فدعاني إذا ذاك إلى مناولة الغداء معه، وفي المسجد كل غريب للغريب نسيب.
ذكرني هذا بزورة لمدينة «نيوبورت» وهي مكة الأغنياء في أميركا، وهناك ذهبت للصلاة أيضا وكانت الكنيسة - وهي بناية من الخشب صغيرة رغم من يؤمها من الأغنياء - تنبئ ظاهرا بحقيقة حالها، فقد نقلت من إنكلترا منذ قرنين، وركبت تركيبا في «نيوبورت»، أجل، قد جيء بأخشابها وبراعيها الأول كذلك من بلاد الإنكليز، كنيسة قديمة حقيرة، ولكن الزجاج الملون في نوافذها خاسئ الصنع سخيف، وهو جديد يتزعزع عنده الجلال في الهيكل القديم.
أما ثمن هذا الزجاج فلا نسبة بينه وبين صناعته، وهو مثل كل شيء تافه للأغنياء في تلك البلاد الجديدة العجيبة يقاس بالذهب، وقد قيل لي: إن ثمن زجاج نافذة منها ألف ريال وهبها أحد الأغنياء.
أوليس من الغضاضة أن نذكر أسماء المحسنين في موقف السخاء والإساءة! وإني لأعجب كيف أن أولئك المسئولين عن تشويه خشب الكنيسة وجدرانها لم يضنوا بأسمائهم استحياء، قلت المسئولين عن التشويه وحقا ما أقول؛ فإنه لا يطاق أن ترى النوافذ الملونة الزجاج على حائط خشبي رقيق، لا يخلو من شارة هندسية، فتشوه جماله البسيط، وتمنع انعكاس نور الشمس عليه.
ألا إن الإحسان لا يعيش في الظل، بل ينفخ في بوقه على السطوح في رائعة النهار، فيا أيها البوق، بوق التبجح، إني لم أسمع صدى صوتك في ذلك الشرق الهادئ وفي تلك المساجد المملوءة هواء نقيا .
ومما استوقف نظري في الكنيسة أيضا تلك المقاعد المربعة الزوايا التي تستطيع أن تضع مكانها عددا من الكراسي الهزازة، وهي موضوعة على شكل الدواوين يجلس أربابها متقابلين كأنهم جالسون في بهو الاستقبال. أولئك هم أغنياء أميركا، وهذه عندهم أبهة العبادة.
ولماذا يا ترى يقسم مكان العبادة إلى مقاطعات؟ ولم لا تكون الكنيسة كالجامع الفسيح، المطلوق للهواء النقي، تؤمه حينما تشاء وتبقى فيه ما تشاء، ولا حرج عليك، ولا قيد، ولا ضريبة.
إن في المقاعد الكنائسية ما يكره المرء على طويل الصلاة، وإن فيها ضريبة مرسومة، وضغطا على الحرية الشخصية، ولقد ترغب في أن تذهب إلى الكنيسة لقضاء بضعة دقائق تنبيها للروح أو غذاء للنفس، فتكره على البقاء ساعات محصورا في المقعد فتعكر غالبا على الآخرين أو يعكر الآخرون عليك صفاء التأمل والنجوى.
وقد علمت أن مقاعد كنيسة «نيوبورت» لا تباع، ولا تؤجر ولا تقدم مجانا للمصلين، ولكنها تقتنى اقتناء فكأنها ملك لصاحب بيت أو لرب عرش يتحول بالإرث من الابن إلى الابن، فلا يستطيع الغريب أن يدخل بيت الله ابتغاء الصلاة إلا إذا أراد أن يقف عند الباب صابرا قانعا، وإن خلاص نفسه لأسهل من تمتعه بمقعد يستريح فيه من عناء الوقوف.
أما أنا فقد جلست في مقعد مضيفي، وإخال أنه تملكه عنوة؛ لأن في كتاب الترانيم اسما غير اسمه، بل فيه أسماء عديدة لأسر إنكليزية عريقة النسب، توارثت هذا المقعد بعضها عن بعض، دليل ذلك أن لم يبق فراغ في جلد كتاب الترانيم لاسم آخر.
Bog aan la aqoon