وله رحلة طويلة في المشرق، تجول في خلالها في كثير من البلاد الشرقية. وعرف أخبارها ومن فيها من أهل العلم والرواية، وأخذ عنهم وخاصة عن علماء العراق. ومن شيوخه أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ الأصفهاني، وكريمة بنت أحمد السرخسية، وأبو ذر الهروي. ثم رحل إلى الأندلس ووردها سنة ٤٣٦ هـ، وتجول في بلادها، وأكثر الناس عنه السماع والرواية، وامتدت هذه الجولة إلى سنتين، وحدث عنه علماء الأندلس قاطبة في كل بلد دخله من بلدانها، وهو أول من ادخل كتاب غريب الحديث للخطابي إلى الأندلس. ثم خرج منها إلى أفريقية، ومات مجاهدًا في جزيرة من جزائر الروم، وذلك سنة أربعين وأربعمائة. " وكان حافظا للحديث وطرقه، وأسماء رجاله ورواته، منسوبًا إلى معرفته وفهمه، وكان يملى الحديث من حفظه، ويتكلم على أسانيده ومعانيه، وكان عارفًا باللغة والإعراب ذاكرًا للغريب والآداب، ممن عنى بالرواية وشهر بالفهم والدراية، يجمع إلى ذلك حسن الخلق وأدب النفس وحلاوة الكلام ورقة الطبع ".
وكان يجيد الشعر ويعرف جيده من رديئه معرفة الناقد البصير: فقد حكى عن نفسه. وقال: بعث إلى شعراء القيروان، حين مقامي بها، وهو ابن رشيق وابن شرف، وابن حجاج، وعبد الله العطار، يسألوني أن أرسل إليهم شعري، فقلت للرسول إنه في مسوداته، فقال كما هو، فأخذته وكتبت عليه ارتجالًا، ثم بعثت به: " المتقارب "
خطبت بناتي فأرسلهن ... إليك عواطل من كل زينة
لتعلم اني ممن يجود ... بمحض الوداد ويشنأ ضنينه
فقل كيف كان ثناء الجليس ... أضمخ بالمسك أم صب طينه
فأجابوني عن بطء، بهذه الأبيات: " المتقارب "
أننا بناتك يرفلن في ثيا ... ب من الوشى يفتن زينة
فما سفرن فضحن الشموس ... وسرب الظباء وأخجلن عينه
فما نطقن سحرن العقول ... وظل القرين ينادى قرينه
أبو محمد الشنتجيالي المجاور
هو عبد الله بن سعيد لباج الأموي أبو محمد الشنتجيالي، الطويل الجوار بمكة، شرفها الله، بهذا السبب عرف بالمجاور. قيل جاورها بضعا وثلاثين، وقيل أربعين عامًا.
وكان يسكن قرطبة، فسمع من علمائها، من أمثال أبي عمر الطلمنكي، ثم رحل إلى المشرق طالبًا، حاجًا، وذلك سنة إحدى وتسعين وثلاث مائة، فسمع بمكة من علمائها، وصحب بها أبا ذر عبد بن أحمد الهروي الحافظ، واختص به وأكثر عنه الرواية والسماع. ويقال إنه لقي أبا سعيد السجزي فسمع عنه صحيح مسلم. وكان، في خلال مجاورته للحرم المقدس يسرد الصوم، فإذا أراد أن يغوط، خرج من الحرم إلى الحل، فقضى حاجته، ثم انصرف إلى الحرم تعظيمًا له. وكان كثيرًا ما يكتحل بالإثمد ويجلس للمسع، وكان يقول: لا تمنعوا العين قوتها فتمنعكم ضؤها.
ويقال إنه حج سنة ٣٩١ هـ. حجة الفريضة عن نفسه، وأتبعها خمسًا وثلاثين حجة، وزار مع كل حجة زورتين، فكلمت له اثنتان وسبعون زورة.
ورجع إلى الأندلس في سنة ٤٣٠ هـ، ودخل قرطبة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت للمحرم سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وجلس للإقراء والإسماع بجامعها.
فقرئ عليه صحيح ملسم، ثم خرج منها غازيا مجاهدا إلى الثغور، فرابط ييطليموس، وشلب وغيرهما وروى عنه بتلك الجهات، وكان له فرس يسميه مرزوق، فكان يقول له يا مرزوق: رزقني الله عليك الشهادة. ثم رجع إلى قرطبة وتوفي بها سنة ٤٣٦ هـ.
وكان الشنتجيالي رجلا صالحًا، زاهدًا، متبتلًا، منقطعًا إلى ربه، منفردًا به، خيرًا، عاقلًا، فاضلًا، كريمًا، حليمًا، جوادًا.
وله من المؤلفات " مختصر في الفقه ".
أبو محمد ابن الحصار الطليطلي
هو عبد الرحمن بن محمد بن عباس جوشن بن إبراهيم بن شعيب بن خالد الأنصاري. المعروف بابن الحصار " أو الحطار "، صاحب الصلاة والخطبة بالمسجد الجامع بطليطلة.
أخذ العلم ورواه عن كبار أئمة العلم والأدب في بلدة طليطلة، ثم سافر إلى قرطبة فسمع من شيوخها الأعلام، كأبي جعفر أحمد بن عون الله وغيره، ثم خرج في رحلة إلى المشرق طالبًا، حاجًا، وهو حديث السن، واتصل بعلماء الشرق وروى عنهم يسيرًا.
وكان فقيها، محدثًا، راوية، مسندًا، متصفًا بالدين والخير والحلم الوقار وحسن النقل.
1 / 20