ولكن الغريب العجيب هو أن نراعي الطائفية حتى في الاختلاس والتزوير، فقلما شنت غارة إلا كان أبطالها من الملتين ... لم نعد نحتاج إلا إلى التعمق في علم الفرائض لنتقاسم المواريث ولا يجنف أحد على أحد في توزيع تركة لبنان ...
كنا نضحك من عهد الانتداب ونتهكم عليه؛ لأن دفع حوالة بخمس ليرات، بل حوالة بليرة واحدة، كان يمر على عشرة مكاتب على الأقل، وكل مدير أو رئيس مصلحة، كان يشك تصديقه في ظهر العريضة بدبوس إذا ضاقت الورقة عن توقيعه. لا أنسى قهقهة صديقي المرحوم الشيخ إبراهيم المنذر، حين سمينا ذلك الزمان، عهد الدبابيس.
أما الآن فنعترف أننا كنا مخطئين، فالحكومة الساهرة على مال المكلف، المجبول بعرق الجبين، يجب أن تشك في معاملاتها المالية، مسلات لا دبابيس. فأكثر جماعتنا، لا كلهم، يجب أن يكون موقف المسئولين منهم، كموقف مصارعي الثيران في إسبانيا ... المنديل الأحمر في يد، والدبوس في يد، وإلا فإنهم ينصبون شراك حيلهم الجهنمية، وينطحون الصناديق بقرونهم الإبليسية، ويبقرون بطنها بنيوبهم الغولية.
أما رأيي في الفضائح التي لا نهاية لها؛ فهو أن جذورها لا تستأصل؛ ما زالت كلمة «بتتدبر» على ألسنة السماسرة، وما زالت الطائفية تدفع بل تستفز الرؤساء من دينيين ومدنيين ليدافعوا عن سفهائهم وينتصروا لهم ... فاليد الطويلة لا يقصرها إلا الضرب عليها، بعصا من حديد، حتى تتقفع. كانت تقطع يد السارق؛ تشهيرا له؛ ليعتبر به سواه، فما كثر عدد السارقين عندنا إلا «اجتهادنا» لاختزال العقوبة، وتهاملنا في التفتيش.
هل صفينا ثروة أحد من هؤلاء اللصوص؟ فما الحكم بلا قصاص، ولا تصفية، فلننتظر كل يوم فضيحة. فعلى الدولة أن تبث المفتشين الصادقين الأمناء في كل دائرة كبيرة وصغيرة، ومتى فعلت ستجد تحت كل تلعة يدا تندس وما من يحس بها. وإذا لم يكن عندنا مفتشون صارمون، وبالتأكيد عندنا، فلنستأجر. فباب الإعارة والتأجير كان مفتوحا ولا يزال ...
إذا كانت الطبيعة عاقبت الهر على جريمته، فأخرجته من «المرطبان» خاوي البطن طاوي المصير، فلماذا لا نفعل نحن مثلها مع القطط، المغيرة على صناديق الدولة.
يروون أن هرا احتال حتى دخل خابية الدهن، وراح يأكل ما طاب له الأكل حتى كاد ينفزر، ثم حاول الخروج فلم يقدر؛ لأن عرضه ساوى طوله، واستمر الصراع زمنا، ولم ينفعه صراعه إلا انحطاط قواه، فاستسلم وظل هناك حتى ضمر وعاد أضعف مما كان، وإذ ذاك قدر على الخروج.
أما هكذا يجب أن يعود كل سارق إلى ما كان عليه؟ وإلا فنكون سراقا؛ لأننا نساعد السارقين، وهكذا يظل حبل هؤلاء المحظيين على الجرار، فلا يمر يوم لا نسمع فيه باختلاس! والذي عندي، هو أن تنفض الدولة عنها هذا الإهمال، وتصفي جميع حسابات دوائرها، ومهما أنفقت في هذا السبيل تظل رابحة ؛ لأن في الزوايا خبايا.
يكفينا عمل حسابات جمع وضرب وطرح وقسمة. استريحوا من تقسيم المواريث الطائفية، ولا تشغلكم زيادة عدد النواب، فليس فينا أحد منزه عن الغرض. المهم أن تسيجوا كروم الدولة، فلا تغير عليها الثعالب من كل صوب. إن الحذر الكلي ينقصنا، فهؤلاء اللصوص، كل واحد منهم داهية. كلما سددنا بابا فتح دهاؤهم أبوابا، فعلى «صاحب البيت» أن يسهر ولا يدع بيته ينقب.
لقد صرنا في أمس الحاجة إلى أمثال شرلوك هولمز حتى يقف على كل مخرم من مخارم الدوائر؛ لكي يتمكنوا من القبض على هؤلاء اللصوص العبقريين، ونسوقهم إلى «بيت خالتهم» ملتبسين بالجريمة، ولا يكفي هذا، إذا لم نصم آذاننا عن سماع صوت الوسطاء، مهما علا مقامهم.
Bog aan la aqoon