وصاحت خديجة مشاركة أمها في عواطفها: قطعت مريم وسيرتها.
فابتسمت عائشة في ارتباك دون أن تنبس. وقد لبث ياسين متشاغلا بأظافره حتى انتهى ذاك الحديث الحامي، وأوشك مرة أن يشترك فيه متشجعا بقول عائشة: «لا يدري بالحقيقة يا نينة إلا الله ...» ولكن اندفاع أمينة إلى الرد عليها بذاك الصوت المتهدج غير المعهود أسكته، أجل أسكته وانطلق لسانه باطنيا بالشكر على نعمة السكوت. وكان كمال يتابع الحديث باهتمام وإن لم يبد أثره على وجهه، وقد أكسبه حمل الحب عهدا طويلا - في ظروف حساسة غير مواتية - قدرة على التمثيل تحكم بها في كتمان عواطفه ومطالعة الناس - إن دعت الضرورة - بمظهر على نقيض مخبره. فذكر ما سمع قديما عن قصة «شماتة» آل مريم، ومع أنه لم يأخذ التهمة مأخذ الجد إلا أنه تذكر عهد الرسالة السرية التي ذهب بها إلى مريم والرد الذي عاد به إلى فهمي، ذاك سر قديم صانه ولم يزل مستمسكا بصونه رعاية لعهد أخيه، واحتراما لرغبته. وقد لذ له أن يعجب كيف لم يفقه معنى الرسالة التي حملها إلا أخيرا، حين انبثقت معانيها في نفسه خلقا جديدا، كان - على حد تعبيره - حجرا يحمل نقوشا مبهمة حتى جاء الحب فحل رموزها. ولم يفته أن يلاحظ غضب أمه. وهو ظاهرة جديدة في حياتها لم تكن تعرفها قبل العهد المشئوم، لم تعد كما عهد، أجل، لم تتغير تغيرا خطيرا أو دائما، ولكنها غدت عرضة بين الحين والحين لنوبات لم تكن تطرأ عليها، ولم تكن إذا طرأت تستسلم لها، ما عسى أن يقول في ذلك؟ إنه قلب الأم الجريح الذي لا يعرف عنه إلا شذرات وقع عليها ضمن مطالعاته، شد ما يتألم لها. ثم ما وراء عائشة وخديجة؟ هل يمكن أن ترمي عائشة ببرود نحو ذكرى فهمي؟ لا يتصور هذا ولا يطيقه، إنها امرأة سليمة الطوية، وفي قلبها متسع للصداقة والمودة، تميل فيما يبدو - ولها عذرها - إلى تبرئة مريم، ولعلها تحن إلى عهدها بهذا القلب المفتوح للناس جميعا، أما خديجة فقد ازدردتها الحياة الزوجية، لم تعد إلا أما وربة بيت، لا حاجة بها إلى مريم أو غيرها، لم يبق لها من ماضيها إلا عواطفها الثابتة نحو أسرتها، نحو أمها خاصة، فهي تدور حيث تدور، ما أعجب هذا كله! - وأنت يا سي ياسين إلام تبقى أعزب؟
وجه إبراهيم هذا السؤال إلى ياسين، مدفوعا برغبة صادقة في تنقية الجو مما شابه، فأجابه ياسين مازحا: غادرني الشباب وقضي الأمر!
فقال خليل شوكت بلهجة جدية، دلت على أنه لم يفطن إلى ما في قول ياسين من مزاح: لقد تزوجت وأنا في مثل سنك تقريبا، ألست في الثامنة والعشرين؟
فتضايقت خديجة من ذكر سن ياسين الذي كشف بطريقة غير مباشرة عن سنها، فخاطبت ياسين قائلة بلهجة حادة: هلا تزوجت وأرحت الناس من حديث عزوبتك؟
فقال ياسين راميا - قبل كل شيء - إلى التودد إلى أمينة: مرت بنا أعوام أنست الإنسان رغائبه.
ارتد رأس خديجة إلى الوراء، كأنما دفعته قبضة يد، ثم رمته بنظرة كأنما تقول له «غلبتني يا شيطان»، ثم قالت وهي تتنهد: آه منك، قل إن الزواج لم يعد يروقك وهو الأصدق!
فقالت أمينة ممتنة لتودده: ياسين رجل طيب، والرجل الطيب لا يمتنع عن الزواج إلا مضطرا، الحق آن لك أن تفكر في استكمال دينك.
يا طالما فكر في استكمال دينه، لا ليجرب حظه من جديد فحسب، ولكن رغبة في رد الإهانة التي لحقت به يوم اضطر - بدافع من أبيه - إلى تطليق زينب إنفاذا «لمشيئة» أبيها محمد عفت! ثم كان مصرع فهمي فصرفه عن التفكير في الزواج حتى كاد يألف هذه الحياة الطليقة ويعتادها، غير أنه قال لأمينة، وكان يؤمن بما يقول: لا بد مما ليس منه بد، وكل شيء رهن بوقته.
قطع عليهم أفكارهم بغتة ضجة وصياح وضوضاء جاءت من ناحية السلم، مختلطة بوقع أقدام متدافعة، فاتجهت الأبصار متسائلة نحو باب السلم، وما هي إلا لحظة حتى ظهرت أم حنفي على عتبة الباب عابسة لاهثة، وهي تصيح: الأولاد يا ستي، سي عبد المنعم وسي رضوان متشابكان، رموني بالحصى وأنا أخلص بينهما.
Bog aan la aqoon