وحاول صاحبنا أن يخلص من الورطة بقوله: أعني الاثنتين!
قال الفيلسوف: ليس لنا مهمتان، ولسنا سفراء فتكون لنا مهمة دبلوماسية، ولا وزراء فتكون لنا مهمة بوليتيقية! ولقد ذهب الصحفي الحائر فكتب هذا اللغز الفلسفي كما استطاع، وبدل فيه وعدل كما أراد. •••
ولما ألف أصدقاؤه «الأحرار» الدستوريون حزبهم كان هو معارضا لهذه التسمية، وظل معارضا لها بعد تأليف الحزب بزمن طويل، وإنما كان اقتراحه أن يسمى الحزب باسم «الحريين الدستوريين»، وحجته في تفضيل هذه التسمية أن كلمة الحريين هي التي تقابل كلمة «ليبرال» بالفرنسية والإنجليزية، وإلا فماذا نسمي المحافظين خصوم الأحرار؟ هل نسميهم «بالعبيد» وهم لا يقنعون بالحرية وحدها دون السيادة على العالمين؟!
ولم يكن يكرثه أن يداعبه إخوانه من ظرفاء الحزب قائلين: أهلا بالحري، سلاما على الحري، ذهب الحري، جاء الحري، ولا لزوم للتسمية مع هذا التحديد.
قال «لطفي السيد» في قصة حياته:
نشأت من الصغر ميالا إلى العلوم المنطقية والفلسفية، ولقد لفت نظري في «أرسطو» أنه أول من ابتدع علم المنطق وأكبر مؤلف له أثر خالد في العلوم والآداب، ولما كنت مديرا لدار الكتب المصرية تحدثت مع بعض أصدقائي في وجوب تأسيس نهضتنا العلمية على الترجمة قبل التأليف كما حدث في النهضة الأوروبية. ولما كانت الفلسفة العربية قد قامت على فلسفة «أرسطو»، فلا جرم أن آراءه ومذهبه أشد المذاهب اتفاقا مع مألوفاتنا الحالية، والطريق الأقرب إلى نقل العلم في بلادنا وتأقلمه فيها؛ رجاء أن ينتج في النهضة الشرقية مثل ما أنتج في النهضة الغربية.
والحق أن «لطفي السيد» كان «أرسطيا» قبل أن يعرف «أرسطو» أو يفكر في ترجمته؛ لأن تكوين عقله المنطقي هو الذي حبب إليه منطق «أرسطو» حين اطلع عليه، وحبب إليه صاحب المنطق حتى كان يتحدث عنه متبسطا فيسميه «سيدنا أرسطو رضي الله عنه». وقد استفاد من أرسطو ما كان مستفيده من مراجعة عقله بغير اصطلاحات المنطق وألفاظه «المخصوصة» على حد تعبيره، فإن الفكرة المحددة كان ديدنا طبيعيا عنده، ولم تكن من الدروس التي تكتسب بالتعلم، وقد كان حرصه على حد الفكرة أشد وأكمل من حرصه على حد العمل؛ لأنه عرف بالتجربة أن نتائج الأعمال قد تختلط بينها وقد تتناقض المقدمات والنتائج فيها، لكثرة العوامل المنطقية وغير المنطقية التي تحيط بها، ولكن حدود الفكرة في ذهنه لم تكن تلتبس بين معنى ومعنى، ولم تكن تخرج على حدود المساواة بين أغراضها وعباراتها، وقد كانت كلمة «يجرى إيه؟» تجري على لسانه - كما لاحظ صديقه «عبد العزيز فهمي» - عند التسوية بين نتائج الأعمال، ولو كانت في ظاهرها على أبعد ما تكون من التناقض والاختلاف، ولكن «يجرى إيه؟» كانت تنقلب إلى «يجرى كل شيء»، إذا حدثت التسوية بين كلمة وكلمة لا تتساويان في النتيجة المنطقية؛ لأن حدود المنطق واضحة أمامه بمقياس الشعرة وبغير لبس ولا اختلاف بين أقرب النتائج وأشدها شبها في ظاهرها.
وقد ذكرت في غير هذا المقال أن أستاذ الجيل كان يتجنب التصريح برأيه أثناء مناقشات المجمع اللغوي؛ تورعا منه عن التحيز إلى جانب من جوانب المناقشة، ولكنه كان في اللجان التي تعد القرارات للفصل فيها يشترك في المناقشة ولا يترخص في رأيه عند المعارضة بين اقتراحه واقتراحات غيره، بل أذكر في جلسة من جلسات اللجان أننا قضينا نصف الوقت في الخلاف على كلمتي المفكرة والمذكرة، أيهما أصلح للترجمة عند التفرقة بين اليومية والقائمة والمدونة والمذكرة، فكانت معارضته لكلمة «المفكرة» طويلة في غير هوادة، واستغرقت نحو نصف الوقت كما تقدم؛ لأنه - كما قال - لا يفهم كيف ينسب التفكير إلى المفكرة وكيف يكون الخلط بين مدلول التفكير ومدلول التذكير. •••
في أوائل عهدي بالصحافة قرأت مقالات لبعض الرحالين السياسيين، حكموا فيها على إحدى الأمم الشرقية حكمهم الذي يداخله الهوى كما يداخل أحكام الساسة على العموم. ثم قرأت نقدا للرحلة ولأمثالها من الرحلات يدور على فكرة واحدة، وهي أن رحلة الأسابيع المعدودة في أمة من الأمم - كبيرة كانت أو صغيرة - لا تكفي للحكم عليها.
وقرأت النقد كما قرأت الرحلة، فوافقت الناقد في تخطئته لكثير من أحكام كاتب الرحلة، ولكنني عدت إلى نفسي أسألها: أمن الحق أن الأمم لا تعرف من سياحة أسابيع بين ربوعها؟ وهل إقامة السنين تكفي من ليس لديه مقياس صحيح للعلم بأحوال الأمة التي قام فيها؟
Bog aan la aqoon