الخصوصية المعروفة باسمه بدير أنبارويس بالشارع العباسي، والذي أنفق عليه وعلى الكنيسة ما لا يقل عن العشرين ألفا من الجنيهات قال حفظه الله:
قبر الوزير تحية وسلاما
الحلم والمعروف فيك أقاما
ومحاسن الأخلاق فيك تغيبت
عاما وسوف تغيب الأعواما
قد كنت صومعة فصرت كنيسة
في ظلها صلى المطيف وصاما
والقوم حولك يا ابن غالي خشع
يقضون حقا واجبا وذماما
يبكون موئلهم وكهف رجائهم
والأريحي المفضل المقداما
يسمون بالأبصار نحو سريره
كالأرض تنشد في السماء غماما
متسابقين إلى ثراك كأنهم
ناديك في عز الحياة زحاما
ودوا غداة نقلت بين عيونهم
لو كان ذلك محشرا وقياما
نم ما بدا لك في الكنيسة نافضا
هم المناصب عنك والآلاما
ماذا لقيت من الرياسات العلا
وأخذت من نعم الحياة جساما
اليوم يغني عنك لوعة بائس
وعزاء أرملة وحزن يتامى
والرأي للتاريخ فيك، ففي غد
يزن الرجال وينطق الأحكاما
يقضي عليهم في البرية أو لهم
فيديم حمدا أو يؤيد ذاما
أنت الحكيم فلا ترعك منية
أعلمت حيا غير ربك داما
إن الذي خلق الحياة وضدها
جعل السجود لوجهه إكراما
قد عشت تحدث للنصارى ألفة
وتجد بين المسلمين وئاما
واليوم فوق تشيد قبرك ميتا
وجد المدقق للمقال مقاما
الحق أبلج كالصباح لناظر
لو أن قوما حكموا الأحلاما
أعهدتنا والقبط إلا أمة
في الأرض واحدة تروم مراما
نعلي تعاليم المسيح لأجلهم
ويوقرون لأجلنا الإسلاما
الدين للديان جل جلاله
لو شاء ربك وحد الأقواما
يا قوم بان الرشد فاطووا ما جرى
وخذوا الحقيقة وانبذوا الأوهاما
هذي ربوعكم وتلك ربوعنا
متقابلين نعالج الأياما
هذي قبوركم وتلك قبورنا
متجاورين جماجما وعظاما
فبحرمة الموتى وواجب حقهم
عيشوا كما يقضي الجوار كراما
صفاته وأخلاقه
كان رحمه الله سيدا مهابا وقورا، سندا مقداما، ووزيرا خطيرا، ووطنيا غيورا، وسياسيا نبيلا، كبير الهمة، عالي الحكمة، واسع المدارك ذا نفس أبية ونية نقية، كان لمصر تاجا وللمشكلات سراجا وهاجا، محبا للخير، شديد العطف على البائسين والفقراء، وهو الذي أسس الجمعية الخيرية القبطية التي ساعدت كثيرا على سد حاجات عائلات شريفة أخنى عليها الدهر بكلكله، كما جاءت رحمة لكثير من البؤساء، رحمه الله رحمة واسعة وأثابه خيرا بعدد حسناته وأفضاله.
ترجمة حضرة صاحب السعادة السري الجليل أمين باشا غالي
كلمة للمؤرخ
لا شك أن الشرقيين عامة، والمصريين خاصة، يعرفون ما لبيت غالي من شرف المحتد، وطيب العنصر، والحسب والنسب، وما لأفراد هذا البيت من النبوغ، والذكاء الفطري، والأدب الجم، وإننا نثبت هنا بقلم الفخر والإعجاب تاريخ حضرة صاحب السعادة الجليل أمين باشا غالي، وما يحضر بذاكرتنا من جلائل أعماله في هذا السفر، سائلين الحق تعالى أن يلهم شبابنا الناهض نعمة الذكاء والفطنة وسداد الرأي والجد والإقدام، كما وهب سعادته الذي يعد درة وهاجة في جبين هذا العصر لنفع البلاد وفائدة العباد.
حضرة صاحب السعادة السري الجليل أمين باشا غالي من وجهاء القاهرة.
مولده ونشأته
ولد سعادته في عاصمة الديار المصرية سنة 1865 ميلادية من أبوين كريمين تقيين عريقين في الفضل والاستقامة، ولما بلغ أشده أدخله والده المدرسة البطريركية، التي كانت وقتئذ أفضل المدارس وأدقها نظاما، فتلقى فيها اللغة الفرنساوية والعربية فتضلع فيها ونبغ في آدابها.
وبعد أن أتم دروسه فيها انتقل إلى مدارس أخرى وتمم علومه بها، وفي خلال ذلك كان يدرس علم الحقوق شأن كل نفس طموحة لاعتلاء قمة المجد، فسافر إلى مدينة أكس من أعمال فرنسا، ودخل بإحدى مدارسها الحقوقية ولبث منكبا على ارتشاف كئوس علومها بنفس تواقة وجد ونشاط وإقدام، مدة ثلاث سنوات حتى أحرز قصب السبق في مضمار النجاح، وعاد إلى الوطن العزيز حاملا شهاداتها العالية، يجر أثواب الفخر ويمثل أفضل قدوة لشباب أمته في الجد وطلب المجد؛ ليقتدوا به فيكونوا خير معوان لسعادتهم وفلاحهم.
خدماته في النيابة والقضاء
ولم يمكث طويل زمن بعد أوبته من الأقطار الأوربية حتى عين في 2 مايو سنة 1883 مترجما بنظارة الحقانية، فأخذ يزاول عمله بنشاطه المعهود، وذكائه الموصوف، حتى رقي إلى وظيفة مساعد نيابة، ونال الرتبة الرابعة في أول فبراير سنة 1884، واستمر قائما بها إلى شهر يوليو سنة 1885، وفي تلك السنة رقي إلى وكيل نيابة بمحكمة مصر، وكان يقوم وقتئذ بمهام أعمال الرئاسة فيها، وهي الوظيفة التي تجلت فيها كفاءته ودلت على عظيم مقدرته حتى علم الكل أن في السويداء رجالا، وللشهامة والجد والعدل أنصارا وأبطالا، وأنعم عليه بالرتبة الثالثة ورقي إلى رئاسة نيابة تلك المحكمة، وفي شهر أكتوبر سنة 1887 عين رئيسا لنيابة محكمة الاستئناف الأهلية، ولما آنس رجال المحاكم المختلطة فيه النباهة وسعة الاطلاع استصوبوا نقله إليها، فعين أولا وكيلا لنيابة محكمة الاستئناف المختلطة، وأنعم عليه بالرتبة الثانية وفي أبريل سنة 1893 انتقل إلى رئاسة نيابة محكمة مصر المختلطة، وهي الوظيفة الثانية لدرجة النائب العمومي، وفي سنة 1896 ميلادية نال رتبة المتمايز الرفيعة كما نال عدا عن الرتب العالية والوظائف السامية كثيرا من الأوسمة والنياشين، اعترافا بفضله وإجلالا لقدره فمنها النشان العثماني الرابع، والمجيدي الثالث، ونشان شير خورشيد من دولة إيران الفخيمة، وفي عام 1908م أنعم عليه سمو الخديوي عباس حلمي باشا السابق بالنيشان العثماني الثالث، وأخيرا رتبة الباشوية، وقد استعفى من خدمة الحكومة لاشتغاله بإصلاح مزارعه الخصوصية وتعهدها بنفسه.
اشتغاله بالشؤون الزراعية
ويعد حضرة صاحب الترجمة من كبار الأخصائيين في الشؤون الزراعية بدليل ما قام به من ضروب الإصلاح في مزارعه الواسعة بجهة أكياد شرقية وغيرها، وله فيها آراء صائبة واكتشافات مستحدثة دلت على نبوغه وحنكته في هذه الشؤون، ولسعادته في بلدة أكياد المذكورة سراي قل وجود نظيرها في أعظم وأكبر عواصم المديريات، من حيث فخامة البناء وجمال التنظيم وثمين الأثاثات وهي مقصد العظماء والوجوه والأعيان، وطالما دعى إليها لورد اللنبي المندوب السامي البريطاني السابق وعقيلته والدوق أوف كنوت والبرنسيس بيسكو الرومانية، وجناب اللورد جورج لويد المندوب السامي البريطاني الحالي وعقيلته، بناء على دعوة حضرة صاحب الترجمة، فكان يقابل ضيوفه الكرام بكل حفاوة وإكرام، وقد تردد فخامة لورد اللنبي على البلدة ابتغاء الصيد والقنص حيث وجد فيها مناخا طيبا ونزهة محمودة، وصديقا وفيا ألا وهو سعادة صاحب الترجمة لما آنس فيه من لطف، ودعة وكرم أخلاق، مع علم وأدب، وكرم حاتمي، وقد قصدها أيضا كثيرون من الأجانب فكانوا يقابلون بصدر رحب وحسن استقبال، مما كان له أثر خالد في قلوبهم عند عودتهم لبلادهم.
صفاته وأخلاقه
ومع ما هو فيه من الوجاهة، والجاه العريض، تراه على جانب عظيم من اللطف، وكرم الأخلاق، وحسن المعاشرة، بعيد عن العظمة والخيلاء غاية في التواضع، حفظه الله وأبقاه ومتعه بطيب الحياة.
ترجمة حضرة صاحب العزة الإداري الكبير محمد بك أمين واصف
كلمة للمؤرخ
تتجلى الصفات السامية والمواهب العالية في شخص هذا الشهم الإداري الكبير بأجل معانيها، وأسمى مبانيها، وحق لنا أن نمطره من آيات الشكر والثناء أكثرها لما قام به من جلائل الخدم لمصره العزيزة، ولسمو نزعته، وقوام مبدئه، وجميل صفاته، ولكم لقي هذا البطل من ضروب العنت إبان تربعه في كراسي الإدارة الحكومية إزاء نزعته الوطنية، مما دعا إلى السعي في عزله هو وآخرين في آخر عهد الخديوي عباس حلمي باشا السابق، ففشل الساعون إلى الانتقام وباءوا بالخسران، ثم تجددت المساعي على أثر الانقلاب السياسي الخطير، فاعتزل الخدمة.
حضرة صاحب العزة الإداري الكبير محمد بك أمين واصف المفتش العام لوزارة الأوقاف سابقا.
وإن كان عزته قد ترك أعمال الحكومة ومتاعبها، إلا أن ما حازه من الشهرة الوطنية والثبات على المبدأ يكفيانه فخرا وشرفا في بطون التاريخ.
مولده ونشأته
هو محمد أمين بك واصف نجل المرحوم مصطفى بك واصف من ضباط الجيش المصري سابقا، المتوفى إلى رحمة ربه في حادث الفيوم سنة 1888م المشهورة بقضية الدهشان.
ولد بمصر القاهرة في 19 يناير سنة 1876، فغذاه والده الجليل بلبان الأدب والفضل والاستقامة، ولما أن شب عن الطوق أدخله مدرسة الحسينية الابتدائية الأميرية، وعندما حصل منها على شهادة الدراسة الابتدائية أدخل المدرسة الخديوية الكائنة بدرب الجماميز، ونال منها شهادة البكالوريا سنة 1890م، ثم التحق بمدرسة الحقوق وبجده ونشاطه، وحسن استقامته أحرز شهادة الليسانس منها سنة 1895م بنجاح عظيم.
وظائفه الحكومية
وعند نواله لتلك الشهادة عين معاونا للإدارة بمديرية الجيزة على عهد السير الدن غورست، ثم نقل لمديرية أسيوط ثم رقي مأمورا لعدة مراكز، ومن ثم وكيلا لعدة مديريات فمديرا لمديرية القليوبية فالجيزة إلى أن عين مفتشا عاما لوزارة الأوقاف، عندما جعلت وزارة كباقي وزارات الحكومة، ثم اعتزل الخدمة على أثر الانقلاب السياسي الخطير كما قدمنا.
ولحضرة صاحب الترجمة ولع شديد بالصحافة منذ عهد التلمذة لزمالة فقيد الوطن والوطنية المرحوم مصطفى كامل باشا، ولما عرف فيهما ذلك الولع «وهما طلبة بمدرسة الحقوق» المغفور لهم لطف باشا سليم وبشارة باشا نقلا والشيخ علي يوسف، شجعهم الأول وأمدهم بأفكاره الواسعة، ومبادئه الجليلة، كما أعد لهما الآخران صحائف جريدتهما على أوسع رحاب.
أعماله الخالدة لنشر العلم والأدب
وقد صادف عند وجوده مديرا للقليوبية ظهور تعديل القانون النظامي للحكومة المصرية، وزيدت اختصاصات مجالس المديريات وأضيف التعليم الأولي الابتدائية لعهدتها، فكان مجلس مديرية القليوبية أسبقها إلى نشر التعليم، وتشييد دوره، فأنشأ مدارس ابتدائية بقليوب وطوخ وشبين القناطر بعد نقل مقر المركز إليها، وقد كان في نوى، ثم مدرسة للبنات ببندر بنها ثم المدرسة الصناعية بطوخ، وقد شيدت باكتتاب عام من أعيان المديرية في عهد المرحوم عبد الغني بك شاكر المدير الأسبق، ثم أنشأ ثمانين كتابا في أنحاء المديرية المختلفة.
وقد أثنى عليه المؤتمران الإسلامي والقبطي بأسيوط لإمكانه التوفيق بين نظام التعليم الإسلامي والمسيحي بالمعاهد، التي شيدها بما أرضى الطرفين.
وهو صاحب مشروع الخفر النظامي بالبلاد، وانتداب ضباط من الجيش لتنظيمه وتدريسه؛ ولذلك أشار السير الدن غورست بتنفيذ التجربة الأولى بمديرية القليوبية تحت مباشرته.
ولعزته من المشاريع العلمية والأدبية والاقتراحات الصائبة فوق ما تقدم بيانه شيء يذكر، وجميعها تشهد بغيرته الفائقة على نشر العلوم والآداب.
مؤلفاته القيمة
ولحضرة صاحب الترجمة الجليل مؤلفات قيمة نذكر منها:
شرح قانون تحقيق الجنايات.
وشرح قانون العقوبات.
ومناهج الأدب في «الأخلاق والاجتماع».
والخريطة التاريخية ومعجمها.
وكتاب علم النفس، وعلم المنطق، وعلم الأخلاق.
وغيرها وغيرها من المؤلفات النفيسة التي تشهد ببراعة مؤلفها وغزارة علمه، وفضله، ومكانته السامية، في عالم التحرير والأدب وقد انتخب عضوا بالمجمع اللغوي المصري في أول نشأته.
صفاته وأخلاقه
كريم النفس، قوي الإرادة، لا يحتمل الضيم، صريح في الحق لا يخشى فيه لومة لائم، ذكي الفؤاد، على جانب كبير من المقدرة العلمية والأدبية والإدارية، يميل بفطرته لمساعدة الفقراء وتشجيع الأدباء، وهو بالإجمال مثال تتجلى فيه الشهامة العالية والمروءة الكاملة.
حفظه الله وأكثر من أمثاله العاملين.
ترجمة فقيد العلم والتاريخ البحاثة الكبير المرحوم ميخائيل بك شاروبيم
مقدمة للمؤرخ
إن الخسارة العظمى التي لحقت بالأمة المصرية عامة ، والقبط خاصة، بفقد هذا العالم الكبير، والمؤرخ الشهير، لن تتعوض، كيف لا وقد كان الفقيد من جهابذة المؤرخين المدققين، واسعي الخبرة والاطلاع، ومن علماء هذا العصر وحسب القارئ الكريم تلك المجلدات التاريخية الضخمة التي حوت من درر المعاني وسير الغابرين أي: من بدء أيام نوح عليه السلام دولة فدولة إلى انقراض ملك الروم بالفتح الإسلامي إلى ظهور محمد علي باشا الكبير جد العائلة المالكة الآن، ووصف حروبه وولاية ذريته من بعده إلخ ما جاء بتلك المجلدات التاريخية الثمينة أن يحكم حكما جازما أن هذا الفقيد العظيم، والراحل الكريم، ركن من أركان العلم والفضل ومؤرخ لا يجارى في الوصف، كما كان إداريا بكل معنى الكلمة في جميع وظائفه الحكومية التي شغلها في حياته العملية، واتصف بالنزاهة والجد والإقدام، ولو كان الله أفسح في حياته لرأينا فوق ما ظهر من آثاره العلمية الخالدة مؤلفات شتى وأبحاث هامة، ومصنفات تاريخية شيقة، رحمه الله رحمة واسعة وأثابه خيرا بعدد فضله وغزارة علمه ومجهوداته القيمة لخدمة التاريخ.
المرحوم ميخائيل بك شاروبيم.
مولده ونشأته
ولد الفقيد عام 1277ه بجهة حارة السقايين بقسم السيدة زينب بمصر من أبوين شريفين حسبا ونسبا، فغذياه بلبان الآداب المنزلية حتى بلغ السابعة من العمر فدخل مع شقيقه الأكبر المرحوم حنا بك شاروبيم مدرسة حارة السقايين، فتلقى فيها العربية والإنجليزية والفرنساوية ومبادئ اللغة القبطية، فأظهر على حداثة سنه نبوغا كبيرا في الإنشاء والأدب، وله فيهما عدة قصص وحكايات بأسلوب جميل راق وقلم سيال، ولما أن بلغ الرابعة عشرة من عمره عين في قلم التحريرات الأفرنجية بوزارة المالية، وما كاد ينقضي عليه عامان في ذاك المركز حتى رقي مترجما فسكرتيرا خصوصيا للمرحوم إسماعيل باشا صديق، ولبث في هذه الوظيفة إلى سنة 1876م حيث نقل بعد وفاة الباشا المشار إليه سكرتيرا ثانيا للمستر إسكرفتر مديرا للجمارك، فوكيلا لكبير تلك المصلحة، وفي أواخر سنة 1877م انتخب لإدارة جمارك دمياط وسلخ سائر أعمالها من محافظتها؛ لتكون إدارة مستقلة على قاعدة ثابتة فقام بما عهد إليه أحسن قيام حتى استحق الثناء الوافر من رؤسائه، فرقوه أمينا للجمرك المذكور، وزادوا في مرتبه، وفي سنة 1880م رقي أمينا لجمرك بور سعيد ولأسباب صحية استقال من منصبه وعاد إلى القاهرة، غير أنه عاد إلى خدمة الحكومة بعد شهور، حيث طلبته المراقبة الثنائية على عهد المستر كولفن الإنجليزي، والمسيو دي بلبينار الفرنسوي وعينته مفتشا بها، وفي سنة 1882م طلب منه المرحوم سلطان باشا نائب الحضرة الخديوية يومئذ تشكيل ديوان يقوم بأداء لوازم الجيش الإنجليزي، الذي دخل البلاد فقام وشكل الديوان وجمع لعماله من دواوين الحكومة نحو 70 معاونا و50 جنديا من الكتاب وأربعة من المترجمين، وسار في عمله بدقة ونشاط وهمة، حتى شهد له نفس الإنجليز وولاة الأمور بحسن الإدارة والاجتهاد، ثم ألغي هذا الديوان فأعيد المترجم إلى وزارة المالية بناء على طلبها بوظيفة مفتش، فلم يقبل هذا المنصب وطلب الراحة من عناء الأعمال فأجيب إلى طلبه.
وفي يناير سنة 1884م عين قاضيا بمحكمة المنصورة الأهلية، ثم رئيسا لنيابة تلك المحكمة، وكانت يومئذ أكبر النيابات وأوسعها اختصاصا؛ لأنها كانت تشمل مديريتي الدقهلية والشرقية ومحافظات دمياط وبور سعيد والإسماعيلية والسويس والعريش، وفي آخر شهر يوليو من تلك السنة منحه سمو الخديوي عباس باشا الثاني الرتبة الثانية؛ مكافأة له على اجتهاده، وفي شهر نوفمبر أنعم عليه جلالة ملك اليونان بوسام المخلص من رتبة كومندور؛ اعترافا بأياديه البيضاء على الجالية اليونانية بإقليم الشرقية، وفي أوائل فبراير سنة 1885م أنعم عليه جلالة شاه العجم بوسام الشمس «شيروخورشيد» من الدرجة الرابعة مكافأة له على تحسين العلائق بين المحكمة ودولة إيران، وفي أوائل سنة 1888م أنعم عليه ملك إسبانيا بوسام القديس يوحنا من رتبة شفاليه.
أما أعماله في منصب رئاسة نيابة المنصورة، فمعلومة ومآثره العديدة تضيق عن الحصر، ولا يزال أهاليها يذكرونه في كل مناسبة كما كان المسيو لوجريل النائب العمومي في ذاك العهد يحبه حبا جما، ويتخذ أعماله قدوة يقتدي بها عمال النيابات الأخرى، ولم يتخل عن إطرائه حتى بعد اعتزاله الأعمال وتركه لخدمة الحكومة.
وعندما تولى المرحوم رياض باشا الوزارة في أغسطس سنة 1888، وقع بينه وبين المترجم نفور فمغاضبة بسبب اختصاص الوظيفة، وبالرغم من تدخل المرحوم توفيق باشا الخديو السابق في الأمر، فقد اعتزل المترجم الخدمة وسافر إلى بني سويف مسقط رأس أبويه، وكان لم يرها إلى ذلك الحين حيث أقام بها مشتغلا بالزراعة وتفليح ما له من الأراضي الزراعية.
مؤلفاته التاريخية القيمة
ثم عكف على تأليف كتابه الكافي وهو أربعة أجزاء ضخام:
الأول:
منها يبتدئ من أيام نوح عليه السلام دولة فدولة إلى انقراض ملك الروم بالفتح الإسلامي.
والثاني:
منها يبتدئ بفذلكة من تاريخ العرب في الجاهلية، وظهور صاحب الشريعة المحمدية وهجرته وغزواته وفتوحاته وولاية أبي بكر ووفاته، وولاية عمر الفاروق ومجيء عمرو بن العاص إلى ديار مصر، إلى زوال ملك العرب بالفتح العثماني، ودخول السلطان سليم القاهرة.
والثالث:
يبتدئ بفذلكة من تاريخ الترك في القدم وأصلهم وعدد ملوكهم، وما فعلوه في ديار مصر إلى انقراض حكمهم القديم بظهور ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير جد العائلة المالكة الآن.
والرابع:
يبتدئ بترجمة حياة محمد علي باشا وحروبه وولاية ذريته من بعده، وظهور الثورة العرابية وصاحب المهدوية، ودخول الجيوش الإنجليزية وما يتخلل ذلك من الكروب والحروب إلى وفاة المرحوم الخديوي توفيق.
وعند انتهاء تلك الأجزاء الأربعة أخذ رحمه الله يشتغل في تأليف الجزء الخامس الختامي لمؤلفه هذا، وقد أتمه قبيل وفاته وترك طبعه ونشره لأولاده من بعده، وهذا الجزء يتضمن تاريخ عباس باشا حلمي الخديوي السابق والانقلاب الذي حدث عقب خلعه، وينتهي بخلعه وتولية ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين كامل الأول، وقد بدأه بوضع فذلكة له في أصل الاستعمار، وأكبر الدول استعمارا؛ ليتوصل إلى ذكر الأسباب التي دفعت بالإنجليز إلى احتلال مصر.
رجوعه إلى خدمة الحكومة
وفي شهر نوفمبر سنة 1894 جاءه طلب من وزارة المالية، فانحدر إلى القاهرة كارها، وما كاد يلتقي بوزيرها أحمد مظلوم باشا، ووكيلها المستر دوكنس حتى كلماه في قبول منصب إدارة مصلحة التاريع التي هي مسلحة أطيان عموم القطر المصري، وكان بها يومئذ كبير من الإنجليز لم يقو على إدارتها، فاعتذر المترجم وألح ببقائه بعيدا عن المناصب فلم يقبلا ذلك منه، وما زالا به حتى رضي كارها فسلماه من يومه كثيرا من المنشورات والأوامر العالية والقرارات الوزارية، وكلفاه بعمل قانون يكون إليه المرجع في عمل فك الزمام، فقام بعمله حتى أتمه على أحسن حال، وقد أنعم عليه الخديوي عباس باشا بالنيشان العثماني الرابع سنة 1897م، وهو ذاك المسند الخطير الذي ظل فيه إلى سنة 1899م، حيث انتقلت أعمال المساحة إلى عهدة صاحب المساحة الجيولوجية، فانتقل المترجم إلى وزارة المالية في منصب ناظر إدارة أملاك الميري الحرة، فلبث بها إلى أخريات سنة 1899م ثم تعين مديرا لأملاك الميري بمدينة الإسكندرية، وجاءه وهو بها نيشان نجمة الافتخار من منليك ملك ملوك الحبشة في آخر أغسطس سنة 1900، وقد لبث بها إلى أوائل سنة 1903م، ثم انتقل إلى وزارة المالية ثانية بوظيفة ناظر إدارة أملاكها، فكان يرى أن البقاء على هذا النوع من الخدمة معطلا لأشغاله الخصوصية، ومزيدا لمتاعبه فجعل يسعى مع ولاة الأمور حتى وافقوا على تقاعده في آخر سنة 1903م، وتفرغ بعد ذلك إلى التأليف الذي جد فيه، وأيضا لاستثمار أراضيه بمديريتي الجيزة وبني سويف، وبتعضيد المشروعات الخيرية والأدبية، والأخذ بيد أمته إلى طريق الحياة والارتقاء إلى أن وافاه القدر المحتوم، فراح مبكيا على غزارة فضله وعلمه وفائق مجهوداته، وقد ترك الفقيد مكتبة عامرة حوت نفائس الكتب التاريخية، والعلمية، والأدبية، مما يتعذر وجود مثيلاتها بين ظهرانينا، وقد وهبتها أسرة الفقيد العزيز للمتحف القبطي بمصر القديمة؛ لتكون أثرا خالدا جليلا يدوم ناطقا لهذه الأسرة الكريمة، وفوق رأسها الشهم النبيل والأديب الفاضل شفيق بك أكبر أنجال الفقيد، الذي حذى حذوه في عمل الخير بالشكر والثناء أبد الدهر.
الاحتفال بتشييع الجنازة
وقد توفي هذا العالم الجليل والمؤرخ الكبير إلى رحمة ربه في جمادى الأولى سنة 1336ه، واحتفل بتشييع جنازته إذ ذاك باحتفال عظيم سار فيه كل ذي حيثية ومقام كبير في البلاد، كما أقامت له جمعية التوفيق القبطية الكبرى حفلة تأبين، حيث كان الفقيد رئيسا لها ومن كبار العاملين لإحيائها، تبارى فيها الخطباء معددين مناقبه وآثاره الخالدة، التي ملأت صفحات كبيرة من الكتب والمجلات والصحف على اختلاف أحزابها وآرائها.
وقد اعتنى الفقيد عناية كبرى بتربية أولاده النجباء حضرات شفيق بك «الذي ترى صورته وترجمته في غير هذا المكان» ووديع وزكريا تربية عالية، حيث بعث بهم إلى أهم كليات وجامعات الغرب؛ للارتشاف من بحور علومها العالية، حتى إذا ما عادوا إلى وطنهم المفدى أدوا لمواطنيهم الكرام خدما جليلة.
صفاته وأخلاقه
كان رحمه الله دمث الأخلاق، كريم الطباع، محسنا جوادا يعطف على الفقراء والبؤساء، أديبا بكل معنى الأدب، محبوبا، محترم الجانب لدى كل عارفي فضله وكماله، على جانب يذكر من الكفاءة والإدارة وغزارة العلم.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه جنات النعيم.
ترجمة الشهم الأديب شفيق بك ميخائيل شاروبيم
كلمة للمؤرخ
هذا هو الشبل الأثيل، سليل بيت الرفعة والشرف، والمجد ومثال الكمال والجد، الشاب الذي جمع إلى كرم أخلاقه، وتدفق ذكائه، علما وضم إلى عزة نفسه وأصالة رأيه حلما، فهو من صفوة الشبان الذين تتفاخر بفضائلهم مصر، ويتلألأ بدرر علومهم، ومعارفهم هذا العصر، وقد صدق فيه قول الشاعر:
الشهم الأديب شفيق بك شاروبيم النجل الأكبر لفقيد العلم والتاريخ المرحوم ميخائيل بك شاروبيم.
ورث الأكابر كابرا عن كابر
ورقى إلى العلياء وهو فطيم
مولده ونشأته
سطع نور محياه الوضاء بمصر القاهرة في نوفمبر سنة 1895م، وتغذى بلبان الأدب والعلم من ذاك الوالد البار، الذي لم يدخر وسعا في تعليمه وتثقيف مداركه، ولما أن شب عن الطوق أدخله مدرسة الفرير بمصر، فأقبل على ارتشاف علومها بصدر رحب ونفس تواقة لطلب العلم، وظل بها إلى أن حاز شهادة البكالوريا قسم العلوم سنة 1914م، ثم التحق بوزارة الأشغال العمومية، وعندما نشبت المنية أنيابها في والده الجليل اضطر لترك هذه الوظيفة، والتفرغ لأعمال عائلته الخاصة وللتصوير الذي كانت تتوق نفسه دائما إلى ممارسته، فأخذ في دراسة هذا الفن الجميل على الأستاذ نييتسون كول والأستاذ سير جوفس في مصر ثم سافر إلى إيطاليا سنة 1921، والتحق بمدرسة الفنون الجميلة، وأخذ يواصل ليله بنهاره مبديا جدا ونشاطا حتى أدهش أساتذته بتفوقه وفرط ذكائه، وقد نال من هذا المعهد العالي الذي يعد أكبر معهد في العالم للفنون الجميلة بلا جدال شهادة الليسانس، وهو أول مصري حائز هذه الشهادة العالية من ذاك المعهد، ثم عاد للوطن العزيز مكللا بأكليل الظفر والفخر سنة 1923 رافعا رأس الشرق عامة، ومصر خاصة، بهذا النجاح العظيم.
ولقد تشرف بمقابلة حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الذي أمده بنصائحه الغالية، وحكمه العالية لما لجلالته من الميل لرقي هذا الفن الجميل وتشجيع أهله، وقد اعتاد شفيق بك أن يبعث كل سنة من وقت عودته من إيطاليا عدة صور إلى المعرض السنوي الذي يقام بالقاهرة، فكانت دائما موضع الإعجاب والاستحسان بدليل أن الحكومة المصرية ابتاعت بعض صوره، وكذا كل ذي ذوق سليم يدرك عظمة هذا الفن الجميل، وما لريشة مصورنا الكبير من البراعة والذوق والدقة، مما يبشرنا ببلوغه الغاية القصوى في وقت قريب.
زيارة جلالة الملك لمعرض التصوير: ولقد تنازل جلالة مولانا المليك المعظم بزيارة معرض التصوير في شهر نوفمبر سنة 1923 تشجيعا للقائمين به.
وفي الصورة الآتية يرى القارئ الأستاذ شفيق واقفا على يمين جلالة الملك، وهو المرموز له بهذه العلامة × وقد ودع جلالته، كما استقبل بالحفاوة والإكرام.
أهمية فن التصوير ولزومه
إن المؤرخ يخط الحوادث على القرطاس فتأتي الأجيال تلو الأجيال، وتطالع تلك السطور وما حوت من أخبار أزمان سعيدة أو شقية، وملوك عادلين أو ظلمة وجيوش ظافرة أو مقهورة، أما المصور والحفار فينقشان الحوادث ويشخصانها، ويزيدان على ما يسطره المؤرخ صور وتماثيل عظام رجال كل عصر بعصره، فيجعلاننا نرى وجوههم وزينهم ويمكننا بالتفرس في محياهم الحكم على أخلاقهم وسيرهم.
تصفح تاريخ نابليون الكبير فتدهش، ولكنك ادخل اللوفر وقف أمام صور حروبه بريشة البارون جرو وفرنته فتذهل من تلك المواقع المدهشة، وترى منها عظمة الرجل فشكله وأعماله حتى أخلاقه.
زيارة جلالة الملك فؤاد لمعرض الصور وعلى يمينه الأستاذ شفيق.
فإن كان والد صاحب الترجمة قد خدم التاريخ بعلمه فقد خدم ولده فن التصوير بريشته، فلا يسعنا إلا الثناء على هذه الخدم الجليلة، التي يقدمها هذا الابن البار لوالدته مصر البارة، وحبذا لو اهتمت كل أسرة واقتدت بأسرة شاروبيم، التي تسعى مجردة عن كل مصلحة وغاية لرفع شأن وطنها إلى مستوى الأمم الراقية.
صورة شفيق بك وهو جاري التصوير، ويرى الناظر لهذا الرسم الأستاذ مكبا على التصوير بمهارته الفائقة.
وقد يمتاز الأستاذ شفيق بك شاروبيم على غيره من المشتغلين بالفنون الجميلة بمصر بعمل «البورتريا» أي: صور الأشخاص، فهو تلميذ للأستاذ «كورما لدي» الإيطالي الشهير والأخصائي في هذا النوع من التصوير، ولقد زرنا محل عمله وسررنا كثيرا من رؤية صور بعض الأشخاص، الذين لنا بهم سبق معرفة والذي يسهل بمجرد النظر إليهم من رؤية محياهم بما فيه من خصائص طبيعية وأخلاقية، وهذه مقدرة لم يصل إليها إلا كبار المصورين الذين بلغوا شأوا عظيما من الفن.
ولنا كبير أمل أن يقتدي به أبناء هذه الأمة فتنال مصر على أيديهم خطوة واسعة إلى رقي الفن.
ولا يفوتنا أن نثبت هنا تلك النصيحة الغالية التي ألقاها جلالة الملك، حين تشرف الأستاذ شفيق بك بالمثول بين يدي جلالته عقب عودته من إيطاليا، وهي:
أرجو يا شاروبيم أن تنتفع الأمة بتصويرك كما انتفعت بعلم والدك.
صفاته وأخلاقه
ذكي الفؤاد، بشوش الوجه، ضاحك السن، أديب بكل معنى الأدب، دمث الأخلاق، وبالإجمال فإن صفاته وأخلاقه صورة حقيقية من صفات وأخلاق المرحوم والده الجليل.
أدامه الله بالصحة والسعادة وأكثر من أمثاله بين شباب مصر الناهض.
ترجمة حضرة الشهم الوجيه الفاضل فوزي بك خليل
كلمة للمؤرخ
أتينا فيما تقدم من هذا الجزء على ترجمتي حضرتي الشهمين الفاضلين صاحبي العزة، توفيق بك خليل ونقولا بك خليل شقيقي صاحب هذه الترجمة، والآن وجب علينا أن نثبت بقلم الولاء والإخلاص ترجمة هذا الشهم الوجيه والعالم المجد نصير الإنسانية والمروءة.
حضرة الشهم الوجيه الفاضل فوزي بك خليل من وجهاء القاهرة.
مولده ونشأته
ولد هذا الشهم بمصر القاهرة عام 1886 ميلادية من أبوين كريمين اشتهرا بالصلاح والتقوى، ووالده هو المرحوم طيب الذكر جرجس بك خليل من كبار موظفي الحكومة المصرية سابقا، فربياه التربية المنزلية الحسنة، ومن ثم أدخله والده كلية الآباء اليسوعيين بالقاهرة، فارتشف من بحر علومها وآدابها وتجلت في شخصه الكريم مواهب الذكاء الفطري، والأخلاق السامية، والأدب الجم، وأحرز الكثير من علومها، ومن ثم أدخل مدرسة الزراعة العليا ونال حظا وفيرا من شتات علومها، ومارس تجاريب كثيرة من شؤونها، مما ساعده على أن يكون من كبار المزارعين.
ولما رأى من نفسه ميلا شديدا للاشتغال بالأعمال الحرة لا سيما بعد وفاة المرحوم والده، فقد شمر عن ساعد الجد والعمل، وأخذ في إدارة شؤون زروعاته الواسعة بمديرية بني سويف، عدا العقارات العديدة التي بتلك المديرية وبمصر حيث أعطي توكيلا عاما من باقي أخوته لينوب عنهم فأصبحت هذه الأعيان بفضل جده ونشاطه وكفاءته ذات إيراد عظيم، إذ اتسع نطاقها وتضاعف مقدارها وليس ذلك على كبير نشاطه وسمو ذكائه بعسير، خصوصا وأن خاله صاحب الدولة الجليل يوسف باشا وهبه رئيس الحكومة المصرية سابقا ذاك الرجل الإداري الكفء والمفكر العظيم، وكذا زوج شقيقته الفضلي حضرة صاحب السعادة السري الجليل أمين غالي باشا شقيق ذاك الفقيد المرحوم بطرس غالي باشا.
فالمترجم بلا جدال من أكبر بيوتات الأقباط في المجد، والرفعة، وعلو الحسب، والنسب، في هذا العصر وقد اشتهر بمساعدة البؤساء، والأخذ بيد الفقراء وتعضيد العلم وتشجيع الأدباء.
صفاته وأخلاقه
سامي الأخلاق، كريم الصفات، على جانب كبير من الدعة، واللطف، والإقدام، والكفاءة الشخصية، ورجاحة الفكر.
أجزل الله عليه السعادة والصحة وأكثر من أمثاله العاملين.
ترجمة صاحب العزة السري الوجيه محمد بك رفاعة
حضرة صاحب العزة السري الوجيه محمد بك رفاعة كبير وجهاء بندر طهطا مديرية جرجا ومن عظام رجال الماسونية.
كلمة للمؤرخ
رجل فذ ومن نوابغ الأمة المصرية، ونجل فقيد المروءة والإحسان بدوي بك رفاعة من أكبر ثراة صعيد مصر وأحد رجالها المعدودين المشهود لهم بطهارة الذمة وحسن السمعة، وجده لأبيه هو المغفور له رفاعة بك رافع الكبير المشهود له بالعلم الغزير، والجاه الرفيع، وصاحب الترجمة يعد بلا جدال من عظماء رجال الماسونية، وليس في مقدورنا أن نأتي هنا بجميع ما بذله من المال الوفير على نهضتها ورقيها، وما كان منها لوجه الإحسان ومساعدة من أخنى عليهم الدهر بما يوحي إليه شريف وجدانه وعواطفه.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة ببندر طهطا عام 1871، وتربى التربية المنزلية العالية في وسط بيئة صالحة، ولما أن شب عن الطوق أدخله المرحوم والده مدارس اليسوعيين، ثم انتقل إلى مدرسة المعلمين فكان مضرب المثل في الجد والذكاء.
ولما كان المرحوم عمه العالم الجليل علي باشا رفاعة وكيلا لوزارة المعارف وقتئذ، فقد تلقن المترجم على يديه اللغة العربية، وعلم البيان حتى تبحر فيهما، وقد شب متحليا بصفات عالية، ومناقب سامية أفادته فائدة تذكر عندما عين أستاذا بالمجمع الماسوني الأعظم الذي تدرج في سمو رتبه، حتى نال أعلاها وهو ركن متين من أركانها، كما أنه يعد من الرجال المعدودين في الهيئة الاجتماعية.
ومن مآثره الخالدة التي ندونها بقلم الفخر والإعجاب أنه عندما أراد جلالة الملك فؤاد الأول زيارة عواصم بلاده، وشرف بندر طهطا لوضع الحجر الأساسي للمستشفى عام 1921م، أوقف حضرة صاحب الترجمة أربعين فدانا من أجود وأخصب أطيانه على هذا المستشفى، غير التبرعات المالية الأخرى التي جاد بها لإتمامه وزخرفته.
وقد تبرع لجمعية الهلال الأحمر بمبلغ ألف جنيه مصري عام 1912، وبمبلغ يربو عن الخمسماية جنيه مصري لجمعية الصليب الأحمر، وذلك إبان الحرب الأوربية الكبرى هذا فوق ما تبرع به للمعهد العلمي بأسيوط ومدرسة الصنائع بسوهاج ومدرسة البنات بها، ومدارس البنين والبنات بطهطا وله غير ذلك كثير من التبرعات في أعمال علمية وأدبية مختلفة، يرى من ورائها الخير والنفع للبلاد.
وقد اقتدى هذا الشهم الكريم بآبائه وأجداده العظام في عمل البر ومساعدة البؤساء وسبقهم في الجود والكرم.
صفاته وأخلاقه
وإن كان صاحب الترجمة يعد من سراة رجال مصر، ومن أغنيائها العظام وأشرف الأسر حسبا، ونسبا، وفرعا، فله صفات جليلة يمتاز بها عن كثيرين، فقد حاز منزلة لا تداني في الهيئة الاجتماعية بوجه عام ورفعة ومقاما بالمجمع الماسوني الأعظم بوجه خاص، وجمع بين الكرم واللطف ودماثة الخلق، والعلم الغزير والأدب الجم.
أدامه المولى وأبقاه ومتعه بالصحة والهناء، وأكثر من أمثاله بين عظماء الأمة لرفع شأن البلاد ونفع العباد.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل أمين بك الملواني
من وجهاء مديرية الغربية
كلمة للمؤرخ
من أفراد الأمة الذين امتازوا وتفردوا بالنبوغ الفطري في الشؤون الزراعية، وخبروا شتات أمورها بأنفسهم، وذاقوا حلاوة مجهوداتهم هذا الشهم النابغ صاحب هذه الترجمة الذي ابتعد عن الأوطان ردحا من الزمن؛ طلبا لزيادة علومه الزراعية وعاد لبلاده حاصلا من المعلومات القيمة على ما يفيد مواطنيه الكرام، وقد شهد له عارفوه بالكفاءة التامة والمقدرة وسعة الإطلاع.
حضرة صاحب العزة السري الجليل أمين بك الملواني.
مولده ونشأته
ولد في 25 أكتوبر سنة 1884 بناحية ميت حبيش القبلية مركز طنطا عربية، وهو من بيت المجد الأثيل والأصل النبيل سهر أبوه على تربيته التربية المنزلية السامية، التي تعتبر النواة والبذرة الصالحة التي تنبت خير نبات، وتأتي بأحسن الثمرات ولما أتم تلك التربية وبدت عليه سيماء الذكاء التحق بمدرسة طنطا الأميرية، فكان مثال الجد والاجتهاد وظهر عليه الاهتمام بالدرس، والتفوق على الأقران، ثم انتقل إلى مدرسة الناصرية فكان موضع إعجاب معلميه وأقرانه، حتى إنه كان لا يمر يوم إلا وينال من ثناء معلميه، وتشجيعهم إياه ما يجعل الأذكياء يقتدون به حبا في التشبه؛ ليكون لهم من الحظ في الثناء بعض ما يناله يوميا، ثم انتقل إلى مدرسة رأس التين فكان ذلك الطالب المجد والتلميذ المثابر على العلم حتى التحق بكلية أكفيلد الزراعية بإنجلترا، فضرب المثل الأعلى في بلاد الغرب على نبوغ الشرقي، ورفع رأس مصر عاليا بين الشعوب الراقية وعاد إلى الوطن ليفرغ قصارى جهده، ويقدم بعض خدماته له فاختار لنفسه طريق الزراعة؛ لأنه الطريق الموصل إلى نمو ثروة البلاد؛ لعلمه أن الزراعة ينبوع حياتها ومحط ثروتها، فباشر أعمال مزارعه الخصوصية الواسعة بجهة بلدة ميت حبيش الشهيرة بالملوانية، وبجهة دسوق من أعمال مديرية الغربية وسهر على تنظيم تلك المزارع الواسعة، وإنماء ثروتها حتى أصبح يضرب بجودة محصولها المثل، وكان لا يألوا جهدا في جمع العمال وبذل النصائح الغالية لهم وإرشادهم إلى ما يعود بالفوائد الجمة على الزراعة، وبفضل حزمه وسديد رأيه، وبعد نظره ويقظته كانت تلك النتيجة الباهرة التي أدهشت الأخصائيين في الزراعة، وكثيرا ما تحدث مع إخوانه المزارعين بالطرق الموصلة لإنجاح مزارعهم، فأنعم بتلك النفس العالية وبمحبة النفع للمجموع كما يحبه لنفسه.
وهناك على بعد أربعة كيلو مترات شرق مدينة طنطا توجد بلدة ميت حبيش، حيث يرى الناظر قصرا فخما ذا بابين أحدهما غربي أمام الترعة الجعفرية وبه حديقة غناء، وروضة فيحاء، حوت من الأزهار والثمار ما يجلو النواظر ويسر الخاطر ويبعث السرور إلى فؤاد الناظر - هناك يرى أعاجيب القدرة العلمية والخبرة الفنية في وضع الرسوم الزراعية بطريقة هندسية، وتأخذه الدهشة من عظم السرور لما حوته تلك الحديقة البديعة من حسن التنسيق، ويتوهم الجالس في وسطها أنه في جنة الخلد التي وعد بها الله العاملين المخلصين - وفي وسط تلك الحديقة يجد الناظر سلاملكا من أفخم المباني وأحدثها طرازا ، ويجد الصالونات البديعة المفروشة بأفخر الرياش وأغلى الأثاث، وفيها معدات الراحة التامة للوافدين من الضيوف والزوار.
ويرى الناظر أمام الباب البحري لذاك القصر الفخم حديقة أخرى غاية في الأهمية، وجمال التنسيق وحسن الوضع الذي يتم عن سلامة الذوق، وبراعة ناسقها مما لا يقل عن سابقتها.
ذلك هو القصر المعد لزوار تلك العائلة العريقة في الحسب والنسب والجاه العريض، ألا وهي عائلة الملواني رفيعة العماد وكذا يقصده زوار حضرة صاحب العزة شقيقه الأمثل إسماعيل بك الملواني، وهو عمدة الناحية فإذا لم يجدوه يقصدون قصر صاحب هذه الترجمة، حيث يقابلهم بما يليق من أنواع التجلة والإكرام والجود الحاتمي، فيجدون الأصل مجتمعا والفرع مرتبطا يضمها مكان واحد، ويظلها شرف العائلة التي ترسل ظلها فيستظل به الحادي والبادي.
وكما أن الضيوف تنزل حي الملواني على الرحب والسعة، وكما أنها لا تشعر في أيام إقامتها إلا بكل راحة وهناء، حتى إذا ما أزمعت على الرحيل وجدت تلك الركايب من جياد مطهمة وعربات مجهزة، وكل ما يضمن لها الراحة أثناء انتقالها حتى لا يتأثر من وعثاء السفر ومشقة الانتقال.
ومما هو جدير بالذكر ومن باب التدليل على تلك النفس العالية، التي تجمل بها حضرة صاحب العزة أمين بك الملواني الشهم الجليل صاحب هذه الترجمة أنه نظرا لسداد رأيه، وعظيم كفاءته، وجليل صفاته، قد رشحه أهالي دائرته ليمثلهم بمجلس النواب ونظرا لظروف سياسية واشتغاله هو شخصيا بأشغال مزارعه الكثيرة، وتفرغه لخدمة مصر العزيزة من طريق الزراعة، فقد فاز عليه مزاحمه السياسي في الانتخابات، فلم يتكدر لذلك، بل كان يقيم للناس جميعا الدليل القاطع والبرهان الساطع بالعمل على أنه ممن يؤثرون على أنفسهم العمل إلى ما فيه خير بلاده، وإسعاد مواطنيه وهو خارج عن دائرة مجلس النواب أكثر مما لو كان فيه.
صفاته وأخلاقه
جواد، كريم، دمث الأخلاق، يحب الخير حبا في عمل الخير لا ابتغاء جزاء ولا شكر، كثير الخدمات للإنسانية، رءوف بالضعيف المسكين، كثير الشفقة والعطف، يفضل تضحية النفس في سبيل المصلحة العامة، أبقاه الله للوطن معينا وللإنسانية نصيرا.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الجليل والشهم الهمام محمد بك عبد الحميد إسماعيل
كبير أعيان مديرية الغربية بمنشية جنزور مركز طنطا غربية
كلمة للمؤرخ
يظن البعض أنه لا توجد الراحة والسعادة والهناء وحسن المستقبل إلا بطرق باب التوظف بدوائر الحكومة، ومتى قفل هذا الباب في وجههم أحجموا عن طرق الأبواب الأخرى وشملهم اليأس، وهذا خطأ محض إذا قيس بهمة ذوي الهمم الذين اتخذوا لهم من مختلف الأعمال الشريفة الحرة سلما للوصول إلى قمة المجد، وبلغوا شأوا عظيما في المجتمع الإنساني أمثال حضرة صاحب هذه الترجمة الذي بكده، ونشاطه وحسن إدارته، وصل إلى درجة يحسد عليها من كثيرين، وإننا لنسطر هنا بقلم الفخر والإعجاب الشديد ما نعلمه يقينا وصدقا عن بعض مجهوداته الفائقة، عسى أن يكون في تدوينها عظة لأولئك الذين يتطلعون إلى المناصب الحكومية.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة بإبعادية المرحوم والده بمنشية جنزور، مركز طنطا غربية عام 1893م من أبوين كريمين شريفين، ووالده هو المغفور له المرحوم إسماعيل بك حماد أبو عامر، كبير وجهاء مديرية الغربية ومن أحسنهم وأفضلهم ذمة واستقامة فرباه تربية عالية، حيث استحضر له أساتذة أكفاء بعزبته المشار إليها، فحصل منهم على مبادئ العلوم المدرسية الأولية ومن ثم أدخله والده المدارس الابتدائية الأميرية، فأبدى نشاطا وذكاء غريزين وقد كان في نية المرحوم والده لو أفسح الله في عمره أن لا يألوا جهدا في تثقيف مداركه بالعلوم العالية؛ نظرا لما توسمه فيه من الميل لارتشاف بحورها، ولكن خاب ظنه إذ عاجله المنون قبل أن تتحقق آماله السامية نحو ترقية ابنه، ولكن سرعان ما تحققت آمال أخرى جاءت من طريق الجد والنشاط والإقدام، وبفضل ذاك الذكاء المتوقد والقريحة النيرة.
حضرة صاحب العزة السري الجليل محمد بك عبد الحميد إسماعيل من وجهاء مديرية الغربية.
إذ ما كاد الفقيد الراحل يتوارى في رمسه، ويدرك حضرة صاحب الترجمة حرج الموقف حتى شمر عن ساعد الجد، وأخذ في إدارة شؤون أطيانه الواسعة المتروكة عن المرحوم والده، سواء الموجود منها بطنطا أو ببلدة منشية جنزور التابعة لمركز طنطا غربية، بهمة لا يعتورها ملل، وعزيمة لا يتسرب إليها كلل، فازدهرت وتضاعفت وليس ذلك بفضل همة المجدين بعزيز، ونال فوق ذلك احترام وإعجاب جميع عارفي فضله وسمو تربيته، ولما انتخب حضرة صاحب العزة شقيقه حماد بك إسماعيل عضوا بمجلس النواب المصري عام 1924م، وهو عمدة لبلدة منشية جنزور ولم تجد الأهالي من الأهالي من يصح لإسناد هذه الوظيفة سوى صاحب الترجمة؛ لما عرفوا فيه من الكفاءة الشخصية والأدبية أجمعوا على تعيينه عمدة عليها، فكان في مركزه هذا مثال الجد والنزاهة والعدل.
ومن مآثر المرحوم والده الخالدة التي يصح تدوينها في بطون التاريخ بقلم الشكر، والثناء، والإعجاب، إنشاؤه مدرسة ابتدائية ضمت بعد وفاته لمعاهد مجلس المديرية، وهذه المدرسة كائنة بمنشية جنزور، وقد شاد أيضا مسجدا فخما لإقامة الشعائر الدينية وأطلق عليه مسجد حماد وله حسنات عديدة في الخير لا تدخل تحت حصر، كما قد اشترى حضرة صاحب الترجمة سراي فخمة جمعت جمال البناء، وغالي الأثاث مما يبهر العقول وهي واقعة على الترعة الجعفرية بطنطا.
صفاته وأخلاقه
وصاحب هذه الترجمة رغما من غناه الوافر وثروته الضخمة، وجاهه العريض تجده آية من آيات اللطف، والدعة ومكارم الأخلاق، والأدب الجم، رءوفا بالفقراء، جوادا كريما، معضدا لكل مشروع خيري يرى منه فائدة لبني وطنه.
أدامه الله وأبقاه وأكثر من أمثاله النبلاء.
ترجمة فقيد الهمة والنشاط والإقدام والوطن صاحب السعادة الجليل المرحوم محمد الشناوي
باشا
كبير أعيان مديرية الدقهلية
من رجال مصر المعدودين الذين امتازوا بالجد والنشاط والإقدام وحسن الإدارة والكفاءة الشخصية، وجمعوا بين الوجاهة والنبل والثروة المغفور له محمد الشناوي باشا كبير أعيان ووجهاء المنصورة، فقد كان، رحمه الله رحمة واسعة أحد الأفراد الذين ترقى الأمم بمثلهم، وتحيا بهممهم.
صاحب السعادة الجليل المرحوم محمد الشناوي باشا.
مولده ونشأته
ولد الفقيد العظيم عام 1856م بمدينة المنصورة من أبوين شريفين، ربياه في مهد العز والمجد فنشأ نشأة الرجال العاملين الحازمين، فأخذ يجاهد ويناضل في ميدان الحياة فكان فيها من المفلحين.
لقد كان للفقيد أطيان واسعة تدر عليه الخير الوافر، فكان في استطاعته أن يعيش من ريعها كما يعيش المسرفون المبذرون وهم كثيرون في هذه البلاد، ولكنه لم يفعل بل رأى أن العمل أوجب على الأغنياء منه على الفقراء؛ لأن ما يستطيعه أولئك لا يستطيعه هؤلاء، ولعمري لا نجاح للأعمال بغير المال وهو غير متوفر إلا في خزائن ذوي الإثراء.
رأى الفقيد الراحل أن الديار المصرية وإن كانت زراعية، بفضل نيلها وخصب تربتها قبل كل شيء إلا أنها في حاجة إلى الصنائع يرزق منها العاملون، وتحفظ للبلاد ثروتها التي تستهلك على الأكثر من طريق الصناعة، رأى هذا وهو شاب فعكف على الصناعة حبا بها، وبخير العمال لا حبا في الكسب من ورائها وإن كان لا يكره الكسب إنسان.
والغريب في أمر الفقيد العظيم انصرافه إلى إتقان الصنائع التي تعاطاها كانصرافه إلى إتقان زراعة أطيانه الواسعة بنفسه، فهو نابغ في الصناعة والزراعة معا، ولا عجب إذا نمت ثروته نموا كبيرا، ونال مواطنوه بواسطته الخير الكثير، ولقد قسم صاحب الترجمة معامله الكائنة ببندر المنصورة دقهلية إلى معمل لصناعة الحلوى وآخر للدقيق وثالث لحلج القطن ورابع للأرز، وزائر هذه المعامل يدهش لإتقان هذه المعامل فيما يصنع من الملبس على اختلاف أنواعه، والنوع المعروف باسم «فوندان» على أشكاله وأنواعه الحلقوم بأصنافها.
وما يخرجه معمله من هذه الأنواع لا ينقص في لذته وجمال صنعه عما يرد من أشهر معامل أوربا، وربما زاد عليها بنقاء المواد التي يصنع معها، وقد نشتري من المحال الأوربية من هذه الأنواع وندفع الأثمان الغالية، ونحن نحسب أنها صنعت في أوربا مع أن حقيقتها أنها من صنع هذا الوطني النشط النابغة، وما نقوله عن الحلوى نقول مثله عن الدقيق، فإن ما يصدر منه من معمل الشناوي لا يقل في نعومته ونقاوته عما يرد من أشهر وأكبر المعامل الأوربية، ويزيد أنه خال من كل غش بمادة غريبة، وكذلك القول في القطن المحلوج والأرز المدقوق اللذين يصدران من معمل الشناوي بإتقان غريب وصنع عجيب، وعدا ذلك ففي معامله أيضا معاصر خاصة لزيت السيرج والطحينة من أنقى وأنظف المعاصر.
والذي زادنا إعجابا بهذا الراحل العظيم أنه كان مع حضرات أنجاله النجباء، يديرون أعمال هذه المعامل والمعاصر بأنفسهم، وقد خبروا أسرار صنعها ونبغوا فيها وقد أذكرنا اهتمامهم هذا بما نقرأه عن تراجم مشاهير المثرين من رجال الغرب، تغمده المولى برحمته الواسعة وبارك في حضرات أنجاله الكرام.
وللفقيد العظيم صاحب هذه الترجمة مقام ممتاز ملؤه الاحترام والإجلال لدى مواطنيه؛ لما عرف به من الكرم والنزاهة والاستقامة والإخلاص في النصيحة وسداد الرأي؛ ولذلك كان يعول عليه مديرو الدقهلية ويرجعون إلى آرائه السديدة في إدارة مديريتهم لهذا النبيل، ويعول على آرائه في كثير من الشؤون التجارية وغيرها، وقد نالت مديرية الدقهلية منتهى الرقي بفضل عظيم آرائه السديدة وفرط ذكائه.
والذي يجب التنويه إليه عن خصال هذا الفقيد الجميلة، ويخلد لسعادته بالشكر والثناء أنه على جانب عظيم من العطف المتناهي نحو البؤساء الذين أخنى عليهم الدهر بنابه، وطالما مد يده البيضاء لمواساة الفقراء، وأنقذهم من مخالب الفاقة وقد شب أنجاله الكرام على هذه الصفات السامية المحمودة، ولا غرابة في ذلك فمن شابه أباه فما ظلم.
صفاته وأخلاقه
ومن الصفات العالية التي امتاز بها هذا الفقيد العظيم والمشهورة عنه الحزم، وقوة الإرادة، والنشاط والإقدام في العمل مع الذكاء، ولين الجانب، واللطف، وقد انتقل إلى جوار ربه طيب السيرة، نقي السريرة محبوبا من الجميع.
أسكنه الله فسيح جناته، وأسكب على قبره شآبيب الرحمة والرضوان وأطال حياة أنجاله الكرام.
ترجمة حضرة صاحب العزة الشهم الجليل والسري الكبير نصيف بك حنا ويصا
مقدمة للمؤرخ
ليس لنا أن ندلي بآيات المدح والثناء، وتوجيه عبارات الفخر والإعجاب، على ما لهذا الشهم الجليل من الأثر الخالد والعمل المبرور في كل أدوار حياته بأكثر مما يعلمه المصريين قاطبة من كفاءته الشخصية، وأدبه الجم، وعلمه الغزير، ومشروعاته الخيرية العديدة، وحسناته المتوالية لدور العلوم، والمستشفيات، وتبرعاته التي لا حد لها لكل عمل مفيد لبلاده، وإذا نحن أخذنا في تعداد هذه الأعمال الخالدة لاحتجنا إلى مجلد ضخم نضم بين دفتيه الشيء الكثير عن هذا السري الجليل من جلائل الأعمال، والأثر المحمود ابتغاء مرضاة الله لا حبا في الفخفخة والظهور فهو غني بماله، وجيه بسمو مركزه في الهيئة الاجتماعية، ولقد أدرك عزته أن الأعمال الصالحة عند الله تعالى خير طريق للوصول إلى السعادة في الدارين، فحذا حذوا العاملين بإخلاص واقتدى بأولي الفضل والنبل، فاستحق رضى الرحمن وحب واحترام جميع مخلوقاته - وفي هذا فليتنافس المتنافسون وليعمل العاملون.
حضرة صاحب العزة الشهم الجليل والسري الكبير نصيف بك حنا ويصا كبير وجهاء بندر أسيوط.
مولده ونشأته
هو نصيف بك حنا ويصا، ولد ببندر أسيوط عام 1877م من أبوين كريمين، يشهد بسمو مكانتهما ما لتلك الأسرة العريقة من النبل، وبعد الصيت وحسبه فخرا أن يقال من أسرة ويصا وكفى ، وكلنا نعلم ما لتلك الأسرة من المقام الجليل، والاهتمام العظيم بشؤون تربية أبنائها وخدماتها العظيمة للمصلحة العامة.
اهتم والده بتربيته التربية المنزلية الحقة، فكانت مخايل النبل والذكاء تبدو على محياه من عهد الطفولة، فلما ترعرع التحق بكلية الآباء اليسوعيين، فسار في طريق التعليم فيها بخطوات واسعة، وهمة عالية، وذكاء نادر، أدهش معلميه وأقرانه ثم انتقل إلى مدرسة الفرير بالإسكندرية فتضاعفت جهوده في دروسه، ورأى فيها خير غذاء لروحه السامية ونفسه العالية فكان مثال الجدارة بكل احترام، ثم انتقل إلى كلية الأمريكان ببيروت فكان خير مثال للنبوغ المصري في تلك الكلية، وبما أن والده وعمه قد أسسا معملا لتكرير السكر بناحية بني قره، وأحضرا له من المهندسين الفرنسيين أبرعهم، فقد عهد إليه بإدارة المعمل العظيم فأظهر من المقدرة ما كان موضع إعجاب الأجانب قبل المصريين، فكنت لا ترى إلا النظام المحكم والأعمال السائرة بكل دقة ونشاط، والرقي المحسوس في اضطراد والنمو في الثروة يبدو ويتقدم يوما عن يوم، ولما شرع والده وعمه في مد سكة حديد الفيوم الضيقة رأيا أن يجعلاه أحد مديري هذه الشركة العاملين حتى لا تحرم من سديد آرائه، وحكمته، وهمته، فيضمن نجاحها وفلاحها.
وقد أخذ أيضا في إصلاح طرق الزراعة في مزروعاته الواسعة، فادخل عليها الطرق المستحدثة لا سيما في تحسين زراعة القطن الذي تتوقف عليه ثروة مصر، فأمكنه أن يقدم لوطنه أجل الخدمات التي يخلدها له التاريخ بمداد الفخر، ناهيك بما أتاه من ضروب الإصلاح في أبعاديته الكائنة بناحية صنبو مركز ديروط، وما اقتصرت همته على ذلك فحسب، بل اهتم أيضا بخدمة وطنه من طريق العلم فرقي بالكلية التي أسستها أسرته الكريمة ببندر أسيوط حتى أصبحت بفضل إشرافه عليها تضارع كليات المدن الأوربية من حيث النظام، وغزارة مواد التدريس، وكفاءة الأساتذة.
هذا وقد تبرع ببذل الأموال الطائلة لمساعدة الجمعية الخيرية القبطية بمصر وأسيوط، وقد لا تجد عملا من الأعمال إلا وتراه أول القائمين به، ومن مميزاته الأخلاقية أن يعمل الإحسان حبا في الإحسان لا يبتغي من ورائه جزاء ولا شكورا، وإنما يرى نفسه ترتاح للقيام بالواجب المقدس المفروض عليها نحو الوطن.
ونحن هنا لا يمكننا أن نوفيه حق الشكر والثناء، بل كل ما في طوقنا أن نضرع إلى الحق تعالى أن يمن عليه من الخلف الصالح بما تقر به عينه إنه سميع مجيب.
صفاته
دمث الأخلاق، رقيق الشعور، يهتم بأمر البؤساء والمساكين، كأنه لم يخلق إلا لتلطيف بلواهم، مقدام في فعل الخير، يبذل عن سعة فيما يعود بالمصلحة العامة على البلاد والعباد.
أدامه الله كنزا لمصر ولا أحرمها من جليل خدماته.
ترجمة فقيد الشهامة والمروءة السري المشهور المرحوم بسطورس بك خياط
كلمة للمؤرخ
من أفراد الأمة المصرية الذي امتازوا بطهارة الذمة والجد في العمل بإخلاص، وعملوا لدينهم وديناهم وخافوا الآخرة، فكانوا في دنياهم مثال الورع والزهد، واللطف والاستقامة، هذا الفقيد الجليل الذي ترك بعد مماته أثرا خالدا وذكرى عاطرة وثروة طائلة، وشهرة واسعة، خصوصا لما اشتهر عنه من الحسنات الخفية التي كان يقدمها بنفسه لكثير من العائلات الطيبة التي أخنى عليهم الدهر، وتثليج صدورهم بألفاظه العذبة وتواضعه المتناهي مع ما هو فيه من الجاه العريض والثراء المفرط، وقد كان يوم منعاه يوما عبوسا حيث عم الحزن والأسف، وتصاعدت الزفرات من أولئك البؤساء الذين كانوا يرتعون في بحبوحة من الهناء في أيامه، فالله نسأل أن يثيبه خيرا بقدر عدد حسناته، ويجعل مثواه الجنة ويحفظ حضرة نجله الشهم الجليل أمين بك خياط، الذي حذا حذو الفقيد بكل معني الكلمة فأصبح مثالا للفضل والمروءة.
فقيد الشهامة والمروءة السري المشهور المرحوم بسطورس بك خياط كبير وجهاء بندر أسيوط ووكيل قنصلاتو ألمانيا بها سابقا.
مولده ونشأته
ولد الفقيد الجليل عام 1852م ببندر أسيوط، وهو ابن الخواجه واصف بن الخواجه جرجس خياط وهي العائلة التي حازت شهرة واسعة في كافة الأقطار، فاعتنى والده بتربيته وتثقيف مداركه؛ ليصبح يوما ما شريكه في حياته العملية، فأدخله بمدرسة الأمريكان بأسيوط وهو في العاشرة من سنه فأقام بها خمسة أعوام، أتم في أثنائها الدراسة الابتدائية، ومن ثم أرسله إلى بيروت ليتمم دراسته بكلية الأمريكان الشهيرة، وقد كان أول مصري فاخرت بذكائه تلك الكلية، ومما يجمل ذكره هنا أنه كان زميلا في الدراسة لجناب الدكتور فارس نمر أحد أصحاب جريدة المقطم، وكانا في صف واحد ومن رفاقه الأعزاء، وبفضل ذكائه ونشاطه أمكنه أن يدرس اللغة الفرنسية والإنجليزية والعربية، وأن ينال دبلوم هذه الكلية الراقية في مدة أربع سنوات.
وقد عاد إلى موطنه الأول، فرأى أن الأشغال الحرة طريق من سلكه وصل إلى سدة علياء، وحصن منيع يستطيع أن يأمن على وطنه العزيز من وطأة الدهر الشديدة، فاشتغل بالتجارة واستعمل قوة عارضته في منفعة قومه ومواطنيه، واتسع نطاق عمله حتى واصل أعماله التجارية بالقطر السوداني، فأصبح يصدر البضائع إليه وكذا الجهات القبلية، فأدرك ما أمل، وبعد خمس عشرة سنة اعتزل التجارة، واشتغل بالزراعة فكان قدوة للغير في الأعمال الزراعية، ثم رأى أن العلم هو السبب الأقوى لوصوله إلى هذه المنزلة السامية، ورأى أن مدرسة البنات التي أسسها المرحوم والده تشترك العائلة في إدارة شؤونها، فأخذ على عاتقه القيام بما يلزمها والاعتناء بها والإنفاق عليها من ماله الخاص.
وفي سنة 1880م تعين وكيل قنصلاتو ألمانيا في أسيوط، وفي سنة 1911م أنعم عليه برتبة المتمايز.
وانتقل إلى دار البقاء في 15 سبتمبر سنة 1915م بعدما خلد له التاريخ أجمل ذكر، وترك في الحياة أثرا من أعمال خيرية وبر بالفقراء وحزم وإقدام، وكان في طليعة عشاق الأعمال الخيرية في الديار المصرية، مات ولكنه لم يمت حيث أنجب حضرة صاحب العزة أمين بك خياط، فنهج منهج المرحوم والده وسلك سبيل أعماله النافعة.
صفاته وأخلاقه
كان الفقيد رحمه الله على جانب عظيم من الوداعة وكرم الأخلاق، واللطف رقيق الإحساس، طيب السيرة والسريرة ما رأى قط بائسا طرق بابه إلا وغمره بإحسانه وطيب خاطره وشمله برعايته، أسكنه الله فسيح جناته وجعل الجنة مثواه.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري الوجيه أمين بك خياط
كبير أعيان بندر أسيوط
كلمة للمؤرخ
حقا لقد صدق المثل القائل: «إن هذا الشبل من ذاك الأسد»، فإن حضرة صاحب الترجمة أعزه الله وأبقاه عنوان فخر للشبيبة المصرية حيث أودع الله في نفسه العالية صفات سامية وأخلاق عالية وهمة شماء، ويكفيك فعاله الغراء ومآثره الفيحاء فكم له من عمل مبرور ومشروع مشكور، وهاهي حسناته وتبرعاته المتوالية للجمعيات الخيرية والمستشفيات وغيرها تنبئ بأنه شهم غيور وأديب مشهور.
صاحب العزة أمين خياط.
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة في بندر أسيوط سنة 1900م، وتربى في أحضان والديه تربية صالحة، ولما بلغ أشده أدخله مدرسة الأمريكان بأسيوط فاغترف من بحور علومها، وارتشف كؤوسها العذبة بهمة لا تعرف الملل ونشاط لا يعتوره كلل، فكان بين الطلبة مثال الذكاء والاستقامة محبوبا جدا من عموم أساتذته، محترما بين أقرانه ومن ثم أرسله إلى المدارس والكليات العالية، فأتم علومه فيها، ولما كان الوحيد لوالده وفي حاجة عظمى لمن يعاونه على إدارة شؤون دائرته الكبرى، وأطيانه الواسعة، فقد أخذ في تمرينه على هذه الأشغال طويل زمن حتى أصبح ملما بكل شاردة وواردة، وحل محل المرحوم والده في إدارة أعماله جميعها، فذاع فضله واشتهر كرمه بما كان يجود به من وقت لآخر بالأموال الطائلة على البر والإحسان، إلى أن بلغ مسامع جلالة مولانا المليك المعظم، فأنعم عليه بالرتبة الثانية جزاء فضله وشهامته.
ولحضرة صاحب الترجمة ولع شديد في اقتناء ثمين الجياد، وله في اصطبلاته الكثير منها لا سيما ما كان منها للسبق في مصر والإسكندرية، حتى اشتهر بالربح في مضمار السبق.
وبالأجمل فحضرته آية في الدعة واللطف، ومكارم الأخلاق، جواد كريم، محب للفقراء والبؤساء، أدامه الله وأبقاه وأكثر من أمثاله النبلاء بين شباب مصر العاملين على رفع لواء شأنها.
ترجمة أمير الشعراء أحمد شوقي بك
مقدمة للمؤرخ
هو ترجمان هذا الجليل وبوقه، وهو مزهر تبعث منه الطبيعة رناتها وتخرج منه الإنسانية أناتها، ظريف الوزن، لطيف القافية، خاطره طوع لسانه وبيانه أسير بنانه.
أدب شوقي
قبل أن ينبثق عصر الديمقراطية في أوربا كانت الفنون الجملة، وبخاصة الرسم والنحت مقصورة على الأمراء الذين كانوا يصطنعون رجال الفن يصورونهم وينحتون تماثيلهم، ولا تزال هذه الرسوم والتماثيل ذخرا عظيما في ثروة أوربا الأدبية، ولم يعرف العرب في عهد الإسلام معنى الديمقراطية، ولم يكونوا أيضا يعرفون التصوير أو النحت؛ ولذلك اصطنع أمراء الإسلام الشعراء وجعلوا الشعر وقفا على مديحهم وتزكيتهم، وليس يجهل أحد عظم الثروة التي خلفوها لنا عن هذه السبيل، ولم يكن بد ونحن في بداية نهضتنا أن نجري على أصول السلف وتقاليدهم.
أمير الشعراء أحمد شوقي بك.
فكما كان المتنبي شاعر سيف الدولة كذلك صار شوقي شاعر الخديوي، فألف فيه غرر القصائد جمع فيها من الحكمة، وموسيقى الألفاظ، وجلال المعاني، ما هو جدير بالخلود وأن يعجب به الخلف البعيد كما نعجب نحن بأشعار المتنبي.
وأحسن ما قاله شاعرنا العظيم، ما خرج فيه عن قيود التقليد، أما حيث يقلد فخياله عربي كقوله:
ريم على القاع بين البان والعلم
أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا
يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
ولكن له قصائد يتجلى فيها الخيال الغربي وما اكتسبه الشاعر من قراءته في الأدب الفرنسي، ويمتاز شوقي بالإبداع في المعنى والإعراب في اللفظ.
ولكن سمة شوقي الخاصة التي يمتاز بها على كثير من الشعراء هي أمانته ، فهو يمدح عندما يحب ولا يبتسم بشفتيه إلا إذا كان قلبه مفعما بالفرح، ولا يرثي إلا عن حرقة ولوعة، ولو لم تغنه ثروته عن التدني لأغناه طبعه.
مولده ونشأته
ولد شوقي بالقاهرة سنة 1868م ودخل مدرسة الشيخ صالح وهو في الرابعة من عمره، ثم انتقل إلى المبتديان فالتجهيزية والتحق بمدرسة الحقوق وهو في السادسة عشرة، ثم أنشئ بهذه المدرسة قسم للترجمة فالتحق به ونال بعد سنتين الشهادة النهائية في فن الترجمة، ثم أرسله سمو الخديوي السابق على نفقته لإتمام دراسة الحقوق في مونبيليه في فرنسا، وزار في هذه المدة الجزائر وإنجلترا، وفي سنة 1896م ندب لتمثيل الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين في مدينة جنيف، ثم عين رئيسا للقلم الإفرنجي بمعيه سمو الخديوي السابق عباس حلمي الثاني، وبقي في هذا المنصب حتى استقال منه عند خلع الحكومة الإنجليزية للخديوي، ثم طلبت منه السلطة العسكرية الإنجليزية أن يرحل عن مصر، فرحل منها إلى الأندلس وظل بها حتى نهاية الحرب، ومن ثم عاد للوطن العزيز.
مثال من نظمه «قال حفظه الله في النيل»:
من أي عهد فى القرى تتدفق
وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من
عليا الجنان جداولا تترقرق
وبأي عين أم بأية مزنة
أم أي طوفان تفيض وتفهق
وبأي نول أنت ناسج بردة
للضفتين جديدها لا يخلق
تسود ديباجا إذا فارقتها
فإذا حضرت اخضوضر الإستبرق
في كل آونة تبدل صبغة
عجبا وأنت الصابغ المتأنق
تسقي وتطعم لا أناؤك ضائق
بالواردين ولا خوانك ينفق
والماء تسكبه فيسبك عسجدا
والأرض تغرقها فيحيا المغرق
يعيي منابعك العقول ويستوي
متخبط في علمها ومحقق
مثال من نثره «قال أدامه الله عن الوطن»:
الوطن موضع الميلاد، ومجمع أوطار الفؤاد، ومضجع الآباء والأجداد، الدنيا الصغرى وعتبة الدار الأخرى، الموروث الوارث، الزائل عن حارث إلى حارث، مؤسس لبان، وغارس لجان، وحي من فان، دواليك حتى يكسف القمران، وتسكن هذي الأرض من دوران.
أول هواء حرك المروحتين، وأول تراب مس الراحتين، وشعاع شمس اغترق العين، مجرى الصبي وملعبه ، وعرس الشباب وموكبه ومراد الرزق ومطلبه، وسماء النبوغ وكوكبه، وطريق المجد ومركبه، أبو الآباء مدت له الحياة فخلد، وقضى الله ألا يبقى له ولد، فإن فاتك منه فائت: فاذهب كما ذهب أبو العلاء عن ذكر لا يفوت وحديث لا يموت.
ولشوقي ديوان هو «الشوقيات» جمع بين دفتيه بلاغة الشعر، وغزارة المادة، وجمال الأسلوب، ودقة القافية، مما لا يمكن لغير شوقي من الشعراء الإتيان بمثله.
صفاته وأخلاقه
كبير النفس، عالي الهمة، ظريف الحديث، سخي اليد يميل بكلياته لتعضيد الأدب، ومساعدة الأدباء، محترم الجانب كثيرا، محبوبا لدى عظماء الأمة وكبرائها؛ لغزارة فضله وسمو أدبه، حفظه الله وأدامه ركنا متينا في عالم الأدب.
ترجمة شاعر القطرين النابغ الفذ والعالم الكبير الأستاذ خليل مطران بك
مقدمة للمؤرخ
ليس بين سكان الشرق عامة، ومصر خاصة، من يجهل شاعر القطرين النابغ الفذ والعالم الكبير الأستاذ خليل بك مطران، فإن من لم ير ذاته فقد عرفه من نفسيته العالية التي تجلت في شعره، ونثره، وفي مختلف فنون الأدب الذي تبحر فيه الخليل وبلغ به أسمى الصفات، وأعلى المراتب، ونال مكانة لن تطال لغيره من الشعراء، والكتاب، فإن سمعة شاعرنا الجليل تغنى كل كاتب مهما كان قلمه سيالا عن الوصف، والشرح، واحترامه عند الكبير والصغير، لا نكران فيه ولا جدال.
ونعد أنفسنا مقصرين في تشخيص نفسية هذا الشاعر النابه، وتكييف تلك الصفات العالية التي تحلى بها وتحليل المواهب السامية الخاصة به، وذاك الوجدان الممتلئ شعورا حساسا، والقلب النقي الطاهر المجرد من كل شائبة، والنفس العالية، والإباء والشمم، نقول: إننا مقصرون حقا من الخوض في طرق هذه الصفات التي تحتاج بمفردها إلى مجلد ضخم وشرح وإسهاب.
ونكتفي الآن بتدوين تاريخ حياته المجيد، الناصع البياض، والذي نعده درة ثمينة في جبين هذا العصر وجوهرة غالية في هذا السفر.
مولده ونشأته
ولد خليل مطران سنة 1871 في بعلبك وقدم مصر سنة 1893م، فعرف صاحب جريدة الأهرام واشتغل مدة في تحريرها، ثم أصدر جريدة الجوائب وهي أول جريدة مصرية نشأت على النمط الحديث للصحف ، بل هي جاءت في الحقيقة قبل زمانها، فقد كان يكتب فيها كل يوم قصة كاملة، وكانت الأخبار تعنون بعناوين كبيرة في وقت كانت المقالات الكبيرة في الصحف الأخرى لا تعنون تقريبا أو تعنون بحرف صغير.
وقد أنشأ خليل بك مطران أيضا المجلة المصرية، وكان يعتني فيها بدقة التعابير اللغوية، والأبحاث الحديثة، وهو في كل ذلك لم يكن ينقطع عن تأليف القصائد والمقطوعات المؤلف منها ديوانه المعروف.
الخليل محسن
وليس الخليل بالشاعر المجيد، والثائر اللبق فحسب، بل هو أيضا مصدر للعطف والبر لكل من به آنة فتراه يتألم كثيرا من مرأى بائس يتوجع أمامه يشكوه مضض الحياة، ويود لو في مقدوره سد حاجة كل بائس أوقعه حظه في لجج التعاسة والشقاء، وطالما رأيناه يسعى على الأقدام لقضاء مهام أولئك الذين يطرقون باب مروءته حتى إذا ما تكللت مساعيه بالنجاح طفح البشر من مقلتيه كأنه أصاب مغنما عظيما لنفسه، ولقد صدق من أسماه عن حق «بخادم الإنسانية».
ونظرا لاختباراته الواسعة، وبعد نظره، وغزارة مادته العلمية، وكفاءته الشخصية اختير سكرتيرا عاما للنقابة الزراعية العامة، فتراه يعمل جهده مواصلا ليله بنهاره للمصلحة العامة، وقد نمت أعمال هذه النقابة نموا يضمن ثباتها ونجاحها بفضل حسن إدارة رجالها العاملين، وحسن اختباراتهم الزراعية، والاقتصادية.
وقد أنعم عليه سمو الخديوي عباس حلمي باشا الثاني السابق بنيشان المجيدي الثالث سنة 1912، وقد احتفل المنعم عليه احتفالا باهرا جمع فطاحل الشعراء ونبغاء الكتاب تحت رئاسة حضرة صاحب السمو الأمير الجليل محمد علي باشا شقيق سموه، وعددوا فضل المحتفل به ومركزه الأدبي، وغزارة علمه، ولولا ضيق المقام لأتينا بالكثير مما قيل في تلك الحفلة من الدرر الغوال فاكتفينا بالإشارة.
صفاته وأخلاقه
الخليل أديب بكل معنى الكلمة، ذكي الفؤاد حلو الحديث ظريف المعشر دمث الأخلاق، بل من أرق الناس حاشية لا يؤلمه المقت ولا يعرف الحقد، فهو واسع الصدر، سمير لا يمل، كثير التجارب، والاختبار.
مؤلفاته
ومن مؤلفاته كتاب في الاقتصاد الذي اشترك مع حافظ بك إبراهيم في ترجمته، وله عدة درامات مترجمة عن الفرنسية أشهرها درامة عطيل، ودرامة تاجر البندقية ودرامة مكبث، وله كتب أيضا لم تنشر بعد، وتضلع مطران في اللغة الفرنسية تضلعا قلما يساويه فيه غيره من الأدباء أو الشعراء الآن، وقد فسح أمامه ميدان الأدب الفرنسي وهو أغنى الآداب الأوربية في القديم، والجديد، ولو كانت الظروف تؤاتي مطران والزمان يسعفه لرأينا منه العجب، فهو قادر نشيط ذكي، ولعل ذكاءه هو الذي يجعله من المقلين، فقد سمعنا بعضهم يقول: إن الأغنياء من المؤلفين هم الذين يقدمون بضاعتهم حيث لا تطلب فالسوق كاسدة، والذكي يضن بذكائه أن يباع بالبخس.
حفظ الله حياته ومتعه بدوام الصحة والهناء.
ترجمة حضرة صاحب العزة شاعر مصر الكبير حافظ بك إبراهيم
كلمة للمؤرخ
يعد صاحب الترجمة بلا مراء من شعراء الطبقة الأولى في هذا العصر، وقد وصفه كثيرون من الأدباء فقال فيه أحدهم: إنه شاعر النيل، وفخر الجليل، وسيد الأدباء، وشاعر مصر، وقال آخر: إنه لظريف الوزن، لطيف القافية، خاطره طوع لسانه، وبيانه أسير بنانه.
وإن كان هذا الوصف، وتلك النعوت تنطبق حقا وصدقا في شاعرنا الكبير، فقد تكون في نظرنا أقل مما يستحق شاعرنا المجيد من ضروب النعوت ومختلف الوصف.
ولسنا هنا في مقام وصف أو مدح إنما واجبنا يحوم حول إثبات تراجم أفذاذ مصر من شعراء، وأدباء، وما لهم من آثار محمودة، وأعمال مشكورة؛ ليكون في إثباتها عظة لأبناء الأجيال القادمة، وخير مثال يحتذى، لبلوغهم درجة الكمال والمستوى اللائق بهم.
ولا يلومنا القارئ الكريم في هذا الاجتزاء والاختصار في الوصف والتطويل الممل في الشرح، ولنطرق بيت القصيد من غرضنا.
مولده ونشأته
هو محمد حافظ بك بن إبراهيم أفندي فهمي، ولد في القاهرة سنة 1871م وتعلم فيها ثم دخل المدرسة الحربية سنة 1890م، وترقى إلى رتبة ضابط في الجيش المصري وأرسل إلى السودان فصحبه فيها الدكتور إبراهيم الشدودي الرمدي الشهير، فكان بينهما مداعبات شعرية لطيفة.
حضرة صاحب العزة شاعر مصر الكبير حافظ بك إبراهيم وكيل دار الكتب المصرية.
هو محمد حافظ بك بن إبراهيم أفندي فهمي، ولد في القاهرة سنة 1871م وتعلم فيها ثم دخل المدرسة الحربية سنة 1890م، وترقى إلى رتبة ضابط في الجيش المصري، وأرسل إلى السودان فصحبه فيها الدكتور إبراهيم الشدودي الرمدي الشهير، فكان بينهما مداعبات شعرية لطيفة.
وفي سنة 1901 استقال من خدمة الجيش وعكف على المطالعة، والكتابة، والنظم، واتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وانتفع بصحبته.
وفي سنة 1911م عين رئيسا للقسم الأدبي في دار الكتب المصرية وهو الآن وكيلها، وفي سنة 1912 أنعم عليه الخديوي السابق عباس باشا الثاني بالرتبة الثانية، فاحتفل به إخوانه الشعراء والأدباء وهنأوه بها.
وللمترجم ثلاثة أجزاء من ديوانه المرسوم بديوان حافظ كما ترجم هو وصديقه شاعر القطرين خليل بك مطران كتاب «الموجز في الاقتصاد» بإيعاز من صاحب المعالي أحمد حشمت باشا ناظر المعارف الأسبق، وقد طبع في خمسة أجزاء وهو يدرس في بعض المدارس، وله من الكتب المدرسية أيضا كتاب في الاقتصاد، وجزآن من كتاب في التربية والأخلاق، واشتهرت ترجمته لكتاب البؤساء للكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هوجو.
نموذج من شعره: قال يصف جيش الأتراك:
يمشون في حلق الحديد إلى العدا
وكأنهم سد من الإنسان
وكأن مقدمهم إذا لمع الضحى
سيل من الهندي والمران
يتواقعون على الردى وصفوفهم
رغم الوثوب كثابت البنيان
فإذا المدافع في النزال تجاوبت
بزئيرها وتلاحم الجيشان
وإذا القنابل دمدمت وتفجرت
تحت الغبار تفجر البركان
وإذا البنادق أرسلت نيرانها
طلقا وأسباب الهلاك دواني
أبصرت جنا في مسالخ فتية
وشهدت أفئدة من الصوان
نموذج من نثره قال حفظه الله:
مثل البائس الذي سجلته يد المقادير في سجل العناء، وطوحت به في ظلمات هذا الوجود، فمضى يتخبط في ديجور الحياة، يؤمه النحس، ويمشى على أثره الشقاء، تلعب به الأيام لعب النكباء بالعود، ويدب في نفسه اليأس دبيب الآجال في الأعمار، كمثل الغريق ظفر به البحر الهائج في يوم ريح صرصر عاتية، فلبث معلقا في خيط من الأجل تحت شقي مقص الغناء، يفتح له الوهم بين كل موجتين قبرا، ويمد له الخوف بين كل قطرتين بحرا، يطفو به القدر ويرسب به القضاء، فتلتقفه الموجة بعد الموجة، وتلتقمه اللجة بعد اللجة.
وهكذا تجد البلاغة، والفصاحة، بين ثنايا شعره، وطيات نثره، مما يشهد بطول باعه، وبلاغة يراعه، في فن الأدب.
وصاحب الترجمة ليس بحاجة إلى المزيد من وصف فضله، وغزارة علمه، ووافر أدبه، وتشخيص نفسيته فهو كعلم على نار في الشهرة، بين طبقات الشعب المصري.
ونراه الآن وهو معتكف في دار الكتب المصرية مكب على المطالعة، واستخراج نفائس الأدب من خزائن معلوماته الواسعة وزاخر علمه؛ لينشرها على تلك النفوس المتعطشة إلى درر معانيه، وجواهر مبانيه، وقد أنعم عليه جلالة المليك المعظم بنيشان المجيدي الرابع في شهر نوفمبر سنة 1925م جزاء إخلاصه للسدة الملكية.
صفاته وأخلاقه
غاية في الوداعة، وكريم الأخلاق، وعلو النفس، مع التواضع والأدب، الجم، محبوب لدى جميع عارفي فضله، محترم الجانب كثيرا، كريم اليد، مواسيا للفقراء، عطوفا على البؤساء.
أطال الله في حياة شاعرنا الكبير وأكثر من أمثاله من النبغاء والكتاب من أبناء الكنانة.
ترجمة حضرة الأستاذ الوطني الغيور عبد القادر حمزة
صاحب ومدير جريدة البلاغ الغراء
كلمة للمؤرخ
من نوابغ كتاب هذا العصر وأدبائه الأفذاذ الذين امتازوا بثبات المبدأ، وحرية الفكر، والوطنية الصادقة وبراعة الأسلوب، وحضرة صاحب الترجمة الأستاذ عبد القادر حمزة، صاحب ومدير جريدة البلاغ الغراء لسان حال الأمة بوجه عام، والوفد المصري بوجه خاص، الذي نال من جراء صراحته ونزاهته وإخلاصه وتفانيه في حب مصر ما نال زعماء وأقطاب السياسة من تنكيل واضطهاد واعتقال ومصادرة، قابلها بصدر رحب ورباطة جأش، ولم تكن لتزحزحه قيد أنملة عن خطته التي ارتسمها لنفسه تلك الخطة التي زادته صراحة، وثباتا، وجهادا، وإخلاصا ومجاهرة بالحق الذي لا يخشى فيه لومة لائم، فأصبح موضع إجلال واحترام أمته التي خدمها بقلمه، ووافر علمه، وضحى في حبها بكل غال ونفيس، وإننا نسطر تاريخه الناصع البياض بقلم الفخر والإعجاب، سائلين الحق القدير أن يكثر من أمثاله للدفاع والزود عن مصالح البلاد بإخلاص لا يشوبه أقل شائبة.
مولده ونشأته
ولد الأستاذ بشبراخيت عام 1880م من والدين كريمين صالحين ربياه التربية المنزلية الأولى على أحسن منوال، وغذياه بلبان الاستقامة وأرضعاه ثدي الأدب، فشب في وسط بيئة عرفت بالاستقامة وجده لأبيه هو المرحوم الأستاذ القدير الشيخ عبد القادر حمزة، ووالده هو المرحوم محمد أفندي عبد القادر حمزة، اللذان اتصفا بالكمال وحسن السمعة في إبان حياتهما الطيبة، ولما أن شب صاحب الترجمة عن الطوق أدخله والده المدارس الابتدائية فالثانوية فالحقوق الملكية، فكان بين أقرانه الطلبة مثال الجد والنشاط والذكاء محبوبا من عموم أساتذته محترما من زملائه، وقد نال من تلك المدارس شهادة الدراسة الابتدائية فالبكالوريا فالليسانس بتفوق عظيم.
حياته العملية
ولما كان الأستاذ عبد القادر ممن رغبوا الاشتغال بالأعمال الحرة البعيدة من كل قيد وشروط، ورأى من نفسه ميلا للاشتغال بمهنة المحاماة الشريفة للدفاع عن المظلوم، والأخذ بيد مهضومي الحقوق فتح له مكتبا للمحاماة سنة 1901م، وظل ممارسا عمله هذا حتى سنة 1907م بكل أمانة وطهارة ذمة حتى اكتسب بهما ثقة عملائه، ووثق القضاء منه، إلا أن الوطنية المشتعلة بين جنبيه أبت عليه الاستمرار في عمله هذا، فبرز إلى ميدان الجهاد الحقيقي، وولج بنفسه إلى الدخول في ميدان الصحافة؛ ليمتع بني جلدته بنفثات قلمه الفياض، وعلمه الغزير، وإخلاصه المتناهي نحو بلاده، فاشتغل في مبدأ الأمر في جريدة الجريدة لمديرها الأستاذ القدير أحمد بك لطفي السيد.
ثم تولى رئاسة تحرير جريدة الأهالي في سنة 1910 بالإسكندرية، ثم نقل إدارتها إلى القاهرة 1921 فعطلت بعد نقلها بشهر ونصف شهر لمدة ستة أشهر، فأصدر جريدة المحروسة بعد ذلك فاستمرت شهرا واحدا ثم عطت أيضا، وكان ميعاد عودة الأهالي إلى الصدور قد جاء فأصدرها فاستمرت ثلاثة أيام فقط ثم صدر أمر مجلس الوزراء بإقفالها نهائيا، فأراد أن يصدر جريدة غير دورية باسم «نداء الحرية»، وأعد فعلا العدد الأول منها فصادرته الحكومة وهو في المطبعة، وبعد ذلك بقليل أصدر جريدة الأفكار مدة ستة أشهر ثم تركها وأصدر جريدة البلاغ في 28 يناير سنة 1923، فاستمرت إلى 5 مارس من السنة المذكورة، ثم عطلت واعتقل الأستاذ في ثكنة قصر النيل مع أعضاء الوفد الذي كان موجودا هناك إذ ذاك، ثم أفرج عنه في 15 مايو سنة 1923، وسمح له بعد ذلك بشهرين بإعادة جريدة البلاغ إلى يومنا هذا، وجريدة البلاغ تعد من أمهات الجرائد اليومية السياسية الكبرى بين ظهرانينا بلا جدال، فلها مبدأها الثابت وخطتها الوطنية التي أعجبت الشعب على بكرة أبيه وثباتها للدفاع عن حقوق البلاد، وجرأة محرريها، وقد نالت حظا وافرا ورواجا عظيما في عموم بلاد القطر، كل ذلك بفضل حكمة ووطنية أستاذنا القدير وحسن جهاده وتقديرا من الشعب لخدماته الصادقة ومجهوده الكبير لخدمة البلاد.
صفاته وأخلاقه
اشتهر الأستاذ عبد القادر باللطف ودماثة الأخلاق والذكاء المتوقد، وأصالة الرأي، وكفاءة نادرة في مهنته الصحافية وهو سعدي صميم، قلبا وقالبا .
حفظه الله ولا أحرم الكنانة من إخلاصه ووافر علمه.
ترجمة الأستاذ البليغ والكاتب النحرير داود بركاته
رئيس تحرير جريدة الأهرام
كلمة المؤرخ
لا مغالاة إذا اعتبرنا هذا الأستاذ القدير والكاتب النحرير في طليعة كتاب هذا العصر بلا جدال، فهو إذا كتب أطرب النفوس بدرر المعاني وبديع المباني، وإذا تحدث سحر الألباب برقيق ألفاظه وجذب القلوب لجمال أسلوبه، وقد لا يمر يوم إلا ونرى له دررا يحلى بها جيد الأدب يتصفحها القارئ بلذة وشغف عظيمين، وهو يردد بقلبه شكرا لذلك الفكر الثاقب وثناء لتلك الذاكرة الوقادة، والأستاذ رجل عمل كبير، وسياسي خبير حكيم إذا أعطى رأيا، ومفيد إذا عالج حديثا، ولكتابته المقام بين كتاب هذا العصر يخوض بحور السياسة، فيظهر غامضها ولا يشغل قلمه السيال إلا في مهام الأمور يفصح عن مكنوناتها بحجة دامغة وعبارات بليغة، ولا يكتب كلمة أو يبدي رأيا إلا وتكون تلك الكلمة وذلك الرأي دواء ناجعا وحكمة صائبة.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة بقرية يحشوش من أعمال لبنان سنة 1870م من أبوين كريمين، غذياه بلبان الأدب والفضيلة وأدخلاه مدرسة المحبة بعرامون لبنان، ثم التحق بمدرسة ماروليس بغزير بلبنان، وانتقل منها إلى مدرسة الحكمة ببيروت ومنها أحرز شهادة البكالوريا سنة 1890، ودخل كاتبا بأحد المحلات التجارية ببيروت، ثم جاء مصر وجرد قلمه للتحرير في الجرائد، والتحق بمصلحة التاريع بطنطا ومكث بها ردحا من الزمن ومنها اشتغل بمهنة التدريس بمدرسة الأفريكان بزفتى إلى أن تولى رئاسة تحرير جريدة المحروسة بالقاهرة، وأنشأ بالاشتراك مع صديقه الشيخ يوسف الخازن جريدة الأخبار، فأحرزت مقاما عاليا في عالم الصحافة وظل مواليا عمله فيها من سنة 1896 إلى سنة 1899م.
وقد طلب إليه بشارة باشا تقلا صاحب جريدة الأهرام أن يكون محررا لجريدته، فأجاب الدعوة ولا يزال إلى يومنا هذا رئيس التحرير يزف كل يوم لكل ناطق بالضاد دررا غوالي، ويضرب على نغمات تترنم لها الهيئة الاجتماعية، فاشتهر اسمه وذاع صيته بين رجال الأدب وأصبح محبوبا ومحترما لدى العامة.
ولم يقتصر الأستاذ على ذلك بل رأى أن يكون له يد عن قرب لمساعدة الفقراء، وإعانة المعوزين فكانت له مآثر جمة إذ أنشأ جمعية خيرية للسيدات المارونيات بمصر، وسعى مع كبار الجالية السورية فأسسوا «الاتحاد السوري» لجمع شتات أبناء وطنهم والسعي إلى توحيد كلمتهم، فكان لعملهم هذا فائدة جزيلة وبالإجمال فإن للأستاذ يدا محمودة في معظم الجمعيات وغيرة كبيرة يعرفها كل من خبره أو احتاج إليه، وقد ألف كتابا نفيسا في «الرد على مندوب التيمس في القضية المصرية»، وكتابا قيما في «المسألة السودانية»، كما له رسائل أخرى عديدة في الأدب والاجتماع.
وفي سنة 1913م أرادت الحكومة المصرية أن تكافئ هذا الكاتب الذي خدم مصر والمصريين حقبة من الزمن بالإخلاص التام، والمقدرة الفائقة، فأنعمت عليه بالنيشان المجيدي الثالث، كما منحه باي تونس نيشان الافتخار.
صفاته وأخلاقه
ممتاز بفرط الذكاء، وسعة الإطلاع، ودماثة الأخلاق، وقوة الإرادة، ومساعدة الفقراء والكفاءة العالية والأدب الجم.
أكثر الله من أمثاله الأدباء وأدامه بالصحة والهناء.
ترجمة فقيد التاريخ والعلم والأدب ومنشئ مجلة الهلال والروائي الشهير المرحوم جرجي بك
زيدان
لحقت بمن أرختهم فكأنكم
لدات لعهد لم تفرقه أدهر
على الحي دون الميت تحسب أحقب
توالت وتحصى في التعاقب أعصر
ورب عليم لم يجئ متقدما
أتم علاه أنه متأخر
خليل مطران
مقدمة للمؤرخ
من السهل أن يكتب الكاتب تاريخا يلتقط أخباره من هنا وهناك، ويأتي بها مجردة عن كل
فقيد التاريخ والعلم والأدب المرحوم جرجي بك زيدان منشئ مجلة الهلال والروائي الشهير.
محاكمة واستنتاج ويلقيها كما تلقى الببغاء كلمات يتلقنها فينقلوها على المسامع، ولكن ليس من السهل أن يكتب تاريخا يصور لك الحوادث من الحقيقة بحيث تكاد تلمسها باليد.
ليست مهمة المؤرخ الذي يسمى مؤرخا بالمعنى الصحيح بالمهمة الهينة، بل هي مهمة تستنفد قوى الكاتب البصير إذا وجه إليها عنايته في ترتيب الحوادث وانتقاء الأخبار، والتفريق بين صحيحها وفاسدها وبيان الرأي الصحيح فيها وربط بعضها ببعض.
وإن من يطالع كتب هذا الفقيد العظيم ويطالع كتب المؤرخين قبله لا يسعه إلا الاعتراف بفضله على التاريخ، والإقرار بأنه عانى من المشاق في وضع كتبه هذه ما لم يعانه مؤرخ من قبله، وأنه اختط طريقا خاصا للمؤرخين من العرب في تقسيم التاريخ وترتيبه، يشهد أنه كان من خيرة مؤرخي العرب وأطولهم باعا في انتقاء المواضيع الاجتماعية، التي لم يسبقه إلى التخصص بمثلها أحد من مؤرخينا الأقدمين.
ولقد أبرز الفقيد إلى عالم الصحافة اثنين وعشرين مجلدا من الهلال، صدرت في اثنتين وعشرين سنة متوالية بلا انقطاع ولا ارتباك، كل جزء منها أوسع نطاقا من سلفه وأغزر مادة وأدق بحثا وأعم فائدة وأكثر اتقانا، وأرعى للمطالعة وأشهى، وشهرة بلغت أقصى المغارب والمشارق ورواج قلما تجد له مثيلا في الصحافة العربية، كل ذلك يشهد بطول باع الفقيد في فن الصحافة وصحة نظره فيه، ويحفظ له مقاما رفيعا بين أهله وذويه ولا سيما إذا نظرت إلى رأس ماله المادي والأحوال المعاكسة، التي تحدق بأمثاله في هذه الديار والمجلات العديدة التي توافر لها من أسباب الارتقاء والرواج ما لم يتيسر للهلال، ومع ذلك ما كاد نجمها يطلع في سماء الصحافة حتى أفل والهلال ينمو ويكفل.
أما المزايا الصحافية التي امتاز بها هذا الفقيد، وكانت السبب في هذا النجاح الباهر فهي حسن الإدارة، واختيار المباحث، وسهولة الإنشاء، والإدارة، ينطوي تحتها أمور كثيرة مادية وأدبية كضبط المواعيد وحسن الطباعة وإتقان الوجه التجاري، وحفظ النسبة اللازمة بين واجبات الصحافي وأميال الجمهور، وتاريخ الهلال يدلك على أن هذا الفقيد برع في هذا الوجه، فإن الهلال ما تأخر يوما عن ميعاده ولا جاء سقيما في مواضيعه أو رثا في ورقه، ولا وقع بينه وبين الرأي العام نفور مع وعورة بعض المسالك التي سلكها ومحاولة بعض ذوي المآرب إيغار الصدور عليه.
والفقيد قصصي كان يرتب القصة والحوادث فيها مدهشة، وآخذة بعضها برقاب بعض ومنساقة كلها إلى ملتقى واحد هو النتيجة التي تتهافت إليها عواطف القارئ، ومدمجة اندماجا يقررها في ذهن القارئ كحقائق راهنة، وما هي إلا حقائق تاريخية راهنة.
وهو كروائي مؤرخ يتناول جميع الحقائق التاريخية من مصادر التاريخ الموثوق بها، وينسقها في قالب الرواية، بحيث تستطيع أن تميز بين أن تقرأ قصة فكاهية أو تاريخا مسجلا يقف عند كل عبرة ويتدفق فلسفة اجتماعية وحكمة، فالذي يطالع روايات الفقيد يطلع على تاريخ الشرق لعهد الإسلام، ويستلذ هذا التاريخ ويستوعبه من غير أن يعنت ذهنه.
مولده ونشأته
ولد هذا الفقيد العظيم في مدينة بيروت في 14 ديسمبر سنة 1861م، وتلقى مبادئ العلوم في بعض مدارسها الابتدائية حتى قضت عليه الأحوال بترك المدرسة صغيرا ومساعدة والده في أشغاله، وهو لم يبلغ الثانية عشرة من عمره، غير أن ميله الغريزي إلى العلم والأدب جعله لا يدع فرصة لا يستفيد منها، إما بمطالعة ما تصل إليه يده من الكتب وإما بتقربه من رجال العلم، وقد كان مولعا في أثناء ذلك بالرسم والتصوير حتى تكاد لا تجد كتابا من كتبه إلا عليه شيء من رسمه، فكان كلما تعب من الدرس يتشاغل بمثل ذلك حرصا على وقته أن يضيع بلا عمل.
ودرس اللغة الإنكليزية في مدرسة ليلية في مدة لا تتجاوز خمسة أشهر مع ممارسة شغله طول نهاره وبعض ليله، وكانت أكثر أوقات دروسه في أواخر الليل وهو لا يعرف التعب ولا يكل من العمل وكثيرا ما كان يصل ليله بنهاره.
ثم انتظم في سلك جمعية شمس البر في بيروت، وهي جمعية أدبية أكثر أعضائها من تلاميذ المدرسة الكلية الأميركانية، فكان وجوده في هذه الجمعية باعثا على مضاعفة رغبته لما آنسه من ارتياح أعضائها إلى صحبته والرغبة في محاضراته، وكثيرا ما كانوا يدعونه لحضور الاحتفالات السنوية للمدرسة الكلية الأميركانية، وسماع الخطب والمباحث، فكان إذا حضر احتفالا وسمع ما يتلى فيه من الخطب والمباحث العلمية والأدبية خرج حزينا يكاد يتقد قلبه غيرة وحمية.
وفي سنة 1881م صمم على ترك شغله وطلب العلم، فلاح له أن الطب خير وسيلة تقربه من العلم وتساعده على الكسب، فاستشار بعض أصدقائه من تلاميذ المدرسة الكلية، فأشاروا عليه بالعدول عن هذا المسلك الصعب؛ لأنه يقضي وقتا طويلا لدرس العلوم الإعدادية لا يقصر عن سنتين فضلا عن أربع سنوات أخرى لدرس الطب لكن ذلك لم يكن ليوهن عزمه فدرس العلوم الإعدادية كلها على أحد أصدقائه في نحو شهرين ونصف حتى آن افتتاح المدرسة، فتقدم للامتحان وجازه.
وقد كان في السنة الأولى من الطب مثال الاجتهاد مكبا على دروسه برغبة ولذة عظيمتين، ونال في الامتحان السنوي شهادات الامتياز على تلاميذ فرقته مع أنه كان يتعاطى أشغالا خاصة تساعده على النفقات، ومع ما حازه من الفوز على أقرانه لم ير منهم ما يشاهد عادة بين الأقران من الغيرة والحسد، بل كانوا يسرون لنجاحه ويتخذونه مثالا للذكاء والاجتهاد لما يأنسون فيه من دماثة الأخلاق ولين المعاشرة والإخلاص في صداقتهم.
ولما كانت السنة الثانية عاد إلى المدرسة ولم يمض شهران حتى كان الاختلال المشهور في داخلية المدرسة الكلية الذي انجلى عن خروج معظم تلاميذها وكان صاحب الترجمة من جملتهم، وقدم بعد خروجه امتحانا في العلوم الصيدلية مع بعض رفاقه أمام لجنة من أشهر أطباء سوريا في جملتهم الكولونيل مراد بك حكيمباشي الجيش، والمرحوم الدكتور فانديك وغيرهما، فنال الشهادة في العلوم الآتية وهي: اللغة اللاتينية والطبيعيات والحيوان والنبات والجيولوجيا والكيمياء العضوية والمعدنية والتحليل الكيمي والمواد الطبية، والأقرباذين العلمي والعملي.
سفره إلى مصر والسودان وإنكلترا
وشخص على أثر ذلك إلى الديار المصرية عقب الحوادث العرابية لتكملة الطب في مدرسة القصر العيني ، غير أن طول المدة لنيل الشهادة الطبية حول عزمه عن صناعة الطب فاشتغل بالعلم وتولى تحرير جريدة الزمان، وهي حينئذ الجريدة اليومية الوحيدة في القاهرة مدة سنة أو تزيد حتى كانت الحملة النيلية إلى السودان سنة 1881م؛ لإنقاذ غردون باشا فسار برفقتها مترجما بقلم المخابرات، وترك صناعة القلم مؤقتا رغبة في استطلاع أحوال تلك البلاد، فقضى فيها نحو عشرة أشهر شهد في أثنائها أعظم الوقائع الحربية، مثل واقعة أبي طليح والمتمة وغيرهما.
ولا تسل عما قاساه من الأهوال في تلك السفرة، فقد رأى مواقع الحرب مرأى العين تحت إطلاق المدافع وصفير القنابل، وشاهد القتلى مئات وألوفا إلى أن عاد بعود الحملة بعد مضي عشرة أشهر، فنال ثلاثة أوسمة مكافأة له على خدمته وشجاعته.
لكن ميله إلى العلم كان يزداد مع الأيام فلم يستقر في الديار المصرية بعد عودته من الحملة، بل سافر توا إلى بيروت سنة 1885 وبعد وصوله إليها بقليل، انتدبه المجمع العلمي الشرقي ليكون عضوا عاملا فيه، فمكث في بيروت حوالي عشرة أشهر يطالع اللغات الشرقية، فدرس العبرانية والسريانية وأخواتهما، ووضع على أثر ذلك كتابه في الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية.
وفي أثناء ذلك ألف أحد معارفه رواية دعاها رواية «البطلين»، جعل صاحب الترجمة أحد بطليها والجنرال غردون باشا البطل الثاني، وقد بين المؤلف في سرد حوادث الرواية نتيجة الاجتهاد والمواظبة، مع المحافظة على الآداب كما هو شأن صاحب الترجمة.
وفي صيف سنة 1886 زار عاصمة بلاد الإنكليز، وكان في أثناء إقامته هناك يترد على أندية العلم ومجتمعات الآثار ولا سيما المتحف البريطاني الشهير، ثم عاد في الشتاء إلى مصر فطلبت إليه مجلة المقتطف أن يتولى إدارة أشغالها، ففعل حتى أوائل سنة 1888م فاستقال وانصرف إلى الكتابة والتأليف، فألف تاريخ مصر الحديث في مجلدين كبيرين، وقد عانى في تأليفه صعوبات جمة وفي سنة 1889 ألف تاريخ الماسونية العام، وهو أول كتاب كتب في العربية من هذا النوع، ثم ألف التاريخ العام وهو مختصر تاريخ ممالك آسيا وأفريقيا القديمة والحديثة.
وفي أواخر سنة 1889 انتدبته المدرسة العبيدية الكبرى لطائفة الروم الأرثوذكس بمصر؛ ليتولى إدارة التدريس العربي فيها، فتولاها سنتين وفي أثناء ذلك ألف رواية المملوك الشارد وهي أول رواياته فصادفت إقبالا غريبا، حتى طبعت غير مرة وكان صاحب الترجمة قد استحضر الأدوات المطبعية، فتنحى عن التدريس وثابر على الكتابة والتأليف، فأصدر الهلال في أواخر سنة 1892م، وكان في أول نشأته يتولى كل أموره بنفسه من إدارة وتحرير ومكاتبات وغير ذلك، مما لا يستطيعه إلا نفر من الرجال ولكنه كان يواصل العمل بلا ملل ولا إهمال توصلا إلى النجاح، حتى إذا اتسع نطاق المجلة عهد بإدارتها إلى حضرة شقيقه متري أفندي زيدان، واستخدم آخرين للأشغال الأخرى وانقطع هو إلى التأليف والتحرير فكتب بعد نشأة الهلال مؤلفات عديدة سنأتي على بيانها، وقام في أثناء عطلة الهلال الصيفية بعدة رحلات أهمها رحلته إلى الأستانة على أثر الدستور، وإلى أوربا منذ سنتين ورحلته في الصيف الماضي إلى فلسطين أي: قبيل وفاته.
وفاته
في مساء الثلاثاء في 21 أغسطس سنة 1914 حوالي الساعة الحادية عشرة، وافت المنية هذا الفقيد الكريم بغتة ولم يكن يشكو علة ولا أصيب بمرض وما هي إلا دقيقة شهق فيها الفقيد شهقة أقامت أهل بيته مذعورين، وكان إلى آخر ساعة من حياته على تمام الصحة يشتغل كبضعة رجال من غير أن يعرف الكلل والملل.
وما ذاع نعيه حتى عم الأسف لفقده وأقبل الأصدقاء والفضلاء والأعيان والعلماء والأدباء على منزله في القاهرة، وتقاطرت الرسائل البرقية والبريدية من محبيه في جميع الجهات يشاطرون أهله الأسى، ويذكرون آثاره ومناقبه الحميدة وخدمه الجليلة للعلم والأدب والتاريخ، وبعد أن أقيمت صلاة الجنازة في الكنيسة لحظ أهله أن هيئة الموت لم تبد على وجه الفقيد، بل صارت علامات الحياة أظهر فيه مما كانت في الصباح، ففحصه الأطباء فقالوا: إن كل الدلائل تدل على حدوث الموت لكن أهله ظلوا مرتابين، فعدلوا عن دفنه وعزموا على إبقائه إلى الصباح: ولما أن كان الصباح خاب أملهم الضعيف، فدفنوا فقيدهم وهم يتمنون لو يفدونه بأرواحهم.
ولما بلغ نعي الفقيد حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا قائمقام سمو الخديوي الأسبق وقتئذ في الإسكندرية، أنفذ من قبله سعادة وكيل محافظ مصر إلى منزل الفقيد؛ لتعزية أهله وإبلاغهم مشاركة دولته لهم في حزنهم.
أخلاقه
كان الفقيد ربعة ممتلئ الجسم أسمر اللون متوقد العينيين تظهر عليه ملامح الصحة والنشاط وكان رحمه الله بسيطا في جميع أعماله، ثابتا صادقا لطيف الحديث قريبا إلى الناس، لا يأنف من مجالسة من هم دونه ولا يلقى إلا والبشاشة تملأ وجهه.
ولعل الصفة الغالبة في أخلاقه كبر النفس، وقد كان مخلصا في عمله نزيها عن الأغراض، لا يهمه إلا الوقوف على الحقيقة والتمسك بأذيالها ، ومن أقواله المأثورة: «لا يصح إلا الصحيح ولا يبقى إلا الأنسب»، وتجد إخلاصه هذا واضحا في كل عمل شرع فيه وفي كل حرف خطه قلمه.
وكان رحمه الله يعرف العربية والإنكليزية والفرنساوية والألمانية والسريانية والعبرانية مع إلمام بسائر اللغات الشرقية وغيرها، وأكثر ما عرفه إنما عرفه باجتهاده الشخصي، ودرسه على نفسه بالثبات وصدق العزيمة، فكان إذا رأى الحاجة إلى علم أو لغة أكب عليها حتى ينالها كما فعل لما أخذ في درس المواد الشرقية، فرأى حاجة إلى الإطلاع على ما ألفه الألمانيون في آثار العرب وآدابهم من نتائج مباحثهم، وتنقيبهم فدرس هذه اللغة بنفسه وبعد بضعة أشهر أصبح قادرا على فهم ما يقرأه منها، وقس على ذلك.
وكانت له منزلة عند العلماء المستشرقين في أوربا، فكان يعرف كثيرين منهم شخصيا وكان يكاتبهم جميعا فضلا عن منزلته في الشرق، فقد كان له أحباء وميريدون كثيرون وقراؤه يعدون بالآلاف، وكلهم معجب بما يكتبه مولع بمطالعته؛ ولذلك انتشر هلاله ومؤلفاته ورواياته انتشارا عظيما لم يبلغه غيرها في هذه البلاد.
وكان الفقيد عضوا في عدة جمعيات علمية وشرقية نخص منها الجمعيات الأسيوية الايتالية والإنكليزية والفرنساوية، وأهدى إليه باي تونس وسام الافتخار من الدرجة الأولى فضلا عن أوسمة حرب السودان، وهي الميدالية الإنكليزية والنجمة المصرية والعروة المختصة بواقعة أبي طليح، وأنعمت عليه الحكومة المصرية في عهد الخديوي عباس حلمي باشا الأسبق برتبة المتمايز الرفيعة، اعترافا بفضله على اللغة العربية وآدابها، وقررت عمدة الكلية السورية الأميركية في بيروت قبل وفاته ببضعة أشهر منحه لقب شرف من ألقابها العلمية.
مؤلفاته التاريخية واللغوية والعلمية
كتب الفقيد في مواضيع مختلفة لكنه حاز شهرته الواسعة في الشرق والغرب بصفة كونه مؤرخا مدققا، لا سيما وأنه طرق مواضيع مهمة جديدة لم يسبقه إليها كاتب مع قلة المصادر التي ترجع إليها، وافتقار اللغة العربية إلى مثلها، وإلى القارئ الكريم أهم مؤلفاته في التاريخ واللغة وغيرهما:
تاريخ مصر الحديث جزآن.
تاريخ التمدن الإسلامي 5 أجزاء.
تاريخ العرب قبل الإسلام.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر جزآن.
تاريخ آداب اللغة العربية 4 أجزاء.
الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية
تاريخ الماسونية العام
تاريخ اللغة العربية.
أنساب العرب القدماء.
علم الفراسة الحديث.
طبقات الأمم.
عجائب الخلق.
وقد نقل تاريخ التمدن الإسلامي إلى خمس لغات: الأوردية أو الهندستانية والتركية والإنكليزية والفرنساوية والفارسية، وترجم كتاب الفلسفة اللغوية إلى التركية.
أما مؤلفاته الروائية فهي:
فتاة غسان.
أرمانوسة المصرية.
عذراء قريش.
17 رمضان.
غادة كربلاء.
الحجاج بن يوسف.
فتح الأندلس.
شارل وعبد الرحمن.
أبو مسلم الخراساني.
وله أربع روايات خارجة عن السلسلة وهي:
المملوك الشارد.
أسير المتمهدي.
استبداد الماليك
وجهاد المحبين.
وجميع هذه الروايات أعيد طبعها أكثر من أربع دفعات. وقد نقلت هذه الروايات إلى أهم اللغات الشرقية وبعض اللغات الأوربية، وعلى الإجمال فاللغات التي نقلت إليها حتى الآن أو كلها هي اللغة الأوردية «الهندستانية» والفارسية والدرويدية والتركية الأذربايجانية، والتركية العثمانية، والفرنساوية والإنكليزية والروسية والبورتغالية.
إن سرد أسماء هذه الكتب وعدد طبعاتها واللغات التي ترجمت إليها أبلغ من كل ما يقال في مكانة الفقيد وخسارة اللغة العربية بفقده، رحمه الله بقدر ما أفاد الناس.
وما كاد يذاع خبر وفاته حتى انهالت على آل الفقيد الرسائل البرقية والبريدية من جميع البلدان الأوربية والممالك الشرقية، وأقيمت حفلات الرثاء المتعددة، وألقى فحول الشعراء قصائد الرثاء كما أقيمت حفلتا تأبين في مصر وزحلة حضرهما عموم شعراء مصر وأمراؤها وعظماؤها وأدباؤها، وقد ترأس حفلة الاتحاد السوري حضرة الأمير مشيل بك لطف الله.
ومن القصائد الرنانة في رثاء الفقيد تلك القصية المؤثرة التي ألقاها شاعر النيل الأكبر سعادة أحمد شوقي بك.
ممالك الشرق، أم أدراس أطلال
وتلك دولاته، أم رسمها البالي
أصابها الدهر إلا في مآثرها
والدهر بالناس من حال إلى حال
وصار ما نتغنى من محاسنها
حديث ذي محنة عن صفوه الخالي
إذا جفا الحق أرضا هان جانبها
كأنها غابة من غير رئبال
وإن تحكم فيها الجهل أسلمها
لفاتك من عوادي الذل قتال
نوابغ الشرق، هزوه لعل به
من الليالي جمود اليائس السالي
إلى أن قال: (زيدان) إني مع الدنيا كعهدك لي
رضى الصديق، مقيل الحاسد القالي
لي دولة الشعر طول الدهر وائلة
مفاخري حكمي فيها وأمثالي
إن تمش للخير أو للشر بي قدم
أشمر الذيل، أو أعثر بأذيالي
قد أكمل الله ذياك (الهلال) لنا
فلا رأى الدهر نقصا بعد إكمال
ولا يزل في نفوس القارئين، له
كرامة الصحف الأولى على التالي
فيه الروائع من علم، ومن أدب
ومن وقائع أيام وأحوال
وفيه همة نفس زانها خلق
هما لباغي المعالي خير منوال
علمت كل تئوم في الرجال به
أن الحياة بآمال وأعمال
ما كان من دول الإسلام منصرما
صورته، كل أيام بتمثال
وهل تحن إليه بعد فرقته
كما يحن إلى أوطانه الجالي
هضاب لبنان من منعاتك اضطربت
كأن لبنان مرمي بزلزال
كذلك الأرض تبكي فقد عالمها
كالأم تبكي ذهاب النافع الغالي
ترجمة حضرة الشاب الأديب الأستاذ أميل أفندي زيدان
النجل الأكبر للمرحوم جرجي بك زيدان وأحد صاحبي امتياز ورئيس تحرير مجلات الهلال والمصور وكل شيء
قد يشعر القارئ الكريم بحسرة ولوعة من فقد ذاك الرجل العالم العامل، الذي ترك فراغا عظيما في عالم التاريخ والأدب، ولكن ولئن خسر الشرق جرجي بك زيدان فعزاء قراء العربية أنه خلف نجله الأكبر، ألا وهو حضرة الأستاذ الفاضل أميل أفندي زيدان صاحب هذه الترجمة الذي استلم زمام الهلال وإدارته، وسار في نفس الخطة التي رسمها له المرحوم والده مقتفيا خطواته، ومحييا آثاره فلم يشعر قراء العربية بنقص من هذا القبيل.
وهو شاب في مبتدأ الحياة ولد في مصر في 22 يوليو سنة 1893م، وتلقى علومه الابتدائية والثانوية في مدارس الفرير، فحاز شهادة الدراسة الثانوية قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره، ثم رحل إلى كلية الأمريكان في بيروت، فدرس العلوم والفنون ونال درجة بكالوريوس علوم بعد درس أربع سنوات.
ثم رجع إلى مصر في صيف سنة 1912، ورحل منها برفقة والده إلى فرنسا وإنكلترا وسويسرا لتكملة علمه بتفقد المتاحف والمعاهد العلمية، ثم رجع إلى مصر وأخذ في درس الحقوق ومساعدة والده في تحرير الهلال متمرنا على يديه ومتشربا روحه وتعاليمه، فتهيأ إلى العمل المجيد الذي أعده له والده.
وشمر عن ساعد الجد والاجتهاد فأوسع أبواب الهلال، وأتقن طبعه واستحضر له خصيصا أحدث المطابع الأوربية فأقبل الكثير من مريدي وعشاق المطالعة على اقتناء أعداده وتجليدها سنويا لتحفظ ضمن مكاتبهم، ولم يكتف هذا الشاب النشط بهذا العمل مع اتساع نطاقه حتى استصدر رخصة لإصدار مجلة مصورة أسبوعية أسماها «المصور» باشتراكه مع حضرة شقيقه الأديب شكري أفندي زيدان فما كاد يظهر العدد الأول منه حتى قوبل من الجمهور المصري بنوع خاص بشغف عظيم، وإقبال فائق لما حواه المصور المذكور من المواضيع الأدبية والفنية والفكاهية ومستحدثات الصور في الشرق والغرب، وقد نال مع حداثة ظهوره أعظم مكانة صحافية في عواصم البلاد، وترى حضرة صاحب هذه الترجمة مكبا على العمل يواصل ليله بنهاره بهمة لا تعرف الملل، وعزيمة لا يعتورها كلل ومع كثرة أعماله هذه تراه يقابل زائريه بكل ترحاب وإكرام، ويأخذ في مؤانستهم فيخرجون معجبين بعظيم تربيته وواسع خبرته، وحسن كفاءته الصحافية ومقدرته على احتمال الصعاب في سبيل إنهاض الشرق بما يأتيه من شتات المواضيع الأدبية والعلمية والفنية والتاريخية، أكثر الله من أمثاله لرفع لواء العلم في ربوع البلاد ولا أحرم الناس من نفحات قلمه الفياض، إنه سميع مجيب.
حضرة الشاب الأديب النشيط شكري أفندي زيدان
أحد صاحبي مجلات الهلال والمصور وكل شيء
هو ثاني أنجال الفقيد العظيم المرحوم جرجي بك زيدان، وأصغرهما سنا، ولد في سنة 1900 وتغذى بلبان الفضيلة والأدب ودخل مدرسة الفرير، فأظهر ذكاء فائقا ونبوغا عظيما وشب على الهمة والإقدام والجد والنشاط فكان خير مساعد لحضرة شقيقه أميل أفندي في عمله الصحافي، فأخذ يعاونه بمعلوماته العلمية والأدبية، سواء في الهلال أو في مجلة المصور أو في مجلة «كل شيء» التي حازت من الجمهور المصري إقبالا عظيما، ويعد حضرة صاحب الترجمة أحد أصحابها فنراه يعمل بجنب أخيه بكل ما أوتى من قوة وحزم وذكاء ونشاط، كأنهما شخص واحد يعملان لغاية واحدة وهي نشر ما يرقي المدارك ، ويهذب عقول النشء بفضل حسن تربيتهما وعالي كفاءتهما العلمية والأدبية.
ومع حداثة سن صاحب هذه الترجمة تراه قد جمع بين حنكة الشيوخ وهمة الشباب، فلا يدخر وسعا في كل ما يراه صالحا لتقدم البلاد إلى الرقي والرفعة، حتى اكتسب محبة عموم المصريين مع اختلاف نحلهم؛ لدماثة أخلاقه وكمال أدبه وحلو حديثه وسعة مداركه وشهامته.
فبمثل هذين البدرين التامين فليتنافس المتنافسون «أدامه المولى».
ترجمة حضرة الأستاذ القدير والكاتب النحرير عباس أفندي محمود العقاد
الصحفي المعروف والمحرر بجريدة البلاغ الغراء
كلمة للمؤرخ
لمعرفة نفسية هذا الأستاذ القدير، وقوة اقتداره في عالم الصحافة والأدب، وما لقلمه السيال من البراعة والإجادة وحسن الأسلوب، واختيار المفيد من الموضوعات عليك بتصفح مقالاته الرئيسية الطلية التي يصدرها عادة في افتتاحية جريدة البلاغ الغراء، وما تحويها من عبر وحكم سواء أكانت هذه المقالات سياسية وطنية أم أدبية أم اجتماعية، فإنك تجد برهانا قويا على كبير علمه، وغزارة مادته، وسمو مبدئه، وعالى نفسيته، ولولا ضيق المقام هنا لآتينا بالكثير من مآثره الغراء وأياديه البيضاء على العلم والأدب بوجه عام والصحافة بوجه خاص.
مولده ونشأته
ولد الأستاذ العقاد ببندر أسوان سنة 1889م من والد قوي الإيمان والإرادة، أورث ولده استبداد الطبع وقوة اليقين والتعصب للمبدأ، ووالدة يشوب دمها عنصر كردي، أخذ عنها امتداد القامة والصبر على الوحدة والصمت الطويل، ولأسرته وأهله تجارة كبيرة في مديرية أسوان.
تلقى دروسه الابتدائية بمدرسة أسوان الأميرية، فتخرج منها سنة 1903م وكان والده يصحبه أيام دراسته الأولى إلى مجلس الأستاذ الأديب الشيخ أحمد الجداوي، أحد فضلاء الأزهريين الذين لزموا السيد الأفغاني أثناء مقامه بمصر، فكان يسمع مطارحاته الشعرية التي كان يرويها عن المتقدمين والمتأخرين، فشوقه ذلك إلى مطالعة الكتب الأدبية فكان أول ما وقع في يده منها كتاب «المستطرف في كل فن مستظرف»، وديوان البهاء زهير وقصص ألف ليلة وليلة، ثم مجلد من دائرة المعارف للبستاني وأعداد مختلفة من صحيفة الأستاذ لصاحبها الأستاذ السيد عبد الله نديم، وكان يسمع اسمه كثيرا في مجلس الأستاذ الجداوي ومن ثم أقبل بجملته على المطالعة العربية فالإفرنجية، ونظم الشعر، ولم يتلق علوما في المدارس بعد انفصاله من مدرسة أسوان غير أبواب محدودة في الكهرباء والطبيعة، حضرها بمدرسة الصنائع والفنون، وقد عاقته عوائق شتى عن متابعة التعليم المدرسي كما كان يود يومئذ.
ومن ثم اشتغل بعدة وظائف حكومية استقال منها الواحدة بعد الأخرى نفورا من قيودها الثقيلة، وتكاليفها ورغبة في الدعة والعلاج لما كان ينتابه أحيانا من الضعف والسقم.
اشتغاله بالصحافة
وكان أول عمل صحفي له في جريدة الدستور التي أنشأها الأستاذ وجدي، ثم كتب في صحف أخرى هي المؤيد، والأهالي، والأهرام، وفي خلال ذلك كان يزاول التدريس تارة بالقاهرة وتارة بأسوان، وقد مكث شتاءين متواليين للاستشفاء من مرضه الذي أقعده عن العمل عاما ونصف عام.
غير أن الله تعالى أمده بنعمة الشفاء وعاد إلى العمل في الصحافة بجريدة البلاغ الغراء، وللأستاذ العقاد حملات شديدة الوقع على كل حائد عن جادة الصواب والحق، وللجمهور شغف عظيم بمطالعة مقالاته الشيقة لما تتضمنه من حجج الإقناع، ومتانة التعبير والجرأة والحماس ونقد كل ما يراه ماسا بمصلحة الوطن وقضيته الكبرى.
صفاته وأخلاقه
والأستاذ العقاد رقيق الشعور عصبي المزاج يتأثر من أقل مؤثر، وله أزمات نفسية يكون فيها على تماسكه وتلطفه مهتاج الأعصاب سريع الامتعاض، وله في هذه المؤثرات وقائع تاريخية وقعية مع بعض إخوانه آثرنا عدم ذكرها، وجميعها ترمي إلى رقيق إحساسه، ونفسه العالية.
ألبسه الله تعالى ثوب العافية ومتعه بطيب الحياة.
ترجمة حضرة الأستاذ الأديب والزجال المشهور محمود أفندي رمزي نظيم
المحرر بجريدة البلاغ الغراء
كلمة المؤرخ
ليس الأستاذ نظيم بالشاعر البليغ والزجال الفذ في هذا العصر فحسب، فهو مع شهرته بالنبوغ في هذا المضمار فقد اشتهر أيضا بالوطنية العالية، والمبدأ الثابت، والعقيدة الراسخة ولكم لاقى من العسف والجور في سبيل جرأته في الحق، ورفع الحيف عن بلاده، ولكم امتهن في شخصيته، وصودرت حريته، فكان يقابل كل شدة ومحنة بصدر رحب، وقلب ملؤه الإيمان والثقة بالله تعالى، والأستاذ نظيم فوق كل هذه المواهب السامية والسجايا النادرة، تراه مؤديا حقوق دينه ودنياه بعيدا عن زخرف الدنيا وملاذها يميل بفطرته إلى الوحدة والاعتكاف.
حضرة الأديب محمود أفندي رمزي نظيم.
مولده ونشأته
ولد الأستاذ محمود أفندي رمزي نظيم ببركة السبع مديرية المنوفية سنة 1889م، من والدين تقيين اشتهرا بالتقوى والصلاح، ووالده هو المرحوم طيب الذكر محمود أفندي رمزي مأمور ضبطية بركة السبع.
انتقل والداه إلى رحمة ربهما وهو لم يتجاوز السابعة من عمره، فتكفل به خاله الأستاذ المرحوم إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير، ولكن الظروف لم تمكنه من إتمام دراسته الثانوية، فانقطع عن المدرسة وكان له ميل خاص إلى الأدب، فعكف على دراسته وكان يجد تنشيطا وتشجيعا من خاله، وبدأ ينشر في الصحف اليومية قصائده ورسائله وهو في سنة الثالثة الابتدائية فاختارته مجلة المفتاح شاعرا لها، وهو في السنة الرابعة الابتدائية بمدرسة الأقباط الكبرى، وكان من أشد أنصار الحزب الوطني في مبدأ نشأته وفي أيام المرحوم محمد بك فريد رئيسه، وقد حوكم من أجل قصائده الوطنية فحكم عليه في عهد وزارة سعيد باشا الأولى عند صدور قانون المطبوعات بسبب إلقاء قصيدة في مظاهر خاصة بحرية الصحافة بالسجن ثلاثة أشهر مع إيقاف التنفيذ، وكانت الصحف تلقبه بشاعر الظاهرات، واتهم في مؤامرة شبرا المعروفة فقبض عليه وأطلق صراحه بعد ظهور براءته، وكتب مرة مقالا شديد اللهجة ضد نشأت باشا أيام سلطانه فحوكم من أجله أمام محكمة الجنايات سنة 1926م.
اشتغاله بالتحرير والأدب
ولقد اشتغل الأستاذ رمزي بالتحرير في الصحف منذ عام 1910م، فاشترك في تحرير كثير من الجرائد الأسبوعية والمجلات منها العفاف والحال، والمجلة الماسونية، والسيف، وأبو الهول، والصباح وحرر في المحروسة، والرقيب والمنير، والنظام والأمل، وهو اليوم محرر في جريدة البلاغ وأصدر جريدة أبو قردان الفكاهية الانتقادية سنتين كانت في خلالهما موضع تقدير الجمهور لشدة لهجتها وحسن أسلوبها، وغزارة مادتها لا سيما أزجالها الانتقادية الخلابة وموضوعاتها الفكهة.
مؤلفاته
وللأستاذ مؤلفات قيمة منها: كأس الحكمة، وألحان الأسى، وسعد زغلول، وأزجال نظيم، وموشحات نظيم جزئين، وديوان نظيم. هذا عدا الكتب التي لم تطبع وقد اشتهر خاصة بنظم الأزجال الوطنية، وله رسائل شتى في الأدب والاجتماع والنقد نشرت في الصحف المختلفة ولها مكانتها العليا في عالم التحرير والأدب.
صفاته وأخلاقه
على جانب كبير من دماثة الخلق والدعة ومكارم الأخلاق والأدب الجم، عف النفس كبيرها محبوب عند كل عارفي أدبه وكماله وبعده عن سفاسف الأمور، وهو فوق ذلك غيور على دينه متمسك بأهداب الوطنية وهو سعدي المبدأ، ومن المتغانين في هذا المبدأ وكأنما كناه الصوفية بأبي الوفاء لشديد دفاعه الوطني في كل ما يراه ملائما لحالة البلاد.
ترجمة حضرة صاحب العزة القانوني المتضلع الأستاذ صالح بك جودت
القاضي بالمحاكم الأهلية سابقا والمحامي الشهير حالا
نسبه وعائلته
هو ابن المرحوم إسماعيل جودت بك بن المرحوم صالح بن إبراهيم بن خليل، يتصل نسبه إلى بني شيبة بمكة المكرمة وهم بطن من عبد الدار وبنو عبد الدار بطن من قصى، فهو قرشي الأصل وفي قومه بني شيبة السدانة فهم حجبة الكعبة، انتهت إليهم مفاتيحها في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
وكان الجد الثاني لصاحب الترجمة من أعيان مكة نفي منها لأسباب سياسية في زمن السلطان محمود الثاني، فاستوطن قبرص ومن قبرص نزح إلى مصر جده الأول، وكان من أولاده علي أغا صالح كاتب يد المغفور له محمد علي باشا الكبير والي مصر، وكان العم الأكبر لصاحب الترجمة المرحوم تويق باشا معاونا لشريف مكة ، ثم قائدا للجيوش التركية في اليمن، ومات رحمه الله بها ودفن في الحديدية.
1
صاحب العزة الأستاذ صالح بك جودت.
أما والد صاحب الترجمة المرحوم إسماعيل جودت فهو ربيب بيت محمد علي ورفيق صبا المرحوم الأمير إلهامي باشا، وقد اختاره المرحوم سعيد باشا، والي مصر ليتعلم بفرنسا على نفقته الخاصة، وأنزله بباريس بمنزل صديقه دولسيس حيث كانت إقامته، وقد أتم المرحوم دروسه الثانوية بباريس، ثم دخل جامعة السوريين حيث تلقى العلوم القانونية، ثم انتقل إلى مدرسة السياسة العالية حيث تخرج على رينان الفيلسوف الشهير، ووضع المرحوم بباريس كتابيه في «الرئاسة والسياسة ثم في أحكام القرآن»، ولما عاد لمصر عين في معية المغفور له إسماعيل باشا، ولما أنشئت دار الأوبرا عين مديرا لها وفي ذلك العهد وضع روايته التمثيلية «موسى»، ثم عاد إلى المعية في التشريفات وكان المرحوم الخديوي الأول يندبه لمقابلة الملوك والأمراء، ورجال السياسة الذين يقصدون مصر؛ ليتعرف مقاصدهم ويبلغهم ما يرغبون معرفته عن مصر وأهلها وأحوالها، وقد وشى به بعضهم مرتين إلى الخديوي فنفاه في الأولى إلى البحر الأبيض، لكنه لم يبلغ أسيوط حتى استدعاه، وأبعده في الثانية إلى بور سعيد، ثم ما لبث أن استقدمه إذ كان يتبين له كذب الوشاية كل مرة ويتحقق من صدق إخلاصه لأميره وبلاده.
ولما قامت الثورة العرابية كان المرحوم إسماعيل جودت من زعمائها «مع صديقه البارودي باشا والإمام عبده،
2
وحوكم في نهايتها مع من حوكم فقضي عليه بالنفي ثلاث سنوات خارج القطر، فاختار الإقامة في الأستانة حيث كان على صلة بالخديوي إسماعيل باشا، وكان صاحب الترجمة يقصد معه قصر أميرجان، حيث يقيم الخديوي السابق وقد انتدبت الدولة العلية والد صاحب الترجمة ضمن وفد المرحوم حسن باشا فهمي؛ لتقرير اتفاقية مؤتمر لندن سنة 1885 الخاصة بمصر، وفي أثناء رحلته تعرف بكبار رجال السياسة من الإنجليز، وله معهم أحاديث مشهورة.
3
ولما انقضت مدة النفي عاد والد صاحب الترجمة لمصر بالرغم من إلحاح السلطان عليه بالبقاء، وعرض ولاية اليمن عليه؛ لأنه كان رحمه الله متفانيا في حب بلاده.
وقد عرض على الحضرة السلطانية كثيرا من مشروعات الإصلاح الخاصة بها، ومن ضمنها مشروع إصلاح أعيان الأوقاف بمصر لاستغلالها وقد أوصى عليه السلطان الغازي مختار باشا؛ ليساعده لدى الخديوي على تنفيذ مقترحاته بخصوص الأوقاف، ولكن حالت الظروف السياسية دون ذلك، ولبث والد صاحب الترجمة بعيدا عن وظائف الحكومة مشتغلا بمهنة المحاماة حتى توفي سنة 1896م.
وقد حصر همه في سني حياته الأخيرة في تثقيف ولده صاحب الترجمة، وتعهد خلقه واستكمال علمه وأدبه حتى إذا توفي والده وهو لم يكد يتم السادسة عشرة من عمره كان رجلا قوي النفس، مطلعا على ما لا يعلمه حتى الشيوخ من أمور سياسة الشرق وأحواله.
حياته العلمية
ولما أتم صاحب الترجمة دروسه بالمدرسة الخديوية سنة 1898م، درس القضاء بمدرسة الحقوق الفرنساوية، وأدى امتحاناته أمام جامعة باريس حيث حاز شهادة الليسانس في العلوم القانونية، ثم أدى امتحان المعادلة أمام مدرسة الحقوق الخديوية بمصر حيث حاز شهادتها، وكان لم يزل منصرفا إلى الدراسة ولكن همه منحصر على الأخص في دراسة الاجتماعات والشؤون المصرية، وله مؤلفات عديدة في الأدب والاجتماع والجغرافية والتاريخ، من ذلك حوالي خمس عشر رواية أدبية معربة، ورواية تمثيلية «الإيمان» صادفت إقبالا عظيما لما مثلت في الأوبرا سنة 1914م، ثم كتاب الدليل العصري للقطر المصري، ومصر في القرن التاسع عشر وقوانين المجالس الحسبية وأمة الملايو، وهو عضو في كثير من الجمعيات العلمية المصرية والأجنبية، كجمعيتي الجغرافية الملكية المصرية والأميركية، وجمعية السجون الفرنسية، والجمعية الملكية للاقتصاد السياسي، والتشريع والمجمع اللغوي المصري، كما أنه من مؤسسي وأعضاء إدارة جمعية الرابطة الشرقية بمصر.
حياته الحكومية
وقد بدأ صاحب الترجمة حياته الحكومية مترجما بوزارة المعارف العمومية، ثم معاونا للإدارة بمديرية المنوفية، ثم مترجما بالنيابة العمومية ثم سكرتيرا فنيا للمرحوم أحمد فتحي زغلول باشا وكيل وزارة الحقانية سابقا، حيث كان عضده الأيمن في أعمال الوزارة التشريعية، وأعماله الأدبية الخاصة، وفي تلك الأثناء كان صاحب الترجمة سكرتيرا لكثير من لجان الإصلاح بوزارة الحقانية، وأخصها لجنة إصلاح الأزهر الشريف حيث وضع لها منهج الدراسة في العلوم العصرية، وترجم أعمالها فكافأته الحكومة المصرية على ذلك برتبة ومكافأة مالية، وكان سكرتير لجنة قانون المرافعات، حيث جهز للجنة جدول مقارنة قوانين المرافعات المعمول بها في أهم الممالك الأجنبية، وقد تولى حضرته القضاء في سنة 1914م بمحكمة مصر الأهلية، ثم بمحكمة أسيوط حيث اشتهر بين زملائه والمتقاضيين والمحاميين بالدقة وبعد النظر، وحسن المعاملة وسرعة الفصل في الخصومات، وفي سنة 1922م انتخبته وزارة الحقانية للقيام بأعمال إدارة مكتب معالي وزيرها ومن أخصها دراسة الأحكام المتناقضة الصادرة من محاكم الأحوال الشخصية الإسلامية وغير الإسلامية، ومراجعة قضايا الإعدام، والتأديب والتماسات العفو عن المجرمين، وعهدت إليه الوزارة بالإدارة التشريعية والفنية لمدرستي الحقوق والقضاء الشرعي، والبعثات العلمية في أوربا، وله في ذلك آثار مشكورة، وختم وظائفه الحكومية بتعيينه قاضيا لمحكمة طنطا الأهلية، وأخيرا استقال مفضلا الاشتغال بمهنة المحاماة، فاتخذ له مكتبا للاستشارات القانونية بأول شارع عابدين بمصر، ولا حاجة بنا إلى وصف مقدرته وكفاءته في التشريع والقانون.
حياته الاجتماعية
ولصاحب الترجمة شهرة معروفة في جميع الأوساط الاجتماعية بمصر وصلة بالعظماء فيها، وقد تمكن من خدمة القضية المصرية بالعمل على التقريب بين الأمة وأعضاء العائلة المالكة، وبشرح حقائق تلك القضية لمن قابلهم من كبار الساسة والأجانب، وأخصهم مسيو كليمانسو رئيس الحكومة الفرنساوية لما زاره بالصعيد في شهر مارس سنة 1920م، وله معه حديث كبير الشأن في ذلك الموضوع، وكان كما قدمناه من أوائل مؤسسي الرابطة الشرقية التي جمعت بين أعضائها ممثلي أربعة عشر أمة شرقية، وهو معروف كذلك خارج القطر المصري لمن خدمهم من أمراء الشرق مثل صاحب العظمة راجا قدح السلطان عبد الحميد حليم شاه، إذ تولى تربية نجله الأمير منصور حتى أدخله جامعة إكسفورد، وكان ولم يزل على صلة بالعاملين على خدمة الشرق في مصر أو خارجها، وله مباحث علمية وعمرانية عديدة تتعلق بالإصلاح في مصر، وقد نشر كثيرا منها في الجرائد والمجلات العربية، وترجم بعضها في أشهر المجلات الأوربية.
أخلاقه وصفاته
وإذا كان للبيئة تأثير في النفس والأخلاق، فصاحب الترجمة أكثر الناس حظا من ذلك، فإنه نشأ نشأة صالحة في بيئة صالحة، كان له منها فضيلة طهارة الذمة، وعلو الهمة، والتمسك بأهداب الحق والعدل، ونصرة المظلوم مع العفة والتقوى وخشية الله، وإن هذه الأخلاق السامية يعرفها فيه عشراؤه ويشهد له بها حتى خصومه وحساده، كثير الحلم والأناة راجع العقل بشوش الوجه، لطيف الحديث، دمث الأخلاق، معضد للأدب والأدباء، يجود بماله الخاص لإغاثة البؤساء، والأخذ بيد الفقراء، وإليه يرجع فضل تأسيس مدرسة مصرية بهليوبوليس «مدرسة السلطان حسين الأول»، وهو يتعهدها دائما بفضله وماله، ويتعلم فيها كثير من أولاد الفقراء مجانا.
أكثر الله من أمثاله حتى ترتع بلادنا في بحبوحة السعادة والهناء، بفضل رجالها العاملين أمثال حضرته.
ترجمة حضرة الشاب النبيل والأستاذ الضليع محمد بك جمال الدين الأيوبي
من بات ظرفا للظرافة وارتدى
برداء حسن خلائق وسداد
متهذب الأفكار والفرد الذي
ذكرت لطائفه بكل بلاد
رشدت مسالكه وحاد ضميره
عن طرق كل دنيئة وفساد
يبدي البشاشة باسما من لطفه
يا حبذا الوجه البشوش البادي
وإذا ذكرت صفاته في منتدى
يغشى عبير العطر ذاك النادي
متواضع وهو الجليل مقامه
بين الأنام حواضرا وبوادي
كسب الثنا بصفاته الحسنى كما
ورث العلى عن أكرم الأجداد
يغني الزمان وما لناشد وصفه
إدراكه أو منتهى لنفاد
مقدمة المؤرخ
ما من مصري تظله سماء مصر، وشرب جرعة من نيلها المبارك إلا وقد اتصل بمسمعه ما عليه بيت جمال الدين الأيوبي في منفلوط من الرفعة، والمجد، وشرف المحتد، والنبل، والجاه العريض، والأريحية الشماء والكرم الحاتمي والغيرة على الدين والوطن، ويمكننا أن نقول بلا جدال: إن هذه العائلة الشريفة هي الوحيدة التي حازت رضى جميع أصحاب السمو الخديويين السابقين وعموم أمراء الأسرة المالكة حتى اليوم، فنراهم عند زيارتهم لصعيد مصر يعرجون على قصرهم الفخم المعروف بمنفلوط فينزلون فيه على الرحب والسعة، ويلاقون من أفرادها كل إخلاص وولاء وإجلال واحترام وكرم حاتمي يليق بمقامهم الرفيع، ولا يمكن أيضا لمن احتك بأفراد هذه العائلة النبيلة وعرف جليل صفاتهم، ودرس أخلاقهم، وشاهد كرمهم، إلا الاعتراف بفضلهم ، ونبلهم، وجدير بالأمة المصرية أجمع أن تفاخر بهذه العائلة التي هي أفضل قدوة لمن يريد عبور هذه الحياة تاركا من ورائه ذكرى خالدة، وعملا مجيدا يدوم في بطون التاريخ ما دامت السماوات والأرض.
مولده ونشأته
حضرة الشاب النبيل والأستاذ الضليع محمد بك جمال الدين المحامي الشهير بأسيوط.
وإذا نحن أثبتنا في هذا السفر التاريخي فذلكة صغيرة عن حياة فرد أثيل نبيل من أفراد هذه العائلة الشريفة، ألا وهو حضرة الشاب المهذب القانوني الضليع الأستاذ محمد بك جمال الدين الأيوبي المحامي الشهير بأسيوط، وذكرنا لمحة وجيزة عن مناقبه، وغزارة أدبه، وسمو تربيته ودماثة أخلاقه، وقصرنا في المدح والإطناب فليعذرنا القارئ الكريم، وإننا نكتفي بإثبات قطرة صغيرة من بحر أدبه وكماله وفضله فنقول:
ولد هذا الأستاذ الأديب ببندر منفلوط مديرية أسيوط في 5 نوفمبر، سنة 1892 في وسط هذه العائلة الشريفة حسبا ونسبا فرباه والده الجليل المرحوم أحمد بك صالح جمال الدين كبير أعيان منفلوط على بساط العز والدلال، أو كما تتربى أولاد الأعيان فأرسله أولا لمدرسة أسيوط الابتدائية الأميرية، فارتشف من بحر علمها قسطا وافرا وكان في مدة دراسته آية من آيات الذكاء والنبوغ وموضع إعجاب أساتذته، وحاز منها على شهادة الدراسة الابتدائية، ثم أدخل المدرسة الخديوية الثانوية بالقاهرة فشمر عن ساعد الجد والإقدام وأحرز شهادة الكفاءة وكذا نال شهادة البكالوريا بتفوق يذكر، ومن ثم التحق بمدرسة الحقوق الملكية ومنها تجلت مواهبه السامية بما كان يبديه من الجدة والغيرة على ارتشاف العلوم حتى فاز منها بشهادة الليسانس.
اشتغاله في مهنة المحاماة
وعند نواله تلك الشهادة لم يشأ الالتحاق بالوظائف الحكومية، بل فضل خدمة بلاده من طريق الأعمال الحرة، فاحترف تلك المهنة الشريفة ألا وهي مهنة المحاماة والدفاع عن حق الضعيف، والأخذ بيد المظلوم وفي الوقت نفسه ليكون قريبا من مركز دائرته ومباشرة شؤونها العديدة بنفسه، فكان في مهنته شأن يذكر إذ كم من حق ضائع أظهره، ومتهم تلاعبت به يد الظلم فبرأه، وكم سعى للصلح بين الناس فوفق إليه بصائب رأيه، وحسن بصيرته ، وذلك بفضل كمال نشأته وغزارة علمه ووفرة أدبه.
تعيينه نظارا على أوقاف العائلة
ونظرا لكفاءته الشخصية قد عهد إليه إدارة شؤون أوقاف العائلة الواسعة، وأمسك بزمام وقفيتين منها، الأولى وقفية الأمير علي كاشف جمال الدين، حيث ضم بقيه مع الانفراد إلى أحمد أفندي شفيق الناظر السابق، ثم ضم أيضا ناظر ثقة إلى سعادة حفني الطرزي باشا النظار السابق لأوقاف المرحوم الطيب الذكر خالد الأثر أيوب جمال الدين، وذلك في بحر ستة أشهر، وها هو الآن يعمل بجد ونشاط وأمانة على إحياء ذكرى عائلته المجيدة وإخراج أولئك الأغراب، الذين عبثوا بهاته الأوقاف فسادا وغنموا من ورائها مغنما كبيرا واستباحوا لأنفسهم هضم حقوق المستحقين لذاك الوقف دون أن يجدوا من أنفسهم ما يردعهم عن هذا العمل الدنيء أو يزجرهم زاج، وسوف يعلم أولئك الظالمون إلى أي منقلب ينقلبون.
ترشيحه عضوا لمجلس النواب المصري
ولما كان حضرة صاحب الترجمة من شبان مصر الأذكياء الأكفاء، المتحلين بالعلم الغزير، والأدب الجم، ومشهورا بسداد الرأي، فقد رشح نفسه لعضوية مجلس النواب المصري وانتخب فعلا عضوا عن دائرة منفلوط الوسطى، ولو أتاح الله لهذا المجلس البقاء حتى اليوم لرأينا من همته غيرة على مصالح البلاد ما تلهج الألسن بالشكر والثناء عليه.
ولنا كبير أمل في شخص هذا الأستاذ القدير أن يعيد مجد هذه العائلة النبيلة إلى سابق عزها وفخرها، وليس هذا الأمل على همته بعزيز.
مآثر عائلة جمال الدين الخالدة
ومما يخلد لهذه العائلة المجيدة بقلم الشكر والإعجاب قيامها بتشييد أكثر من عشرة مساجد فخمة البناء، ثمينة الأثاث لإقامة الشعائر الدينية بها، وهي قائمة في منفلوط، وأبي تيج، وأسيوط، وصرفها الأموال الطائلة على الفقراء، والمحتاجين من أبناء السبيل وغيرهم.
وبالإجمال فإن هذا البيت الكريم شيد على دعامة السخاء، والكرم، ونشأ أهله على حب الخير ومواساة الفقراء فألبستهم التقوى والزكاة ثوب البهاء والجلال.
أخلاقه وصفاته
هو كما تراه جلي في صورته الشريفة جميل الخلق لين العريكة، لطيف المحادثة، وديع الأخلاق، كريم النفس عضد لكل مشروع خيري، يلبي نداء المروءة والإنسانية، وقد امتلك حبات القلوب بفصاحة لسانه، وبراعة منطقه، وقوة حججه.
حفظه الله للبلاد وللعائلة ركنا، وأكثر الله من أمثاله من أبناء مصر الأذكياء.
ترجمة الكاتب المجيد الفكه والأستاذ القانوني الضليع فكري أباظة
كلمة المؤرخ
الأستاذ فكري أباظة الكاتب الفكه المجيد والمحامي الضليع معلوم ومعروف لدى أدباء مصر، وعائلته المشهورة في عموم القطر المصري بالفضل والجاه، والتي تعد من أقدم العائلات المصرية في المجد المؤثل تغنينا عن الشرح والوصف.
ولا يمكن لمصري تظله سماء مصر وشرب جرعة من نيلها المبارك أن ينكر فضل هذا النابغ، وسعة علمه، وغزارة مادته، وطلاوة كتاباته، وحسن أسلوبه لا سيما تلك الطريقة الخاصة التي تسمى عند الإفرنج:
Humoristique «الجد في قالب المزح»، ولم تكن هذه الطريقة معروفة عند كتاب العربية بشكلها الرائع الراقي فكانت ذات تأثير غريب، وأقبل عليها القراء إقبالا لا مثيل له، لا سيما وأن جميع كتاباته خاصة بشؤون المصلحة العامة ولها.
الكاتب المجيد الفكه والأستاذ القانوني الضليع فكري أباظة المحامي الشهير ببندر الزقازيق.
فلا تمر أيام حتى تظهر له مقالات فكهة شيقة نافعة في أكثر الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية تكون حديث خاصة الناس، رغم النزعات الحزبية المختلفة، فكانت تتناولها أمهات الجرائد والمجلات الأوربية، فتترجمها إلى لغات مختلفة حتى أصبح فضل الأستاذ ليس قاصرا على مصر فحسب، بل والأقطار الأوربية عامة، وأضحى موضع إعجاب الجميع لرشاقة ألفاظه وحسن بيانه.
مولده ونشأته
ولد الأستاذ صاحب الترجمة بكفر أبي شحاته من أعمال مركز منيا القمح شرقية، وهو ابن حسين بك أباظة بن المغفور له السيد باشا أباظة، وقد سطعت أنوار مولده في أغسطس سنة 1896م فنشأ نشأة صالحة، ونبت نباتا حسنا فتربى على بساط العزة والمنعة وأدخل مدرسة القربية، واغترف علومها الأولية وحصل على الشهادة الابتدائية من المدرسية الخيرية عام 1908-1909م، ثم التحق بمدرسة السعيدية فأتم علومها وحاز منها على شهادة الكفاءة عام 1910-1911م، فالبكالوريا عام 1913م فالحقوق، إلى أن فاز منها شهادة الليسانس عام 1917م، ومن أكبر الأدلة على فرط نبوغه وقوة ذكائه أنه لم يرسب في تاريخه المدرسي إلا مرة واحدة في الشهادة الابتدائية، وحدث له وهو في مدرسة الحقوق سنة 1915م أن نسب إليه تهمة سياسية رفت بسببها، ولكن نال العفو من لدن ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين كامل عنه وعن زملائه الطلبة.
وأبت نفسه العالية الطموحة إلى المجد الاندماج في سلك خدمة الحكومة بعد خروجه من مدرسة الحقوق، بل فضل خدمة بلاده من طريق الأعمال الشريفة الحرة، فاحترف تلك المهنة الشريفة مهنة المحاماة عن الضعيف والمظلوم، فكان له فيها القدح المعلى وحاز فيها مركزا يحسده عليه الكثيرون، وقد أدى به مبدؤه السياسي للوقوف في مواقف صريحة برهن فيها على أنه لا يهاب في سبيل القيام بالواجب سوى ضميره والحق.
ولم تقعده واجباته المدرسية عن الاشتغال بالأدب فأخذ يكاتب الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية من سنة 1913م من نظم ونثر، وهو مولع بالموسيقى، وله فيها أكثر من أربعين قطعة موسيقية وضع ألحانها بنفسه، ومنها نشيده الوطني المشهور الذي ألفه عندما كان في أسيوط وطبعت منه آلاف النسخ، كما وأنه قد نبغ في لعب كرة القدم بالمدارس الثانوية والعالية واشترك في الفرق الأولى والمستنجعات، وقد كان لنشيده الوطني الذي ألفه في أسيوط رجة عظيمة وهزة عنيفة، وقع بسببه تحت طائلة التهديد بالقبض عليه لو لم تدركه العناية الإلهية بالحصول على جواز سفر متخذا لنفسه صناعة مستعارة «تاجر حمير»، وبه تمكن من مغادرة المدينة.
ومن الجرائد الأوربية التي تهتم كثيرا بترجمة مقالاته الطلية وكتاباته الشيقة جريدة نشيد رومس اليونانية، وهي من أمهات الجرائد وأعظم انتشارا، ناهيك عن أكثر الجرائد الأوربية من إنكليزية وفرنسية وغيرها.
ولصاحب الترجمة مجموعات عن شتى المواضيع التي طرقها، وتناولتها الأيدي بكل لهفة وشغف فطبع منها المجموعة الأولى وكذا المجموعة الثانية، وفي هذه قصيدة عصماء وخريدة فيحاء لأمير الشعراء سعادة أحمد شوقي بك، وكذا له مجموعة ثالثة هي تحت الطبع، ولا يزال المترجم له مشتغلا بالكتابة في عموم الجرائد اشتغال المجد المجتهد لا تشغله عن ذلك شواغل مهنته.
والمترجم له عضو بالحزب الوطني حيث التحق بلجنته الإدارية عام 1921م، وقد تقدم للانتخابات العامة عن دائرة بلبيس في الدور الأول لانعقاد البرلمان المصري، فلم ينجح لأنها من الدوائر الخالية من العصبة العائلية، وقد استطاع بشخصيته وحدها أن يعيد الانتخاب مع منافسه الذي فاز في المرة الثانية.
كلمة المؤرخ الختامية
لقد اعتذر حضرة الأستاذ صاحب الترجمة بعد إلحاح كثير أن يتفضل فيوافينا بترجمة مستوفاة عن تاريخه المجيد، مدعيا بأنه أصغر من أن يتطلع للوقوف في صف العظماء الذين يجب تخليد ذكرهم لأعمال جليلة أتوها، أو خدم عمومية قاموا بها نحو وطنهم وأمتهم لتدون لهم في بطون التاريخ.
فاضطررنا إزاء هذا الاعتذار ألا نحرم عشاق الأدب وحضرات الأدباء من محبيه ومريديه، أن نأتي بقطرة من بحر أدبه الواسع وعلمه الزاخر علها تشفي الغليل.
مع اعترافنا بالتقصير نحوهم ونحو التاريخ نفسه ولكن ما حيلتنا، وهكذا شاء الأستاذ وشاء تواضعه.
صفاته وأخلاقه
ولا يمكننا الخوض في وصف صفات وأخلاق هذا الأستاذ الجليل إنما نكتفي ونكفي حضرات القراء مئونة الشرح بنظرة واحدة، يلقونها على صورته الفتوغرافية الشريفة، فيتبين لهم جليا ما وهبه الرحمن من ذكاء نادر وقريحة وقادة، وستتجلى أمامهم صفاء السريرة ونقاوة السيرة، أضف إلى كل ذلك جمال الخلق والخلق.
أمد الله في حياة هذا الأستاذ النبيل والعالم الجليل، ولا أحرم الكنانة من أمثاله النبغاء الذين يتفانون في خدمة البلاد، ونفع العباد إنه سميع مجيب كريم قدير.
ترجمة الأستاذ القدير والمحامي الشهير الدكتور مرقص صادق
كلمة للمؤرخ
إذا ذكر التاريخ في بطون صفحاته الجليلة الأفراد الذين نبغوا بجدهم واجتهادهم، واكتسبوا صيتا طيبا ومنزلة عليا في قلوب عارفيهم، فحضرة صاحب هذه الترجمة يعد في مقدمة هؤلاء الذين تفتخر الأمة المصرية بهم.
الأستاذ القدير والمحامي الشهير الدكتور مرقص صادق من نوابغ محامي القاهرة.
مولده ونشأته
ولد حضرته في 31 يوليو 1882م ببلدة فيشا الصغرى مركز منوف من أبوين شريفين عرفا بالتقوى والصلاح، فوالده هو حضرة جرجس أفندي ملطي كبير وجهاء قومه، وقد كان مولعا بالآداب وحب المعارف، ولما ملك أصول التربية المنزلية وغرس فيه والده المبادئ القومية والآمال السامية، أدخله مدرسة الحسينية الأميرية فتمم علومها وأحرز الشهادة الابتدائية منها، ثم التحق بمدرسة الأقباط الكبرى وأخذ يبدي نشاطه المعهود وذكاءه الفطري، حتى نال منها الشهادة الثانوية عام 1902، والتحق بعد ذلك بمدرسة الحقوق الفرنساوية، فنال شهادة الليسانس في الحقوق عام 1905م، وما كاد ينصرم العام الذي يليه حتى حصل على شهادة المعادلة ثم الدكتوراه في الحقوق عام 1908م، وقد فاز بنواله شهادة الدكتوراه هذه على أثر وضعه كتابه المشهور ألا وهو «قانون النظام المصري »، وقد أخذ صاحب الترجمة في مزاولة مهنة المحاماة الشريفة منذ عام 1910م حتى الآن، وهو من كبار المحامين الذين يشار إليهم بأطراف البنان في الدفاع عن الحق وطهارة الذمة، ومن المشهود عنهم بطلاقة اللسان، وبلاغة الإشارة، مؤثر بحسن ترتيب دفاعه، ونبرات صوته ولسانه، بل بهيئة وقوفه، وحركاته، وإشاراته، مما جعل مرافعاته موضع إعجاب من سمعها.
وقد جادت عليه الطبيعة بذكاء مفرط يدلك على ذلك عدم رسوبه في أي فصل من فصول المدارس الأولية والعالية، التي دخلها وحصوله على أكبر شهادة في علم الحقوق مع حداثة سنه.
صفاته وأخلاقه
وإذا كان للبيئة تأثير في النفس والأخلاق فالأستاذ صاحب الترجمة أكثر الناس حظا من ذلك، فإنه نشأ نشأة صالحة، في بيئة صالحة، كان له منها فضيلة الشجاعة وعلو الهمة والتمسك بالحق والعدل، ونصرة المظلوم مع العفة، والتقوى وخشية الله، وأن هذه الأخلاق السامية الطاهرة يعرفها فيه عشراؤه، ويشهد له بها حتى خصومه، وهو وقت الشدة لا يحب العنف، ووقت اللين لا يعرف الضعف، كثير الحلم والأناءة راجح العقل رزين، أدامه الله قدوة صالحة، وأبقاه لنصرة الحق والعدل.
ترجمة حضرة العالم الأديب والأستاذ القدير الشيخ محمد إبراهيم الجزيري
حضرة العالم الأديب والأستاذ القدير الشيخ محمد إبراهيم الجزيري المحامي الشرعي والسكرتير الخاص لدولة الرئيس الجليل سعد زغلول باشا وصاحب مجلة القضاء الشرعي.
كلمة المؤرخ
إذا حق لمصر أن تفاخر بأبنائها النجباء ذوي القرائح الوقادة والذكاء الغريزي، والأدب العالي، الذين تفوقوا بالنبوغ الفطري ونالوا بهذه المزايا السامية، والمواهب العالية، مكانة عالية، ومنزلة قصوى في عالم العلم والأدب فلها أن تفاخر بحق وجدارة بنبوغ هذا العالم الفاضل والأستاذ النابغ صاحب هذه الترجمة، الذي قد بلغ مع حداثة سنه منزلة يحسد عليها في الهيئة الاجتماعية، فأصبح يشار إليه بأطراف البنان لغزارة علمه ورجاحة عقله، وسمو آدابه، وعالي تربيته.
وإنا نسطر ترجمته الشريفة بقلم الفخر والإعجاب؛ لتكون خير مثال يحتذى لأبناء الأجيال المقبلة سائلين الحق تعالى أن يكثر من أمثاله النجباء بين شباب مصر الناهض لنفع البلاد والعباد .
مولده ونشأته
ولد هذا الفاضل بمدينة الإسكندرية في 25 أبريل سنة 1898 من أبوين شريفين، يرجع نسب الأب إلى الحسين ونسب الأم إلى الحسن، ووالده هو العلامة الجليل المرحوم الشيخ محمود الجزيري، الذي كان من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف وعضو بالمحكمة الشرعية العليا.
فرباه تربية صالحة تليق بأبناء العلماء الأعلام وأدخله مدرسة عثمان باشا ماهر الابتدائية فأتم علومها، ومن ثم دخل مدرسة القضاء الشرعي فأكب على اغتراف بحور علومها بهمة لا تعرف الملل حتى حصل على عالميتها سنة 1922م المتداخلة في سنة 1923م، وقد أدى امتحاناتها وهو معتقل في سجن الأجانب لتهمة سياسية نسبت إليه، ومع ذلك كان من أوائل الناجحين وهذا دليل كاف على قوة ذكائه ورجاحة عقله.
ولما كانت نفسه العالية تواقة إلى المزيد من اغتراف مناهل العلم الصحيح شأن كل نفس طموحة إلى المجد، فقد اندمج في سلك طلاب الجامعة المصرية، وأخذ يواصل ليله ونهاره في الجد والاجتهاد حتى حصل منها على شهادة الليسانس في الآداب في شهر فبراير سنة 1920م، وقد تمكن في أثناء دراسته بمدرسة القضاء الشرعي والجامعة المصرية أن يدرس اللغة الفرنسية وآدابها درسا وافيا جعله ملما بأصولها وفروعها.
وبعد أن تخرج من مدرسة القضاء الشرعي اختار أن يكون محاميا لدى المحاكم الشرعية، إلا أن الوفد المصري الذي يرأسه دولة الزعيم الجليل سعد باشا زغلول اختاره للقيام بأعمال السكرتارية في بيت الأمة، فقام بعمله هذا خير قيام وحاز ثقة الرئيس الجليل، فاختاره عقب استقالة الوزارة السعدية سكرتيرا خاصا لدولته لعظيم إخلاصه.
وقد أنشأ حضرة صاحب الترجمة مجلة شهرية أسماها «مجلة القضاء الشرعي» يديرها ويرأس تحريرها بنفسه وهي مجلة شرعية، علمية، أدبية، تبحث في كافة الشؤون الشرعية والأحكام، وبها قسم علمي أدبي وهي المجلة الوحيدة التي اشتركت فيها وزارة الحقانية لجميع المحاكم الشرعية؛ لما وجدته في أبوابها الشرعية، والعلمية، والأدبية، من الفوائد الجمة.
صفاته وأخلاقه
أما عن جمال صفاته وأخلاقه وما أودعه الله تعالى في هذه الروح العالية، فحدث ولا حرج، فهو دمث الأخلاق، بشوش الطلعة ، حاضر الذهن، طلق اللسان، وقور، محترم، محبوب من جميع عارفي فضله وأدبه وعلمه الزاخر.
أكثر الله من أمثاله بين شباب مصر لرفع لواء علمها وأدبها.
ترجمة حضرة صاحب العزة الدكتور محمود بك عزت
كلمة وجيزة للمؤرخ
من الذين خصهم الرحمن بالوداعة وطهارة الذمة وعمل حقا لرضاء الخالق والمخلوق حضرة صاحب هذه الترجمة، الذي ما حل بمركز أو مديرية بحكم وظيفته الحكومية إلا وكان مثال الشهامة، وعنوان الاستقامة ومضرب المثل في النزاهة وطهارة الذمة مع المهارة التامة، والكفاءة المتناهية في مهنة الطب الشريفة، إذ ما من مريض يسعده الحظ ويرشده حسن طالعه إلى معرفة شخصه الكريم، ويعرض عليه علته إلا ونال الشفاء بفضل ما اكتسبه من خبرة وحنكة وتجارب عديدة، قل أن تتوفر لكثيرين من الأطباء.
مولده ونشأته
ولد صاحب العزة محمود بك عزت بناحية باسوس مديرية القليوبية سنة 1278ه، فأدخله والده المرحوم علي أفندي لامع ذاك الوالد البار الذي كان عنوان الفضل والجد والرجولية الصحيحة في مكتب البلدة، الذي أنشأه المرحوم والده حيث تعلم به القراءة والكتابة عام 1292 هجرية، ثم أدخله مدرسة المبتديان الأميرية وارتشف من بحور علومها فكان مثال الذكاء والنشاط بين التلامذة محبوبا من عموم أساتذته وظل بها ثلاث سنوات، أي لعام 1295، ومن ثم أدخله مدرسة الطب وانكب على شتى علومها، وبفضل ما بذله من غيرة وهمة ونشاط فاز على عموم أقرانه، ونال درجة هيهات أن ينالها غيره في ذاك العهد وظل بهذه المدرسة ست سنوات متوالية وخرج منها عام 1301ه الموافقة لعام 1883م.
وظائفه الحكومية
حضرة صاحب العزة الدكتور محمود بك عزت مفتش صحة قسم أسيوط والمنيا سابقا.
وما كاد ينتهي من تلك المدرسة ويفوز بشهادتها التي تخول لحاملها تعاطي مهنة الطب حتى عين طبيبا لصحة مركز العطف عام 1883م، أي في نفس السنة التي تخرج منها من مدرسة الطب، وأخذ يتنقل في مراكز مديرية البحيرة مدة 17 سنة، أي لسنة 1897م، ثم انتقل إلى صحة الواحات الداخلة بمديرية أسيوط، وظل بها سنة واحدة ونقل منها إلى صحة مركز فارسكور بمديرية الدقهلية، ومكث بها لغاية سنة 1901م، ومنها انتقل إلى صحة مركز السنبلاوين، ومكث بها لغاية سنة 1907م ونقل منها إلى صحة مركز إطسا بمديرية الفيوم، ثم رقي إلى وظيفة مفتش ثاني لصحة مديرية الغربية، ثم رقي مفتشا مؤقتا لصحة مديرية الشرقية عام 1909م، وظل مدة أربعة شهور ومنها نقل مفتشا لصحة مديرية قنا في أواخر سنة 1909، ومكث بها لغاية أوائل سنة 1913م، ومنها نقل مفتشا لصحة مديرية الشرقية ومكث بها ثمان سنوات، ثم رقي مفتشا لصحة قسم أسيوط والمنيا وظل بها حتى عام 1922م، ومن ثم أحيل على المعاش لبلوغه السن القانونية.
وليس بيت القصيد من ذكر هذه التنقلات أن يعرف القارئ الكريم المراكز والمديريات، التي خدمها هذا الشهم المفضال إنما ليعرف أن كل بلدة أو مركز أو مديرية وطأت قدماه فيها كان مثال النزاهة، غيورا على مصلحة الجمهور محبوبا من جميع عارفي فضله وعظيم كفاءته، وسعة علمه لا سيما ما كان يبديه من المجهودات الشاقة، والخدمات الجليلة، عندما انتشر الطاعون في مديرية قنا سنة 1911م، فقد بذل أقصى ما في استطاعة مخلوق وبرهن على سعة مداركه، وإن التاريخ يسجل لعزته هذه المآثر الغراء بقلم الشكر والثناء؛ لتدوم ناطقة له بالفضل ما دامت السماوات والأرض.
وقد أنعم عليه سمو الخديوي السابق عباس حلمي باشا بالرتبة الثانية عام 1911؛ جزاء اهتمامه في مقاومة ذاك الوباء بمديرية قنا، وأنعم عليه جلالة الملك فؤاد الأول بنيشان النيل من الدرجة الخامسة، وبالرتبة الثانية تثبيتا للأولى من لدن جلالته وقت أن أحيل على المعاش.
صفاته وأخلاقه
أما عن أخلاقه وصفاته فحدث عنهما ولا حرج، بل لك أن تقول: إنه آية اللطف، وكرم الأخلاق، والوداعة المتناهية، والعطف على البؤساء، ومواساة الفقراء، وبالإجمال فإنه شهم جمع فأوعي من جليل الصفات وعظيم الخصال.
أدامه الله وأبقاه وأكثر من أمثاله النبهاء.
ترجمة حضرة النطاسي البارع الدكتور زكريا كمال
كلمة المؤرخ
حقا لقد صدق المثل المألوف: «إن هذا الشبل من ذاك الأسد»، فإن الأخلاق الرضية التي خبرناها شخصيا في شخص هذا الشبل، والمناقب السامية والصفات العالية، والتربية الصحيحة، رأيناها بارزة في شخص والده الكريم ولا غرو فهو نجل ذاك العالم الجليل فقيد العلم والوطن المغفور له أحمد باشا كمال، وإننا لنغتبط سرورا، ونتيه عجبا، بما أحرزه هذا الشاب الأديب من ثقة عارفي مقدرته وكفاءته الطبية مع حداثة سنه، حتى بلغ شأوا عظيما، سائلين الحق تعالى أن يكون خير مثال يحتذى لشباب مصر الناهض ولأبناء الأجيال المقبلة.
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة في 17 أكتوبر سنة 1896 بالقاهرة، وتربى في وسط بيئة صالحة مستقيمة، ولما بلغ أشده أدخله المرحوم والده مدرسة الفرير بشبرا ومنها إلى مدرسة الفرير بالخرنفش بالقاهرة، فدرس علومها وكان الحظ حليفه بفضل قوة ذكائه حيث أحرز شهادتها، ومن ثم تاقت نفسه العالية إلى طلب علوم الطب فسافر إلى فرنسا، حيث التحق بإحدى كليات الطب ببردوا من أعمالها إلى أن حاز على شهادتها، ومن ثم التحق طبيبا بمستشفاها وبعد زمن عاد إلى الوطن العزيز وافتتح عيادة خصوصية ولما عرف الجمهور ما عليه من الكفاءة والعلم الغزير والمقدرة الطيبة، أقبل عليه إقبالا عظيما وما زال عاملا مجدا في تلك العيادة إلى يومنا هذا.
حضرة النطاسي البارع الدكتور زكريا كمال الطبيب المشهور بالقاهرة ونجل فقيد العلم المرحوم أحمد باشا كمال.
صفاته وأخلاقه
على جانب عظيم من اللطف، ومكارم الأخلاق، والدعة، وسرعة الخاطر، وله في تخفيف آلام المرضى ومواساتهم فضل يذكر بالشكر والثناء.
أثابه الرحمن خيرا جزاء خدماته للإنسانية وأكثر من أمثاله.
ترجمة الطبيب الماهر الدكتور حامد أفندي عليش
كلمة وجيزة للمؤرخ
تفخر مصر كما يسر المؤرخ من تدوين صفحة بيضاء لتاريخ شاب من زهرة شبابها، وعامل مجد في سبيل خدمتها وخدمة المجموع الإنساني، وإن القارئ الكريم ليغتبط سرورا ويتيه جزلا وحبورا من جهاد المجاهدين في سبيل المنفعة لخير البلاد وفائدة العباد.
فمن شباب مصر الناهض هذا الأديب الفاضل، الذي حاز مع حداثة سنه شهرة وثقة بين عملائه ورؤسائه قل أن يحوزها غيره.
مولده ونشأته
ولد هذا الذكي النشط عام 1891 ميلادية من والدين فاضلين صالحين، وكفى به فخرا أن يكون فرعا من تلك الدوحة الشهيرة بالتقوى والصلاح والعلم، وهي عائلة «عليش» التي ما من شرقي ينطق «بالضاد» إلا ويعترف بفضلها في عالم العلم والأدب، فأدخله مدرسة الحسينية الابتدائية، فحصل على شهادتها واغترف من مناهلها العذبة وحصل على شهادة البكالوريا من المدرسة الخديوية بتفوق غريب وذكاء مدهش، ثم التحق بمدرسة الطب ابتغاء نفع مواطنيه والهيئة الاجتماعية فنال شهادتها النهائية، وما كاد يحصل عليها حتى عين عام 1916م طبيبا باسبتاليات الرمد، ثم عين طبيبا بعموم مصلحة الصحة عام 1917م بقسم الأوبئة ثم نقل طبيبا لمدينة الإسماعيلية فكان مثال الجد في العمل والمهارة في الطب، ثم نقل بعد ذلك طبيبا لمركز كفر الشيخ غربية قسم ثان، ثم طبيبا لمركز بلقاس، ثم مفتشا لصحة القناطر الخيرية، ثم نقل إلى القسم الطبي بوزارة المعارف بمصر بناء على طلبه، حيث أراد أن يزاول مهنة الطب حيث المجال أوسع للبحث والعمل.
الطبيب الماهر الدكتور حامد أفندي عليش بالقسم الطبي بوزارة المعارف.
وقد يكون مرجع الفضل في نجاحه، وحسن تربيته، لفضيلة والده الشيخ الجليل أحمد عبد الله عليش المشهور بسعة المدارك والعلم الغزير، والتقوى، والورع، وأيضا لذكائه الفطري، وانكبابه على العلم المقرون بالعمل الذي عاد عليه بالنجاح التام.
وترى صاحب الترجمة مكبا على العمل في أكثر أوقاته منقبا على الأبحاث الطبية والاكتشافات الهامة، وقد وهبه الحق تعالى جمال الخلق والخلق والشفقة على البؤساء، الذين يقصدون عيادته فتراه يكفكف دموع آلامهم بدماثة أخلاقه وطلاوة أحاديثه وحسن أدبه، فتراهم وهم منصرفون إلى منازلهم يلهجون بحسن صنيعه وجمال صفاته؛ ولأنه والحق يقال مثال ناطق للمروءة والفضل.
أدامه الله لنفع البلاد وأكثر من أمثاله النجباء.
ترجمة صاحب العزة الدكتور إبراهيم بك فهمي سالم
كلمة للمؤرخ
تزين بالفخر والإعجاب كتابنا بصورة طبيب فاضل، وتاريخ حياة شاب عامل من شباب مصر الناهض، ترتسم في محياة علائم الفطنة والذكاء الفطري؛ ليكون في تاريخه مثال صادق في النباهة والاجتهاد والنشاط وعلو الهمة والإقدام لرجال المستقبل.
مولده ونشأته
ولد حضرة المترجم له بالقاهرة في 6 سبتمبر سنة 1889 ميلادية من أبوين شريفين، فجده المرحوم سالم بك عوض من كبار ضباط الجيش المصري، ووالده هو حضرة سالم أفندي عوض أحد موظفي المعية الخديوية سابقا.
تلقى علومه الأولية بمدرسة الجمالية ثم التحق بمدرسة رأس التين بالقسم الثانوي، فمدرسة الطب البيطري بالقاهرة وتخرج منها عام 1908م بعد نواله الدبلوم، ومن ثم عين طبيبا بيطريا بسلخانة مصر فأظهر في مدة وجيزة همة ونشاطا ومهارة استلفتت أنظار رؤسائه فرقي إلى درجة طبيب أول بها، فضاعف مجهوده حتى ظهرت كفاءته وقوة ذكائه، ونقل عام سنة 1910 ميلادية إلى شفخانة البوليس التابعة لمدرسة الطب في ذلك الوقت، ثم مدرسا بالمدرسة المذكورة وبتاريخ 1920 عين وكيلا لها، وقد يستغرب القارئ الكريم من سرعة ترقيته إلى هذا المركز السامي في خلال هذه المدة الوجيزة، ولكن من عرف همة حضرته ونشاطه ويقظته والمواهب السامية التي اختص بها، وتتجلى أمامه روح الرجولية الصحيحة فلا يجد محلا للغرابة.
حضرة صاحب العزة الدكتور البارع إبراهيم بك فهمي سالم وكيل مدرسة الطب البيطري وأستاذ علم الجراحة والطب الشرعي والتشريح.
وفي عام 1914 انتخب سكرتيرا للجمعية الطبية البيطرية، ولم يزل قائما بشؤون هذه الوظائف حتى الآن، ولم تثنه كثرة هذه الأعمال الشاقة من التفكير في مشروعات مفيدة نافعة لتخفيف آلام الحيوانات، فأنشأ مستشفى طبيا بيطريا بشارع الشيخ قمر بالعباسية عام 1919م، تام الاستعدادات كامل الأدوات وأوجد به أجزاخانة مملوءة بالأدوية المخففة لأمراض أنواع الحيوانات، فاستحق الثناء المستطاب والمدح الجزيل. ولحضرة المترجم الفضل الأكبر، والأثر المحمود في اشتراكه مع جناب المستر وليم لتلودد مدير قسم الطب البيطري بوزارة الزراعة، الذي خدم الحكومة المصرية مدة 37 عاما، ومؤسس مدرسة الطب البيطري سنة 1901م على النظام الحديث، حتى أصبحت بفضله وجناب المستر هربرت ميسون مدير المدرسة تعد من بين المدارس العليا بالقطر المصري.
وإننا لا يمكننا أن نبخس جناب المستر وليم لتلودد حقه من الشكر على ما أداه من الخدمات الجليلة لتأسيسه معمل الطب البيطري، ومعمل السيرم بالعباسية لمقاومة الطاعون البقري والكورنتينة بالشلال والقاهرة، والسلخانات العديدة بالقطر المصري.
ولقد احتفل حضرة المترجم له والأطباء البيطريون عموما بالقطر المصري بوداع جناب المستر وليم لتلودد قبل مغادرته القاهرة يوم 17 مارس سنة 1923 احتفالا شائقا، وأخذت صورتهم الشمسية تذكارا.
ولقد تصفحنا قانون الجمعية الطبية البيطرية بالقاهرة المعين بها حضرة المترجم له بصفته سكرتيرا وأمينا للصندوق، ودرسنا مواده فإذا هو كفيل بحسن مستقبلها ضامن لنموها ورقيها.
صفاته وأخلاقه
حلو الحديث، كامل الخلق، والخلق، دمث الأخلاق، على جانب عظيم من الكفاءة الشخصية في مهنته، كبير العزيمة بعيد عن الخمول جذاب لكل محدثيه، حفظه المولى وأبقاه وأكثر من أمثاله بين شبان مصر.
ترجمة حضرة الأستاذ الأثري المصري الجليل محمد بك شعبان
حضرة الأستاذ الأثري المصري الجليل محمد بك شعبان الأمين الوطني المساعد للمتحف المصري.
يسرنا أن ندون بمداد الفخر والإعجاب تاريخ هذا الأستاذ الفاضل المصري الأثري الشهيد محمد بك شعبان، الأمين المساعد للمتحف المصري الذي خلف فقيد العلم والعمل طيب الذكر خالد الأثر ذاك العالم الكبير المرحوم أحمد باشا كمال، وحل محله في هذه الوظيفة اعترافا بفضله وما له من مكتشفات عديدة في الآثار المصرية، ليدوم ذكره العطر في بطون التاريخ خير شاهد بعظيم مجهوداته، وجليل خدمات الفنية وليكون في من وراء تدوينه خير عظة لأبناء الأجيال المقبلة.
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة بالقاهرة في شهر يناير سنة 1866م الموافقة لشهر شعبان سنة 1282ه من أبوين كريمين شريفين حسبا ونسبا، فهو ينتسب من جهة الأب بالشرفاء الحاج عبد الوهاب والحاج موسى خليفة من أقطاب ناحية دفرا غربية، ومن جهة الأم ينتسب مع أخوال جدته وهي والدة المرحوم كمال باشا وهم سليم بك وصبحي باشا وسامي باشا وخير الله باشا، وكان أولهم قد توجه إلى الأستانة في أوائل حكم محمد على باشا، وتعين كاتم أسرار الدولة العلية ثم توجه صبحي باشا إلى بيروت وعين واليا عليها، وبعدها تعين وزيرا للمعارف بالأستانة، ثم خير الله باشا تعين صدرا أعظم بها، ومدة إقامتهم بمصر كانت بالسراي ملكهم الكائنة بدرب الجماميز، ثم بيعت إلى المرحوم مصطفي فاضل باشا، وهي الآن تابعة لوزارة المعارف، وكانت تقام فيها امتحانات المدارس الثانوية، فأدخله والده المدارس الابتدائية وتغذى بلبان علومها فكان المثل الأكمل لزملائه الطلبة في الجد والنشاط والذكاء، ثم التحق بمدرسة البعثة الإنجليزية، وفي عام 1882م دخل مدرسة الآثار المصرية التابعة لوزارة الأشغال العمومية، ومكث مكبا على تلقي العلم حتى 4 فبراير سنة 1886م، فأتقن في هذه المدرسة اللغة الهيروغلوفية والديموتيكية والكرسيف، والتاريخ وسائر العلوم كالجغرافيا والرياضيات والهندسة واللغة العربية وغيرها من مختلف العلوم، وكان في كل سنة يعمل امتحان بمدرسة الآثار يحضره الوزراء مع وزير الأشغال، وأخيرا نال صاحب الترجمة شهادة في علم الأيجتلوجية ممضاة من جانب المسيو مسبرو الذي كان وقتئذ مديرا عاما للآثار المصرية.
الوظائف الحكومية التي شغلها
وفي عام 1886 تعين حضرة صاحب الترجمة مفتشا لآثار مديريتي المنيا وأسيوط، وأقام في مركزه بضع سنوات كان في خلالها مثال الإقدام والنزاهة والجد، حتى نقل مفتشا لآثار مديريتي الفيوم وبني سويف ومنها نقل لمديرية قنا مع جعل مركز إقامته «القرنة» المجاورة لأبواب الملوك، ثم أعيد نقله إلى مديريتي المنيا وأسيوط، ومنها إلى مديرية بني سويف؛ ونظرا لاستقامته وعلو كعبه في العلوم الأثرية تعين مفتشا لآثار الوجه البحري، وجعل مركز إقامته الزقازيق ومكث بها حتى عام 1912م، ومن ثم نقل إلى مديرية الجيزة وقد تعين في وظيفته الحالية من عام 1916م، وذلك على أثر إحالة المرحوم أحمد باشا كمال الذي حل محله في هذه الوظيفة على المعاش.
الآثار التي اكتشفها صاحب الترجمة
وقد اكتشف صاحب الترجمة تمثال الملك «أمنمحتب» الثالث بمديرية الفيوم، وهو الذي أسس سراي «لبيرنته» المحتوية على ثلاثة آلاف غرفة، وعمل بحيرة مويسى لري الأرض لغاية البحري، ثم عثر على الكنز الثمين بمديرية الشرقية من عصر البطالسة، وهذا الكنز يحتوي على جملة أساوير وأوستيك وقلائد وعقود ثمينة وأطباق من الذهب وأدوات منزلية من الفضة، كما أنه عثر أيضا على كنز آخر كائن بتل بسطة بمديرية الشرقية يحتوي على أشياء ثمينة جدا، منها قدر من الذهب وكوبات من الذهب أيضا، وأواني فضية كثيرة وقلادات ذهبية، ثم عثر أيضا على كثير من الآثار المختلفة بتلول كثيرة بمديريتي الشرقية والدقهلية، مثل تل تمي (منديس)، حيث وجد كثيرا من النواويس وتماثيل من حجر وبرنز وأشياء صغيرة مختلفة، كما أنه عثر على تمثال هائل للملك منفتاح، أي «فرعون الخروج»، بتل الأشمونين بمديرية أسيوط، وكثيرا من صور المعبودات المختلفة في المعدن، والأشكال، والتواريخ.
وتراه وقد بلغ الحلقة السادسة من عمره المبارك الحافل بجلائل الأعمال، يعمل في دار المتحف المصري بكل همة ونشاط وإقدام وإخلاص، ولا تفوته لحظة دون تنقيب أو مطالعة، وقدر أصدر نبذا علمية خاصة بفن الآثار وبكثرة أبحاثه فيها قابلها الجمهور المصري بالشكر والثناء والإعجاب بمقدرته وعظيم كفاءته العلمية، ولا غرابة في ذلك؛ فهو ابن شقيقة فقيد هذا العلم نابغة زمانه المغفور له المرحوم أحمد باشا كمال الأمين المساعد الوطني للمتحف المصري سابقا، والذي تغذى صاحب الترجمة بسمو مداركه، وواسع خبرته، وشب على منواله، ولحضرة المترجم له أبحاث كثيرة ومكتشفات جمة عدا ما أثبتناه هنا تدل على سعة إطلاع وذكاء مفرط، وهمة شماء لا يعتورها ملل، وعزيمة ماضية لا يصيبها كلل، فهو والحق يقال رجل عمل، وفضل، ونبل، جدير بكل شكر وثناء ومدح وإطراء لصدق خدماته وكبير مجهوداته وغزارة علمه.
الرتب التي حازها
ولقد أنعم على حضرته بالرتبة الخامسة عام 1319ه وبالرتبة الرابعة عام 1330ه، كما أنعم عليه المغفور له السلطان حسين كامل بنيشان النيل، ونحن نرجو أن يصل للدرجة التي تتساوى مع عظيم كفاءته وغزير علمه، وليس هذا الرجاء على القائمين بالحكم بعزيز.
هذا وقد انتدب من وزارة الأشغال العمومية لملاحظة استخراج الآثار التي اكتشفت حديثا بالأقصر، ألا وهي آثار الملك توت عنخ آمون والاعتناء بالمحافظة عليها، وفي هذا الانتداب دليل آخر على ما لحضرته من الكفاءة العلمية والخبرة التامة.
صفاته وأخلاقه
تراه رغم انهماكه في أبحاثه ومطالعته، وأشغاله الرسمية، ضاحك السن، بشوش الوجه، على جانب عظيم من اللطف يستميل نفوس مجالسيه، جاذبا إليه قلوبهم بعذوبة لفظه ، ورقة عباراته، وغزارة مادته، وفوق ذلك فهو على جانب عظيم، من التقوى والصلاح.
نسأل الله أن يطيل بقاءه ويكثر من أمثاله العاملين لخير البلاد، ولخدمة المصلحة العامة، إنه نعم المولى ونعم النصير.
ترجمة حضرة صاحب العزة العامل المجد والوطني الغيور محمد بك هلال
من أعيان ميت غمر «دقهلية»
كلمة للمؤرخ
من رجال الأمة المعدودين الذين نالوا قسطا وافرا من علو الكعب في الشؤون العلمية، والإدارية، والزراعية، والوطنية الصادقة، هذا الشهم الغيور الذي نسطر بعض أعماله الغراء ومآثره الفيحاء في هذا الكتاب سائلين الحق تعالى أن يكثر من أمثاله العاملين المجاهدين في سبيل خدمة البلاد، وإن مصر العزيزة لتفخر بأبنائها الذين يعملون لرفع لواء مجدها أمثاله.
مولده ونشأته
هو حضرة صاحب العزة محمد بك هلال نجل المرحوم هلال بك هلال من أعيان مركز ميت غمر دقهلية، ولد سنة 1885م وتلقى علومه الابتدائية بمدارس الآباء اليسوعيين، وبعد أن أتمها أحضر له والده المعلمين الأكفاء لتلقينه أصول الدين وتقويته في علومه حتى عرفوا فيه الذكاء والكفاءة والرجولية الصحيحة.
صاحب العزة محمد بك هلال.
ونظرا لعلو مركزه بين قومه وعشيرته انتخب عمدة لبلده 1907م فتجلت مواهبه وسطع ذكاؤه وبفضل تلك الكفاءة الشخصية استطاع أن يحفظ الأمن العام والسهر على ما فيه المصلحة العامة، وأضحى عهده مضرب المثل في الرخاء والإصلاح والارتقاء في الشؤون الزراعية، والصناعية، والعلمية، مما جعل البلدة ترفل في بحبوحة من الهناء، وجوزي بالأنعام عليه بالرتبة الثالثة في 4 جمادى سنة 1359؛ تقديرا لهمته، واستقال من العمودية سنة 1921؛ ليتفرغ إلى ما هو أهم، لا سيما في الأعمال الخيرية التي لا تدخل تحت حصر، وأيضا في مساعدة الوفد المصري من وقت لآخر فاستحق تقدير الوطن له، ومما هو جدير بالذكر أنه دعا الوفد المصري في شهر أكتوبر سنة 1923م بميت غمر، وأقام معالم الزينة ومد الموائد للفقراء مدة ثلاثة أيام متوالية، فتوافد إليه كل سري وعظيم فكان يقابلهم بما عهد فيه من رقة ولطف وكرم، وقد قام في وسطهم مبينا وجوب بذل ما يمكن من المساعدة لخدمة القضية المصرية، وتعضيد الوفد والالتفاف حوله فجمع مالا وفيرا، وقدمه للوفد فحاز شكر وثناء حضرات أعضائه الكرام.
ولحضرة صاحب الترجمة قصر فخم أقامه بناحية منشية هلال بمحطة سنفا دقهلية، فضل الإقامة فيه طلبا للعزلة والراحة من عناء مجهوداته الكثيرة.
صفاته
كثير الاهتمام بشؤون بلاده وما يعود عليها من الخير، سباق لعمل الخير وإغاثة الملهوف وتخفيف كرب البؤساء ومساعدة الفقراء، شديد المحبة والاحترام والإخلاص لهيئة العلماء، وهو على جانب عظيم من الفطنة والذكاء ودماثة الأخلاق، فحبذا لو اقتدى بمثله كل فرد من أبناء الأمة.
ترجمة حضرة صاحب العزة وجيه قومه جرجس بك عبد الشهيد
كبير وجهاء بندر ببا بمديرية بني سويف
كلمة للمؤرخ
هو قطب من أقطاب الأمة القبطية الأرثوذكسية ووجيه من وجهائها؛ لا لأنه غني بثروته الطائلة فحسب؛ بل لأنه يعد ركنا منيعا بين عظماء أمته لسعة مداركه وصائب فكره وعظيم إصلاحاته في شؤونها؛ ولأنه من كبار أهل البر والإحسان على جمعياتها الخيرية، فكم له من حسنات ومآثر خالدة في هذا السبيل إذا ذكرت لهجة الألسن بالشكر والثناء والإعجاب بعظيم فضله، ولا غرابة فإن أسرة عبد الشهيد من أشهر الأسر القبطية التي امتازت بالعطف على البؤساء ومساعدة المنكوبين والتعساء من قديم الزمن، وقد أثبت المؤرخون لهذه العائلة وأفرادها هذه الفضائل، وها نحن الآن ندون تاريخ هذا السري الجليل الذي اقتدى بهم وحذا حذوهم فنال رضا الخالق وشكر المخلوق.
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة ببندر ببا وتعلم العلوم الأولية كاللغة العربية والخط والحساب وغيرها بكتاب البلدة في ذاك العهد، فحصل على الضروري منها مما ساعده كثيرا على أشغاله التجارية التي انخرط في سلكها عقب خروجه من دور العلم، فحاز قصب السبق فيها ونال بفضل جهاده وذكائه ثروة لا يستهان بها، حتى أصبح يضارع أغنياء مديريته، وحاز فوق هذه الثروة الطائلة ثقة معامليه لشرف معاملته، وصدق ذمته، وليس على من شب مثله على الفضيلة والصلاح والتقوى وطبع على الأمانة منذ المهد بعزيز أن يصل بفضل هذه الصفات العالية والمواهب السامية إلى ذروة المجد والشرف.
صاحب العزة جرجس بك عبد الشهيد.
ولم تكن هذه الثروة الطائلة لتلهيه عن تقديم المساعدات المالية للأعمال الخيرية والعلمية، بل نراه من وقت لآخر يجود بالمال الفياض لكل عمل مفيد نافع، فمن مآثره الخالدة مساعداته لمستوصف ببا وللجمعية الخيرية القبطية وغيرها.
وكذلك لم يهمل تثقيف أنجاله بالعلوم العالية بل بعث بهم إلى أكبر الجامعات الأوربية، فارتشفوا من مناهلها العذبة شتات علومها، وها هم كالكواكب الساطعة في سماء مصر العزيزة يجاهدون، ويكافحون في خدمتها ولفائدة مواطنيهم الكرام حتى أثمر هذا الجهاد وأتى بفائدة عظمى.
صفاته وأخلاقه
قد اتصف حضرة صاحب الترجمة بالوداعة، ودماثة الأخلاق ولين الجانب، ومد يد المساعدة للبؤساء والفقراء، مع المحافظة التامة على قواعد دينه، فهو صالح تقي بعيد عن الكبرياء وعلو النفس، طاهر الذيل لا يطمع في شيء إلا أن يكون مرضيا لله تعالى وللناس.
أتم الله عليه العافية وأبقى حياته، ومتعه وحضرات المحروسين أنجاله النجباء بدوام الرفاهية والسعادة، وأكثر من أمثاله بين رجال الطائفة القبطية الكريمة.
ترجمة حضرة صاحب العزة السري أسعد بك عبد الشهيد
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة بإحدى قرى مركز ببا مديرية بني سويف عام 1881 ميلادية، من أبوين شريفين عريقين في الأصل والنسب والجاه العريض، فوالده المرحوم الخواجه عبد الشهيد بطرس السري المعروف بمديرية بني سويف، والذي اشتهر بالتقوى والصلاح وطهارة الذمة ومكارم الأخلاق ومساعدة البؤساء والفقراء، فأدخله أبوه في مدرسة البلدة، فتعلم فيها العلوم الابتدائية، ونشأ ذكي الفؤاد حاضر القريحة قوي الذاكرة، وهي مواهب سامية خصه بها الرحمن، وميزه عن كثيرين من ذوي الألقاب والرتب الضخمة.
حضرة صاحب العزة السري المفضال أسعد بك عبد الشهيد من كبار وجهاء مركز ببا مديرية بني سويف.
دخوله في معترك الحياة
وقد رأى حضرة المترجم له أن يستخدم هذه المواهب الفائقة، والهمة الشماء فيما يفيد نفسه ومواطنيه، وأبت نفسه العالية الطموحة بطبيعتها إلى المجد إلا العمل، فشمر عن ساعد الجد وبدأ في الاشتغال بتجارة الأقطان، فأفلح فلاحا عظيما، ونال منها قسطا وافرا، وكان عمره إذ ذاك أربع عشرة سنة، وما ذاك إلا بفضل طهارة ذمته وحسن تربيته المنزلية التي غرسها في فؤاده ذاك الوالد البار «رحمه الله». وقد اقتنى أطيانا كثيرة بفضل كده واجتهاده، حتى أصبح من كبار الموثرين الذين يشار إليهم بأطراف البنان في عموم مديرية بني سويف، كما وقد زانه الله تعالى وكمله بجمال الخلق والأدب الجم، وحلاه بالمروءة والإنسانية والرجولية الصحيحة.
وللتاريخ وحده نثبت أن حضرة المترجم له كان متزوجا بسيدة فاضلة، وزوجة طاهرة هي المرحومة كريمة حضرة صاحب السعادة الشيخ الوقور إسكندر فهمي باشا مدير عموم السكة الحديد المصرية سابقا، والعضو بمجلس إدارتها الأعلى حالا، ورزق منها بشبل هو الآن في دور العلم، وثلاث كريمات، وقد أدركتها المنية وهي في زهرة صباها وريعان شبابها «أسكنها الله تعالى فسيح جناته» وأقر عينيه بالمحروسين أولاده.
وقد خدم حضرة المترجم له عموم مزارعي مركز ببا بإقامته وابورا لحلج أقطانهم، فكفاهم مئونة ومشقة الانتقال إلى البلاد الأخرى، كما وأنه خدمهم خدمة تذكر له فيشكر عليها، بإيجاده الماكنة الكبرى لطحن غلالهم، وهذا بعض مآثره التي نخلدها لعزته بالشكر والثناء العاطر.
هذا وقد تفضل سمو الخديوي السابق عباس حلمي باشا، فأنعم عليه برتبة البكوية من الدرجة الثانية عام 1903 اعترافا بفضله وجليل خدماته.
صفاته وأخلاقه
وإننا نثبت هنا عن حق وصدق واختبار أن حضرة المترجم له الوحيد في مديريته لعمل الخير والعطف على الفقراء، بعيد عن حب الفخفخة، والظهور الكاذب، مدفوع إليه بعامل الشعور الحي والوجدان الصحيح المورثين له عن المرحوم والده، وها هي داره العامرة في بندر ببا ملأى بالقصاد من كل حدب وصوب، وما منهم أحد إلا وتراه يلهج بالشكر والثناء والدعاء بحفظ ذاته الكريمة من كل سوء.
أما عن أخلاقه فغاية في الرقي والكمال والأدب الجم، تراه دائما بشوش الوجه صبوحه، ظريف المحاضرة، لطيف المحادثة، لين الجانب، وقد نشأ مفطورا على حب الخير ومؤاساة الفقراء، أكثر الله من أمثاله بين رجال مصر الكرام.
ترجمة صاحب العزة مصطفى بك سيف النصر
هو صاحب العزة مصطفى بك سيف النصر نجل المغفور له سيف النصر باشا الريدي نجل المغفور له محمد الريدي، يتصل نسبه بسيدي عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه.
ميلاده ونشأته
صاحب العزة مصطفى بك سيف النصر.
ولد هذا الحسيب النسيب ببلدة ملوي من أعمال مديرية أسيوط سنة 1293ه، وظهرت يوم ميلاده بشائر خير لوالده تلد على أن سيكون لذلك المولود السعيد صاحب الترجمة شأن عظيم، فتفاءلت الأسرة بمولده ونشأ في حجر المجد الأشيل والشرف الرفيع، وعني المغفور له والده بتربيته التربية المنزلية السامية، التي تعتبر الأساس المتين الذي يشيد عليه صروح مكارم الأخلاق، فلما ترعرع اختار له والده من خيرة المعلمين الأكفاء المعهود فيهم اليقين الثابت والعلم الغزير والإلمام التام بشؤون التربية، وعهد إليهم أمر تلقينه العلوم النافعة وأصول الدين، وبدت عليه معالم النباهة وسيما الجد وسار في طريق العلوم بوثبات نادرة، وساعدته مواهبه التي منحه الله إياها على نوال القسط الأوفر من العلوم، فأدخله والده المدارس الابتدائية وأتم دراستها بنجاح عظيم، وتفوق باهر على الأقران حتى كان موضع إعجاب الجميع، وتجلت مواهبه، واستمر والده على الاهتمام بتعليمه التعليم الخاص بواسطة معلميه، فصار الرجل الجدير بكل اعتبار واحترام، وبما أن والده رحمه الله كان بعيد النظر سديد الرأي، ورأى ما هو عليه ابنه من ذكاء نادر، ورأى أن حياة الأمة تتوقف على الزراعة؛ فقد اهتم بتعليمه العلوم الزراعية، حتى تنصرف أفكاره إلى خدمة وطنه العزيز من هذا الطريق، ولقد تم لذلك النجل ما أمله فيه والده من خير وصلاح، ودربه على الشؤون الزراعية، فسلمه إدارة مزارعه الواسعة فأحسن إدارتها، وقام بما عهد إليه خير قيام، حتى برهن بأجلى برهان على مقدرته العظيمة، وحقق رجاء والده فيه، ولما ذاع صيته ولهجت الألسن بأطيب الثناء عليه انتخب عضوا بمجلس ملوي الحالي، فكان المثل الأعلى في الحكمة والسهر على ما فيه المصلحة، والعمل على ما يرقى بحالة البلاد الأدبية والعلمية، ولما كان عليه من أصالة الرأي وبعد في النظر وقوة تأثير، واستمساك بالحق ونصرته فقد اختير عضوا في لجنة المصالحات والمجالس الحسبية، ورئيس محكمة خط تنده، فأظهر من الدراية ما جعل الناس تلهج بالثناء عليه، وتقدره الحكام ورجال الإدارة، فأنعم عليه سمو الخديوي السابق بالرتبة الثانية سنة 1908م، وهكذا يكون جزاء المخلصين العاملين، ولقد أنعم الله عليه بنعمه الجزيلة ومنها أنه رزقه بذرية صالحة؛ لتكون زينته في الحياة ومن أكبر العاملين لرفعة مصر ورفاهيتها، فاهتم بأمر تربيتهم التربية العالية، وأكبر أنجاله المحروسين بعناية الله هو حضرة صاحب العزة محمود بك مصطفى سيف النصر، ذلك القانوني النابغة الذي اشتغل بالمحاماة بعد أن أتم دراسة الحقوق بمدرسة الحقوق الملكية، ذلك المحامي البارع والقانوني الفاضل الذي ظهر مقدار كفاءته، وكان على حد قول القائل: إن هذا الشبل من ذاك الأسد، ولما ظهرت مكانته القانونية استدعاه النائب العمومي وعينه وكيلا لنيابة سوهاج، فهو يؤدي عمله بكل جد واهتمام ونزاهة، وأما نجله الثاني حضرة فؤاد أفندي مصطفى سيف النصر، فإنه يدير حركة مزارع والده الواسعة بهمة لا تعرف الملل، وعقل راجح، وأما باقي الأنجال فبالمدرسة التوفيقية بمصر.
صفاته
صاحب المروءة والهمة، كثير الاهتمام بالمصالح العامة لا يبالي بالصعاب في سبيل خدمة مصر، لطيف المعاشرة، دمث الأخلاق، مثال الحلم عند الغضب، شديد البأس في الحق، رفيع المقام مهاب الجانب، حفظه الله لأمة مصر ولا أحرمها جميل خدماته.
ترجمة حضرة الوجيه المفضال الشيخ محمد عبد الله الشلتاوي
كلمة للمؤرخ
مما يرتاح له ضمير المؤرخ إثبات الصفات الحقيقية للموصوف، بحيث أن تكون هذه الحقائق ملموسة بعيدة عن المغالاة والمبالغة، فإذا نحن أردنا أن نصف حضرة المترجم وما خصه الرحمن به من المواهب السامية، والذكاء الفطري، والميل الغريزي لمحض عمل الخير، المجرد من حب الشهرة الكاذبة وإنفاقه الأموال الطائلة فيما يعود على الفقراء والمعوزين البؤساء بما يخفف لوعتهم، ويكفل راحتهم وينطق ألسنتهم بالشكر والثناء على هذا المحسن الجواد الكريم، نقول إذا نحن أردنا سرد أعمال وحسنات هذا الشهم الفاضل لضاق المقام من دون أن نأتي ببعضها.
ومما يحسن ذكره هنا أن تأتي هذه الشمم العالية والأعمال الباهرة من حضرة صاحب الترجمة، وهو لم يحصل قسطا وافرا من العلوم المدرسية ولا شهادات عالية؛ كي يصح أن يقال إنه تمكن بفضل هذه العلوم من الوصول إلى هذا المركز الأدبي الذي يحسد عليه من كثيرين، ولكنه وصل إليه بفضل المزايا الجميلة التي خصه بها المولى سبحانه وتعالى.
مولده ونشأته
ولد حضرة المترجم ببلدة كوم النور التابعة لمركز ميت غمر دقهلية عام 1883 ميلادية الموافق لعام 1302 هجرية، من أبوين شريفين فاضلين ربياه فأحسنا تربيته، وغذياه بلبان الفضيلة والاستقامة والتقى والصلاح وأدخلاه مدرسة البلدة فتلقى فيها ما كان ضروريا من العلوم الأولية، ومن ثم أخرجاه منها لمباشرة إدارة حركة أعمال والده الزراعية وأطيانه الواسعة.
حضرة الوجيه الفاضل الشيخ محمد عبد الله الشلتاوي من أعيان كوم النور.
نعم وإن كانت هذه العلوم الأولية جاءت معززة ومكملة لذكائه الفطري، الذي خلق معه منذ ولادته، وتعتبر في الحقيقة كافية لمثله في ذاك الوقت، إلا أن تربيته العلمية وتجاربه الكثيرة الناجحة جعلته كاملا من كل الوجوه.
حياته العملية
توفي المرحوم الحاج عبد الله الشلتاوي والد حضرة المترجم له دون أن يصل ولده السن الذي يؤهله لإدارة حركة المرحوم والده، ولكن بفضل ذكاء المترجم الفطري وقوة إرادته وحسن تربيته تمكن من الوصول بها إلى الغاية التي كان يرجوها، وصعد بها إلى أعلا درجات التحسين والإنماء، وكان طالعه زاهرا وحظه وافرا فأصاب مغنما عظيما، وهذا أيضا يدل على رضا العزة الإلهية عليه، فشمر عن ساعد الجد واستخدم مواهبه السامية وتجاربه الناجعة، فأصاب بها كبد الغرض المقصود، وفاز بالمطلوب وأصبح يشار إليه بالبنان مشكورا من الجميع بكل شفة ولسان، محترم الجانب مكرما مبجلا من جميع عارفي فضله وأدبه ومروءته.
مآثره المشكورة
ومن بعض مآثر هذا الوجيه الفاضل أنه قام بتشييد مضيفة فخمة كبرى تضم بين جدرانها عابري الطريق الذين لا مأوى لهم، فيطرقونها فلا يجدون إلا صدرا رحبا وبشاشة ولطفا من حضرة صاحبها، وقد أنفق عليها الأموال الطائلة كل ذلك ابتغاء مرضاة الله تعالى وضميره الشريف، ولا يمكننا أن نأتي بتعداد حسناته الكثيرة على أمثال هؤلاء البؤساء التي يأتيها في الخفاء لتخفيف ويلاتهم؛ لأنه لا يميل مطلقا إلى حب التظاهر الممقوت؛ لعلمه أنه لا تأتي بالغرض الأسمى الذي يريده الحق تعالى من الإحسان.
وظائفه الإدارية
مع كثرة اشتغاله بشؤون الخصوصية، فإنه إلى الآن يشغل وظيفة عضو بالنقابة الزراعية بكوم النور لخبرته التامة بها، وكذا يشغل عضو اللجنة الإدارية لمجلس محلي كوم النور، وهو قائم بشؤون هاتين العضويتين خير قيام، مما يدل على غزارة مداركه وقوة ذكائه ولا عجب في ذلك ولا غرابة فيمن شب مثله على الهمة والإقدام - وهذه خلاصة وجيزة من ترجمة حضرته أثبتناها هنا، رغم عدم ميله إلى حب التظاهر ولكن خدمة منا للتاريخ.
حفظه المولى من كل سوء وكافئه خيرا بعدد حسناته وأفضاله، وأكثر من أمثاله.
ترجمة حضرة الوجيه الفاضل زكي أفندي وهبي
من أعيان نزلة حنا حنا مركز الفشن مديرية المنيا
كلمة للمؤرخ
إذا شاء الفخر أن يذكر في موضعه، والإقدام في مركزه، والنجابة في شخصها، والشهامة في إنسانها، فلا تجد إلا في أمثال حضرة المترجم له، بل وإذا عدت بيوتات المجد والشرف لكانت عائلته في مقدمتها.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة عام 1890 ميلادية في نزلة حنا حنا، وهي التي سميت باسم مؤسسها الأول طيب الذكر المرحوم حنا حنا الذي استوطنها من مضي ثمانين عاما، وخاله هو المرحوم فقيد الجد والنشاط وهبه أفندي عبد الشهيد الذي عرف بين قومه بالفضل، وكرم الأخلاق، والتقوى، والصلاح، والميل الكلي لمحض عمل الخير.
حياته العملية
تربى حضرة المترجم له تربية عالية، وأدخل المدارس الابتدائية والعالية، فحاز شهاداتها وأدخل بعد تحصله على شهادة البكالوريا قسم أدبي مدرسة الزراعة العليا، فنال منها شهادة الدبلوم العليا وأبت نفسه الطموحة إلى الرفعة والمعالي الاندماج في سلك وظائف الحكومة المحددة، بل استخدم فطنته وذكاءه فيما يفيد الهيئة الاجتماعية ونفسه، فشمر عن ساعد الجد وأخذ يباشر زراعة أطيانه الواسعة مستعينا بالمعلومات الكافية والتجارب العديدة التي شاهدها في سني الدراسة وبعدها ، فنمت وزهت وأثمرت وزادت أضعافا عما كانت عليه قبل أن يستلم زمامها ويدير حركتها، وذلك بفضل عزيمته الماضية وغزارة مادة معلوماته في الشؤون الزراعية وكذا يرجع الفضل في ذلك أيضا إلى حسن معاشرته، ورقة حديثه ولطف أخلاقه، وكمال خلقه الأمر الذي جعله محبوبا كثيرا من عموم سكان هذه البلدة، كما أنه محترم الجانب عند كل عارفيه.
وإن المستقبل لكفيل بمستقبل زاهر لهذا الشبل وشأن هام بين رجال مصر العاملين لخيرها وفائدتها، لما نراه فيه من الهمة والإقدام والرجولية الصحيحة مما نبشر الهيئة الاجتماعية عامة به.
صفاته وأخلاقه
مثال اللطف، والدعة، وعلو النفس، يميل بفطرته إلى المساعدات الخيرية لمحض عمل الخير المجرد من حب الفخفخة والظهور، رحوما على الفقراء محبا لتعضيد كل مشروع حيوي مفيد يعود على وطنه وأبنائه بالنفع الجزيل، أطال الله في حياته وأكثر من أمثاله بين شباب مصر الناهض.
ترجمة العصامي السري المرحوم سليم صيدناوي بك
أحد أصحاب أعظم محل تجاري بالقطر المصري
لقد أفردنا بابا خاصا في هذا الجزء وفي الأجزاء المقبلة لتدوين تاريخ ورسوم مشاهير تجار القطر المصري، ونبتدئ بسرد تاريخ ذاك العصامي الكبير ألا وهو المرحوم سليم صيدناوي بك، الذي يعد من أكبر تجار القطر قاطبة، وحسبك ما تراه مشاهدا ملموسا في عموم المديريات من حركة البيع والشراء والأخذ والعطاء الجارية على قدم وساق في محلات سليم وسمعان صيدناوي بك وشركاهم، التي حازت شهرة عظيمة في عواصم أوربا عامة، والشرق خاصة، لم تبلغها غيرها من البيوتات التجارية الأخرى، وقد يرجع الفضل في هذا النجاح الباهر لأمور عديدة، منها شهرة أصحابها بطهارة الذمة، وحسن المعاملة ولين الجانب، والكفاءة الشخصية في كافة الشؤون التجارية والاقتصادية. وإنك لا ترى زائرا يقصد محلات صيدناوي لقضاء حاجة إلا وخرج منها مرتاح الضمير؛ نظرا لدماثة أخلاق أصحابه، ولا سيما حضرة صاحب العزة سمعان بك صيدناوي شقيق هذا الفقيد وحضرات أنجالهما الذين نشير إليهم بالإيماء؛ لأنهم معروفون لدى جميع المصريين برقة الطباع والكياسة مع ما اشتهروا به من العطف على الفقراء ومساعدة البؤساء.
مولده ونشأته
ولد هذا العصامي الكبير في دمشق الشام سنة 1856م، وتربى برعاية والديه اللذين سهرا على تهذيبه وتربيته التربية المنزلية السامية، وقد علمه والده القراءة والكتابة بقدر ما كانت تسمح به أحوال تلك الأيام، وكان والده كثير التفكير في مستقبل بنيه، ويرى أن الشاب لا يأمن الفقر ما لم يتعلم صنعة من الصنائع الضرورية، فمال إلى تعلمه التجارة وفي عام 1879 جاء مصر حيث كان شقيقه سمعان بك فاشتغل أولا بالخياطة من طريق التجارة، فاشترك مع الخواجه متري صالحاني في محل للخياطة والتجارة، وحصة سليم من رأس المال دفعها أخوه سمعان بك، وبعد قليل احترق المحل وذهب رأس المال كله، وكان بين الأخوين الشقيقين تآلف وتحاب فوق تآلف الإخوة كأنهما شخص واحد، وكان للمرحوم سليم انعطاف عظيم على أخيه منذ الصغر؛ لأن سمعان بك أصغر من الفقيد بسنتين، فضرب صفحا عن تلك الخسارة، وشارك أخاه وفتحا حانوتا بالموسكي عند مدخل شارع منصور باشا لا تزيد مساحته على أربعة أمتار مربعة، أقام فيه سليم وسمعان صيدناوي في سنة 1879م، وأخذا يعملان بنشاط وأمانة، وهما على شظف عظيم من العيش، وكانت حياتهما غاية من البساطة، وقد كانا يتحدثان بذلك، وهما في بسطة من الجاه وسعة من الثروة.
ومما يروى عن سبب اتساع تجارتهما أن حضرت خادمة من قصر سمو البرنس مصطفى فاضل باشا، واشترت من هذا الفقيد ثوبي دنتلة بمبلغ ستة عشر قرشا تعريفة، فأخطأت ودفعت إليه ستة عشر قرشا صاغا، ونظرا لاشتغاله بالمشترين الآخرين فلم ينتبه إلى ما دفعت تلك الخادمة إلا بعد انصرافها، التي لم يعلم لها مكانا، فاتفق أن حضرت إليه في اليوم التالي لتبتاع ثوبين آخرين، وعند دفعها الثمن أخبرها بأن ثمنها ثمانية قروش صاغ فقط، وأن الثمن قبضه منها بالأمس - مشيرا إلى الخطأ الذي وقع في تقدير الثمن في اليوم الذي قبله - وأعطاها بعد ذلك الثوبين، فتحدثت تلك الخادمة بذلك في القصر، وشاعت أمانة ذلك التاجر النزيه في الطبقة العليا، فأقبلوا على معاملته وازدادت أرباحه، وانتقل في سنة 1881م إلى حانوت أكبر منه في الموسكي مطل على الخليج، ثم جرى توسيعه بعد ذلك كما أنه أخذ محلا آخر أمامه جعله مقرا لإدارة حساباته ومكتبا للكتبة، واتسعت الشركة وامتدت فروعها إلى الأقاليم وفي الخارج، ولما أخذا ذلك المحل اجتمعا الأخوان للتعاون على العمل وظل محل الحمزاوي لهما، وما زالت أشغالهما تتسع ورأس مالهما يكبر، وكلما ضاق المحل وسعاه حتى لم يبق سبيل إلى توسيعه فأخذا محلا تجاهه جعلاه المحل المركزي، وهو الذي نوهنا عنه، الخاص لإدارة الحسابات.
وقد بنوا لمحل تجارتهم عمارة كبيرة أتت من أجمل العمارات في ميدان الخازندار بالقاهرة، وانضم لإدارة المحل الخواجات يوسف وجورج أولاد سمعان بك وجناب الخواجة الياس بن الفقيد، بعد أن تخرجوا من الكليات العلمية العالية متعلمين وعالمين كيف تدار الأشغال.
أما العبرة بما تقدم، فهي أن نجاح هذين الإخوين حجة واقعة على أن الاستقامة والصدق ضروريان للنجاح، ولا يكون مأمونا إن لم يتعهده أصحابه بالإحسان زكاة أو صدقة تكون حائلا لغوائل الحسد؛ ليس لأن الحسد يضر المحسودين، ولكن الإنسان إذا ارتقى بابا من أبواب النجاح كثر حساده، ومن الناس من لا يهمه ما يقال عنه، وإنما يهمه أن تزيد ثروته أحبه الناس أو أبغضوه، أما الصيدناويان فإنهما أفضل مثال لما ينبغي أن يكون عليه رجال الثروة وأهل الجاه، وهما مع ثروتهما وجاههما يتوخيان البساطة في أساليب معاشهما، ويبذلان الألوف في إعانة الفقراء، وهما مثال في الجد والنشاط، يشتغلان من الصباح إلى ما بعد العشاء شغلا شاقا يعرفه كل من زار محلهما ورأى حكمة العمل فيه.
ترجمة حضرة الفاضل الأستاذ الفني السيد أفندي فرج
كلمة للمؤرخ
بارك الله في شبابنا الناهض، الذي شمر عن ساعد الجد، وبرهن على الكفاءة التامة في ميدان العمل، فإن الأمم لا تنال الرقي، ولا التقدم في مدارج الفلاح والنجاح إلا بهمة شبابها ونهوضه، وخلع رداء الكسل، والتحلي بثوب العمل بما فيه رفعتها، وعلو شأنها، وإن شبابنا هو الأمثلة الحية، والمعاني السامية، التي نكاد نلمسها باليد، ونبصرها بالعين، ومن هؤلاء الأفاضل العاملين المجدين حضرة الأستاذ الفني القدير السيد أفندي فرج، صاحب هذه الترجمة الذي أجهد نفسه في تعليم سر الصناعة فوفق لإدراك بغيته، وتحقيق أمنيته.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة بمصر عام 1301ه، ونشأ بها وما جاء دور التمييز في الطفولة حتى استظل بسماء مدينة طنطا حيث كان والده ملاحظا لمحطتها، والتحق هناك بإحدى المكاتب عادة كل طفل مصري.
حضرة الأستاذ الفني السيد أفندي فرج صاحب محلات الفضة وفابريقة السراير بمصر.
وقد ضن عليه والده أن يكون في مكتب صغير فعزم على إلحاقه بإحدى المدارس الابتدائية الأميرية، وما جاء موعد قبول التلاميذ إلا وكان والده مدرسا بمدرسة المنصورة الصناعية الأميرية، فألحقه بمدرستها الابتدائية الأميرية، ومنها نقل إلى السويس، وكان صاحب الترجمة يبلغ من العمر إذ ذاك الرابعة عشرة، وقد كاشف والده رغبته في إلحاقه معه فجاء لوالده الأمر بانتقاله إلى عاصمة القطر بالمهمات الحربية بالحوض المرصود، ومن ذاك الحين أخذ يجهد نفسه في تعليم سر الصناعة فوفق لإدراك ما يتمنى وشعر بتشجيع كبير من أمياله، وكان أكبر باعث على إدراك آماله وجوده مع حضرة والده في كل أدوار حياته، وتنقله معه في كل مركز من مراكزه الصناعية حتى جاء دور العمل الحقيقي، فانتخب والده رئيسا لمدرسة الفيوم الصناعية والتحق صاحب الترجمة مساعدا له، وكان إذ ذاك شابا فتيا فأدرك أن الحياة جهاد، وأن المرء يجب أن يحقق كل ما يجول بخاطره ما دام يعتقد أن في ذلك نفعا لبلاده، وفائدة لأمته.
رأى الأجنبي في مصر يأتي بالمدهشات من أعمال تدع المرء يفكر في كيفية إيجادها فسمت نفسه، وتطلعت إلى إدراك مبادئ أسرار كل صناعة أوربية، فلم يجد من يكون سدا منيعا بينه وبينه غايته.
وفي سنة 1908 رأى شركة ه. بولاد نقوم بأعمال الطلاء فاشتاق لدرسها، وما زال يتردد عليها حتى دفعه حب الاستطلاع إلى الاشتغال بها، ومكث بها سنتين ولم تنتهيا حتى كان مالكا لأدوات هذه الشركة وعددها بطريق الشراء، وأخذ بعد ذلك يفكر في إيجاد محل يقوم بخدمة الجمهور وهو واثق من ثباته، ونجاح عمله، فلم يجد أمامه أليق من شركة التمدن، فوضع فيها هذه الأدوات، واشتغل مستقلا بعمله وبأدواته التي ابتاعها، كما أنه لم يجد رجلا أقدر على تشجيع المصري من حضرة صاحب العزة إبراهيم بك رمزي.
ولقد وجد صاحب الترجمة من الجمهور إقبالا شجعه على إتقان هذه الصناعة، ففضل افتتاح محل في شوارع العاصمة، وسرت إليه روح التنافس ومزاحمة الأجنبي، كما وقد وجد من أبناء الأمة المصرية الإقبال الكلي، والتشجيع الأدبي والمادي على إتقان الصناعة، فوفق إلى افتتاح محله الكائن بشارع عبد العزيز، فكثر عليه الإقبال وتراكمت الأشغال، فاستحضر كثيرين من أبناء مصر يتعلمون كيفية الطلاء، وسر الصناعة حتى أصبح المحل مدرسة يتلقى فيها طلاب الصناعة حتى يتمكنوا من أن يجعلوا الحديد فضة وذهبا، وأخذت دائرة أعماله تتسع ففتح محلا آخر بميدان الخازندار وأخذ يبث في العمال روح المسابقة، وقد شرح لهم طرق الاقتصاد، وأطلعهم على غرضه الشريف من تعليم هذه الصناعة وخدمة بلادهم بها، ومما هو جدير بالذكر لحضرة الأستاذ خدماته للأمة في سني الحرب وما قام به في خلال هذه المدة من تفريج أزمتها، وتقديم ما يلزم للشعب المصري من أنواع الأسرة لامتناع ورودها في تلك المدة من أوربا، وهو دائما يسعى إلى ما فيه إعلاء شأن وطنه، وتقدم الصناعة في مصر وتعليم أبنائها حتى يكونوا ملمين بأسرار الصناعة وفي غنى عن سيطرة الأجنبي علينا تلك السيطرة الممقوتة، ويا ليته يقف عند هذا الحد بل بعد أن يستنزف الأموال الطائلة يرمينا بالجهل المطبق، والكسل، والخمول.
فاليوم نبرهن للعالم أجمع نحن المصريين سلالة الفراعنة العظام، وأصحاب الفضل والمجد القديم على الأمم الأوربية أن الذكاء المصري لا يقل عن ذكاء أرقى الأمم الأوربية؛ وهم مدينون لنا بهذا الفضل لأنهم نقلوا الطب، والصناعة، وعلم الفلك من المصريين، فنحن اليوم والحمد لله أمة حية نسترد حياتنا العملية وما سلب منا بهمة شبابنا الناهض.
وقد أخذ حضرة صاحب الترجمة في مزاحمة الأجانب في أعمالهم الخاصة بهم، حيث رأى أن مدينة الفيوم في حاجة إلى مسرح تمثيلي أدبي، فشاد بها مسرحا على أحسن وأبدع شكل، وجعل فيه محلا لتمثيل الصور المتحركة «سينما توغراف»، وبهذا العمل الجليل قد خدم مدينة الفيوم خدمة أدبية جليلة لترويح أنفس أهلها في وقت الفضاء من عناء الأعمال.
وقد عزم الأستاذ على القيام برحلته الثالثة؛ ليزور فيها المعاهد الصناعية الكبرى في مختلف الممالك الأوربية لدرس مشروع صناعي هام جديد يعود على الصناعة المصرية بالتقدم العظيم.
ومما يستحق الذكر هنا أن حضرة صاحب الترجمة لم يقتصر على مزاحمة المصانع الأجنبية في بلاده فقط، بل قام يناهضهم في بلادهم أيضا حيث أرسل إلى معارض أوربا الكبيرة نماذج من مصنوعاته أحرزت قبولا عظيما في أسواقهم، ونالت الميداليات، والنياشين الذهبية، في معارض باريس، وروما، وميلانو.
ولقد كانت معروضاته في المعرض الزراعي الصناعي العام بالقاهرة لسنة 1926 قبلة الزائرين، حيث كانت منتهى ما يتصوره الذوق السليم، فنالت الجائزة الأولى والميدالية الذهبية، وهكذا نراه في كل عام يخرج لنا من آيات الفن معجزات تبهر الناظرين.
فبارك الله في همته، وجعله قدوة صالحة لمن أراد أن يعمل عملا مفيدا لأمته وبلاده، وبمثله فليعمل العاملون.
ترجمة فقيد المروءة والإخلاص المرحوم عبد الملك أفندي نخله
باشكاتب رئاسة أقسام هندسة وابورات السكة الحديد الأميرية بالمنيا سابقا (ولد عام 1872 - وتوفي عام 1922)
كلمة للمؤرخ
لسنا في موقف تأبين لنرثي هذا الفقيد العظيم ونعدد خدماته الكثيرة في سبيل البر، والإحسان، والمعروف، وغيرته وإخلاصه لمصلحة أبناء طائفته تلك المصلحة التي تذكر له بالشكر والثناء عند كل مناسبة، فقد نال الفقيد قسطا وافرا من الرثاء حيث عدد الخطباء جليل خدماته، وعظيم إخلاصه، وطهارة سيرته، فكانت موضع الفخر والإعجاب، إنما لنضرب للنشء الحديث مثلا عاليا لمعاني الجد والأخلاق العالية والشهامة الفائقة، والرجولية الصحيحة، والأدب، والنزاهة، وهي بعض صفات الفقيد ليحذوا حذوه، وينسجوا على منواله فيخلدوا لأنفسهم ذكرى طيبة تدوم ما دامت السماوات والأرض.
المرحوم عبد الملك أفندي نخلة.
مولده ونشأته
ولد المرحوم صاحب الترجمة ببندر أسيوط سنة 1872م، وتربى التربية المنزلية العالية على الدين، غاية في الاستقامة والتقوى والصلاح، وتعلم بعض العلوم الابتدائية ثم جاء القاهرة وأتم علومه، ونال شهادة الدراسة الابتدائية وكان في عدد الطلبة الذين وهبوا نعمة الذكاء، وصفاء الذهن والجد والاستقامة، وبعد نواله تلك الشهادة عين كاتبا في وزارة الحربية، وأرسل إلى حلفا فكان أمينا في وظيفته مخلصا في عمله، مما استدعى ترقيته إلى وظيفة مترجم ل 13 جي أورطة ومنها نقل إلى سواكن، ثم إلى طوكر، ونظرا لصعوبة السفر ومتاعب التنقل في تلك الجهات النائية فضل الاستقالة من وظيفته، وعاد إلى مصر فعين كاتبا بقلم التعداد بوزارة المالية ومكث بها سنة واحدة ثم استقال، ومن ثم عين بعنابر السكة الحديد ونقل إلى سوهاج باشكاتب الوابورات، وظل بها اثنتي عشرة سنة؛ ونظرا لمقدرته العلمية وتفوقه في اللغة الإنكليزية فقد قام بإعطاء دروس خصوصية لكثيرين من جماعة المفتيشين والباشمهندسين الإنكليز التابعين لهذه المصلحة، فاستفادوا من معلوماته القيمة؛ ما أطلق السنتهم بالشكر والإعجاب بفضله وأدوا الشهادة الحسنة في حقه.
ولم تكن مشاغله المصلحية لتقعد به عن القيام بالواجب الذي شبت عليه نفسه العالية من نحو خدمة أبناء الطائفة، وتخفيف آلام الفقراء، والأخذ بناصر الضعفاء، بل ساعد على تأسيس جمعية لهذا الغرض الشريف كما قام ومعه بعض الغيورين لجمع اكتتاب لبناء كنيسة جديدة بها، وأصلح زاوية خربة بجهة النجعه المعروف هناك خاصة بإخوانه المسلمين، مدفوعا على ذلك بعامل الإخلاص وحب النفع، الأمر الذي حبب فيه سكان تلك المدينة على اختلاف مذاهبهم ونحلهم، حيث قدروا فضله وكبروا عمله وأحلوه المحل اللائق بالرجال العاملين المجدين.
صورة أخرى للفقيد وهو في سن الأربعين.
وما كاد يذيع أمر نقله إلى الزقازيق حتى شملهم الأسى وعمهم الأسف، وأقاموا له حفلات تكريمية عديدة تبارى فيها الخطباء والشعراء معددين خدماته الجليلة، ذاكرين له ما قام به من المنافع العامة، ودموع الأسف تترقرق في مآقيهم، لا سيما ما كان عليه من أدب ولطف ودعة وحب أكيد للإصلاح والسعي المتواصل لإصلاح ذات البين بين العائلات وبعضها، وكان يوم مغادرته لتلك المدينة يوما مشهودا حيث ودعه على المحطة كل عظيم وكبير من سراتها، والكل آسف لفراق هذا العزيز المحبوب.
ولم يمض عليه زمن طويل بمديرية الشرقية حتى رقي إلى وظيفة باشكاتب رئاسة أقسام هندسة وابورات وجه قبلي، مع جعل مركز إقامته بندر المنيا فودع هناك أجمل توديع.
غير أن المنية عاجلته وهو في ريعان الصبا وزهرة العمر، إذ لم يبلغ بعد الحلقة الخامسة من عمره فذهب مبكيا على شمائله الغراء وأدبه الجم، وقد أقامت له جمعية الإصلاح القبطية هناك حفلة تأبين تحت رئاسة حضرة الدكتور نصيف بك منقريوس، حيث كان الفقيد عضوا بها، ومن ثم نقلت رفاته إلى مصر داخل عربة خصيصة من عربات السكة الحديد، ووري الثرى ودموع الحزن تتساقط من عيون عارفيه وأصدقائه العديدين، وقد أوفد غبطة البطريرك المعظم مندوبا من قبله، ومعه خطاب تعزية لأسرة الفقيد العزيز كما أرسل حضرة صاحب العزة مصطفى بك صبري مدير الفيوم وقتذاك برقية لحضرة نجل الفقيد الأكبر حليم أفندي عبد الملك الموظف بهندسة السكة الحديد، وكان صديقا حميما للراحل الكريم وهاك نصها:
أسفي عظيم جدا لعدم إمكاني الحضور، وحزني شديد جدا لفراق صديقي الحميم عبد الملك الذي يمثل الوفاء بأكمل معانيه، فأشاطركم الحزن وأعزيكم وأملي كبير في أنكم ستخلفون ذكراه الكريمة العاطرة.
أسكنه الله فسيح جناته، وأسكب على قبره شآبيب الرحمة والغفران.
Bog aan la aqoon