قصر الشوق
قصر الشوق
قصر الشوق
قصر الشوق
تأليف
نجيب محفوظ
قصر الشوق
1
أغلق السيد أحمد عبد الجواد باب البيت وراءه، ومضى يقطع الفناء على ضوء النجوم الباهت في خطوات متراخية، وطرف عصاه ينغرز في الأرض التربة كلما توكأ عليها في مشيته المتثائبة. تشوق وجوانبه تحمى بمثل الوهج إلى الماء البارد الذي سيغسل به وجهه، ورأسه، وعنقه، كي يلطف - ولو إلى حين - من حرارة يوليو، والنار المستعرة في جوفه ورأسه، فهش لفكرة الماء البارد حتى انبسطت أساريره. ولما جاز باب السلم لاح له الضوء الواني الهابط من أعلى يتحرك على الجدران واشيا بحركة اليد القابضة على المصباح، فرقي على السلم، يدا على الدرابزين، ويدا على عصاه التي بعث طرفها دقات متتابعة اكتسبت من قديم إيقاعا خاصا غدا ينم عنه كما تنم عنه سماته. وعند رأس السلم بدت أمينة والمصباح في يدها، حتى إذا انتهى إليها توقف، وصدره يعلو وينخفض ريثما يسترد أنفاسه، ثم حياها تحيته الليلية المألوفة قائلا: مساء الخير.
فغمغمت أمينة، وهي تتقدمه بالمصباح: مساء الخير يا سيدي.
Bog aan la aqoon
في الحجرة هرع إلى الكنبة فتهالك عليها، ثم تخلص من عصاه وخلع طربوشه، وطرح قذاله على المسند مادا ساقيه إلى الأمام حتى انحسر جناحا الجبة عن قفطانه، وكشف القفطان عن رجلي سرواله المتداخلتين في جوربه، وأغمض عينيه وهو يجفف بمنديله جبهته وخديه وعنقه. على حين كانت أمينة تضع المصباح على الخوان، ثم وقفت تترقب قيامه لتساعده في نزع ثيابه، وهي تنظر إليه باهتمام مشوب بقلق، وتود لو تواتيها شجاعتها فتسأله أن يعفي نفسه من الدأب على السهر الذي لم تعد تنهض به صحته بالاستخفاف المعهود قديما، ولكنها لم تدر كيف تفصح عن أفكارها الأسيفة! توالت دقائق قبل أن يفتح عينيه، ثم نزع الساعة الذهبية من قفطانه، والخاتم الماسي؛ فأودعهما داخل الطربوش، ثم نهض ليخلع الجبة والقفطان بمعاونة أمينة، هناك بدا جسمه كالعهد به: طولا، وعرضا، وامتلاء ... لولا شعيرات اغتصبها المشيب من فوديه، وعندما أدخل رأسه في طاقة الجلباب الأبيض غلبه الابتسام فجأة، إذ ذكر كيف تقيأ السيد علي عبد الرحيم الليلة في مجلس الأنس، وكيف جعل يعتذر عن ضعفه ببرد أصاب معدته. وكيف تعمدوا أن يعيروه به زاعمين أنه لم يعد يحتمل الشراب، وأنه ليس كل الرجال من يستطيعون معاشرة الخمر إلى نهاية العمر ... إلخ إلخ، وذكر كيف غضب السيد علي وجد في دفع الريبة عنه، يا عجبا ... ألهذا الحد يعير بعض الناس أهمية لهذه الأمور التوافه؟! ولكن إذا لم يكن ذلك كذلك! فلم فاخر هو في صخب الحديث الضاحك بأنه يستطيع أن يشرب حانة دون أن تضطرب له معدة؟
جلس على الكنبة مرة أخرى، ومد ساقيه للمرأة التي راحت تخلع الحذاء والجورب، وغابت عن الحجرة قليلا، وعادت بالطست والإبريق، وجعلت تصب له الماء فيغسل رأسه ووجهه وعنقه ويتمضمض، وأخيرا تربع في جلسته مستعرضا نسمة الهواء التي تهفو في لطف ما بين المشربية والنافذة المطلة على الفناء. - يا له من صيف فظيع، صيف هذا العام!
فقالت أمينة وهي تسحب الشلتة من تحت السرير، وتتربع بدورها عليها على كثب من قدميه: ربنا يلطف بنا (ثم وهي تتنهد) الدنيا كلها كوم وحجرة الفرن كوم! السطح هو المتنفس الوحيد في الصيف بعد مغيب الشمس.
بدت في جلستها غيرها بالأمس، نحفت واستطال وجهها، أو لعله تراءى أطول مما هو لما حل بالخدين من رقة، وقد انتشر المشيب فيما انحسر عنه منديل رأسها من خصلات، فأضفى عليها روح كبر أكثر مما تستحق ... وغلظت الشامة في وجنتها قليلا، على حين نمت عيناها - إلى نظرة الخضوع القديمة - عن شرود مزج بالحزن، كما اشتدت حيرتها لما طرأ عليها من تغير، ولئن كانت قد رحبت به بادئ الأمر على سبيل التعزي، إلا أنها أخذت تتساءل في قلق: أليست هي في حاجة إلى صحتها ما دام في العمر بقية؟ بلى! والآخرون في حاجة إلى صحتها أيضا، ولكن كيف يعاد الشيء إلى أصله؟ ثم إنها تقدمت سنين، لعلها لم تكن بالكثرة التي تبرر هذا التغير، ولكنها مما يترك أثرا ولا شك.
هكذا كانت تقف في المشربية الليالي المتعاقبة تراقب الطريق من وراء الخصاص، فترى طريقا لا يتغير، والتغير يدب إليها غير متوان، وعلا صوت النادل في القهوة؛ فتطاير إلى الحجرة الصامتة كالصدى، فابتسمت وهي تسترق النظر إلى السيد.
ما أحب هذا الطريق الذي يسهر الليالي سامرا إلى قلبها! إنه الصديق الغافل عن القلب الذي يحبه من وراء خصاص، معالمه ملء نفسها، سماره أصوات حية تعيش في مسامعها، هذا النادل الذي لا يستكن له لسان، وذو الصوت المبحوح الذي يعقب على حوادث اليوم بلا تعب أو ضجر، وذو الصوت العصبي الذي يتصيد بخته في «الكومي» و«الولد»، ووالد هنية الطفلة المصابة بالسعال الديكي الذي يسأل عنها فيجيب ليلة بعد أخرى «عند الله الشفاء»، آه .. كأن المشربية ركن من القهوة هي جليسته. كانت ذكريات الطريق ترتسم على مخيلتها وراء عينين لا تفارقان الرأس المتوسد لمسند الكنبة، فلما انقطع التيار تركز انتباهها في الرجل؛ فتبينت في صفحتي وجهه حمرة شديدة اعتادت أن تطالعها في أعقاب الليالي الأخيرة، ولم تكن ترتاح إليها؛ فتساءلت في إشفاق: سيدي بخير؟
فاعتدل رأسه، وهو يتمتم: بخير، والحمد لله (مستدركا) ما أفظع الجو!
الزبيب خير مسكر في الصيف .. هكذا قالوا له وأعادوا، ولكنه لا يطيقه، فإما الويسكي وإلا فلا، عليه إذن أن يعاني خمار سكرة صيف - وصيف شديد - كل ليلة، شد ما ضحك هذه الليل ... ضحك حتى كلت عروق عنقه، ولكن فيم كان الضحك؟ لا يكاد يذكر شيئا، وليس هنالك شيء يروى أو يعاد، ولكن جو المجلس كان مشحونا بكهرباء لطيفة؛ بحيث إن أي لمسة كانت تحدث اشتعالا، فما هو إلا أن قال السيد إبراهيم الفار: «أبحر الإسكندرية من سعد اليوم إلى باريس»، وكان يقصد أن يقول: «أبحر سعد من الإسكندرية اليوم إلى باريس» حتى انفجروا ضاحكين، فعدت «نادرة» من نوادر الخمر اللسانية. وابتدروه قائلين: «وسيمكث في المفاوضة ريثما يسترد صحته، ثم يبحر إلى الدعوة تلبية للندن التي تلقاها من» أو «وسينال رامزاي مكدونالد من الاستقلال على الموافقة» و«سيعود حاملا مصر إلى الاستقلال»، وجعلوا يتحدثون عن المفاوضة المنتظرة، ويعلقون عليها بما يحلو لهم من المداعبات.
حقا ... إن دنيا الأصدقاء على رحابتها تتلخص في ثلاثة: محمد عفت، وعلي عبد الرحيم، وإبراهيم الفار، فهل يستطيع أن يتصور للدنيا وجودا من دون وجودهم؟ إن إشراق وجوههم بالبشر الصادق حين رؤيته، سعادة لا تدانيها سعادة، التقت عيناه الحالمتان بعيني أمينة المستطلعتين، فقال وكأنه يذكرها بأمر هام: غدا.
فقالت، وقد شاعت في وجهها ابتسامة: كيف أنسى؟!
Bog aan la aqoon
فقال بشيء من الفخار لم يحاول مداراته: قيل لي إن نتيجة البكالوريا كانت سيئة هذا العام.
فقالت وهي تشاركه فخاره بمعاودة الابتسام: ربنا ينجح مقاصده، ويمد في عمرنا حتى نشهد نجاحه في الدبلوم.
فتساءل: هل ذهبت اليوم إلى السكرية؟ - نعم، ودعوتهم جميعا، وسوف يحضرون إلا الست الكبيرة التي اعتذرت بتعبها، فقالت: إن ابنيها سينوبان عنها في تهنئة كمال.
فقال السيد، وهو يومئ بذقنه صوب جبته: جاءني اليوم الشيخ متولي عبد الصمد بأحجبة لأولاد خديجة وعائشة، ودعا لي قائلا: «إن شاء الله أعمل لك أحجبة لأولاد أحفادك».
ثم وهو يهز رأسه باسما: لا شيء على الله ببعيد، ها هو الشيخ متولي نفسه كالحديد رغم الثمانين ...! - ربنا يمتعك بالصحة والعافية!
فتفكر مليا، وهو يعد على أصابعه، ثم قال: لو امتد العمر بأبي - رحمه الله - ما زاد على عمر الشيخ كثيرا. - رحم الله الراحلين.
وخيم الصمت ريثما ذهب الأثر الذي تركه ذكر «الراحلين»، ثم قال الرجل بلهجة من تذكر أمرا هاما: زينب خطبت!
اتسعت عينا أمينة، وهي ترفع رأسها قائلة: حقا؟! - نعم، أخبرني محمد عفت بذلك الليلة. - من؟ - موظف يدعى محمد حسن، رئيس إدارة المحفوظات بالمعارف.
فتساءلت بوجوم: يبدو أنه متقدم في السن؟
فقال كالمعترض: كلا، في الحلقة الرابعة، خمسة وثلاثين، ستة وثلاثين ... أربعين عاما على الأكثر.
Bog aan la aqoon
ثم بلهجة تهكمية: جربت حظها مع الشباب فأخفقت، أعني الشباب الذين لا يرفعون رأسا، فلتجرب حظها مع الرجال العقلاء.
فقالت أمينة بأسف: كان ياسين بها أولى، على الأقل من أجل خاطر ابنهما.
كان هذا رأي السيد، وعنه دافع طويلا لدى محمد عفت، بيد أنه لم يعلن موافقته على رأيها؛ مداراة لخيبة مسعاه، فقال متسخطا: لم يعد للرجل به من ثقة، والحق أنه غير جدير بالثقة؛ لذلك لم ألح عليه، لم أقبل أن أستغل صداقتنا في حمله على ما لا خير فيه.
فغمغمت أمينة بشيء من الإشفاق: هفوة شباب لا يضيق عنها العفو.
هان على السيد أن يعترف بجانب من مسعاه الخائب، فقال: لم أقصر في حقه، ولكني لم أصادف ترحيبا، وقال لي محمد عفت برجاء: «إن السبب الأول في اعتذاري هو إشفاقي من تعريض صداقتنا إلى الشقاق»، وقال لي أيضا: «لا أستطيع أن أرفض لك رجاء، ولكن صداقتنا أعز لدي من رجائك» ... فأمسكت عن الكلام.
قال محمد عفت هذا حقا، ولكنه لم يصرح به إلا مدافعة لإلحاحه، والحق أن السيد كان شديد الرغبة في وصل ما انقطع من مصاهرة محمد عفت لمكانته من نفسه، ومكانة أسرته من المجتمع، ولم يكن يطمع في أن يجد لياسين زوجة خيرا من زينب، ولكنه لم يسعه إلا التسليم بالهزيمة، خاصة بعد أن صارحه الرجل بما يعلم عن حياة ياسين الخاصة، حتى قال له: «لا تقل لي إننا نحن أنفسنا لا نختلف عن ياسين، فالحق أننا نختلف بعض الشيء، والحق أني لا أرتضي لزينب ما ارتضيت لأمها.»
تساءلت أمينة: هل علم ياسين بما كان؟ - سيعلم غدا أو بعد غد، هل ترينه يكترث لذلك؟ إنه أبعد ما يكون عن تقدير الزيجة المشرفة.
فهزت أمينة رأسها أسفا، ثم تساءلت: ورضوان؟
فقال السيد مقطبا: سيبقى عند جده، أو يلحق بأمه إن لم يصبر على فراقها، الله يحير من حيره! - مسكين يا ربي، أمه في ناحية، وأبوه في ناحية، أتطيق زينب فراقه؟
فقال السيد فيما يشبه الازدراء: للضرورة أحكام (ثم متسائلا) متى يبلغ السن؟ ... ألا تذكرين؟
Bog aan la aqoon
فتفكرت أمينة قليلا، ثم قالت: إنه أصغر قليلا من نعيمة بنت عائشة، وأكبر قليلا من عبد المنعم ابن خديجة، فيكون في الخامسة يا سيدي، سوف يسترده أبوه بعد عامين، أليس كذلك يا سيدي؟
قال السيد، وهو يتثاءب: يا ترى من يعيش (ثم مستطردا) وكان متزوجا، أعني الزوج الجديد! - وله أولاد؟ - كلا لم ينجب من زوجه الأولى. - لعل هذا ما حسنه في عيني السيد محمد عفت.
فقال السيد بامتعاض: ولا تنسي مقامه.
فقالت أمينة معترضة: لو أن الأمر أمر مقام ما عدل بابنك أحدا، على الأقل من أجلك أنت.
فشعر باستياء حتى لعن في سره - على حبه - محمد عفت، ولكنه عاد يجر خطا تحت النقطة التي يتعزى بها، فقال: لا تنسي أنه لولا حرصه على أن يضع صداقتنا في حرز حريز ما تردد عن قبول رجائي.
فقالت أمينة معربة عن نفس الإحساس: طبعا، طبعا يا سيدي، إنها صداقة العمر، وليست لهوا ولعبا.
عاوده التثاؤب مرة أخرى، فتمتم قائلا: خذي المصباح خارجا.
قامت أمينة لتنفيذ أمره فأغمض عينيه قليلا، ثم نهض دفعة واحدة كأنما ليقاوم الكسل، واتجه نحو الفراش فاستلقى عليه ... إنه الآن خير حالا، ما أهنأ الرقاد بعد التعب! أجل، لا يخلو رأسه من نبض قارع، ولكن رأسه لا يكاد يخلو من شيء ما، فليحمد الله على أي حال. الصفاء الكامل ماض مضى، ثمة شيء نفتقده كلما خلونا إلى أنفسنا، ولكنه لا يعود، يلوح لنا من الماضي بذكرى شاحبة كهذا الضوء الخافت الذي تشف عنه شراعة الباب. فليحمد الله على أي حال. ولينعم بحياة يغبطه عليها الغابطون. الأجدى أن يقطع برأي فيما إذا كان سيقبل الدعوة أم لا، أو فليدع ما للغد للغد، إلا ياسين ... فإنه مسألة الأمس واليوم والغد، ليس صغيرا من بلغ الثامنة والعشرين، وليس المشكل أن يبحث له عن زوجة أخرى، ولكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. متى تسطع هداية الله فتملأ الأرض حتى يبهر نورها الأعين؟ هنالك يهتف من الأعماق أن الحمد لله، ولكن ماذا قال محمد عفت؟ إن ياسين يصول ويجول في الأزبكية حتى سراديبها ... كانت الأزبكية مغنى آخر حينما كان هو يصول فيها ويجول، وهزه الحنين مرات إلى معاودة بعض مشاربها إحياء للذكريات. فليحمد الله على أنه علم بسر ياسين قبل أن يقدم، وإلا لضحك الشيطان من أعماق قلبه الهازئ، أوسعوا الطريق للأبناء فقد شبوا، عنها صدك الأستراليون أول الأمر، وأخيرا هذا البغل الأسترالي.
2
تتابعت دقات العجين من حجرة الفرن في هدأة السحر مع صياح الديكة. كانت أم حنفي مكبة على جرة العجين بجسمها اللحيم، يلوح وجهها ريان على ضوء المصباح المنبعث من فوق سطح الفرن، لم ينل الكبر من شعرها ولا شحمها، ولكن شابت ملامحها جهامة، واخشوشنت قسماتها، وإلى يمينها قعدت أمينة على كرسي المطبخ تفرش ألواح العجين بالردة استعدادا لاستقبال الأقراص، تواصل العمل - في صمت - حتى توقفت أم حنفي عن العجن، فاستخرجت يدها من الجرة، ومسحت على جبينها المبتل بالعرق ببطن مرفقها، ثم لوحت بقبضتها المغطاة بالعجين كقفاز ملاكمة أبيض، وقالت: أمامك يا ستي يوم شاق ولكنه لذيذ، كثر الله من أيام السرور.
Bog aan la aqoon
فغمغمت أمينة دون أن ترفع رأسها عن عملها: علينا أن نقدم مائدة شهية.
فابتسمت أم حنفي، وهي تومئ بذقنها إلى سيدتها، قائلة: البركة في المعلمة.
ثم غرست يديها في الجرة مرة أخرى، وعادت إلى ملاكمة العجين. - وددت لو قنعنا بتوزيع الثريد على فقراء الحسين.
فقالت أم حنفي بلهجة معاتبة: لن يكون بيننا غريب.
فتمتمت أمينة بصوت لم يخل من ضيق: ولكنها وليمة وضجة على أي حال، فؤاد بن جميل الحمزاوي نال البكالوريا أيضا، ولا من رأى ولا من سمع.
ولكن أم حنفي أصرت على المعاتبة، قائلة: ما هي إلا فرصة نجتمع فيها بمن نحب.
كيف تكون مسرة دون تأنيب أو توجس خيفة؟! قديما استخبرت السنين فأجابت بأن تاريخ ابتدائية هذا سيوافق تاريخ ليسانس ذاك، حفل لم يجئ، ونذر لم يوف. 19 ... 20 ... 21 ... 22 ... 23 ... 24 ... شباب العمر اليافع الذي حرمت من احتضان ينعه، من قسمة التراب كان، يا انصداع القلب الذي يسمونه الحسرة! - ستفرح ست عائشة بالبقلاوة، وتذكر أيام زمان يا ستي.
ستفرح عائشة وأم عائشة ستفرح أيضا، نهار وليل، وشبع وجوع، ويقظة ونوم، وكأن شيئا لم يكن. سلي الزعيم الذي زعم بأنك لن تعيشي بعده يوما واحدا، عشت لتحلفي بتربته، إذا زلزل القلب فليس معناه أن تزلزل الدنيا، كأنه نسي منسي حتى تزار المقابر، كنت ملء العين والنفس يا بني، ثم لا يذكرونك إلا في المواسم، أين أنتم يا هؤلاء؟ كل مشغول بشواغله، إلا أنت يا خديجة قلب أمك وروحها حتى وصيتك يوما بالصبر، لم تكن كذلك عائشة، مهلا! لا ينبغي أن أكون ظالمة، حزنت حزنها كما ينبغي، كمال لا لوم عليه، رفقا بالقلوب الغضة، بات الأول والأخير، شاب شعرك وصرت كالخيال، هكذا تقول أم حنفي، لا كانت الصحة ولا كان الشباب، تقاربين الخمسين وهو لم يتم العشرين، حبل ووحم، وولادة ورضاعة، وحب وآمال، ثم لا شيء، ترى هل خلا من الأفكار رأس سيدي؟ دعيه وشأنه، ليس حزن الرجال كحزن النساء. هكذا قولك يا أمي جعل الله الجنة مثواك، يحز في نفسي يا أمي أنه عاد إلى سيرته، كأن فهمي لم يمت، وكأن ذكراه قد تبخرت، بل يلومني كلما لج بي الحزن، أليس هو أباه كما أنا أمه؟ ... يا أمينة يا مسكينة ... لا تفتحي صدرك لهذه الأفكار ... لو صح أن نحكم على القلوب بقلب الأم لبدت القلوب أحجارا ... إنه رجل وليس حزن الرجال كحزن النساء ... لو استسلم الرجال للأحزان لناءت بها كواهلهم المثقلة بالأعباء، عليك إذا أنست منه حزنا أن تسري عنه، إنه ركنك يا ابنتي المسكينة. غاب ذلك الصوت الحنون، وصادف فقده قلوبا مترعة بالحزن فلم يكد يبكيه أحد، وشهد شاهد حكمتها ليلة عاد في أخريات الليل ثملا، ثم ارتمى على الكنبة مجهشا في البكاء، وتمنيت ليلتئذ له السلامة ولو بالنسيان الأبدي، أنت نفسك ألا تنسين أحيانا؟ ثمة ما هو أفظع من ذلك، هو تمتعك بالحياة وحرصك عليها. هذه هي الدنيا، هكذا يقولون. فترددين ما يقولون وتؤمنين به. كيف جاز لك - يوما - بعد هذا أن تحنقي على ياسين برأه ومواصلته مألوف الحياة! مهلا، الإيمان والصبر ... سلمي إلى الله، فكل ما جاءك من عنده. «أم فهمي» إلى الأبد ، سوف أظل ما حييت أمك يا بني وتظل ابني.
تتابعت دقات العجن، ففتح السيد عينيه على نور الصباح الباكر، وراح يتمطى ويتثاءب بصوت مرتفع ممطوط، تصاعد كالتذمر أو الاحتجاج، ثم جلس في الفراش مستندا براحتيه على ساقيه الممدودتين، فبدا ظهره مقوسا وقد نضح أعلى الجلباب الأبيض بالعرق، وجعل يحرك رأسه يمنة ويسرة كأنما لينفض عنه وطأة الوخم، ثم انزلق إلى أرض الحجرة، ومضى متهاديا إلى الحمام إلى الدش البارد ... الدواء الوحيد الذي يغير عليه بدنه فيعيد إلى رأسه اتزانها وإلى نفسه اعتدالها، تجرد من ثيابه، ولما تعرض لرشاش الماء وردت ذهنه ذكرى الدعوة التي وجهت إليه أمس، فخفق فؤاده الذي تلقى الذكرى والإحساس المنعش بالماء البارد معا، علي عبد الرحيم قال: «نظرة إلى الوراء، إلى حبيبات زمان، لا يمكن أن تمضي الحياة هكذا إلى الأبد، إني أعرف الناس بك.» أيقدم على هذه الخطوة الأخيرة؟ خمس سنوات مضت وهو يأبى أن يخطوها. أكان تاب إلى الله توبة مؤمن مصاب؟ أم أضمر التوبة وخاف أن يجهر بها؟ أم أطلقها نية صادقة دون تورط في التوبة؟ لا يذكر، ولا يريد أن يذكر، ليس صغيرا من يدنو من الخامسة والخمسين. ولكن ما لفكره قد تقلقل وتزلزل؟ كحاله يوم دعي إلى السماع فلبى، هل يلبي النداء إلى حبيبات زمان بالمثل؟ متى يبعث الحزن ميتا؟ هل أمرنا الله أن نهلك أنفسنا وراء من نحبهم إذا ذهبوا؟ في عام الحداد والتقشف كاد الحزن يقتله قتلا، عام طويل لم يذق فيه شرابا، ولم يسمع نغما، ولم تند عن فيه ملحة حتى شابت شعيراته ... أجل، لم يتسلل الشيب إلى شعره إلا في ذلك العام، رغم أنه عاد إلى الشراب والسماع رحمة بالأصدقاء المقربين الذين انقطعوا عن اللذات إكراما لحزنه، كذب وصدق، عاد إلى الشراب لنفاد صبره ورحمة بالأصدقاء الثلاثة، لم يكونوا كالآخرين، وما على الآخرين من ملام، حزنوا لحزنك ثم جعلوا يراوحون بين مجلسك الجاف ومجالسهم الندية، فأي تثريب عليهم! بيد أن الثلاثة المحبين أبوا أن ينالوا من الحياة نصيبا أوفى مما ارتضيت لنفسك، وعدت رويدا إلى أشياء، إلا المرأة رأيتها كبيرة؛ فلم يلحوا عليك أول الأمر. لشد ما تأبيت وحزنت، لم يؤثر فيك رسول زبيدة، رددت أم مريم بوقار حزين حازم وأنت تكابد آلاما لا قبل لك بها، ظننت أنك لن تعود أبدا، وخاطبت نفسك المرة تلو المرة ... «أأعود إلى أحضان الغواني وفهمي في قبضة التراب؟» آه ... ما أحوجنا في ضعفنا وتعاستنا إلى الرحمة! فليداوم على الحزن من يضمن ألا يموت غدا، من قائل هذه الحكمة؟ واحد من اثنين: علي عبد الرحيم، أو إبراهيم الفار. محمد عفت بك لا يجود بالحكم، رفض رجائي، وزوج البنت من رجل غريب، ثم ضحك علي بالقبل، لا ينكر غضبه ويشفق من أن يطالعني به كما وقع قديما، لله هو أي وفاء وأي ود! أتذكر كيف امتزج دمعه بدمعك في القرافة؟ ولكنه القائل فيما بعد: «أخاف عليك الكبر إن لم تفعل ... تعال إلى العوامة.» ولما آنس ترددا قال: «لتكن زيارة بريئة ... لن يجردك أحد من ملابسك ويرميك على امرأة.» لم أحزن قليلا علم الله، بموته مات جزء جسيم مني، مات أملي الأول في الدنيا، من ذا يلومني على الصبر والعزاء؟ قلبي جريح وإن ضحك! ترى، كيف هن؟ ماذا فعل بهن الزمان في خمسة أعوام؟ خمسة أعوام طوال؟ •••
كان شخير ياسين أول ما تلقى كمال من عالم اليقظة، فلم يتمالك أن يناديه وهو إلى معاكسته أرغب منه إلى إيقاظه في ميعاده، ولاحقه بصوته غير متوان، حتى رد عليه الآخر بصوت كالنزع تشكيا وتذمرا، ثم تقلب بجسمه الضخم فطقطق الفراش فيما يشبه الأنين، والتوجع، ثم فتح عينين حمراوين وتأوه.
Bog aan la aqoon
لم يكن ثمة - في رأيه - ما يدعو إلى هذه العجلة ما دام أحد منهما لن يذهب إلى الحمام قبل عودة الأب منه. لم يعد من اليسير استعمال حمام الدور الأول منذ قضى التنظيم الجديد للبيت - منذ خمسة أعوام - بنقل الحجرات إلى الدور الأعلى فيما عدا حجرة الاستقبال والصالة المتصلة بها التي فرشت بأثاث بسيط باعتبارها مدخلا لها، ومع أن ياسين وكمال لم يرحبا - قط - بالإقامة مع الأب في دور واحد، إلا أنهما لم يجدا بدا من احترام الرغبة في مقاطعة الدور الأول الذي لم تعد تدخله قدم إلا حين يلم بالبيت زائر. أغمض ياسين عينيه، ولكنه لم ينم، لا لأن معاودة النوم كانت عبثا فحسب، ولكن لأن صورة انبعثت في خياله فأشعلت إحساسه ... وجه مستدير، تتوسط صفحته العاجية عينان سوداوان. مريم! فاستجاب لداعي الأحلام ... واستسلم لتخدير ألذ من تخدير المنام.
قبل أشهر معدودات، لم تكن بالنسبة إليه موجودة قط، وكأنها لم تكن، حتى سمع أم حنفي تتحدث - ذات مساء - إلى امرأة أبيه، فتقول: «أما سمعت بالخبر يا ستي؟ ... ست مريم طلقت من زوجها وعادت إلى أمها.» هنالك عاوده ذكر مريم، وفهمي، والجندي الإنجليزي صديق كمال وإن غاب عنه اسمه، ثم ذكر بالتالي اهتمامه القديم بشخصيتها الذي جاش بها صدره عقب ذيوع الفضيحة، وما يدري إلا وقد أضاءت فجأة في نفسه لوحة معبرة، كما تضيء الإعلانات الكهربائية في الليل، سطر عليها «مريم ... جارتك ... الجدار لصق الجدار ... مطلقة ... ذات تاريخ، وأي تاريخ ... أبشر.» ولكنه ما لبث أن جفل من نفسه؛ لأن اقترانها بذكرى فهمي صده وآلمه وأهاب به أن يغلق هذا الباب وأن يحكم إغلاقه، وأن يندم - إن كان ثمة ندم - على فكرة خفية عابرة. صادفها بعد ذلك في الموسكي مع أمها، فالتقت الأعين على سهوة، ولكن سرعان ما لاح فيها العرفان، ونمت بسمات لا تكاد ترى بالعين المجردة عن عرفانها، فتحرك قلبه، تحرك للعرفان - فحسب - أول الأمر، ثم للطيف الأثر الذي خلفه وجه عاجي مكحول العينين، وجسم نابض بالفتوة والحيوية، ذكره بزينب في إبانها ... فمضى إلى طيته متفكرا هائجا. غير أنه بعد خطوات، أو حال هبوطه إلى قهوة أحمد عبده، هفت عليه ذكرى محزنة بعثت في قلبه الشجن، بعث فهمي في خياله بشتى ذكرياته: صورته وأماراته، وأسلوبه في الحديث والحركة؛ ففتر وجده وباخ، وغشيه حزن غليظ. يجب أن ينتهي كل شيء ... لم؟
عاد يتساءل بعد ساعة، أو بعد أيام، فكان الجواب: فهمي ... أية علاقة بين الاثنين؟ ود يوما أن يخطبها، ولم لم يفعل؟ ... أبوك لم يوافق. فقط؟ ... هذا في الأقل أصل المسألة. ثم؟ جاءت فضيحة الإنجليزي، فمحت ما بقي من أثر باهت ... أثر باهت؟ ... أجل؛ لأنه على الأرجح كان نسي، إذن نسي أولا، ونبذ أخيرا؟ نعم، فأية علاقة هنالك؟ ... لا علاقة. ولكن! ... أعني شعور الأخوة، هل يمكن أن يرقى شك إلى شعورك؟ ... كلا، وألف مرة كلا. الفتاة تستحق ...؟ ... نعم، وجها وجسما؟ ... وجها وجسما فما انتظارك؟
في النافذة كان يلمحها حينا بعد حين، ثم فوق السطح ... فوق السطح مرات، ومرات.
لم طلقت؟ ... لسوء في خلق زوجها، فيكون الطلاق من حسن حظها. أو لسوء في خلقها، فيكون الطلاق من حسن حظك أنت. - قم وإلا غلبك النوم.
فتثاءب وهو يتخلل شعره الملهوج بأصابعه الغلاظ، ثم قال: يا بختك بعطلتك المدرسية الطويلة. - ألم أستيقظ قبلك؟ - ولكن بوسعك أن تواصل النوم إذا شئت. - لا أشاء كما ترى.
ضحك ياسين ضحكة لا معنى لها، ثم تساءل: ما اسم الجندي الإنجليزي صديقك القديم؟ - أوه ... جوليون! - أجل جوليون! - ما الذي دعاك إلى السؤال عنه؟ - لا شيء!
لا شيء؟ ما أسخف لساننا! أليس ياسين خيرا من جوليون؟ في الأقل جوليون عابر وياسين مقيم، في وجهها شيء يبتسم إليك دواما، ألم تلاحظ مثابرتك على الظهور فوق السطح؟ بلى، وذكر جوليون، ليست ممن يفوتهن معنى، ردت تحيتك. أول مرة أدارت رأسها باسمة، في المرة الثانية ضحكت. ما أجمل ضحكتها! في الثالثة أشارت إلى أسطح البيوت محذرة، سأعود بعد الغروب، هكذا قلت في جرأة، ألم يرسل جوليون إشارته من الطريق العام؟ - لشد ما أحببت الإنجليز في صغري، انظر كيف أمقتهم الآن مقتا. - سعد بطلك سافر ينشد صداقتهم.
هتف كمال بحدة: والله لأبغضنهم ولو وحدي.
وتبادلا نظرة أسى صامتة، تناهى إليهما وقع قبقاب السيد وهو راجع إلى حجرته مبسملا محوقلا، فانزلق ياسين إلى الأرض، وغادر الحجرة وهو يتثاءب.
Bog aan la aqoon
تقلب كمال على جنبه ثم استلقى على ظهره مسترخيا، وثنى ساعديه شابكا راحتيه تحت رأسه، ومضى ينظر فيما أمامه بعينين لا تريان شيئا ... لتسعد بك رأس البر، لم تخلق بشرتك الملائكية لتصلى حر القاهرة، فلتطب بموطئ قدميك الرمال، وليهنأ بمشهدك الماء والهواء. سوف تشيدين بالمصيف، وعيناك تنطقان بالمسرة والحنين، فأتطلع إليهما بقلب مشوق وعين تسائل الغيب - في حسرة - عن المكان الذي استهواك فاستحق عن جدارة رضاك ... ولكن متى تعودين؟ ومتى ينسكب في أذني تغريدك المسحور؟ كيف المصيف؟ ليتني أدري ... قيل إنه حرية كالهواء، ولقاء بين أحضان الماء، وأهواء بعدد حبات الرمال ... وخلق كثيرون يحظون بمحياك ... أما أنا ... أنا الذي خفقات قلبه تئن لشكاتها الجدران؛ فأتلظى في سعير الانتظار. هيهات! أن تنسي وجهك المنطلق بالبشر وأنت تغمغمين: «سنسافر غدا ... ما أجمل رأس البر!» ولا اكتئابي وأنا أتلقى نذير الفراق من ثغر يومض بسنا السرور، كمن يتلقى السم مدسوسا في طاقة من الزهر الفواح، ولا غيرتي من الجهاد الذي قدر على إسعادك حين عجزت، وحظي بمودتك حين حرمت. ألم تلحظي حين الوداع اكتئابي؟ كلا، لم تلحظي شيئا، لا لأني كنت واحدا بين كثيرين، ولكن لأنك يا حبيبة لا تلحظين ... كأنما كنت شيئا لا يسترعي انتباهك ... أو كأنما أنت مخلوق بديع غريب، استوى فوق الحياة يطالعنا من عل بعينين هائمتين في ملكوت لا ندريه. هكذا وقفنا وجها لوجه ... أنت شعلة من سعادة سادرة، وأنا رماد من وجوم وكآبة ... تحظين بحرية مطلقة أو تذعنين لسنن فوق مداركنا. وأنا أدور في فلكك مجذوبا بقوة هائلة ... كأنك الشمس، وكأنني الأرض، هل وجدت عند الشاطئ حرية لم تنعمي بها في مغاني العباسية؟ كلا، وحق قدرك عندي ... لست كالأخريات ... في حديقة القصر والطريق، آثار عاطرات لقدميك ... وفي قلب كل صديق ذكريات وآمال ... آنسة سهلة ممتنعة، تطوف بنا على غير مثال، كأن الشرق قد استوهبها الغرب في ليلة القدر ... أي جديد من الجود ترى تهبين إذا امتد الشاطئ، وترامى الأفق، واكتظ الساحل بالمعجبين؟ أي جديد يا أملي وحسرتي؟ القاهرة في غيبتك خواء تنضح كآبة ووحشة، كأنها عكارة الحياة والأحياء ... ثمة مناظر ومعالم، ولكنها لا تخاطب وجدا، ولا تحرك قلبا، كأنها عاديات الدنيا وذكرياتها في قبر فرعوني لم يفض ... ما من مكان بها يعدني بعزاء أو تسلية أو مسرة. إخالني حينا مختنقا، وحينا سجينا، وحينا مفقودا ضالا غير مفتقد. يا عجبا! أكان وجودك ينيل أملا أفقدنيه البعاد؟ كلا يا قضائي وقدري، ولكنك كالأمنية؛ الاستظلال بجناحها برد وسلام وإن اعتصمت بالمحال، هل يغني المشتاق المتطلع إلى ظلمة السماء معرفته. إن البدر يسطع فوق المكان الآخر من الأرض؟ ... كلا، وإن لم يدر للبدر امتلاكا، إنما أطمع إلى الحياة في صميمها ونشوتها ولو بفادح الألم. بل أنت حالة فيما خفق الفؤاد، والفضل لهذا المخلوق السحري: الذاكرة، عن إعجازها غفلت حتى عرفتك، اليوم أو غدا أو بعد دهر في العباسية، أو رأس البر، أو في أقصى الأرض لن تبرح مخيلتي عيناك السوداوان الساجيتان، وحاجباك المقرونان، وأنفك السوي اللطيف، ووجهك البدري الخمري، وجيدك الطويل، وقامتك الهيفاء، وما شئت من سحر يكتنفك مزريا بكل وصف، مسكرا كعرف الفل والياسمين، لأملكن هذه الصورة ما ملكت الحياة، وبعد الحياة لتقوضن عوائق وموانع فيكون المصير إلي ... إلي وحدي بما أحببت هذا الحب كله ... وإلا فخبريني عن معنى لهذه الحياة ينشد، أو عن طعم للخلود يرام. لا تزعم أنك سبرت جوهر الحياة إلا أن تحب، السمع والبصر والذوق والجد واللهو والمودة والظفر مسرات تهوى عند من فعم الحب قلبه، من أول نظرة يا قلبي. ما ارتدت عنها عيناي حتى آمنت بأنها زيارة مقيم لا زيارة عابر، لحظة خاطفة حاسمة، ولكن في مثلها تخلق الأرواح في الأرحام، وتزلزل الأرض ... رباه لم أعد أنا ... قلبي تلاطمه جدران الأضلع، أسرار السحر تنفث معانيها، العقل يتمادى حتى يمس الجنون، اللذة تسطع حتى تعانق الألم، أوتار الوجود والنفس تجود بالنغم المكنون، دمي يصرخ مستغيثا لا يدري مم يستغيث، الأعمى يبصر، والكسيح يسير، والميت يحيا، حلفتك بكل عزيز ألا تذهبي أبدا، أنت يا إلهي في السماء، وهي في الأرض. آمنت بأن ما مضى من حياتي كان تمهيدا لبشارة الحب، لم أمت صغيرا، ولم ألحق بمدرسة غير فؤاد الأول، ولم أصادق أول ما صادقت من تلاميذها إلا حسين ولم ... ولم ... كل أولئك كي أدعى يوما إلى قصر آل شداد، يا للذكرى! يكاد القلب من وقعها يقتلع، كنت وحسين وإسماعيل وحسن منهمكين في شتى الأحاديث حين ورد مسامعنا صوت رخيم محييا، التفت وأنا من الذهول في غاية ... من تكون القادمة؟ ... كيف لفتاة أن تقتحم على غرباء مجلسهم؟ ... ثم سرعان ما انقطعت عن التساؤل ... وتناسيت التقاليد جميعا ... وجدتني حيال مخلوق لا يمكن أن يكون من هذه الأرض جاء، بدت وكأنها صديقة للجميع إلاي، فقال حسين يعارف بيننا: «صديقي كمال، أختي عايدة»، ليلتئذ عرفت لم خلقت ... لم لم أمت ... لم دفعتني المقادير إلى العباسية، وحسين، وقصر آل شداد. متى كان ذلك؟ كان الزمان نسيا منسيا، وا أسفاه! إلا اليوم، كان يوم الأحد ... عطلة مدرستها الفرنسية الذي صادف عطلة رسمية لعلها مولد النبي، وعلى اليقين كانت مولدي أنا، ما قيمة التاريخ؟ سحر التقويم أنه يوهمنا بأن الذكرى تبعث حية وتعود، ولو أن شيئا لا يعود، لن تفتأ تجد في البحث عن التاريخ، ولن تفتأ تردد: مطلع السنة الثانية بالمدرسة ... أكتوبر، نوفمبر، حين زيارة سعد للصعيد، وقبل نفيه للمرة الثانية ... مستخبرا الذاكرة والشواهد والأحداث، وليس إلا أنك تتشبث تشبث اليائس باستعادة سعادة مفقودة وعهد مضى إلى الأبد. لو مددت يدك عند التعارف كما كدت لصافحتك فعرفت مسها، وهو ما تتخيله حينا بعد حين بشعور ملؤه الشك والهيام، كأنما هي مخلوق غير جسماني لا مس له ... وهكذا ضاعت فرصة كالحلم كما ضاع الزمان، ثم أقبلت على صديقيك تحادثهما ويحادثانها - بغير كلفة - وأنت قابع في مقعدك تحت الكشك تكابد حيرة المتشبع بتقاليد حي الحسين، حتى عدت تتساءل: ترى أهي تقاليد خاصة بالقصور، أم نفحة من باريس التي نشأ المعبود بين أحضانها؟ ... ثم تستغرق في رخامة الصوت، وتستطعم نبراته، وتنتشي بتغريده، وتمتلئ بكل حرف يند عنه، ولعلك - يا مسكين - لم تدرك وقتها أنك تولد من جديد، وأنك كالوليد سوف تستقبل دنياك الجديدة بالارتياع والدموع. وقالت ذات الصوت الرخيم: «سنذهب هذا المساء لمشاهدة الغندورة.» فسألها إسماعيل باسما: «أتحبين منيرة المهدية؟» فترددت كما ينبغي لآنسة نصف باريسية، ثم أجابت: «ماما تحبها»، ثم اشترك حسين وإسماعيل وحسن في حديث عن منيرة وسيد درويش وصالح وعبد اللطيف البنا، ثم ما أدري إلا والصوت الرخيم يسأل: «وأنت يا كمال، ألا تحب منيرة؟» أتذكر ذلك النداء الذي نزل على غير انتظار؟ أعني أتذكر النغمة الطبيعية التي تجسمها؟ لم يكن قولا، ولكن نغما وسحرا استقر في الأعماق كي يغرد دوما بصوت غير مسموع، ينصب فؤادك إليه في سعادة سماوية لا يدريها أحد سواك، كم روعك وأنت تتلقاه، كأن هاتفا من السماء اصطفاك فردد اسمك، سقيت المجد كله، والسعادة كلها، والامتنان كله في نهلة واحدة، وددت بعدها لو تهتف مستنجدا: «زملوني ... دثروني»، ثم أجبت وإن كنت لا أذكر بماذا أجبت، لبثت دقائق ثم ودعتنا ومضت، في عينيها السوداوين نظرة أنيقة، تنم إلى جمالها الفاتن عن صراحة محببة وجرأة مصدرها الثقة - لا الاستهتار أو القحة - وترفع مروع، كأنما تجذبك وتدفعك معا ... جمالها فتنة لا أدرك له كنها ولا أدري له شبها، وكان يخيل إلي كثيرا أنه ليس إلا ظلا لسحر أعظم يكمن في شخصها ... من أجل أي هذين أحبها؟ ... كلاهما لغز، ولغز ثالث هو حبي. يتراجع ذلك اليوم كل يوم يوما إلا أن ذكرياته ناشبة في قلبي أبدا. لبناتها مكان وزمان وأسماء وصحاب وأحاديث، يتقلب القلب في جنباتها نشوان حتى يخال أنها الحياة جميعا، فيتساءل فيما يشبه الشك: هل كانت ثمة وراء ذلك حياة؟ ... هل حقا مضى زمن قبلها خلا من الحب قلبي، وأقفرت من تلك الصورة الإلهية نفسي؟ ربما أسكرتك السعادة حتى تحزن على ما ضاع من ماض جديب، وربما لسعك الألم حتى تذوب حسرات على السلام الذي ولى، وبين هذا وذاك لا يجد قلبك إلى الاستقرار سبيلا، فيمضي ملتمسا الشفاء في شتى العقاقير الروحية، يستمدها من الطبيعة آنا، ومن العلم آنا، ومن الفن حينا ، وفي العبادة أحيانا كثيرة ... قلب استيقظ فانطلقت من صميمه شهوة مولعة بالمسرات الإلهية ... أيها الناس، حبوا أو موتوا ... لسان حالك وأنت تسير مزهوا فخورا بما تحمل بين جنبيك من نور الحب وأسراره ... يزدهيك علو فوق الحياة والأحياء، ويصل أسبابك بالسموات جسر مفروش بورود السعادة، وأنت أنت الذي تخلو حينا آخر إلى نفسك فتطغى عليك حساسية أليمة مريضة بإحصاء النقائص وتقصيها بلا رحمة في كائنك الصغير، ودنياك المتواضعة، وهناتك الآدمية ... رباه، كيف تخلق نفسك من جديد؟ هذا الحب طاغية يتيه فوق كافة القيم، وفي ركابه يتألق معبودك، لا تكمله الفضائل، ولا تنقصه المثالب، النقيصة تلوح في تاجه الدري حسنا يشغلك إعجابا، هل أزرى بها في نظرك أن تخرج على التقاليد المرعية؟ كلا، بل إن خروجها بالتقاليد المرعية أزرى، يطيب لك أحيانا أن تسأل نفسك: ماذا تروم من حبها؟ أجب بكل بساطة: أن أحبها، أيجوز أن تنبثق في النفس هذه الحياة كلها ثم يتساءل عن غاية وراءها؟ لا شيء وراءها، العادة هي التي ربطت بين لفظي الحب والزواج، ليست فوارق السن والطبقة هي وحدها التي تجعل من الزواج غاية مستحيلة في مثل حالي، ولكنه الزواج نفسه، بما يستنزل الحب من سمائه إلى أرض العقود والعرق ... ويسألك الذي يأبى إلا أن يحاسبك، بم جادت عليك لقاء التهالك في حبها؟ أجبه بلا تردد: ابتسامة فاتنة، و«يا كمال» الغالية، وزيارتها للحديقة في الأوقات السعيدة النادرة، وترائيها مع الصباح الندي، وسيارة المدرسة تمضي بها، ومعابثتها الخيال في سبحات اليقظة وتهويم الأحلام، ثم تسألك النفس الطماعة المجنونة: «أمن المحال أن يكون المعبود مشغولا بأمر عابده؟ ... أجبها غير مستسلم لإغراء الآمال الكواذب: حسن أن يذكر عند العودة اسمنا ...» - بسرعة إلى الحمام، هل تأخرت؟
مالت عينا كمال - وقد لاح فيهما رجع المفاجأة - إلى ياسين الذي عاد إلى الحجرة وهو ينشف رأسه بالفوطة، ثم وثب إلى الأرض فبدا فرعه الطويل نحيفا، وألقى نظرة طويلة على المرآة كأنما يتفحص رأسه الضخم، وجبينه البارز، وأنفه الذي تراءى لكبره وقوته كأنه منحوت من الجرانيت، ثم تناول فوطته من على شباك السرير ومضى إلى الحمام.
وكان السيد أحمد قد فرغ من الصلاة، فعلا صوته الغليظ بالدعاء المعتاد للأولاد ولنفسه، سائلا الله الهداية والستر في الدارين ... وفي أثناء ذلك كانت أمينة تعد المائدة، ثم ذهبت إلى حجرة السيد، فدعته - بصوتها الوديع - إلى تناول الفطور، واتجهت إلى حجرة ياسين وكمال فكررت الدعوة.
اتخذ الثلاثة أماكنهم حول الصينية، وبسمل الأب وهو يتناول رغيفا معلنا بدء الأكل، فتبعه ياسين ثم كمال، على حين وقفت الأم وقفتها التقليدية إلى جانب صينية القلل. كان مظهر الأخوين يدل على الأدب والخشوع، ولكن خلا قلباهما - أو كادا - من الخوف الذي كان يركبهما - قديما - في حضرة الأب، ياسين: لأن بلوغه الثامنة والعشرين منحه امتيازا من امتيازات الرجولة، وضمانا ضد الإهانات الجارحة والاعتداءات التعيسة. وكمال: لأن بلوغه السابعة عشرة، وتقدمه في الدراسة وهباه نوعا من الضمان أيضا إلا يكن بقوة ضمان ياسين، فإنه لم يخل من العفو والتسامح على الأقل في الهفوات التافهة، إلى أنه آنس من أبيه في السنوات الأخيرة أسلوبا من المعاملة تخفف من البطش والإرهاب بدرجة محسوسة. ولم يكن من النادر أن يدور حديث مقتضب بين الآكلين بعد أن كان الصمت يتحكم في مجلسهم تحكما مخيفا، إلا أن يسأل الأب أحدهم فيجيب بعجلة ولهوجة ولو بفم ممتلئ بالطعام، أجل لم يعد غريبا أن يخاطب ياسين أباه، فيقول مثلا: «زرت أمس رضوان في بيت جده، وهو يقرئكم السلام ويقبل يدكم.» فلا يعد السيد الخطاب جرأة غير محمودة، ولكنه يقول له ببساطة: «ربنا يحفظه ويرعاه.» ... ولا يبعد عند ذلك أن يتساءل كمال بأدب، محدثا بذلك تطورا خطيرا في علاقته التاريخية بأبيه: «متى يستحق رضوان شرعا لأبيه يا بابا؟» فيجيبه السيد: «عندما يبلغ السابعة.» بدلا من أن يصيح به: «اخرس يا ابن الكلب.» طاب لكمال يوما أن يتعرف على تاريخ آخر شتمة تلقاها من أبيه، حتى تذكر أنه كان ذلك قبل عامين على وجه التقريب أو بعد حبه - الذي غدا يؤرخ به - بعام ، إذ شعر وقتذاك بأن مصادقته لشبان من طراز حسين شداد وحسن سليم وإسماعيل لطيف؛ تتطلب زيادة كبيرة في مصروفه كي يتأتى له مجاراتهم في لهوهم البريء، فشكا أمره إلى أمه راجيا إياها أن تخاطب أباه في شأن الزيادة المأمولة، ومع أن مخاطبة الأب - في مثل هذا الأمر - لم تكن يسيرة على الأم، إلا أنها هانت بعض الشيء بتغير معاملته لها عقب وفاة فهمي، فحدثته منوهة بعلاقة جديدة مشرفة لابنها بأصدقاء من «الأكابر»، وعند ذاك دعا السيد كمال، وصب عليه غضبه، حتى صاح به: «هل ظننتني تحت أمرك أو أمر أصحابك؟ ... ملعون أبوك وأبوهم.» فغادره كمال خائب الرجاء، وقد ظن أن الأمر انتهى عند ذاك ... ولكنه ما يدري إلا والرجل يسأله عن هوية أصدقائه على مائدة إفطار اليوم التالي، وما إن سمع اسم حسين عبد الحميد شداد، حتى سأله باهتمام: «من العباسية صاحبك؟» فأجاب كمال بالإيجاب، وقلبه يخفق. فقال السيد: «كنت أعرف جده شداد بك، وأعرف أيضا أن أباه عبد الحميد بك كان مبعدا في الخارج لسابق علاقته بالخديو عباس ... أليس كذلك؟» فأجاب كمال بالإيجاب مرة أخرى، وهو يغالب وجده الذي أهاجه الحديث عن والد معبودته، وذكر لتوه ما علم عن الأعوام التي قضتها الأسرة في باريس، حيث ترعرعت معبودته في نور مدينة النور. فما تمالك أن شعر نحو أبيه بإجلال وإكبار جديدين ومودة مضاعفة، وعد معرفته لجد معبودته رقية سحرية تنسبه - ولو من بعيد - إلى منزل الوحي ومبعث السنا، ثم ما لبثت أمه أن زفت إليه بشرى موافقة والده على مضاعفة مصروفه.
منذ ذلك اليوم لم يتعرض لشتمة جديدة، إما لأنه لم يرتكب ما يستوجبها، وإما لأن أباه رأى أن يعفيه من الشتم إطلاقا ... وقف كمال إلى جانب أمه في المشربية يشاهدان السيد أحمد في الطريق، وهو يردد - في وقار ولطف - تحيات عم حسنين الحلاق، والحاج درويش بائع الفول، والفولي اللبان، وبيومي الشربتلي، وأبو سريع صاحب المقلى، ثم رجع إلى الحجرة حيث وجد ياسين واقفا أمام المرآة يتأنق في عناية وصبر، جلس على كنبة بين السريرين، وراح يتأمل جسم أخيه الطويل البدين، ووجهه المورد المكتنز بنظرة باسمة غامضة، كان يكن له حبا أخويا صادقا، بيد أنه لم يكن يستطيع - كلما أنعم فيه الفكر أو النظر - أن يقاوم شعورا خفيا بأنه حيال «حيوان أليف جميل» على رغم أنه أول من هز أوتار أذنيه بأنغام الشعر ونفثات القصص، ربما تساءل، تساؤل من يرى في الحب جوهر الحياة والروح، أمن الممكن أن يتصور ياسين عاشقا؟ فيتمثل الجواب ضحكة باطنية أو منطلقة، أجل ما للحب وهذه الكرش المترعة! ما للحب وهذا الجسم اللحيم! ما للحب وهذه النظرة الشهوانية الساخرة! ثم لا يتمالك أن يجد نحوه إحساسا بالازدراء الملطف بالعطف والود، وإن لم يخل أحيانا - خاصة في الأوقات التي تعتري حبه فيها نوبة من نوبات الألم والهبوط - من عاطفة إعجاب بل حسد. كذلك بدا ياسين لعينيه أبعد ما يكون عن عرش الثقافة، الذي بوأه إياه قديما حينما كان يظنه عالما ساحرا مالكا لفنون الشعر والقصص، تكشف له قارئا سطحيا يقنع من وقت مجلس القهوة ببضع ساعة يتنقل فيها بلا جهد أو عناء بين الحماسة وقصة من القصص قبل انطلاقه إلى قهوة أحمد عبده، حياة عاطلة من بهاء الحب وأشواق المعرفة الحقيقية، وإن كن لصاحبها حبا أخويا لا تشوبه شائبة ... لم يكن كذلك فهمي، كان مثله الأعلى في الحب والعقل، ولكنه بدا أخيرا كالمتخلف بعض الشيء عما يطمح إليه، أجل ساوره شك يقارب اليقين في أن فتاة كمريم يمكن أن تبعث في النفس حبا حقيقيا كالحب الذي يضيء به نفسه. كما ارتاب في أن تضاهي الثقافة القانونية التي نزع إليها أخوه الراحل المعرفة الإنسانية التي يتشوقها بكل قوة نفسه. كان يتأمل من حوله بعين تنفتح على التأمل والنقد، وذهب في ذلك كل مذهب، إلا أنه وقف عند عتبة أبيه لا يجرؤ على أن يرفع قدما، لاح الرجل لعينيه شيئا هائلا يتربع على عرشه فوق النقد. - أنت اليوم عريس، اليوم عيد من أعيادك الظافرة. أليس كذلك؟ لولا نحافتك ما وجدت ما أؤاخذك عليه.
قال كمال مبتسما: إني راض عنها.
ألقى ياسين على صورته نظرة أخيرة، ثم وضع الطربوش على رأسه وأماله يمنة بعناية حتى أوشك أن يمس حاجبه، ثم قال وهو يتجشأ: أنت حمار كبير يحمل البكالوريا، تمتع بالطعام والراحة فهذه هي العطلة، كيف تسول لك نفسك أن تقرأ في العطلة أضعاف ما تقرأ في عامك الدراسي؟! اللهم إني بريء من النحافة وأصحابها.
ثم وهو يغادر الغرفة والمنشة العاجية في يده: لا تنس أن تختار لي قصة جيدة، مثل: «باردليان» و«فوستا»، هه؟ مضى زمن كنت تستجديني فصلا من رواية، هاك زمنا أغبر أشحذك فيه القصص.
ارتاح إلى الوحدة التي يخلو فيها إلى نفسه، فنهض وهو يغمغم: من أين له بالبدانة والقلب لا ينام؟ لم تكن تحلو له الصلاة إلا خاليا، صلاة بالجهاد أشبه، ويشترك فيها القلب والعقل والروح، جهاد من لا يضن بجهد للفوز بالضمير الطاهر النقي، ولو لاحق نفسه بالحساب تلو الحساب على الهفوة والخاطرة ... أما الدعاء في أعقاب الصلاة، فلها، لها وحدها.
3
Bog aan la aqoon
عبد المنعم :
الفناء أوسع من السطح، ولا بد أن نزيح الغطاء عن البئر لنرى ما فيها ...
نعيمة :
ستغضب ماما وخالتي وجدتي ...
عثمان :
لن يرانا أحد ...
أحمد :
البئر فظيعة، ويموت من ينظر فيها.
عبد المنعم :
نرفع الغطاء، ثم ننظر من بعيد، (ثم بصوت مرتفع) : هيا بنا ننزل.
Bog aan la aqoon
أم حنفي (معترضة باب السطح) :
لم يبق في حيل للنزول والطلوع، قلتم نطلع السطح فطلعنا السطح، وقلتم ننزل الفناء فنزلنا إلى الفناء. نطلع السطح مرة ثانية فطلعنا السطح مرة ثانية، ماذا تريدون من الفناء؟ الجو حار تحت. أما هنا فالنسمة جارية، وعما قليل تغيب الشمس.
نعيمة :
سيرفعون غطاء البئر لينظروا فيها.
أم حنفي :
سأنادي ست خديجة وست عائشة.
عبد المنعم :
نعيمة كذابة، لن نرفع الغطاء، ولن نقترب منه، سنلعب في الفناء قليلا ثم نعود، ابقي هنا حتى نعود.
أم حنفي :
أبقى هنا! رجلي على رجلكم، الله يهديكم، ليس في البيت كله مكان أجمل من السطح، انظروا إلى هذا البستان!
Bog aan la aqoon
محمد :
نامي لأركبك.
أم حنفي :
كفاية ركوب، اختر لنفسك لعبة أخرى، الله، الله، انظروا إلى الياسمين واللبلاب، انظروا إلى الحمام.
عثمان :
أنت قبيحة كالجاموسة، ورائحتك نتنة.
أم حنفي :
الله يسامحك، عرقي سال من الجري وراءكم.
عثمان :
خلينا نر البئر ولو شوية صغيرة.
Bog aan la aqoon
أم حنفي :
البئر ملأى بالعفاريت، ولذلك سددناها.
عبد المنعم :
كذابة، لم تقل ماما ولا خالتي هذا.
أم حنفي :
الحقيقة عندي أنا، أنا وستي الكبيرة، كنا نراهم رؤية العين، فانتظرنا حتى دخلوا، وألقينا على فوهة البئر الغطاء الخشبي وأثقلناه بالحجارة. لا تذكروا البئر، وقولوا معي: «بسم الله الرحمن الرحيم» ...
محمد :
نامي لأركبك.
أم حنفي :
انظروا إلى اللبلاب والياسمين! ليت عندكم مثلهما، ليس في سطحكم إلا الدجاج والخروفان اللذان تسمنونهما للعيد.
Bog aan la aqoon
أحمد :
ماء ... ماء ... ماء.
عبد المنعم :
هاتي سلما لنطلع عليها.
أم حنفي :
يا ساتر يا رب، الولد لخاله، العبوا في الأرض لا في السماء.
رضوان :
في شرفة بيتنا وفي السلاملك أصص ورد أحمر وأبيض وقرنفل ...
عثمان :
عندنا خروفان ودجاج ...
Bog aan la aqoon
أحمد :
ماء ... ماء ... ماء.
عبد المنعم :
أنا في الكتاب، من منكم في الكتاب؟
رضوان :
أنا حافظ (الحمد).
عبد المنعم :
الحمد، كبة لمبة.
رضوان :
إخص، أنت كافر.
Bog aan la aqoon
عبد المنعم :
هذا ما يتغنى به العريف في الطريق ...
نعيمة :
قلنا ألف مرة لا تردد كلامه ...
عبد المنعم
ل (رضوان) :
لماذا لا تعيش مع باباك خالي ياسين؟
رضوان :
أنا عند ماما.
أحمد :
Bog aan la aqoon
أين ماما؟
رضوان :
عند جدي الآخر؟
عثمان :
أين جدك الآخر؟
رضوان :
في الجمالية! ... في بيت كبير وسلاملك.
عبد المنعم :
لماذا أمك في بيت، وأبوك في بيت؟
رضوان :
Bog aan la aqoon
ماما عند جدي هناك، وبابا عند جدي هنا ...
عثمان :
لم لا يوجدان في بيت واحد مثل بابا وماما ...؟
رضوان :
القسمة والنصيب، هذا ما تقوله جدتي الأخرى.
أم حنفي :
قررتموه حتى أقر، لا حول ولا قوة إلا بالله. ارحموه والعبوا ...
أحمد :
نامي لأركبك ...
رضوان :
Bog aan la aqoon
انظروا إلى العصفورة فوق عود اللبلاب ...
عبد المنعم :
هاتوا سلما، وأنا أقبض عليها ...
أحمد :
لا ترفع صوتك، إنها تنظر إلينا بعينيها، وتسمع كل كلمة نقولها ...
نعيمة :
ما أجملها، عرفتها! هي العصفورة التي رأيتها أمس فوق حبل الغسيل عندنا ...
أحمد :
الأخرى في السكرية، فكيف عرفت الطريق إلى بيت جدي ...؟
عبد المنعم :
Bog aan la aqoon
يا حمار، العصفورة تطير من السكرية إلى هنا، وتعود قبل المساء.
عثمان :
أهلها هناك وأقاربها هنا ...
محمد :
نامي لأركبك، أو أبكي حتى تسمعني ماما ...
نعيمة :
نلعب الحجلة؟
عبد المنعم :
بل نتسابق ...
أم حنفي :
Bog aan la aqoon
من غير شجار بين السابق والمسبوق.
عبد المنعم :
اسكتي يا جاموسة ...
عثمان :
ناع ع ع ... ناع ع ع.
أحمد :
ماء ... ماء ... ماء.
محمد :
سأدخل السباق راكبا، نامي لأركبك ...
عبد المنعم :
Bog aan la aqoon