118

وظلت هذه الخاطرة تشغلني زمنا طويلا حتى انتهيت منها إلى الرأي الذي أعتقده اليوم، وهو أن العبرة بالمقياس وبمن يقيس، وليست العبرة بطول الوقت أو قصره عند فقدان المقياس الصحيح، وصح عندي أن شيئين اثنين قد يعينان الناظر على العلم بنصيب الأمة والفرد فلا يصعب الوصول إلى تقدير هذا النصيب في بضعة أيام، فضلا عن الأسابيع.

هذان الشيئان هما: تقدير الكلمة وتقدير الوقت، فلا شك في تقدم الأمة التي تعرف للكلمة قيمتها وتعرف للوقت قيمته، ولن تكون الأمة التي تستخف بالكلمة أو تستخف بالوقت على نصيب من التقدم أو من قوة الخلق وسلامة الفطرة، ولو أعجبتنا جميع ظواهرها الأخرى.

وليس من الصعب أن نعرف نصيب الأمة من تقدير الكلمة وتقدير الوقت بعد يومين نقضيهما بين أبنائها، ففي عناوين الدكاكين ونداءات الباعة ومواعيد المواصلات ومواعيد الزيارات مادة كافية للقياس الصحيح في جميع الحالات.

وقد درجت - منذ وقرت في نفسي هذه العقيدة - على قياس العظماء وغير العظماء بهذين المقياسين: ما قيمة الكلمة عند هذا العظيم أو عند هذا الأديب أو عند هذا الإنسان كائنا من كان؟ وما قيمة الوقت عنده فيما يعنيه؟ ولا أعرف أنني أخطأت تقدير إنسان أمكنني أن أعرف قدره بهذين المقياسين.

وكذلك تعرف قيمة الكلمة على حسب معدنها المأثور عند من يقدرها ويحرص عليها، فإذا كان هناك تفاوت بين عظيمين يقدران الكلمة ويحرصان عليها، فمعدن الكلمة هو موضع التفاوت بين ذينك العظيمين.

ولقد خطر لي يوما أن أقابل بين «لطفي السيد» وبين أناس ممن عرفتهم من أبناء جيله وهم: «سعد زغلول» و«عبد العزيز فهمي» و«محمد محمود»، فظهر لي مرة أخرى أن الكلمة هي الرجل كما قيل.

وكانت الكلمة عند «سعد زغلول» كائنا عضويا يكاد ينضح بالدورة الدموية، وكان هو يفهمها هكذا من كلام غيره كما كان يفوه بها من كلامه على غير تعمد منه، فلا يسمعها السامع إلا أحس أنه سيحضر معها أثرها «الحيوي» انفعالا نابضا في نفس المخاطب بها فردا كان أو جماعة.

وكانت الكلمة عند «عبد العزيز فهمي» «حيثية» في حكم قضائي، يعنيه منها قبل كل شيء ماذا تقرر من الحكم وماذا تدفع من وجوه الأشكال أو الاعتراض، وقد يسمع الكلمة فلا يستريح إليها؛ لأنه يحس أن هناك اعتراضا قد يرد عليها، وإن لم يتضح له هذا الاعتراض لأول وهلة، ثم يعرف السبب فلا يلبث أن يبدل الكلمة المقبولة بالكلمة المعترض عليها، وله على ذلك قدرة المرانة على التمييز بين النصوص وقدرة الاطلاع على كتب الأدب والقانون.

وكانت الكلمة عند «محمد محمود»، بل كانت كلمات اللغة كلها، تصريفا لكلمة واحدة هي كلمة «الكرامة» أو الوجاهة، وربما التقى في هذا التصريف قاموس السيد الصعيدي وقاموس «الجنتلمان».

أما «لطفي السيد» فالكلمة عنده «حد منطقي» في قضية كاملة، ولا التباس عنده بين حد وحد من الوجهة المنطقية الصميمة، وإنما يعرض لها اللبس حين تتعرض للنزاع بين المنطق العقلي والمنطق «السيكولوجي»، أو منطق الوعي الخفي والوجدان العاطفي؛ لأنه - على تسليمه الدائم بجوانب الضعف الإنساني - لم يكن من طبيعة عقله أن يسمح للضعف أن ينتقل إلى كفة الميزان في موازنته بين الحقائق الفكرية، وربما جاء من هذا العزل بين منطق الفكر ومنطق النفس أن روح الفكاهة في كتابته تختفي وراء الرأي الممحص والتقدير المحكم بالقياس الصحيح. •••

Bog aan la aqoon