ولا نخال أحدا يعتقد أن جوزفين كانت مجبرة على القيام بمثل ذاك المسعى، وأن قيامها به لا يدل على التراضي الذي أشرنا إليه، كما يدل على اقتناعها بأن نابوليون لم يطلقها إلا رغبة منه في ولي عهد يرجوه من زواج آخر كما قال كولنكور، وهو سفير فرنسا في بطرسبورج الذي كان يسعى ليعقد زواج نابوليون مع أميرة روسية.
على أن اقتناع جوزفين وموافقتها على الطلاق لم تحل دون اضطرابها الشديد وتشنج أعصابها ساعة أبلغها نابوليون - بعد ذاك الاتفاق - أن توقيع عقد الطلاق الرسمي يتم في 15 ديسمبر سنة 1809؛ قال دي بوسيه الذي حضر ذاك المشهد: «تناول الإمبراطور فنجان القهوة بعد العشاء وأبدى لنا إشارة تفيد أنه يريد البقاء وحده مع الإمبراطورة، فخرجنا ثم سمعنا الإمبراطورة تصرخ صرخات شديدة في الردهة، فظن الحاجب أنها أصيبت بضر وحاول أن يفتح الباب، فمنعته وقلت له: إن الإمبراطور لا يلبث أن يدعونا إذا رأى حاجة، وكنت ساعتئذ عند الباب، فتقدم نابوليون وفتحه بيده وقال لي: «ادخل يا بوسيه وأقفل الباب»، فدخلت فإذا الإمبراطورة منطرحة على السجادة وهي تشكو وتقول: «لا، لا يمكنني أن أعيش بعد هذا»، فقال لي نابوليون: «أعندك قوة تمكنك من نقل الإمبراطورة إلى طبقتها الخاصة من طريق السلم الداخلي لنبذل لها ما تقتضيه حالتها من العناية والاهتمام؟» فحملت الإمبراطورة بمساعدة الإمبراطور بين ذراعي وحمل هو مصباحا وفتح الباب بيده، ولما وصلت إلى أوائل درجات السلم قلت للإمبراطور: «إنها ضيقة، فلا يمكنني أن أنزل بلا خطر من الوقوع»، فدعا الإمبراطور أحد الخدم ودفع إليه المصباح وحمل معي الإمبراطورة من ساقيها بكل عناية ومداراة، وحدث أني خفت تلك الساعة من السقوط، فشددت بيدي على الإمبراطورة، فقالت لي بصوت خفيف: «أنت تضغطني كثيرا ...» فأدركت حينئذ ألا خوف على صحتها وأنها لم تفقد رشدها دقيقة واحدة. ا.ه.»
أما الإمبراطور فقد كان اضطرابه وقلقه عظيمين، وكلماته متقطعة، وعيناه مغرورقتين بالدموع، على أن هذا المشهد لم يبق أكثر من ثماني دقائق، وقد أرسل الإمبراطور يدعو طبيب القصر والملكة هورتنس - ابنة جوزفين - وكامباسريس مستشار الإمبراطورية، ثم ذهب بنفسه ليرى حالتها فوجدها مائلة إلى الهدوء والتجلد، وما جاء يوم 21 ديسمبر حتى عادت جوزفين إلى حالتها المألوفة ورأست ناديها في قصر التويليري، وبعد ثلاثة أيام كانت تحمل الخطاب الذي طلبوا إليها تلاوته أمام الإمبراطور ساعة التوقيع الرسمي، وفي مساء 15 ديسمبر سنة 1809 اجتمع أعضاء الأسرة الإمبراطورية وعظماء الدولة، فوقع نابوليون وجوزفين أمامهم العقد الذي ألغى زواجهما، وروى موليين أن «الدموع كانت ظاهرة في جفون نابوليون.»
الفصل الثالث عشر
زواج نابوليون وماري لويز
عرف القراء أن غرض نابوليون من زواجه الثاني هو حصوله على سلالة إمبراطورية، فكان من الواجب الأول أن تكون زوجته الجديدة من خيرة الأسر المالكة وأعرقها مجدا في أوروبا، وقبل أن يختار الإمبراطورة الجديدة جمع مجلس الوزراء وشاورهم في الأمر، ورغب إليهم أن يختاروا أميرة روسية أو نمسوية أو سكسونية، فأظهر معظم الوزراء ارتياحا إلى تزوجه أميرة روسية، فكتب نابوليون إلى كولنكور سفيره في بطرسبرج يقول: «يلزمك في مفاوضة كهذه أن تظهر كل ما عندك من فطنة واحتراس وبراعة، فلا تجازف بكلمة ولا تبد حركة تدل على خفة، وفكر مليا في الأمر، أنا لا أريد أن أظهر في مظهر من يعرض نفسه، ولا أود أن أسمع رفضا، فأبق كرامتي في مرتبة عالية؛ لأنها كرامة فرنسا نفسها.»
ولما اجتمع مجلس الشيوخ لسماع إعلان الطلاق ألقى أوجين - ابن جوزفين - خطبة قال فيها: «يهمنا لسعادة فرنسا أن يبلغ مؤسس الأسرة الرابعة سن الشيخوخة ولديه سلالة تنزل منه مباشرة؛ لأن فيها ضمانا للجميع ... أما والدتي فحسبها مجدا ما سكبه الإمبراطور من الدموع.»
ولبث نابوليون بعد الطلاق يظهر لجوزفين عطفا وحنوا، وروى موليين أن نابوليون سافر يوم الطلاق إلى تريانون وحده، كأنما هو لم يستطع احتمال الوحدة في تلك الليلة بالتويلري، وبقي ثلاثة أيام لم يقابل فيها الوزراء والكبراء، وقيل إن العواطف لم تتغلب على الأشغال في حياة نابوليون إلا في تلك الأيام الثلاثة. وذكر مينفال أن الإمبراطور كتب ليلة وصوله إلى تريانون كتابا رقيقا إلى جوزفين، ثم زارها فيما بين 15 و19 ديسمبر أي بعد الفراق بثلاثة أيام، وكتب إليها بعد الزيارة: «أيتها الصديقة، رأيتك أضعف مما يجب أن تكوني، ولقد أظهرت شجاعة فيما مضى، وما زال الواجب عليك أن تظهري مساحة من الشجاعة والحول ما يأخذ بيدك، فلا تسترسلي إلى الحزن المشئوم، بل كوني منشرحة الصدر واعتني بصحتك الثمينة، وإذا كنت تحبينني حقيقة يجب عليك أن تتذرعي بالقوة والحزم وتكوني قريرة العين ...»
وبلغ عدد المكاتيب التي أرسلها نابوليون إلى جوزفين خمسة في عشرة أيام، وفي 15 ديسمبر دعاها وابنتها هورتنس إلى تناول العشاء على مائدته، وروت «مدموازيل أرفيللون» أن جوزفين أبدت تلك الليلة من الارتياح والانبساط ما يوهم الناظر أن الإمبراطور والإمبراطورة لم يفترقا.
وبناء على قرار رسمي أبقى نابوليون لجوزفين رتبة إمبراطورة متوجة، وعين لها راتبا قدره مليونا فرنك في العام وجعل دفعه إجباريا على خلفائه، ثم زيد هذا المرتب إلى ثلاثة ملايين فرنك، ما عدا المبالغ الإضافية التي كان يحبوها بها نابوليون. •••
Bog aan la aqoon